السبت، 30 مارس 2024

الروح ن مسألة 8 الي آخر المسألة العشرون.

 

مسألة 8. الروح/المسألة الثامنة و هي قول السائل: ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقي؟ فالجواب من وجهين: مجمل، ومفصل. أما المجمل: فهو أن اللّه سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما، والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء:113] وقال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:2] وقال تعالى ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب:34]. و الكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي السنّة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول عن اللّه فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكر، إلا من ليس منهم، و قد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إني أوتيت الكتاب ومثله معه». و أما الجواب المفصل: فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الأنعام:93] وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون. و منها: قوله تعالى ﴿فَوَقَىٰهُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِ مَا مَكَرُواْۖ وَحَاقَ بِـَٔالِ فِرۡعَوۡنَ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ ٤٥ ٱلنَّارُ يُعۡرَضُونَ عَلَيۡهَا غُدُوّا وَعَشِيّاۚ وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤاْ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ ٤٦﴾ [غافر:45–46] فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره. (و منها) قوله تعالى ﴿فَذَرۡهُمۡ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوۡمَهُمُ ٱلَّذِی فِيهِ يُصۡعَقُونَ ٤٥ يَوۡمَ لَا يُغۡنِی عَنۡهُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـٔا وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ٤٦ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَابا دُونَ ذَ ٰلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ٤٧﴾ [الطور:45–47] وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، وقد يقال وهو أظهر: إن من مات منهم عذاب في البرزخ، ومن بقي منها عذب في الدنيا بالقتل وغيره، فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ. (و منها) قوله تعالى ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ ٢١﴾ [السجدة:21] وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد اللّه بن عباس على عذاب القبر وفي الاحتجاج بها شي ء، لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر، ولم يكن هذا مما يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن، ولكن فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر، فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا، ولهذا قال: من العذاب الأدنى، ولم يقل ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله. و هذا نظير قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها»، ولم يقل: فيأتيه حرها وسمومها، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره، والذي ذاقه أعداء اللّه في الدنيا بعض العذاب وبقي لهم ما هو أعظم منه. (و منها) قوله تعالى: ﴿فَلَوۡلَاۤ إِذَا بَلَغَتِ ٱلۡحُلۡقُومَ ٨٣ وَأَنتُمۡ حِينَئِذ تَنظُرُونَ ٨٤ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنكُمۡ وَلَـٰكِن لَّا تُبۡصِرُونَ ٨٥ فَلَوۡلَاۤ إِن كُنتُمۡ غَيۡرَ مَدِينِينَ ٨٦ تَرۡجِعُونَهَاۤ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِينَ ٨٧ فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوۡح وَرَيۡحَان وَجَنَّتُ نَعِيم ٨٩ وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩٠ فَسَلَـٰم لَّكَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩١ وَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّاۤلِّينَ ٩٢ فَنُزُل مِّنۡ حَمِيم ٩٣﴾ [الواقعة:83–93]﴿وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍ ٩٤ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلۡيَقِينِ ٩٥ فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ ٩٦﴾ [الواقعة:94–96]. فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر، وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية، إذ هي أهم وأولى بالذكر، وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام. (و منها) قوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرۡضِيَّة ٢٨ فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی ٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی ٣٠﴾ [الفجر:27–30] وقد اختلف السلف: متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها عند الموت، وظاهر اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطاب للنفس التي تجردت عن البدن وخرجت منه، وقد فسر ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله في حديث البراء وغيره: فيقال لها اخرجي راضية مرضيا عنك، وسيأتي تمام تقرير في هذا في المسألة التي يذكر فيها مستقر الأرواح في البرزخ إن شاء اللّه تعالى وقوله تعالى فَادْخُلِي فِي عِبادِي مطابق لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى» 1. و أنت إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن وباللّه التوفيق. هامش رواه البخاري في المرضى 19، وفضائل الصحابة 5، ومسلم في السّلام 46، وفضائل الصحابة 85، والترمذي في الدعوات 76، وابن ماجة في الجنائز 64، ومالك في الموطأ باب الجنائز 46، وأحمد في مسنده 45/6. ============================== الروح/المسألة التاسعة و هي قول السائل: ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟ جوابها من وجهين: مجمل ومفصل: أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم باللّه وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب اللّه روحا عرفته وأحبته وامتثلت لأمره واجتنبت نهيه، ولا بدنا كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة وأثر غضب اللّه وسخطه على عبده، فمن أغضب اللّه وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب اللّه وسخطه عليه، فمستقبل ومستكثر، ومصدق ومكذب. و أما الجواب المفصل: فقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما: يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة والكذب والزور والبهتان أعظم عذابا، كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة والتي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها فهذا مغتاب، وذلك نمام، وقد تقدم حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه في الذي ضرب سوطا امتلأ القبر عليه به نارا. لكونه على صلاة واحدة بغير طهور، ومر على مظلوم فلم ينصره. و قد تقدم حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، وتعذيب من يقرأ القرآن ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به بالنهار. و تعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا، كما شاهدهم النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في البرزخ. و تقدم حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه الذي فيه رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب. و تقدم حديث أبي سعيد، وعقوبة أرباب تلك الجرائم، فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة 1 آل فرعون وهم أكلة الربا، ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى، ومنهم المعلقات بثديهم وهن الزواني، ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم وهم المغتابون، ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم وهم الذين يغمزون أعراض الناس. و قد أخبرنا صلى اللّه عليه وآله وسلم عن صاحب الشملة التي غلها من المغنم أنها تشتعل عليه نارا في قبره هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه؟ فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله، فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والموضع في الفتنة والداعي إلى البدعة، والقائل على اللّه ورسوله ما لا علم له به، والمجازف في كلامه، وآكل الربا، وآكل أموال اليتامى، وآكل السحت من الرشوة والبرطيل، ونحوهما، وآكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد، وشارب المسكر، وآكل لقمة الشجرة الملعونة، والزاني، واللوطي، والسارق، والخائن، والغادر، والمخادع، والماكر، وآخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه، والمحلل والمحلل له، والمحتال على إسقاط فرائض اللّه وارتكاب محارمه، ومؤذي المسلمين، ومتتبع عوراتهم، والحاكم بغير ما أنزل اللّه، والمفتي بخلاف ما شرعه اللّه، والمعين على الإثم والعدوان، وقاتل النفس التي حرم اللّه، والملحد في حرم اللّه، والمعطل لحقائق أسماء اللّه وصفاته الملحد فيها، والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والنائحة، والمستمع إليها، ونواحوا جهنم: وهم المغنون الغناء الذي حرمه اللّه ورسوله والمستمع إليهم، والذين يبنون المساجد على القبور 2 ويوقدون عليها القناديل و السرج، والمطففون في استيفاء ما لهم إذا أخذوه وهضم ما عليهم إذا بدلوه والجبارون، والمتكبرون، والمراؤون، والهمازون والممارون والطاعنون على السلف، والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم 3، وأعوان الظلمة الذين قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، والذي إذا خوفته باللّه وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر، فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه، والذي يهدي بكلام اللّه ورسوله فلا يهتدي ولا يرفع به رأسا، فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه، والذي يقرأ عليه القرآن فلا يؤثر فيه وربما استقل به، فإذا سمع [قراءة] 4 الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب، وود أن المغني لا يسكت، والذي يحلف باللّه ويكذب، فإذا حلف بالبندق أو برئ من شيخه أو قريبه أو سراويل الفتوة أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب، والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين إخوانه وأضرابه وهو المجاهر، والذي لا تأمنه على مالك وحرمتك، والفاحش اللسان البذيء الذي تركه الخلق اتقاء شره وفشله، والذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها وينقرها ولا يذكر اللّه فيها إلا قليلا، ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يحج مع قدرته على الحج، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق مع قدرته عليها، ولا يتورع من لحظة ولا لفظة ولا أكلة ولا خطوة، ولا يبالي بما حصل المال من حلال أو حرام، ولا يصل رحمه، ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم، بل يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، ويرائي العاملين ويمنع الماعون ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه وبذنوبهم عن ذنبه. فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها. و لما كان أكثر الناس كذلك، كان أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات، وعذاب ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والحيات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها، تاللّه لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعبر، [فإما روضة] 5 رياض من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. هامش زيدت على المطبوع. السابلة: الطريق المسلوك، يقال: سبيل سابلة أي مسلوكة، والمارون عليه: سوابل، والمقصود هنا من كان على طريق آل فرعون. أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب في البناء على القبر (3/ 553) برقم 3227 عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «قاتل اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». و أخرج البخاري في كتاب الجنائز باب بناء المسجد على القبر (2/ 93) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: لما اشتكى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي اللّه عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: «أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه». أخرج الترمذي في أبواب الطهارة باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض (1/ 242) برقم 135 عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد». و أخرج أبو داود في كتاب الطب باب في الكاهن (4/ 225) برقم 3904 قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد: ح، وحدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حماد بن سلمة، عن حكيم بن الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «من أتى كاهنا» قال موسى في حديث: «فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة» قال مسدد: «امرأته حائضا أو أتى امرأة» قال مسدد؛ «امرأته في دبرها فقد برئ مما أنزل اللّه على محمد». وردت في المطبوع: قرآن ولا شك أنها تصحيف. الروح/المسألة العاشرة جوابها أيضا من وجهين: مجمل ومفصل. أما المجمل: فهو تجنب تلك الأسباب التي تقتضي عذاب القبر ومن أنفعها أن يجلس الرجل عند ما يريد النوم للّه ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يوم، ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين اللّه، فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات في ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلا للعمل مسرورا بتأخير أجله حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقب ذلك بذكر اللّه، واستعمال السنن التي وردت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عند النوم حتى يغلبه النوم، فمن أراد اللّه به خيرا وفّقه لذلك ولا قوة إلا باللّه. و أما الجواب المفصل: فنذكر أحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيما ينجي من عذاب القبر. (فمنها) ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان». (و في جامع الترمذي) من حديث فضالة بن عبيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل اللّه فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح 1. (و في سنن النسائي) عن [راشد] 2 بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن رجلا قال: يا رسول اللّه، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: «كفى ببارقة 3 السيوف على رأسه فتنة» 4. و عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «للشهيد عند اللّه ست خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه». رواه ابن ماجه والترمذي وهذا لفظة وقال: هذا حسن صحيح 5. (و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما) قال: ضرب 6 أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خباءة على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه: ضربت، خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب 7. (و روينا) في مسند عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال الرجل: بلى؟ قال: اقرأ ﴿تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِی بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡء قَدِيرٌ ١﴾ [الملك:1] احفظها وعلمها أهلك وولدك وصبيان بيتك وجيرانك، فإنها المنجية، والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه، وينجي اللّه بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي». (قال) أبو عمر بن عبد البر: وصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه قال: إن سورة ثلاثين آية شفعت في صاحبها حتى غفر له: (تبارك الذي بيده الملك). (و في سنن ابن ماجه) من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه يرفعه: «من مات مبطونا مات شهيدا، وفي فتنة القبر وغدي وريح عليه برزق من الجنة» 8. (و في سنن النسائي) عن جامع بن شداد قال: سمعت عبد اللّه بن يشكر يقول: كنت جالسا مع سليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلا مات ببطنة، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: أ لم يقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من قتله بطنه لم يعذب في قبره؟» وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، حدثني أحمد بن جامع ابن شداد قال أبي. فذكره وزاد فقال الآخر بلى. (و في الترمذي) من حديث ربيعة بن سيف عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه اللّه فتنة القبر» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب وليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف، إنما يروى عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللّه بن عمرو، ولا يعرف لربيعة بن سيف سماع من عبد اللّه بن عمرو 9. انتهى. و قد روى الترمذي الحديث من حديث ربيعة بن سيف هذا عن عياض بن عقبة الفهري عن عبد اللّه بن عمرو. و قد رواه أبو نعيم الحافظ عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا ولفظة: «من مات ليلة الجمعة (أو يوم الجمعة) أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء». تفرد به عمر بن موسى الوجيهي وهو مدني ضعيف. (و قوله) صلى اللّه عليه وآله وسلم: «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة». معناه واللّه أعلم: قد امتحن نفاقه من إيمانه ببارقة السيف على رأسه فلم يفر، فلو كان منافقا لما صبر ببارقة السيف على رأسه، فدل على أن إيمانه هو الذي حمله على بذل نفسه للّه وتسليمها له وهاج من قبله حمية الغضب للّه ورسوله وإظهار هيئة وإعزاز، فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث يبرز للقتل، فاستغنى بذلك عن الامتحان في قبره. (قال) أبو عبد اللّه القرطبي: إذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطرا وأعظم أجرا أن لا يفتن، لأنه مقدم ذكره في التنزيل على الشهداء، وقد صح في المرابط الذي هو دون الشهيد أنه لا يفتن، فكيف بمن هو أعلى رتبة منه ومن الشهيد. و الأحاديث الصحيحة ترد هذا القول وتبين أن الصديق يسأل في قبره كما يسأل غيره، وهذا عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رأس الصديقين، وقد قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لما أخبره عن سؤال الملك في قبره فقال: وأنا على مثل حالتي هذه؟ فقال: «نعم» وذكر الحديث. و قد اختلف في الأنبياء: هل يسألون في قبورهم على قولين: وهما وجهان في مذهب أحمد وغيره، ولا يلزم من هذه الخاصية التي اختص بها الشهيد أن يشاركه الصديق في حكمها، وإن كان أعلى منه، فخواص الشهداء قد تنتفي عمن هو أفضل منهم وإن كان أعلى منهم درجة. و أما حديث ابن ماجه: «من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتنة القبر» فمن إفراد ابن ماجه، وفي إفراده غرائب ومنكرات، ومثل هذا الحديث مما يتوقف فيه ولا يشهد به على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فإن صح فهو مقيد بالحديث الآخر وهو الذي يقتله بطنه، فإن صح عنه أنه قال: «المبطون شهيد» فيحمل هذا المطلق على ذلك المقيد واللّه أعلم. و قد جاء فيما ينجي من عذاب القبر حديث فيه الشفاء رواه أبو موسى المديني وبيّن علته في كتابه في الترغيب والترهيب وجعله شرحا له. رواه من حديث الفرج بن فضالة حدثنا أبو جبلة عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ونحن في صفة بالمدينة، فقام علينا فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاء بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر اللّه فطيّر الشياطين عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقا، كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع، فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة وهو متحير فيه، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلا من أمتي وهج يتقي النار وشررها، فجاءته صدقته فصارت سترا بينه وبين النار وظلا على رأسه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه، فجاءته صلته لرحمه، فقالت: يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلوه، فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين اللّه حجاب، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله اللّه عز وجل، ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من اللّه عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه رجاؤه من اللّه عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى، ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار، فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية اللّه عز وجل فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف، فجاءه حسن ظنه باللّه عز وجل فسكن روعه ومضى، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا، فجاءته صلاته فأقامته على قدميه وأنقذته، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا اللّه ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة». قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن جدا رواه عن سعيد بن المسيب وعمر بن ذر وعلي بن زيد بن جدعان. و نحو هذا الحديث مما قيل فيه: إن رؤيا الأنبياء وحي، فهو على ظاهرها لا كنحو ما روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رأيت كأن سيفي انقطع فأولته كذا وكذا، ورأيت بقرا تنحر، ورأيت كأنا في دار عقبة بن رافع. و قد روي في رؤياه الطويلة من حديث سمرة في الصحيح ومن حديث علي وأبي إمامة وروايات هؤلاء الثلاثة قريب بعضها من بعض مشتملة على ذكر عقوبات جماعة من المعذبين في البرزخ فأما في هذه الرواية فذكر العقوبة وأتبعها بما ينجي صاحبها من العمل، وراوي هذا الحديث عن ابن المسيب هلال أبو جبلة مدني لا يعرف بغير هذا الحديث، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه هكذا ذكره الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد اللّه أبو جبل (بلا هاء)، وحكياه عن مسلم ورواه عنه الفرج بن فضالة، وهو وسط في الرواية ليس بالقوي ولا المتروك، ورواه عنه بشر بن الوليد الفقيه المعروف بأبي الخطيب كان حسن المذهب جميل الطريقة، وسمعت شيخ الإسلام يعظم أمر هذا الحديث وقال: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث. هامش أخرجه الترمذي في كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن مات يوم الجمعة (3/ 386) برقم 1074، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي. أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في فضل من مات مرابطا (4/ 142) برقم 1621. وردت في المطبوع: رشيد، وما أثبتناه من سنن النسائي. أي السيوف البارقة، من البروق أي اللمعان، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، والمعنى أن ثباتهم عند القتال وبذل أرواحهم في سبيل اللّه أقوى دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم للّه. أخرجه النسائي في كتاب الشهيد (2/ 99). أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب في ثواب الشهيد (4/ 160) برقم 1663 باستثناء عبارة: من دمه. وردت في المطبوع: رجل من، والتصويب من سنن الترمذي. أخرجه الترمذي بلفظ مقارب في كتاب فضائل القرآن باب ما جاء في فضل سورة الملك (5/ 151) برقم 2890. انظر الحديث في صفحة 141. أخرج ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ما جاء فيمن مات مريضا (1/ 515) برقم 1615 عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتنة القبر وغدي وريح عليه برزقه من الجنة». قال السندي: قال السيوطي: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وأعلّه بإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي فإنه متروك وقال أحمد بن حنبل: إنما هو من مات مرابطا، قال الدارقطني بإسناده عن إبراهيم بن يحيى يقول: حدثت ابن جريج هذا الحديث «من مات مرابطا» فروى عني: «من مات مريضا» وما هكذا حدثته. ===================================== 11. الروح/المسألة الحادية عشرة و هي أن السؤال في القبر هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار أو يختص بالمسلم والمنافق؟ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (التمهيد): والآثار الدالة تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق كان منسوبا إلى أهل القبلة ودين الإسلام بظاهر الشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيّه، وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام، فيثبت اللّه الذين آمنوا ويرتاب المبطلون. و القرآن والسنّة تدل على خلاف هذا القول، وأن السؤال للكافر والمسلم، قال اللّه تعالى: ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِی ٱلۡءَاخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاۤءُ ٢٧﴾ [إبراهيم:27] وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر حين يسأل من ربك وما دينك ومن نبيك. و في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، أنه قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم»، وذكر الحديث. زاد البخاري: «و أما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» هكذا في البخاري، وأما المنافق والكافر فتقدم في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه ابن ماجه والإمام أحمد، كنا في جنازة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلي في قبورها، فإذا الإنسان دفن وتولى عنه أصحابه جاء ملك وفي يده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقول: هذا منزلك لو كفرت بربك؛ وأما الكافر والمنافق فيقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت فإن اللّه أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق اللّه إلا الثقلين»، فقال بعض الصحابة: يا رسول اللّه ما أحد يقوم على رأسه ملك إلا هيل عند ذلك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِی ٱلۡءَاخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاۤءُ ٢٧﴾ [إبراهيم:27]. (و في حديث) البراء بن عازب الطويل: «و أما الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء معهم مسوح». وذكر الحديث إلى أن قال: «ثم تعاد روحه في جسده في قبره»، وذكر الحديث، وفي لفظ: «فإذا كان كافر جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه» فذكر الحديث إلى قوله: «ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان بأسوإ أسمائه، فإذا انتهى به إلى سماء الدنيا أغلقت دونه، قال: يرمى به من السماء، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج:31] قال: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فيجلسانه وينتهرانه فيقولان: من ربّك؟ فيقول: هاه لا أدري، فيقولون لا دريت، فيقولان: ما هذا النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون ذلك، لا أدري. فيقولان له: لا دريت، وذلك قوله تعالى: ويُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ويَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» وذكر الحديث. و اسم الفاجر في عرف القرآن والسنّة يتناول الكافر قطعا كقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِيم ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِی جَحِيم ١٤﴾ [الانفطار:13–14] وقوله تعالى: ﴿كَلَّاۤ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلۡفُجَّارِ لَفِی سِجِّين ٧﴾ [المطففين:7] وفي لفظ آخر في حديث البراء: «و إن الكافر إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل إليه ملائكة شداد: غضاب معهم ثياب من نار وسرابيل من قطران فيحتوشونه، فتنزع روحه كما ينزع السّفود 1 الكثير الشعب من الصوف المبتل، فإذا أخرجت لعنه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء». وذكر الحديث إلى أن قال: «إنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين فيقال: يا هذا من ربّك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: لا أدري فيقال: لا دريت». وذكر الحديث رواه حماد بن سلمة عن يونس بن خباب، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء. و في حديث عيسى بن المسيّب، عن عدي بن ثابت، عن البراء، خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، وذكر الحديث إلى أن قال: إن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من نار وحنوط من نار». فذكر الحديث إلى أن قال: «فتردّ روحه إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه، ثم يقولان: يا هذا من ربّك؟ فيقول: لا أدري فينادي من جانب القبر: لا دريت فيضربانه بمرزبّة من حديد لو اجتمع عليها من بين الخافقين لم تقل ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه». وذكر الحديث. و رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القسام، حدثنا عيسى بن المسيب، فذكره. (و في حديث) محمد بن سلمة، عن خصيف، عن مجاهد، عن البراء، قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر الحديث إلى أن قال: وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «و إذا وضع الكافر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت» الحديث وقد تقدم. و بالجملة فعامة من روى حديث البراء بن عازب قال فيه: «و أما الكافر» بالجزم، وبعضهم قال: «و أما الفاجر»، وبعضهم قال: «و أما المنافق والمرتاب»، وهذه اللفظة من شك بعض الرواة هكذا في الحديث لا أدري أي ذلك قال. و أما من ذكر الكافر والفاجر فلم يشك، ورواية من لم يشك- مع كثرتهم- أولى من رواية من شك- مع انفراده- على أنه لا تناقض بين الروايتين، فإن المنافق يسأل كما يسأل الكافر والمؤمن فيثبت اللّه أهل الإيمان ويضل اللّه الظالمين وهم الكفار والمنافقون. (و قد جمع) أبو سعيد الخدري في حديثه الذي رواه أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: شهدنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جنازة. فذكر الحديث وقال: «و إن كان كافرا أو منافقا يقول له: ما تقول في هذا الرجل: فيقول: لا أدري»، وهذا صريح في أن السؤال للكافر والمنافق، وقول أبي عمر رحمه اللّه: وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، فيقال له: ليس كذلك بل هو من جملة المسئولين وأولى بالسؤال من غيره. و قد أخبر اللّه في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ يُنَادِيهِمۡ فَيَقُولُ مَاذَاۤ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦٥﴾ [القصص:65]. وقال تعالى ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسۡـَٔلَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ ٩٢ عَمَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٣﴾ [الحجر:92–93] وقال تعالى: ﴿فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦﴾ [الأعراف:6] فإذا سئلوا يوم القيامة فكيف لا يسألون في قبورهم؟! فليس لما ذكره أبو عمر رحمه اللّه وجه. هامش هو عود من حديد ينظم فيه اللحم ليشوى وجمعه: سفافيد. 12========================================== الروح/المسألة الثانية عشرة و هي أن سؤال منكر ونكير هل هو مختص بهذه الأمة أو يكون لها ولغيرها. هذا موضع تكلّم فيه الناس، فقال أبو عبد اللّه الترمذي: إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا كفّت الرسل واعتزلوهم، وعولجوا بالعذاب؛ فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالرحمة إماما للخلق كما قال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَة لِّلۡعَـٰلَمِينَ ١٠٧﴾ [الأنبياء:107] أمسك عنهم العذاب وأعطي السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه، فأمهلوا، فمن هاهنا ظهر أمر النفاق، وكانوا يسرّون الكفر ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض اللّه لهم فتّاني القبر ليستخرجا سرّهم بالسؤال وليميز اللّه الخبيث من الطيّب فـ ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِی ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِی ٱلۡءَاخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاۤءُ ٢٧﴾ [إبراهيم:27]. و خالف في ذلك آخرون منهم عبد الحق الإشبيلي والقرطبي وقالوا: السؤال لهذه الأمة ولغيرها. و توقف في ذلك آخرون منهم أبو عمر بن عبد البر فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، ومنهم من يرويه «تسأل»، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصّت بذلك فهذا أمر لا يقطع عليه. و قد احتج من خصه بهذه الأمة بقوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها»، وبقوله: «أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة، قالوا: ويدل عليه قول الملكين له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول المؤمن: أشهد أنه عبد اللّه ورسوله، فهذا خاص بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقوله في الحديث الآخر: «إنكم بي ممتحنون وعنّي تسألون». و قال آخرون: لا يدل هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم، فإن قوله إن هذه الأمة إما أن يراد به أمة الناس كما قال تعالى: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾ [الأنعام:38] وكل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة، وفي الحديث: «لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» 1 وفيه أيضا حديث النبي الذي قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى اللّه إليه من أجل أن قرصتك نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبّح اللّه. و إن كان المراد به أمته صلى اللّه عليه وسلم الذي بعث فيهم لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم. بل قد يكون ذكرهم إخبارا بأنهم مسئولون في قبورهم وأن ذلك لا يختص بمن قبلهم لفضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم. و كذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم: «أوحي إليّ أنّكم تفتنون في قبوركم». و كذلك إخباره عن قول الملكين: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ هو إخبار لأمته بما تمتحن به في قبورها، والظاهر- واللّه أعلم- أن كل نبي مع أمته كذلك وأنهم معذّبون في قبورهم بعد السؤال لهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذّبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. واللّه سبحانه وتعالى أعلم. هامش أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام والفوائد باب ما جاء في قتل الكلاب (4/ 66) برقم 1486 وزاد عليه: «فاقتلوا منها كل أسود بهيم» والكلب الأسود البهيم هو الذي لا يكون فيه شي ء من البياض، وقد كره بعض أهل العلم صيد الكلب الأسود البهيم، وقيل أنه شيطان. =================================== 13. الروح/المسألة الثالثة عشرة و هي أن الأطفال هل يمتحنون في قبورهم؟ اختلف الناس في ذلك على قولين: هما وجهان لأصحاب أحمد. و حجة من قال إنهم يسألون أنه يشرع الصلاة عليهم، والدعاء لهم، وسؤال اللّه أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر (كما ذكر) مالك في موطئه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه وسلم صلّى على جنازة صبي فسمع من دعائه: «اللهم قه عذاب القبر» 1. (و احتجوا) بما رواه علي بن معبد عن عائشة رضي اللّه عنها: أنه مر عليها بجنازة صبي صغير فبكت، فقيل لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر. (و احتجوا) بما رواه هناد بن السري، حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: إنه كان ليصلّي على المنفوس وما إن عمل خطيئة قط فيقول: «اللهم أجره من عذاب القبر». قالوا: واللّه سبحانه يكمل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلتهم، ويلهمون الجواب عما يسألون عنه. قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة، وحكاه الأشعري عن أهل السنّة والحديث، فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور. (قال الآخرون): السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل فيسأل: هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟! ولو رد إليه عقله في القبر فإنه لا يسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة، فإن اللّه سبحانه يرسل إليهم رسولا ويأمرهم بطاعة أمره وعقولهم معهم فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار، فذلك امتحان بأمر يأمرهم به يفعلونه ذلك الوقت لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان كسؤال الملكين في القبر. و أما حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل على ترك طاعة أو فعل معصية، فإن اللّه لا يعذب أحدا بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبة على عمل عمله، ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه». أي يتألم بذلك ويتوجع منه لا أنه يعاقب بذنب الحي ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ [فاطر:18] 2. و هذا كقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب». فالعذاب أعم من العقوبة، ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل فيتألم به، فيشرع للمصلي عليه أن يسأل اللّه تعالى له أن يقيه ذلك العذاب. و اللّه أعلم. هامش أخرج أبو داود في كتاب الجنائز باب في النوح (3/ 494) برقم 3129 عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» فذكر ذلك لعائشة فقال: و هل- تعني ابن عمر- إنما مر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على قبر فقال: «إن صاحب هذا القبر يعذب وأهله يبكون عليه ثم قرأت: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ [فاطر:18] قال عن معاوية: على قبر يهودي. قال الخطابي في معالم السنن: قد يحتمل أن يكون الأمر في هذا على ما ذهبت إليه عائشة، لأنها قد روت (أن ذلك إنما كان في شأن اليهودي) والخبر المفسر أولى من المجمل، ثم احتجت له بالآية، وقد يحتمل أن يكون ما رواه ابن عمر صحيحا من غير أن يكون فيه خلاف الآية، وذلك أنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وكان ذلك مشهورا من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول القائل وهو طرفة: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد وكقول لبيد: فقوما فقولا بالذي تعلمانه ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر وقولا هو المرء الذي لا صديقه ... أضاع ولا خان الأمين ولا عذر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إياهم بذلك وقت حياته، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها». و قولها: وهل ابن عمر، معناه: ذهب وهله إلى ذلك، يقال: وهل الرجل ووهم بمعنى واحد، كل ذلك بفتح الهاء، فإذا قلت: وهل بكسر الهاء كان معناه فزع، وفيه وجه آخر ذهب إليه بعض أهل العلم، قال: وتأويله أنه مخصوص في بعض الأموات الذين وجب عليهم بذنوب اقترفوها، وجرى من قضاء اللّه سبحانه فيهم أن يكون من عذابهم وقت البكاء عليهم، ويكون كقولهم: مطرنا بنوء كذا، أي عند نوء كذا، كذلك قوله: «إن الميت يعذب ببكاء أهله» أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالا لا سببا لأنا لو جعلناه سببا لكان مخالفا للقرآن، وهو قوله: ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى واللّه أعلم. أخرج مالك في موطئه في كتاب الجنائز باب ما يقول المصلي على الجنائز (ص 112) عن يحيى بن سعيد أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: صليت وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط فسمعته يقول: اللهم أعذه من عذاب القبر. أما أبو داود فقد ذكر في كتاب الجنائز باب الصلاة على الطفل (3/ 528) عن عائشة قالت: مات إبراهيم ابن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. و قد ذكر الخطابي في معالم السنن شارحا هذا الأمر فقال: كان بعض أهل العلم يتأول ذلك على أنه إنما ترك الصلاة عليه لأنه قد استغنى بنبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن قربة الصلاة كما استغنى الشهداء بقربة الشهادة عن الصلاة عليهم، وقد روى عطاء مرسلا أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم صلى على ابنه إبراهيم، وقد روى أبو داود في هذا الباب: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن ابن المبارك عن يعقوب بن القعقاع عن عطاء، قلت: وهذا أولى الأمرين، وإن كان حديث عائشة أحسن اتصالا، وقد روي أن الشمس قد خسفت يوم وفاة إبراهيم، فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم صلاة الخسوف فاشتغل بها عن الصلاة عليه. واللّه أعلم. =============================== 14. الروح/المسألة الرابعة عشرة جوابها أنه نوعان: (نوع دائم) سوى ما ورد في بعض الأحاديث أنه يخفف عنهم ما بين النفختين، فإذا قاموا من قبورهم قالوا: ﴿قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا﴾ [يس:52] ويدل على دوامه قوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر:46] ويدل عليه أيضا ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم وفيه: «فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة». و في حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفّف عنهما ما لم تيبسا، فجعل التخفيف مقيدا برطوبتهما فقط. و في حديث الربيع عن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة: «ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شي ء، وقد تقدم، وفي الصحيح في قصة الذي لبس بردين وجعل يمشي يتبختر فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. و في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: «ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة». رواه الإمام أحمد، وفي بعض طرقه: «ثم يخرق له خرقا إلى النار فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة». (النوع الثاني) إلى مدة، ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفّت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة ثم يزول عنه العذاب. و قد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم، وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده واللّه سبحانه وتعالى لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا فانه شرك وباطل يتعالى اللّه عنه ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:255] ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ﴾ [الأنبياء:28] ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس:3] ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ:23] ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الزمر:44]. (و قد ذكر) ابن أبي الدنيا حدثني محمد بن موسى الصائغ، حدثنا عبد اللّه بن نافع، قال: مات رجل من أهل المدينة فرآه رجل كأنه من أهل النار فاغتم لذلك، ثم إنه بعد ساعة أو ثانية رآه كأنه من أهل الجنة، فقال: أ لم تكن قلت أنك من أهل النار، قال: قد كان ذلك، إلا أنه دفن معنا رجل من الصالحين فشفع في أربعين من جيرانه فكنت أنا منهم. (و قال) ابن أبي الدنيا: وحدثنا أحمد بن يحيى قال: حدثني بعض أصحابنا قال: مات أخي فرأيته في النوم فقلت: ما كان حالك حين وضعت في قبرك؟ قال: أتاني آت بشهاب من نار، فلولا أن داعيا دعا لي لرأيت أنه سيضربني به. (و قال) عمرو بن جرير: إذا دعا العبد لأخيه الميت أتاه بها ملك إلى قبره، فقال: يا صاحب القبر الغريب هدية من أخ عليك شفيق. (و قال) بشار بن غالب: رأيت رابعة في منامي، وكنت كثير الدعاء لها، فقالت لي: يا بشار بن غالب هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمرة بمناديل الحرير، قلت: كيف ذلك، قالت: هكذا دعاء المؤمنين الأحياء إذا دعوا للموتى استجيب لهم ذلك الدعاء على أطباق النور وخمر بمناديل الحرير، ثم أتي بها الذي دعى له من الموتى فقيل: هذه هدية فلان إليك. (قال) ابن أبي الدنيا: وحدثني أبو عبد بن بحير قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت أخا لي في النوم بعد موته فقلت: أ يصل إليكم دعاء الأحياء قال: أي واللّه يترفرف مثل النور ثم يلبسه. و سيأتي إن شاء اللّه تعالى تمام لهذه في جواب السؤال عن انتفاع الأموات بما تهديه إليهم الأحياء. هامش ============================== 15. القائمة الرئيسية إنشاء حساب دخول أدوات شخصية * اقرأ * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر * الروح/المسألة الخامسة عشرة الصفحة نقاش اقرأ عدّل تاريخ أدوات < الروح المسألة الرابعة عشرة ​الروح - المسألة الخامسة عشرة​ المؤلف ابن القيم فصل مكان الروح ملاحظات: المسألة الخامسة عشرة (مستقر الأرواح) و هي أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة: هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة أم لا؟ وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة؟ هذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك، فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند اللّه في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهم. و قالت طائفة: هم بفناء 1 الجنة على بابها، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. و قالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها. و قال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت. (و قال) الإمام أحمد في رواية ابنه عبد اللّه: أرواح الكفار في النار وأرواح المؤمنين في الجنة. (و قال) أبو عبد اللّه بن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند اللّه عز وجل ولم يزيدوا على ذلك، قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت. و قال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد اللّه أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟ فقال: إن الأرض التي يقول اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ ١٠٥﴾ [الأنبياء:105] قال هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث. وقالوا: هي الأرض التي يورثها اللّه المؤمنين في الدنيا وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس. و قالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت. و قال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض، تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين، وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن تذهب في الأرض حيث شاءت. و قالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله. و قالت طائفة أخرى منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. قال: والذي نقول به في مستقر الأرواح هو ما قاله اللّه عز وجل ونبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا نتعداه، فهو البرهان الواضح وهو أن اللّه عز وجل قال: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ ١٧٢﴾ [الأعراف:172] وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الأعراف:11]، فصح أن اللّه تعالى خلق الأرواح جملة، وكذلك أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، وأخذ اللّه عهدها وشهادتها له بالربوبية وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم وقبل أن يدخلها في الأجساد، والأجساد يومئذ تراب وماء، ثم أقرها حيث شاء هو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت، ثم لا يزال يبعث منها الجملة بعد الجملة فينفخها في الأجساد المتولدة من المنى، إلى أن قال: فصح أن الأرواح أجساد حاملة لأعراضها من التعارف والتناكر وأنها عارفة مميزة فيبلوهم اللّه في الدنيا كما يشاء ثم يتوفاهم فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا أرواح أهل السعادة عن يمين آدم وأرواح أهل الشقاوة عن يساره وذلك عند منقطع العناصر ويعجل أرواح الأنبياء والشهداء إلى الجنة. قال: وقد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا أجمع أهل العلم. قال ابن حزم وهو قول جميع أهل الإسلام قال: وهذا هو قول اللّه تعالى: ﴿فَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ مَاۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَيۡمَنَةِ ٨ وَأَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ مَاۤ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ ٩ وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلسَّـٰبِقُونَ ١٠ أُوْلَـٰۤئِكَ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ١١ فِی جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ ١٢ ثُلَّة مِّنَ ٱلۡأَوَّلِينَ ١٣ وَقَلِيل مِّنَ ٱلۡءَاخِرِينَ ١٤﴾ [الواقعة:8–14] وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوۡح وَرَيۡحَان وَجَنَّتُ نَعِيم ٨٩﴾ [الواقعة:88–89]، إلى آخرها، فلا تزال الأرواح هنالك حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في الأجساد، ثم برجوعها إلى البرزخ فتقوم الساعة ويعيد اللّه عز وجل الأرواح إلى أجسادها ثانية، وهي الحياة الثانية يحاسب الخلق فريق في الجنة، وفريق في السعير مخلدين أبدا. انتهى. و قال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، ونحن نذكر كلامه وما احتج به ونبين ما فيه. (و قال) ابن المبارك عن ابن جريج فيما قرئ عليه عن مجاهد: ليس هي في الجنة ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها. و ذكر معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أزواج المؤمنين فقال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة تأتي ربها في كل يوم تسلم عليه. (و قال) أبو عمر بن عبد البر في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إلى يوم القيامة، قال: وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك واللّه أعلم، لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئا وأثبت نقلا من غيرها. قال: والمعنى عندي أنها تكون على أفنية قبورها لا على أنها تلزم ولا تفارق أفنية القبور كما قال مالك رحمه اللّه أنه بلغنا أن الأرواح تسرح حيث شاءت. قال: وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق ذلك، واللّه أعلم. و قالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، فتعدم بموت البدن كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته، وهذا قول مخالف لنصوص القرآن والسنّة وإجماع الصحابة والتابعين كما سنذكر ذلك إن شاء اللّه، والمقصود أن عند هذه الفرقة المبطلة أن مستقر الأرواح بعد الموت العدم المحض. و قالت فرقة: مستقرها بعد الموت أرواح أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الأرواح فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنية والسفلية إلى أبدان الحشرات، وهذا قول المتناسخة منكري المعاد، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلهم. فهذا ما تلخص لي من جمع أقوال الناس في مصير أرواحهم بعد الموت ولا تظفر به مجموعا في كتاب واحد غير هذا البتة، ونحن نذكر ما أخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنّة على طريقتنا التي منّ اللّه بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق. هامش الفناء: هو سعة أمام البيت، وقيل: ما امتد من جوانبه. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ================= ​الروح - المسألة الخامسة عشرة - فصل مكان الروح​ المؤلف ابن القيم فصل أرواح الشهداء ملاحظات: فصل مكان الروح فأما من قال هي الجنة: فاحتج بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّاۤ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوۡح وَرَيۡحَان وَجَنَّتُ نَعِيم ٨٩﴾ [الواقعة:88–89]، قال: وهذا ذكره سبحانه عقيب ذكر خروجها من البدن بالموت وقسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام: مقربين: وأخبر أنها في جنة النعيم. و أصحاب يمين: حكم لها بالإسلام وهو يتضمن سلامتها من العذاب. و مكذبة ضالة، وأخبر أن لها نزلا من حميم وتصلية جحيم، قالوا: وهذا بعد مفارقتها للبدن قطعا، وقد ذكر سبحانه حالها يوم القيامة في أول السورة فذكر حالها بعد الموت وبعد البعث واحتجوا بقوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرۡضِيَّة ٢٨ فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی ٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی ٣٠﴾ [الفجر:27–30] وقد قال غير واحد من الصحابة والتابعين أن هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا يبشرها الملك بذلك، ولا ينافي ذلك قول من قال: إن هذا يقال لها في الآخرة فإنه يقال لها عند الموت وعند البعث وهذه من البشرى التي قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَلَـٰۤئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَبۡشِرُواْ بِٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِی كُنتُمۡ تُوعَدُونَ ٣٠﴾ [فصلت:30]. وهذا التنزل يكون عند الموت ويكون في القبر ويكون عند البعث، وأول بشارة الآخرة عند الموت. و قد تقدم في حديث البراء بن عازب أن الملك يقول لها عند قبضها: أبشري بروح وريحان، وهذا من ريحان الجنة. و احتجوا بما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إنما نسمة المؤمن [طير] 1 يعلق في شجرة الجنة حتى يرجعه اللّه إلى [جسده] 2 يوم يبعثه 3. قال أبو عمرو في رواية مالك هذه بيان سماع الزهري لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكذا رواه يونس عن الزهري قال: سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه، وكذلك رواه الأوزاعي عن الزهري حدثني عبد الرحمن بن كعب وقد أعل محمد بن يحيى الذهلي هذا الحديث بأن شعيب بن أبي حمزة ومحمد بن أخي الزهري وصالح بن كيسان رووه عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك عن جده كعب فيكون منقطعا، وقال صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن عبد الرحمن أنه بلغه أن كعبا بن مالك كان يحدث، قال الذهلي: وهذا المحفوظ عندنا وهو الذي يشبهه حديث صالح وشعيب وابن أخي الزهري وخالفه في هذا غير من الحفّاظ فحكموا لمالك والأوزاعي، قال أبو عمر: فاتفق مالك ويونس بن يزيد والأوزاعي والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث عن الزهري عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه وصححه الترمذي وغيره. (و قال) أبو عمرو: لا وجه عندي لما قاله محمد بن يحيى من ذلك ولا دليل عليه، واتفاق مالك ويونس بن زيد والأوزاعي ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب والنفس إلى قولهم: وروايتهم أسكن وهم من الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس بهم من خالف في هذا الحديث. انتهى. و قد قال محمد الذهلي: سمعت علي ابن المديني يقول: ولد كعب خمسة: عبد اللّه، وعبيد اللّه، ومعبد، وعبد الرحمن، ومحمد 4، قال الذهلي: فسمع الزهري من عبد اللّه بن كعب، وكان قائد أبيه حين عمي، وسمع من عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب، وروي عن بشير بن عبد الرحمن بن كعب، ولا أراه سمع منه. انتهى. فالحديث إن كان لعبد الرحمن عن أبيه عن كعب كما قال مالك ومن معه، فظاهر، وإن كان لعبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب عن جده كما قال شعيب ومن معه فنهايته أن يكون مرسلا من هذا الطريق وموصولا من الأخرى والذين وصلوه ليسوا بدون الذين أرسلوه قدرا ولا عددا فالحديث عن صحاح الأحاديث، وإنما لم يخرجه صاحبا الصحيح لهذه العلة، واللّه أعلم. (قال) أبو عمر: وأما قوله نسمة المؤمن، فالنسمة هاهنا الروح، يدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث نفسه، حتى يرجعه إلى اللّه جسده يوم يبعثه، وقيل: النسمة الروح والنفس والبدن، وأصل هذه اللفظة أعني النسمة الإنسان بعينه، وإنما قيل للروح نسمة واللّه أعلم، لأن حياة الإنسان بروحه، وإذا فارقه عدم أو صار كالمعدوم. والدليل على أن النسمة الإنسان قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «و من أعتق نسمة مؤمنة» وقول علي رضي اللّه عنه: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، وقال الشاعر: بأعظم منك تقي في الحساب ... إذا النسمات نفضن الغبارا يعني إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة، وقال الخليل بن أحمد: النسمة الإنسان، قال: والنسمة الروح، والنسيم هبوب الريح، وقوله تعالى في شجر الجنة يروى بفتح اللام وهو الأكثر، ويروى بضم اللام والمعنى واحد وهو الأكل والرعي، يقول: تأكل من ثمار الجنة وتسرح بين أشجارها، والعلوقة والعلوق الأكل والرعي، تقول العرب: ما ذاق اليوم علوقا أي طعاما، قال الربيع بن أبي زياد يصف الخيل: ومجنبات ما يذقن علوقة ... يمصعن بالمهرات والأمهار وقال الأعشى: وفلاة كأنها ظهر ترس ... ليس فيها إلا الرجيع علاق قلت: ومنه قول عائشة: والنساء إذ ذاك خفاف لم يغشهن 5 اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، وأصل اللفظة من التعليق وهو ما يتعلق بالقلب والنفس من الغذاء. قال: واختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قائلون منهم: أرواح المؤمنين عند اللّه في الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم. قال: واحتجوا بأن هذا الحديث لم يخص فيه شهيدا من غير شهيد. و احتجوا أيضا بما روي عن أبي هريرة: «أن أرواح الأبرار في عليين وأرواح الفجار في سجين»، وعن عبد اللّه بن عمرو مثل ذلك، قال أبو عمر: وهذا قول يعارضه من السنة ما لا مدفع في صحة نقله، وهو قوله: «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال له: هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه إليه يوم القيامة». و قال آخرون: إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرهم، لأن القرآن والسنّة إنما يدلان على ذلك. أما القرآن فقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩﴾ [آل عمران:169]﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [آل عمران:170]. و أما الآثار فذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه من طريق بقي بن مخلد 6 مرفوعا: «الشهداء يغدون ويروحون ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتكموها، فيقولون: لا، غير أنا وددنا أنك عدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك». رواه عن هناد عن إسماعيل بن المختار عن المختار عن عطية عنه. (ثم ساق حديث) ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم (يعني يوم أحد) جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقبلهم قالوا: ومن يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ويزهدوا في الجهاد؟ قال: فقال اللّه عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩﴾ [آل عمران:169] والحديث في مسند أحمد وسنن أبي داود. ثم ذكر حديث الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق قال: سأل عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩﴾ [آل عمران:169]، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربك اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: وأي شي ء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا! فعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا». والحديث في صحيح مسلم. قلت: وفي صحيح البخاري عن أنس أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بنت سراقة أتت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يا نبي اللّه ألا تحدثني عن حارثة؟ (و كان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب) فإن كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: «يا أم جنان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» 7. ثم ساق: من طريق بقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا ابن عيينة عن عبيد اللّه بن أبي يزيد [أنه] 8 سمع ابن عباس يقول: أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمرة الجنة. ثم ذكر: عن معمر عن قتادة قال: بلغنا أن أرواح الشهداء في صور طير بيض تأكل من ثمار الجنة. (و من طريق) أبي عاصم النبيل عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد اللّه بن عمرو: أرواح الشهداء في طير كالزراير 9 يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة. قال أبو عمر: هذه الآثار كلها تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم، وفي بعضها في صور طير، وفي بعضها في أجواف طير، وفي بعضها كطير خضر، قال: و الذي يشبه عندي واللّه أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صور طير لمطابقته لحديثنا المذكور (يريد حديث كعب بن مالك) وقوله: فيه نسمة المؤمن كطائر، ولم يقل في جوف طائر. قال: وروى عيسى بن يونس حديث ابن مسعود عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه كطير خضر. قلت: والذي في صحيح مسلم في أجواف طير خضر. قال أبو عمر: فعلى هذا التأويل كأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إنما نسمة المؤمن من الشهداء طائر يعلق في شجر الجنة. قلت: لا تنافي بين قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن من طائر يعلق في شجر الجنة»، وبين قوله: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعد، بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار»، وهذا الخطاب يتناول الميت على فراشه والشهيد، كما أن قوله: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة»، يتناول الشهيد وغيره، ومع كونه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي ترد روحه أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها. و أما المقعد الخاص به والبيت الذي أعد له فإنه إنما يدخله يوم القيامة، ويدل عليه أن منازل الشهداء ودورهم وقصورهم التي أعدّ اللّه لهم ليست هي تلك القناديل التي تأوي إليها أرواحهم في البرزخ قطعا، فهم يرون منازلهم ومقاعدهم من الجنة ويكون مستقرهم في تلك القناديل المعلقة بالعرش، فإن الدخول التام الكامل إنما يكون يوم القيامة، ودخول الأرواح الجنة في البرزخ أمر دون ذلك. و نظير هذا أهل الشقاء، تعرض أرواحهم على النار غدوا وعشيا، فإذا كان يوم القيامة دخلوا منازلهم ومقاعدهم التي كانوا يعرضون عليها في البرزخ فتنعم الأرواح بالجنة في البرزخ شي ء، وتنعمها مع الأبدان يوم القيامة بها شي ء آخر، فغذاء الروح من الجنة في البرزخ دون غذائها مع بدنها يوم البعث، ولهذا قال: «تعلق في شجر الجنة» أي تأكل العلقة، وتمام الأكل والشرب واللبس والتمتع فإنما يكون إذا ردت إلى أجسادها يوم القيامة، فظهر أنه لا يعارض هذا القول من السنن شي ء، وإنما تعاضده السنّة وتوافقه. و أما قول من قال: إن حديث كعب في الشهداء دون غيرهم، فتخصيص ليس في اللفظ ما يدل عليه وهو محل اللفظ العام على أقل مسمياته: فإن الشهداء بالنسبة إلى عموم المؤمنين قليل جدا، والنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علق هذا الجزاء بوصف الإيمان، فهو المقتضي له ولم يعلقه بوصف الشهادة، ألا ترى أن الحكم الذي اختص بالشهداء علق بوصف الشهادة كقوله في حديث المقدام بن معد يكرب: «للشهيد عند اللّه ست خصال، يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين، وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه»، فلما كان هذا يختص بالشهيد قال: إن للشهيد ولم يقل إن للمؤمن، كذلك قوله في حديث قيس الجذامي يعطي الشهيد ست خصال، وكذلك سائر الأحاديث والنصوص التي علّق فيها الجزاء بالشهادة. و أما ما علق فيه الجزاء بالإيمان فإنه يتناول كل مؤمن شهيدا كان أم غير شهيد. و أما النصوص والآثار التي ذكرت في رزق الشهداء وكون أرواحهم في الجنة فكلها حق، وهي لا تدل على انتفاء دخول أرواح المؤمنين الجنة، ولا سيما الصديقين الذين هم أفضل الشهداء بلا نزاع بين الناس، فيقال لهؤلاء: ما تقولون في أرواح الصديقين هل هي في الجنة أم لا؟. فإن قالوا أنها في الجنة- لا يسوغ لهم غير هذا القول- فثبت أن هذه النصوص لا تدل على اختصاص أرواح الشهداء بذلك، وإن قالوا: ليست في الجنة لزمهم من ذلك أن تكون أرواح سادات الصحابة كأبي بكر الصديق وأبي بن كعب وعبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضي اللّه عنهم ليست في الجنة، وأرواح شهداء زماننا في الجنة، وهذا معلوم البطلان ضرورة. فإن قيل: فإذا كان هذا حكما لا يختص بالشهداء فما الموجب لتخصيصهم بالذكر في هذه النصوص؟ قلت: التنبيه على فضل الشهادة وعلو درجتها، وإن هذا مضمون لأهلها ولا بد وأن لهم منه أوفر نصيب، فنصيبهم من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فراشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه. و يدل على هذا أن اللّه سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، فإنهم لما بذلوا أنفسهم للّه حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين فإنه قال: «نسمة المؤمن طير» فهذا يعم الشهيد وغيره ثم خص الشهيد بأن قال: «و هي في جوف طير» ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فصلوات اللّه وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضا، ويدل على أنه حق من عند اللّه، وهذا الجمع أحسن من جمع أبو عمرو وترجيحة رواية من روى أرواحهم كطير خضر، بل الروايتان حق وصواب، فهي كطير خضر وفي أجواف طير خضر. هامش وردت في المطبوع: من طائر، والتصحيح من الموطأ. وردت في المطبوع: حياة، والتصحيح من الموطأ. أخرجه الإمام مالك في موطئه في جامع الجنائز (ص 117). وكلهم محدثون. أي لم يسمنوا أو يكثر لحمهم. هو بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، الحافظ المفسر، توفي سنة 286 ه- 889 م. أخرج البخاري في كتاب المغازي باب غزوة بدر (5/ 9) قال: حدثني عبد اللّه بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال: سمعت أنسا رضي اللّه عنه يقول: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول اللّه قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر واحتسب وإن تك الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: «ويحك أو هبلت؟» أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس». زيادة على المطبوع لوضوح العبارة. نوع من العصافير. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ===================== و أما قول مجاهد: ليس هي في الجنة، ولكن يأكلون من ثمارها ويجدون ريحها، فقد يحتج لهذا القول بما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليه رزقهم بكرة وعشية». و هذا لا ينافي كونهم في الجنة، فإن ذلك النهر من الجنة ورزقهم يخرج عليهم من الجنة، فهم أول الجنة وإن لم يصيروا إلى مقاعدهم منها، فمجاهد نفى الدخول الكامل من كل وجه، والتعبير يقصر عن الإحاطة بتمييز هذا من هذا، وأكمل العبارة أدلها على أن المراد عبارة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ثم عبارة أصحابه، وكلما نزلت رأيت الشفاء والهدى والنور، وكلما نزلت رأيت الحيرة والدعاوى والقول بلا علم. قال أبو عبد اللّه بن منده: وروى موسى بن عبيده عن عبد اللّه بن يزيد عن أم كبشة بنت المعرور قالت: دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فسألناه عن هذه الأرواح؟ فوصفها صفة أبكى أهل البيت، فقال: «إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة، وتأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، يقولون ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا، وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر في النار، يقولون ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤمنا ما وعدتنا». و قال الطبراني: حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا عبد اللّه بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن ضمرة بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح عن ضمرة بن حبيب، قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن أرواح المؤمنين؟ فقال: «في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت»، قالوا: يا رسول اللّه أرواح الكفار؟ قال: «محبوسة في سجين»، رواه أبو الشيخ عن هشام بن يونس عن عبد اللّه بن صالح ورواه أبو المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب. و ذكر: أبو عبد اللّه بن منده من حديث غنجار عن الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أرواح المؤمنين في طير خضر كالزرازير تأكل من ثمر الجنة» (و رواه) غيره موقوفا. و ذكر يزيد الرقاشي عن أنس، وأبو عبد اللّه السامي عن تميم الداري عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا عرج ملك الموت بروح المؤمن إلى السماء استقبله جبرائيل في سبعين ألفا من الملائكة، كل منهم يأتيه ببشارة من السماء سوى بشارة صاحبه، فإذا انتهى به إلى العرش خر ساجدا، فيقول اللّه عز وجل لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود 1 وطلح منضود 2 وظل ممدود 3 وماء مسكوب 4. رواه بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو عن يزيد وأبي عبد اللّه. هامش قال المفسرون: السدر شجر النبق، والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه. وفي حديث أخرجه الحاكم والبيهقي أن أعرابيا جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه، إن اللّه تعالى ذكر في الجنة شجرة تؤذي صاحبها! فقال: «و ما هي»؟ قال: السدر، فإن له شوكا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أ ليس اللّه يقول: في سدر مخضود، خضد اللّه شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، وإن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر». الطلح: هو شجر الموز، ومعنى منضود أي متراكم قد نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه. أي في ظل دائم باق ومستمر لا يزول ولا تنسخه الشمس أخرج البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، واقرءوا إن شئتم: و ظل ممدود». أي وماء جار دائم لا ينقطع، قال القرطبي: كانت العرب أصحاب بادية، والأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء، فوعدوا بالجنة بأسباب النزهة، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار وجريانها. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ و أما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبدا فهذا خطأ ترده نصوص الكتاب والسنّة من وجود كثيرة قد ذكرنا بعضها، وسنذكر منها ما لم تذكره إن شاء اللّه. و إن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتا، أولها إشراف على قبورها وهي في مقرها فهذا حق ولكن لا يقال مستقرها أفنية القبور. و قد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر، قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، وقد استدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور. قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل: حديث ابن عمر هذا، ومثل: حديث البراء بن عازب الذي تقدم وفيه: «هذا مقعدك حتى يبعثك اللّه يوم القيامة»، ومثل حديث أنس أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم، وفيه أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعا ويضيق على الكافر، ومثل حديث جابر: إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه أتاه ملك (الحديث) وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي، فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبدا، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه التي تقدمت، ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم، وقد تقدم ذكر ذلك كله. و هذا القول تردده السنّة الصحيحة والآثار التي لا مدفع لها، وقد تقدم ذكره، وكل ما ذكر من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى. و قد بينا أن عرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائما من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن للروح شأنا آخر يكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن، بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد اللّه عليه روحه، فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعد من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره. و هذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السماوات في أعلى عليين، وترد إلى القبر، فترد السلام وتعلم بالمسلم، وهي في مكانها هناك، وروح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الرفيق الأعلى، ويردها اللّه سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه وتسمع كلامه، وقد رأى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة، فإما أن تكون سريعة الحركة والانتقال كلمح البصر، وإما أن يكون المتصل منها بالقبر وفنائه بمنزلة شعاع الشمس وجرمها في السماء، وقد ثبت أن روح النائم تصعد حتى تخترق السبع الطباق، وتسجد للّه بين يدي العرش، ثم ترد إلى جسده في أيسر زمان، وكذلك روح الميت تصعد بها الملائكة حتى تجاوز السموات السبع وتقف بين يدي اللّه، فتجد له فيها، ويقضي فيها قضاء، ويريها الملك ما أعد اللّه لها في الجنة، ثم تهبط فتشهد غسله وحمله ودفنه، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب أن النفس يصعد بها حتى توقف بين يدي اللّه فيقول تعالى: «اكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوه إلى الأرض فيعاد إلى القبر وذلك في مقدار تجهيزه وتكفينه»، فقد صرح به في حديث ابن عباس حيث قال: فيهبطون على قدر فراغه من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسد وأكفانه. و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده من حديث عيسى بن عبد الرحمن، حدثنا ابن شهاب عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد اللّه عن أبيه قال: أردت مالي بالغابة، فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمر بن حزم، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فجئت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ذلك عبد اللّه، أ لم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا يزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها الذي كانت به». ففي هذا الحديث بيان سرعة انتقال أرواحهم من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها، ولهذا قال مالك وغيره من الأئمة: إن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وما يراه الناس من أرواح الموتى ومجيئهم إليهم من المكان البعيد أمر يعلمه عامة الناس ولا يشكون فيه واللّه أعلم. و أما السلام على أهل القبور وخطابهم فلا يدل على أن أرواحهم ليست في الجنة وأنها على أفنية القبور، فهذا سيد ولد آدم الذي روحه في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى صلى اللّه عليه وآله وسلم يسلم عليه عند قبره ويرد سلام المسلم عليه، وقد وافق أبو عمر رحمه اللّه على أن أرواح الشهداء في الجنة ويسلم عليهم عند قبورهم كما يسلم على غيرهم، كما علمنا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسلم عليهم، وكما كان الصحابة يسلمون على شهداء أحد، وقد ثبت أن أرواحهم في الجنة تسرح حيث شاءت كما تقدم، ولا يضيق عقلك عن كون الروح في الملأ الأعلى تسرح في الجنة حيث شاءت وتسمع سلام المسلم عليها عند قبرها وتدنو حتى ترد عليه السلام، وللروح شأن آخر شأن البدن، وهذا جبريل صلوات اللّه وسلامه عليه رآه النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وله ستمائة جناح، منها جناحان قد سد بهما ما بين المشرق والمغرب، وكان من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حتى يضع ركبتيه بين ركبتيه ويديه على فخذيه، وما أظنك يتسع بطنك أنه كان حينئذ في الملأ الأعلى فوق السموات حيث هو مستقره. وقد دنا من النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هذا الدنو فإن التصديق بهذا له قلوب خلقت له وأهلت لمعرفته ومن لم يتسع بطاقة لهذا فهو أضيق أن يتسع للإيمان بالنزول الإلهي إلى سماء الدنيا كل ليلة وهو فوق مساواته على عرشه لا يكون فوقه شي ء البتة، بل هو العالي على كل شي ء وعلوه من لوازم ذاته. و كذلك دنوه عشية عرفة من أهل الموقف، وكذلك مجيئه يوم القيامة لمحاسبة خلقه، وإشراق الأرض بنوره، وكذلك مجيئه إلى الأرض حين دحاها وسواها ومدها وبسطها وهيأها لما يراد منها. وكذلك مجيئه يوم القيامة حين يقبض من عليها ولا يبقى بها أحد كما قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه البلاد، وهذا هو فوق سماواته على عرشه. هامش المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ====================== و مما ينبغي أن يعلم أن ما ذكرنا من شأن الروح يختلف بحسب حال من الأرواح من القوة والضعف، والكبر والصغر، فالروح العظيمة الكبيرة ذلك ما ليس لمن هو دونها، وأنت ترى أحكام الأرواح في الدنيا كيف تتفاوت أعظم تفاوت، بحسب تفارق الأرواح وكيفياتها وقواها وإبطائها وإسراعها والمعاونة لها، فالروح المطلقة من أسر البدن وعلائقه وعوائقه التصرف والقوة والنفاذ والهمة وسرعة من الصعود إلى اللّه والتعلق باللّه ما ليس للروح المهينة المحبوسة في علائق البدن وعوائقه، فإن كان هذا وهي محبوسة في بدنها فكيف إذا تجردت وفارقته واجتمعت فيها قواها وكانت في أصل شأنها روحا علية زكية كبيرة ذات همة عالية فهذه لها بعد مفارقة البدن شأن آخر وفعل آخر. و قد تواترت الرؤيا من أصناف بني آدم على فعل الأرواح بعد موتها ما لا تقدر على مثله حال اتصالها بالبدن من هزيمة الجيوش الكبيرة بالواحد والاثنين والعدد القليل ونحو ذلك، وكم قد رئي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر في النوم قد هزمت أرواحهم عساكر الكفر والظلم، فإذا بجيوشهم مغلوبة مكسورة مع كثرة عددهم [و عدتهم] 1 ضعف المؤمنين وقتلهم. و من العجب أرواح المؤمنين المتحابين المتعارفين تتلاقى وبينها أعظم مسافة وأبعدها، فتألف وتتعارف، فيعرف بعضها بعضا كأنه جليسه وعشيره، فإذا رآه طابق ذلك ما كان عرفته روحه قبل رؤيته. (قال) عبد اللّه بن عمرو: إن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يوم، وما رأى أحدهما قط، ورفعه بعضهم إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. (و قال) عكرمة ومجاهد: إذا نام الإنسان فإن له سببا يجري فيه الروح وأصله في الجسد، فتبلغ حيث شاء اللّه ما دام ذاهبا، فالإنسان نائم، فإذا رجع إلى البدن انتبه الإنسان وكان بمنزلة شعاع الشمس الذي هو ساقط بالأرض فأصله متصل بالشمس. و قد ذكر أبو عبد اللّه بن منده عن بعض أهل العلم أنه قال: إن الروح تمتد من منخر الإنسان ومركبه وأصله في بدنه، فلو خرج الروح بالكلية لمات، كما أن السراج لو فرق بينه وبين الفتيلة، ألا ترى أن مركب النار في الفتيلة وضوؤها وشعاعها يملأ البيت، فكذلك الروح تمتد من منخر الإنسان في منامه، حتى تأتي السماء وتجول في البلدان وتلتقي مع أرواح الموتى، فإذا أراه الملك الموكل بأرواح العباد ما أحب أن يريه، وكان المرئي في اليقظة عاقلا ذكيا صدوقا لا يلتفت في يقظته إلى شي ء من الباطل رجع إليه روحه فأدى إلى قلبه الصدق مما أراه اللّه عز وجل على حسب خلقه، وإن كان خفيا نزقا يحب الباطل والنظر إليه فإذا نام وأراه اللّه أمرا من خير أو شر رجعت روحه إليه فحيث ما رأى شيئا من مخاريق الشيطان أو الباطل وقفت روحه عليه كما يقظته، فكذلك لا يؤدي إلى قلبه، فلا يعقل ما رأى، لأنه خلط الحق بالباطل، فلا يمكن معبر أن يعبر له وقد خلط الحق بالباطل. و هذا من أحسن الكلام، وهو دليل على معرفة قائله وبصيرته بالأرواح وأحكامها. و أنت ترى الرجل يسمع العلم والحكمة وما هو أنفع شي ء له، ثم يمر بباطل ولهو من غناء وشبهة أو زور أو غيره فيصغي إليه، ويفتح له قلبه حتى يتأدى إليه، فيتخبط عليه ذلك الذي سمعه من العلم والحكمة، ويلتبس عليه الحق بالباطل فهكذا شأن الأرواح عند النوم، وأما بعد المفارقة فإنها تعذب بتلك الاعتقادات والشبه الباطلة التي كانت حظها حال اتصالها بالبدن، وينضاف إلى ذلك عذابها بتلك الإرادات والشهوات التي حيل بينهما وبينها ويضاف إلى ذلك عذاب آخر ينشئه اللّه ولبدنها من الأعمال التي اشتركت معه فيها، وهذه هي المعيشة الضنك في البرزخ والزاد الذي تزود به إليه. و الروح الزكية العلوية المحقة التي لا تحب الباطل ولا تألفه بضد ذلك كله، تنعم بتلك الاعتقادات الصحيحة والعلوم والمعارف التي تلقتها من النبوة وتلك الإرادات والهمم الزكية، وينشئ اللّه سبحانه لها من أعمالها نعيما ينعمها به [في] 2 البرزخ فتصير لها روضة من رياض الجنة ولتلك حفرة من حفر النار. هامش وردت في المطبوع: وعدوهم، وهو تصحيف. زيدت على المطبوع لوضوح العبارة. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ========================= و أما قول من قال: أرواح المؤمنين عند اللّه تعالى ولم يزد على ذلك، فإنه تأدب مع لفظ القرآن حيث يقول اللّه عز وجل: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران:169]. و قد احتج أرباب هذا القول بحجج (منها) ما رواه محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن الميت إذا خرجت نفسه يعرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها عز وجل، وإذا كان الرجل السوء يعرج بها إلى السماء فإنه لا يفتح لها أبواب السماء فترسل من السماء فتصير إلى القبر. هذا إسناد لا تسأل عن صحته وهو في مسند أحمد وغيره. و قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري قال: تخرج روح المؤمن أطيب من ريح المسك فينطلق بها الملائكة من دون السماء فيقولون ما هذا؟ فيقولون: هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت- لمحاسن عمله- فيقولون: مرحبا بكم وبه، فيقبضونها منها، فيصعد بها من الباب الذي كان يصعد منه عمله، فتشرق في السموات ولها برهان كبرهان الشمس حتى ينتهي إلى العرش، وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون ما هذا؟ فيقولون: هذا فلان ابن فلان يعمل كيت وكيت- لمساوئ عمله- فيقولون: لا مرحبا لا مرحبا ردوه إلى أسفل الأرض إلى الثرى. و قال الملكي بن إبراهيم عن داود بن يزيد الأودي قال أراه عن عامر الشعبي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: الأرواح موقوفة عند الرحمن عز وجل تنتظر موعده حتى ينفخ فيها. و ذكر سفيان بن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه أنه دخل ابن عمر المسجد بعد قتل ابن الزبير وهو مصلوب فأتى أسماء يعزيها فقال لها: عليك بتقوى اللّه والصبر فإن هذه الجثث ليست بشي ء، وإنما الأرواح عند اللّه، فقالت: و ما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. و ذكر جرير عن الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال: كنا جلوسا إلى كعب والربيع بن خيثم وخالد بن عرعرة في أناس، فجاء ابن عباس فقال: هذا ابن عم نبيكم، قال: فأوسع له فجلس، فقال: يا كعب كل ما في القرآن قد عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن: ما سجين؟ وما عليون؟ وما سدرة المنتهى؟ وما قول اللّه لإدريس ﴿وَرَفَعۡنَـٰهُ مَكَانًا عَلِيًّا ٥٧﴾ [مريم:57]؟ قال: أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين، وأما سجين فالأرض السابعة السفلى وأرواح الكفار تحت جسد إبليس، وأما قول اللّه سبحانه لإدريس ورَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا فأوحى اللّه إليه إني رافع لك كل يوم مثل أعمال بني آدم وكلم صديقا له من الملائكة أن يكلم له ملك الموت فأؤخره حتى يزداد عملا، فحمله بين جناحيه فعرج به حتى إذا كان في السماء الرابعة لقيه ملك الموت فكلمه في حاجته فقال: وأين هو؟ قال: هو ذا بين جناحي، قال: فالعجب أني أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة فقبض روحه. وأما سدرة المنتهى فإنها سدرة على رؤوس حملة العرش ينتهي إليها علم الخلائق ثم ليس لأحد وراءها علم فلذلك سميت سدرة المنتهى. (قال) ابن منده: ورواه وهب بن جرير عن أبيه، ورواه يعقوب القمي عن شمر، ورواه خالد بن عبد اللّه عن العوام بن حوشب عن القاسم بن عوف عن الربيع بن خيثم قال: كنا جلوسا عند كعب فذكره. و ذكر يعلى بن عبيد عن الأجلح عن الضحاك قال: إذا قبض روح العبد المؤمن عرج به إلى السماء الدنيا فينطلق معه المقربون إلى السماء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة حتى ينتهي إلى سدرة المنتهى، قلت للضحاك: لم سميت سدرة المنتهى [قال: لأنه ينتهي] 1 إليها كل شي ء من أمر اللّه عز وجل لا يعدوها، فيقول ربي! عبدك فلان، وهو أعلم به منهم، فيبعث اللّه إليك بصك مختوم يؤمنه من العذاب، وذلك قوله تعالى ﴿كَلَّاۤ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِی عِلِّيِّينَ ١٨ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّيُّونَ ١٩ كِتَـٰب مَّرۡقُوم ٢٠ يَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ ٢١﴾ [المطففين:18–21] وهذا القول لا ينافي قول من قال: هم في الجنة، فإن الجنة عند سدرة المنتهى، والجنة عند اللّه، وكأن قائله رأى أن هذه العبارة أسلم وأوفق، وقد أخبر اللّه سبحانه أن أرواح الشهداء عنده، وأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنها تسرح في الجنة حيث شاءت. هامش نقص في المطبوع، وزيدت لوضوح العبارة، والأرجح أنها ساقطة. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ================ و أما قول من قال: إن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار بحضرموت ببرهوت، فقال أبو محمد بن حزم: هذا من قول الرافضة، وليس كما قال، بل قد قاله جماعة من أهل السنّة. (قال) أبو عبد اللّه بن منده، وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين بالجابية ثم قال: أخبرنا محمد بن محمد بن يونس حدثنا أحمد بن عاصم، حدثنا أبو داود سليمان بن داود، حدثنا همام، حدثني قتادة، حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية وإن أرواح الكفار تجتمع في سبخة بحضرموت يقال لها برهوت. ثم ساق من طريق حماد بن سلمة عن عبد الجليل بن عطية عن شهر بن حوشب أن كعبا رأى عبد اللّه بن عمرو وقد تكلب الناس عليه يسألونه فقال لرجل: سله أين أرواح المؤمنين وأرواح الكفار؟ فسأله، فقال: أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت. (قال) ابن منده: ورواه أبو داود وغيره عن عبد الجليل ثم ساق من حديث سفيان عن فرات القزاز عن أبي الطفيل عن علي قال: خير بئر في الأرض زمزم، وشر بئر في الأرض برهوت في حضرموت، وخير واد في الأرض واد مكة والوادي الذي أهبط فيه آدم بالهند منه طيبكم، وشر واد في الأرض الأحقاف وهو في حضرموت ترده أرواح الكفار. قال ابن منده: روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس عن علي: أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له: برهوت، فيه أرواح الكفار وفيه ماؤها بالنهار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام. ثم ساق من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا علي بن عبد اللّه حدثنا سفيان عن إبان بن تغلب قال: قال رجل بت فيه. يعني وادي برهوت. فكأنما حشرت فيه أصوات الناس وهم يقولون: يا دومة يا دومة؟ قال إبان: فحدثنا رجل من أهل الكتاب أن دومة هو الملك الذي على أرواح الكفار وقال سفيان: و سألنا الحضرميين فقالوا: لا يستطيع أحد أن يبيت فيه بالليل. فهذا جملة ما علمته في هذا القول، فإن أراد عبد اللّه بن عمرو بالجابية التمثيل والتشبيه وأنها تجمع في مكان فسيح يشبه الجابية لسعته وطيب هوائه فهذا قريب، وإن أراد نفس الجابية دون سائر الأرض فهذا لا يعلم إلا بالتوقيت ولعله مما تلقاه عن بعض أهل الكتاب. هامش المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ججج=================================== و أما قول من قال: إنها تجتمع في الأرض التي قال اللّه فيها: ﴿وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ يَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ ١٠٥﴾ [الأنبياء:105] فهذا إن كان قاله [في] 1 تفسير الآية فليس هو تفسيرا لها. و قد اختلف الناس في الأرض المذكورة هنا فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هي أرض الجنة وهذا قول أكثر المفسرين. وعن ابن عباس قول آخر أنها الدنيا التي فتحها اللّه على أمة محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وهذا القول هو الصحيح. نظيره قوله تعالى في سورة النور: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [النور:55] وفي الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «زويت 2 لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» 3. و قالت طائفة من المفسرين: المراد بذلك أرض بيت المقدس وهي من الأرض التي أورثها اللّه عباده الصالحين وليست الآية مختصة بها. هامش ساقطة من المطبوع. أي جمعت وقبضت. أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ================ و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة فهذا قول قد قاله جماعة من السلف والخلف، ويدل قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى». و قد تقدم حديث أبي هريرة أن الميت إذا خرجت روحه عرج بها إلى السماء حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة التي فيها عز وجل، وتقدم قول أبي موسى: إنها تصعد حتى تنتهي إلى العرش وقول حذيفة أنها موقوفة عند الرحمن، وقول عبد اللّه بن عمر أن هذه الأرواح عند اللّه، وتقدم قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إن أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل تحت العرش، وتقدم حديث البراء بن عازب: أنها تصعد من سماء إلى سماء ويشيعها من كل سماء مقربوها حتى تنتهي بها إلى السماء السابعة، وفي لفظ: إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل. و لكن هذا لا يدل على استقرارها هناك، بل يصعد بها هنالك للعرض على ربها، فيقضي أمره ويكتب كتابه من أهل عليين، أو من أهل سجين، ثم تعود إلى القبر للمسألة، ثم ترجع إلى مقرها التي أودعت فيه، فأرواح المؤمنين في عليين بحسب منازلهم وأرواح الكفار في سجين بحسب منازلهم. هامش المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ===================== و أما قول من قال: إن أرواح المؤمنين تجتمع ببئر زمزم، فلا دليل على هذا القول من كتاب ولا سنّة يجب التسليم لها، ولا قول صاحب يوثق به، وليس بصحيح، فإن تلك بئر لا تسع أرواح المؤمنين جميعهم، وهو مخالف لما ثبتت به السنة الصريحة من أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة. و بالجملة: فهذا من أبطل الأقوال وأفسدها وهو أفسد من قول من قال أنها بالجابية فإن ذلك مكان متسع فضاء بخلاف البئر الضيقة. هامش المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت فهذا مروي عن سليمان الفارسي، والبرزخ هو الحاجز بين شيئين، وكأن سلمان أراد في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت. و هذا قول قوي، فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة، بل هي في برزخ بينهما، فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح والريحان والنعم، وأرواح الكفار في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون:100]، فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة وأصله الحاجز بين الشيئين. هامش المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ و أما قول من قال إن أرواح المؤمنين عن يمين آدم وأرواح الكفار عن يساره فلعمر اللّه لقد قال قولا يؤيده الحديث الصحيح، وهو حديث الإسراء، فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم رآهم كذلك، ولكن لا يدل ذلك على تعادلهم في اليمين والشمال، بل يكون هؤلاء عن يمينه في العلو والسعة، وهؤلاء عن يساره في السفل والسجن. و قد قال أبو محمد بن حزم: إن ذلك البرزخ الذي رآه فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة أسري به عند سماء الدنيا قال: وذلك عند منقطع العناصر، قال: وهذا يدل على أنها عنده تحت السماء حتى تنقطع العناصر وهي الماء والتراب والنار والهواء. و هو دائما يشنع على من قال قولا لا دليل عليه، فأي دليل له على هذا القول من كتاب وسنّة؟ وسيأتي إشباع الكلام على قوله إذ انتهينا إليه إن شاء اللّه تعالى. فإن قيل: فإذا كانت أرواح أهل السعادة عن يمين آدم، وآدم في السماء الدنيا، وقد ثبت أن أرواح الشهداء في ظل العرش، والعرش فوق السماء السابعة، فكيف تكون عن يمينه، وكيف يراها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم هناك في السماء الدنيا؟ فالجواب من وجوه. أحدهما: أنه لا يمتنع كونها عن يمينه في جهة العلو كما كانت أرواح الأشقياء عن يساره في جهة السفلى. الثاني: أنه غير ممتنع أن تعرض على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في سماء الدنيا وإن مستقرها فوق ذلك. الثالث: أنه لم يخبر أنه رأى أرواح السعداء جميعا هناك بل قال: فإذا عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، ومعلوم قطعا أن روح إبراهيم وموسى فوق ذلك في السماء السادسة والسابعة، وكذلك الرفيق إلا على أرواحهم فوق ذلك وأرواح السعداء بعضها أعلى من بعض بحسب منازلهم، كما أن أرواح الأشقياء بعضها أسفل من بعض منازلهم. واللّه أعلم. هامش المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ و أما قول أبي محمد حزم إن مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها فهذا بناء منه على مذهبه الذي اختاره وهو أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد وهذا فيه قولان للناس، وجمهورهم على أن الأرواح خلقت بعد الأجساد والذين قالوا إنها خلقت قبل الأجساد ليس معهم على ذلك دليل من كتاب ولا سنّة ولا إجماع إلا ما فهموه من نصوص لا تدل على ذلك أو أحاديث لا تصح كما احتج به أبو محمد بن حزم من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾ [الأعراف:172] الآية وبقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [الأعراف:11]، قال فصح أن اللّه خلق الأرواح جملة وهي الأنفس، وكذلك أخبر عليه السلام: «إن الأرواح جنوده مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»، قال وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها وهي مخلوقة مصورة عاقلة قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، وقبل أن يدخلها في الأجساد يومئذ تراب. وقال: لأن اللّه تعالى خلق ذلك بلفظة ثم التي توجب التعقيب والمهلة ثم أقرها سبحانه وتعالى حيث شاء وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت. و سنذكر ما في هذا الاستدلال عند جواب سؤال السائل عن الأرواح [هل] 1 هي مخلوقة مع الأبدان أم قبلها؟ إذ الغرض هنا الكلام على مستقر الأرواح بعد الموت، وقوله أنها تستقر في البرزخ الذي كانت فيه قبل خلق الأجساد مبني على هذا الاعتقاد الذي اعتقده، وقوله: إن أرواح السعداء عن يمين آدم، وأرواح الكفار الأشقياء عن يساره حق، كما أخبر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقوله أن ذلك منقطع العناصر، لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، ولا يشبه أقوال أهل الإسلام، والأحاديث الصحيحة تدل على أن الأرواح فوق العناصر في الجنة عند اللّه، وأدلة القرآن تدل على ذلك، وقد وافق أبو محمد على أن أرواح الشهداء في الجنة، ومعلوم أن الصديقين أفضل منهم، فكيف تكون روح أبي بكر الصديق وعبد اللّه بن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان وأشباههم رضي اللّه عنهم عند منقطع العناصر، وذلك تحت هذا الفلك الأدنى وتحت سماء الدنيا، وتكون أرواح شهداء زماننا وغيرهم فوق العناصر وفوق السموات. و أما قوله: قد ذكر محمد بن نصر المروزي عن إسحاق بن راهويه أنه ذكر هذا الذي قلنا بعينه، قال: وعلى هذا جميع أهل العلم وهو قول جميع أهل الإسلام. (قلت) محمد بن نصر المروزي ذكر في كتاب الرد على ابن قتيبة في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف:172]. الآثار التي ذكرها السلف من استخراج ذرية آدم من صلبه، ثم أخذ الميثاق عليهم وردهم في صلبه وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه أخرجهم مثل الذر وأنه سبحانه قسمهم إذ ذاك إلى شقي وسعيد وكتب آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وما يصيبهم من خير وشر، ثم قال: قال إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد استنطقهم ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:172] ﴿وْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ﴾ [الأعراف:173]، هذا نص كلامه وهو ما ترى لا يدل على أن مستقر الأرواح أبو محمد حيث تنقطع العناصر بوجه من الوجوه بل ولا يدل على أن الأرواح كائنة قبل خلق الأجساد، بل إنما يدل على أنه سبحانه أخرجها حينئذ فخاطبها، ثم ردها إلى صلب آدم، وهذا القول وإن كان قد قاله من السلف والخلف فالقول الصحيح غيره كما ستقف عليه إن شاء اللّه، إذ ليس الغرض في جواب هذه المسألة الكلام في الأرواح، هل هي مخلوقة قبل الأجساد أم لا، حتى لو سلم لأبي محمد هذا كله لم يكن فيه دليل على أن مستقرها حيث تنقطع العناصر ولا أن ذلك الموضع كان مستقرها أولا. هامش زيدت على المطبوع. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ===================== و أما قول من قال مستقرها العدم المحض. فهذا قول من قال إنها عرض من أعراض البدن وهو الحياة، وهذا قول ابن الباقلاني ومن تبعه. وكذلك قال أبو الهذيل العلاف: النفس عرض من الأعراض ولم يعينه بأنه الحياة كما عينه ابن الباقلاني، ثم قال: هي عرضي كسائر أعراض الجسم. و هؤلاء عندهم أن الجسم إذا مات عدمت روحه كما تقدم وسائر أعراضه المشروطة بالحياة، ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر الأشعرية 1 فمن قولهم أن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار ساعة من الزمان فما دونها فإذا مات فلا روح تصعد إلى السماء وتعود إلى القبر وتقبضها الملائكة ويستفتحون لها أبواب السموات ولا تنعم ولا تعذب وإنما ينعم ويعذب الجسد. وإذا شاء اللّه تنعيمه وتعذيبه رد إليه الحياة في وقت يريد نعيمه أو عذابه وإلا فلا أرواح هناك قائمة بنفسها البتة. و قال بعض أرباب هذا القول ترد الحياة إلى عجب الذنب 2، فهو الذي يعذب وينعم حسب. و هذا قول يرده الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلة العقول والفطن والفطرة، وهو قول من لم نعرف روحه فضلا عن روح غيره، وقد خاطب اللّه سبحانه النفس بالرجوع والدخول والخروج دلت النصوص الصحيحة الصريحة على أنها تصعد وتنزل وتقبض وتمسك وترسل وتستفتح لها أبواب السماء وتسجد وتتكلم، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة، وتكفن وتحنط في أكفان الجنة والنار، وأن ملك الموت يأخذها بيده ثم تتناولها الملائكة من يده، ويشم لها كأطيب نفخة مسك أو أنتن جيفة، وتشيع من سماء إلى سماء، ثم تعاد إلى الأرض مع الملائكة، وأنها إذا خرجت تبعها البصر بحيث يراها وهي خارجة. ودل القرآن على أنها تنتقل من مكان إلى مكان حتى تبلغ الحلقوم في حركتها، وجمع ما ذكرنا من جمع الأدلة الدالة على تلاقي الأرواح وتعارفها وأنها جنود مجندة إلى غير ذلك تبطل هذا القول، وقد شاهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم الأرواح ليلة الإسراء عن يمين آدم وشماله، وأخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجرة الجنة، وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر، وأخبر تعالى عن أرواح آل فرعون أنها تعرض على النار غدوا وعشيا. و لما أورد ذلك على ابن الباقلاني لج في الجواب وقال: يخرج على هذا أحد وجهين: إما بأن يوضع عرض من الحياة في أول جزء من أجزاء الجسم، وإما أن يخلق لتلك الحياة والنعيم والعذاب جسد آخر. و هذا قول في غاية الفساد من وجوه كثيرة، وأي قول أفسد من قول من يجعل روح الإنسان عرضا من الأعراض تتبدل كل ساعة ألوفا من المرات، فإذا فارقه هذا العرض لم يكن بعد المفارقة روح تنعم ولا تعذب، ولا تصعد ولا تنزل، ولا تمسك ولا ترسل، فهذا قول مخالف للعقل ونصوص الكتاب والسنّة والفطرة، وهو قول من لم يعرف نفسه، وسيأتي ذكر الوجوه الدالّة على بطلان هذا القول في موضعه من هذا الجواب إن شاء اللّه. وهو قول لم يقل به أحد من سلف الأمة ولا من الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام. هامش من ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، وقد ظهر مذهبه في البصرة، ويعتبر الأشاعرة والماتريدية أصحاب مذهب واحد لأن كلا من المذهبين يكمل الآخر في منهجه وفكره. وتتلخص آراء الأشاعرة بالتالي: أ- الأخذ بظواهر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في أمور التوحيد، ووصف اللّه عز وجل بما وصف به نفسه في القرآن الكريم وبما ورد على لسان نبيه محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم. ب- أن أفعال العبد مخلوقة، والعبد لا يقدر على خلق أي شي ء منها. ج- أن سعداء الناس يرون ربهم يوم القيامة ولكن من غير حلول ولا حدود. د- أن القرآن الكريم كلام اللّه غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع. ه- القبيح هو المنهي عنه شرعا، والحسن هو الذي لم ير فيه نهي من الشارع. و- أن مرتكب الكبيرة يعود أمره إلى اللّه عز وجل فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة وإن شاء عذبه وعاقبه ثم يدخله الجنة. ز- أن صفات اللّه عز وجل قديمة وزائدة على ذاته. أي أصل الذنب وهو العصعص في الإنسان. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ ========== و أما قول من قال إن مستقرها بعد الموت أبدان أخر غير هذه الأبدان وهذا القول فيه حق وباطل. فأما الحق: فما أخبر الصادق المصدوق صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الشهداء أنها في حواصل طير خضر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش هي كالأوكار للطائر، وقد صرح بذلك في قوله: «جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر». و أما قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» يحتمل أن يكون هذا الطائر مركبا للروح كالبدن لها، ويكون ذلك لبعض المؤمنين والشهداء، ويحتمل أن تكون الروح في صورة طائر، وهذا اختيار أبي محمد بن حزم وأبي عمر بن عبد البر، وقد تقدم كلام أبي عمر والكلام عليه، وأما ابن حزم فإنه قال معنى قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق» وهو على ظاهرة لا على ظن أهل الجهل، وإنما أخبر صلى اللّه عليه وآله وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق بمعنى أنها تطير في الجنة لا أنها تمسخ في صورة الطير. قال: فإن قيل إن النسمة مؤنثة. قلنا: قد صح عن عربي فصيح أنه قال: أتتك كتاب فاستخففت بها، فقيل له: أ تؤنث الكتاب؟ قال: أ وليس صحيفة، وكذلك النسمة تذكر كذلك؟ قال: وأما الزيادة التي فيها أنها في حواصل طير خضر فإنها صفة تلك القناديل التي تأوي إليها، والحديثان معا حديث واحد. وهذا الذي قاله في غاية الفساد لفظا ومعنى، فإن حديث نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة غير حديث أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، والذي ذكره محتمل في الحديث الأول، وأما الحديث الثاني فلا يحتمله بوجه، فإنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أخبر أن أرواحهم في حواصل طير، وفي لفظ أجواف طير خضر. وفي لفظ بيض، وإن تلك الطير تسرح في الجنة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش هي لها كالأوكار للطائر، وقوله أن حواصل تلك الطير هي صفة القناديل التي تأوي إليها خطأ قطعا، بل تلك القناديل مأوى لتلك الطير، فها هنا ثلاثة أمور صرح بها الحديث: أرواح وطير هي في أجوافها، وقناديل هي مأوى لتلك الطير، والقناديل مستقرة تحت العرش لا تسرح، والطير تسرح وتذهب وتجيء والأرواح في أجوافها. فإن قيل: يحتمل أن تجعل نفسها في صورة طير أنها تركب في بدن طير كما قال تعالى:﴿فِیۤ أَیِّ صُورَة مَّا شَاۤءَ رَكَّبَكَ ٨﴾ [الانفطار:8] ويدل عليه قوله في اللفظ الآخر أرواحهم كطير خضر كذلك رواه ابن أبي شيبة 1 حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد اللّه بن مرة عن مسروق عن عبد اللّه. قال أبو عمرو الذي يشبه عندي واللّه أعلم أن يكون القول قول من قال كطير أو صورة طير لمطابقته لحديثنا المذكور. يعني حديث كعب بن مالك في نسمة المؤمن. فالجواب: إن هذا الحديث قد روي بهذين اللفظين والذي رواه مسلم في الصحيح من حديث الأعمش عن مسروق، فلم يختلف حديثهما أنها في أجواف طير خضر. و أما حديث ابن عباس: فقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد اللّه ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم- يعني يوم أحد- جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مدلاة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يتكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد؟ فقال اللّه تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل اللّه تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩﴾ [آل عمران:169]» 2. و أما حديث كعب بن مالك: فهو في السنن الأربعة ومسند أحمد ولفظه للترمذي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح 3. ولا محذور في هذا، ولا يبطل قاعدة من قواعد الشرع، ولا يخالف نصا من كتاب ولا سنّة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، بل هذا من إتمام إكرام اللّه للشهداء أن أعاضهم من أبدانهم التي مزقوها للّه أبدانا خيرا منها تكون مركبا لأرواحهم ليحصل بها كمال تنعمهم، فإذا كان يوم القيامة رد أرواحهم إلى تلك الأبدان التي كانت في الدنيا. فإن قيل: فهذا هو القول بالناسخ وحلول الأرواح في أبدان غير أبدانها التي كانت فيها. قيل: هذا المعنى الذي دلت عليه السنّة الصريحة حق يجب اعتقاده ولا يبطله تسمية المسمى له تناسخا، كما أن إثبات ما دل عليه العقل والنقل من صفات اللّه عز وجل حقائق أسمائه الحسنى حق، لا يبطله تسمية المعطلين له تركيبا وتجسيما، وكذلك ما دل عليه العقل والنقل من إثبات أفعاله وكلامه بمشيئته، ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، ومجيئه يوم القيامة للفصل بين عباده، حق لا يبطله تسمية المعطلين له حلول حوادث، كما أن ما دل عليه العقل والنقل علو اللّه على خلقه ومباينته لهم واستوائه على عرشه وعروج الملائكة والروح إليه ونزولها من عنده وصعود الكلم الطيب إليه وعروج رسوله إليه ودنوه منه حتى صار قاب قوسين أو أدنى وغير ذلك من الأدلة حق لا يبطله تسمية الجهمية له حيزا وجهة وتجسيما. قال الإمام أحمد: «لا نزيل عن اللّه صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين» قال: هذا شأن أهل البدع، يلقبون أهل السنّة وأقوالها بالألقاب التي ينفرون منها الجهال ويسمونها حشوا وتركيبا وتجسيما، ويسمون عرش الرب تبارك وتعالى حيزا وجهة، ليتوصلوا بذلك إلى نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه، كما تسمى الرافضة موالاة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كلهم ومحبتهم والدعاء لهم نصبا، وكما تسمى القدرية 4 المجوسية إثبات القدر جبرا، فليس الشأن في الألقاب، وإنما الشأن في الحقائق، والمقصود أن تسمية ما دلت عليه [الأحاديث] 5 الصريحة في جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تناسخا لا يبطل هذا المعنى، وإنما التناسخ الباطل ما تقوله أعداء الرسل من الملاحدة وغيرهم الذين ينكرون المعاد، وأن الأرواح تصير بعد مفارقة الأبدان إلى أجناس الحيوان والحشرات والطيور التي تناسبها وتشاكلها، فإذا فارقت هذه الأبدان انتقلت إلى أبدان تلك الحيوانات، فتنعم فيها أو تعذب، ثم تفارقها وتحل في أبدان أخر تناسب أعمالها وأخلاقها. و هكذا أبدا، فهذا معادها عندهم ونعيمها وعذابها، لا معاد لها عندهم غير ذلك، فهذا هو التناسخ الباطل المخالف لما اتفقت عليه الرسل والأنبياء من أولهم إلى آخرهم، وهو كفر باللّه واليوم الآخر. و هذه الطائفة يقولون: أن مستقر الأرواح بعد المفارقة [إلى] 6 أبدان الحيوانات التي تناسبها. وهو أبطل قول وأخبثه، ويليه قول من قال: إن الأرواح تعدم جملة الموت، ولا تبقى هناك روح تنعم ولا تعذب، بل النعيم والعذاب يقع على أجزاء الجسد أو جزء منه إما عجب أو غيره، فيخلق اللّه فيه الألم واللذة، إما بواسطة رد الحياة إليه كما قاله بعض أرباب هذا القول، أو بدون رد الحياة كما قاله آخرون منهم، فهؤلاء عندهم: لا عذاب في البرزخ إلا على الأجساد، ومقابلهم من يقول: إن الروح لا تعاد إلى الجسد بوجه ولا تتصل به، والعذاب والنعيم على الروح فقط، والسنّة الصريحة المتواترة ترد قول هؤلاء وهؤلاء، وتبين أن العذاب على الروح والجسد مجتمعين ومنفردين. فإن قيل: فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقر الأرواح ومأخذهم فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده؟ قيل: الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت. فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهي أرواح الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ليلة الإسراء. و منها: أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره كما في المسند عن محمد بن عبد اللّه بن جحش أن رجلا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللّه ما لي إن قتلت في سبيل اللّه؟ قال: «الجنة» فلما ولى قال: «إلا الذي سارني به جبريل آنفا». ومنهم من يكون محبوسا على باب الجنة كما في الحديث الآخر: «رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة». و منهم: من يكون محبوسا في قبره، كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «و الذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتشتعل عليه نارا في قبره». و منهم: من يكون مقره باب الجنة كما في حديث ابن عباس: «الشهداء على بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية». رواه أحمد. و هذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله اللّه من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء 7. و منهم: من يكون محبوسا في الأرض لم تعل روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحا سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية كما تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه، بل هي أرضية سفلية، لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة اللّه وذكره والتقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، واللّه تعالى يزوج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد كما تقدم في الحديث، ويجعل روحه يعني المؤمن مع النسيم الطيب أي الأرواح الطيبة المشاكلة فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانهم وأصحاب عملها فتكون معهم هناك. و منها: أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقهم الحجارة، فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض. و أنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك، ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضا فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها وأن لها شأنا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء وتنفعل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شي ء حركة وانتقالا وصعودا وهبوطا وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، [فهنالك] 8 الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد في بطن أمه وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار. فلهذه الأنفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها: الدار الأولى: في بطن الأم وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث. و الدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها واكتسبت فيها الخبر والشر وأسباب السعادة والشقاوة. و الدار الثالثة: دار البرزخ وهي أوسع من هذه الدار وأعظم بل نسبتها إليه كنسبة هذه الدار إلى الأولى. و الدار الرابعة: دار القرار وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها، واللّه ينقلها في هذه الدار طبقا بعد طبق حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها وهيئت للعمل الموصل إليها، ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى، فتبارك اللّه فاطرها ومنشئها ومميتها ومحييها ومسعدها ومشقيها الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها وقواها وأخلاقها. فمن عرفها كما ينبغي شهد أن لا إله إلا اللّه وحده ولا شريك له له الملك كله وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، وله القوة كلها، والقدرة كلها، والعز كله، والحكمة كلها، والكمال المطلق من جميع الوجوه وعرف بمعرفة نفسه صدق أنبيائه ورسله وأن الذي جاؤوا به هو الحق الذي تشهد به العقول وتقر به الفطر وما خالفه فهو الباطل وباللّه التوفيق. هامش هو أبو بكر عبد اللّه بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي صاحب المصنف المشهور في الحديث النبوي الشريف، ولد في منتصف القرن الثاني للهجرة وتوفي سنة 235 ه، ذكر البخاري أن وفاته كانت في المحرم. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب الجهاد باب ما ذكر في فضل الجهاد والحث عليه بلفظ: حدثنا ابن فضيل عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن ابن عباس (زاد فيه: ابن إدريس) عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهارها وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت، فلما رأوا حسن مقيلهم ومطعمهم ومشربهم قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما صنع اللّه لنا كي يرغبوا في الجهاد ولا يتكلوا عنه، فقال اللّه تعالى: فإني مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا واستبشروا بذلك، فذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِی سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ ١٦٩﴾ [آل عمران:169] إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:171]. أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب ما جاء في ثواب الشهداء (4/ 151) برقم 1641. تنسب القدرية إلى معبد بن خالد الجهني وتلميذه غيلان الدمشقي، وتتلخص أقوالهم بالتالي: أ- القدر رديف الاختيار. ب- نفي الصفات الثبوتية. ج- خلق القرآن. د- الإيمان قول وعمل وليس العمل شرطا في الإيمان. ه- الإمامة تصح لغير القرشي (و هو قول الخوارج) فاعتبروا أنها تصح لكل من آمن بالكتاب والسنّة إذا أجمع المسلمون على إمامته. و رأى بعض الباحثين أن معبد بن خالد الجهني أستاذ غيلان لم يأخذ أفكاره من القرآن أو من أقوال السلف أو حتى من نفسه بل أخذها من رجل نصراني من أهل العراق يدعى أبا يونس سستويه الأسواري، ومنهم من قال أن معبد قد أخذ آراءه عن أبان بن سمعان اليهودي، وأن أبان أخذ آراءه عن طالوت بن أعصم اليهودي. ساقطة من المطبوع، والصواب ما أثبتناه. ساقطة من المطبوع. استشهد جعفر بن أبي طالب مع موقعة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، فقد أخرج الترمذي في كتاب المناقب باب مناقب جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه (5/ 612) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «رأيت جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة». و أخرج الترمذي أيضا عن البراء بن عازب أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لجعفر بن أبي طالب «أشبهت خلقي وخلقي» وفي الحديث قصة. وردت في المطبوع: فهناك لك. المسألة الخامسة عشرة مستقر الأرواح | فصل مكان الروح | فصل أرواح الشهداء | فصل هل الأرواح على أفنية القبور | فصل الرؤيا | فصل هل الأرواح في السماء | فصل مكان الأرواح | فصل هل تجتمع الروح في الأرض | فصل هل الأرواح في عليين | فصل الرد على من قال أن الأرواح في بئر زمزم | فصل هل الأرواح في البرزخ | فصل الرد على من قال أنها على جانبي آدم | فصل من قال أنها تعود إلى مكانها الذي كانت فيه قبل أن تخلق | فصل الرد على من قال أن مستقر الروح العدم المحض | فصل التناسخ الروح المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون =========== الروح/المسألة السادسة عشرة و هي: هل تنتفع أرواح الموتى بشي ء من سعي الأحياء أم لا؟ فالجواب: أنها تنتفع من سعي الأحياء بأمرين تجمع عليهما بين أهل السنّة من الفقهاء وأهل الحديث والتفسير. أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته. و الثاني: دعاء المسلمين له واستغفارهم له والصدقة والحج على نزاع: ما الذي يصل من ثوابه هل ثواب الإنفاق أو ثواب العمل؟ فعند الجمهور: يصل ثواب العمل نفسه، وعند بعض الحنفية إنما يصل ثواب الإنفاق. و اختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر، فمذهب الإمام أحمد وجمهور السلف: وصولها، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة نص على هذا الإمام أحمد في رواية محمد بن يحيى الكحال قال: قيل لأبي عبد اللّه: الرجل يعمل الشي ء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه؟ قال: أرجو- أو قال- الميت يصل إليه كل شي ء من صدقة أو غيرها، وقال أيضا: اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات، وقل هو اللّه أحد، وقل اللهم، إن فضله لأهل المقابر. والمشهور من مذهب الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل. و ذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنه لا يصل إلى الميت شي ء البتة لا دعاء ولا غيره. فالدليل على انتفاعه بما تسبب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عليه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدل على أنها منه فإنه هو الذي تسبب إليها. و في سنن ابن ماجه: من حديث أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أكراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته». و في صحيح مسلم: أيضا من حديث جرير بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شي ء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعد من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء». وهذا المعنى روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم من عدة وجوه صحاح وحسان. و في المسند: عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فأمسك القوم، ثم إن رجلا أعطاه فأعطى القوم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «من سنّ خيرا فاستنّ به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ شرا فاستنّ به كان عليه وزره من أوزار من تبعه غير منتقض من أوزارهم شيئا». و قد دل على هذا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها»، لأنه أول من سنّ القتل فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأخرى. هامش المسألة السادسة عشرة انتفاع أرواح الموتى بعمل الغير | فصل الدليل على انتفاع روح الميت | فصل وصول ثواب الصدقة | فصل وصول ثواب الصوم | فصل وصول ثواب الحج | فصل نفي عقوبة العبد بعمل غيره | فصل الرد على الاستدلال بانقطاع العمل | فصل الرد على أن الإهداء حوالة | فصل الرد على من قال أن الإيثار مكروه | فصل الرد على أنه لو ساغ الإهداء للميت لجاز للحي | فصل هل يسوغ إهداء نصف الثواب أو ربعه | فصل الرد على جواز إهداء ثواب الواجبات | فصل الرد على القول أن التكاليف امتحان وابتلاء | فصل الرد على القول بأنه لو نفعه العمل لنفعته التوبة | فصل الرد على القول بأن العبادات نوعان | فصل من مات وعليه صيام | فصل قول ابن عباس في حديث الصوم | فصل الزعم أن الحديث اختلف في إسناده | فصل جواز القضاء عن الميت | فصل أقوال أهل العلم في الصوم عن الميت | فصل الرد على القول بأن ثواب النفقة بالحج يصل فقط | فصل التلفظ بإهداء العمل الروح المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون الروح/المسألة السابعة عشرة وهي هل الروح قديمة أو محدثة مخلوقة، وإذا كانت محدثة مخلوقة وهي من أمر اللّه فكيف يكون أمر اللّه محدثا مخلوقا؟ وقد أخبر سبحانه أنه نفخ في آدم من روحه فهذه الإضافة إليه هل تدل على أنها قديمة أم لا؟ وما حقيقة هذه الإضافة؟ فقد أخبر عن آدم أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه فأضاف اليد والروح إليه إضافة واحدة. فهذه مسألة زل فيها عالم، وضلت فيها طوائف من بني آدم. وهدى اللّه أتباع رسوله فيها للحق المبين والصواب المستبين، فأجمعت الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة. هذا معلوم بالاضطرار من دين الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم، كما يعلم بالاضطرار من دينهم أن العالم حادث، وأن معاد الأبدان واقع، وأن اللّه وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق له، وقد انطوى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الفضيلة على ذلك من غير اختلاف بينهم في حدوثها وأنها مخلوقة، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنّة فزعم أنها قديمة غير مخلوقة، واحتج بأنها من أمر اللّه، وأمره غير مخلوق، وبأن اللّه تعالى أضافها إليه كما أضاف إليه علمه وكتابه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون فقالوا: لا نقول مخلوقة ولا غير مخلوقة. و سئل عن ذلك حافظ أصبهان: أبو عبد اللّه بن منده فقال: أما بعد فإن سائلا سألني عن الروح التي جعلها اللّه سبحانه قوام نفس الخلق وأبدانهم وذكر أقواما تكلموا في الروح وزعموا أنها غير مخلوقة وخص بعضهم منها أرواح القدس وأنها من ذات اللّه، قال وأنا أذكر اختلاف أقاويل متقدميهم وأبين ما يخالف أقاويلهم من الكتاب والأثر وأوضح خطأ المتكلم في الروح بغير علم وأن كلامهم يوافق قول جهم وأصحابه. فنقول وباللّه التوفيق وإن الناس اختلفوا في معرفة الأرواح ومحلها من النفس. فقال بعضهم: الأرواح كلها مخلوقة، وهذا مذهب أهل الجماعة والأثر. و احتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». والجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة. وقال بعضهم: الأرواح من أمر اللّه، أخفى اللّه حقيقتها وعلمها عن الخلق واحتجوا بقول اللّه تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85]. وقال بعضهم: الأرواح نور من نور اللّه تعالى وحياة من حياته واحتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره» 1، ثم ذكر الخلاف في الأرواح هل تموت أم لا؟ وهل تعذب مع الأجساد في البرزخ وفي مستقرها بعد الموت؟ وهل هي النفس أو غيرها. وقال محمد بن نصر المروزي 2 في كتابه: تأول صنف من الزنادقة وصنف من الروافض في روح آدم ما تأولته النصارى في روح عيسى، وما تأوله قوم من أن الروح انفصل من ذات اللّه فصار في المؤمن فعبد صنف من النصارى عيسى ومريم جميعا، لأن عيسى عندهم روح من اللّه صار في مريم فهو غير مخلوق عندهم. وقال صنف من الزنادقة وصنف من الروافض: أن روح آدم مثل ذلك أنه غير مخلوق، وتأولوا قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر:29] وقوله تعالى:﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ [السجدة:9] فزعموا أن روح آدم ليس بمخلوق كما تأول من قال: إن النور من الرب غير مخلوق، قال: ثم صاروا بعد آدم في الوصي بعده، ثم هو في كل نبي ووصي إلى أن صار في علي ثم في الحسن والحسين، ثم في كل وصي وإمام فيه يعلم الإمام كل شي ء ولا يحتاج أن يتعلم من أحد. و لا خلاف بين المسلمين أن الأرواح التي في آدم وبنيه وعيسى ومن سواه من بني آدم كلها مخلوقة للّه، خلقها وأنشأها وكونها واخترعها ثم أضافها إلى نفسه كما أضاف إليه سائر خلقه قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية:13]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنّة. و قد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو من أعلم أهل زمانه بالإجماع و الاختلاف، وكذلك أبو محمد بن قتيبة قال في (كتاب اللفظ): لما تكلم على الروح قال النسم الأرواح. قال وأجمع الناس على أن اللّه تعالى هو خالق الحبة وبارئ النسمة أي خالق الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك اللّه عن الروح مخلوقة هي أو غير مخلوقة؟ قال: وهذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب أو الروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة، وصنف الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في ذلك كتابا كبيرا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره والشيخ أبو سعيد الخراز وأبو يعقوب النهر جوري والقاضي أبو يعلى. و قد نص على ذلك الأئمة الكبار واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، فكيف بروح غيره، كما ذكره الإمام أحمد فيما كتبه في مجلسه في الرد على الزنادقة والجهمية: ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال: أنا أجد آية في كتاب اللّه مما يدل على أن القرآن مخلوق قول اللّه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النساء:171] وعيسى مخلوق، قلنا له: إن اللّه تعالى منعك الفهم للقرآن، إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، لأنا نسميه مولودا وطفلا وصبيا وغلاما يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الخطاب والوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، فهل سمعتم اللّه يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو كن. ولكن كان يكن فكن من اللّه قول وليس كن مخلوقا، وكذبت النصارى والجهمية على اللّه في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: روح اللّه وكلمته إلا أن كلمته مخلوقة. و قالت النصارى: عيسى روح اللّه وكلمته من ذاته، كما يقال: هذه الخرقة من هذا الثوب، قلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما قول اللّه تعالى لكِنْ وقوله ورُوحٌ مِنْهُ يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ [الجاثية:13] يقول من أمره وتفسير روح اللّه إنما معناها بكلمة اللّه خلقا، كما يقال: عبد اللّه وسماء اللّه وأرض اللّه، فقد صرح بأن روح المسيح مخلوقة، فكيف بسائر الأرواح، وقد أضاف اللّه إليه الروح الذي أرسله إلى مريم، وهو عبده ورسوله، ولم يدل على ذلك أنه قديم مخلوق، فقال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ [مريم:17] ﴿قَالَتۡ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحۡمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّا ١٨ قَالَ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَـٰما زَكِيّا ١٩﴾ [مريم:18–19] فهذا الروح، هو روح اللّه وهو عبده ورسوله. و سنذكر إن شاء اللّه تعالى أقسام المضاف إلى اللّه وأين يكون المضاف صفة له قديمة وأين يكون مخلوقا وما ضابط ذلك. هامش هو الإمام أبو عبد اللّه محمد بن نصر المروزي، أحد الأعلام، كان رأسا في الفقه والحديث والعبارة، قال أبو إسحاق الشيرازي: كان من أعلم الناس بالاختلاف وصنف كتبا، وقال شيخه في الفقه محمد بن عبد اللّه بن عبد الحكم: كان محمد بن نصر عندنا إماما فكيف بخراسان؟ وقال غيره: لم يكن للشافعية في وقت مثله، سمع يحيى بن يحيى وشيبان بن فروخ وطبقتهما. توفي بسمرقند سنة أربع وتسعين ومائتين. المسألة السابعة عشرة هل الروح قديمة أم محدثة مخلوقة | فصل الأدلة على خلق الروح | فصل القرآن يدل على خلقه تعالى للأرواح | فصل الرد على الاستدلال بإضافتها إلى اللّه سبحانه وتعالى الروح المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون أخرجه الترمذي في كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة (5/ 26) برقم 2642 وتمامه: «فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم اللّه» قال الترمذي: حديث حسن. ================================= ======================================= 18. الروح/المسألة الثامنة عشرة فهذه المسألة للناس فيها قولان معروفان حكاهما شيخ الإسلام وغيره، وممن ذهب إلى تقدم خلقها محمد بن نصر المروزي وأبو محمد بن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعا. ونحن نذكر حجج الفريقين وما هو الأولى منها بالصواب. قال من ذهب إلى تقدم خلقها على خلق البدن: قال اللّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [الأعراف:11] قالوا ثم للترتيب والمهلة فقد تضمنت الآية أن خلقها مقدم على أمر اللّه للملائكة بالسجود لآدم. و من المعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك، فعلم أنها الأرواح. قالوا: ويدل عليه قوله سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ﴾ [الأعراف:172] قالوا: وهذا الاستنطاق والإشهاد إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، ففي الموطأ: حدثنا: مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عن عمر بن الخطاب سأل عن هذه الآية: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال: «خلق اللّه آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، وخلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون» فقال رجل: يا رسول اللّه ففيم العلم؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه إذا خلق الرجل للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار» 1. قال الحاكم: هذا حديث على شرط مسلم، وروى الحاكم أيضا من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: «لما خلق اللّه آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة أمثال الذر، ثم جعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا 2 من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلا منهم أعجبه وبيص ما بين عينيه؛ فقال: يا رب من هذا؟ فقال: هذا ابنك داود يكون في آخر الأمم، قال: كم جعلت له من العمر؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فقال اللّه تعالى: إذا يكتب ويختم فلا يبدل، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ فقال: أو لم تجعلها لابنك داود؟ قال: فجحد فجحد ذريته ونسي فنسيت ذريته وخطئ فخطئت ذريته- قال هذا على شرط مسلم. ورواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح 3. ورواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن أول من جحد آدم». وزاد محمد بن سعد: ثم أكمل اللّه لآدم ألف سنة ولداود مائة سنة. و في صحيح الحاكم أيضا من حديث أبي جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف:172] الآية قال جمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن إلى يوم القيامة فجعلهم أرواحا ثم صورهم واستنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:172] قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم: ﴿أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:172] فلا تشركوا بي شيئا فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي، فقالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك، ورفع لهم أبوهم آدم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة وغير ذلك، فقال رب لو سويت بين عبادك، فقال إني أحب أن أشكر، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج وخصوا بميثاق آخر بالرسالة والنبوة فذلك قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب:7] وهو قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم:30] وهو قوله تعالى: ﴿هَـٰذَا نَذِير مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلۡأُولَىٰۤ ٥٦﴾ [النجم:56] وقوله تعالى: ﴿وَمَا وَجَدۡنَا لِأَكۡثَرِهِم مِّنۡ عَهۡدۖ وَإِن وَجَدۡنَاۤ أَكۡثَرَهُمۡ لَفَـٰسِقِينَ ١٠٢﴾ [الأعراف:102] وكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخذ عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم حين انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فدخل من فيها. وهذا إسناد صحيح. فقال إسحاق بن راهويه: حدثنا بقية بن الوليد قال: أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد عن راشد بن سعد عن الرحمن بن أبي قتادة البصري عن أبيه عن هشام بن حكيم بن حزام أن رجلا قال: يا رسول اللّه أ نبدأ الأعمال أم قد مضى القضاء؟ فقال: «إن اللّه لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه، فقال: هؤلاء للجنة، وهؤلاء للنار، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار». قال إسحاق: وأنبأنا النضر، حدثنا أبو معشر عن سعيد المقبري ونافع مولى الزبير عن أبي هريرة قال: لما أراد اللّه أن يخلق آدم- فذكر خلق آدم- فقال له آدم: أي يدي أحب إليك أن أريك ذريتك فيها؟ فقال: يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين، فبسط يمينه فإذا فيها ذريته كلها ما هو خالق إلى يوم القيامة، الصحيح على هيئته، والمبتلي على هيئته، والأنبياء على هيئتهم، فقال ألا أعفيتهم كلهم؟ فقال: إني أحب أن أشكر». وذكر الحديث. و قال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا الليث بن سعد، حدثني ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن عبد اللّه بن سلام قال: «خلق اللّه آدم ثم قال بيديه فقبضهما، فقال: اختر يا آدم، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين، فبسطها فإذا فيها ذريته، فقال: من هؤلاء يا رب؟ قال: من قضيت أن أخلق من ذريتك من أهل الجنة إلى أن تقوم الساعة. قال: وأخبرنا إسحاق حدثنا جعفر بن عون، أنبأنا هشام بن سعد زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة. و حدثنا إسحاق وعمرو بن زرارة، أخبرنا إسماعيل عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الأعراف:172] الآية قال: مسح ربك ظهر آدم فخرجت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ ميثاقهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا﴾ [الأعراف:172]. و رواه أبو جمرة الضبعي ومجاهد وخبيب بن أبي ثابت وأبو صالح وغيرهم عن ابن عباس. و قال إسحاق أخبرنا جرير عن منصور عن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو في هذه الآية قال: أخذهم كما يؤخذ المشط بالرأس. و حدثنا حجاج عن ابن جريج عن الزبير بن موسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: إن اللّه ضرب منكبه الأيمن فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء نقية، فقال: هؤلاء أهل الجنة، ثم ضرب منكبه الأيسر فخرجت كل نفس مخلوقة للنار سوداء، فقال: هؤلاء أهل النار، ثم أخذ عهده على الإيمان به والمعرفة له ولأمره والتصديق وبأمره من بني آدم كلهم وأشهدهم على أنفسهم فآمنوا وصدقوا وعرفوا وأقروا. و ذكر محمد بن نصر من تفسير السدي عن ابن مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن أناس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قوله تعالى: وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ الآية لما أخرج اللّه آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ وكهيئة الذر فقال لهم: أدخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر، فقال: أدخلوا النار ولا أبالي 4، فذلك حيث يقول: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ [الواقعة:27] ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ [الواقعة:41] ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف:172] فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة ﴿شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:172] ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ﴾ [الأعراف:173] فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن اللّه ربه، ولا مشرك إلا وهو يقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ﴾ [الزخرف:22] فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ [الأعراف:172] وقوله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [آل عمران:83] وقوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام:149] قال: يعني يوم أخذ عليهم الميثاق. قال إسحاق: وأخبرنا روح بن عبادة حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في هذه الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ﴾ [الأعراف:172] الآية أقروا له بالإيمان والمعرفة الأرواح قبل أن يخلق أجسادها. قال: وحدثنا الفضل بن موسى عن عبد الملك عن عطاء في هذه الآية قال: أخرجوا من صلب آدم حين أخذ منهم الميثاق ثم ردوا في صلبه. قال إسحاق: وأخبرنا علي بن الأجلع عن الضحاك قال: إن اللّه أخرج من ظهر آدم يوم خلقه ما يكون إلى أن تقوم الساعة فأخرجهم مثل الذر فقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف:172] قالت الملائكة: ﴿شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:172] ثم قبض بيمينه فقال: هؤلاء في الجنة، وقبض أخرى فقال: هؤلاء في النار. قال إسحاق: وأخبرنا أبو عامر العقدي وأبو نعيم الملائي قال: حدثنا هشام ابن سعد عن يحيى وليس بابن سعيد قال: قلت لابن المسيب: ما تقول في العزل؟ قال: إن شئت حدثتك حديثا هو حق، إن اللّه سبحانه لما خلق آدم أراه كرامة لم يرها أحد من خلق اللّه، أراه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، فمن حدثك أن يزيد فيهم شيئا أو ينقص منهم فقد كذب ولو كان لي سبعون ما باليت. و في تفسير ابن عيينة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾ [آل عمران:83] قال: يوم أخذه الميثاق. قال إسحاق: فقد كانوا في ذلك الوقت مقرين وذلك أن اللّه عز وجل أخبر أنه قال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف:172] واللّه تعالى لا يخاطب إلا من يفهم عنه المخاطبة ولا يجيب إلا من فهم السؤال، فإجابتهم إياه بقولهم دليل على أنهم قد فهموا عن اللّه وعقلوا عنه استشهاده إياهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف:172] فأجابوه من بعد عقل منهم للمخاطبة وفهم لها بأن ﴿قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف:172] فأقروا له بالربوبية. هامش وفي معنى هذا قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث الذي روته السيدة عائشة قالت: أتي النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بصبي من الأنصار يصلي عليه، قالت: قلت: يا رسول اللّه، طوبى لهذا لم يعمل شرا ولم يدر به، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم: «أو غير ذلك يا عائشة، إن اللّه خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم». أخرجه أبو داود في كتاب السنّة باب في ذراري المشركين (5/ 86) برقم 4713. المسألة الثامنة عشرة وهي تقدم خلق الأرواح على الأجساد أو تأخر خلقها عنها | فصل الدليل على أن الأرواح خلقت بعد الأبدان | فصل معنى الآية: وإذا أخذ ربك ... | فصل الخلق ثم التصوير | فصل الدليل على أن خلق الأرواح متأخر عن خلق الأبدان الروح المقدمة | المسألة الأولى | المسألة الثانية | المسألة الثالثة | المسألة الرابعة | المسألة الخامسة | المسألة السادسة | المسألة السابعة | المسألة الثامنة | المسألة التاسعة | المسألة العاشرة | المسألة الحادية عشرة | المسألة الثانية عشرة | المسألة الثالثة عشرة | المسألة الرابعة عشرة | المسألة الخامسة عشرة | المسألة السادسة عشرة | المسألة السابعة عشرة | المسألة الثامنة عشرة | المسألة التاسعة عشرة | المسألة العشرون | المسألة الحادية والعشرون أخرجه الإمام مالك في الموطأ في باب النهي عن القول بالقدر (صفحة رقم 502) برقم 1618، والحديث بتمامه هو: عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِیۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَاۤۚ أَن تَقُولُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنۡ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ ١٧٢﴾ [الأعراف:172] فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يسأل عنها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» فقال رجل: يا رسول اللّه، ففيم العمل؟ قال: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله ربه الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله ربه النار». وبيص: البريق أو اللمعان. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن باب 8 من سورة الأعراف (5/ 249) برقم 3076. الروح/المسألة التاسعة عشرة و هي: ما حقيقة النفس: هل هي جزء من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ و هل الأمّارة واللوّامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات، أم هي ثلاث أنفس. فالجواب: إن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها من سائر الطوائف، واضطربت أقوالهم فيها وكثر فيها خطؤهم، وهدى اللّه أتباع الرسول وأهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فنذكر أقوال الناس وما لهم وما عليهم في تلك الأقوال، ونذكر الصواب بحمد اللّه وعونه: قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته: «اختلف الناس في الروح والحياة هل الروح هي الحياة أو غيرها؟ وهل الروح جسم أم لا؟ فقال النظام: الروح هي جسم وهي النفس، وزعم أن الروح حي بنفسه، وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي. وقال آخرون: الروح عرض. و قال قائلون منهم جعفر بن حرب: لا ندري الروح جوهر أو عرض، واعتلوا في ذلك بقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ [الإسراء:85] ولم يخبر عنها ما هي؟ لا أنها جوهر ولا عرض- قال:- وأظن جعفرا أثبت أن الحياة غير الروح وأثبت أن الحياة عرضا. و كان الجبائي 1 يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة، والحياة عرض، ويعتل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان، وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض. و قال قائلون: ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع، ولم يرجعوا عن قولهم إلا إلى المعتدل، ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. و قال قائلون: إن للروح مغنى خامس غير الطبائع الأربع، وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع واختلفوا في الروح فثبتها بعضهم طباعا وثبتها بعضهم اختيارا. و قال قائلون: الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وكذلك قالوا في القوة. و قال قائلون: الحياة هي الحرارة الغريزية، وكل هؤلاء الذين حكينا أقوالهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح. و كان الأصم لا يثبت للحياة والروح شيئا غير الجسد، ويقول: ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده، وكان يقول النفس هي هذا البدن بعينه لا غير، وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد بحقيقة الشي ء لا على أنها معنى غير البدن. و ذكر عن أرسطاطاليس 2: أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت النسق واللون وأنها جوهر بسيط مثبت في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير، وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة، قال وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير 3. و قال آخرون: بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض و العمق، وكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية (و هذا قول طائفة من الثنوية 4 يقال لهم المثانية). و قالت طائفة: إن النفس موصوفة بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى الحدود والنهايات، إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفا بصفة الحيوان (و هؤلاء الديصانية) 5 وحكى الحريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم لكنه معنى [بين] 6 الجوهر والجسم. و قال آخرون: النفس معنى غير الروح، والروح غير الحياة، والحياة عنده عرض (و هو أبو الهذيل)، وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر:42]. و قال جعفر بن حرب: النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم، وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما، وأنها غير موصوفة بشي ء من صفات الجواهر والأجسام، هذا ما حكاه الأشعري. و قالت طائفة: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس، قالوا: والروح عرض وهو الحياة فقط، وهو غير النفس، وهذا قول القاضي أبي بكر بن الباقلاني ومن أتبعه من الأشعرية. و قالت طائفة: ليست النفس جسما ولا عرضا، وليست النفس في مكان، ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض، ولا هي في العالم ولا خارجه، ولا بجانبه ولا مباينة [له] 7. وهذا قول المشائين، وهو الذي حكاه الأشعري عن أرسطاطاليس، وزعموا أن تعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاوزة ولا بالمساكنة ولا بالتصاق ولا بالمقابلة، وإنما هو التدبير له فقط، واختار هذا المذهب البوسنجي، ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد، ومعمر بن عباد الغزالي وهو قول ابن سينا وأتباعه، وهو أردأ المذاهب وأبطلها وأبعدها من الصواب. قال أبو محمد بن حزم: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان، جثة متحيزة مصرفة للجسد، قال: وبهذا نقول، قال: والنفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد ومعناهما واحد. و قد ضبط أبو عبد اللّه بن الخطيب مذاهب الناس في النفس فقال: ما يشير إليه كل إنسان بقوله: أنا، إما أن يكون جسما أو عرضا ساريا في الجسم أو لا جسما ولا عارضا ساريا فيه، أما القسم الأول: وهو أنه جسم، فذلك الجسم إما أن يكون هذا البدن وإما أن يكون جسما مشاركا لهذا البدن، وإما أن يكون خارجا عنه [أما القسم الثاني: وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن] 8، أما القسم الثالث: وهو أن نفس الإنسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن فهذا لم يقله أحد، وأما القسم الأول وهو أن الإنسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص فهو قول جمهور الخلق وهو المختار عند أكثر المتكلمين. قلت: هو قول جمهور الخلق الذين عرف الرازي أقوالهم من أهل البدع وغيرهم من المضلين، وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة، ولا أعتقد أن لهم في ذلك قولا على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة، والمذهب الحق الذي دل عليه القرآن والسنّة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره، وهو الذي نسبه إلى جمهور الخلق من أن الإنسان: هو هذا البدن المخصوص فقط، وليس وراءه شي ء هو أبطل من الأقوال في المسألة، بل هو أبطل من قول ابن سينا وأتباعه، بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معا، وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة. فالناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان. هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما. وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما. فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه. قال الرازي: وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن، فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه: الأول: أنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي منها يتولد هذا البدن. و الثاني: أنه الدم. و الثالث: أنه الروح اللطيف الذي يتولد في الجانب الأيسر من القلب وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء. الرابع: أنه الروح الذي يصعد في القلب إلى الدماغ، ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكرة والذكر. الخامس: أنه جزء لا يتجزأ في القلب. السادس: أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم ثوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء، وإفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية. و إذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح والبدن وانفصل إلى عالم الأرواح. و هذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواء باطلة، وعليه دل الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، ونحن نسوق الأدلة عليه على نسق واحد. الدليل الأول: قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ [الزمر:42] ففي الآية ثلاثة أدلة الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها. الرابع: قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ۖ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [الأنعام:93] إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام:94]. و فيها أربعة أدلة: أحدها: بسط الملائكة أيديهم لتناولها. الثاني: وصفها بالإخراج والخروج. الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم. الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها، فهذه سبعة أدلة. الثامن: قوله تعالى: و﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ﴾ [الأنعام:60] إلى قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام:61] وفيها ثلاثة أدلة: أحدها: الإخبار بتوفي الأنفس بالليل. الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار. الثالث: توفي الملائكة له عند الموت فهذه عشرة أدلة: الحادي عشر: قوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرۡضِيَّة ٢٨ فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی ٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی ٣٠﴾ [الفجر:27–30] وفيها ثلاثة أدلة: أحدها: وصفها بالرجوع. الثاني: وصفها بالدخول. الثالث: وصفها بالرضا. و اختلف السلف: هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو في الموضعين؟ على ثلاثة أقوال، وقد روي في حديث مرفوع أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال لأبي بكر الصديق: «إما أن الملك سيقولها لك عند الموت». قال زيد بن أسلم: بشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث. وقال أبو صالح: ﴿ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرۡضِيَّة ٢٨﴾ [الفجر:28] هذا عند الموت ﴿فَٱدۡخُلِی فِی عِبَـٰدِی ٢٩ وَٱدۡخُلِی جَنَّتِی ٣٠﴾ [الفجر:29–30] قال: هذا يوم القيامة. فهذه أربعة عشر دليلا. الخامس عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر». ففيه دليلان: أحدهما: وصفه بأنه يقبض. و الثاني: أن البصر يراه. السابع عشر: ما رواه النسائي: حدثنا أبو داود عن عفان بن حماد عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة أن أباه قال: رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك، فقال: «إن الروح ليلقى الروح» فأقنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هكذا. قال عفان برأسه إلى حلقه. فوضع جبهته على جبهة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبر أن الأرواح تتلاقى في المنام، وقد تقدم قول ابن عباس: تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك اللّه أرواح الموتى. الثامن عشر: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث بلال: «إن اللّه قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء». ففيه دليلان وصفها بالقبض والرد. العشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة» وفيه دليلان: أحدهما: كونها طائرا. الثاني: تعلقها في شجر الجنة وأكلها على اختلاف التفسيرين. الثاني والعشرون: قوله: «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطلع إليهم ربك اطلاعة فقال أي شي ء تريدون»؟ الحديث وقد تقدم فيه ستة أدلة: أحدها: كونها مودعة في جوف طير. الثاني: أنها تسرح في الجنة. الثالث: أنها تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها. الرابع: أنها تأوي إلى تلك القناديل أي تسكن إليها. الخامس: أن الرب تعالى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته. السادس: أنها طلبت الرجوع إلى الدنيا فعلم أنها مما يقبل الرجوع. فإن قيل: هذا كله صفة الطير لا صفة الروح. قيل: بل الروح مودعة في الطير قصدا، وعلى الرواية التي رجحها أبو عمر، وهي قوله: «أرواح الشهداء كطير» ينفي السؤال بالكلية. التاسع والعشرون: قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم في حديث طلحة بن عبيد اللّه: أردت مالي بالغابة فأدركني الليل، فأويت إلى قبر عبد اللّه بن عمرو بن حرام، فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ذاك عبد اللّه، أ لم تعلم أن اللّه قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة، فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك حتى طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت». وفيه أربعة أدلة سوى ما تقدم: أحدها: جعلها في القناديل. الثاني: انتقالها من حيز إلى حيز. الثالث: تكلمها وقراءتها في القبر. الرابع: وصفها بأنها في مكان. الثالث والثلاثون: حديث البراء بن عازب وقد تقدم سياقه وفيه عشرون دليلا: أحدها: قول ملك الموت لنفسه: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِیۤ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرۡضِيَّة ٢٨﴾ [الفجر:27–28] وهذا الخطاب لمن يفهم ويعقل. الثاني: قوله: اخرجي إلى مغفرة من اللّه ورضوان. الثالث: قوله: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء. الرابع: قوله: فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه. الخامس: قوله: حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها بذلك الحنوط، فأخبر أنها تكفن وتحنط. السادس: ثم يصعد بروحه إلى السماء. السابع: قوله: ويوجد منها كأطيب نفحة مسك وجدت. الثامن: قوله: فتفتح له أبواب السماء. التاسع: قوله ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى. العاشر: قوله فيقول تعالى ردوا عبدي إلى الأرض. الحادي عشر: قوله فترد روحه إلى جسده. الثاني عشر: قوله في روح الكافر فتفرق في جسده فيجذبها فتنقطع منها العروق والعصب. الثالث عشر: قوله ويوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض. الرابع عشر: قوله فيقذف بروحه عن السماء وتطرح طرحا فتهوي إلى الأرض. الخامس عشر: قوله فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ وما هذا الروح الخبيث؟ السادس عشر: قوله فيجلسان ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فإن كان هذا للروح فظاهر، وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء. السابع عشر: فإذا صعد بروحه قيل: أي رب عبدك فلان. الثامن عشر: قوله: ارجعوه فأروه ما ذا أعددت له من الكرامة. فيرى مقعده من الجنة والنار. التاسع عشر: قوله في الحديث: «إذا خرجت روح المؤمن صلى عليها كل ملك للّه بين السماء والأرض» فالملائكة تصلي على روحه وبني آدم يصلون على جسده. العشرون: قوله فينظر إلى مقعده من الجنة أو النار حتى تقوم الساعة والبدن قد تمزق وتلاشى وإنما الذي يرى المقعدين الروح. هامش ساقطة من المطبوع، واستكملت من قول الرازي الذي سيرد في الصفحة التالية. المسألة التاسعة عشرة حقيقة النفس | فصل نفس المؤمن ونفس الكافر | فصل خروج نفس المؤمن | فصل حضور الملائكة عند خروج نفس المؤمن | فصل الأرواح جنود مجندة | فصل روح النائم | فصل فتح أبواب السماء لروح المؤمن | فصل | فصل الروح والجسم، والنفس والجسم | فصل النفس والجسم | فصل الوجود | فصل هل الصورة العقلية مجردة | فصل القوى العقلية والإدراكات | فصل الإدراك | فصل | فصل الخيالات | فصل حال البدن والقوة العقلية | فصل | فصل الرد على القول بأن القوة الجسمانية تتعب | فصل | فصل الرد على أن محل الإدراكات جسم | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل وهو من المعتزلة. هو أرسطاطاليس بن نيقوماخوس الفيلسوف اليوناني من أهل أسطاغيرا، وهو المقدم المشهور والمعلم الأول والحكيم المطلق عند اليونان. ولد في السنة الأولى من ملك أزدشير بن دارا، فلما بلغ سبعة عشر سنة من عمره أسلمه أبوه إلى أفلاطون ليعلمه، فمكث عنده نيفا وعشرين سنة. واعتبر أرسطاطاليس أن النفس الإنسانية ليست بجسم ولا قوة في جسم واستدل على ذلك باستدلالات عدة (انظر الملل والمحل 3/ 56). يقولون أن النور والظلمة أزليان قديمان، بخلاف المجوس الذين يقولون بحدوث الظلام وتساويهما في القدم واختلافها في الجوهر والطبع والفعل والخير والمكان والأجناس والأبدان والأرواح. نسبة إلى ديصان، وهؤلاء قالوا أن هناك أصلين: النور ويفعل الخير قصدا واختيارا، والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا، فما كان من خير ونفع وطيب وحسن فمن النور، وما كان من شر ونتن وقيح فمن الظلام. وهؤلاء أعطوا للنور صفة الحي القادر العالم الحساس المدرك، وقالوا أن الحركة والحياة والظلام تكون منه، وقالوا أن النور جنس واحد كما الظلام جنس واحد. ولهم أقوال كثيرة في هذا (انظر الملل والنحل 2/ 88). وردت في المطبوع: باين. زيدت على المطبوع لسياق العبارة. ============================================ 20 20 20 20. الروح/المسألة العشرون فاختلف الناس في ذلك. فمن قائل: أن مسماهما واحد وهم الجمهور. ومن قائل: أنهما متغايران، ونحن نكشف سر المسألة بحول اللّه وقوته فنقول النفس تطلق على أمور: أحدها: الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش: نجا سالما والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر أي يحفن سيف ومئزر (و النفس والدم) يقال سالت نفسه وفي الحديث ما لا نفسه له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه (و النفس الجسد). قال الشاعر: نبئت أن بني تميم أدخلوا ... أبناءهم تامور النفس المنذر والتامور الدم (و النفس العين) يقال أصابت فلانا أي عين. قلت: ليس كما قال بل النفس هاهنا الروح ونسبة الإضافة إلى العين وسع لأنها تكون بواسطة النظر المصيب والذي أصابه إنما هو نفس العائن كما تقدم. قلت: والنفس في القرآن تطلق على الذات بجملتها كقوله تعالى: ﴿فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ﴾ [النور:61] وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل:111] وقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨﴾ [المدثر:38] وتطلق على الروح وحدها كقوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧﴾ [الفجر:27] وقوله تعالى: ﴿أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾ [الأنعام:93] وقوله تعالى: ﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴾ [النازعات:40] وقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف:53]. وأما الروح فلا تطلق على البدن بانفراده ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن الذي أوحاه اللّه تعالى إلى رسوله قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى:52]. وعلى الوحي الذي يوحيه إلى أنبيائه ورسله قال تعالى: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ﴾ [غافر:15] وقال تعالى: ﴿يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَـٰۤئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۤ أَنۡ أَنذِرُوۤاْ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّاۤ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ ٢﴾ [النحل:2] وسمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها البتة بل حياة الحيوان البهيم خير منها وأسلم عاقبة. وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح. قال الشاعر: إذا هبت الأرواح من نحو أرضكم ... وجدت لمسرها على كبدي بردا ومنها الروح والريحان والاستراحة، فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها، وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا، ومنه النفس بالتحريك، فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت فإذا بعث رجعت إليه. فالفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس وأن الحياة لا تتم به كما تتم إلا بالنفس فلهذا قال: تسيل على حد الظباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل ويقال فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت نفسه كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع وهلة واحدة ومنه الإفاضة وهي الاندفاع بكثرة وسرعة لكن أفاض إذا رفع باختياره وإراداته وفاض إذا اندفع قسرا وقهرا فاللّه سبحانه هو الذي يقضيها عند الموت فتفيض هي. هامش المسألة العشرون هل النفس والروح شيء واحد أو شيئان متغايران | فصل وقالت: فرقة أخرى من أهل الحديث والفقه والتصوف: الروح غير النفس، قال مقاتل بن سليمان: للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه يتقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفة عين فإذا أراد اللّه عز وجل أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجت، وقال أيضا إذا نام خرجت نفسه فصعدت إلى فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح ويخبر الروح فيصبح يعلم أنه قد رأى كيت وكيت. قال أبو عبد اللّه بن منده: ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس فقال بعضهم النفس طينية نارية والروح نورية روحانية. و قال: بعضهم الروح لاهوتية 1 والنفس ناسوتية 2 وأن الخلق بها ابتلى. و قالت طائفة: وهم أهل الأثر أن الروح غير النفس، والنفس غير الروح وقوام النفس بالروح، والنفس صورة العبد، والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم من نفسه، فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وجعل الهوى تبعا للنفس، والشيطان تبع النفس والهوى، والملك مع العقل والروح، واللّه تعالى يمدهما بإلهامه وتوفيقه. و قال بعضهم: الأرواح من أمر اللّه أخفي حقيقتها وعلمها على الخلق. و قال بعضهم: الأرواح نور من اللّه وحياة من حياة اللّه. ثم اختلفوا في الأرواح هل تموت بموت الأبدان والأنفس أو لا تموت؟ فقالت طائفة: الأرواح لا تموت ولا تبلى. و قالت جماعة: الأرواح على صورة الخلق لها أيد وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان. و قالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكافر روح واحدة. و قال بعضهم للأنبياء والصديقين خمس أرواح. و قال بعضهم: الأرواح روحانية خلقت من الملكوت، فإذا صفت رجعت إلى الملكوت. قلت: أما الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة، وهي النفس. وأما ما يؤيد اللّه به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ﴾ [المجادلة:22] وكذلك الروح الذي أيد بها روحه المسيح ابن مريم كما قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [المائدة:110] وكذلك الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن. و أما القوى التي في البدن فإنها تسعى أيضا أرواحا فيقال الروح الباصر والروح السامع والروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودعة في البدن تموت بموت الأبدان، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى، ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة باللّه والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته وطاعته، ولهذا يقول الناس فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح وهو قصبة فارغة ونحو ذلك. فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت منهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا، واللّه المستعان. هامش أي إلهية. أي إنسانية. =================== فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس، نفس مطمئنة، ونفس لوّامة، ونفس أمّارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه ومنهم من تغلب عليه الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَـٰۤأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧﴾ [الفجر:27] وبقوله تعالى: ﴿لَاۤ أُقۡسِمُ بِيَوۡمِ ٱلۡقِيَـٰمَةِ ١ وَلَاۤ أُقۡسِمُ بِٱلنَّفۡسِ ٱللَّوَّامَةِ ٢﴾ [القيامة:1–2] وبقوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [يوسف:53] والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته وللإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه. فإن سمة محبته وخوفه ورجائه منها قطيع النظر عن محبة غيره وخوفه ورجائه، فيستغني بمحبته عن حب ما سواه وبذكره عن ذكر ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه، فالطمأنينة إلى اللّه سبحانه حقيقة ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه حتى كأنه جالس بين يديه؟ يسمع به ويبصر به ويتحرك به ويبطش به، فتسري تلك الطمأنينة في نفسه وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة تجذب روحه إلى اللّه ويلين جلده وقلبه ومفاصله إلى خدمته والتقرب إليه ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقة إلا باللّه وبذكره وهو كلامه الذي أنزله على رسوله كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ ٢٨﴾ [الرعد:28]. فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج عنه، وهذا لا يتأتى بشي ء سوى اللّه تعالى وذكره البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور والثقة به عجز قضى اللّه سبحانه وتعالى قضاء لا مرد له أن من اطمأن إلى شي ء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته كائنا من كان، بل لو اطمأن إلى سواه أغراضها بسهام البلاء ليعلم عباده وأولياؤه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع. و حقيقة الطمأنينة التي تصير بها النفس مطمئنة أن تطمئن في باب معرفة أسمائه وصفاته ونعوت كماله إلى خبره الذي أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله فتتلقاه بالقبول. والتسليم، والإذعان، وانشراح الصدر له؛ وفرح القلب به. فإنه معرف من معرفات الرب سبحانه إلى عبده على لسان رسوله، فلا يزال القلب في أعظم القلق والاضطراب في هذا الباب حتى يخالط الإيمان بأسماء الرب تعالى وصفاته وتوحيده وعلوه على عرشه، وتكلمه بالوحي بشاشة قلبه، فينزل عليه نزول الماء الزلال على القلب الملتهب بالعطش، فيطمئن إليه، ويسكن إليه، ويفرح به، ويلين له قلبه ومفاضله حتى كأنه شاهد الأمر كما أخبرت به الرسل، بل يصير ذلك لقلبه بمنزلة رؤية الشمس في الظهيرة أمينة فلو خالفه في ذلك من بين شرق الأرض وغربها لم يلتفت إلى خلافهم. و قال: إذا استوحش من الغربة قد كان الصديق الأكبر مطمئنا بالإيمان وحده وجميع أهل الأرض يخالفه وما نقص ذلك من طمأنينته شي ء. فهذا أول درجات الطمأنينة ثم لا يزال يقوى كلما سمع بآية متضمنة لصفة من صفات ربه. و هذا أمر لا نهاية له فهذه الطمأنينة أصل أصول الإيمان التي عليه بناؤه ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعدها من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عيانا وهذا حقيقة اليقين الذي وصف به سبحانه وتعالى أهل الإيمان حيث قال: ﴿وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة:4] فلا يحصل الإيمان بالآخرة حتى يطمئن القلب إلى ما أخبر اللّه سبحانه به عنها طمأنينة إلى الأمور التي لا يشك فيها ولا يرتاب. فهذا هو المؤمن حقا باليوم الآخر كما في حديث حارثة أصبحت مؤمنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال «عرفت نفسي عن الدنيا وأهلها وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها وأهل النار يعذبون فيها» فقال: عبد نور اللّه قلبه. هامش المسألة العشرون هل النفس واحدة أم ثلاث | فصل الطمأنينة | فصل | فصل | فصل | فصل النفس اللوامة | فصل النفس الأمّارة | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق | فصل شرف النفس | فصل الفرق بين الحمية والجفاء | فصل الفرق بين التواضع والمهانة | فصل | فصل الفرق بين الجواد والمسرف | فصل الفرق بين المهابة والكبر | فصل الفرق بين الصيانة والتبكر | فصل الفرق بين الشجاعة والجرأة | فصل الفرق بين الحزم والجبن | فصل الفرق بين الاقتصاد والشح | فصل الفرق بين الاحتراز وسوء الظن | فصل الفرق بين الفراسة والظن | فصل الفرق بين النصيحة والغيبة | فصل الفرق بين الهدية والرشوة | فصل الفرق بين الصبر والقسوة | فصل الفرق بين العفو والذل | فصل الفرق بين سلامة القلب والبله والغفل | فصل الفرق بين الثقة والغرّة | فصل الفرق بين الرجاء والتمني | فصل الفرق بين التحدث بنعم اللّه والفخر بها | فصل الفرق بين فرح القلب وفرح النفس | فصل فرحة المؤمن عند مفارقته الدنيا إلى اللّه | فصل الفرق بين رقة القلب والجزع | فصل الفرق بين الموجدة والحقد | فصل الفرق بين المنافسة والحسد | فصل الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمارة | فصل الفرق بين الحب في اللّه والحب مع اللّه | فصل الفرق بين التوكل والعجز | فصل الفرق بين الاحتياط والوسوسة | فصل الفرق بين إلهام الملك وإلقاء الشيطان | فصل الفرق بين الاقتصاد والتقصير | فصل الفرق بين النصيحة والتأنيب | فصل الفرق بين المبادرة والعجلة | فصل الفرق بين الأخبار بالحال وبين الشكوى | فصل الفروق الطول | فصل الفروق بين الأمور | فصل الفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة | فصل الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل | فصل الفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب | فصل الفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى اللّه عليه وآله وسلم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها | فصل الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان | فصل الفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني | فصل الفرق بين الحكم المنزل والحكم  المؤول ....

الروابط للفقرة الاخيرة{

المسألة العشرون

هل النفس واحدة أم ثلاث | فصل الطمأنينة | فصل | فصل | فصل | فصل النفس اللوامة | فصل النفس الأمّارة | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق | فصل شرف النفس | فصل الفرق بين الحمية والجفاء | فصل الفرق بين التواضع والمهانة | فصل | فصل الفرق بين الجواد والمسرف | فصل الفرق بين المهابة والكبر | فصل الفرق بين الصيانة والتبكر | فصل الفرق بين الشجاعة والجرأة | فصل الفرق بين الحزم والجبن | فصل الفرق بين الاقتصاد والشح | فصل الفرق بين الاحتراز وسوء الظن | فصل الفرق بين الفراسة والظن | فصل الفرق بين النصيحة والغيبة | فصل الفرق بين الهدية والرشوة | فصل الفرق بين الصبر والقسوة | فصل الفرق بين العفو والذل | فصل الفرق بين سلامة القلب والبله والغفل | فصل الفرق بين الثقة والغرّة | فصل الفرق بين الرجاء والتمني | فصل الفرق بين التحدث بنعم اللّه والفخر بها | فصل الفرق بين فرح القلب وفرح النفس | فصل فرحة المؤمن عند مفارقته الدنيا إلى اللّه | فصل الفرق بين رقة القلب والجزع | فصل الفرق بين الموجدة والحقد | فصل الفرق بين المنافسة والحسد | فصل الفرق بين حب الرئاسة وحب الإمارة | فصل الفرق بين الحب في اللّه والحب مع اللّه | فصل الفرق بين التوكل والعجز | فصل الفرق بين الاحتياط والوسوسة | فصل الفرق بين إلهام الملك وإلقاء الشيطان | فصل الفرق بين الاقتصاد والتقصير | فصل الفرق بين النصيحة والتأنيب | فصل الفرق بين المبادرة والعجلة | فصل الفرق بين الأخبار بالحال وبين الشكوى | فصل الفروق الطول | فصل الفروق بين الأمور | فصل الفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة | فصل الفرق بين إثبات حقائق الأسماء والصفات وبين التشبيه والتمثيل | فصل الفرق بين تجريد التوحيد وبين هضم أرباب المراتب | فصل الفرق بين تجريد متابعة المعصوم صلى اللّه عليه وآله وسلم وإهدار أقوال العلماء وإلغائها | فصل الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان | فصل الفرق بين الحال الإيماني والحال الشيطاني | فصل الفرق بين الحكم المنزل والحكم المؤول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان

  إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم اكتفي بالرد علي معظم الفقهاء في مسائل الطلاق با دونته في مدومة النخبة في شرعة الطلاق ومدون دي...