الجمعة، 29 مارس 2024

تاريخ الطبري/الجزء السادس السابع

 

ج6وج7. المحتويات تاريخ الطبري/الجزء السادس تاريخ الرسل والملوك للطبري الجزء الخامس الجزء السادس الجزء السابع ثم دخلت سنة ست وستين ذكر الخبر عن الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة فمما كان فيها من ذلك وثوب المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبًا بدم الحسين بن علي بن أبي طالب وإخراجه منها عامل ابن الزبير عبد الله بن مطيع العدوي. ذكر الخبر عما كان من أمرهما في ذلك وظهور المختار للدعوة إلى ما دعا إليه الشيعة بالكوفة ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن فضيل بن خديج، حدثه عن عبيدة بن عمرو وإسماعيل بن كثير من بني هند، أن أصحاب سليمان بن صرد لما قدموا كتب إليهم المختار: أما بعد، فإن الله أعظم لكم الأجر، وحط عنكم الوزر، بمفارقة القاسطين، وجهاد المحلين؛ إنكم لم تنفقوا نفقة، ولم تقطعوا عقبة، ولم تخطوا خطوة إلا رفع الله لكم بها درجة، وكتب لكم بها حسنة، إلى مالا يحصيه إلا الله من التضعيف؛ فأبشروا فإني لو قد خرجت إليكم قد جردت فما بين المشرق والمغرب في عدوكم السيف بإذن الله، فجعلتهم بإذن الله ركامًا؛ وقتلتهم فذًا وتؤامًا؛ فرحب الله بمن قارب منكم واهتدى؛ ولا يبعد الله إلا من عصى وأبى؛ والسلام يا أهل الهدى. فجاءهم بهذا الكتاب سيحان بن عمرو، من بنى ليث من عبد القيس قد أدخله في قلنسوته يبين الظهارة والبطانة؛ فأتى بالكتاب رفاعة بن شداد والمثنى بن مخربة العبدى وسعد بن حذيفة بن اليمان ويزيد بن أنس وأحمر بن شميط الأحمسى وعبد الله بن شداد البجلى وعبد الله بن كامل؛ فقرأ عليهم الكتاب؛ فبعثوا إليه ابن كامل؛ فقالوا: قل له: قد قرأنا الكتاب؛ ونحن حيث يسرك؛ فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك فعلنا. فأتاه؛ فدخل عليه السجن؛ فأخبره بما أرسل إليه به؛ فسر باجتماع الشيعة له؛ وقال لهم: لا تريدوا هذا؛ فإني أخرج في أيامي هذه. قال: وكان المختار قد بعث غلامًا يدعى زربيًا إلى عبد الله بن عمر ابن الخطاب، وكتب إليه: أما بعد: فإني قد حبست مظلومًا، وظن بي الولاة ظنونًا كاذبة؛ فاكتب في يرحمك الله إلى هذين الظالمين كتابًا لطيفًا؛ عسى الله أن يخلصني من أيديهما بلطفك وبركتك ويمنك؛ والسلام عليك. فكتب إليهما عبد الله بن عمر: أما بعد؛ فقد علمتما الذي بيني وبين المختار بن أبى عبيد من الصهر، والذي بيني وبينكما من الود؛ فأقسمت عليكما بحق ما بيني وبينكما لما خليتما سبيله حين تنظران في كتابي هذا، والسلام عليكما ورحمة الله. فلما أتى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة كتاب عبد الله ابن عمر دعوا للمختار بكفلاء يضمنونه بنفسه، فأتاه أناس من أصحابه كثير، فقال يزيد بن الحارث بن يزيد بن رؤيم لعبد الله بن يزيد: ما تصنع بضمان هؤلاء كلهم! ضمنه عشرة منهم أشرافًا معروفين، ودع سائرهم. ففعل ذلك، فلما ضمنوه، دعا به عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة فحلفاه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم؛ لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان؛ فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة؛ ومما ليكه كلهم ذكرهم وأنثاهم أحرار. فحلف لهما بذلك، ثم خرج فجاء داره فنزلها. قال أبومخنف: فحدثني يحيى بن أبى عيسى، عن حميد بن مسلم، قال: سمعت المختار بعد ذلك يقول: قاتلهم الله! ما أحمقهم حين يرون أنى أفي لهم بأيمانهم هذه! أما حلفي لهم بالله؛ فإنه ينبغي لي إذا حلفت على يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتى الذي هو خير؛ وأكفر يميني، وخروجي عليهم خير من كفى عنهم؛ وأكفر يميني؛ وأما هدى ألف بدنة فهو أهون علي من بصقة؛ وماثمن ألف بدنة فيهولني! وأما عتق مما ليكي فوالله لو ددت أنه قد استتب لي أمري، ثم لم أملك مملوكًا أبدًا. قال: ولما نزل المختار داره عند خروجه من السجن، اختلف إليه الشيعة واجتمعت عليه؛ واتفق رأيها على الرضا به، وكان الذي يبايع له الناس وهو في السجن خمسة نفر: السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، ورفاعة بن شداد الفتياني، وعبد الله بن شداد الجشمي. قال: فلم تزل أصحابه يكثرون، وأمره يقوى ويشتد حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع على عملهما إلى الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، قال: دعا ابن الزبير عبد الله بن مطيع أخا بنى عدى ابن كعب والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي؛ فبعث عبد الله بن مطيع على الكوفة، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على البصرة. قال: فبلغ ذلك بحير بن ريسان الحميري؛ فلقيهما، فقال لهما: ياهذان؛ إن القمر الليلة بالناطح، فلا تسيرا. فأما ابن أبى ربيعة؛ فأطاعه؛ فأقام يسيرا ثم شخص إلى عمله فسلم؛ عبد الله بن مطيع فقال له: وهل نطلب إلا النطح! قال: فلقي والله نطحًا وبطحًا، قال: يقول عمر: والبلاء موكل بالقول. قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالًا على البلاد؛ فقال: من بعث على البصرة؟ فقيل: بعث عليها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة؛ قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفًا وجلس! ثم فال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيرًا ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك؛ وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين. وقال لإبراهيم بن محمد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين؛ فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الحراج؛ وقال: إنما كانت فتنة؛ فكف عنه ابن الزبير. قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة والخراج؛ وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلى، وأمره أن يحسن السيرة والشدة على المريب. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدي - وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير - قال: إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرني بحباية فيئكم؛ وألا أحمل فضل فيئكم عنكم إلى برضًا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين؛ فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا على أيدي سفهائكم؛ وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني؛ فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي؛ ولأقيمن درء الأصعر المرتاب. فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما امر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عن إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا؛ وألا يقسم إلا فينا؛ وألا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادناهذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا؛ فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا؛ وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرًا؛ وقد كان لا يألو الناس خيرًا. فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله. فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها ثم نزل. فقال: يزيد بن أنس الأسدى: ذهبت بفضلها يا سائب؛ لا يعدمك المسلمون! أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحوًا من مقالتك، وما أحب أن الله ولي الرد عليه رجلًا من أهل المصر ليس من شيعتنا. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع. فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار؛ فابعث إليه فليأتك؛ فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس؛ فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له؛ وكأنه قد وثب بالمصر. قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمى من همدان. فدخلا عليه، فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتحشخش للذهاب معهما؛ فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا على القطيفة؛ ما أراني إلا قد وعكت؛ إني لأجد قفقفة شديدة، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدي: بن أي ربيعة على البصرة. قال: فبلغ ذلك بحير بن ريسان الحميري؛ فلقيهما، فقال لهما: ياهذان؛ إن القمر الليلة بالناطح، فلا تسيرا. فأما ابن أبى ربيعة؛ فأطاعه؛ فأقام يسيرا ثم شخص إلى عمله فسلم؛ عبد الله بن مطيع فقال له: وهل نطلب إلا النطح! قال: فلقي والله نطحًا وبطحًا، قال: يقول عمر: والبلاء موكل بالقول. قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: بلغ عبد الملك بن مروان أن ابن الزبير بعث عمالًا على البلاد؛ فقال: من بعث على البصرة؟ فقيل: بعث عليها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة؛ قال: لا حر بوادي عوف، بعث عوفًا وجلس! ثم فال: من بعث على الكوفة؟ قالوا: عبد الله بن مطيع، قال: حازم وكثيرًا ما يسقط، وشجاع وما يكره أن يفر، قال: من بعث على المدينة؟ قالوا: بعث أخاه مصعب بن الزبير، قال: ذاك الليث النهد، وهو رجل أهل بيته. قال هشام: قال أبو مخنف: وقدم عبد الله بن مطيع الكوفة في رمضان سنة خمس وستين يوم الخميس لخمس بقين من شهر رمضان، فقال لعبد الله ابن يزيد: إن أحببت أن تقيم معي أحسنت صحبتك، وأكرمت مثواك؛ وإن لحقت بأمير المؤمنين عبد الله بن الزبير فبك عليه كرامة، وعلى من قبله من المسلمين. وقال لإبراهيم بن محمد بن طلحة: الحق بأمير المؤمنين؛ فخرج إبراهيم حتى قدم المدينة، وكسر على ابن الزبير الحراج؛ وقال: إنما كانت فتنة؛ فكف عنه ابن الزبير. قال: وأقام ابن مطيع على الكوفة على الصلاة والخراج؛ وبعث على شرطته إياس بن مضارب العجلى، وأمره أن يحسن السيرة والشدة على المريب. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث بن دريد الأزدي - وكان قد أدرك ذلك الزمان، وشهد قتل مصعب بن الزبير - قال: إني لشاهد المسجد حيث قدم عبد الله بن مطيع، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثنى على مصركم وثغوركم، وأمرني بحباية فيئكم؛ وألا أحمل فضل فيئكم عنكم إلى برضًا منكم، ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته، وبسيرة عثمان ابن عفان التي سار بها في المسلمين؛ فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا على أيدي سفهائكم؛ وإلا تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني؛ فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي؛ ولأقيمن درء الأصعر المرتاب. فقام إليه السائب بن مالك الأشعري، فقال: أما امر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عن إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا؛ وألا يقسم إلا فينا؛ وألا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادناهذه حتى هلك رحمة الله عليه، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا؛ فإنها إنما كانت أثرة وهوى، ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا؛ وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرًا؛ وقد كان لا يألو الناس خيرًا. فقال يزيد ابن أنس: صدق السائب بن مالك وبر، رأينا مثل رأيه، وقولنا مثل قوله. فقال ابن مطيع: نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها ثم نزل. فقال: يزيد بن أنس الأسدى: ذهبت بفضلها يا سائب؛ لا يعدمك المسلمون! أما والله لقد قمت وإني لأريد أن أقوم فأقول له نحوًا من مقالتك، وما أحب أن الله ولي الرد عليه رجلًا من أهل المصر ليس من شيعتنا. وجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع. فقال له: إن السائب بن مالك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن المختار؛ فابعث إليه فليأتك؛ فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس؛ فإن عيوني قد أتتني فخبرتني أن أمره قد استجمع له؛ وكأنه قد وثب بالمصر. قال: فبعث إليه ابن مطيع زائدة بن قدامة وحسين بن عبد الله البرسمى من همدان. فدخلا عليه، فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتحشخش للذهاب معهما؛ فلما رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ قول الله تبارك وتعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "، ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه، ثم قال: ألقوا على القطيفة؛ ما أراني إلا قد وعكت؛ إني لأجد قفقفة شديدة، ثم تمثل قول عبد العزى بن صهل الأزدي: إذا ما معشر تركوا نداهم ** ولم يأتوا الكريهة لم يهابوا ارجعا إلى ابن مطيع، فأعلماه حالي التي أنا عليها. فقال له زائدة بن قدامة: أما أنا ففاعل؛ فقال: وأنت ياأخا همدان فاعذرني عنده فإنه خير لك. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمداني، عن حسين بن عبد الله، قال: قلت في نفسي: والله إن أنا لم أبلغ عن هذا يرضيه ما أنا بآمن من أن يظهر غدًا فيهلكني. قال: فقلت له، نعم، أنا أضع عند ابن مطيع عذرك، وأبلغه كل ما تحب؛ فخرجنا من عنده؛ فإذا أصحابه على بابه، وفي داره منهم جماعة كثيرة. قال: فأقبلنا نحو ابن مطيع، فقلت لزائدة بن قدامة: أما إني قد فهمت قولك حين قرأت تلك الآية؛ وعلمت ما أردت بها، وقد علمت أنها هي ثبطته عن الخروج معنا بعد ما كان قد لبس ثيابه، وأسرج دابته؛ وعلمت حين تمثل البيت الذي تمثل أنما أراد يخبرك أنه قد فهم عنك ما أردت أن تفهمه، وأنه لن يأتيه. قال: فجاحدني أن يكون أراد شيئًا من ذلك؛ فقلت له: لا تحلف؛ والله ما كنت لأبلغ عنك ولا عنه شيئًا تكرهانه؛ ولقد علمت أنك مشفق عليه، تجد له ما يجد المرء لابن عمه. فأقبلنا إلى ابن مطيع؛ فأخبرناه بعلته وشكواه؛ فصدقنا ولها عنه. قال: وبعث المختار إلى أصحابه؛ فأخذ يجمعهم في الدور حوله، وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم؛ فجاء رجل من أصحابه من شبام - وكان عظيم الشرف يقال له عبد الرحمن بن شريح - فلقى سعيد بن منقذ الثوري وسعر ابن أبي سعر الحنفي والأسود بن جراد الكندي وقدامة بن مالك جشمي؛ فاجتمعوا في منزل سعر الحنفي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمابعد؛ فإن المختار يريد أن يخرج بنا، وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا؛ فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلنخبره بما قدم علينا به وبما دعانا إليه؛ فإن رخص لنا في اتباعه اتبعناه؛ وإن نهانا عنه اجتنبناه؛ فوالله ما ينبغي أن يكون شئ من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا. فقالوا له: أرشدك الله! فقد أصبت ووفقت؛ اخرج بنا إذا شئت. فأجمع رأيهم على أن يخرجوا من أيامهم، فخرجوا، فلحقوا بابن الحنفية؛ وكان إمامهم عبد الرحمن بن شريح، فلما قدموا عليه سألهم عن حال الناس فخبروه عن حالهم وما هم عليه. قال أبو مخنف: فحدثني خليفة بن ورقاء، عن الأسود بن جراد الكندي قال: قلنا لابن الحنفية؛ إن لنا إليك حاجة؛ قال: فسر هي أم علانية؟ قال: قلنا: لا؛ بل سر، قال: فرويدًا إذًا؛ قال: فمكث قليلًا، ثم تنحى جانبًا فدعانا فقمنا إليه، فبدأ عبد الرحمن بن شريح، فتكلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد؛ فإنكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة، وشرفكم بالنبوة، وعظم حقكم على هذه الأمة؛ فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرأي، مخسوس النصيب؛ قد أصبتم بحسين رحمة الله عليه. عظمت مصيبة اختصصتم بها، بعد ما عم بها المسلمون، وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد يزعم لنا أنه قد جاءنا من تلقائكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ؛ والطلب بدماء أهل البيت، والدفع عن الضعفاء؛ فبايعناه على ذلك. ثم إنا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه، وندبنا له؛ فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه، وإن نهيتنا عنه إجتنبناه. ثم تكلمنا واحدًا واحدًا بنحو مما تكلم به صاحبنا؛ وهو يسمع، حتى إذا فرغنا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ، ثم قال: أما بعد؛ فأما ما ذكرتم مما خصصنا الله به من فضل؛ فإن الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ فلله الحمد! وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين؛ فإن ذلك كان في الذكر الحكيم وهي ملحمة كتبت عليه، وكرامة أهداها الله له، رفع بما كان منها درجات قوم عنده، ووضع بها آخرين، وكان أمر الله مفعولا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا؛ فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قال: فخرجنا من عنده، ونحن نقول: قد أذن لنا؛ قد قال: لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه، ولو كره لقال: لا تفعلوا. قال: فجئنا وأناس من الشيعة ينتظرون مقدمنا ممن كنا قد أعلمناه بمخرجنا وأطلعناه على ذات أنفسنا؛ ممن كان على رأينا من إخواننا؛ وقد كان بلغ المختار مخرجنا، فشق ذلك عليه، وخشي أن نأتيه بأمر يخذل الشيعة عنه، فكان قد أرادهم على أن ينهض بهم قبل قدومنا؛ فلم يتهيأ ذلك له؛ فكان المختار يقول: إن نفيرًا منكم ارتابوا وتحيروا وخابوا؛ فإن هم أصابوا أقبلوا وأنابوا وإن هم كبوا وهابوا، واعترضوا وانجابوا، فقد ثبروا وخابوا؛ فلم يكن إلا شهرًا وزيادة شئ؛ حتى أقبل القوم على رواحلهم؛ حتى دخلواعلى المختار قبل دخولهم إلى رحالهم، فقال لهم: ما وراءكم؟ فقد فتنتم وارتبتم فقالوا له: قد أمرنا بنصرتك فقال: الله أكبر! أن أبو إسحاق، اجمعوا إلى الشيعة، فجمع له منهم من كان منه قريبًا فقال: يا معشر الشيعة؛ إن نفرًا منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى ابن خير من طشى ومشى؛ حاشا النبي المجتبى؛ فسألوه عما قدمت به عليكم؛ فنبأهم أني وزيره وظهيره. ورسوله وخليله؛ وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين، والطلب بدماء أهل بيت نبيكم المصطفين. فقام عبد الله بن شريح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا معشر الشيعة؛ فإنا قد كنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة؛ فقدمنا على المهدي بن علي، فسألناه عن حربنا هذه، وعما دعانا إليه المختار منها فأمرنا بمظاهرته ومؤازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه، فأقبلنا طيبة أنفسنا، منشرحة صدورنا، قد أذهب الله منها الشك والغل والريب، واستقامت لنا في قتال عدونا؛ فليبلغ ذلك شاهد كم، غائبكم، واستعدوا وتأهبوا. ثم جلس وقمنا رجلًا فرجلًا؛ فتكلمنا بنحو من كلامه؛ فاستجمعت له الشيعة وحدبت عليه. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة والمشرقي، عن عامر الشعبي، قال: كنت أنا وأبي أول من أجاب المختار. قال: فلما تهيأ أمره ودنا خروجه؛ قال له احمر بن شميط ويزيد بن أنس وعبد الله بن كامل وعبد الله بن شداد: إن أشرف أهل الكوفة مجتمعون على قتالك مع ابن مطيع؛ فإن جامعنا على أمرنا إبراهيم بن الأشر رجونا بإذن الله القوة على عدونا، وألا يضرتا خلاف من خالفنا، فإنه فتى بئيس، وابن رجل شريف بعيد الصيت؛ وله عشيرة ذات عز وعدد. قال لهم المختار: فالقوه فادعوه، وأعلموه الذي أمرنا به من الطلب بدم الحسين وأهل بيته. قال الشعبى: فخرجوا إليه وأنا فيهم، وأبى، فتكلم يزيد بن أنس، فقال له: إنا قد أتيناك في أمر نعرضه عليك. وندعوك إليه؛ فإن قبلته كان خيرًا لك، وإن تركته فقد أدينا إليك فيه النصيحة؛ ونحن نحب أن يكون عندك مستورًا. فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: وإن مثلي لا تخاف غائلته ولا سعايته؛ ولاالتقرب إلى سلطانه باغتياب الناس، إنما أولئك الصغار الأخطار الدقاق هممًا. فقال له: إنما ندعوك إلى أمر أجمع عليه رأي الملإ من الشيعة؛ إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه، والطلب بدماء أهل البيت، وقتال المحلين، والدفع عن الضعفاء. قال: ثم تكلم أحمر بن شميط، فقال له: إني لك ناصح، ولحظك محب، وإن أباك قد هلك وهو سيد الناس وفيك منه إن رعيت حق الله خلف؛ قد دعوناك إلى أمر إن أجبتنا إليه عادت لك منزلة أبيك في الناس، وأحييت من ذلك أمرًا قد مات؛ إنما يكفي مثلك اليسير حتى تبلغ الغاية التي لا مذهب وراءها، إنه قد بنى لك أولك مفتخرًا. وأقبل القوم كلهم عليه يدعونه إلى أمرهم ويرغبونه فيه. فقال لهم إبراهيم بن الأشتر: فإني قد أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه من الطلب بدم الحسين وأهل بيته، على أن تولوني الأمر، فقالوا: أنت لذلك أهل؛ ولكن ليس إلى ذلك سبيل؛ هذا المختار قد جاءنا من قبل المهدي؛ وهو الرسول والمأمور بالقتال؛ وقد أمرنابطاعته. فسكت عنهم ابن الأشتر ولم يجبهم. فانصرفنا من عنده إلى المختار فأخبرناه بما رد علينا؛ قال: فغبر ثلاثًا؛ ثم إن المختار دعا بضعة عشر رجلًا من وجوه أصحابه - قال الشعبي: أنا وأبي فيهم - قال: فسار بنا ومضى أمامنا يقد بنا بيوت الكوفة قدًا لا ندري أين يريد؛ حتى وقف على باب إبراهيم بن الأشتر؛ فاستأذنا عليه فأذن لنا، وألقيت لنا وسائد؛ فجلسنا عليها وجلس المختار معه على فراشه؛ فقال المختار: الحمد لله، وأشهد أن لا اله إلا الله، وصلى الله على محمد، والسلام عليه، أما بعد، فإن هذا كتاب إليك من المهدي محمد بن أمير المؤمنين الوصى؛ وهو خير أهل الأرض اليوم، وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله؛ وهو يسألك أن تنصرنا وتؤازرنا، فإن فعلت اغتبطت، وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجة عليك، وسيغني الله المهدي محمدًا وأولياءه عنك. قال الشعبي: وكان المختار قد دفع الكتاب إلى حين خرج من منزله؛ فلما قضى كلامه قال لي: ادفع الكتاب إليه، فدفعته إليه، فدعا بالمصباح وفض خاتمه، وقرأه فإذا هو: " بسم الله الرحمن الرحيم ". ن محمد المهدي إلى إبراهيم بن مالك الأشتر، سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا اله إلا هو؛ أما بعد فإني قد بعثت إليكم بوزيري وأميني ونجيي الذي ارتضيته لنفسي، وقد أمرته بقتال عدوي والطلب بدماء أهل بيتي؛ فانهض معه بنفسك وعشيرتك ومن أطاعك؛ فإنك إن تنصرني وأجبت دعوتي وساعدت وزيري كانت لك عندي بذلك فضيلة؛ ولك بذلك أعنة الخيل وكل جيش غاز، وكل مصر ومنبر وثغر ظهرت عليه فيما بين الكوفة ة وأقصى بلاد أهل الشأم، على الوفاء بذلك على عهد الله؛ فإن فعلت ذلك نلت به عند الله أفضل الكرامة، وإن أبيت هلكت هلاكًا لا تستقيله أبدًا، والسلام عليك. فلما قضى إبراهيم قراءة الكتاب، قال: لقد كتب إلى ابن الحنفية؛ وقد كتبت إليه قبل اليوم؛ فما كان يكتب إلي إلا باسمه واسم أبيه، قال له المختار: إن ذلك زمان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلى؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم - قال الشعبي: إلا أنا وأبي - فقالوا نشهد أن هذا كتاب محمد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عن ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال أبسط يدك أبايعك؛ فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنابفاكهة، فأصبنا منها؛ ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا؛ وخرج معنا ابن الأشتر؛ فركب مع المختار حتى دخل رحله؛ فلما رجع إبراهيم منصرفًا اخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك؛ أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقًا. قال: فقلت له هذه المقالة؛ وأنا والله لهم على شهادتهم متهم؛ غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم؛ وأحب تمام ذلك الأمر؛ فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك؛ فقال لي ابن الأشتر: أكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف. ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم "؛ هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي؛ حتى على أسماء القوم؛ ثم كتب: شهدوا أن محمد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بموآزرة المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهادة شراحيل ابن عبد - وهو أبو عامر الشعبي الفقيه - وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي. فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال: دعه يكون. ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار. مان وهذا زمان، قال إبراهيم: فمن يعلم أن هذا كتاب ابن الحنفية إلى؟ فقال له: يزيد بن أنس وأحمر بن شميط وعبد الله بن كامل وجماعتهم - قال الشعبي: إلا أنا وأبي - فقالوا نشهد أن هذا كتاب محمد ابن علي إليك، فتأخر إبراهيم عن ذلك عن صدر الفراش فأجلس المختار عليه، فقال أبسط يدك أبايعك؛ فبسط المختار يده فبايعه إبراهيم، ودعا لنابفاكهة، فأصبنا منها؛ ودعا لنا بشراب من عسل فشربنا ثم نهضنا؛ وخرج معنا ابن الأشتر؛ فركب مع المختار حتى دخل رحله؛ فلما رجع إبراهيم منصرفًا اخذ بيدي، فقال: انصرف بنا يا شعبي، قال: فانصرفت معه ومضى بي حتى دخل بي رحله، فقال: يا شعبي، إني قد حفظت أنك لم تشهد أنت ولا أبوك؛ أفترى هؤلاء شهدوا على حق؟ قال قلت له: قد شهدوا على ما رأيت وهم سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب، ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقًا. قال: فقلت له هذه المقالة؛ وأنا والله لهم على شهادتهم متهم؛ غير أني يعجبني الخروج وأنا أرى رأي القوم؛ وأحب تمام ذلك الأمر؛ فلم أطلعه على ما في نفسي من ذلك؛ فقال لي ابن الأشتر: أكتب لي أسماءهم فإني ليس كلهم أعرف. ودعا بصحيفة ودواة، وكتب فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم "؛ هذا ما شهد عليه السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس الأسدي وأحمر بن شميط الأحمسي ومالك بن عمرو النهدي؛ حتى على أسماء القوم؛ ثم كتب: شهدوا أن محمد بن علي كتب إلى إبراهيم بن الأشتر يأمره بموآزرة المختار ومظاهرته على قتال المحلين، والطلب بدماء أهل البيت، وشهد على هؤلاء النفر الذين شهدوا على هذه الشهادة شراحيل ابن عبد - وهو أبو عامر الشعبي الفقيه - وعبد الرحمن بن عبد الله النخعي، وعامر بن شراحيل الشعبي. فقلت له: ما تصنع بهذا رحمك الله؟ فقال: دعه يكون. ودعا إبراهيم عشيرته وإخوانه ومن أطاعه، وأقبل يختلف إلى المختار. قال هشام بن محمد: قال أبومخنف: حدثني يحيى بن أبي عيسى الأزدي، قال: كان حميد بن مسلم الأزدي صديقًا لإبراهيم بن الأشتر؛ وكان يختلف إليه، ويذهب به معه؛ وكان أبراهيم يروح في كل عشية عند المساء، فيأتي المختار، فيمكث عنده حتى تصوب النجوم، ثم ينصرف؛ فمكثوا بذلك يدبرون أمورهم؛ حتى أجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة ست وستين، ووطن على ذلك شيعتهم ومن أجابهم. فلما كان عند غروب الشمس، قام إبراهيم بن الأشتر؛ فأذن؛ ثم إنه استقدم، فصلى بنا المغرب، ثم خرج بنا بعد المغرب حين قلت: أخوك أوالذئب - وهو يريد المختار، - فأقبلنا علينا السلاح، وقد أتى إياس بن مضارب عبد الله بن مطيع فقال: إن المختار خارج عليك إحدى الليلتين؛ قال: فخرج إياس في الشرط، فبعث ابنه إلى الكناسة، وأقبل يسيرحول السوق في الشرط. ثم إن إياس بن مضارب دخل على ابن مطيع، فقال له: إني قد بعثت ابني إلى الكناسة، فلو بعث في كل جبانة في الكوفة عظيمة رجلًا من أصحابك في جماعة من أهل الطاعة؛ هاب المريب الخروج عليك. وقال: فبعث ابن مطيع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس إلى جبانة السبيع، وقال: أكفني قومك، لا أوتين من قبلك، وأحكم أمر الجبانة التي وجهتك إليها، لا يحدثن بها حدث؛ فأوليك العجز والوهن. وبعث كعب بن أبي كعب الخثعمي إلى جبانة بشر، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة كندة، وبعث شمر بن ذي الجوشن إلى جبانة سالم، وبعث عبد الرحمن بن مخنف بن سليم إلى جبانة الصائديين، وبعث يزيد بن الحارث بن رؤيم أبا حوشب إلى جبانة مراد، وأوصى كل رجل أن يكفيه قومه، وألا يؤتى من قبله، وأن يحكم الوجه الذي وجهه فيه؛ وبعث شبث بن ربعى إلى السبخة، وقال: إذا سمعت صوت القوم فوجه نحوهم؛ فكان هؤلاء قد خرجوا يوم الاثنين؛ فنزلوا هذه الجبابين، وخرج إبراهيم بن الأشتر من رحله بعد المغرب يريد إتيان المختار؛ وقد بلغه ان الجبابين قد حشيت رجالًا، وأن الشرط قد أحاطت بالسوق والقصر. قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى، عن حميد بن مسلم، قال: خرجت مع إبراهيم من منزله بعد المغرب ليلة الثلاثاء حتى مررنا بدارعمرو بن حريث، ونحن مع ابن الأشتر كتيبة نحو من مائة، علينا بالدروع، قد كفرنا عليها بالأقبية، ونحن متقلدو السيوف؛ ليسي معنا سلاح إلا السيوف في عواتقنا، والدروع قد سترناها بأقبيتنا؛ فلما مررنا بدار سعيد بن قيس فجزناها إلى دار أسامة، قلنا: مر بنا على دار خالد بن عرفطة، ثم امض بنا إلى بجيلة، فلنمر في دورهم حتى نخرج إلى دار المختار - وكان إبراهيم فتىً حدثًا شجاعًا؛ فكان لا يكره أن يلقاهم - فقال والله لأمرن على دار عمرو بن حريث إلى جانب القصر وسط السوق، ولأرعبن به عدونا ولأرينهم هوانهم علينا. قال: فأخذنا على باب الفيل على دار ابن هبار؛ ثم أخذ ذات اليمين على دار عمرو بن حريث؛ حتى إذا جاوزها ألفيناإياس بن مضارب في الشرط مظهرين السلاح فقال لنا: من أنتم؟ ما أنتم؟ فقال له إبراهيم: أنا إبراهيم بن الأشتر، فقال له ابن مضارب: ما هذا الجمع معك؟ وما تريد؟ والله إن أمرك لمريب وقد بلغني أنك تمر كل عشية هاهنا، وما أنا بتاركك حتى آتي بك الأمير فيرى فيك رأيه. فقال إبراهيم: لا أبًا لغيرك! خل سبيلنا، فقال: كلا والله لا أفعل - ومع إياس بن مضارب رجل من همدان، يقال له أبو قطن، كان يكون مع إمرة الشرطة فهم يكرمونه ويؤثرونه، وكان لابن الأشتر صديقًا - فقال له ابن الأشتر: يا أبا قطن، أدن مني - ومع أبي قطن رمح له طويل -؛ فدنا منه أبو قطن؛ ومعه الرمح؛ هو يرى أن ابن الأشتر يطلب إليه أن يشفع له إلى ابن مضارب ليخلى سبيله؛ فقال إبراهيم - وتناول الرمح من يده: إن رمحك هذا لطويل؛ فحمل به إبراهيم على ابن مضارب، فطعنه في ثغرة نحره فصرعه، وقال لرجل من قومه: انزل عليه فاحتز رأسه، فنزل إليه فاحتز رأسه، وتفرق أصحابه ورجعوا إلى ابن مطيع. فبعث ابن مطيع ابنه راشد بن إياس مكان أبيه على الشرطة، وبعث مكان راشد بن إياس إلى الكناسة تلك الليلة سويد بن عبد الرحمن المنقري أبا القعقاع بن سويد. وأقبل إبراهيم بن الأشتر إلى المختار ليلة الأربعاء. فدخل عليه فقال له إبراهيم: إنا اتعدنا للخروج للقابلة ليلة الخميس. وقد حدث أمر لا بد من الخروج الليلة، قال المختار: ماهو؟ قال: عرض لي إياس بن مضارب في الطريق ليحبسني بزعمه، فقتلته؛ وهذا رأسه مع أصحابي على الباب. فقال المختار: فبشرك الله بخير! فهذا طير صالح، وهذا أول الفتح إن شاء الله. ثم قال المختار: قم يا سعيد بن منقذ، فأشعل في الهرادي النيران ثم ارفعها للمسلمين، وقم أنت يا عبد الله بن شداد؛ فناد " يا منصور أمت "؛ وقم أنت ياسفيان بن ليل، وأنت يا قدامة ابن مالك، فناد: يا لثأرات الحسين! ثم قال المختار: على بدرعي وسلاحي، فأتى به؛ فأخذ يلبس سلاحه ويقول: قد علمت بيضاء حسناء الطلل ** واضحة الخدين عجزاء الكفل أني غداة الروع مقدام بطل ثم إن إبراهيم قال للمختار: إن هؤلاء الرؤس الذين وضعهم ابن مطيع في الجبابين يمنعون إخواننا أن يأتونا، ويضيقون عليهم؛ فلو أنى خرجت بمن معي من أصحابي حتى آتى قومي؛ فيأتيني كل من قد بايعني من قومي، ثم سرت بهم في نواحي الكوفة، ودعوت بشعارنا؛ فخرج إلى من أراد الخروج إلينا، ومن قدر على إتيانك من الناس؛ فمن أتاك حبسته عندك إلى من معك ولم تفرقهم؛ فإن عوجلت فأتيت كان معك من تمتنع به؛ وأنا لو قد فرغت من هذا الأمر عجلت إليك في الخيل والرجال. قال له. إمالا فاعجل وإياك أن بسير إلى أميرهم تقاتله. ولا تقاتل أحدًا وأنت تستطيع ألا تقاتل، واحفظ ما أوصيتك به إلا أن يبدأك أحد بقتال. فخرج إبراهيم بن الأشتر من عنده في الكتيبة التي أقبل فيها؛ حتى أتى قومه، واجتمع إليه جل من كان بايعه وأجابه. ثم إنه سار بهم في سكك الكوفة طويلًا من الليل؛ وهو في ذلك يتجنب السكك التي فيها الأمراء، فجاء إلى الذين معهم الجماعات الذين وضع ابن مطيع في الجبابين وأفواه الطرق العظام، حتى انتهى إلى مسجد السكون، وعجلت إليه خيل من خيل زحر بن قيس الجعفي ليس لهم قائد ولا عليهم أمير. فشد عليهم إبراهيم بن الأشتر وأصحابه، فكشفوهم حتى دخلوا جبانة كندة. فقال إبراهيم: من صاحب الخيل في جبانة كندة؟ فشد إبراهيم وأصحابه عليهم، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا غضبنا لأهل بيت نبيك، وثرنا لهم. فانصرنا عليهم، وتمم لنا دعوتنا؛ حتى أنتهى إليهم هو وأصحابه. فخالطوهم وكشفوهم فقيل له: زحر بن قيس؛ فقال: انصرفوا بنا عنهم. فركب بعضهم بعضًا كلما لقيهم زقاق دخل منهم طائفة، فانصرفوا يسيرون. ثم خرج إبراهيم يسير حتى انتهى إلى جبانة أثير، فوقف فيها طويلًا، ونادى أصحابه بشعارهم، فبلغ سويد بن عبد الرحمن المنقري مكانهم في جبانة أثير، فرجا أن يصيبهم فيحظى بذلك عند ابن مطيع، فلم يشعر ابن الأشتر إلا وهم معه في الجبانة، فلما رأى ذلك ابن الأشتر قال لأصحابه: يا شرطة الله، انزلوا فإنكم أولى بالنصر من الله من هؤلاء الفساق الذين خاضوا دماء أهل بيت رسول الله ﷺ. فنزلوا ثم شد عليهم إبراهيم، فضربهم حتى أخرجهم من الصحراء، ولوا منهزمين يركب بعضهم بعضًا، وهم يتلاومون، فقال قائل منهم: إن هذا الأمر يراد؛ ما يلقون لنا جماعة إلا هزموهم! فلم يزل يهزمهم حتى أدخلهم الكناسة. وقال أصحاب إبراهيم لإبراهيم: اتبعهم واغتنم ما قد دخلهم من الرعب، فقد علم الله إلى من ندعو وما نطلب. وإلى من يدعون وما يطلبون! قال: لا، ولكن سيروا بنا إلى صاحبنا حتى يؤمن الله بنا وحشته، ونكون من أمره على علم، ويعلم هو أيضًا ما كان من عنائنا، فيزداد هو وأصحابه قوة وبصيرة إلى قواهم وبصيرتهم، مع أنى لا آمن أن؟ يكون قد أتى. فأقبل إبراهيم في أصحابه حتى مر بمسجد الأشعث، فوقف به ساعة، ثم مضى حتى أتى دار المختار، فوجد الأصوات عالية، والقوم يقتلون، وقد جاء شبث بن ربعى من قبل السبخة، فعبى له المختار يزيد بن أنس، وجاء حجار بن أبجر العجلي. فجعل المختار في وجهه أحمر بن شميط، فالناس يقتلون، وجاء إبراهيم من قبل القصر، فبلغ حجارًا وأصحابه أن إبراهيم قد جاءهم من ورائهم، فتفرقوا قبل أن يأتيهم إبراهيم، وذهبوا في الأزقة والسكك، وجاء قيس بن طهفة في قريب من مائة رجل من بني نهد من أصحاب المختار، فحمل على شبث بن ربعي وهو يقاتل يزيد بن أنس، فخلى لهم الطريق حتى اجتمعوا جميعًا. ثم إن شبث بن ربعي ترك لهم السكة، وأقبل حتى لقي ابن مطيع، فقال: ابعث إلى أمراء الجبابين فمرهم فليأتوك، فاجمع إليك جميع الناس، ثم انهد إلى هؤلاء القوم فقاتلهم وابعث إليهم من تثق به فليكفك قتالهم، فإن أمر القوم قد قوي، وقد خرج المختار وظهر، واجتمع له أمره. فلما بلغ ذاك المختار من مشورة شبث بن ربعي على ابن مطيع خرج المختار في جماعة من أصحابه حتى نزل في ظهر دير هند مما يلي بستان زائدة في السبخة. قال: وخرج أبو عثمان النهدي فنادى في شاكر وهم مجتمعون في دورهم، يخافون أن يظهروا في الميدان لقرب كعب بن أبي كعب الخثمعي منهم، وكان كعب في جبانة بشر، فلما بلغه أن شاكرًا تخرج جاء يسير حتى نزل بالميدان، وأخذ عليهم بأفواه سككهم وطرقهم. قال: فلما أتاهم أبو عثمان النهدي في عصابة من أصحابه، نادى: يا لثأرات الحسين! يا منصور أمت! يا أيها الحي المهتدون، ألا إن أمير آل محمد ووزيرهم. قد خرج فنزل دير هند، وبعثني إليكم داعيًا ومبشرًا، فاخرجوا إليه يرحمكم الله! قال: فخرجوا من الدور يتداعون: يا لثأرات الحسين! ثم ضاربوا كعب بن أبي كعب حتى خلى لهم الطريق، فأقبلوا إلى المختار حتى نزلوا معه في عسكره، وخرج عبد الله بن قراد الخثمعي في جماعة من خثعم نحو المائتين حتى لحق بالمختار، فنزلوا معه في عسكره، وقد كان عرض له كعب بن أبي كعب فصافه. فلما عرفهم ورأى أنهم قومه خلى عنهم. ولم يقاتلهم. وخرجت شبام من آخر ليلتهم فاجتمعوا إلى جبانة مراد، فلمابلغ ذلك عبد الرحمن بن سعيد بن قيس بعث إليهم: إن كنتم تريدون اللحاق بالمختار فلا تمروا على جبانة السبيع، فلحقوا بالمختار. فتوافى إلى المختارثلاثة آلاف وثمانمائة من اثني عشر ألفًا كانوا بايعوه، فاستجمعوا له قبل انفجار الفجر. فأصبح قد فرغ من تعبيتة. قال أبو مخنف: فحدثني الوالي قال: خرجت أنا وحميد بن مسلم؛ والنعمان بن أبي الجعد إلى المختار ليلة خرج. فأتيناه في داره، وخرجنا معه إلى معسكره؛ قال: فو الله ما انفجر الفجر حتى فرغ من تعبيته؛ فلماأصبح استقدم، فصلى بنا الغداة بغلس، ثم قرأ " والنازعات " و " عبس وتولى " قال: فما سمعنا إمامًا أم قومًا أفصح لهجة منه. قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن ابن مطيع بعث إلى أهل الجبابين. فأمرهم أن ينضموا إلى المسجد، وقال لراشد بن إياس بن مضارب: ناد في الناس فليأتوا المسجد، فنادى المنادي: ألا برئت الذمة من رجل لم يحضر المسجد الليلة! فتوافى الناس في المسجد، فلما اجتمعوا بعث ابن مطيع شبث بن ربعي في نحو من ثلاثة ألاف إلى المختار، وبعث راشد بن إياس في أربعة آلاف من الشرط. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت التيمي عن أبي سعيد الصيقل، قال: لما صلى المختار الغداة ثم انصرف سمعنا أصواتًا مرتفعة فيما بين بني سليم وسكة البريد، فقال المختار: من يعلم لنا علم هؤلاء ما هم؟ فقلت له: أنا أصلحك الله! فقال المختار: إما لا فألق سلاحك وانطلق حتى تدخل فيهم كأنك نظار، ثم تأتيني بخبرهم. قال: ففعلت، فلما دنوت منهم إذا مؤذنهم يقيم، فجئت حتى دنوت منهم فإذا شبث بن ربعي معهم خيل عظيمة، وعلى خيله شيبان بن حريث الضبي، وهو في الرجالة معهم منهم كثرة، فلما أقام مؤذنهم تقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: " إذا زلزلت الأرض زلزالها "، فقلت في نفيس: أما والله إني لأرجو أن يزلزل الله بكم، وقرأ: " والعاديات ضبحًا "، فقال أناس من أصحابه: لو كنت قرأت سورتين هما أطول من هاتين شيئًا! فقال شبث: ترون الديلم قد نزلت بساحتكم، وأنتم تقولون: لو قرأت سورة البقرة وآل عمران! قال: وكانوا ثلاثة آلاف قال: فأبلت سريعًا حتى أتيت المختار فأخبرته بخبر شبث وأصحابه، وأتاه معي ساعة أتيته سعر بن أبي سعر الحنفي يركض من قبل مراد، وكان ممن بايع المختار فلم يقدر على الخروج معه ليلة خرج مخافة الحرس، فلما أصبح أقبل على فرسه، فمر بجبانة مراد؛ وفيها راشد بن إياس، فقالوا: كما أنت! ومن أنت؟ فراكضهم حتى جاء المختار، فأخبره خبر راشد، وأخبرته أنا خبر شبث، قال: فسرح إبراهيم بن الأشتر قبل راشد بن إياس في تسعمائة - ويقال ستمائة فارس وستمائة راجل - وبعث نعيم بن هبيرة أخا مصقلة بن هبيرة في ثلثمائة فارس وستمائة راجل، وقال لهما: امضيا حتى تلقيا عدوكما، فإذا لقيتماهم فانزلا في الرجال وعجلا الفراغ وابدآهم بالإقدام، ولا تستهدفا لهم؛ فإنهم أكثر منكم، ولا ترجعا إلي حتى تظهرا أن تقتلا. فتوجه إبراهيم إلى راشد، وقدم المختار يزيد بن أنس في موضع مسجد شبث في تسعمائة أمامه. وتوجه نعيم بن هبيرة قبل شبث. قال أبو مخنف: قال أبو سعيد الصيقل: كنت أنا فيمن توجه مع نعيم ابن هبيرة إلى شبث ومعي سعر بن أبي سعر الحنفي، فلما انتهينا إليه قاتلناه قتالًا شديدًا، فجعل نعيم بن هبيرة سعر بن أبي سعر الحنفي على الخيل، ومشى هو في الرجال فقاتلهم حتى أشرقت الشمس وانبسطت، فضربناهم حتى أدخلناهم البيوت؛ ثم إن شبث بن ربعي ناداهم: يا حماة السوء! بئس فرسان الحقائق أنتم! أمن عبيدكم تهربون! قال: فثابت إليه منهم جماعة فشد علينا وقد تفرقنا فهزمنا، وصبر نعيم بن هبيرة فقتل، ونزل سعر فأسروأسرت أنا وخليد مولى حسان بن محدوج، فقال شبث لخليد - وكان وسيمًا جسيمًا: من أنت؟ فقال: خليد مولى حسان بن محدوج الذهلي، فقال له شبث: يا بن المتكاء، تركت بيع الصحناة بالكناسة وكان جزاء من أعتقك أن تعدو عليه بسيفك تضرب رقابه! اضربوا عنقه، فقتل، ورأى سعرًا الحنفي فعرفه، فقال: أخو بني حنيفة؟ فقال له: نعم، فقال: ويحك! ما أردت إلى اتباع هذه السبيئة! قبح الله رأيك، دعوا ذا. فقلت في نفسي: قتل المولى وترك العربي؛ إن علم والله إني مولى قتلني. فلما عرضت عليه قال: من أنت؟ فقلت: من بني تيم الله؛ قال: أعربي أنت أو مولى؟ فقلت: لا بل عربي، أنا من آل زياد بن خصفة، فقال: بخ بخ! ذكرت الشريف المعروف، الحق بأهلك. قال: فأقبلت حتى انتهيت إلى الحمراء، وكانت لي في قتال القوم بصيرة، فجئت حتى انتهيت إلى المختار؛ وقلت في نفسي: والله لآتين أصحابي فلأواسينهم بنفسي، فقبح الله العيش بعدهم! قال: فأتيتهم وقد سبقني إليهم سعر الحنفي، وأقبلت إليه خيل شبث، وجاءه قتل نعيم بن هبيرة، فدخل من ذلك أصحاب المختار أمر كبير؛ قال: فدنوت من المختار، فأخبرته بالذي كان من أمري، فقال لي: اسكت، فليس هذا بمكان الحديث. وجاء شبث حتى أحاط بالمختار وبيزيد بن أنس وبعث ابن مطيع يزيد بن الحارث بي رؤيم في ألفين من قبل سكة لحام جرير، فوقفوا في أفواه تلك السكك. وولى المختار يزيد بن أنس خيله، وخرج هو في الرجالة. قال أبو مخنف: فدثني الحارث بن كعب الوالي؛ والبة الأزد، قال: حملت علينا خيل شبث بن ربعي حملتين. فما يزول من رجل من مكانه، فقال يزيد بن أنس لنا: يا معشر الشيعة، قد كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم، وتسمل أعينكم، وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم؛ وأنتم مقيمون في بيوتكم، وطاعة عدوكم. فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذًا والله لا يدعون منكم عينًا تطرف، وليقتلنكم صبرًا، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلى الصدق والصبر. والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم. فتيسروا للشدة. وتهيئوا للحملة، فإذا ركت رايتي مرتين فاحملوا. قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجشونًا على الركب، وانتظرنا أمره. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتركان حين توجه إلى راشد بن إياس، مضى حتى لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غلبت فئة كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين، ثم قال: يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قدمًا قدمًا، واقتتل الناس، فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشدًا ورب الكعبة. وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد بيشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين. فاعترض إبراهيم بن الأشتر فوبق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشي إبراهيم نحوه في الرجال. فقال: والله ما اطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف، حتى، انهزموا. وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة بن نصر، فلما رآه عرفه، فقال له: يا حسان بن فائد، أما والله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء، فعثر بحسان فرسه فوقع. فقال: تعسًا لك؛ أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به. فضاربهم ساعةً بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر، قال: إنك آمن يا أبا عبد الله، لا تقتل نفسك، وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه، ومر به إبراهيم، فقال لهنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم! إذًا والله لا يدعون منكم عينًا تطرف، وليقتلنكم صبرًا، ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه، والله لا ينجيكم منهم إلى الصدق والصبر. والطعن الصائب في أعينهم، والضرب الدراك على هامهم. فتيسروا للشدة. وتهيئوا للحملة، فإذا ركت رايتي مرتين فاحملوا. قال الحارث: فتهيأنا وتيسرنا، وجشونًا على الركب، وانتظرنا أمره. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي أن إبراهيم بن الأشتركان حين توجه إلى راشد بن إياس، مضى حتى لقيه في مراد، فإذا معه أربعة آلاف، فقال إبراهيم لأصحابه: لا يهولنكم كثرة هؤلاء، فو الله لرب رجل خير من عشرة، ولرب فئة قليلة قد غلبت فئة كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين، ثم قال: يا خزيمة بن نصر، سر إليهم في الخيل. ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع مزاحم بن طفيل، فأخذ إبراهيم يقول له: ازدلف برايتك، امض بها قدمًا قدمًا، واقتتل الناس، فاشتد قتالهم، وبصر خزيمة بن نصر العبسي براشد بن إياس، فحمل عليه فطعنه، فقتله، ثم نادى: قتلت راشدًا ورب الكعبة. وانهزم أصحاب راشد، وأقبل إبراهيم بن الأشتر وخزيمة بن نصر ومن كان معهم بعد قتل راشد نحو المختار، وبعث النعمان بن أبي الجعد بيشر المختار بالفتح عليه وبقتل راشد، فلما أن جاءهم البشير بذلك كبروا، واشتدت أنفسهم، ودخل أصحاب ابن مطيع الفشل، وسرح ابن مطيع حسان بن فائد بن بكير العبسي في جيش كثيف نحو من ألفين. فاعترض إبراهيم بن الأشتر فوبق الحمراء ليرده عمن في السبخة من أصحاب ابن مطيع، فقدم إبراهيم خزيمة بن نصر إلى حسان بن فائد في الخيل، ومشي إبراهيم نحوه في الرجال. فقال: والله ما اطعنا برمح، ولا اضطربنا بسيف، حتى، انهزموا. وتخلف حسان بن فائد في أخريات الناس يحميهم، وحمل عليه خزيمة بن نصر، فلما رآه عرفه، فقال له: يا حسان بن فائد، أما والله لولا القرابة لعرفت أني سألتمس قتلك بجهدي، ولكن النجاء، فعثر بحسان فرسه فوقع. فقال: تعسًا لك؛ أبا عبد الله! وابتدره الناس فأحاطوا به. فضاربهم ساعةً بسيفه، فناداه خزيمة بن نصر، قال: إنك آمن يا أبا عبد الله، لا تقتل نفسك، وجاء حتى وقف عليه ونهنه الناس عنه، ومر به إبراهيم، فقال له خزيمة: هذا ابن عمي وقد آمنته؛ فقال له إبراهيم: أحسنت، فأمر خزيمة بطلب فرسه حتى أتى به، فحمله عليه. وقال: الحق بأهلك. قال: وأقبل إبراهيم نحو المختار، وشبث محيط بالمختار ويزيد بن أنس. فلما رآه يزيد بن الحارث وهو على أفواه سكك الكوفة التي تلي السبخة، وإبراهيم مقبل نحو شبث، أقبل نحوه ليصده عن شبث وأصحابه، فبعث إبراهيم طائفةً من أصحابه مع خزيمة بن نصر، فقال: أغن عنا يزيد بن الحارث. وصمد هو في بقية أصحابه نحو شبث بن ربعي. قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن كعب أن إبراهيم لما أقبل نحونارأينا شبشًا وأصحابه ينكصون وراءهم رويدًا، فلما دنا إبراهيم من شبث وأصحابه. حمل عليهم. وأمرنا يزيد بن أنس بالحملة عليهم، فحملنا عليهم، فانكشفوا حتى انتهوا إلى أبيات الكوفة، وحمل خزيمة ابن نصر على يزيد بن الحارث بن رؤيم فهزمه، وازدحموا على أفواه السكك، وقد كان يزيد بن الحارث وضع راميةً على أفواه السكك فوق البيوت، وأقبل المختار في جماعة الناس إلى يزيد بن الحارث، فلما انتهى أصحاب المختار إلى أفواه السكك رمته تلك الرامية بالنبل، فصدوهم عن دخول الكوفة من ذلك الوجه، ورجع الناس من السبخة منهزمين إلى ابن مطيع، وجاءه قتل راشد بن إياس. فأسقط في يده. قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن هانئ، قال: قال عمرو بن الحجاج الزبيدي لا بن مطيع: أيها الرجل لا يسقط في خلدك، ولا تلق بيدك، اخرج إلى الناس فاندبهم إلى عدوك فاغزهم، فإن الناس كثيرعددهم، وكلهم معك إلى هذه الطاغية التي خرجت على الناس، والله مخزيها ومهلكها، وأنا أول منتدب، فاندب معي طائفة، ومع غيري طائفة. قال: فخرج ابن مطيع، فقام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس، إن من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها، خبيث دينها. ضالة مضلة. اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم وقاتلوهم عن مصركم، وامنعوا منهم فيئكم، وإلى والله ليشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه. والله لقد بلغني أن فيهم خمسمائة رجل من محرريكم عليهم أمير منهم، وإنما ذهاب عزكم وسلطانكم وتغير دينكم حين يكثرون. " ثم نزل. قال: ومنعهم يزيد بن الحارث أن يدخلوا الكوفة. قال: ومضى المختارمن السبخة حتى ظهر على الجبانة، ثم ارتفع إلى البيوت؛ بيوت مزينة وأحمس وبارق، فنزل عند مسجدهم وبيوتهم، وبيوتهم شاذة منفردة من بيوت أهل الكوفة، فاستقبلوه بالماء، فسقى أصحابه، وأبى المختار أن يشرب. قال: فظن أصحابه أنه صائم، وقال أحمر بن هديج من همدان لابن كامل: أترى الأمير صائمًا؟ فقال له: نعم، هو صائم، فقال له: فلو أنه كان في هذا اليوم مفطرًا كان أقوى له: إنه معصوم، وهو أعلم بما يصنع؛ فقال له: صدقت. أستغفر الله. وقال المختار: نعم مكان المقاتل هذا، فقال له: إبراهيم بن الأشتر: قد هزمهم الله وفلهم، وأدخل الرعب قلوبهم، وتنزل هاهنا! سر بنا، فو الله ما دون القصر أحد يمنع، ولا يمتنع لبير امتناع؛ فقال المختار: ليقم هاهنا كل شيخ ضعيف وذي علة. وضعوا ما كان لكم من ثقل ومتاع بهذا الموضع حتى تسيروا إلى عدونا. ففعلوا، فاستخلف المختار عليهم أبا عثمان النهدي، وقدم إبراهيم بن الأشتر أماه، وعبى أصحابه على الحال التي عليها في السبخة. قال: وبعث عبد الله بن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فخرج عليهم من سكة الثوريين، فبعث المختار إلى إبراهيم أن اطوه ولا تقم عليه. فطواه إبراهيم، ودعا المختار يزيد بن أنس، فأمره أن يصمد لعمرو بن الحجاج، فمضى نحوه، وذهب المختار في إبراهيم، فمضوا جميعًا حتى إذا انتهى المختار إلى موضع مصلى خالد بن عبد الله وقف، وأمر إبراهيم أن يمضى على وجهه حتى يدخل الكوفة من قبل الكناسة، فمضى، فخرج إليه من سكة ابن محرز، وأقبل شمر بن ذي الجوشن في ألفين، فسرح المختارإليه سعيد بن منقذ الهمداني فواقعه، وبعث إلى إبراهيم أن اطوه، وامض على وجهك. فمضى حتى انتهى إلى سكة شبث، وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في نحو من ألفين - أو قال: خمسة آلاف. وهو الصحيح - وقد أمر ابن مطيع سويد بن عبد الرحمن فنادى في الناس: أن الحقوا بابن مساحق. قال: واستخلف شبث بن ربعي على القصر، وخرج ابن مطيع حتى وقف بالكناسة. قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، قال: إني لأنظر إلى ابن الأشتر حين أقبل في أصحابه، حتى إذا دنا منهم قال لهم: انزلوا، فنزلوا، فقال: قربوا خيولكم بعضها إلى بعض، ثم امشوا إليهم مصلتين بالسيوف، ولا يهولنكم أن يقال: جاءكم شبث بن ربعي وآل عتيبة بن النهاس وآلاالأشعث وآل فلان وآل يزيد بن الحارث قال: فسمى بيوتات من بيوتات أهل الكوفة، ثم قال: إن هؤلاء لو قد وجدوا لهم حر السيوف قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزي عن الذئب. قال حصيرة: فإني لأنظر إليه وإلى أصحابه حين قربوا خيولهم وحين أخذ ابن الأشتر أسفل قبائه فرفعه فأدخله في منطقة له حمراء من حواشي البرود، وقد شد بها على القباء، وقد كفر بالقباء على الدرع، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم فدى لكم عمي وخالي! قال: فو الله ما لبثهم أن هزمهم؛ فركب بعضهم بعضًا على فم السكة وازدحموا، وانتهى ابن الأشتر إلى ابن مساحق، فأخذ بلجام دابته، ورفع السيف عليه، فقال له ابن مساحق: يابن الأشتر، لسيف عليه، فقال له ابن مساحق: يابن الأشتر أنشدك الله، أتطلبني بثأر! هل بيني وبينك من إحنة! فخلى ابن الأشتر سبيله، وقال له: اذكرها؛ فكان بعد ذلك ابن مساحق يذكرها لابن الأشتر، وأقبلوا يسيرون حتى دخلوا الكناسة في آثار القوم حتى دخلوا السوق والمسجد، وحصروا ابن مطيع ثلاثًا. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أن ابن مطيع مكث ثلاثًا، يرزق أصحابه في القصر حيث حصر الدقيق، ومعه أشراف الناس، إلاما كان من عمرو بن حريث، فإنه أتى داره ولم يلزم نفسه الحصار، ثم خرج حتى نزل البر، وجاء المختار حتى نزل جانب السوق، وولى حصارالقصر إبراهيم بن الأشتر، ويزيد بن أنسن وأحمر بن شميط، فكان ابن الأشتر مما يلي المسجد وباب القصر، ويزيد بن أنس مما يلي بني حذيفة وسكة دار الروميين، وأحمر بن شميط مما يلي دار عمارة ودار أبي موسى. فلما اشتد الحصار على ابن مطيع وأصحابه كلمه الأشراف، فقام إليه شبث فقال: أصلح الله الأمير! انظر لنفسك ولمن معك، فو الله ما عندهم غناء عنك ولا عن أنفسهم. قال ابن مطيع: هاتوا، أشيروا علي برأيكم؛ قال شبث: الرأي أن تأخذ لنفسك من هذا الرجل أمانًا ولنا، وتخرج ولا تهلك نفسك ومن معك. قال ابن مطيع: والله إني لأكره أن آخذ منه أمانًا والأمور مستقيمة لأمير المؤمنين بالحجاز كله وبأرض البصرة؛ قال: فتخرج لا يشعر بك أحد حتى تنزل منزلا بالكوفة عند من تستنصحه وتثق به، ولا يعلم بمكانك حتى تخرج فتلحق بصاحبك؛ فقال لأسماء بن خارجة وعبد الرحمن بن مخنف وعبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشراف أهل الكوفة: ما ترون في هذا الرأي الذي أشار به على شبث؟ فقالوا: مانرى الرأي إلا ما أشار به عليك، قال: فرويدًا حتى أمسي. قال أبو مخنف: فحدثني أبو المغلس الليثي، أن عبد الله بن عبد الله الليثي أشرف على أصحاب المختار من القصر من العشي يشتمهم، وينتحي له مالك بن عمرو أبو نمران النهدي بسهم، فيمر بحلقه، فقطع جلدةً من حلقه فمال فوقع؛ قال: ثم إنه قام وبرأ بعد؛ وقال النهدي حين أصابه: خذها من مالك، من فاعل كذا. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صاح، عن حسان بن فائد بن بكير، قال لما أمسينا في القصر في اليوم الثالث، دعانا ابن مطيع، فذكرالله بما هو أهله. وصلى على نبيه ﷺ وقال: أما بعد، فقد علمت الذين صنعوا هذا منكم من هم؛ وقد علمت أنما هم أراذلكم وسفهاؤكم وطغامكم وأخساؤكم، ما عدا الرجل أو الرجلين، وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم لم يزالوا سامعين مناصحين، وأنا مبلغ ذلك صاحبي، ومعلمه طاعتكم وجهادكم عدوه، حتى كان الله الغالب على أمره، وقد كان من رأيكم وما أشرتم به على ما قد علمتم، وقد رأيت أن أخرج الساعة. فقال له شبث: جزاك الله من أمير خيرًا! فقد والله عففت عن أموالنا، أكرمت أشرافنا، ونصحت لصاحبك، وقضيت الذي عليك، والله ما كنا لنفارقك أبدًا إلا ونحن منك في إذن، فقال: جزاكم الله خيرًا، أخذ امرؤ حيث أحب، ثم خرج من نحو دروب الروميين حتى أتى دار أبي موسى، وخلى القصر، وفتح أصحابه الباب، فقالوا: يا ابن الأشتر، آمنون نحن؟ قال: أنتم آمنون؛ فخرجوا فبايعوا المختار. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر العدوي؛ من عدى جهينة - وهو أبو الأشعر - أن المختار جاء حتى دخل القصر، فبات به، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر، وخرج المختار فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه، فقال: الحمد لله الذي وعد وليه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه آخر الدهر، وعدًا مفعولًا، وقضاءً مقضيًا، وقد خاب من افترى. أيها الناس، إنه رفعت لنا راية، ومدت لنا غاية، فقيل لنا في الراية: أن ارفعوها ولا تضعوها، وفي الغاية: أن اجروا إليها ولا تعدوها، فسمعنا دعوة الداعي، ومقالة الواعي؛ فكم من ناع وناعية، لقتلي في الواعية! وبعدًا لمن طغى وأدبر، وعصى وكذب وتولى، ألا فادخلوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى، فلا والذي جعل السماء سقفًا مكفوفًا، والأرض فجاجًا سبلا، ما بايعتم بعد علي بن أبي طالب وآل على أهدى منها. ثم نزل فدخل، ودخلنا عليه وأشراف الناس، فبسط يده، وابتدره الناس فبايعوه، وجعل يقول: تبايعوني على كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل البيت، وجهاد المحلين، والدفع عن الضعفاء، وقتال من قاتلنا، وسلم من سالمنا، والوفاء ببيعتنا، لا نقيلكم ولا نستقيلكم؛ فإذا قال الرجل: نعم، بايعته. قال: فكأني والله أنظر إلى المنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذأتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفًا عن المصطبة، فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح به سعيد بنالمنذر بن حسان بن ضرار الضبي إذأتاه حتى سلم عليه بالإمرة، ثم بايعه وانصرف عنه، فلما خرج من القصر استقبل سعيد بن منقذ الثوري في عصابة من الشيعة واقفًا عن المصطبة، فلما رأوه ومعه ابنه حيان بن المنذر، قال رجل من سفهائهم: هذا والله من رءوس الجبارين، فشدوا عليه وعلى ابنه، فقتلوهما، فصاح به سعيد بن منقذ: لا تعجلوا، لاتعجلوا حتى ننظر مارأى أميركم فيه، قال: وبلغ المختار ذلك، فكرهه حتى رئى ذلك في وجهه، وأقبل المختار يمني الناس، ويستجر مودتهم ومودة الأشراف، ويسحن السيرة جهده. قال: وجاءه ابن كامل فقال للمختار، أعلمت أن ابن مطيع في دار أبي موسى؟ فلم يجبه بشئ، فأعادها عليه ثلاث مرات فلم يجبه، ثم أعادها فلم يجيبه، فظن ابن كامل أن ذلك لا يوافقه، وكان ابن مطيع قبل للمختار صديقًا، فلما أمسى بعث إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم فقال له: تجهز بهذه واخراج؛ فإني قد شعرت بمكانك، وقد ظننت أنه لم يمنعك من الخروج إلى أنه ليس في يديك ما يقويك على الخروج. وأصاب المختار تسعة آلاف ألف في بيت مال الكوفة، فأعطى أصحابه الذين قاتل بهم حين حصر ابن مطيع في القصر - وهم ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل - كل رجل خمسمائة درهم خمسمائة درهم، وأعطى ستة آلاف من أصحابه أتوه بعد ما أحاط بالقصر، فأقاموا معه تلك الليلة وتلك الثلاثة الأيام حتى دخل القصر مائتين مائتين، واستقبل الناس بخير، ومناهم العدل وحسن السيرة، وأدنى الأشراف، فكانوا جلساءه وحداثه، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى حرسه كيسان أبا عمرة مولى عربته؛ فقام ذات يوم على رأسه، فرأى الأشراف يحدثونه، ورآه قد أقبل بوجهه وحديثه عليهم، فقال لأبي عمرة بعض أصحابه من الموالي: أما ترى أبا إسحاق قد أقبل على العرب ما ينظر إلينا! فدعاه المختار فقال له: ما يقول لك أولئك الذين رأيتهم يكلمونك؟ فقال له - وأسر إليه: شق عليهم أصلحك الله صرفك وجهك عنهم إلى العرب، فقال له: قل لهم: لا يشقن ذلك عليكم، فأنتم مني وأنا منكم، ثم سكت طويلًا، ثم قرأ: " إنا من المجرمين منتقمون " قال: فحدثني أبو الأشعر موسى بن عامر قال: ماهو إلى أن سمعها الموالي منه، فقال بعضهم لبعض: أبشروا، كأنكم والله به قد قتلهم. قال أبو مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله الأزدي وفضيل بن خديج الكندي والنضر بن صالح العبسي، قالوا: أول رجل عقد له المختارراية عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، عقد له على أرمينية، وبعث محمد ابن عمير بن عطارد على آذربيجان، وبعث عبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل، وبعث إسحاق بن مسعود على المدائن وأرض جوخى، وبعث قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري، وهو حليف لثقيف على بهقباذ الأعلى، وبعث محمد بن كعب بن قرظة على بهقباذ الأوسط، وبعثحبيب بن منقذ الثوري على بهقباذ الأسفل، وبعث سعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان، وكان مع سعد بن حذيفة ألفا فارس بحلوان. قال: ورزقه ألف درهم في كل شهر، وامره بقتال الأكراد، وبإقامة الطرق، وكتب إلى عماله على الجبال يأمرهم أن يحملوا أموال كورهم إلى سعد بن حذيفة بحلوان، وكان عبد الله بن الزبير قد بعث محمد بن الأشعث بن قيس على الموصل وأمر بمكاتبة ابن مطيع وبالسمع له والطاعة، غير أن ابن مطيع لا يقدر على عزله إلا بأمر ابن الزبير، وكان قبل ذلك في إمارة عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد منقطعًا بإمارة الموصل، لا يكاتب أحدًا دون ابن الزبير. فلما قدم عليه عبد الرحمنبن سعيد بن قيس من قبل المختار أميرًا تنحى له عن الموصل، وأقبل حتى نزل تكريت، وأقام بها مع أناس من أشراف قومه وغيرهم، وهو معتزل ينظر ما يصنع الناس، وإلى ما يصير أمرهم، ثم شخص إلى المختار فبايع له، ودخل فيما دخل فيه أهل بلده. قال أبو مخنف: وحدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما ظهر المختار واستمكن، ونفى ابن مطيع وبعث عماله، أقبل يجلس للناس غدوةً وعشية، فيقضى بين الخصمين، ثم قال: والله إن لي فيما أزاول وأحاول لشغلا عن القضاء بين الناس، قال: فأجلس للناس شريحًا، وقضى بين الناس، ثم إنه خافهم فمارض، وكانوا يقولون: إنه عثماني، وإنه ممن شهد على حجر بن عدي، وإنه لم يبلغ عن هاني ابن عروة ما أرسله به - وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء - فلماأن سمع بذلك ورآهم يذمونه ويسندون إليه مثل هذا القول تمارض، وجعلالمختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود. ثم إن عبد الله مرض، فجعل مكانهعبد الله بن مالك الطائي قاضيًا. قال مسلم بن عبد الله: وكان قبد الله بن همام سمع أبا عمرة يذكر الشيعة وينال من عثمان بن عفان، فقنعه بالسوط، فلما ظهر المختار كان معتزلًاحتى استأمن له عبد الله بن شداد، فجاء إلى المختار ذات يوم فقال: ألا انتسأت بالود عنك وأدبرت ** معالنةً بالهجر أم سريع وحملها واش سعى غير مؤتل ** فابت بهم في الفؤاد جميع فخفض عليك الشأن لايردك الهوى ** فليس انتقال خلة ببديع وفي ليلة المختارما يذهل الفتى ** ويلهيه عن رؤد الشباب شموع دعا يالثأرات الحسين فأقبلت ** كتائب من همدان بعد هزيع ومن مذحج جاء الئيس ابن مالك ** يقود جموعًا عبيت بجموع ومن أسد وافى يزيد لنصره ** بكل فتى حامي الذمار منيع وجاء نعيم خير شيبان كلها ** بأمر لدى الهيجا أحد جميع وما ابن شميط إذ يحرض قومه ** هناك بمخذول ولا بمضيع ولا قيس نهد لا ولا ابن هوزان ** وكل أخو إخباتة وخشوع وسار أبو النعمان لله سعيه ** إلى ابن إياس مصحرًا لوقوع بخيل عليها يوم هيجا دروعها ** وأخرى حسورًا غير ذات دروع فكر الخيول كرةً ثقفتهم ** وشد بأولاها على ابن مطيع فولى بضرب يشدخ الهام وقعه ** وطعن غداة السكتين وجيع فحوصر في دار الإمارة بائيًا ** بذل وإرغام له وخضوع فمن وزير ابن الوصى عليهم ** وكان له في الناس خير شفيع وآب الهدى حقًا إلى مستقره ** بخير إياب آبه ورجوع إلى الهاشمي المهتدى به ** فنحن له من سامع ومطيع قال: فلما أنشدها المختار قال المختار لأصحابه: قد أثنى عليكم كما تسمعون، وقد أحسن الثناء عليكم، فأحسنوا له الجزاء. ثم قام المختار، فدخل وقال لأصحابه: لا تبرحوا حتى أخرج إليكم؛ قال: وقال عبد الله ابن شداد الجشمي: يابن همام: إن لك عندي فرسًا ومطرفًا، وقال قيس بن طهفة النهدي - وكانت عنده الرباب بنت الأشعث: فإن لك عندي فرسًا ومطرفًا، واستحيا أن يعطيه صاحبه شيئًا لا سعطى مثله، فقال ليزيد بن أنس: فما تعطيه؟ فقال يزيد: إن كان ثواب الله أراد بقوله فما عندالله خير له، وإن كان إنما اعترى بهذا القول أموالنا، فو الله ما في أموالنا ما يسعه؛ قد كانت بقيت من عطائي يقية فقويت بها إخواني؛ فقال أحمر بن شميط مبادرًا لهم قبل أن يكلموه: يا بن همام، إن كنت أردت بهذا القول وجه الله فاطلب ثوابك من الله، وإن كنت إنما اعتريت به رضاالناس وطلب أموالهم، فاكدم الجندل؛ فو الله ما من قال قولا لغير الله وفي غير ذات الله بأهل أن ينحل، ولايوصل؛ فقال به: عضضت بأيرأبيك! فرفع يزيد بن أنس السوط وقلا لابن همام: تقول هذا القول يافاسق! وقال لابن شميط: اضربه بالسيف، فرفع ابن شميط عليه السيف ووثب ووثب أصحابهما يتفلتون على ابن همام. وأخذ بيده إبراهيم بن الأشتر فألقاه وراءه، وقال: أنا له جار، لم تأتون إليه ما أرى! فو الله إنه لواصل الولاية، راض بما نحن عليه، حسن الثناء، فإن أنتم لم تكافئوه بحسن ثنائه، فلا تشتموا عرضه، ولا تسفكوا دمه. ووثبت مذحج فحالت دونه، وقالوا: أجاره ابن الأشتر، لا والله لا يوصل إليه. قال: وسمع لغطهم المختار، فخرج إليهم، وأومأ بيده إليهم، أن اجلسوا، فجلسوا، فقال لهم: إذا قيل لكم خير فاقبلوه، وإن قدرتم على مكافأة فافعلوا، وإن لم تقدروا على مكافأة فتنصلوا، واتقوا لسان الشاعر. فإن شره حاضر، وقوله فاجر، وسعيه بائر. وهو بكم غدًا غادر. فقالوا: أفلا تقتله؟ قال: إنا قدآمناه وأجرناه، وقد أجاره أخوكم إبراهيم بن الاشتر، فجلس مع الناس. قال: ثم إن إبراهيم قام فانصرف إلى منزله فأعطاه ألفًا وفرسًا ومطرفًا فرجع بها وقال: لا والله، لا جاورت هؤلاء أبدًا وأقبلت هوازن وغضبت واجتمعت في المسجد غضبًا لابن همام. فبعث إليهم المختار فسألهم أن يصفحوا عما اجتمعوا له، ففعاوا، وقال ابن همام لابن الأشتر يمدحه: أطفأ عني نار كلبين ألبا ** على الكلاب ذو الفعال ابن مالك فتى حين يلقى الخيل يفرق بينها ** بطعن دراك أو بضرب مواشك وقد غضبت لي من هوازن عصبة ** طوال الذرا فيها عراض المبارك إذا ابن شميط أو يزيد تعرضا ** لها وقعا في مستحار المهالك وثبتم علينا يا موالي طيئ ** مع ابن شميط شر ماش وراتك وأعظم ديار على الله فرية ** وما مفتر طاغ كآخر ناسك فيا عجبًا من أحمس اينة أحمس ** توثب حولي بالقنا والنيازك كأنكم في العز قيس وخثعم ** وهل أنتم إلى لئام عوارك وأقبل عبد الله بن شداد من الغد فجلس في المسجد يقول: علينا توثب بنو أسد وأحمس! والله لا نرضى بهذا أبدًا. فبلغ ذلك المختار، فبعث إليه فدعاه، ودعا بيزيد بن أنس وبابن شميط، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يابن شداد، إن الذي فعلت نزغة من نزغات الشيطان، فتب إلى الله، قال: قد تبت، وقال: إن هذين أخواك، فأقبل إليهما، واقبل منهما، وهب لي هذا الأمر؛ قال: فهو لك، وكان ابن همام قد قال قصيدةً أخرى في أمر المختار، فقال: أضحت سليمي بعد طول عتاب ** وتجرم ونفاد غرب شباب قد أزمعت بصريمتي وتجنبي ** وتهوك مذ ذاك في إعتاب لما رأيت القصر أغلق بابه ** وتوكلت همدان بالأسباب ورأيت أصحاب الدقيق كأنهم ** حول البيوت ثعالب الأسراب ورأيت أبواب الأزقة حولنا ** دربت بكل هراوة وذباب أيقنت أن خيول شيعة راشد ** لم يبق منها فيش أير ذباب ذكر الخبر عن أمر المختار مع قتلة الحسين بالكوفة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين والمشايعين على قتله، فقتل من قدر عليه منهم، وهرب من الكوفة بعضهم، فلم يقدر عليه. ذكر الخبر عن سبب وثوبه بهم وتسمية من قتل منهم ومن هرب فلم يقدر عليه منهم وكان سبب ذلك - فيما ذكره هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم - أن مروان بن الحكم لما استوسقت له الشأم بالطاعة، بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز عليه حبيش بن دلجة القيني - وقد ذكرنا أمره وخبر مهلكه قبل - والآخر منهما إلى العراق عليهم عبيد الله بن زياد - وقد ذكرنا ما كان من أمره وأمر التوابين من الشيعة بعين الوردة - وكان مروان جعل لعبيد الله بن زياد إذ وجهه إلى العراق ما غلب عليه، وأمره أن ينهب الكوفة إذا هوظفر بأهلها ثلاثًا. قال عوانة: فمر بأرض الجزيرة فاحتبس بها وبها قيس عيلان على طاعة ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب قيسًا يوم مرج راهط وهم مع الضحاك بن قيس مخالفين على مروان، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فلم يزل عبيد الله مشغلا بهم عن العراق نحوًا من سنة. ثم إنه أقبل إلى الموصل، فكتب عبد الرحمن بن سعيد بن قيس عامل المختار على الموصل إلى المختار: أما بعد، فإني أخبرك أيها الأمير أن عبيد الله بن زياد قد دخل أرض الموصلن وقد وجه قبلي خيله ورجاله. وأني انحزت إلى تكريت حتى يأتيني رأيك وأمرك، والسلام عليك. فكتب إليه المختار: أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت كل ما ذكرت فيه، فقد أصبت بانحيازك إلى تكريت، فلا تبرحن مكانك الذي أنت به حتى يأتيك أمري إن شاء الله، والسلام عليك. قال هشام. عن أبي مخنف: حدثني موسى بن عامر، أن كتاب عبد الرحمن بن سعيد لما ورد على المختار بعث إلى يزيد بن أنس فدعاه، فقال له: يا يزيد بن أنس، إن العلم ليس كالجاهل، وإن الحق ليس كالباطل، وإني أخبرك خبر من لم يكذب ولم يكذب، ولم يخالف ولم يرتب، وإنا المؤمنون الميامين، الغالبون المساليم، وإنك صاحب الخيل التي تجر جعبها، وتضفر أذنابها، حتى توردها منابت الزيتون، غائرة عيونها، لاحقة بطونها. اخرج إلى الموصل حتى تنزل أدانيها، فإني ممدك بالرجال بعد الرجال. فقال له يزيد بن أنس: سرح معي ثلاثة آلاف فارس أنتخبهم، وخلني والفرج الذي توجهنا إليه، فإن احتجت إلى الرجال فسأكتب إليك؛ قال له المختار: فاخرج فانتخب على اسم الله من أحببت فخرج فانتخب ثلاثة آلاف فارس، فجعل على ربع المدينة النعمان بن عوف بن أبي جابر الأزدي، وعلى ربع تميم وهمدان عاصم بن قيس بن حبيب الهمداني، وعلى مذحج وأسد ورقاء بن عازب الأسدي، وعلى ربع ربيعة وكندة سعر بن أبي سعر الحنفي. ثم إنه فصل من الكوفة، فخرج وخرج معه المختار والناس يشيعونه، فلما بلغ دير أبي موسى ودعه المختار وانصرف، ثم قال له: إذا لقيت عدوك فلا تناظرهم، وإذا أمكنتك الفرصة فلا تؤخرها، وليكن خبرك في كل يوم عندي، وإن احتجت إلى مدد فاكتب إلى؛ مع أني ممدك ولو لم تستمدد، فإنه أشد لعضدك، وأعز لجندك، وأرعب لعدوك. فقال له يزيد بن أنس: لا تمدني إلى بدعائك، فكفى به مددًا. وقال له الناس: صحبك الله وأداك وأيدك. وودعوه فقال لهم يزيد: سلوا الله لي الشهادة وايم الله لئن لقيتهم ففاتني النصر لا تفتني الشهادة إن شاء الله. فكتب المختار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن قيس: أما بعد، فخل بين يزيد وبين البلاد إن شاء الله، والسلام عليك. فخرج يزيد بن أنس بالناس حتى بات بسورًا، ثم غدا بهم سائرًا حتى بات بهم بالمدائن؛ فشكا الناس إليه ما دخلهم من شدة السير عليهم، فأقام بها يومًا وليلة. ثم إنه اعترض بهم أرض جوخى حتى خرج بهم في الراذانات، حتى قطع بهم إلى أرض الموصل، فنزلت ببنا تلى، وبلغ مكانه ومنزله الذي نزل به عبيد الله بن زياد، فسأل عن عدتهم، فأخبرته عيونه أنه خرج معه من الكوفة ثلاثة آلاف فارس، فقال عبيد الله: فأنا أبعث إلى كل ألف ألفين. ودعا ربيعة بن المخارق الغنوي وعبد الله بن حملة الخثعمي، فبعثهما في ثلاثة آلاف ثلاثة آلاف، وبعث ربيعة بن المخارق أولا، ثم مكث يومًا، ثم بعث خلفه عبد الله بن حملة، ثم كتب إليهما: أيكما سبق فهو أمير على صاحبه، وإن انتهيتما جميعًا فأكبركما سنا أمير على صاحبه والجماعة. قال: فسبق ربيعة بن المخارق فنزل بيزيد بن أنس وهو ببنات تلى، فخرج إليه يزيد بن أنس وهو مريض مضنى. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: خرج علينا يزيد بن أنس وهو مريض على حمار يمشي معه الرجال يمسكونه عن يمينه وعن شماله، بفخذيه وعضديه وجنبيه، فجعل يقف على الأرباع: ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفًا، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي. قال: وأنا والله فيمن يمشي معه ويمسك يعضده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به. قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم: ابرزوا لهم بالعراء، وقد موني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففروا عنه. قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحيانًا بظهره فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس. قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهمزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الاسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم. ه، فجعل يقف على الأرباع: ربع ربع ويقول: يا شرطة الله، اصبروا تؤجروا، وصابروا عدوكم تظفروا، وقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفًا، إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فإن هلك فأميركم عبد الله بن ضمرة العذري، فإن هلك فأميركم سعر بن أبي سعر الحنفي. قال: وأنا والله فيمن يمشي معه ويمسك يعضده، وإني لأعرف في وجهه أن الموت قد نزل به. قال: فجعل يزيد بن أنس عبد الله بن ضمرة العذري على ميمنته، وسعر بن أبي سعر على ميسرته، وجعل ورقاء بن عازب الأسدي على الخيل، ونزل هو فوضع بين الرجال على السرير، ثم قال لهم: ابرزوا لهم بالعراء، وقد موني في الرجال، ثم إن شئتم فقاتلوا عن أميركم، وإن شئتم ففروا عنه. قال: فأخرجناه في ذي الحجة يوم عرفة سنة ست وستين، فأخذنا نمسك أحيانًا بظهره فيقول: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، وافعلوا كذا، فيأمر بأمره، ثم لا يكون بأسرع من أن يغلبه الوجع فيوضع هنيهة ويقتتل الناس، وذلك عند شفق الصبح قبل شروق الشمس. قال: فحملت ميسرتهم على ميمنتنا، فاشتد قتالهم، وتحمل ميسرتنا على ميمنتهم فتهمزمها، ويحمل ورقاء بن عازب الاسدي في الخيل فهزمهم، فلم يرتفع الضحى حتى هزمناهم، وحوينا عسكرهم. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر العدوي، قال: انتهينا إلى ربيعة ابن المخارق صاحبهم، وقد انهزم عنه أصحابه وهو نازل ينادي: يا أولياءالحق، ويا أهل السمع والطاعة، إلى أنا ابن المخارق؛ قال موسى: فأما أنا فكنت غلامًا حدثًا، فهبته ووقفت، ويحمل عليه عبد الله بن ورقاء الأسدي وعبد الله بن ضمرة العذري، فقتلاه. قال أبو مخنف: وحدثني عمرو بي مالك أبو كبشة القيني؛ قال: كنت غلامًا حين راهقت مع أحد عمومي في ذلك العسكر، فلما نزلنا بعسكر الكوفيين عبأنا ربيعة بن المخارق فأحسن التعبئة، وجعل على ميمنته ابن أخيه، وعلى ميسرته عبد ربه السلمي، وخرج هو في الخيل والرجال وقال: ياأهل الشأم، إنكم إنما تقاتلون العبيد الأباق، وقومًا قد تركوا الإسلام وخرجوا منه. ليست لهم تقية، ولا ينطقون بالعربية؛ قال: فو الله إن كنت لأحسب أن ذلك كذلك حتى قاتلناهم؛ قال: فو الله ما هو إلى أن اقتتل الناس إذا رجل من أهل العراق يعترض الناس بسيفه وهو يقول: برئت من دين المحكمينا ** وذاك فينا شر دين دينا ثم إن قتالنا وقتالهم اشتد ساعة من النهار، ثم إنهم هزمونا حين ارتفع الضحى فقتلوا صاحبنا. وحووا عسكرنا؛ فخرجنا منهزمين حتى تلقانا عبد الله بن حملة على مسيرة ساعة من تلك القرية التي يقال لها بنات تلى، فردنا، فأقبلنا معه حتى نزل بيزيد بن أنس، فبتنا متحارسين حتى أصبحنا فصلينا الغداة، ثم خرجنا على تعبئة حسنة، فجعل على ميمنته الزبير بن خزيمة؛ من خثعم، وعلى ميسرته ابن أقيصر القحافي من خثعم، وتقدم في الخيل والرجال، وذلك يوم الاضحى، فاقتتلنا قتالًا شديدًا، ثم إنهم هزمونا هزيمة قبيحة، وقتلونا قتالًا ذريعًا، وحووا عسكرنا، وأقبلناحتى انتهينا إلى عبيد الله بن زياد فحدثناه بما لقينا. قال أيو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: أقبل إلينا عبد الله بن حملة الخثعمي؛ فاستقبل فل ربيعة بن المخارق الغنوي فردهم، ثم جاء حتى نزل ببنات تلى، فلما أصبح غادوا غادينا، فتطاردت الخيلان من أول النهار، ثم انصرفوا وانصرفنا؛ حتى إذا صلينا الظهر خرجنا فاقتتلنا، ثم هزمناهم. قال: ونزل عبد الله بن حملة فأخذ ينادي أصحابه: الكرة بعد الفرة، ياأهل السمع والطاعة؛ فحمل عليه عبد الله بن قراد الخثعمي فقتله، وحوينا عسكرهم وما فيه، وأتى يزيد بن أنس بثلثمائة أسير وهو في السوق، فأخذ يومئ بيده أن اضربوا أعناقهم، فقتلوا من عند آخرهم. وقال يزيد بن أنس: إن هلكت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي، فما أمسى حتى مات، فصلى عليه ورقاء بن عازب ودفنه، فلما رأى ذلك أصحابه أسقط في أيديهم، وكسر موته قلوب أصحابه، وأخذوا في دفنه، فقال لهم ورقاء: ياقوم. ماذا ترون؟ إنه قد بلغني أن عبيد الله بن زياد قد أقبل إلينا في ثمانين ألفًا من أهل الشأم، فأخذوا يتسللون ويرجعون. ثم إن ورقاء دعا رءوس الأرباع وفرسان أصحابه فقال لهم: ياهؤلاء، ماذا ترون فيما أخبرتكم؟ إنما أنا رجل منكم، ولست بأفضلكم رأبًا. فأشيروا على. فإن ابن زياد قد جاءكم في جند أهل الشأم الأعظم، وبجلتهم فرسانهم وأشرافهم. ولا أرى لنا ولكم بهم طاقة على هذه الحال، وقد هلك يزيد بن أنس أميرنا، وتفرقت عنا طائفة منا، فلو انصرفنا اليوم من تلقاء أنفسنا قبل أن نلقاهم، وقبل أن نبلغهم، فيعلموا أنا إنما ردنا عنهم هلاك صاحبنا، فلا يزالوا لنا هائبين لقتلنا منهم أميرهم! ولأنا إنما نعتل لانصرافنا بموت صاحبنا. وإنا لقيناهم اليوم كنا مخاطرين، فإن هزمنا اليوم لم تنفعنا هزيمتنا إياهم من قبل اليوم. قالوا: فإنك نعمًا رأيت، انصرف رحمك الله. فانصرف، فبلغ منصرفهم ذلك المختار وأهل الكوفة، فأرجف الناس، ولم يعلموا كيف كان الأمر أن يزيد بن أنس هلك، وأن الناس هزموا، فبعث إلى المختار عامله على المدائن عينًا له من أنباط السواد فأخبره الخبر، فدعا المختار إبراهيم بن الأشتر فعقد له على سبعة آلاف رجل، ثم قال له: سر حتى إذا أنت لقيت جيش ابن أنس فارددهم معك، ثم سر حتى تلقى عدوك فتناجزهم. فخرج إبراهيم فوضع عسكره بحمام أعين. قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير النضر بن صالح، قال: لما مات يزيد أنس التقى أشراف الناس بالكوفة فارجفوا بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس، ولم يصدقوا أنه مات، وأخذوا يقولون: والله لقد بأمر علينا هذا الرجل بغير رضًا منا، ولقد أدنى موالينا، فحملهم على الدواب، وأعطاهم وأطعمهم فيئنا، ولقد عصتنا عبيدنا، فحرب بذلك أيتامنا وأراملنا. فاتعدوا منزل شبث بن ربعي وقالوا: نجتمع في منزل شيخنا - وكان شبث جاهليًا إسلاميًا - فاجتمعوا فأتوا منزله، فصلى بأصحابه، ثم تذاكروا هذا النحو من الحديث قال: ولم يكن فيما أحدث المختار عليهم شئ هو أعظم من أن جعل للموالي الفئ نصيبًا - فقال لهم شبث: دعوني حتى ألقاه؛ فذهب فلقيه، فلم يدع شيئًا مما أنكره أصحابه إلى وقد ذاكره إياه، فأخذ لا يذكر خصلة إلا قال له المختار: أرضيهم في هذه الخصلة، وآتى كل شئ أحبوا؛ قال: فذكر المماليك؛ قال: فأنا أرد عليهم عبيدهم، فذكر له الموالي، فقال: عمدت إلى موالينا، وهم فئ أفاءه الله علينا وهذه البلاد جميعًا فأعتقنا رقابهم، نأمل الأجر في ذلك والثواب والشكر، فلم ترض لهم بذلك حتى جعلتهم شركاءنا في فيئنا، فقال لهم المختار: إن أنا تركت لكم موالينا، وجعلت فيئكم فيكم، أتقاتلون معي بني أمية وابن الزبير، وتعطون على الوفاء بذلك عهد الله وميثاقه، وما أطمئن إليه من الأيمان؟ فقال شبث: ما أدري حتى أخرج إلى أصحابي فأذاكرهم ذلك، فخرج فلم يرجع إلى المختار. قال: وأجمع رأى أشراف أهل الكوفة على قتال المختار. قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن حوشب، قال: جاء شبث ابن ربعي وشمر بن ذي الجوشن ومحمد بن الأشعث وعبد الرحمن بن سعيد بي قيس حتى دخلوا على كعب بن أبي الخثعمي، فتكلم شبث، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبره باجتماع رأيهم على قتال المختار، وسأله أن يجيبهم إلى ذلك، وقال فيما يعيب به المختار: إنه تأمر علينا بغير رضًا منا، وزعم أن ابن الحنفية بعثه إلينا، وقد علمنا أن ابن الحنفية لم يفعل، وأطعم موالينا فيئنا. وأخذ عبيدنا، فحرب بهم يتامانا وأراملنا، وأظهر هو وسبئيته البراءة من أسلافنا الصالحين. قال: فرحب بهم كعب بن أبي كعب، وأجابهم إلى ما دعوه إليه. قال أبو مخنف: حدثني أبي يحيى بن سعيد أن أشراف أهل الكوفة قد كانوا دخلوا على عبد الرحمن بن مخنف، فدعوه إلى أن يجيبهم إلى قتال المختار، فقال لهم: ياهؤلاء، إنكم إن أبيتم إلا أن تخرجوا لم أخذلكم، وإن أنتم أطعتموني لم تخرجوا. فقالوا: لم؟ قال: لأني أخاف أن تتفرقوا وتختلفوا وتتخاذلوا؛ ومع الرجل والله شجعاؤكم وفرسانكم من أنفسكم؛ أليس معه فلان وفلان! ثم معه عبيد كم ومواليكم، وكلمة هؤلاء واحدة، وعبيدكم ومواليكم أشد حنقًا عليكم من عدوكم، فهو مقاتلكم بشجاعة العرب، وعداوة العجم، وإن انتظرتموه قليلا كفيتموه بقدوم أهل الشأم، أو بمجئ أهل البصرة، فتكونوا قد كفيتموه بغيركم، ولم تجعلوا بأسكم بينكم؛ قالوا: ننشدك الله أن تخالفنا، وأن تفسد علينا رأينا وما قد اجتمعت عليه جماعتنا. قال: فأنا رجل منكم، فإذا شئتم فاخرجوا. فسار بعضهم إلى بعض وقالوا: انتظروا حتى يذهب عنه إبراهيم بن الأشتر؛ قال: فأمهلوا حتى إذا بلغ ابن الأشتر ساباط، وثبوا بالمختار. قال: فخرج عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس الهمداني في همدان في جبانة السبيع، وخرج زحر بن قيس الجعفي وإسحاق بن محمد بن الأشعث في جبانة كندة. قال هشام: فحدثني سليمان بن محمد الحضرمي، قال: خرج إليهما جبير الحضرمي فقال لهما: أخرجا عن جبانتنا، فإنا نكره أن نعرى بشر؛ فقال له إسحاق بن محمد: وجبانتكم هي؟ قال: نعم، فانصرفوا عنه؛ وخرج كعب بن أبي كعب الخثعمي في جبانة بشر، وسار بشير بن جرير بن عبد الله إليهم في بمجيلة، وخرج عبد الرحمن بن مخنف في جبانة مخنف، وسار إسحاق بن محمد وزحر بن قيس إلى عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس بجبانة السبيع، وسارت بجيلة وخشعم إلى عبد الرحمن ابن مخنف وهو بالأزد. وبلغ الذين في جبانة السبيع أن المختار قد عبأ لهم خيلا ليسير إليهم فبعثوا الرسل يتلو بعضها بعضًا إلى الأزد وبجيلة وثعم، يسألونهم بالله والرحم لما عجلوا إليهم. فساروا إليهم واجتمعوا جميعًا في جبانة السبيع، ولما أن بلغ ذلك المختار سره اجتماعهم في مكان واحد، وخرج شمر بن ذي الجوشن حتى نزل بجبانة بني سلول في قيس، ونزل شبث بن ربعي وحسان بن فائد العبسي وربيعة بن ثروان الضبي في مضر بالكناسة، ونزل حجار بن أبحر ويزيد بن الحارث بن رؤيم في ربيعة فيما بي التمارين والسبخة، ونزل عمرو بن الحجاج الزبيدي في جبانة مراد بمن تبعه من مذحج، فبعث إليه أهل اليمن: أن ائتنا، فأبى أن يأتيهم وقال لهم: جدوا، فكأني قد أتيتكم. قال: وبعث المختار رسولا من يومه يقال له عمرو بن توبة بالركض إلى إبراهيم بن الأشتر وهو بساباط ألا تضع كتابي من يدك حتى تقبل بجميع من معك إلى قال: وبعث إليهم المختار في ذلك اليوم: أخبروني ما تريدون؟ فإني صانع كل ما أحببتم، فقالوا: فإنا نريد أن تعتزلنا، فإنك زعمت أن ابن الحنفية بعثك ولم يبعثك. فأرسل إليهم المختار أن ابعثوا إليه من قبلكم وفدًا، وأبعث إليه من قبلي وفدًا، ثم انظروا في ذلك حتى تتبينوه؛ وهو يريد أن يريثهم بهذه المقالة ليقدم عليه إبراهيم بن الأشتر، وقد أمر أصحابه فكفوا أيديهم، وقد أخذ أهل الكوفة عليهم بأفواه السكك، فليس شئ يصل إلى المختار ولا إلى أصحابه من الماء إلا القليل الوتح، يجيئهم إذا غفلوا عنه. قال: وخرج عبد الله بن سبيع في الميدان، فقاتلته شاكر قتالًا شديدًا، فجاءه عقبة بن طارق الجشمي فقاتل معه ساعة حتى رد عاديتهم عنه، ثم أقبلا على حاميتهما يسيران حتى نزل عقبة بن طارق مع قيس في جبانة بني سلول، وجاء عبد الله بن سبيع حتى نزل مع أهل اليمن في جبانة السبيع. قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق، أن شمر بن ذي الجوشن أتى أهل اليمن فقال لهم: إن اجتمعتم في مكان نجعل فيه مجنبتين ونقاتل من وجه واحد فأنا صاحبكم، وإلا فلا، والله لا أقاتل في مثل هذا المكان في سكك ضيقة، ونقاتل من غير وجه. وانصرف إلى جماعة قومه في جبانة بني سلول. قال: ولما خرج رسول المختار إلى ابن الأشتر بلغه من يومه عشية، فنادى في الناس: أن ارجعوا إلى الكوفة، فسار بقية عشيته تلك، ثم نزل حين أمسى، فتعشى أصحابه، وأراحوا الدواب شيئًا كلا شئ، ثم نادى في الناس، فسار ليلته كلها، ثم صلى الغداة بسورا، ثم سار من يومه فصلى العصر على باب الجسر من الغد، ثم إنه جاء حتى بات ليلته في المسجد ومعه من أصحابه أهل القوة والجلد، حتى إذا كانت صبيحة اليوم الثالث من مخرجهم على المختار، خرج المختار إلى المنبر فصعده. قال أبو مخنف: فحدثني أبو جناب الكلبي أن شبث بن ربعي بعث إليه أبنه عبد المؤمن فقال: إنما نحن عشيرتك، وكف يمينك، لا والله لا نقاتلك، فثق بذلك منا؛ وكان رأيه قتاله، ولكنه كاده. ولما أن اجتمع أهل اليمن بجبانة السبيع حضرت الصلاة. فكره كل رأس من رءوس أهل اليمن أن يتقدمه صاحبه، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: هذا أول الاختلاف، قدموا الرضا فيكم فإن في عشيرتكم سيد قراء أهل مصر، فيلصل بكم رفاعو بن شداد الفتياني من بجيلة، ففعلوا، فلم يزل يصلي بهم حتى كانت الوقعة. قال أبو مخنف: وحدثني وازع بن السري أن أنس بن عمرو الأزدي انطلق فدخل في أهل اليمن، وسمعهم وهم يقولون: إن سار المختار إلى إخواننا من مضر سرنا إليهم، وإن سار إلينا ساروا إلينا، فسمعها منهم رجل، وأقبل جوادًا حتى صعد إلى المختار على المنبر، فاخبره بمقالتهم، فقال: أما هم فخلقاء لو سرت إلى مضر أن يسيروا إليهم، وأما أهل اليمن فأشهد لئن سرت إليهم لا تسير إليهم مضر، فكان بعد ذلك يدعو ذلك الرجل ويكرمه. ثم إن المختار نزل فعبأ أصحابه في السوق - والسوق إذ ذاك ليس فيها هذا البناء - فقال لإبراهيم بن الأشتر: إلى أي الفريقين أحب إليك أن تسير؟ فقال: إلى أي الفريقين أحببت، فنظر المختار - وكان ذا رأي، فكره أن يسير إلى قومه فلا يبالغ في قتالهم - فقال: سر إلى مضر بالكناسة وعليهم شبث بن ربعي ومحمد بن عمير بن عطارد، وأنا أسير إلى أهل اليمن. قال: ولم يزل المختار يعرف بشدة النفس، وقلة البقيا على أهل اليمن وغيرهم إذا ظفر، فسار إبراهيم بن الأشتر إلى الكناسة، وسار المختار إلى جبانة السبيع، فوقف المختار عند دار عمر بن سعد بن أبي وقاص، وسرح بين أيديه أحمر بن شميط البجلي ثم الأحمسي، وسرح عبد الله بن كامل الشاكري، وقال لابن شميط: الزم هذه السكة حتى تخرج إلى أهل جبانة السبيع من بين دور قومك. وقال لعبد الله بن كامل: الزم هذه السكة حتى تخرج على جبانة السبيع من دار آل الأخنس بن شريق، ودعاهما فأسر إليهما أن شبامًا قد بعثت تخبرني أنهم قد أتوا القوم من ورائهم، فمضيا فسلكا الطريقين اللذين أمرهما بهما، وبلغ أهل اليمن مسير هذين الرجلين إليهم، فاقتسموا تينك السكتين، فأما السكة التي في دبر المسجد أحمس فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني وإسحاق بن الأشعث وزحر بن قيس، وأما السكة التي تلى الفرات فإنه وقف فيها عبد الرحمن بن مخنف، وبشير بن جرير بن عبد الله، وكعب بن أبي كعب. ثم إن القوم اقتتلوا كأشد قتال اقتتله قوم. ثم إن أصحاب أحمر بن شميط انكشفوا وأصحاب عبد الله بن كامل أيضًا، فلم يرع المختار إلا وقد جاءه الفل قد أقبل؛ فقال: ما وراءكم؟ قالوا: هزمنا؛ قال: فما فعل أحمر بن شميط؟ قالوا: تركناه قد نزل عند مسجد القصاص - يعنون مسجد ألي دواد في وادعة، وكان يعتاده رجال أهل ذلك الزمان يقصون فيه، وقد نزل معه أناس من أصحابه - وقال أصحاب عبد الله: ما ندري ما فعل ابن كامل! فصاح بهم: أن انصرفوا. ثم أقبل بهم حتى انتهى إلى دار أبي عبد الله الجدلي، وبعث عبد الله بن قراد الخثعمي - وكان على أربعمائة رجل من أصحابه - فقال: سر في أصحابك إلى ابن كامل، فإن يك هلك فأنت مكانه، فقاتل القوم بأصحابك وأصحابه، وإن تجده حيًا صالحًا فسر في مائة من أصحابك كلهم فارس، وادفع إليه بقية أصحابك ومر بالجد معه والمناصحة له، فغنهم إنما يناصحونني، ومن ناصحني فليبشر، ثم امض في المائة حتى تأتي أهل جبانة السبيع مما يلي حمام قطن ابن عبد الله. فمضى فوجد ابن كامل واقفًا عند حمام عمرو بن حريث معه أناس من أصحابه قد صبروا وهو يقاتل القوم. فدفع إليه ثلثمائة من أصحابه ثم مضى حتى نزل إلى جبانة السبيع. ثم أخذ في تلك السكك حتى انتهى إلى مسجد عبد القيس، فوقف عنده وقال لأصحابه: ماترون؟ قالوا: أمرنا لأمرك تبع وكل من كان معه من حاشد من قومه وهم مئة؛ فقال لهم: والله إني لأحب أن يظهر المختار. ووالله إني لكاره أن يهلك أشراف عشيرتي اليوم، ووالله لأن أموت أحب إلى من أن يحل بهم الهلاك على يدي، ولكن قفوا قليلا فإني قد سمعت شبامًا يزعمون أنهم سيأتونهم من ورائهم، فلعل شبامًا تكون هي تفعل ذلك، ونعافى نحن منه. قال له أصحابه: فرأيك. فثبت كما هو عند مسجد عبد القيس، وبعث المختار مالك بن عمرو النهدي في مائتي رجل - وكان من أشد الناس بأسًا - وبعث عبد الله بن شريك النهدي في مائتي فارس إلى أحمر بن شميط، وثبت مكانه، فانتهوا إليه وقد علاه القوم وكشروه، فاقتتلوا عند ذلك كأشد القتال، ومضى ابن الأشتر حتى لقي شبث بن ربعي، وأناسًا معه من مضر كثيرًا، وفيهم حسان بن فائد العبسي، فقال لهم إبراهيم: ويحكم! انصرفوا، فو الله ما أحب أن يصاب أحد من مضر على يدي، فلا تهلكوا أنفسكم، فأبوا، فقاتلوه فهزمهم، واحتمل حسان بن فائد إلى أهله، فمات حين أدخل إليهم، وقد كان وهو على فراشه قبل موته أفاق إفاقة فقال: أما والله ما كنت أحب أن أعيش من جراحتي هذه، وما كنت أحب أن تكون منيتي إلا بطعنة رمح، أو بضربة بالسيف؛ فلم يتكلم بعدها كلمة حتى مات. وجاءت البشرى إلى المختار من قبل إبراهيم بهزيمة مضر، فبعث المختار البشرى من قبله إلى أحمر بن شميط وإلى ابن كامل، فالناس على أحوالهم كل أهل سكة منهم قد أغنت ما يليها. قال: فاجتمعت شبام وقد رأسو عليهم أبا القلوص، وقد أجمعوا واجتمعوا بأن يأتوا أهل اليمن من ورائهم، فقال بعضهم لبعض: أما والله لو جعلتم جدكم هذا على من خالفكم من غيركم لكان أصوب، فسيروا إلى مضر أو إلى ربيعة فقاتلوهم - وشيخهم أبو القلوص ساكت لا يتكلم - فقالوا: يا أبا القلوص، مارأيك؟ فقال: قال الله جل ثناؤه: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة " قوموا؛ فقاموا؛ فمشى بهم قيس رمحين أو ثلاثة ثم قال لهم: اجلسوا فجلسوا. ثم مشى بهم أنفس من ذلك شيئًا، ثم قعد بهم، ثم قال لهم: قوموا، ثم مشى بهم الثالثة أنفس من ذلك شيئًا، ثم قعد بهم، فقالوا له: يا أبا القلوص، والله إنك عندنا لأشجع العرب، فما يحملك على الذي تصنع! قال: إن المجرب ليس كمن لم يجرب، إني أردت أن ترجع إليكم أفئدتكم، وأن توطنوا على القتال أنفسكم، وكرهت أن أقحمكم على القتال وأنتم على حال دهش؛ قالوا: أنت أبصر بما صنعت. فلما خرجوا إلى جبانة السبيع استقبلهم على فم السكة الأعسر الشاكري، فحمل عليه الجندعي وأبو الزبير بن كريب فصرعاه، ودخلا الجبانة، ودخل الناس الجبانة في آثارهم، وهم ينادون: يالثارات الحسين! فأجابهم أصحاب ابن شميط يالثارات الحسين! فسمعها يزيد بن عمير بن ذي مران من همدان فقال: يالثارات عثمان! فقال لهم رفاعة بن شداد: مالنا ولعثمان! لاأقاتل مع قوم يبغون دم عثمان، فقال له أناس من قومه: جئت بنا وأطعناك. حتى إذا رأينا قومنا تأخذهم السيوف قلت: انصرفوا ودعوهم! فعطف عليهم وهو يقول: أنا ابن شداد على دين علي ** لست لعثمان بن أروى بولى لأصلين اليوم فيمن يصطلي ** بحر نار الحرب غير مؤتل فقاتل حتى قتل، وقتل يزيد بن عمير بن ذي مران، وقتل النعمان ابن صهبان الجرمي ثم الراسي - وكان ناسكًا - ورفاعة بن شداد بن عوسجة الفتياني عند حمام المهبذان الذي بالسبخة - وكان ناسكًا - وقتيل الفرات ابن زحر بن قيس الجعفي، وارتث بن قيس، وقتل عبد الرحمن ابن سعيد بن قيس. وقتل عمر بن مخنف، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف حتى أرتث، وحملته الرجال على أيديها يشعر، وقاتل حوله رجال من الأزد، فقال حميد بن مسلم: لأضربن عن أبي حكيم ** مفارق الأعبد والصميم وقال سراقة بن مرداس البارقي: يا نفس إلا تصبري تليمي ** لا تتولى عن أبي حكيم واستخرج من دور الوادعين خمسمائة أسير، فأتى بهم المختار مكتفين، فأخذ رجل من بني نهد وهو من رؤساء أصحاب المختار يقول له: عبد الله ابن شريك، لا يخلو بعربي إلا خلى سبيله، فرفع ذلك إلى المختار درهم مولى لبني نهد. فقال له المختار: اعرضوهم على، وانظروا كل من شهد منهم قتل الحسين فأعلموني به، فأخذوا لا يمر عليه برجل قد شهد قتل الحسين إلا قيل له: هذا ممن شهد قتله، فيقدمه فيضرب عنقه، حتى قتل منهم قبل أن يخرج مائتين وثمانية وأربعين قتيلًا، وأخذ أصحابه كلما رأوا رجلًا قد كان يؤذيهم أو يماريهم أو يضربهم خلوا به فقتلوه حتى قتل ناس كثير منهم وما يشعر بهم المختار، فأخبر بذلك المختار بعد، فدعا بمن بقي من الأسارى فأعتقهم، وأخذ عليهم المواثيق ألا يجامعوا عليه عدوا، ولا أصحابه غائلة، إلا سراقة بن مرداس البارقي، فإنه أمر أن يساق معه إلى المسجد. قال: ونادى منادي المختار: إنه من أغلق بابه فهو آمن، إلا رجلًا شرك في دم آل محمد صلى عليه وسلم. قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عمامر الشعبي.، أن يزيد ابن الحارث بن يزيد بن رؤيم وحجار بن أبجر بعثا رسلا لهما، فقالا لهم: كونوا من أهل اليمن قريبًا، فإن أيتموهم قد ظهروا فأيكم سبق إلينا فليقل صرفان، وإن كانوا هزموا فليقل جمزان، فلما عزم أهل اليمن أتتهم رسلهم، فقال لهم أول من انتهى إليهم: جمزان، فقام الرجلان فقالا لقومهما: انصرفوا إلى بيوتكم، فانصرفوا، وخرج عمرو بن الحجاج الزبيدي - وكان ممن شهد قتل الحسين - فركب راحلته، ثم ذهب عليها، فأخذ طريق شراف وواقصة، فلم ير حتى الساعة. ولا يدري أرض بخسته، أم سماء حصبته! وأما فرات بن زحر بن قيس فإنه لما قتل بعثت عائشة بنت خليفة بن عبد الله الجعفية - وكانت امرأة الحسين بن علي - إلى المختار تسأله أن يأذن له أن تواري جسده، ففعل؛ فدفنته. وبعث المختار غلامًا له يدعى زريبًا في طلب شمر بن ذي الجوشن قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: تبعنا زربي غلام المختار، فلحقنا وقد خرجنا من الكوفة على خيول لنا ضمر، فأقبل يتمطر به فرسه، فلما دنا منا قال لنا شمر: اركضوا وتباعدوا عني لعل العبد يطمع في؛ قال: فركضنا، فأمعنا، وطمع العبد في شمر، وأخذ شمر ما يستطرد له، حتى إذا انقطع من أصحابه حمل عليه شمر فدق ظهره، وأتى المختار فأخبر بذلك، فقال: بؤسًا لزربى، أما لو يستشيرني ما أمرته أن يخرج لأبي السابغة. قال أبو مخنف: حدثني أبو محمد الهمداني، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: لما خرج شمر بن ذي الجوشن وأنا معه حين هزمنا المختار، وقتل أهل اليمن بجبانة السبيع، ووجه غلامه زربيًا في طلب شمر، وكان من قتل شمر إياه ما كان، مضى شمر حتى ينزل ساتيدما، ثم مضى حتى ينزل إلى جانب قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر، إلى جانب تل، ثم أرسل إلى تلك القرية فأخذ منها علجًا فضربه، ثم قال: النجاء بكتابي هذا إلى المصعب بن الزبير وكتب عنوانه: للأمير المصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن. قال: فمضى العلج حتى يدخل قرية فيها بيوت، وفيها أبو عمرة، وقد كان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فيما بينه وبين أهل البصرة، فلقى ذلك العلج علجًا من تلك القرية، فأقبل يشكو إلية ما لفي من شمر، فإنه لقائم معه يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة، فرأى الكتاب مع العلج، وعنوانه: لمصعب من شمر، فسألوا العلج عن مكانه الذي هو به، فأخبرهم، فإذا ليس بينهم وبينه إلا ثلاثة فراسخ. قال: فأقبلوا يسيرون إليه. قال أبو مخنف: فحدثني مسلم بن عبد الله قال: وأنا والله مع شمر تلك الليلة، فقلنا: لو أنك ارتحلت بنا من هذا المكان فإنا نتخوف به! فقال: أو كل هذا فرقًا من الكذاب! والله لا أحول منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعبًا! قال: وكان بذلك المكان الذي كنا فيه دبى كثير، فو الله إني لبين اليقظان والنائم، إذ سمعت وقع حوافر الخيل، فقلت في نفسي: هذا صوت الدبى، ثم سمعته أشد من ذلك، فانتبهت ومسحت عيني، وقلت: لا والله، ما هذا بالدبي. قال: وذهبت لأقوم، فإذا أنا بهم قد أشرفوا علينا من التل، فكبروا، ثم أحاطوا بأبياتنا، وخرجنا نشتد على أرجلنا، وتركنا خيلنا. قال: فأمر على شمر، وإنه لمتزر ببرد محقق - وكان أبرص - فكأني أنظر إلى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعةً، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب للكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمرًا؛ قال: قلت: هل سمعته يقول شيئًا ليلتئذ؟ قال: نعم، خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول: ى بياض كشحيه من فوق البرد، فإنه ليطاعنهم بالرمح، قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه قال: فما هو إلا أن أمعنت ساعةً، إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث! قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: أنا والله صاحب للكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة وأنا قتلت شمرًا؛ قال: قلت: هل سمعته يقول شيئًا ليلتئذ؟ قال: نعم، خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه، ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم خرج علينا وهو يقول: نبهتم ليث عرين باسلا ** جهما محياه يدق الكاهلا لم ير يومًا عن عدو ناكلا ** إلا كذا مقاتلًا أو قاتلا يبرحهم ضربًا ويروي العاملا قال أبو مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق: ولما خرج المختار من جبانة السبيع، وأقبل إلى القصر، أخذ سراقة بن مرداس يناديه بأعلى صوته: امنن علي اليوم يا خير معد ** وخير من حل بشحر والجند وخير من حيا ولبى وسجد فبعث به المختار إلى السجن، فحبسه ليلة، ثم أرسل إليه من الغد فأخرجه، فدعا إلى المختار وهو يقول: ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ** نزونا نزوة كانت علينا خرجنا لا نرى الضعفاء شيئًا ** وكان خروجنا بطرًا وحينا نراهم في مصافهم قليلًا ** وهم مثل الدبي حين التقينا برزنا إذ رأيناهم فلما ** رأينا القوم قد برزوا إلينا لقينا منهم ضربًا طلحفًا ** وطعنًا صائبًا حتى انثنينا نصرت على عدوك كل يوم ** بكل كتيبة تنعى حسينا كنصر محمد في يوم بدر ** ويوم الشعب إذ لاقى حنينا فأسجح إذ ملكت فلو ملكنا ** لجرنا في الحكومة واعتدينا تقبل توبة مني فإني ** سأشكر إن جعلت النقد دينا قال: فلما انتهى إلى المختار، قال له: أصلحك الله أيها الأمير! سراقة ابن مرداس يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى الملائكة تقاتل على الخيول البلق بين السماء والأرض؛ فقال له المختار: فاصعد المنبر فأعلم ذلك المسلمين؛ فصعد فأخبرهم بذلك ثم نزل، فخلا به المختار، فقال: فاذهب عني حيث أحببت، لا تفسد علي أصحابي. قال أبو مخنف: الحجاج بن علي البارقي عن سراقة بن مرداس، قال: ما كنت في أيمان حلفت بها قط إجتهادًا ولا مبالغةً في الكذب مني في أيماني هذه التي حلفت لهم بها أني قد رأيت الملائكة معهم تقاتل. فخلوا سبيله. فهرب، فلحق بعبد الرحمن بن مخنف عند المصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج أشراف أهل الكوفة والوجوه. فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة، وخرج سراقة بن مرداس من الكوفة وهو يقول: ألا أبلغ أبا إسحاق أني ** رأيت البلق دهمًا مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرًا ** على قتالكم حتى الممات أرى عيني ما لم تبصراه ** كلانا عالم بالترهات إذا قالوا أقول لهم كذبتم ** وإن خرجوا لبست لهم أداتي حدثني أبو السائب سلم بن جناده، قال حدثنا محمد بن براد، من ولد أبي موسى الأشعري، عن شيخ، قال: لما أسر سراقة البارقي، قال: وأنتم أسرتموني! ماأسرني إلا قوم على دواب بلق، عليهم ثياب بيض. قال: فقال المختار: أولئك الملائكة. فأطلقه، فقال: ألا أبلغ أبا إسحاق أني ** رأيت البلق دهمًا مصمتات أرى عيني ما لم ترأياه ** كلانا عالم بالترهات قال أبو مخنف: حدثني عمير بن زياد أن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني قال يوم جبانة السبيع: ويحكم! من هؤلاء الذين أتونا من ورائنا؟ قيل له: شبام؛ فقال: ياعجبا! يقاتلني بقومي من لاقوم له. قال أبو مخنف: وحدثني أبو روق أن شرحبيل بن ذي يقلان من الناعطيين قتل يومئذ، وكان من بيوتات همدان، فقال يومئذ قبل أن يقتل: يالها قتلةً، ما أضل مقتولها! قتال مع غير إمام، وقتال على غير نية، وتعجيل فراق الأحبة، ولو قتلناهم إذًا لم نسلم منهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! أما والله ما خرجت إلا مواسيًا لقومي بنفسي مخافة أن يضطهدوا، وايم الله مانجوت من ذلك ولاأنجوا، ولا أغنيت عنهم ولا أغنوا. قال: ويرميه رجل من الفائشيين من همدان يقال له أحمر بن هديج بسهم فيقتله. قال: واختصم في عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني نفر ثلاثة: سعر ابن أبي سعر الحنفي، وأبو الزبير الشبامي: ورجل آخر، فقال سعر: طعنته طعنة، وقال أبو الزبير: لكن ضربته أنا عشر ضربات أو أكثر، وقال لي ابنه: يا أبا الزبير، أتقتل عبد الرحمن بن سعيد سيد قومك! فقلت: " لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أوعشيرتهم " فقال المختار: كلكم محسن. وانجلت الوقعة عن سبعمائة وثمانين قتيلا من قومه. قال أبو مخنف: حدثني النصر بن صالح أن القتل إذ ذاك كان استحر في أهل اليمن، وأن مضر أصيب منهم بالكناسة بضعة عشر رجلا، ثم مضو حتى مروا بربيعة، فرجع حجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رؤيم وشداد بن المنذر - أخو حضين - وعكرمة بن ربعى، فانصرف جميع هؤلاء إلى رحالهم، وعطف عليهم عكرمة فقاتلهم قتالا شديدًا، ثم انصرف عنهم وقد خرج، فجاء حتى دخل منزله، فقيل له: قد مرت خيل في ناحية الحي؛ فخرج فأراد أن يثب من حائط داره إلى دار أخرى إلى جانبه فلم يستطع حتى حمله غلام له. وكانت وقعة جبانة السبيع يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة سنة ست وستين. قال: وخرج أشراف الناس فلحقوا بالبصرة. وتجرد المختار لقتلة الحسين فقال: ما من ديننا ترك قوم قتلوا الحسين يمشون أحياء في الدنيا آمنين؛ بئس ناصر آل محمد أنا إذًا في الدنيا! أنا إذًا الكذاب كما سموني، فإنى بالله أستعين عليهم، الحمد لله الذي جعلني سيفًا ضربهم به، ورمحًا طعنهم به، وطالب وترهم، والقائم بحقهم، إنه كان حقًا على الله أن يقتل من قتلهم، وأن يذل من جهل حقهم، فسموهم لى ثم اتبعوهم حتى تفنوهم. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عامر أن المختار قال لهم: اطلبوا لى قتلة الحسين، فإنه لا يسوغ لى الطعام والشراب حتى أطهر الأرض منهم، وأنفى المصر منهم. قال أبو مخنف: وحدثني مالك بن أعين الجهنى أن عبد الله بن دباس، وهو الذي قتل محمد بن عمار بن ياسر الذي قال الشاعر: قتيل ابن دباس أصاب قذاله هو الذي دل المختار على نفر ممن قتل الحسين، منهم عبد الله بن أسيد بن النزال الجهنى من حرقة، ومالك بن النسير البداى، وحمل بن مالك المحاربي؛ فبعث إليهم المختار أبا نمران مالك بن عمرو النهدي وكان من رؤساء أصحاب المختارفأتاهم وهم بالقادسية، فأخذهم فأقبل بهم حتى أدخلهم عليه عشاء، فقال لهم المختار: يا أعداء الله وأعداء كتابه وأعداء رسوله وآل رسوله، أين الحسين بن علي؟ أدوا إلى الحسين، قتلتم من أمرتم بالصلاة عليه في الصلاة، فقالوا: رحمك الله! بعثنا ونحن كارهون، فامنن علينا واستبقنا، قال المختار: فهلا مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم واستبقيتموه وسسقيتموه! ثم قال المختار للبدى: أنت صاحب برنسه؟ فقال له عبد الله بن كامل: نعم، هو هو؛ فقال المختار، اقطعوا يدي هذا ورجليه. ودعوه فليضطرب حتى يموت، ففعل ذلك به وترك، فلم يزل ينزف الدم حتى مات، وأمر بالآخرين فقدما، فقتل عبد الله بن كامل عبد الله الجهني، وقتل سعر بن أبي سعر حمل بن مالك المحاربي. قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت التيمي، قال حدثني أبو سعيد الصيقل أن المختار دل على رجال من قتلة الحسين، دله عليهم سعر الحنفي؛ قال: فبعث المختار عبد الله بن كامل، خرجنا معه حتى مر ببني ضبيعة، فأخذ منهم رجلا يقال له زياد بن مالك؛ قال: ثم مضى إلى عنزة فأخذ منهم رجلا يقال له عمران بن خالد. قال: ثم بعثني في رجال معه يقال لهم الدبابة إلى دار في الحمراء، فيها عبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي وعبد الله بن قيس الخولاني، فجئنا بهم حتى أدخلناهم عليه، فقال لهم: ياقتلة الصالحين، وقتلة سيد شباب أهل الجنة، ألا ترون الله قد أقاد منكم اليوم! لقد جاءكم الورس، بيوم نحس - وكانوا قد أصابوا من الورس الذي كان مع الحسين - أخرجوهم إلى السوق فضربوا رقابهم. ففعل ذلك بهم، فهؤلاء أربعة نفر. قال أبو مخنف: وحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: جاءنا السائب بن مالك الأشعري في خيل المختار، فخرجت نحو عبد القيس، وخرج عبد الله وعبد الرحمن ابنا صلخب في أثري، وشغلوا بالاحتباس عليهما عني، فنجوت وأخذوهما، ثم مضوا بهما حتى مروا على منزل رجل يقال له عبد الله بن وهب بن عمرو ابن عم أعشى همدان من بني عبد، فأخذوه، فانتهوا بهم إلى المختار، فأمر بهم فقتلوا في السوق، فهؤلاء ثلاثة. فقال حميد بن مسلم في ذلك حيث نجا منهم: ألم ترني على دهش ** نجوت ولم أكد أنجو رجاء الله أنقذني ** ولم أك غيره أرجو قال أبو مخنف: حدثني موسى ين عامر العدوي من جهينة - وقد عرف ذلك الحديث شهم بن عبد الرحمن الجهني - قال: بعث المختار عبد الله ابن كامل إلى عثمان بن خالد بن أسير الدهماني من جهينة، وإلى أبي أسماء بشر بن سوط القابضي - وكانا ممن شهدا قتل الحسين، وكانا اشتركا في دم عبد الرحمن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه - فأحاط عبد الله بن كامل عند العصر بمسجد بني دهمان، ثم قال: على مثل خطايا بني دهمان منذ يوم خلقوا إلى يوم يبعثون إن لم أوت بعثمان بن خالد بن أسير، إن لم أضرب أعناقكم من عند آخركم، فقلنا له: أمهلنا نطلبه، فخرجوا مع الخيل في طلبه، فوجدوهما جالسين في الجبانة - وكانا يريدان أن يخرجا إلى الجزيرة - فأتى بهما عبد الله بن كامل، فقال: الحمد لله الذي كفى المؤمنين القتال، لو لم يجدوا هذا مع هذا عنانا إلى منزله في طلبه، فالحمد لله الذي حينك حتى أمكن منك. فخرج بهما حتى إذا كان في موضع بئر الجعد ضرب أعناقهما، ثم رجع فأخبر المختار خبرهما، فأمره أن يرجع إليهما فيحرقهما بالنار، وقال: لا يدفنان حتى يحرقا. فهذان رجلان، فقال أعشى همدان يرثى عثمان الجهني: يا عين بكى فتى الفتيان عثمانا ** لا يبعدن الفتى من آل دهمانا واذكر فتى ماجدًا حلوا شمائله ** ما مثله فارس في آل همدانا قال موسى بن عامر: وبعث معاذ بن هاني بن عدى الكندي، ابن أخي حجر، وبعث أبا عمرة صاحب حرسه، فساروا حتى أحاطوا بدار خولى بن يزيد الأصبحي وهو صاحب رأس الحسين الذي جاء به، فاختبأ في مخرجه، فأمر معاذ أبا عمرة أن يطلبه في الدار، فخرجت امرأته إليهم، فقالوا لها: أين زوجك؟ فقالت: لا أدري أين هو - وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا فوجدوه قد وضع على رأسه قوصرةً، فأخرجوه، وكان المختار يسير بالكوفة. ثم إنه أقبل في أثر أصحابه وقد بعث أبو عمرة إليه رسولا، فاستقبل المختار الرسول عند دار بلال، ومعه ابن كامل، فأخبره الخبر، فأقبل المختار نحوهم، فاستقبل به، فردده حتى قتله إلى جانب أهله. ثم دعا بنار فحرقه بها ثم لم يبرح حتى عاد رمادًا، ثم انصرف عنه. وكانت امرأته من حضرموت يقال لها العيوف بنت مالك بن نهار بن عقرب، وكانت نصبت له العداوة حين جاء برأس الحسين. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر أبو الأشعر أن المختار قال ذات يوم وهو يحدث جلساءه: لأقتلن غدًا رجلا عظيم القدمين، غائر العينين مشرف الحاجبين، يسر مقتله المؤمنين والملائكة المقربين. قال: وكان الهيثم بن الأسود النخعي عند المختار حين سمع هذه المقالة. فوقع في نفسه أن الذي يريد عمر بن سعد بن أبي وقاص، فلما رجع إلى منزله دعا ابنه العريان فقال: الق ابن سعد الليلة فخبره بكذا وكذا، وقل له: خذ حذرك، فإنه لا يريد غيرك. قال: فأتاه فاستخلاه، ثم حدثه الحديث، فقال له عمر بن سعد: جزى الله أباك والإخاء خيرًا! كيف يريد هذا بي بعد الذي أعطاني من العهود والمواثيق! وكان المختار أول ماظهر أحسن شئ سيرة وتألفًا للناس، وكان عبد الله بن جعدة بن هبيرة أكرم خلق الله على المختار لقرابته بعلي فكلم عمر بن سعد عبد الله بن جعدة وقال له: إني لا آمن هذا الرجل - يعني المختار - فخذ لي منه آمانًا، ففعل؛ قال: فأنا رأيت أمانه وقرأته وهو " بسم الله الرحمن الرحيم " هذا أمان من المختار بن أبي عبيد لعمر بن سعد ابن أبي وقاص، إنك آمن بأمان الله على نفسك ومالك وأهلك وأهل بيتك وولدك، لا تؤاخذ بحدث كان منك قديمًا ما سمعت وأطعت ولزمت رحلك وأهلك ومصرك، فمن لقي عمر بن سعد من شرطة الله وشيعة آل محمد ومن غيرهم من الناس، فلا يعرض له إلا بخير. شهد السائب بن مالك وأحمر بن شميط وعبد الله بن شداد وعبد الله بن كامل. وجعل المختار على نفسه عهد الله وميثاقه ليفين لعمر بن سعد بما أعطاه من الأمان، إلا أن يحدث حدثًا، وأشهد الله على نفسه، وكفى بالله شهيدًا. قال: فكان أبو جعفر محمد بن علي يقول: أما أمان المختار لعمر بن سعد: إلا أن يحدث حدثًا، فإنه كان يريد به إذا دخل الخلاء فأحدث. قال: فلما جاءه العريان بهذا خرج من تحت ليلته حتى أتى حمامه، ثم قال في نفسه: أنزل داري، فرجع فعبر الروحاء، ثم أتى داره غدوة، وقد أتى حمامه، فأخبر مولى له بما كان من أمانه وبما أريد به، فقال له مولاه: وأي حدث أعظم مما صنعت! إنك تركت رحلك وأهلك وأقبلت إلى ها هنا، ارجع إلى رحلك، لا تجعن للرجل عليك سبيلا. فرجع إلى منزله، وأتى المختار بانطلاقه، فقال: كلا إن في عنقه سلسلة سترده، لو جهد أن ينطلق ما استطاع. قال: وأصبح المختار فبعث إليه أبا عمرة، وأمره أن يأتيه به، فجاءه حتى دخل عليه فقال: أجب الأمير، فقام عمر: فعثر في جبة له، ويضربه أبو عمرة بسيفه، فقتله، وجاء برأسه في أسفل قبائه حتى وضعه بين يدي المختار، فقال المختار لابنه حفص بن عمر بن سعد وهو جالس عنده: أتعرف هذا الرأس؟ فاسترجع وقال: نعم، ولا خير في العيش بعده، قال له المختار: صدقت، فإنك لاتعيش بعده، فأمر به فقتل، وإذا رأسه مع رأس أبيه. ثم إن المختار قال: هذا بحسين هذا بعلي بن حسين، ولا سواء، والله لوقتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله؛ فقالت حميدة بنت عمر بن سعد تبكي أباها: لو كان غير أخي قسي غره ** أو غير ذي يمن وغير الأعجم سخي بنفسي ذاك شيئًا فاعلموا ** عنه وما البطريق مثل الألأم أعطي ابن سعد في الصحيفة وابنه ** عهدًا يلين له جناح الأرقم فلما قتل المختار عمر بن سعد وابنه بعث برأسيهما مع مسافر بن سعيد ابن نمران الناعطي وظبيان بن عمارة التميمي، حتى قدما بهما على محمد ابن الحنفية، وكتب إلى ابن الحنفية في ذلك بكتاب. قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن عامر، قال: إنما كان هيج المختار على قتل عمر بن سعد أن يزيد بن شارحيل الأنصاري أتى محمد بن الحنفية، فسلم عليه؛ فجرى الحديث إلى أن تذاكروا المختار وخروجه وما يدعو إليه من الطلب بدماء أهل البيت، فقال محمد بن الحنفية: على أهون رسله يزعم أنه لنا شيعة، وقتلة الحسين جلساؤه على الكراسي يحدثونه! قال: فوعاها الآخر منه، فلما قدم الكوفة أتاه فسلم عليه، فسأله المختار: هل لقيت المهدي؟ فقال له: نعم، فقال: ما قال لك وماذاكرك؟ قال: فخبره الخبر. قال: فما لبث المختار عمر بن سعد وابنه أن قتلهما، ثم بعث برأسيهما إلى ابن الحنفية مع الرسولين اللذين سمينا، وكتب معهما إلى ابن الحنفية: " بسم الله الرحمن الرحيم " للمهدي محمد بن علي من المختار بن أبي عبيد. سلام عليك يا أيها المهدي، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله بعثني نقمة على أعدائكم، ونصر مؤازريكم. وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا من شرك في دم الحسين وأهل بيته - رحمة الله عليهم - كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقي، ولست بمنجم عنهم حتى لا يبلغني أن على أديم الأرض منهم أرميا فاكتب إلى أيها المهدي برأيك أتبعه وأكون عليه. والسلام عليك أيها المهدي ورحمة الله وبركاته. ثم إن المختار بعث عبد الله بن كامل إلى حكيم بن طفيل الطائي السنبسي - وقد كان أصاب صلب العباس بن علي، ورمى حسينًا بسهم، فكان يقول: تعلق سهمي بسرباله وما ضره فأتاه عبد الله ابن كامل، فأخذه ثم أقبل به، وذهب أهله فاستغاثوه بعدى بن حاتم، فلحقهم في الطريق، فكلم عبد الله بن كامل فيه، فقال: ما إلى من أمره شىء، إنما ذلك إلى الأمير المختار. قال: فإني آتيه؛ قال: فأته راشدًا. فمضى عدى نحو المختار، وكان المختار قد شفعه في نفر منقومه أصابهم يوم جبانة السبيع، لم يكونوا نطقوا بشىء من أمر الحسين ولا أهل بيته، فقالت الشيعة لابن كامل: إنا نخاف أن يشفع الأمير عدى بن حاتم في هذا الحبيث، وله من الذنب ما قد علمت، فدعنا نقتله. قال: شأنكم به، فلما انتهوا به إلى دار العنزيين وهو مكتوف نصبوه غرضًا، ثم قالوا له: سلبت ابن علي ثيابه، والله لنسلبن ثيابك وأنت حي تنظر! فنزعوا ثيابه، ثم قالوا له: رميت حسينًا، واتخذته غرضًا لنبلك، وقلت: تعلق شهمي بسرباله ولم يضره، وايم الله لنرمينك كما رميته بنبال ما تعلق بك منها أجزاك. قال: فرموه رشقًا واحدًا، فوقعت به منهم نبال كثيرة فخر ميتًا. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجارود، عمن رآه قتيلًا كأنه قنفذ لما فيه من كثرة النبل: ودخل عدى بن حاتم على المختار فأجلسه معه على مجلسه، فأخبره عدى عما جاء له، فقال له المختار: أتستحل يا أبا طريف أن تطلب في قتلة الحسين! قال: إنه مكذوب عليه أصلحك الله! قال: إذًا ندعه لك قال: فلم يكن بأسرع من أن دخل ابن كامل فقال له المختار: ما فعل الرجل؟ قال: قتلته الشيعة: قال: وما أعجلك إلى قتله قبل أن تأتيني به وهو لايسره أنه لم يقتله وهذا عدى قد جاء فيه، وهو أهل أن يشفع ويؤتي ما سره! قال: غلبتني والله الشيعة، قال له عدى: كذبت يا عدو الله، ولكن ظننت أن من هو خير منك سيشفعني فيه، فبادرتني فقتلته، ولم يكن خطر يدفعك عما صنعت، قال: فاسحنفر إليه ابن كامل بالشتيمة، فوضع المختار إصبعه على فيه، يأمر ابن كامل بالسكوت والكف عن عدى، فقام عدى، راضيًاعن المختار ساخطًا على ابن كامل، يشكوه عند من لفى من قومه. وبعث المختار إلى قاتل علي بن الحسين عبد الله ابن كامل. وهو رجل من عبد القيس يقال له مرة بن منقذ بن النعمان العبدي وكان شجاعًا، فأتاه ابن كامل فأحاط بداره، فخرج إليهم وبيده الرمح، وهو على فرس جواد، فطعن عبيد الله بن ناجية الشبامى، فصرعه ولم يضره. قال: ويضربه ابن كامل بالسيف فيتقيه بيده اليسرى، فأسرع فيها السيف، وتمطرت به الفرس، فأفلت ولحق بمصعب، وشلت يده بعد ذلك. قال: وبعث المختار أيضًا عبد الله الشاكري إلى رجل من جنب يقال له زيد بن رقاد. كان يقول: لقد رميت فتى منهم بسهم وإنه لواضع كفه على جبهته يتقى النبل فأثبت كفه في جبهته، فما استطاع أن يزيل كفه عن جبهته. قال أبو مخنف: فحدثني أبو عبد الأعلى الزبيدي أن ذلك الفتى عبد الله ابن مسلم بن عقيل، وأنه قال حيث أثبت كفه في جبهته: اللهم إنهم استقلونا واستذلونا، اللهم فاقتلهم كما قتلونا، وأذلهم كما استذلونا. ثم إنه رمى الغلام بسهم آخر فقتله، فكان يقول: جئته ميتًا فنزعت سهمي الذي قتلته به من جوفه، لم أزل أنضنض السهم من جبهته حتى نزعته، وبقى النصل في جبهته مثبتًا ما قدرت على نزعه. قال: فلما أتى ابن كامل داره أحاط بها، واقتحم الرجال عليه، فخرج مصلتًا بسيفه - وكان شجاعًا - فقال ابن كامل: لا تضربوه بسيف، ولا تطعنوه برمح، ولكن ارموه بالنبل، وارجموه بالحجارة، ففعلوا ذلك به، فسقط، فقال ابن كامل: إن كان به رمق فأخرجوه؛ فأحرجوه وبه رمق، فدعا بنار فحرقه بها وهو حي لم تخرج روحه. وطلب المختار سنان ابن أنس الذي كان يدعى قتل الحسين، فوجده قد هرب إلى البصرة. فهدم داره. وطلب المختار عبد الله بن عقبة الغنوي فوجده قد هرب، ولحق بالجزيرة، فهدم داره وكان ذلك الغنوي قد قتل منهم غلامًا. وقتل رجل آخر من بني أسد يقال له حرملة بن كاهل رجلًا من آل الحسين، ففيهما يقول ابن أبي عقب الليثي: وعند غنى قطرة من دمائنا ** وفي أسد أخرى تعد وتذكر وطلب رجلًا من خشعم يقال له عبد الله بن عروة الخثعمي - كان يقول: رميت فيهم باثنى عشر سهمًا ضيعة - ففاته ولحق بصعب، فهدم داره. وطلب رجلًا من صداء يقال له عمرو بن صبيح، وكان يقول: لقد طعنت بعضهم وجرحت فيهم وما قتلت منهم أحدًا، فأتى ليلًا وهو على سطحه وهو لا يشعر بعد ما هدأت العيون. وسيفه تحت رأسه، فأخذوه أخذًا، وأخذوا سيفه، فقال: قبحك الله سيفاُ، ما أقربك وما أبعدك! فجيء به إلى المختار، فحبسه معه في القصر، فلما أن أصبح أذن لاُصحابه، وقيل: ليدخل من شاء أن يدخل، ودخل الناس، وجيء به مقيدًا، ففال: أما والله يا معشر الكفرة الفجرة أن لو بيدي سيفي لعلم أني بنصل السيف غير رعش ولا رعديد، ما يسرني إذا كانت منيتي قتلًا أنه قتلني من الخلق أحد غيركم. لقد علمت أنكم شرار خلق الله. غير أني وددت أن بيدي سيفاُ أضرب به فيكم ساعة، ثم رفع يده فلطم عين ابن كامل وهو إلى جنبه، فضحك ابن كامل، ثم أخذ بيده وأمسكها، ثم قال: إنه يزعم أنه قد جرح في آل محمد وطعن، فمرنا بأمرك فيه، فقال المختار: علي بالرماح، فأتى بها، فقال: أطعنوه حتى يموت، فطعن بالرماح حتى مات. قال: أبو مخنف: حدثني هشام بن عبد الرحمن وابنه بن هشام أن أصحاب المختار مروا بدار بني أبي زرعة بن مسعود، فرموهم من فوقها، فأقبلوا حتى دخلوا الدار، فقتلوا الهبياط بن عثمان بن أبي زرعة الثقفي وعبد الرحمن بن عثمان بن أبي زرعة الثفقي، وأفلتهم عبد الملك ابن أبي زرعة بضربة في رأسه، فجاء يشتد حتى دخل على المختار، فأمر امرأته أم ثابت ابنة سمرة بن جندب، فداوت شجته، ثم دعاه، فقال: لا ذنب لي، إنكم رميم القوم فأغضبتموهم. وكان محمد بن الشعث بن قيس في قرية الشعث إلى جانب القادسية، فبعث المختار إليه حوشبًا سادن الكرسي في مائة، فقال: انطلق إليه فإنك تجده لاهيًا متصيدًا، أو قائمًا متلبدًا، أو خائفًا متلددًا، أو كامنًا متغمدًا، فإن قدرت عليه فأتني برأسه. فخرج حتى أتى قصره فأحاط به، وخرج منه محمد بن الأشعث فلحق بمصعب، وأقاموا على القصر وهم يرون أنه فيه، ثم دخلوا فعلموا أنه قد فاتهم، فانصرفوا ألى المختار، فبعث إلى داره فهدمها، وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي، وكان زياد بن سمية قد هدمها ذكر الخبر عن البيعة للمختار بالبصرة قال أبو جعفر: وفي بهذه السنة دعا المثنى بن مخربة العبدي إلى البيعة للمختار بالبصرة أهلها؛ فحدثني أحمد ين زهير، عن علي بن محمد، عن عبد الله بن عطية الليثي وعامر بن الأسود، أن المثنى بن مخربة العبدي كان ممن شهد عين الوردة مع سليمان بن صرد، ثم رجع مع من رجع ممن بقى من التوابين إلى الكوفة، والمختار محبوس، فأقام حتى خرج المختار من السجن، فبايعه المثنى سرًا، وقال له المختار: الحق ببلدك بالبصرة فارع الناس، وأسر أمرك؛ فقدم البصرة فدعا، فأجابه رجال من قومه وغيرهم فلما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة ومنع عمر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام من الكوفة خرج المثنى بن مخربة فاتخذ مسجدًا، واجتمع إليه قومه، ودعا إلى المختار، ثم أتى مدينة الرزق فعسكر عندها، وجمعوا الطعام في المدينة، ونحروا الجزر، فوجه إليهم القباع عباد بن حصين وهو على شرطته، وقيس بن الهيثم في الشرط والمقاتلة، فأخذوا في سكة الموالي حتى خرجوا إلى السبخة، فوقفوا، ولزم الناس دورهم، فلم يخرج أحد، فجعل عباد ينظر هل يرى أحدًا يسأله! فلم ير أحدًا؛ فقال: أما ها هنا رجل من ينس تميم؟ فقال خليفة الأعور مولى بني عدي، عدى الرباب: هذه دار وراد مولى بني عبد شمس؛ قال: دق الباب، فدقه، فخرج إليه وراد، فشتمه عباد وقال: ويحك! أنا واقف ها هنا، لم لم تخرج إلي! قال: لم أدر ما يوافقك، قال: شد عليك سلاحك واركب، ففعل، ووقفوا، وأقبل أصحاب المثنى فوافقوهم، فقال عباد لوراد: قف مكانك مع قيس، فوقف قيس بن الهيثم ووراد، ورجع عباد فأخذ في طريق الذباحين، والناس وقوف في السبخة، حتى أتى الكلاُ، ولمدينة الرزق أربعة أبواب: باب مما يلي البصرة، وباب إلى الخلالين، وباب إلى المسجد، وباب إلى مهيب الشمال، فأتى الباب الذي يلي النهر مما يلي أصحاب السقط، وهو باب صغير، فوقف ودعا بسلم فوضعه مع حائط المدينة، فصعد ثلاثون رجلًا، وقال لهم: إلزموا السطح، فإذا سمعتم التكبير فكسروا على السطوح، ورجع عباد إلى قيس بن الهيثم وقال لوراد: حرش القوم؛ فطاردهم وراد، ثم التبس القتال فقتل أربعون رجلًا من أصحاب المثنى، وقتل رجل من أصحاب عباد، وسمع الذين على السطوح في دار الرزق الضجة والتكبير، فكبروا، فهرب من كان في المدينة، وسمع المثنى وأصحابه التكبير من ورائهم، فانهزموا، وأمر عباد وقيس بن الهيثم الناس بالكف عن أتباعهم وأخذوا مدينة الرزق وما كان فيها، وأتى المثنى وأصحابه عبد القيس ورجع عباد وقيس ومن معهما إلى القباع فوجههما إلى عبد القيس، فأخذ قيس بن الهيثم من ناحية الجسر، وأتاهم عباد من طريق المربد، فالتقوا فأقبل زياد بن عمرو العتكي إلى القباع وهو في المسجد جالس على المنبر، فدخل زياد المسجد على فرسه، فقال: أيها الرجل، لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنها. فأرسل القباع الأحنف بن قيس وعمر بن عبد الرحمن المخزومي ليصلحا أمر الناس، فأتيا عبد القيس، فقال الأحنف لبكر والأسد والعامة: ألستم على بيعة ابن الزبير؟ قالوا: بلى، ولكنا لا نسلم إخواننا. قال: فمروهم فليخرجوا إلى أي بلد أحبوا، ولا يفسدوا هذا المصر على أهله، وهم آمنون فليخرجوا حيث شاءوا. فمشى مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ووجوه أصحابهم إلى المثنى، فقالوا له ولأصحابه: إنا والله ما نحن على رأيكم، ولكننا كرهنا أن تضاموا، فالحقوا بصاحبكم، فإن من أجابكم إلى رأيكم قليل، وأنتم آمنون. فقبل المثنى قولهما وما أشارا به، وانصرف ورجع الأحنف وقال: ما غبنت رأيي إلا يومي هذا القباع، وشخص المثنى إلى المختار بالكوفة في نغر يسير من أصحابه. وأصيب في تلك الحرب سويد بن رئاب الشنى، وعقبة بن عشيرة الشنى، قتله رجل من بني تميم وقتل التميمي فولغ أخو عقبة بن عشيرة في دم التميمي، وقال: ثأري. وأخبر المختار حين قدم عليه بما كان من أمر مالك بن مسمع وزياد بن عمرو ومسيرهما إليه، وذبهما عنه حتى شخص عن البصرة، فطمع المختار فيهما، فكتب إليهما: أما بعد، فاسمعا وأطيعا أوتيكما من الدنيا ما شئتما، وأضمن لكما الجنة. فقال. مالك لزياد: يا أبا المغيرة، قد أكثر لنا أبو إسحاق إعطاءنا الدنيا والآخرة! فقال زياد لمالك مازحًا: يا أبا غسان، أما أنا فلا أقاتل نسيئة، من أعطانا الدراهم قاتلنا معه. وكتب المختار إلى الأحنف بن قيس: من المختار إلى الأحنف ومن قبله، فسلم أنتم، أما بعد، فويل أم ربيعة من مضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يستطيع لهم الصدر، وإني لا أملك ما خط في القدر، وقد بلغني أنكم تسمونني كذابًا، وقد كذب الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير منهم. وكتب إلى الأحنف: إذا اشتريت فرسًا من مالكًا ** ثم أذت الجوب في شمالكا فاجعل مصاعًا حذما من بالكا حدثني أبو السائب سليم بن جنادة، قال: حدثنا الحسن بن حمادة، عن حبان بن علي، عن المجالد، عن الشعبي، قال: دخلت البصرة فقعدت إلى حلقة فيها الأحنف بن قيس، فقال لي بعض القوم: من أنت؟ قلت: رجل من أهل الكوفة؛ قال: أنتم موال لنا؛ قلت: وكيف؟ قال: قد أنقذناكم من أيدي عبيدكم من أصحاب المختار، قلت: تدري ما قال شيخ همدان فينا وفيكم؟ فقال الأحنف بن قيس: وما قال؟ قلت قال: أفخرتم أن قتلتم أعبدًا ** وهزمتم مرة آل عزل وإذا فاخرتمونا فاذكروا ** ما فعلنا بكم يوم الجمل بين شيخ غاضب عثنونه ** وفتى أبيض وضاح رفل جاءنا يهدج في سابغة ** فذبحناه ضحى ذبح الحمل وعفونا فنسيتم عفونا ** وكفرتم نعمة الله الأجل وقتلتم خشبيين بهم ** بدلًا من قومكم شر بدل فعضب الأحنف، فقال: يا غلام، هات تلك النصيحة، فأتى بصحيفة فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من المختار بن أبي عبيد إلى الأحنفبن قيس، أما بعد، فويل أم ربيعة ومضر، فإن الأحنف مورد قومه سقر، حيث لا يقدرون على الصدر، وقد بلغني أنكم تكذبوني، وإن كذبت فقد كذب رسل من قبلي، ولست أنا خير منهم، فقالوا: هذا منا أو منكم. وقال هشام بن محمد عن أبي مخنف، قال: حدثني منيع بن العلاء السعدي أن مسكين بم عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس كان فيمن قاتل المختار، فلما هزم الناس لحق بآذربيجان بمحمد بن عمير بن عطارد. وقال: عجبت دختنوس لما رأتني ** قد علاني من المشيب خمار فأهلت بصوتها وأرنت ** لاتهالى قد شاب منى العذار إن تريني فقد بان غرب شبابي ** وأتى دون مولدي إعصار فابن عامين وابن خمسين عامًا ** أى دهر إلا له أدهار؟ ليت سيفي لها وجوبتها لي ** يوم قالت ألا كريم يغار ليتنا قبل ذلك اليوم متنا ** أو فعلنا ما تفعل الأحرار فعل قوم تقاذف الخير عنهم ** لم نقاتل وقاتل العيزار ؟ وتوليت عنهم وأصيبوا ** ونفاني عنهم شنار وعار لهف نفسي علي شهاب قريش ** يوم يؤتى برأسه المختار وقال المتوكل الليثي: قتلوا حسينًا ثم هم ينعونه ** إن الزمان بأهله أطوار لا تبعدن بالطف قتلى ضيعت ** وسقى مساكن هامها الأمطار ما شرطة الجال تحت لوائه ** بأضل ممن غره المختار أبنى قسى أوثقوا دجالكم ** يجل الغبار وأنتم أحرار لو كان علم الغيب عند أخيكم ** لتوطات لكم به الأخبار ولكان أمرًا بينًا فيما مضى ** تأتى به الأنباء والأخبار إني لأرجو أن يكذب وحيكم ** طعن يشق عصاكم وحصار ويجيئكم قوم كأن سيوفهم ** بأكفهم تحت العجاجة نار لاينثنون إذا هم لاقوكم ** إلا وهام كماتكم أعشار ذكر الخبر عن بعث المختار جيشه للمكر بابن الزبير قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بعث المختار جيشًا إلى المدينة للمكر بابن الزبير، وهو مظهر لهم أنه وجههم معونة له لحرب الجيش الذي كان عبد الملك بن مروان وجهه إليه لحروبه، فنزلوا وادي القرى. ذكر الخبر عن السبب الداعي كان للمختار إلى توجيه الجيش وإلى ما صار أمرهم: قال: هشام بن محمد: قال أبو محنف: حدثني موسى بن عامر، قال: لما أخرج المختار ابن مطيع من الكوفة لحق بالبصرة. وكره أن يقدم ابن الزبير بمكة وهو مهزوم مفلول، فكان بالبصرة مقيمًا حتى قدم عليه عمر بن عبد الرحمن بن هشام، فصارا جميعًا بالبصرة. وكان سبب قدوم عمر البصرة أن المختار حين ظهر بالكوفة واستجمع له الأمر وهو عند الشيعة إنما يدعو إلى ابن الحنفية والطلب بدماء أهل البيت، أخذ يخادع ابن الزبير ويكتب إليه، فكتب إليه: أما بعد، فقد عرفت مناصحتي إياك وجهدي على أهل عداوتك، وما كنت أعطيتني إذا أنا فعلت ذلك من نفسك فلما وفيت لك، وقضيت الذي كان لك علي، خست بي، ولم تفي بما عاهدتني عليه، ورأيت مني ما قد رأيت، فإن ترد مراجعتي أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لك. وهو يريد بذلك كفه عنه، حتى يستجمع له الأمر، وهو لا يطلع الشيعة على شيء من هذا الأمر، وإذا بلغهم شيء منهم أراهم أنه أبعد الناس عن ذلك، قال: فأراد ابن الزبير أن يعلم أسلم هو أم حرب! فدعا عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فقال له: تجهز إلى الكوفة فقد وليناكها، فقال: كيف وبها المختار! قال: إنه يزعم أنه سامع مطيع. قال: فتجهز بما بين الثلاثين ألف درهم إلى الأربعين ألفًا، ثم خرج مقبلًا إلى الكوفة. قال: ويجيء عين المختار من مكة حتى أخبره الخبر، فقال له: بكم تجهز؟ قال: بما بين الثلاثين ألفًا إلى الأربعين ألفًا. قال: فدعا المختار زائدة بن قدامة وقال له: احمل معك سبعين ألف درهم ضعف ما أنفق هذا في مسيره إلينا وتلقه في المفاوز، واخرج معك مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي في خمسمائة فارس دارع رامح، عليهم البيض، ثم قل له: خذ هذه النفقة فإنها ضعف نفقتك، فإنه قد بلغنا أنك تجهزت وتكلفت قدر ذلك، فكرهنا أن تغرم، فخذها وانصرف، فإن فعل وإلا فأره الخيل وقل له: إن وراء هؤلاء مثلهم مائة كتيبة. قال: فأخذ زائد المال، وانصرف معه الخيل، وتلقاه بالمفاوز، وعرض عليه المال، وأمره بالانصراف، فقال له: إن أمير المؤمنين قد ولاني الكوفة ولا بد من إنفاذ أمره. فدعا زائدة بالخيل وقد أكمنها في جانب، فلما رآها قد قبلت قال: هذا الآن أعذر لي وأجمل بي، هات المال، فقال له زائدة: أما إنه لم يبعث به إليك إلا لما بنيك وبينه، فدفعه إليه فأخذه، ثم مضى راجعًا نحو البصرة، فاجتمع بها هو وابن مطيع في إمارة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وذلك قبل وثوب المثنى بن مخربة العبدي بالبصرة. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم أن المختار أخبر أن أهل الشام قد أقبلوا نحو العراق، فعرف أنه به يبدأ، فخشي أن يأتيه أهل الشام من قبل المغرب، ويأتيه مصعب بن الزبير من قبل البصرة، فوادع ابن الزبير وداره وكايده؛ وكان عبد الملك بن مروان قد بعث عبد الملك ابن الحارث بن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى، والمختار لابن الزبير مكايد موادع، فكتب المختار إلى ابن الزبير: أما بعد، فقد بلغني أن عبد الملك بن مروان قد بعث إليك جيشًا، فإن أحببت أن أمدك بمدد أمددتك. فكتب إليه عبد الله بن الزبير: أما بعد، فإن كنت على طاعتي فلست أكره أن تبعث الجيش إلى بلادي وتبايع لي الناس قبلك، فإذا أتتني بيعتك صدقت مقالتك، وكففت جنودي على بلادك، وعجل علي بتسريح الجيش الذي أنت باعثه، ومرهم فليسيروا إلى من بوادي القرى من جند بن مروان فليقاتلوهم. والسلام. فدعا المختار شرحبيل بن ورس من همذان، فسرحه في ثلاثة آلاف أكثرهم الموالي، ليس فيهم من العرب إلا سبعمائة رجل، فقال له: سر حتى تدخل المدينة، فإذا دخلتها فاكتب إلي بذلك حتى يأتيك أمري، وهو يريد إذا دخلوا المدينة أن تبعث عليهم أميرًا من قبله، ويأمر ابن ورس أن يمضي إلى مكة حتى يحاصر ابن الزبير ويقاتله بمكة، فخرج الآخر يسير قبل المدينة، وخشى ابن الزبير أن يكون المختار إنما يكيده، فبعث من مكة إلى المدينة عباس بن سهل بن سعد في ألفين، وأمره أن يستنفر الأعراب، وقال له ابن الزبير: إن رأيت القوم في طاعتي فاقبل منهم. وإلا فكايدهم حتى تهلكهم. ففعلوا، وأقبل عباس بن سهل حتى لقي ابن ورس بالرقيم، وقد عبى ابن ورس أصحابه، فجعل على ميمنته سلمان ابن حمير الثورى من همدان، وعلى ميسرته عياش بن جعدة الجدلي، وكانت خيله كلها في الميمنة والميسرة، فدنا فسلم عليه، ونزل هو يمشي في الرجالة، وجاء عباس في أصحابه وهم منقطعون على غير تعبية، فيجد ابن ورس على الماء قد عبى أصحابه تعبية القتال، فدنا منهم فسلم عليهم، ثم قال: اخل معي ها هنا، فخلا به، فقال له: رحمك الله! ألست في طاعة ابن الزبير! فقال له ابن ورس: بلى، قال: فسر بنا إلى عدوه هذا الذي بوادي القرى، فإن ابن الزبير حدثني أنه إنما أشخصكم صاحبكم إليهم، قال ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، إنما أمرت أن أسير حتى آتى المدينة، فإذا نزلتها رأيت رأيى. قال له عباس بن سهل: فإن كنت في طاعة ابن الزبير فقد أمرني أن أسير بك وبأصحابك إلى عدونا الذين بوادي القرى، فقال له ابن ورس: ما أمرت بطاعتك، وما أنا بمتبعك دون أن أدخل المدينة، ثم أكتب إلى صاحبي فيأمرني بأمره. فلما رأى عباس بن سهل لجاجته عرف خلافه، فكره أن يعلمه أنه قد فطن له، فقال: فرأيك أفضل، اعمل بما بدا لك؛ فأما أنا فإني سائر إلى وادي القرى. ثم جاء عباس بن سهل فنزل بالماء، وبعث إلى ابن ورس بجزائر كانت معه، فأهداها له، وبعث إليه بدقيق وغنم مسلخة وكان ابن ورس وأصحابه قد هلكوا جوعًا فبعث عباس بن سهل إلى كل عشرة منهم شاة، فذبحوها، واشتغلوا بها، واختلطوا على الماء، وترك القوم تعبيتهم، وأمن بعضهم بعضًا، فلما رأى عباس بن سهل ما هم فيه من الشغل جمع من أصحابه نحوًا من ألف رجل من ذوي البأس والنجدة ثم أقبل نحو فسطاط شرحبيل بن ورس، فلما رآهم ابن ورس مقبلين إليه نادى في أصحابه، فلم يتواف إليه مائة رجل حتى انتهى إليه عباس بن سهل وهو يقول: يا شرطة الله، إلى إلي! قاتلوا المحلين، أولياء الشيطان الرجيم، فإنكم على الحق والهدى، قد غدروا وفجروا. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف أن عباسًا انتهى إليهم، وهو يقول: أنا ابن سهل فارس غير وكل ** أروع مقدام إذا الكبش نكل وأعتلي رأس الطرماح البطل ** بالسيف يوم الروع حتى ينخزل قال: فوالله ما اقتتلنا إلا شيئًا ليس بشىء حتى قتل ابن ورس في سبعين من أهل الحفاظ، ورفع عباس بن سهل راية أمان لأصحاب ابن ورس، فأتوها إلا نحوًا من ثلثمائة رجل انصرفوا مع سلمان بن حمير الهمداني وعياش بن جعدة الجدلى، فلما وقعوا في يد عباس بن سهل أمر بهم فقتلوا إلا نحوًا من مائتي رجل، كره ناس من الناس ممن دفعوا إليهم قتلهم، فخلوا سبيلهم، فرجعوا، فماتأكثرهم في الطريق، فلما بلغ المختار أمرهم، ورجع من رجع منهم، قام خطيبًا فقال: ألا إن الفجار الأشرار، قتلوا الأبرار الأخيار. ألا إنه كان أمرًا مأتيًا، وقضاء مقضيًا. وكتب المختار إلى ابن الحنفية مع صالح بن مسعود الخثمعي: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإني كنت بعثت إليك جندًا ليبذلوا لك الأعداء. وليحوزوا لك البلاد، فساروا إليك حتى إذا أظلوا على طيبة، لقيهم جند الملحد، فخدعوهم بالله، وغروهم بعهد الله، فلما اطمأنوا إليهم، ووثقوا بذلك منهم، وثبوا عليهم فقتلوهم، فإن رأيت أنا بعث إلى المدينة من قبلي جيشًا كثيفًا، وتبعث إليهم من قبلك رسلًا؛ يعلم أهل المدينة أني في طاعتك، وإنما بعثت الجند إليهم عن أمرك، فافعل، فإنك ستجد عظمهم بحقهم أعرف، وبكم أهل البيت أرأف منهم بآل الزبير الظلمة الملحدين. والسلام عليكم. فكتب إليه ابن الحنفية: أما بعد، فإن كتابك لما بلغني قرأته، وفهمت تعظيمك لحقي، وما تنوي به من سروري. وإن أحب الأمور كلها إلى ما أطيع الله فيه، فأطع الله ما استطعت فيما أعلنت وأسررت، واعلم أني لو أردت لوجدت الناس إلي سراعًا، والأعوان لي كثيرًا، ولكني أعتزلهم، وأصبر حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. فأقبل صالح بن مسعود إلى ابن الحنفية فودعه وسلم عليه، وأعطاه الكتاب وقال له: قل للمختار فليتق الله، وليكفف عن الدماء، قال: فقلت له: أصلحك الله! أولم تكتب بهذا إليه! قال له ابن الحنفية: قد أمرته بطاعة الله. وطاعة الله تجمع الخير كله، وتنهى عن الشر كله. فلما قدم كتابه على المختار أظهر للناس أنى قد أمرت بأمر يجمع البر واليسر، ويضرح الكفر والغدر. ذكر الخبر عن قدوم الخشبية مكة وموافاتهم الحج قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قدمت الخشبية مكة، ووافوا الحج وأميرهم أبو عبد الله الجدلي. ذكر الخبر عن سبب قدومهم مكة وموافاتهم الحج وكان السبب في ذلك - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف وعلي بن محمد، عن مسلمة ابن محارب - أن عبد الله بن الزبير حبس محمد بن الحنفية ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلًا من أهل الكوفة بزمزم، وكرهوا البيعة لمن لم تجتمع عليه الأمة، وهربوا إلى الحرم، وتوعدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهدًا إن لم يبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلًا، فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولًا يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما توعدهم به ابن الزبير. فوجه ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه، وما توعدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنار، ويسألهم ألا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته. فقدموا إلى المختار، فدفعوا إليه الكتاب فنادى في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال: هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم، وقد تركوا محظورًا عليهم كما يحظروا على الغنم ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار، ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرًا مؤزرًا، وإن لم أسرب إليهم الخيل في أثر الخيل، كالسيل يتلوه السيل، حتى يحل بابن الكاهلية الويل. ووجه ابا عبد الله الجدلي في سبعين راكبًا من أهل القوة، ووجه ظبيان ابن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة، وأبا المعتمر في مائة، وهانئ ابن قيس في مائة، وعميربن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى محمد بن علي مع الطفيل بن عامر ومحمد بن قيس بتوجيه الجنود إليه، فخرج الناس بعضهم في أثر بعض، وجاء أبو عبد الله حتى نزل ذات عرق في سبعين راكبًا، ثم لحقه عمير بن طارق في أربعين راكبًا، ويونس ابن عمران في أربعين راكبًا، فتموا خمسين ومائة، فسار بهم حتى دخلوا المسجد الحرام، ومعهم الكافركوبات، وهم ينادون: يالثارات الحسين! حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس، وكسروا أعواد زمزم، ودخلوا على ابن الحنفية. فقالوا له: خل بيننا وبين عدو الله ابن الزبير، فقال لهم: إني لأستحل القتال في حرم الله فقال ابن الزبير: أتحسبون أني مخل سبيلهم دون أن يبايع ويبايعوا! فقال أبو عبد الله الجدلى: إي ورب الركن والمقام، ورب الحل والحرام، لتخلين سبيله أو لنجالدنك بأسيافنا جلادًا يرتاب منه المبطلون. فقال ابن الزبير: والله ما هؤلاء إلا أكلة رأس، والله لأذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتى تقطف رؤوسهم، فقال له قيس بن مالك: أما والله إني لأرجو إن رمت ذلك أن يوصل إليك قبل أن ترى فينا ما تحب. فكف ابن الحنفية أصحابه وحذرهم الفتنة، ثم قدم أبو المعتمر في مائة، وهانىء بن قيس في في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين، ومعه المال حتى دخلوا المسجد، فكبروا: يالثارات الحسين! فلما رآهم ابن الزبير خافهم، فخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب على وهم يسبون ابن الزبير. ويستأذنون ابن الحنفية فيه، فيأبى عليهم، فاجتمع مع محمد ابن علي في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسم بينهم ذلك المال. ذكر الخبر عن حصار بني تميم بخراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بني تميم بسبب قتل من قتل منهم ابنه محمدًا. قال علي بن محمد: حدثنا الحسن بن رشيد الجوزجاني عن الطفيل ابن مرداس العمى، قال: لما تفرقت بنو تميم بخراسان أيام ابن خازم، أتى فصر فرتنا عدة من فرسانهم ما بين السبعين إلى الثمانين؛ فولوا أمرهم عثمان بن بشر بن المحتفر المزني، ومعه شعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري، وزهير بن ذؤيب العدوي، وجيهان بن مشجعة الضبى، والحجاج بن ناشب العدوي، ورقبة بن الحر في فرسا بني تميم. قال: فأتاهم ابن خازم، فحصرهم وخندق خندقًا حصينًا. قال: وكانوا يخرجون إليه فيقاتلونه، ثم يرجعون إلى القصر. قال: فخرج ابن خازم يومًا على تعبية من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر إليه، فقال لهم عثمان بن بشر بن المحتفر: انصرفوا اليوم عن ابن خازم، فلا أظن لكم به طاقة، فقال زهير بن ذؤيب العدوي: امرأته طالق إن رجع حتى ينقض صفوفهم وإلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه، فلم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطم أولهم على آخرهم، واستداروا وكر راجعًا، واتبعوه على جنبي النهر يصيحون به: لاينزل إليه أحد، حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدرفيه، فخرج فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى رجع؛ قال: فقال ابن خازم لأصحابه: إذا طاعنتم زهيرًا فاجعلوا في رماحكم كلاليب فأعلقوها في أداته إن قدرتم عليه، فخرج إليهم يومًا وفي رماحكم كلاليب قد هيئوها له، فطاعنوه، فأعلقوا في درعه أربعة أرماح، فالتفتت إليهم ليحمل عليهم، فاضطربت أيديهم، فخلوا رماحهم، فجاء يجر أربعة أرماح حتى دخل القصر؛ قال: فأرسل ابن خازم غزوان بن جزء العدوي إلى زهير فقال: قل له: أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف، وجعلت لك باسار طعمة تناصحني؛ فقال لغزوان: ويحك! كيف أناصح قومًا قتلوا الأشعث ابن ذؤيب! فأسقط بها غزوان عند موسى بن عبد الله بن خازم. قال: فلما طال عليهم الحصار أرسلوا إلى خازم أن خلنا نخرج فنتفرق، فقال: لا إلا أن تنزلوا على حكمي؛ قالوا: فإنا ننزل على حكمك، فقال لهم زهير: ثكلتكم أمهاتكم! والله ليقتلنكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت أنفسًا فموتوا كرامًا، اخرجا بنا جميعًا فإما أن تموتوا جميعًا وإما أن ينجو بغضكم ويهلك بعضكم، وايم الله لئن شددتم عليهم شدةً صادقةً ليفرجن لكم عن مثل طريق المربد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خافكم قال: فأبوا عليه، فقال: أما إني سأريكم، ثم خرج هو ورقبة بن الحر ومع رقبة غلام له ترمى وشعبة بن ظهير. قال: فحملوا على القوم حملةً منكرةً فأفرجوا لهم، فمضوا؛ فأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر فقال لأصحابه: قد رأيتم فأطيعوني، ومضى رقبة وغلامه وشعبة. قالوا: إن فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة، قال: أبعدكم الله! أتأخذون عن أصحابكم! والله لا أكون أجزعكم عند الموت. قال: ففتحوا القصر ونزلوا، فأرسل فقيدهم، ثم ملوا إليه رجلا رجلًا، فأراد أن يمن عليهم، فأبى ابنه موسى، وقال: والله لئن عفوت عنهم لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري؛ فقال له عبد الله: أما والله إني لأعلم أن الغي فيما تأمرني به، ثم قتلهم جميعًا إلا ثلاثة؛ قال: أحدهم الحجاج بن ناشب العدوي - وكان رمى ابن خازم وهو محاصرهم بكسر ضرسه، فحلف لئن ظفر به ليقتلنه أو ليقطعن يده، وكان حدثًا، فكلمه فيه رجال من بني تميم كانوا معتزلين؛ من عمرو بن حنظلة، فقال رجل منهم: ابن عمي وهو غلام حدث جاهل؛ هبه لي، قال: فوهبه له، وقال: النجاء! لا أرينك قال: وجيهان بن مشجعة الضبي الذي ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم: خلوا هذا البغل الدارج، ورجل من بني سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر. قال: وجاءوا بزهير بن ذؤيب فأرادوا حمله وهو مقيد، فأبى وأقبل يحجل حتى جلس بين يديه، فقام له ابن خازم: كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باسار طعمة؟ قال: لو لم تصنع بي إلا جقن دمى لشكرتك، فقام ابنه موسى فقال: تقتل الضبع وتترك الذيخ! تقتل اللبؤة وتترك الليث! قال: ويحك! نقتل مثل زهير! من لقتال عدو المسلمين! من النساء العرب! قال: والله لوشركت في دم أخي أنت لقتلتك؛ فقام رجل من بني سليم إلى ابن خازم، فقال: أذكرك الله في زهير! فقال له موسى: اتخذه فحلًا لبناتك، فغضب ابن خازم، فأمر بقتله، فقال له زهير: إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقتلني على حدة، ولا تخلط دمي بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا وأمرتهم أن يموتوا كرامًا، وأن يخرجوا عليكم مصلتين، وايم الله أن لو فعلوا لذعروا بنيك هذا، وشغلوه بنفسه عن طلب الثأر بأخيه فأبوا، ولو فعلوا ما قتل منهم رجل حتى يقتل رجالًا فأمر به فنحى ناحية فقتل. قال مسلمة بن محارب: فكان الأحنف بن قيس إذا ذكرهم قال: قبح الله ابن خازم! قتل رجالًا من بني تميم بابنه، ضبي وغدا أحمق لايساوي علقًا. ولو قتل منهم رجلًا به لكان وفى. قال: وزعمت بنو عدي انهم لا أرادوا حمل زهير بن ذؤيب أبى واعتمد على رمحه وجمع رجليه فوثب الخندق، فلما بلغ الحريش بن هلال قتلهم قال: أعاذل إني لم ألم في قتالهم ** وقد عض سيفي كبشهم ثم صمما أعاذل ما وليت حتى تبددت ** رجال وحتى لم أجد متقدما أعاذل أفناني السلاح ومن يطل ** مقارعو الأبطال يرجع مكلما أعيني إن أنزفتما الدمع فاسكبا ** دمًا زمًا لي دون أن تسكبا الدما أبعد زهير وابن بشر تتابعا ** وورد أرجى في خراسان مغنما أعذل كم من يوم حرب شهدته ** أكر إذا ما فارس السوء أحجما يعني بقوله: أبعد زهير، زهير بن ذؤيب، وابن بشر، عثمان بن بشر المحتفز المازني، وورد بن الفلق العنبري، قتلوا يومئذ، وقتل سليمان بن المحتفز أخو بشر. قال أبو جعفر: وجج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير من قبل أخيه عبد الله، وعلى البصرة الحارث ابن عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وكانت الكوفة بها المختار غالبًا عليها، وبخراسان عبد الله بن خازم. شخوص إبراهيم بن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد وفي هذه السنة شخص إبراهيم بن الأشتر متوجهًا إلى عبيد الله ابن زياد لحربه، وذلك لثمان يقين من ذي الحجة. قال هشام بن محمد: حدثني أبو مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح - وكان قد أدرك ذلك - قال: حدثني فضيل بن خديج - وكان قد شهد ذلك - وغيرهما. قالوا: ما هو إلا أن فرغ المختار من أهل السبيع وأهل الكناسة، فما نزل إبراهيم بن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه له لقتال أهل الشام، فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وأخرج المختار معه من وجوه أصحابه وفرسانهم وذوي البصائر منهم: ممن قد شهد الحرب وجربها، وخرج معه قيس بن طهفة النهدي على ربع أهل المدينة، وأمر عبد الله بن حية الأسدي على ربع مذبح جج وأسد، وبعث الأسود بن جراد الكندي على ربع كندة وربيعة. وبعث حبيب بن منقذ الثوري من همدان على ربع تميم وهمدان، وخرج معه المختار يشيعه حتى إذا بلغ دير عبد الرحمن بن أم الحكم، إذا أصحاب المختار قد استقبلوه، قد حملوا الكرسي على بغل أشهب كانوا يحملونه عليه، فوقفوا به على القنطرة، وصاحب أمر الكرسي حوشب البرسمي، وهو يقول: يا رب عمرنا في طاعتك، وانصرنا على الأعداء، واذكرنا ولا تنسنا واسترنا، قال: وأصحابه يقولون: آمين آمين؛ قال فضيل: فأنا سمعت ابن نوف الهمداني يقول: قال المختار: أما ورب المرسلات عرفا ** لنقتلن بعد صف صفا وبعد ألف قاسطين ألفًا قال: فلما انتهى إليهم المختار وابن الأشر ازدحموا ازدحامًا شديدًا على القنطرة، ومضى المختار مع إبراهيم إلى قناطر رأس الجالوت - وهي إلى جنب دير عبد الرحمن - فإذا أصحاب الكرسي قد وقفوا على قناطر رأس الجالوت يستنصرون، فلما صار المختار بين قنطرة دير عبد الرحمن وقناطر رأس الجالوت وقف، وذلك حين أراد أن ينصرف، فقال لابن الأشتر: خذ عني ثلاثًا: خف الله في سر أمرك وعلانيته، وعجل السير، وإذا لقيت عدوك فناجزهم ساعة تلقاهم، وإن لقيتهم نهارًا فلا تنتظر بهم الليل حتى تحاكمهم إلى الله. ثم قال: هل حفظت ماأوصيتك به؟ قال: نعم، قال: صحبك الله؛ ثم انصرف. وكان موضع عسكر إبراهيم بموضع حمام أعين، ومنه شخص بعسكره. ذكر أمر الكرسي الذي كان المختار يستنصر به قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج قال: لما انصرف المختار مضى إبراهيم ومعه أصحابه حتى انتهى إلى أصحاب الكرسي وقد عكفوا حوله وهم رافعو أيديهم إلى السماء يستنصرون، فقال إبراهيم: اللهم لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء - سنة بني إسرائيل، والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم - فلما جاز القنطرة إبراهيم وأصحابه انصرف أصحاب الكرسي. ذكر الخبر عن سبب كرسي المختار الذي يستنصر به هو وأصحابه قال أبو جعفر: وكان بدء سببه ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله ابن المبارك، عن إسحاق بن طلحة، قال: حدثني معبد بن خالد، قال: حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة، قال: أعدمت مرة من الورق، فإني لكذلك إذ خرجت يومًا فإذا زيات جار لي، له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر على بالي أن لو قلت للمختار في هذا! فرجعت فأرسلت إلى الزيات: أرسل إلي بالكرسي، فأرسل إلي به، فأتيت المختار، فقلت: إني كنت أكتمك شيئًا لم أستحل ذلك، فقد بدا لي أن أذكره لك، قال: وما هو؟ قلت: كرسي كان جعد بن هبيرة يجلس عليه كأنه يرى أن فيه أثرة من علم، قال: سبحان الله! فأخرت هذا إلى اليوم! ابعث إليه، ابعث إليه، قال: وقد غسل وخرج عود نضار، وقد تشرب الزيت، فخرج يبص، فجئ به وقد غشي، فأمر لي باثني عشر ألفًا، ثم دعا: الصلاة جامعة. فحدثني معبد بن خالد الجدلي فقال: انطلق بي وبإسماعيل بن طلحة ابن عبيد الله وشبث بن ربعى والناس يجرون إلى المسجد، فقال المختار: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه؛ فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئية فرفعوا أيديهم، وكبروا ثلاثًا، فقام شبت بن ربعى وقال: يا معشر مضر، لاتكفرن، فنحوه فذبوه وصدوه وأخرجوه، قال إسحاق: فوالله إني لأرجو أنها لشبت، ثم لم يلبث أن قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد نزل بأهل الشام باجميرة، فخرج بالكرسي على بغل وقد غشى، يمسكه عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فقتل أهل الشام مقتلة لم يقتلوا مثلها، فزادهم ذلك فتنة، فارتفعوا فيه حتى تعاطوا الكفر، فقلت: إنا لله! وندمت على ما صنعت، فتكلم الناس في ذلك، فغيب، فلم أره بعد. حدثني عبد الله، قال: حدثني أبي قال: قال أبو صالح: فقال في ذلك أعشى همدان كما حدثني غير عبد الله: شهدت عليكم أنكم سبئية ** وإني بكم يا شرطة الشرك عارف وأقسم ما كرسيكم بسكينة ** وإن كان قد لفت عليه اللفائف وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت ** شبام حواليه ونهد وخارف وإني امرؤ أحببت آل محمد ** وتابعت وحيًا ضمنته المصاحف وتابعت عبد الله لما تتابعت ** عليه قريش: شمطها والغطارف وقال المتوكل الليثي: أبلغ أبا إسحاق إن جئته ** أنى بكرسيكم كافر تنزو شبام حول أعواده ** وتحمل الوحى له شاكر محمرة أعينهم حوله ** كأنهن الحمص الحادر فأما أبو مخنف: فإنه ذكر عن بعض شيوخ قصة هذا الكرسي غير الذي ذكره عبد الله بن أحمد بالإسناد الذي حدثنا به، عن طفيل بن جعدة. والذي ذكر من ذلك ما حدثنا به، عن هشام بن محمد. عنه، قال: حدثنا هشام بن عبد الرحمن وابنه الحكم بن هشام، أن المختار قال لآل جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي - وكانت أم جعدة أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب عليه السلام لأبيه وأمه: ائتوني بكرسي علي بن أبي طالب؛ فقالوا لا والله ما هو عندنا، وما ندري من أين نجيء به! قال: لا تكونن حمقى، اذهبوا فأتوني به، قال: فظن القوم عند ذلك أنهم لا يأتون بكرسي، فيقولون: هو هذا إلا قبله منهم، فجاءوا بكرسي فقالوا: هو هذا فقبله، قال: فخرجت شبام وشاكر ورؤوس أصحاب المختار وقد عصبوه بالحرير والديباج. قال أبو مخنف، عن موسى بن عامر أبي الأشعر الجبهني: إن الكرسي لما بلغ ابن الزبير أمره قال: أين بعض جنادبة الأزد عنه! قال أبو الأشعر: لما جيء بالكرسي كان أول من سدنه موسى بن أبي موسى الأشعري، وكان يأتي المختار أول ما جاء ويحف به، لأن أمه أم كلثوم بنت الفضل بن العباس بن عبد المطلب. ثم إنه بعد ذلك عتب عليه فاستحيا منه، فدفعه إلى حوشب البرسمي، فكان صاحبه حتى هلك المختار. قال: وكان أحد عمومة الأعشى رجلًا يكنى أبا أمامة يأتي مجلس أصحابه فيقول: قد وضع لنا اليوم وحي ما سمع الناس بمثله، فيه نبأ ما يكون من شيء. قال أبو مخنف: حدثنا موسى بن عامر أنه إنما كان يضع ذلك لهم عبد الله بن نوف. ويقول: المختار أمرني به، ويتبرأ المختار منه. ثم دخلت سنة سبع وستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك: مقتل عبيد الله بن زياد ومن كان معه من أهل الشام ذكر الخبر عن صفة مقتله ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الصلت، عن أبي سعيد الصيقل، قال: مضينا مع إبراهيم بن الأشتر ونحن نريد عبيد الله بن زياد ومن معه من أهل الشام، فخرجنا مسرعين لا ننثني، نريد أن نلقاه قبل أن يدخل أرض العراق. قال: فسبقناه إلى تخوم أرض العراق سبقًا بعيدًا، ووغلنا في أرض الموصل، فتعجلنا إليه، وأسرعنا السير، فنلقاه في خازر إلى جنب قرية يقال لها باربيثا، بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، وقد كان ابن الأشتر جعل على مقدمة الطفيل بن لقيط؛ من وهبيل من النخع - رجلًا من قومه - وكان شجاعًا بئيسًا، فلما أن دنا من ابن زياد ضم حميد بن حريث إليه، وأخذ ابن الأشتر لايسير إلا على تعبية، وضم أصحابه كلهم إليه بخيله ورجاله، فأخذ يسير بهم جميعًا لايفرقهم، إلا يبعث الطفيل بن لقيط في الطلائع حتى نزل تلك القرية. قال: وجاء عبيد الله بن زياد حتى نزل قريبًا مكنهم على شاطئ خازر. وارسل عمير بنالحباب السلمى إلى ابن الأشتر: إني معك، وأنا أريد الليلة لقاءك، فأرسل إليه ابن الأشتر: أن القنى إذا شئت؛ وكانت قيس كلها بالجزيرة، فهم أهل خلاف لمروان وآل مروان، وجند مروان يومئذ كلب وصاحبهم ابن بحدل. فأتاه عمير ليلًا فبايعه، وأخبره أنه على ميسرة صاحبه، وواعده أن ينهزم بالناس، وقال ابن الأشتر: ما رأيك؟ أخندق على وأتلوم يومين أو ثلاثة؟ قال عمير بن الحباب: لا تفعل، إنا لله! هل يريد القوم إلا هذه! إن طاولوك وما طالوك فهو خير لهم، هم كثير أضعافكم. وليس يطيق القليل الكثير في المطاولة، ولكن ناجز القوم فإنهم قد ملئوا منكم رعبًا، فأتهم فإنهم إن شاموا أصحابك وقاتلوهم يومًا بعد يوم، ومرة بعد مرة أنسوا بهم، واجترءوا عليهم؛ قال إبراهيم: الآن علمت أنك لي مناصح، صدقت، الرأي ما رأيت، أما إن صاحبي بهذا أوصاني، وبهذا الرأي أمرني. قال عمير: فلا تعدون رأيه، فإن الشيخ قد ضرسته الحروب، وقاسى منها ما لم نقاس، أصبح فناهض الرجل. ثم إن عميرًا انصرف، وأذكى ابن الأشتر حرسه تلك الليلة الليل كله، ولم يدخل عينه غمض، حتى إذا كان في السحر الأول عبى أصحابه، وكتب كتائبه، وأمر أمراءه. فبعث سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي على ميمنته، وعلي بن مالك الجشمي على ميسرته، وهو أخو أبي الأخوص. وبعث عبد الرحمن بن عبد الله - وهو أخو إبراهيم الأشتر لأمه - على الخيل، وكانت خيله قليلة فضمها إليه، وكانت في الميمنة والقلب، وجعل على رجالته الطفيل بن لقيط، وكانت رايته مع مزاحم بن مالك. قال: فلما انفجر الفجر صلى بهم الغداة بغلس، ثم خرج بهم فصفهم، ووضع أمراء الأرباع في مواضعهم، وألحق أمير الميمنة بالميمنة، وأمير الميسرة بالميسرة، وأمير الرجالة بالرجالة. وضم الخيل إليه، وعليها أخوه لأمه عبد الرحمن بن عبد الله، فكانت وسطًا من الناس، ونزل إبراهبم يمشي، وقال للناس: ازحفوا، فزحف الناس معه على رسلهم رويدًا رويدًا حتى أشرف على تل عظيم مشرف على القوم، فجلس عليه، وإذا أولئك لم يتحرك منهم أحد بعد - فسرح عبد الله بن زهير السلولي وهو على فرس له يتأكل تأكلًا، فقال: قرب على فرسك حتى تأتيني بخبر هوْلاء، فانطلق، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء، فقال: قد خرج القوم على دهش وفشل، لقيني رجل منهم فما كان له هجيري إلا يا شيعة أبي تراب، يا شيعة المختار الكذاب! فقلت: ما بيننا وبينكم أجل من الشتم، فقال لي: يا عدو الله، إلام تدعوننا! أنتم تقاتلون مع غير إمام، فقلت له: بل يالشارات الحسن، ابن رسول الله! ادفعوا إلينا عبيد الله بن زياد، فإنه قتل ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنه حتى نقتله ببعض موالينا الذين قتلهم مع الحسين، فإنا لانراه لحسين ندًا فنرضى أن يكون منه قودًا، وإذا دفعتموه إلينا فقتلناه ببعض موالينا الذين قتلهم جعلنا بيننا وبينكم كتاب الله، أو أي صالح من المسلمين شتم حكمًا، فقال لي: قد جربناكم مرة أخرى في مثل هذا - يعني الحكمين - فغدرتم. فقلت له: وما هو؟ فقال: قد جعلنا بيننا وبينكم حكمين فلم ترضوا بحكمهما؛ فقلت له: ما جئت بحجة، ئغنما كان صلحنا على أنهما إذا اجتمعنا على رجل تبعنا حكمهما. ورضينا به وبايعناه. فلم يجتمعا على واحد، وتفرقا، فكلاهما لم يوفقه الله لخير ولم يسدده. فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقلت له: من أنت؟ فقال: عدس - لبغلته يزجرها - فقلت له: ما أنصفتني، هذا أول غدرك! قال: ودعا ابن الأشتر بفرس له فركبه، ثم أمر بِأصحاب الرايات كلها، فكلما مر على راية وقف عليها، ثم قال: يا أنصار الدين. وشيعة الحق، وشرطة الله، هذا عبيد الله بن مرجانة قاتل الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله. حال بينه وبين بناته ونسائه وشيعته وبين ماء الفرات أن يشربوا منه، وهم ينظرون إليه، ومنعه أن يأتي ابن عمه فيصالحه، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله، ومنعه الذهاب في الأرض العريضة حتى قتله وقتل أهل بيته؛ فوالله ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول الله ﷺ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. قد جاءكم الله به، وجاءه بكم، فوالله إني لأرجو ألا يكون الله جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلا ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم، فقد علم الله أنكم خرجتم غضبًا لأهل بيت نبيكم. فسار فيما بين الميمنة والميسرة، وسار في الناس كلهم فرغبهم في الجهاد، وحرضهم على القتال. ثم رجع حتى نزل تحت رايته، وزحف لقوم إليه، وقد جعل ابن زياد على ميمنته الحصين بن نمير السكوني، وعلى ميسرته عمير بن الحباب السلمى، وشرحبيل بن ذي الكلاع على الخيل وهو يمشي في الرجال، فلما تدانى الصفان حمل الحصين بن نمير في ميمنة أهل الشام على ميسرة أهل الكوفة، وعليها علي بن مالك الجشمي؛ فثبت له هو بنفسه فقتل، ثم أخذ رايته قرة بن علي، فقتل أيضًا في رجال من أهل الحفاظ قتلوا وانهزمت الميسرة، فأخذ راية علي بن مالك الجشمي عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي ابن أخا حبشى بن جنادة صاحب رسول الله ﷺ، فاستقبل أهل الميسرة حين انهزموا، فقال: إلي يا شرطة الله؛ فأقبل إليه جلهم، فقال: هذا أميركم يقاتل، سيروا بنا إليه، فأقبل حتى أتاه وإذا هو كاشف عن رأسه ينادي: يا شرطة الله، إلي أنا ابن الأشتر! إن خير فراركم كراركم، ليس مسيئًا من أعتب، فثاب إليه أصحابه، وأرسل إلي صاحب الميمنة: احمل على مسيرتهم - وهو يرجو أن ينهزم لهم عمير ابن الحباب كما زعم، فحمل عليهم صاحب الميمنة، وهو سفيان بن يزيد ابن المغفل، فثبت له عمير بن الحباب وقاتله قتالًا شديدًا، فلما رأى إبراهيم ذلك قال لأصحابه: أموا هذا السواد الأعظم، فوالله لو قد فضضناه لانجفل من ترون منهم يمنة ويسرة انجفال طير ذعرتها فطارت. قال أبو مخنف: حدثني إبراهيم بن عبد الله الأنصاري، عن ورقاء ابن عازب، قال: مشينا إليهم حتى إذا دنونا منهم أطلعنا بالرماح قليلًا، ثم صرنا إلى السيوف والعمد، فاضطربنا بها مليًا من النهار، فوالله ما شبهت ما سمعت بيننا وبينهم من وقع الحديد إلا مياجن قصارى دار الوليد بن عقبة بن أبي معيط. قال: فكان ذلك كذلك، ثم إن الله هزمهم، ومنحنا أكتافهم. قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق أن إبراهيم بن الأشتر كان يقول لصاحب رايته: انغمس برايتك فيهم، فيقول له: إنه - جعلت فداك - ليس لي متقدم، فيقول: بلى، فإن أصحابك يقاتلون؛ وإن هؤلاء لا يهربون إن شاء الله؛ فإذا تقدم صاحب الراية برايته شد إبراهيم بسيفه فلا يضرب به رجلًا إلا صرعه. وكرد إبراهيم الرجال من بين يديه كأنهم الحملان، وإذا حمل برايته شد أصحابه شدة رجل واحد. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي أنه كان مع عبيد الله بن زياد يومئذ حديدة لا تليق شيئًا مرت به، وأنه لما هزم أصابه حمل عيينة ابن أسماء أخت هند بنت أسماء - وكانت امرأة عبيد الله بن زياد - فذهب بها وأخذ يرتجز ويقول: إن تصرمى حبالنا فربما ** أرديت في الهيجاء الكمى المعلما قال أبو مخنف: وحدثني فيصل بن خديج أن إبراهيم لما شد على ابن زياد وأصحابه انهزموا بعد قتال شديد وقتلى كثيرة بين الفريقين، وإن عمير بن الحباب لما رأى أصحاب إبراهيم قد هزموا أصحاب عبيد الله بعث إليه: أجيئك الآن؟ فقال: لا تأتيني حتى تسكن فورة شرطة الله، فإني أخاف عليك عاديتهم. وقال ابن الأشتر: قتلت رجلًا وجدت منه رائحة المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، تحت راية منفردة، على شاطئ نهر خازر. فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد قتيلًا، ضربه فقده بنصفين، فذهبت رجلاه في المشرق، ويداه في المغرب. وحمل شريك بن جدير التغلبي على الحصين بن نمير السكوني وهو يحسبه عبيد الله بن زياد، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، ونادى التغلبي: اقتلوني وابن الزانية؛ فقتل ابن نمير. وحدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، قال: حدثني الحسن بن كثير، قال: كان شريك بن جدير التغلبي مع علي عليه السلام، أصيبت عينه معه، فلما انقضت حرب علي لحق ببيت المقدس، فكان به، فلما جاءه قتل الحسين، قال: أعاهد الله إن قدرت على كذا وكذا - يطلب بدم الحسين - لأقتلن ابن مرجانة أو لأموتن دونه. فلما بلغه أن المختار خرج يطلب بدم الحسين أقبل إليه. قال: فكان وجهه مع إبراهيم بن الأشتر، وجعل على خيل ربيعة، فقال لأصحابه: إني عاهدت الله على كذا وكذا فبايعه ثلثمائة على الموت، فلما التقوا حمل فجعل يهتكها صفًا صفًا مع أصحابه حتى وصلوا إليه، وثار الرهج فلا يسمع إلا وقع الحديد والسيوف، فانفرجت عن الناس وهما قتيلان ليس بينهما أحد، التغلبي وعبيد الله ابن زياد، قال: وهو الذي يقول: كل عيش قد أراه قذرًا ** غير ركز الرمح في ظل الفرس قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: قتل شرحبيل بن ذي الكلاع، فادعى قتله ثلاثة: سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي، وورقاء بن عازب الأسدي، وعبيد الله بن زهير السلمي. قال: ولما هزم أصحاب عبيد الله تبعهم أصحاب إبراهيم بن الأشتر، فكان من غرق أكثر ممن قتل، وأصابوا عسكرهم فيه من كل شيء، وبلغ المختار وهو يقول لأصحابه: يأتيكم الفتح أحد اليومين إن شاء الله من قبل إبراهيم ابن الأشتر وأصحابه، قد هزموا أصحاب عبيد الله بن مرجانة. قال: فخرج المختار من الكوفة، واستخلف عليها السائب بن مالك الأشعري، وخرج بالناس، ونزل ساباط. قال أبو مخنف: حدثني المشرقي، عن الشعبي، قال: كنت أنا وأبي ممن خرج معه، قال: فلما جزنا ساباط قال للناس: أبشروا فإن شرطة الله قد حسوهم بالسيوف يومًا إلى الليل بنصيبين أو قريبًا من نصيبين ودوين منازلهم، إلا أن جلهم محصور بنصيبين. قال: ودخلنا المدائن، واجتمعنا إليه، فصعد المنبر، فوالله إنه ليخطبنا ويأمرنا بالجد وحسن الرأي والاجتهاد والثبات على الطاعة، والطلب بدماء أهل البيت عليهم السلام، إذ جاءته البشرى تترى يتبع بعضها بعضًا بقتل عبيد الله بن زياد وهزيمة أصحابه، وأخذ عسكره. وقتل أشراف أهل الشام، فقال المختار: يا شرطة الله، ألم أبشركم بهذا قبل أن يكون! قالوا: بلى والله لقد قلت ذلك، قال: فيقول لي رجل من بعض جيراننا من الهمذانيين: أتؤمن الآن يا شعبي؟ قال: قلت بأي شيء أؤمن؟ أؤمن بأن المختار يعلم الغيب! لاأؤمن بذلك أبدًا. قال: أولم يقل لنا: إنهم قد هزموا! فقلت له: إنما زعم لنا أنهم هزموا بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما هو بخازر من أرض الموصل، فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم، فقلت له: من هذا الهمذاني الذي يقول لك هذا؟ فقال: رجل لعمري كان شجاعًا - قتل مع المختار بعد ذلك يوم حروراء - يقال له: سلمان بن حمير من الثوريين من همذان، قال: وانصرف المختار إلى الكوفة، ومضى ابن الأشتر من عسكره إلى الموصل، وبعث عماله عليها، فبعث أخاه عبد الرحمن بن عبد الله على نصيبين، وغلب على سنجار ودارا، وما والاها من أرض الجزيرة، وخرج أهل الكوفة الذين كان المختار قاتلهم فهزمهمن فلحقوا بمصعب بن الزبير بالبصرة. وكان فيمن قدم على مصعب شبث بن ربعي، فقال سراقة ابن مرداس البارقي يمدح إبراهيم بن الأشتر وأصحابه في قتل عبيد الله ابن زياد: أتاكم غلام من عرانين مذحج ** جري على الأعداء غيرنكول فيابن زياد بؤ بأعظم مالك ** وذق حد ماضي الشفرتين صقيل ضربناك بالعضب الحسام بحدة ** إذا ما أبأنا قاتلا بقتيل جزى الله خيرًا شرطة الله إنهم ** شفوا من عبيد الله أمس غليلي ذكر الخبر عن عزل القباع عن البصرة وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير القباع عن البصرة، وبعث عليها أخاه مصعب بن الزبير، فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي ابن محمد، قال: حدثنا الشعبي. قال: حدثني وافد بن أبي ياسر. قال: كان عمرو بن سرح مولى الزبير يأتينا فيحدثنا. قال: كنت والله في الرهط الذين قدموا مع المصعب بن الزبير من مكة إلى البصرة؛ قال: فقدم متلثمًا حتى أناخ على باب المسجد، ثم دخل فصعد المنبر، فقال الناس: أمير أمير. قال: وجاء الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو أميرها قبله - فسفر المصعب فعرفوه. وقالوا: مصعب بن الزبير! فقال: للحارث: اظهر اظهر، فصعد حتى جلس تحته من المنبر درجة؛ قال: ثم قام المصعب فحمد الله وأثنى عليه. قال: فو الله ما أكثر الكلام. ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم: " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى " إلى قوله: " إنه كان من المفسدين " - وأشار بيده نحو الشام - " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " - وأشار بيده نحو الحجاز - " وترى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " - وأشار بيده نحو الشام حدثني عن عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، عن عوانة، قال: لما قدم مصعب البصرة خطبهم فقال: يا أهل البصرة، بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار. ذكر خبر قتل مصعب المختار بن أبي عبيد وفي هذه السنة سار مصعب بن الزبير إلى المختار فقتله. ذكر الخبر عن سبب مسير مصعب إليه والخبر عن مقتل المختار قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، حدثني حبيب بن بديل، قال: لما قدم شبث على مصعب بن الزبير البصرة وتحته بغله له قد قطع ذنبها، وقطع طرف أذنها وشق قباءه، وهو ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! فأتى مصعب، فقيل له: إن بالباب رجلًا ينادي: ياغوثاه ياغوثاه! مشقوق القباء، من صفته كذا وكذا، فقال لهم: نعم، هذا شبث بن ربعي لم يكن ليفعل هذا غيره، فأدخلوه، فأدخل عليه، وجاءه أشراف الناس من أهل الكوفة فدخلوا عليه، فأخبروه بما اجتمعوا له، وبما أصيبوا به ووثوب عبيدهم ومواليهم عليهم، وشكوا إليه، وسألوه النصر لهم، والمسير إلى المختار معهم. وقدم عليهم محمد بن الأشعث بن قيس - ولم يكن شهد وقعة الكوفة، كان في قصر له مما يلي القادسية بطيزناباذ - فلما بلغه هزيمة الناس تهيأ للشخوص، وسأل عنه المختار، فأخبر بمكانه، فسرح إليه عبد الله بن قراد الخثعمي في ماء، فلما ساروا إليه، وبلغه أن قد دنوا منه، خرج في البرية نحو المصعب حتى لحق به، فلما قدم على المصعب استحثه بالخروج، وأدناه مصعب وأكرمه لشرفه. قال: وبعث المختار إلى دار محمد بن الأشعث فهدمها. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف بن يزيد أن المصعب لما أراد المسير إلى الكوفة حين أكثر الناس عليه، قال لمحمد بن الأشعث: إني لا أسير حتى يأتني المهلب بن أبي صفرة. فكتب المصعب إلى المهلب - وهو عامله على فارس: أن أقبل إلينا لتشهد أمرنا، فإنا نريد المسير إلى الكوفة. فأبطأ عليه المهلب وأصحابه، واعتل بشيء من الخراج، لكراهة الخروج، فأمر مصعب محمد بن الأشعث في بعض ما يستحثه أن يأتي المهلب فيقبل به، وأعلمه أنه لا يشخص دون أن يأتي المهلب؛ فذهب محمد بن الأشعث بكتاب المصعب إلى المهلب، فلما قرأه قال له: مثلك يا محمد من يأتي بريدًا! أما وجد المصعب بريدًا غيرك! قال محمد: إني والله ما أنا ببريد أحد، غير أن نساءنا وأبناءنا وحرمنا غلبنا عليهم عبداننا وموالينا. فخرج المهلب، وأقبل بجموع كثيرة وموال عظيمة معه في جموع وهيئة ليس بها أحد من أهل البصرة. ولما دخل المهلب البصرة أتى باب المصعب ليدخل عليه وقد أذن للناس، فحجبه الحاجب وهو لا يعرفه، فرفع المهلب يده فكسر أنفه، فدخل إلى المصعب وأنفه يسيل دمًا، فقال له: مالك؟ فقال: ضربني رجل ما أعرفه، ودخل المهلب فلما رآه الحاجب قال: هو ذا، قال له المصعب: عد إلى مكانك، وأمر المصعب الناس بالمعسكر عند الجسر الأكبر، ودعا عبد الرحمن بن مخنف فقال له: ائت الكوفة فأخرج إلى جميع من قدرت عليه أن تخرجه، وادعهم إلى بيعتي سرًا، وخذل أصحاب المختار، فانسل من عنده حتى جلس في بيته مسترًا لايظهر، وخرج المصعب فقدم أمامه عباد بن الحصين الحبطي من بني تميم على مقدمته، وبعث عمر بن عبيد الله بن معمر على ميمنته، وبعث المهلب بن أبي صفرة على ميسرته، وجعل مالك بن مسمع على خمس بكر بن وائل، ومالك بن المنذر على خمس عبد القيس، والأحنف بن قيس على خمس تميم وزياد بن عمرو الأزدي على خمس الأزد، وقيس الهيثم على خمس أهل العالية؛ وبلغ ذلك المختار، فقام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة، يا أهل الدين، وأعوان الحق، وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول، وآل الرسول، إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ليمصح الحق، وينتعش الباطل، ويقتل أولياء الله، والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفرى على الله واللعن لأهل بيت نبيه. انتدبوا مع أحمر بن شميط فإنكم لو قد لقيتموه لقد قتلتموه إنا شاء الله قتل عاد وإرم. فخرج أحمر بن شميط، فعسكر بحمام أعين، ودعا المختار رءوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر، فبعثهم مع أحمر بن شميط، كما كانوا مع أبي الأشتر، فإنهم إنما فارقوا بن الأشتر؛ لأنهم رأوه كالمتهاون بأمر المختار، فانصرفوا عنه، وبعثهم المختار مع ابن شميط، وبعث معه جيشًا كثيفًا، فخرج ابن شميط، فبعث على مقدمته ابن كامل الشاكري، وسار أحمر بن شميط حتى ورد المذار، وجاء المصعب حتى عسكر منه قريبًا. ثم إن كل واحد منهما عبى جنده. ثم تزاحقا، فجعل أحمر بن شميط على ميمنته عبد الله بن كامل الشاكري، وعلى ميسرته عبد الله ابن وهب بن نضلة الجشمي، وعلى الخيل رزين بن عبد السلولي. وعلى الرجالة كثير بن إسماعيل الكندي - وكان يوم خازر مع ابن الأشتر - وجعل كيسان أبا عمرة - وكان مولى لعرينة - على الموالي، فجاء عبد الله بن وهب بن أنس الجشمي إلى ابن شميط وقد جعله على ميسرته، فقال له: إن الموالي والعبيد آل خور عند المصدوقة، وإن معهم رجالًا كثيرًا على الخيل. وأنت تمشي. فمرهم فلينزلوا معك، فإن لهم بك أسوةً. فإني أتخوف إن طوردوا ساعةً وطوعنوا وضوربوا أن يطيروا على منزلها ويسلموك، وإنك إن أرجلتهم لم يجدوا من الصبر بدًا، وإنما كان هذا منه غشًا للموالي والعبيد، لما كانوا لقوا منهم بالكوفة، فأحب إن كانت عليهم الدبرة أن يكونوا رجالًا لا ينجو منهم أحد، ولم يتهمه ابن شميط، وظن أنه إنما أراد بذلك نصحه ليصبروا ويقاتلوا، فقال: يا معشر الموالي، انزلوا معي فقاتلو، فنزلوا معه، ثم مشوا بين يديه وبين يدي رايته، وجاء مصعب بن الزبير وقد جعل عباد ابن الحصين على الخيل، فجاء عباد حتى دنا من ابن شميط وأصحابه فقال: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة أمير المؤمنين عبد الله ابن الزبير؛ وقال الآخرون: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإلى بيعة الأمير المختار، وإلى أن نجعل هذا الأمر شورى في آل الرسول، فمن زعم من الناس أن أحدًا ينبغي له أن يتولى عليهم برئنا منه وجاهدناه فانصرف عباد إلى المصعب فأخبره، فقال له: ارجع فاحمل عليهم. فرجع فحمل على ابن شميط وأصحابه فلم يزل منهم أحد، ثم انصرف إلى موقفه وحمل المهلب على ابن كامل، فجال أصحابه بعضهم في بعض، فنزل ابن كامل، ثم انصرف عنه المهلب، فقام مكانه، فوقفوا ساعةً ثم قال المهلب لأصحابه: كروا كرة صادقة، فإن القوم قد أطعموكم، وذلك بجولتهم التي جالوا، فحمل عليهم حملة منكرة فولوا، وصبر ابن كامل في رجال من همدان، فأخذ المهلب يسمع شعار القوم: أنا الغلام الشاكري، أنا الغلام الشبامي، أنا الغلام الثوري، فما كان إلا ساعة حتى هزموا، وجعل عمر بن عبيد الله بن معمر على عبد الله بن أنس، فقاتل ساعة ثم انصرف، وحمل الناس جميعًا على ابن شميط، فقاتل حتى قتل، وتنادوا: يا معشر بجيلة وخشعم، الصبر الصبر! فناداهم المهلب: الفرار الفرار! اليوم أنجى لكم، علام تقتلون أنفسكم مع هذه العبدان، أضل الله سعيكم. ثم نظر إلى أصحابه فقال: والله ما أرى استحرار القتل اليوم إلا في قومي. ومالت الخيل على رجالة ابن شميط، فافترقت فانهزمت وأخذت الصحراء. فبعث المصعب عباد بن الحصين على الخيل، فقال: أيما أسير أخذته فاضرب عنقه. سرح محمد بن الأشعث في خيل عظيمة من خيل أهل الكوفة ممن كان المختار طردهم، فقال: دونك ثأركم! فكانوا حيث انهزموا أشد عليهم من أهل البصرة، لا يدركون منهزمًا إلا قتلوه. ولا يأخذون أسيرًا فيعفون عنه. قال: فلم ينج من ذلك الجيش إلا طائفة من أصحاب الخيل؛ وأما رجالتهم فأبيدوا إلا قليلا. فال أبو مخنف: حدثني ابن عياش المنتوف، عن معاوية بن قرة المزني، قال: انهيت إلى رجل منهم، فأدخلت سنان الرمح في عينه، فأخذت أخضخض عينه بسنان رمحي، فقلت له: وفعلت به هذا؟ قال: نعم، إنهم كانوا أحل عندنا دماء من الترك والديلم؛ وكان معاوية بن قرة قاضيًا لأهل البصرة، ففي ذلك يقول الأعشى: ألا هل أتاك والأنباء تنمى ** بما لاقت بجلة بالمذار أتيح لهم بها ضرب طلحف ** وطعن صائب وجه النهار كأن سحابة صعقت عليهم ** فعمتهم هنالك بالدمار فبشر شيعة المختار إما ** مررت على الكويفة بالصغار أقر العين صرعاهم وفل ** لهم جم يقتل بالصحارى وما إن سرني إهلاك قومي ** وإن كانوا وجدك في خيار ولكني سررت بما يلاقي ** أبو إسحاق من خزي وعار وأقبل المصعب حتى قطع من تلقاء واسط القصب، ولم تك واسط هذه بنيت حينئذ بعد، فأخذ في كسكر، ثم حمل الرجال وأثقالهم وضعفاء الناس في السفن، فأخذوا في نهر يقال له: نهر خرشاذ، ثم خرجوا من ذلك النهر إلى نهر يقال له قوسان؛ ثم أخرجهم من ذلك النهر إلى الفرات. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج الكندي، أن أهل البصرة كانوا يخرجون فيجرون سفنهم ويقولون: عودنا المصعب جر القلس ** والزنبريات الطوال القعس قال: فلما بفغ من مع المختار من تلك الأعاجم مالقي إخوانهم مع ابن شميط قالوا بالفارسية: " ابن بارد روغ كفت " يقولون: هذا المرة كذب. قال أبو مخنف: وحدثني هشام بن عبد الرحمن الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي، قال: والله إني لجالس عند المختار حين أتاه هزيمة القوم ومالقوا، قال: فأصغى إلى، فقال: قتلت والله العبيد قتلةً ما سمعت بمثلها قط. ثم قال: وقتل ابن شميط وابن كامل وفلان وفلان، فسمى رجالًا من العرب أصيبوا، كان الرجل منهم في الحرب خيرًا من فئام من الناس. قال: فقلت له: فهذه والله مصيبة، فقال لي: ما من الموت بد، وما من ميتة أموتها أحب إلي من مثل ميتة ابن شميط، حبذامصارع الكرام! قال: فعلمت أن الرجل قد حدث نفسه إن لم يصب حاجته أن يقاتل حتى يموت. ولما بلغ المختار أنهم قد أقبلوا إليه في البحر، وعلى الظهر، سار حتى نزل بهم السيلحينن، ونظر إلى مجتمع الأنهار نهر الحيرة ونهر السيلحين ونهر القادسية، ونهر يوسف، فسكر الفرات على مجتمع الأنهار، فذهب ماء الفرات كله في هذه الأنهار، وبقيت سفن أهل البصرة في الطين، فلما رأوا ذلك خرجوا من السفن يمشون، وأقبلت خيلهم تركض حتى أتوا ذلك السكر، فكسروه وصمدوا صمد الكوفة، فلما رأى ذلك المختار أقبل إليهم حتى نزل حروراء، وحال بينهم وبين الكوفة. وقد كان حصن قصره والمسجد، وأدخل في قصره عدة الحصار، وجاء المصعب يسير إليه وهو بحروراء وقد استعمل على الكوفة عبد الله ابن شداد، وخرج إليه المختار وقد جعل على ميمنته سليم بن يزيد الكندي، وجعل على ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني ثم الثوري، وكان على شرطته يومئذ عبد الله بن قراد الخشعمي، وبعث على الخيل عمر بن عبد الله النهدي، وعلى الرجال مالك بن عمرو النهدي. وجعل مصعب على ميمنته المهلب بن أبي صفرة، وعلى ميسرته عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى الخيل عباد بن الحصين الحبطي، وعلى الرجال مقاتل بن مسمع البكري، ونزل هو يمشي متنكبًا قوسًا له. قال: وجعل على أهل الكوفة محمد بن الأشعث، فجاء محمد حتى نزل بين المصعب والمختار مغربًا ميامنا. قال: فلما رأى ذلك المختار بعث إلى كل خمس من أخماس أهل البصرة رجلا من أصحابه، فبعث إلى بكر ابن وائل سعيد بن منقذ صاحب ميسرته، وعليهم مالك بن مسمع البكري، وبعث إلى عبد القيس وعليهم مالك بن المنذر عبد الرحمن بن شريح الشبامي، وكان على بيت ماله، وبعث إلى أهل العالية وعليهم قيس ابن الهيثم السلمي عبد الله بن جعدة القرشي، ثم المخزومي، وبعث إلى الأزد وعليهم زياد بن عمرو العتكي مسافر بن سعيد بن نمران الناعطي، وبعث إلى بني تميم وعليهم الأحنف بن قيس سليم بن يزيد الكندي، وكان صاحب ميمنته، وبعث إلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك الأشعري، ووقف في بقية أصحابه، وتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، ويحمل سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح على بكر بن وائل، وعبد القيس، وهم في الميسرة وعليهم عمر بن عبيد الله بن معمر؛ فقاتلتهم ربيعة قتالًا شديدًا، وصبروا لهم، وأخذ سعيد بن منقذ وعبد الرحمن بن شريح لا يقلعان، إذا حمل واحد فانصرف حمل الآخر، وربما حملا جميعًا؛ قال: فبعث المصعب إلى المهلب: ما تنتظر أن تحمل على من بإزائك! ألا ترى ما يلقى هذان الخمسان منذ اليوم! احمل بأصحابك، فقال: إي لعمري ماكنت لأجزر الأزد وتميمًا خشية أهل الكوفة حتى أرى فرصتي. قال: وبعث المختار إلى عبد الله بن جعدة أن احمل على من بإزائك، فحمل على أهل العلية فكشفهم حتى انتهوا إلى المصعب، فبحثا المصعب على ركبتيه - ولم يكن فرارًا - فرمى بأسهمه. ونزل الناس عنده فقاتلوا ساعةً، ثم تحاجزوا. قال: وبعث المصعب إلى المهلب وهو في خمسين جامين كثيري العدد والفرسان: لا أبا لك! ما تنتظر أن تحمل على القوم! فمكث غير بعيد، ثم إنه قال لأصحابه: قد قاتل الناس منذ اليوم وأنتم وقوف، وقد أحسنوا، وقد بقى ما عليكم، احملوا واستعينوا بالله واصبروا، فحمل على من يليه حملةً منكرةً، فحطموا أصحاب المختار حطمةً منكرة، فكشوفهم. وقال عبد الله بن عمرو النهدي - وكان من أصحاب صفين: اللهم إني على ما كنت عليه ليلة الخميس بصفين، اللهم إني أبرأ إليك من فعل هؤلاء لأصحابه حين انهزموا، وأبرأ إليك من أنفس هؤلاء - يعني أصحاب المصعب - ثم جالد بسيفه حتى قتل، وأتى مالك بن عمرو أبو نمران النهدي وهو على الرجالة بفرسه فركبه، وانقصف أصحاب المختار انقصافةً شديدة كأنهم أجمة فيها حريق. فقال مالك حين ركب: ما أصنع بالركوب! والله لأن أقتل ها هنا أحب إلي من أن أقتل في بيتي؛ أين أهل البصائر؟ أين أهل الصبر؟ فئاب إليه نحو من خمسين رجلًا، وذلك عند المساء، فكر على أصحاب محمد بن الأشعث، فقتل محمد بن الأشعث إلى جانبه هو وعامة أصحابه، فبعض الناس يقول: هو قتل محمد بن الأشعث، ووجد أبو نمران قتيلًا إلى جانبه - وكندة تزعم أن عبد الملك بن أشاءة الكندي هو الذي قتله - فلما مر المختار في أصحابه على محمد بن الأشعث قتيلًا قال: يا معشر الأنصار، كروا على الثعالب الرواغة، فحملوا عليهم، فقتل؛ فخشعم تزعم أن عبد الله بن قراد هو الذي قتله. قال أبو مخنف: وسمعت عوف بن عمرو الجشمي يزعم أن مولى لهم قتله، فادعى قتله أربعة نفر. كلهم يزعم أنه قتله، وانكشف أصحاب سعيد بن منقذ، فقاتل في عصابة من قومه نحو من سبعين رجلًا فقتلوا، وقاتل سليم بن يزيد الكندي في تسعين رجلًا من قومه، وغيرهم ضارب حتى قتل، وقاتل المختار على فم سكة شبث، ونزل وهو يريد ألا يبرح، فقاتل عامة ليلته حتى انصرف عنه القوم، وقتل معه ليلتئذ رجال من أصحابه من أهل الحفاظ، منهم عاصم بن عبد الله الأزدي، وعياش بن خازم الهمداني، ثم الثوري. وأحمر بن هديج الهمداني ثم الفايشي. قال أبو مخنف: حدثنا أبو الزبير أن همدان تنادوا ليلتئذ: يا معشر همدان، سيفوهم فقاتلوهم أشد القتال؛ فلما أن تفرقوا عن المختار قال له أصحابه: أيها الأمير، قد ذهب القوم فانصرف إلى منزلك إلى القصر، فقال المختار: أما والله ما نزلت وأنا أريد أن آتى القصر، فأما إذ انصرفوا فاركبوا بنا على اسم الله؛ فجاء حتى دخل القصر فقال الأعشى في قتل محمد بن الأشعث: تأوب عينك عوارها ** وعاد لنفسك تذكارها وإحدى لياليك راجعتها ** أرقت ولوم سمارها وما ذاقت العين طعم الرقا ** د حتى تبلج إسفارها وقام نعاة أبي قاسم ** فأسبل بالدمع تحدارها فحق العيون على ابن الأشج ** ألا يفتر تقطارها وألا تزال تبكي له ** وتبتل بالدمع أشفاها عليك محمد لما ثوي ** ت تبكي البلاد وأشجارها وما يذكرونك إلا بكوا ** إذا ذمة خانها جارها وعارية من ليالي الشتا ** ء لا يتمنح أيسارها ولا ينبح الكلب فيها العقو ** ر إلا الهرير وتختارها ولا ينفع الثوب فيها الفتى ** ولا ربة الخدر تخدارها فأنت محمد في مثلها ** مهين الجزائر نحارها تظل جفانك موضوعة ** تسيل من الشحم أصبارها وما في سقائك مستنطف ** إذا الشول روح أغبارها فيا واهب الوصفاء الصبا ** ح إن شبرت تم إشبارها ويا واهب الجرد مثل القدا ** ح قد يعجب الصف شوارها ويا واهب البكرات الهجا ** ن عوذا تجاوب أبكارها وكنت كدجلة إذ ترتمي ** فيقذف في البحر تيارها وكنت جليدًا وذا مرة ** إذا يبتغي منك إمرارها وكنت إذا بلدة أصفقت ** وآذان بالحرب جبارها بعثت عليها ذواكي العيو ** ن حتى تواصل أخبارها بإذن من الله والخيل قد ** أعد لذلك مضمارها وقد تطعم الخيل منك الوجي ** ف حتى تنبذ أمهارها وقد تعلم البازل العيسجو ** ر أنك بالخبث حسارها فيا أسفي يوم لاقيتهم ** وخانت رجالك فرارها وأقبلت الخيل مهزومة ** عثارًا تضرب أدبارها بشط حروراء واستجمعت ** عليك الموالي وسحارها فأخطرت نفسك من دونهم ** قحاز الرزيئة أخطارها فلا تبعدان أبا قاسم ** فقد يبلغ النفس مقدارها وأفني الحوادث ساداتنا ** ومر الليالي وتكرارها قال هشام: قال أبي: كان السائب أتى مع مصعب بن الزبير، فقتله ورقاء النخعي من وهيبل، فقال ورقاء: من مبلغ عني عبيدًا بأنني ** علوت أخاه بالحسام المهند فإن كنت تبغي العلم عنه فإنه ** صريع لدى الديرين غير موسد وعمدًا علوت الرأس منه بصارم ** فأثكلته سفيان بعد محمد قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني حصيرة بن عبد الله، أن هندًا بنت المتكلفة الناعطية كان يجتمع إليها كل غال من الشيعة فيتحدث في بيتها وفي بيت ليلى بنت قمامة المزنية، وكان أخوها رفاعة بن قمامة من شيعة علي، وكان مقتصدًا، فكانت لا تحبه، فكان أبو عبد الله الجدلي ويزيد بن شراحيل قد أخبرا ابن الحنفية خبر هاتين المرأتين وغلوهما وخبر أبي الأحراس المرادي والبطين الليثي وأبي الحارث الكندي. قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن أبي عيسى، قال: فكان ابن الحنفية قد كتب مع يزيد بن شراحيل إلى الشيعة بالكوفة يحذرهم هؤلاء، فكتب إليهم: من محمد بن علي إلى من بالكوفة من شيعتنا أما بعد، فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسرًا ولاتتخذوا من دون المؤمنين بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين، وأكثروا الصلاة والصيام والدعاء، فإنه ليس أحد من الخلق يملك لأحد ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله، وكل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى، والله قائم على كل نفس بما كسبت؛ فاعملوا صالحًا، وقدموا لأنفسكم حسنًا، ولا تكونوا من الغافلين، والسلام عليكم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله، أن عبد الله بن نوف خرج من بيت هند بنت المتكلفة حين خرج الناس إلى حروراء وهو يقول: يوم الأربعاء، ترفعت السماء، ونزل القضاء، بهزيمة الأعداء، فاخرجوا على اسم الله إلى حروراء. فخرج، فلما التقى للقتال ضرب على وجهه ضربة، ورجع الناس منهزمين، ولقيه عبد الله بن شريك النهدي، وقد سمع مقالته، فقال له: ألم تزعم لنا يا بن نوف أن سنهزمهم! قال: أو ما قرأت في كتاب الله: " يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب "! قال: فلما أصبح المصعب أقبل يسير بمن معه من أهل البصرة ومن خرج إليه من أهل الكوفة، فأخذ بهم نحو السبخة، فمر بالمهلب. فقال له المهلب: يا له فتحًا ما أهناه لو لم يكن محمد بن الأشعث قتل! قال: صدقت، فرحم الله محمدًا. ثم سار غير بعيد، ثم قال: يا مهلب، قال: لبيك أيها الأمير؛ قال: هل علمت أن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قد قتل! قال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " قال: المصعب: أما إنه كان ممن أحب أن يرى هذا الفتح، ثم لا نجعل أنفسنا أحق بشئ مما نحن فيه منه، أتدري من قتله؟ قال: لا؛ قال: إنما قتله من يزعم أنه لأبيه شيعة، أما إنهم قد قتلوه وهم يعرفونه. قال: ثم مضى حتى نزل السبخة فقطع عنهم الماء والمادة، وبعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فنزل الكناسة، وبعث عبد الرحمن ابن مخنف بن سليم إلى جبانة السبيع، وقد كان قال لعبد الرحمن بن مخنف: ما كنت صنعت فيما كنت وكلتك به؟ قال: أصلحك الله! وجدت الناس صنفين؛ أما من كان له فيك هوى فخرج إليك. وأما من كان يرى رأى المخار، فلم يكن ليدعه، ولا ليؤثر أحدًا عليه، فلم أبرح بيتي حتى قدمت؛ قال: صدقت؛ وبعث عباد بن الحصين إلى جبانة كندة، فكل هؤلاء كان يقطع عن المختار وأصحابه الماء والمادة. وهم في قصر المختار، وبعث زحر بن قيس إلى جبانة مراد، وبعث عبيد الله بن الحر إلى جبانة الصائديين. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج، قال: لقد رأيت عبيد الله بن الحر؛ وإنه ليطارد أصحاب خيل المختار، يقاتلهم في جبانة الصائديين ولربما رأيت خيلهم تطرد خيله، وإنه لوراء خيله يحميها حتى ينتهي إلى دار عكرمة، ثم يكر راجعًا هو وخيله، فيطردهم حتى يلحقهم بجبانة الصائدين، ولربما رأيت خيل عبيد الله قد أخذت السقاء والسقاءين فيضربون، وإنما كانوا يأتونهم بالماء أنهم كانوا يعطونهم بالراوية الدينار والدينار من الجهد. وكان المختار ربما خرج هو وأصحابه فقاتلوا قتالًا ضعيفًا، ولا نكاية لهم، وكانت لا تخرج له خيل إلا رميت بالحجارة من فوق البيوت، ويصب عليهم الماء القذر. واجترأ عليهم الناس، فكانت معايشهم أفضلها من نسائهم، فكانت المرأة تخرج من منزلها معها الطعام واللطف والماء، قد التحقت عليه، فتخرج كأنما تريد المسجد الأعظم للصلاة، وكأنها تأتي أهلها وتزور ذات قرابة لها، فإذا دنت من القصر فتح لها، فدخلت على زوجها وحميمها بطعامه وشرابه ولطفه. وإن ذلك بلغ المصعب وأصحابه، فقال له المهلب - وكان مجربًا: اجعل عليهم دروبًا حتى تمنع من يأتيهم من أهليهم وأبنائهم، وتدعهم في حصنهم حتى يموتوا فيه. وكان القوم إذا اشتد عليهم العطش في قصرهم استقوا من ماء البئر. ثم أمر لهم المختار بعسل فصب فيه لغير طعمه فيشربوا منه، فكان ذلك أيضًا مما يروي أكثرهم. ثم إن مصعبًا أمر أصحابه فاقتربوا من القصر، فجاء عباد بن الحصين الحبطي حتى نزل عند مسجد جهينة، وكان ربما تقدم حتى ينتهي إلى مسجد بني مخزوم، وحتى يرمي أصحابه من أشرف عليهم من أصحاب المختار من القصر، وكان لا يلقى امرأة قريبًا من القصر إلا قال لها: من أنت؟ ومن أين جئت؟ وما تريدين؟ فأخذ في يوم ثلاث نسوة للشباميين وشاكر أتين أزواجهن في القصر، فبعث بهن إلى مصعب، وإن الطعام لمعهن، فردهن مصعب ولم يعرض لهن، وبعث زحر بن قيس، فنزل عند الحدادين حيث تكرى الدواب، وبعث عبيد الله بن الحر فكان موقفه عند دار بلال، وبعث محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس فكان موقفه عند دار أبيه، وبعث حوشب بن يزيد فوقف عند عند زقاق البصريين عند فم سكة بين جذيمة بن مالك من بني أسد بن خزيمة، وجاء المهلب يسير حتى نزل جهار سوج خنيس، وجاء عيد الرحمن بن مخنف من قبل دار السقاية، وابتدر السوق أناس من شباب أهل الكوفة وأهل البصرة، أغمارها ليس لهم علم بالحرب، فأخذوا يصيحون - وليس لهم أمير: يابن دومة، يابن دومة! فأشرف عليهم المختار فقال: أما والله لو أن الذي يعيرني بدومة كان من القريتين عظيمًا ما عيرني بها. وبصر بهم وبتفرقهم وهيئتهم وانتشارهم، فطمع فيهم، فقال لطائفة من أصحابه: اخرجوا معي، فخرج معه منهم نحو من مائتي رجل، فكر عليهم، فشدخ نحوًا من مائة، وهزمهم، فركب بعضهم بعضًا، وأخذوا على دار فرات بن حيان العجلي. ثم إن رجلا من بني ضبة من أهل البصرة يقال له يحيى بن ضمضم، كانت رجلاه تكادان تخطان الأرض إذا ركب من طوله، وكان أقتل شئ للرجال وأهيبه عندهم إذا رأوه، فأخذ يحمل على أصحاب المختار فلا يشبت له رجل صمد صمده، وبصر به المختار، فحمل عليه فضربه ضربة على جبهته فأطار جبهته وقحف رأسه، وخر ميتًا، ثم إن تلك الأمراء وتلك الرءوس أقبلوا من كل جانب، فلم تكن لأصحابه بهم طاقة، فدخلوا القصر، فكانوا فيه، فاشتد عليهم الحصار فقال لهم المختار: ويحكم! إن الحصار لا يزيدكم إلا ضعفًا، انزلوا بنا فلنقاتل حتى نقتل كرامًا إن نحن قتلنا، والله ما أنا بآيس إن صدقتموهم أن ينصركم الله، فضعفوا وعجزا، فقال لهم المختار: أما أنا فوالله لا أعطي بيدي ولا أحكمهم في نفسي، ولما رأى عبد الله بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب ما يريد المختار تدلى من القصر بحبل، فلحق بأناس من إخوانه، فاختبأ عندهم. ثم إن المختار أزمع بالخروج إلى القوم حين رأى من أصحابه الضعف، ورأى ما بأصحابه من الفشل، فأرسل إلى امرأته أم ثابت بنت سمرة بن نجيب الفزاري، فأرسلت إليه بطيب كثير، فاغتسل وتحنط، ثم وضع ذلك الطيب على رأسه ولحيته، ثم خرج في تسعة عشر رجلا، فيهم السائب بن مالك الأشعري -وكان خليفته على الكوفة إذا خرج إلى المدائن- وكانت تحته عمرة بنت أبي موسى الأشعري، فولدت له غلاما فسماه محمدا، فكان مع أبيه في القصر، فلما قتل أبوه وأخذ من في القصر وجد صبيا فترك، ولما خرج المختار من القصر قال للسائب: ماذا ترى؟ قال: الرأي لك، فماذا ترى؟ قال: أنا أرى أم الله يرى! قال: الله يرى، قال: ويحك! أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، وأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم، إلا أني قد طلبت بثأر أهل بيت النبي ﷺ إذ نامت عنه العرب، فقتلت من شرك في دمائهم، وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية، فقال: { إنا لله وإنا إليه راجعون }، وما كنت أصنع أن أقاتل على حسبي! فقال المختار عند ذلك يتمثل بقول غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي: ولو يراني أبو غيلان إذ حسرت ** عني الهموم بأمر ما له طبق لقال رهبا ورعبا يجمعان معا ** غنم الحياة وهول النفس والشفق إما تسف على مجد ومكرمة ** أو إسوة لك فيمن تهلك الورق فخرج في تسعة عشر رجلا فقال لهم: أتؤمنوني وأخرج إليكم؟ فقالوا: لا، إلا على الحكم، فقال: لا أحكمكم في نفسي أبدا. فضارب بسيفه حتى قتل. وقد كان قال لأصحابه حين أبوا أن يتابعوه على الخروج معه: إذا أنا خرجت إليهم فقتلت لم تزدادوا إلا ضعفا وذلا، فإن نزلتم على حكمهم وثب أعداؤكم الذين وترتموهم، فقال كل رجل منهم لبعضكم: هذا عنده ثأري فيقتل وبعضكم ينظر إلى مصارع بعض فيقول: يا ليتنا أطعنا المختار وعملنا برأيه! ولو أنكم خرجتم معي كنتم إن أخطأتم الظفر مُتم كرامًا، وإن هرب منكم هارب فدخل في عشيرته اشتملت عليه عشيرته، أنتم غدا هذه الساعة أذل من على ظهر الأرض، فكان كما قال. قال: وزعم الناس أن المختار قتل عند موضع الزياتين اليوم، قتله رجلان من بني حنيفة أخوان يدعى أحدهما طرفة والآخر طرافا، ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة. ولما كان من الغد من قتل المختار قال بجير بن عبد الله المُسْلي: يا قوم، قد كان صاحبكم أمس أشار عليكم بالرأي لو أطعتموه. يا قوم، إنكم إن نزلتم على حكم القوم ذبحتم كما تذبح الغنم، اخرجوا باسيافكم فقاتلوا حتى تموتوا كراما. فعصوه وقالوا: لقد أمرنا بهذا من كان أطوع عندنا وأنصح لنا منك، فعصيناه، أفنحن نطيعك! فأمكن القوم من أنفسهم، ونزلوا على الحكم. فبعث إليهم مصعب عباد بن الحصين الحَبَطي فكان هو يخرجهم مكتفين، وأوصى عبد الله بن شداد الجُشَمي إلى عبّاد بن الحُصَين، وطلب عبد الله بن قراد عصاه أو حديدة أو شيئا يقاتل به فلم يجده، وذلك أن الندامة أدركته بعدما دخلوا عليه، فأخذوا سيفه وأخرجوه مكتوفا، فمر به عبد الرحمن وهر يقول: ما بت أخشى أن أرى أسيرا ** إن الذين خالفوا الأميرا قد رغموا وتبروا تتبيرا فقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: عليّ بذا، قدموه إلي أضرب عنقه، فقال له: أما إني على دين جدك الذي آمن ثم كفر، إن لم أكن ضربت أباك بسيفي حتى فاض. فنزل ثم قال: أدنوه مني، فأدنوه منه، فقتله فغضب عباد، فقال: قتلته ولم تؤمر بقتله! ومر بعبد الله بن شداد الجشمي وكان شريفا فطلب عبد الرحمن إلى عباد أن يحبسه حتى يكلم فيه الأمير، فأتى مصعبا، فقال: إني أحب أن تدفع إلي عبد الله بن شداد فأقتله، فإنه من النار، فأمر له به، فلما جاءه أخذه فضرب عنقه، فكان عباد يقول: أما والله لو علمت أنك إنما تريد قتله لدفعته إلى غيرك فقتله، ولكني حسبت أنك تكلمه فيه فتخلي سبيله. وأتي بابن عبد الله بن شداد، وإذا اسمه شدادا وهو رجل محتلم، وقد اطّلَى بنُورة، فقال: اكشفوا عنه هل أدرك! فقالوا: لا إنما هو غلام، فخلوا سبيله، وكان الأسود بن سعيد قد طلب إلى مصعب أن يفرض على أخيه الأمان، فإن نزل تركه له، فأتاه فعرض عليه الأمان، فأبى أن ينزل، وقال: أموت مع أصحابي أحب إلي من حياة معكم، وكان يقال له قيس، فأخرج فقتل فيمن قتل، وقال بجير بن عبد الله المسلي -ويقال: كان مولى لهم حين أتى به مصعب ومعه منهم ناس كثير- فقال له المسلي: الحمد لله الذي ابتلانا بالإسار، وابتلاك بأن تعفو عنا، وهما منزلتان إحداهما رضا الله، والأخرى سخطه، من عفا عفا الله عنه وزاده عزا، ومن عاقب لم يؤمن القصاص. يا ابن الزبير، نحن أهل قبلتكم، وعلى ملتكم، ولسنا تركا ولا ديلما، فإن خالفنا إخوانا من أهل مصرنا فإما أن نكون أصبنا وأخطئوا، وإما أن نكون أخطأنا وأصابوا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الشأم بينهم، فقد اختلفوا واقتتلوا ثم اجتمعوا، وكما اقتتل أهل البصرة بينهم فقد اختلفوا واقتلوا ثم اصطلحوا واجتمعوا، وقد ملكتم فاسجحوا، وقد قدرتم فاعفوا، فما زال بهذا القول ونحوه حتى رق لهم الناس، ورق لهم مصعب، وأراد أن يخلي سبيلهم، فقام عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال: تخلي سبيلهما! اخترنا يا ابن الزبير أو اخترهم. ووثب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فقال: قتل أبي وخمسمائة من حمدان وأشراف العشيرة أهل المصر ثم تخلي سبيلهم، ودمماؤنا ترقرق في أجوافهم! اخترنا أو اخترهم. ووثب كل قوم وأهل بيت كان أصيب منهم رجل فقالوا نحوا من هذا الفول. فلما رأى مصعب بن الزبير ذلك أمر بقتلهم، فنادوه بأجمعهم: يا ابن الزبير، لا تقتلنا، اجعلنا مقدمتك إلى أهل الشام غدًا، فوالله ما بك ولا بأصحابك عنا غدا غنى، إذا لقيتم عدوكم فإن قتلنا لم نقتل حتى نرقهم لكم، وإن ظفرنا بهم كان ذلك لك ولمن معك. فأبى عليهم وتبع رضا العامة، فقال بجير المسلي: إن حاجتي إليك ألا أقتل مع هؤلاء القوم، إني أمرتهم أن يخرجرا بأسيافهم فيقاتلوا حتى يموتوا كراما فعصوني، فقدم فقتل. قال أبو مخنف: وحدثني أبي، قال: حدثني أبو روق أن مسافر بن سعيد بن نمران قال لمصعب بن الزبير: يا ابن الزبير، ما تقول لله إذا قدمت عليه وقد قتلت أمة من السلمين صبرا! حكموك في دمائهم، فكان الحق في دمائهم ألا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس مسلمة، فإن كنا قتلنا عدة رجال منكم فاقتلوا عدة من قتلنا منكم، وخلوا سبيل بقيتنا، وفينا الآن رجال كثير لم يشهدوا موطنا من حربنا وحربكم يوما واحدا، كانوا في الجبال والسواد يجبون الخراج، ويؤمنون السبيل، فلم يستمع له، فقال: قبح الله قوما أمرتهم أن يخرجوا ليلا على حرس سكةٍ من هذه السكك فنطردهم، ثم نلحق بعشائرنا، فعصوني حتى حملوني على أن أعطيت التي هي أنقص وأدنى وأوضع، وأبو أن يموتوا إلا ميتة العبيد، فأنا أسألك ألا تخلط دمي بدمائهم. فقدم فقتل ناحية. ثم إن المصعب أمر بكف المختار فقطعت ثم سمرت بمسمار حديد إلى جنب المسجد، فلم يزل على ذلك حتى قدم الحجاج بن يوسف، فنظر إليه فقال: ما هذه؟ قالوا: كف المختار، فأمر بنزعها. وبعث مصعب عماله على الجبال والسواد، ثم إنه كتب إلى ابن الأشتر يدعوه إلى طاعته ويقول له: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك الشام وأعنة الخيل، وما غلبت عليه من أرض المغرب ما دام لآل الزبير سلطان. وكتب عبد الملك بن مروان من الشام إليه يدعوه إلى طاعته، ويقول: إن أنت أجبتني ودخلت في طاعتي فلك العراق. فدعا إبراهيم أصحابه فقال: ما ترون؟ فقال بعضهم: تدخل في طاعة عبد الملك، وقال بعضهم: تدخل مع ابن الزبير في طاعته، فقال ابن الاشتر: ذاك لو لم أكن أصبت عبيد الله بن زياد ولا رؤساء أهل الشام تبعت عبد الملك، مع أني لا أحب أن أختار على أهل مصري مصرا ولا على عشيرتي عشيرة. فكتب إلى مصعب، فكتب إليه مصعب أن أقبل، فأقبل إليه بالطاعة. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي أن كتاب مصعب قدم على ابن الأشتر وفيه: أما بعد، فإن الله قد قتل المختار الكذاب وشيعته الذين دانوا بالكفر، وكادوا بالسحر، وإنا ندعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى بيعة أمير المزمنين، فإن أجبت إلى ذلك فأقبل إلي، فإن لك أرض الجزيرة وأرض المغرب كلها ما بقيت وبقي سلطان آل الزبير، لك بذلك عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذ الله على النبيين من عهد أو عقد، والسلام. وكتب إليه عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإن آل الزبير انتزوا على أئمة الهدى، ونازعوا الأمر أهله وألحدوا في بيت الله الحرام، والله ممكن منهم، وجاعل دائرة السوء عليهم، وإني أدعوك إلى الله وإلى سنة نبيه، فإن قبلت وأجبت فلك سلطان العراق ما بقيتَ وبقيتُ، علي بالوفاء بذلك عهد الله وميثاقه. قال: فدعا أصحابه فاقرأهم الكتاب، واستثسارهم في الرأي، فقائل يقول: عبد الملك، وقائل يقوله: ابن الزبير، فقال لهم: ورأيي اتباع أهل الشام، ولكن كيف لي بذلك، وليس قبيلة تسكن الشام إلا وقد وترتها، ولست بتارك عشيرتي وأهل مصري! فاتصل إلى مصاب، فلما بلغ مصعبا إقباله بعث المهلب إلى عمله، وهي السنة التي نزل فيها المهلب على الفرات. قال أبو مخنف: حدثني أبو علقمة الخثعمي أن المصعب بعث إلى أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار وإلى عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري -وهي امرأة المختار- فقال لهما: ما تقولان في المختار؟ فقالت أم ثابت: ما عسينا أن نقول! ما نقول فيه إلا ما تقولون فيه أنتم، فقالوا لها: اذهبي، وأما عمرة فقالت: رحمة الله عليه، إنه كان عبدا من عباد الله الصالحين، فرفعها مصعب إلى السجن، وكاتب فيها إلى عبد الله بن الزبير إنها تزعم أنه نبي، فكاتب إليه أن أخرجها فاقتلها. فأخرجها بين الحيرة والكوفة بعد العتمة، فضربها مطر ثلاث ضربات بالسيف -ومطر تابع لآل قفل من بني تيم الله بن ثعلبة، كان يكون مع الشرط- فقالت: يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه! فسمع بها بعض الأنصار، وهو أبان بن النعمان بن بشير، فأتاه فلطمه وقال له: يا ابن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك! فلزمه حتى رفعه إلى مصعب، فقال: إن أمي مسلمة، وادعى شهادة بني قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب: خلو سبيل الفتى فإنه رأى أمرا فظيعًا. فقال عمر بن أبى ربيعة القرشي في قتل مصعب عمرة بنت النعمان بن بشير: إن من أعجب العجائب عندي ** قتل بيضاء حرة عطبول قتلت هكذا على غير جرم ** إن لله درها من قتيل كتب القتل والقتال علينا ** وعلى المحصنات جر الذيول قال أبو مخنف: حدثني عمد بن يوسف أن مصعبا لقي عبد الله بن عمر فسلم عليه، وقال له: أنا ابن أخيك مصعب، فقال له ابن عمر: نعم أنت القاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة، عش ما استطعت! فقال مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة، فقال ابن عمر: والله لو قتلت عددهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا. فقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك: أتى راكب بالأمر ذي النبأ العجب ** بقتل ابنة النعمان ذي الدين والحسب بقتل فتاة ذات دل ستيرة ** مهذبة المخلاف والخيم والنسب مطهرة من نسل قوم أكارم ** من المؤثرين الخير في سالف الحقب خليل النبي المصطفى ونصيره ** وصاحبه في الحرب والنكب والكرب أتاني بأن الملحدين توافقوا ** على قتلها لا جنبوا القتل والسلب فلا هنأت آل الزبير معيشة ** وذاقوا لباس الذل والخوف والحرب كأنهم إذ أبرزوها وقطعت ** بأسيافهم فازوا بمملكة العرب ألم تعجيب الأقوام من قتل حرة ** من المحصنات الدين محمودة الأدب من الغافلات المؤمنات، بريئة ** من الذم والبهتان والشك والكذب علينا كتاب القتل والبأس واجب ** وهن العفاف في الحجال وفي الحجب على دين أجداد لها وأبوة ** كرام مضت لم نخز أهلا ولم ترب من الخفرات لا خروج بذية ** ملائمة تبغي على جارها الجنب ولا الجار ذي القربى ولم تدر ما الخنا ** ولم تزدلف يوما بسوء ولم تحب عجبت لها إذ كفنت وهي حية ** ألا إن هذا الخطب من أعجب العجب حدثت عن علي بن حرب الموصلي، قال: حدثني إبراهيم بن سليمان الحنفي، ابن أخي أبي الأحوص، قال: حدثنا محمد بن أبان، عن علقمة بن مَرْثد، عن سُويد بن غَفْلة، قال: بينا أنا أسير بظهر النجف إذ لحقني رجل فطعنني بمخصرة من خلفي، فالتفت إليه، فقال: ما قولك في الشيخ؟ قلت: أي الشيوخ؟ قال: علي بن أبي طالب، قلت: إني أشهد أني أحبه بسمعي وبصري وقلبي ولساني، قال: وأنا أشهدك أني أبغضه بسمعي وبصري وقلبي ولساني. فسرنا حتى دخلوا الكوفة، فافترقنا، فمكث بعد ذلك سنين -أو قال: زمانا- قال: ثم إني لفي المسجد الأعظم إذ دخل رجل معتم يتصفح وجوه الخلق، فلم يزل ينظر فلم ير لحي أحمق من لحي حمدان، فجلس إليهم، فتحولت فجلست معهم، فقالوا: من أين أقبلت؟ قال: من عند أهل بيت نبيكم، قالوا: فماذا جئتنا به؟ قال: ليس هذا موضع ذلك، فوعدهم من الغد موعدا، فغدا وغدوت، فإذا قد أخرج كتتابا معه في أسفله طابع من رصاص، فدفعه إلى غلام، فقال له: يا غلام، اقرأه -وكان أميا لا يكتب- فقال الغلام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للمختار بن أبي عبيد، كتبه له وصي آل محمد، أما بعد فكذا وكذا. فاستفرغ القوم البكاء، فقال: يا غلام، ارفع كتابك حتى يفيق القوم، قلت: معاشر همدان، أنا أشهد بالله لقد أدركني هذا بظهر النجف، فقصصت عليهم قصته، فقالوا: أبيت والله إلا تثبيطا عن آل محمد وتزيينا لنعثل شقاق المصاحف، قال: قلت: معاشر همدان، لا أحدثكم إلا ما سمعته أذناي ووعاه قلبي من علي بن أبي طالب عليه السلام، سمعته يقول: لا تسموا عثمان شقاق المصاحف، فوالله ما شققها إلا عن ملإ منا أصحاب محمد، ولو وليتها لعملت فيها مثل الذي عمل، قالوا: آلله أنت سمعت هذا من علي؟ قلت: والله لأنا سمعته منه، قال: فتفرقوا عنه، فعند ذلك مال إلى العبيد، واستعان بهم وصنع ما صنع. قال أبو جعفر: واقتص الواقدي من خبر المختار بن أبي عبيد بعض ما ذكرنا، فخالف فيه من ذكرنا خبره، فزعم أن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة، وأن مصعبا لما سار إليه فبلغه مسيره إليه بعث إليه أحمر بن شميط التجلي، وأمره أن يواقعه بالمذار، وقال: إن الفتح بالمذار، وإنما قال ذلك المختار لأنه قيل له إن رجلا من ثقيف يفتح عليه بالمذار فتح عظيم، فظن أنه هو، وإنما كان ذلك للحجاج بن يوسف في قتاله عبد الرحمن بن الأشعث. وأمر مصعب صاحب مقدمته عباد الحبطي أن يسير إلى جمع المختار فتقدم ويقدم معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب، ونزل مصعب نهر البصريين على شط الفرات، وحفر هنالك نهرا فسمي نهر البصريين من أجل ذلك، قال: وخرج المختار في عشرين ألفا حتى وقف بإزائهم وزحف مصعب ومن معه، فوافوه مع الليل على تعبية، فأرسل إلى أصحابه حين أمسى: لا يبرحن أحد منكم موقفه حتى يسمع مناديا ينادي: يا محمد، فإذا سمعتموه فاحملوا. فقال رجل من القوم من أصحاب المختار: هذا والله كذاب على الله، وانحاز ومن معه إلى المصعب، فتمهل المختار حتى إذا طلع الفجر أمر مناديا فنادى: يا محمد، ثم حملوا على مصعب وأصحابه فهزموهم، فأدخلوه عسكره، فلم يزالوا يقاتلونهم حتى أصبحوا وأصبح المختار وليس عنده أحد، وإذا أصحابه قد وغلوا في أصحاب مصعب، فانصرف المختار منهزما حتى دخل قصر الكوفة، فجاء أصحاب المختار حين أصبحوا، فوقفوا مليًا فلم يروا المختار، فقالوا: قد قتل، فهرب منهم من أطاق الهرب، واختفوا في دور الكوفة، وتوجه منهم نحو القصر ثمانية آلاف لم يجدوا من يقاتل بهم، ووجدوا المختار في القصر، فدخلوا معه، وكان أصحاب المختار قتلوا في تلك الليلة من أصحاب مصعب بشرا كثيرا، فيهم عبد بن الأشعث، وأقبل مصعب حين أصبح حتى أحاط بالقصر، فأقام مصعب يحاصره أربعة أشهر يخرج إليهم في كل يوم فيقاتلهم في سوق الكوفة من وجه واحد، ولا يقدر عليه حتى قُتل المختار، فلما قتل المختار بعث من في القصر يطلب الأمان، فأبى مصعب حتى نزلوا على حكمه، فلما نزلوا على حكمه قتل من العرب سبعمائة أو نحو ذلك، وسائرهم من العجم، قال: فلما خرجوا أراد مصعب أن يقتل العجم ويترك العرب، فكلمه من معه فقالوا: أي دين هذا؟ وكيف ترجو النصر وأنت تقتل العجم وتترك العرب ودينهم واحد! فقدمهم فضرب أعناقهم. قال أبو جعفر: وحدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: لما قتل المختار شاور مصعب أصحابه في المحصورين الذين نزلوا على حكمه، فقال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس وأشباههم ممن وترهم المختار: اقتلهم، وضجت ضبة، وقالوا: دم منذر بن حسان، فقال عبيد الله بن الحر: أيها الأمير، ادفع كل رجل في يديك إلى عشيرئه تمن عليهم بهم، فإنهم إن كانوا قتلونا فقد قتلناهم، ولا غنى بنا عنهم في ثغورنا، وادفع عبيدنا الذين في يديك إلى مواليهم فإنهم لأيتامنا وأراملنا وضعفائنا، يردونهم إلى أعمالهم، وأقتل هؤلاء الموالي، فإنهم قد بدا كفرهم، وعظم كبرهم، وقل شكرهم. فضحك مصعب وقال للأحنف: ما ترى يا أبا بحر؟ قال: قد أرادني زياد فعصيته -يعرض بهم- فأمر مصعب بالقوم جميعا فقتلوا، وكانوا ستة آلاف. فقال عقبة الأسدي: قتلتم ستة الآلاف صبرا ** مع العهد الموثق مكتفينا جعلتم ذمة الحَبَطي جسرا ** ذلولا ظهره للواطئينا وما كانوا غداة دُعُوا فغُرّوا ** بعهدهم بأول حائنينا وكنت أمرتهم لو طاوعوني ** بضرب في الأزقة مُصْلتينا وقتل المختار-فيما قيل- وهو ابن ست وستين سنة، لأربع عشرة خلت من شهر رمضان في سنة سبع وستين. فلما فرغ مصعب من أمر المختار وأصحابه، وصار إليه إبراهيم ابن الأشتر، وجّه المهلب بن أبي صفرة على الموصل والجزيرة وآذَربيجان وأرمينية وأقام بالكوفة. خبر عزل عبد الله بن الزبير أخاه المصعب وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير أخاه مصعب بن الزبير عن البصرة، وبعث بابنه حمزة بن عبد الله إليها، فاختلف في سبب عزله إياه عنها، وكيف كان الأمر في ذلك. فقال بعضهم في ذلك ما حدثني به عمر، قال: حدثني علي بن محمد قال: لم يزل المصعب على البصرة حتى سار منها إلى الحصار، واستخلف على البصرة عبيد الله بن معمر، فقتل المختار، ثم وفد إلى عبد الله بن الزبير فعزله وحبسه عنده، واعتذر إليه من عزله وقال: والله إني لايعلم أنك أحرى وأكفى من حمزة، ولكني رأيت فيه رأي عثمان في عبد الله بن عامر حين عزل أبا موسى الأشعري وولاه. وحدثني عمر، قال حدثني علي بن محمد، قال: قدم حمزة البصرة وإليا، وكان جوادا سخيا مخلطا، يجود أحيانا حتى لا يدع شيئا يملكه، ويمنع أحيانا ما لا يمنع مثله، فظهرت منه بالبصرة خفة وضعف، فيقال: إنه ركب يوما إلى فيض البصرة، فلما رآه قال: إن هذا الغدير إن رفقوا به ليكفينهم صيفهم، فلما كان بعد ذلك ركب إليه فوافقه جازرا، فقال: قد رأيت هذا ذات بوم، وظننت أن لن يكفيهم، فقال له الأحنف: إن هذا ماء يأتينا ثم يغيض عنا، وشخص إلى الأهواز، فلما رأى جبلها قال: هذا قُعَيقِعان -لموضع بمكة- فسمي الجبل قعيقعان، وبعث إلى مَردانْشاه فاستحثه بالخراج، فأبطأ به، فقام إليه بسيفه فضربه فقتله، فقال الأحنف: ما أحدّ سيف الأمير! حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: لما خطط حمزة بالبصرة وظهر منه ما ظهر، وهمّ بعبد العزيز بن بشر أن يضربه، كتب الأحنف إلى ابن الزبير بذلك، وسأله أن يعيد مصعبا. قال: وحمزة الذي عقد لعبد الله بن عمير الليثي على قتال النجدية بالبحرين. حدثني عمر قال: حدثنا علي بن محمد، قال: لما عزل ابن الزبير حمزة احتمل مالا كثيرا من مال البصرة، فعرض له مالك بن سمع، فقال: لا ندعك تخرج بأعطياتنا. فضمن له عبيد الله بن عبيد بن معمر العطاء، فكف، وشخص حمزة بالمال، فترك أباه وأتى المدينة، فأودع ذلك المال رجالا، فذهبوا به إلا يهوديا كان أودعه فوفى له، وعلم ابن الزبير بما صنع، فقال: أبعده الله، أردت أن أباهي به بني مروان فنكص. وأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف في أمر مصعب وعزل أخيه إياه عن البصرة ورده إياه إليها غير هذه القصة، والذي ذكر من ذلك عنه في سياق خبر حدثت به عنه، عن أبي المخارق الراسبي، أن مصعبا لما ظهر على الكوفة أقام بها سنة معزولا عن البصرة، عزله عنها عبد الله، وبعث ابنه حمزة، فمكث بذلك سنة، ثم إنه وفد على أخيه عبد الله بمكة، فرده على البصرة. وفيل: إن مصعبا لما فرغ من أمر المختار انصرف إلى البصرة وولى الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. قال: وقال محمد بن عمر: لما قتل مصعب المختار ملك الكوفة والبصر ة. أخبار متفرقة وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. وكان عامله على الكوفة مصعبا. وقد ذكرت اختلاف أهل السير في العامل على البصرة. وكان على قضاء الكوفة عبد الله بن عقبة بن مسعود، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وبالشام عبد الملك بن مروان. وكان على خراسان عبد الله بن خازم السلمي. ثم دخلت سنة ثمان وستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة فمن ذلك ما كان من رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أمير،ا وقد ذكرنا السبب في رد عبد الله أخاه مصعبا إلى العراق أميرا بعد عزله إياه، ولما رده عليها أميرا بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وذلك أنه بدأ بالبصرة مرجعه إلى العراق أميرا بعد العزل، فصار إليها. ذكر الخبر عن رجوع الأزارقة من فارس إلى العراق وفي هذه السنة كان مرجع الأزارقة من فارس إلى العراق حتى صاروا إلى قرب الكوفة، ودخلوا المدائن. ذكر الخبر عن أمرهم ومسيرهم ومرجعهم إلى العراق ذكر هشام عن أبي مخنف قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، أن مصعبا وجه عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس أميرا، وكانت الأزارقة لحقت بفارس وكرمان ونواحي أصبهان بعد ما أوقع بهم المهلب بالأهواز، فلما شخص المهلب عن ذلك الوجه ووجه إلى الوصل ونواحيها عاملا عليها، وعمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، انحطت الأزارقة مع الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله بفارس، فلقيهم بسابور، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم إنه ظفر بهم ظفرا بينا، غير أنه لم يكن بينهم كثير قتلى، وذهبوا كأنهم على حامية، وقد تركوا على ذلك المعركة. قال أبو مخيف: فحدثني شيخ للحي بالبصرة، قال: إني لأسمع قراءة كتاب عمر بن عبيد الله: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني لقيت الأزارقة التي مرقت من الدين واتبعت أهواءها بغير هدى من الله فقاتلتهم بالمسلمين ساعة من النهار أشد القتال. ثم إن الله ضرب وجوههم وأدبارهم، ومنحنا أكتافهم، فقتل الله منهم من خاب وخسر، وكلٌّ إلى خسران، فكتبت إلى الأمير كتابي هذا وأنا على ظهر فرسي في طلب القوم، أرجو أن يجُذَّهم الله إن شاء الله، والسلام. ثم إنه تبعهم ومضوا من فورهم ذلك حتى نزلوها إصطخر، فسار إليهم حتى لقيهم على قاطرة طَمَستان، فقاتلهم قتالا شديدا، وقُتل ابنه، ثم إنه ظفر بهم، فقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى نحو من أصفهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا وقووا، واستعدوا وكثروا، ثم أقبلوا حتى مرور بفارس وبها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أن قد قطعت الخوارج أرضه متوجهة إلى البصرة خشي ألا يحتملها له مصعب بن الزبير، فشمر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا منها متوجهين قبل الأهواز، وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج فعسكر بالناس بالجسر الأكبر، وقال: والله ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بفارس، وجعلت معه جندا أجري عليهم أرزاقهم في كل شهر، وأوفيهم أعطياتهم في كل سنة، وآمر لهم من المعاون في كل سنة بمثل الأعطيات، تقطع أرضه الخوارج إلي! وقد قطعت علته فأمددته بالرجال وقويتهم، والله لو قاتلهم ثم فر كان أعذر له عندي، وإن كان الفار غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل. وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز، فأتتهم عيونهم أن عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأن مصعب بن الزبير قد خرج من البصرة إليهم، فقام فيهم الزبير فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن من سوء الرأي والحيرة وقوعكم فيما بين هاتين الشوكتين، ونهضوا بنا إلى عدونا نلقهم من وجه واحد. فسار بهم حتى قطع بهم أرض جوخى، ثم أخذ على النهروانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن وبها كردم بن مرشد بن نجبة الفزاري، فشنوا الغارة على أهل الدائن، يقتلون الولدان والنساء والرجال، ويبقرون الحبالى، وهرب كردم، فأقبلوا إلى سباط فوضعوا أسيافهم في الناس، فقتلوا أم ولد لربيعة بن ماجد، وقتلوا بُنانة ابنة أبي يزيد بن عاصم الأزدي، وكانت قد قرأت القرآن، وكانت من أجمل الناس، فلما غشوها بالسيوف قالت: ويحكم، هل سمعتم بأن الرجال كانوا يقتلون النساء! ويحكم، تقتلون من لا يبسط إليكم يدًا ولا يريد بكم شرا، ولا يملك لنفسه نفعا! أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال بعضهم: اقتلوها، وقال رجل منهم: لو أنكم تركتموها! فقال بعضهم: أعجبك جمالها يا عدو الله! قد كفرث وافتتنت، فانصرف الآخر عنهم وتركهم، فظننا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها، فقالت رَيطة بنت يزيد: سبحان الله! أترون الله يرضى بما تصنعون! تقتلون النساء والصبيان ومن لم يذنب إليكم ذنبا! ثم انصرفت وحملوا عليها وبين يديها الرواغ بنت إياس بن شريح الهمداني، وهي ابنة أخيها لأمها، فحملوا عليها فضربوها على رأسها بالسيف، ويصيب ذباب السيف رأس الرواغ فسقطتا جميعا إلى الأرض، وقاتلهم إياس بن شريح ساعة، ثم صرع فوقع بين القتلى، فنزعوا عنه وهم يرون أنهم قد قتلوه، وصرع منهم رجل من بكر بن وائل يقال له: رزين بن المتوكل. فلما انصرفوا عنهم لم يمت غير بنانة بنت أبي يزيد، وأم ولد ربيعة بن ناجد، وأفاق سائرهم، فسقى بعضهم بعضا من الماء، وعصبوا جراحاتهم ثم استأجروا دواب، ثم أقبلوا نحو الكوفة. قال أبو مِخْنَف: فحدثني الرواع ابنة إياس، قالت: ما رأيت رجلا فط كان أجبن من رجل كان معنا وكانت معه ابنته، فلما غشينا ألقاها إلينا وهرب عنها وعنا، ولا رأينا رجلا قط كان أكرم من رجل كان معنا، ما نعرفة ولا يعرفنا، لما غُشينا قاتل دوننا حتى صرع بيننا، وهو رُزين بن المتوكل البَكري، وكان بعد ذلك يزورنا ويواصلنا. ثم إنه هلك في إمارة الحجاج، فكانت ورثته الأعراب، وكان من العباد الصالحين. قال هشام بن محمد -وذكره عن أبي مخنف- قال: حدثني أبي عن عمه أن مصعب بن الزبير كان بعث أبا بكر بن مخنف على إستان العال، فلما قدم الحارث بن أبي ربيعة أقصاه، ثم أقره بعد ذلك على عمله السنة الثانية، فلما قدمت الخوارج الدائن سرحوا إليه عصابة منهم، عليها صالح بن مِخراق، فلقيه بالكرخ فقاتله ساعة، ثم تنازلوا فنزل أبو بكر ونزلت الخوارج، فقُتل أبو بكر ويسار مولاه وعبد الرحمن بن أبي جِعال، ورجل من قومه، وانهزم سائر أصحابه، فقال سراقة بن مِرداس البارقي في بطن من الأزد: ألا يا لقومي للهموم الطوارق ** وللحدث الجاري بإحدى الصفائقِ ومقتل غِطريف كريم نِجارُهُ ** من المُقدِمين الذائدين الأصادق أتاني دوين الخف قتل ابن مخنف ** وقد غورت أولى النجوم الخوافق فقلت: تلقاك الإله برحمة ** وصلى عليك الله رب المشارق لحا الله قوما عَرَّدوا عنك بكرة ** ولم يصبروا للامعات البوارق تولوا فأجلوا بالضحى عن زعيمنا ** وسيدنا في المأزق المتضايق فأنت متى ما جئتنا في بيوتنا ** سمعت عويلا من عًوان وعاتق يبكين محمود الضريبة ماجدا ** صبورا لدى الهيجاء عند الحقائق لقد أصبحت نفسي لذاك حزينة ** وشابت لِما حمّلتُ في مفارقي قال أبو مخنف: فحدثني حدرة بن عبد الله الأزدي، والنضر بن صالح العبسي، وفضيل بن خديج، كلهم أخبرنيه أن الحارث بن أبي ربيعة الملقب بالقباع أتاه أهل الكوفة، فصاحوا إليه وقالوا له: اخرج فإن هذا عدو لنا قد أظل علينا ليست له تقية، فخرج وهو يكد كدا حمى نزل النخيلة، فأقام بها أباما، فوثب إليه إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنه سار إلينا عدو ليست له تقية، يقتل الرجل والمرأة والمولود، ويخيف السبيل، ويخرب البلاد، فانهض بنا إليه، فأمر بالرحيل - فخرج فنزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل إليه شبث بن ربعي، فكلمه بنحو مما كلمه به ابن الأشتر، فارتحل ولم يكد، فلما رأى الناس بطء سيره رجزوا به فقالوا: سار بنا القطاع سيراه نكرا ** يسير يوما ويقيم شهرا فأشخصوه من ذلك المكان، فكلما نزل بهم منزلا أقام بهم حتى يضج الناس به من ذلك، ويصيحوا به حول فسطاطه، فلم يبلغ الصراع إلا في بضعة عشر يوما، فأتى الصراة وقد انتهى إليها طلائع العدو وأوائل الخيول، فلما أتتهم العيون بأنه قد أتاهم جماعة أهل المصر قطعوا الجسر بينهم وبين الناس، وأخذ الناس يرتجزون: إن القاع سار سيرا ملسا ** بين دبيرى ودَباها خمسا قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه أن رجلا من الربيع كان به لمم، وكان بقرية يقال لها جوبر عند الخرارة، وكان يدعى سماك بن يزيد، فأتت الخوارج قريته فأخذوه وأخذوا ابنته، فقدموا ابنته فقتلوها، وزعم لي أبو الربيع السلولي أن اسم ابنته أم يزيد، وأنها كانت تقول لهم: يا أهل الإسلام، إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فإنما أنا جارية، والله ما أتيت فاحشة قط، ولا آذيت جارة لي قط، ولا تطلعت ولا تشرفت قط. فقدموها ليقتلوها، وأخذت تنادي: ما ذنبي ما ذنبي! ثم سقطت مغشيا عليها أو ميتة، ثم قطعوها بأسيافهم. قال أبو الربيع: حدثتني بهذا الحديث ظئر لها نصرانية من أهل الخورنق كانت معها حين قتلت. قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، أن الأزارقة جاءت وسماك بن يزيد معهم حتى أشرفوا على الصراة. قال: فاستقبل عسكرنا، فرأى جماعة الناس وكثرتهم، فأخذ ينادينا ويرفع صوته: اعبروا إليهم فإنهم فل خبيث، فضربوا عند ذلك عنقه وصلبوه ونحن ننظر إليه. قال. فلما كان الليل عبرت إليه أنا ورجل من الحي. فأنزلناه فدفناه. ليال أبو مخنف: حدثني أبي أن إبراهيم بن الأشتر قال للحارث بن أبي ربيعة: اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب، فأجيئك برؤوسهم الساعة، فقال شبث بن ربعي وأسماء بن خارجة ويزيد بن الحارث ومحمد بن الحارث ومحمد بن عمير: أصلح الله الأمير! دعهم فليذهبوا، لا تبدأهم، قال: وكأنهم حسدوا إبراهيم بن الأشتر. قال أبو مخنف: وحدثني حصيرة بن عبد الله وأبو زهير العبسي أن الازارقة لما انتهوا إلى جسر الصلاة فرأوا أن جماعة أهل المصر قد خرجوا إليهم، قطعوا الجسر، واغتنم ذلك الحارث، فتحبس. ثم إنه جلس للناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أول القتال الرميا بالنبل، ثم إشراع الرماح، ثم الطعن بها شزرا، ثم السلة آخر ذلك كله. قال: فقام اليه رجل فقال: قد أحسن الأمير أصلحه الله الصفة، ولكن حتام نصنع هذا وهذا البحر بيننا وبين عدونا! مر بهذا الجسر فليعد كما كان، ثم اعبر بنا إليهم، فإن الله سيريك فيهم ما تحبه، فأمر بالجسر فأعيد، ثم عبر الناس إليهم فطاروا حتى انتهوا إلى المدائن، وجاء المسلمون حتى انتهوا إلى المدائن، وجاءت خيل لهم فطاردت خيلا للمسلمين طردا ضعيفا عند الجسر. ثم إنهم خرجوا منها فاتبعهم الحارث بن أبي ربيعة عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا فى أرض البصرة خلاهم فاتبعهم حتى إذا خرجوا من أرض الكوفة ووقعوا إلى أصبهان انصرف عنهم ولم يقاتلهم ولم يكن بينه وبينهم قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتاب بن ورقاء بحي، فأقاموا عليه وحاصروه، فخرج إليهم فقاتلهم فلم يطقهم، وشدوا على أصحابه حتى دخلوا المدينة، وكانت أصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب بن الزبير، فبعث عليها عتابا، فصبر لهم عتاب، وأخذ يخرج إلبهم في كل يوم فيقاتلهم على باب المدينة، ويرمرن من السور بالنبل والنشاب والحجارة، وكان مع عتاب رجل من حضرموت يقال له أبو هريرة بن شريح، فكان يخرج مع عتاب، وكان شجاعا، فكان يحمل عليهم ويقول: كيف ترون يا كلاب النار ** شد أبي هُريرة الهَرّار يهِرُّكم بالليل والنهار ** يا ابن أبي الماحوز والأشرار كيف تُرى جَيَّ على المِضمار فلما طال ذلك على الخوارج من قوله كمن له رجل من الخوارج يظنون أنه عبيدة بن هلال، فخرج ذات يرم فصنع كما كان يصنع، ويقول ما كان يقول، إذ حمل عليه عبيدة بن هلال فضربه بالسيف ضربة على حبل عاتقه فصرعه، وحمل أصحابه عليه فاحتملوه فأدخلوه وداووه، وأخذت الأزارقة بعد ذلك تناديهم يقولون: يا أعداء الله، ما فعل أبو هريرة الهرار؟ فينادونهم: يا أعداء الله، والله ما عليه من بأس، ولم يلبث أبو هريرة أن برئ، ثم خرج عليهم بعد، فأخذوا يقولون: يا أعداء الله، أما والله لقد رجونا أن نكون قد أزرناك أمك، فقال لهم: يا فساق، ما ذكركم أمي! فأخذوا يقولون: إنه ليغضب لأمه، وهو آتيها عاجلا. فقال له أصحابه: ويحك إنما يعنون النار، ففطن فقال: يا أعداء الله، ما أعقكم بأمكم حين تنتفون منها! إنما تلك أمكم، وإليها مصيركم. ثم إن الخوارج أقامت عليهم أشهرا حتى هلك كُراعهم ونفدت أطعمتهم، واشتد عليهم الحصار، وأصابهم الجهد الشديد، فدعاهم عتاب بن ورقاء فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإنه قد أصابكم من الجهد ما قد ترون، فوالله إن بقي إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيجيء أخوه فيدفنه إن استطاع، وبالحري أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو فلا مجد من يدفنه، ولا يصلي عليه، فاتقوا الله، فوالله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم، وإن فيكم لفرسان أهل المصر، وإنكم لصلحاء. من أنتم منه! اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم وبكم حياة وقوة قبل ألا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلى عدوه من الجهد، وقبل ألا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته، فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فوالله إني لأرجو إن صدقتموه أن يظفركم الله بهم، وأن يظهركم عليهم. فناداه الناس من كل جانب؟ وفقت وأصبت، اخرج بنا إليهم، فجمع إليه الناس من الليل، فأمر لهم بعشاء كثير، فعشي الناس عنده، ثم إنه خرج بهم حين أصبح على راياتهم، فصبحهم في عسكرهم وهم آمنون من أن يؤتوا في عسكرهم، فشدوا عليهم في جانبه، فضاربوهم فاخلوا عن وجه العسكر حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فنزل في عصابة من أصحابه فقاتل حتى قتل، وانحازت الأزارقة إلى قطري، فبايعوه، وجاء عتاب حتى دخل مدينته، وقد أصاب من عسكرهم ما شاء، وجاء قطري في أثره كأنه يريد أن يقاتله، فجاء حتى نزل في عسكر الزبير بن الماحوز. فتزعم الخوارج أن عينا لقطري جاءه فقال: سمعت عتابا يقول إن هؤلاء القوم إن ركبوا بنات شحاج، وقادوا بنات صهال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحري أن يبقوا، فلما بلغ ذلك قطريا خرج فذهب وخلاهم. قال أبو مخنف: قال أبو زهير العبسي وكان معهم: خرجنا إلى قطري من الغد مشاة مصلتين بالسيوف، قال: فارتحلوا والله فكان آخر العهد بهم. قال: ثم ذهب قطري حتى أتى ناحية كرمان فاقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض واجتبى المال وقوي، ثم أقبل حتى أخذ في أرض أصبهان. ثم إنه خرج من شعب ناشط إلى أيذج، فاقام بأرض الأهواز والحارث بن أبي ربيعة عامل المصعب بن الزبير على البصرة، فكتب إلى مصعب يخبره أن الخوارج قد تحدرت إلى الأهواز، وأنه ليس لهم إلا المهلب، فبعث إلى المهلب وهو على الموصل والجزيرة. فأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر، وجاء المهلب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس، وسار بمن أحب، ثم توجه نحو الخوارج، وأقبلوا اليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشد قتال رآه الناس، لا يُنقع بعضهم لبعض من الطعن والضرب ما يصد بعضهم عن بعض. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان القحط الشديد بالشام حتى لم يقدروا من شدته على الغزو. وفيها عسكر عبد الملك بن مروان ببطنان حبيب من أرض قنسرين، فمطروا بها، فكثر الوحل فسموها بطنان الطين، وشتا بها عبد الملك، ثم انصرف منها إلى دمشق. وفيها قتل عبيد الله بن الحر. ذكر الخبر عن مقتل عبد الله بن الحر ذكر الخبر عن مقتله والسبب الذي جر ذلك عليه روى أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، أن عبيد الله بن الحر كان رجلا من خيار قومه صلاحا وفضلا وصلاة واجتهادا، فلما قتل عثمان وهاج ذلك الهيج بين علي ومعاوية، قال: أما إن الله ليعلم أني أحب عثمان، ولأنصرنه ميتا. فخرح إلى الشام، فكان مع معاوية وخرج مالك بن مسمع إلى معاوية على مثل ذلك الرأي في العثمانية، فأقام عبيد الله عند معاوية، وشهد معه صفين، ولم يزل معه حتى قُتل علي عليه السلام، فلما قتل علي قدم الكوفة فأتى إخوانه ومن قد خف في الفتنة فقال لهم: يا هؤلاء، ما أرى أحدا ينفعه اعتزاله، كنا بالشام، فكان من أمر معاوية كيت وكيت. فقال له القوم: وكان من أمر علي كيت وكيت، فقال: يا هؤلاء، إن تمكننا الأشياء فاخلعوا عذركم، واملكوا أمركم، قالوا: سنلتقي، فكانوا يلتقون على ذلك. فلما مات معاوية هاج ذلك الهيج في فتنة ابن الزبير، قال: ما أرى قريشا تنصف، أين أبناء الحرائر! فأتاه خليع كل قبيلة، فكان معه سبعمائة فارس، فقالوا: مرنا بأمرك، فلما هرب عبيد الله بن زياد ومات يزيد بن معاوية، قال عبيد الله بن الحر لفتيانه: قد بين الصبح لذي عينين، فإذا شئتم! فخرج إلى المدائن فلم يدع مالا قدم من الجبل للسلطان إلا أخذه، فأخذ منه عطاءه وأعطية أصحابه، ثم قال: إن لكم شركاء بالكوفة في هذا المال قد استوجبوه، ولكن تعجلوا عطاء قابل سلفا، ثم كتب لصاحب المال براءة بما قبض من المال، ثم جعل يتقصى الكور على مثل ذلك. قال: قلت: فهل كان يتناول أموال الناس والتجار؟ قال لي: إنك لغير عالم بأبي الاشرس، والله ما كان في الأرض عربي أغير عن حرة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه، ولكن إنما وضعه عند الناس شعره، وهو من أشعر الفتيان. فلم يزل على ذلك من الأمر حتى ظهر المختار، وبلغه ما يصنع بالسواد، فأمر بامرأته أم سلمة الجعفية فرجعت، وقال: والله لأقتلنه أو لأقتلن أصحابه، فلما بلغ ذلك عبيد الله بن الحر أقبل في فتيانه حتى دخل الكوفة ليلا، فكسر باب السجن، وأخرج امرأته وكل امرأة ورجل كان فيه، فبعث إليه المختار من يقاتله، فقاتلهم حتى خرج من المصر، فقال حين أخرج امرأته من السجن: ألم تعلمي يا أم توبة أنني ** أنا الفارس الحامي حقائق مَذحِجِ وأني صَبَحت السجن في سورة الضحى ** بكل فتى حامي الذمار مُدجّج فما إن برحنا السجن حتى بدا لنا ** جبين كقرن الشمس غير مُشنّج وخد أسيل عن فتاة حَييّة ** إلينا سقاها كل دان مثجّج فما العيش إلا أن أزورك آمنا ** كعادتنا من قبل حربي ومَخرجي وما أنتِ إلا همة النفس والهوى ** عليك السلام من خليط مُسَحّج وما زلت محبوسا لحبسك واجما ** وإني بما تلقين من بعده شَجِ فبالله هل أبصرت مثلي فارسا ** وقد ولجوا في السجن من كل مولج ومثلي يحامي دون مثلك إنني ** أشُدُّ إذا ما غمرة لم تفرّج أضارقهم بالسيف عنك لترجعي ** إلى الأمن والعيش الرفيع المخرفج إذا ما أحاطوا بي كررت عليهم ** ككر أبي شبلين في الخيس مُحرج دعوت إلى الشاكري ابن كامل ** فولى حثيثا رفضه لم يُعرّج وإن هتفوا باسمي عَطَفْتُ عليهم ** خيولَ كرامِ الضرب أكثرُها الوجي فلا غرو إلا قول سلمى ظعينتي ** أما أنت يا ابن الحر بالمتحرّج دع القوم لا تقتلهم وانجُ سالما ** وشمر هداك الله بالخيل فاخرج واني لأرجو يا ابنة الخير أن أُرى ** على خير أحوال المؤمل فارتجي ألا حبذا قولي لأحمر طيء ** ولابن خبيب قد دنا الصبح فادلج وقولي لهذا سر وقولي لذا ارتحل ** وقولي لذا من بعد ذلك أسرج وجعل يعبث بعمال المختار وأصحابه. ووثبت همدان مع المختار فأحرقرا داره، وانتهبوا ضيعته بالجُبّة والبُداة، فلما بلغه ذلك سار إلى ماه إلى ضياع عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فأنهبها وأنهب ما كان لهمدان بها، ثم أقبل إلى السواد فلم يدع مالا لهمداني إلا أخذه. ففي ذلك يقول: وما ترك الكذاب من جل مالنا ** ولا الزرق من همدان غير شريدِ أفي الحق أن تنهب ضياعي شاكر ** وتأمن عندي ضيعة ابن سعيد! ألم تعلمي يا أم توبة أنني ** على حدثان الدهر غير بليد أشد حيازيمي لكل كريهة ** وإني على ما ناب جد جليد فإن لم أصبح شاكرا بكتيبة ** فعالجت بالكفين غُل حديد هم هدموا داري وقادوا حليلتي ** إلى سجنهم والمسلمون شهودي وهم أعجلوها أن تشد خمارها ** فيا عجبا هل الزمان مقيدي فما أنا بابن الحر إن لم أرُعْهُمُ ** بخيل تعادي بالكماة أسود وما جَبُنَتْ خيلي ولكن حَملتُها ** على جَحفل ذي عُدّة وعديد وهي طويلة. قال: وكان يأتي الدائن فيمر بعمال جُوخَى فيأخذ ما معهم من الأموال، ثم يميل إلى الجبل، فلم يزل على ذلك حتى قتل المختار، فلما قتل المختار، قال الناس لمصعب في ولايته الثانية: إن ابن الحر شاق ابن زياد والمختار، ولا نأمنه أن يثب السواد كما كان يفعل، فحبسه مصعب فقال ابن الحر: من مبغ الفتيان أن أخاهم ** أتى دونه باب شديد وحاجبه بمنزلة ما كاد يرضى بمثلها ** إذا قام عنه كبول تجاوبه على الساق فرق الكعب أسود صامت ** شديد يداني خطوه ويقاربه وما كاد ذا من عظم جرم جنيته ** ولكن سعى الساعي بما هو كاذبه وقد كلاد في الأرض العريضة مسلك ** وأي امرئ ضاقت عيه مذاهبه وفي الدهر والأيام للمرء عبرة ** وفيما مضى إن ناب يوما نوائبه فكلم عبيد الله قوما من مذحج أن ياتوا مصعبا في أمره، وأرسل إلى وجوههم، فقال: ائتوا مصعبا فكلموه في أمري ذاته، فإنه حبسني على غير جرم، سعى بي قوم كذبة وخوفوه ما لم أكن لأفعله، وما لم يكن من شأني. وأرسل إلى فتيان من مذحج وقال: البسوا السلاح، وخذوا عدة القتال، فقد أرسك قوما إلى مصعب يكلمونه في أمري، فأقيموا بالباب، فإن خرج القوم وقد شفعهم فلا تعرضوا لأحد، وليكن سلاحكم مكفرا بالثياب. فجاء قوم من مذجح فدخلوا على مصعب فكلموه فشفعهم فاطلقه، وكان ابن الحر قال لأصحابه: إن خرجوا ولم يشفعهم فكابروا السجن فإني أعينكم من داخل، فلما خرج ابن الحر قال لهم: أظهروا السلاح، فأظهروه، ومضى لم يعرض له أحد، فأتى منزله، وندم مصعب على إخراجه، فاظهر ابن الحر الخلاف، وأتاه الناس يهنؤنه، فقال: هذا الأمر لا يصلح ألا لمثل خلفائكم الماضين، وما نرى لهم فينا ندا ولا شبيها فنلقي إليه أزمتنا ونمحضه نصيحتنا، فإن كان إنما هو مَن عَزَّ بَزَّ، فعلام نعقد لهم في أعناقنا بيعة، وليسوا بأشجع منا لقاة ولا أعظم منا غناء، وقد عهد إلينا رسول الله ﷺ ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وما رأينا بعد الأربعة الماضين إماما صالحا ولا وزيرا تقيا. كلهم عاص مخالف، قوي الدنيا، ضعيف الآخرة؟ فعلام تستحل حرمتنا، ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند! نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا، ثم لا يعرف لنا حقنا وفضلنا، فقاتلوا عن حريمكم، فاي الأحمر ما كان فلكم فيه الفضل، وإني قد قلبت ظهر المجن، وأظهرت لهم العداوة، ولا قوة إلا بالله. وحاربهم فأغار فأرسل إليه مصعب سيف بن هانئ المعادي، فقال له: إن مصعبا يعطيك خراج بادوريا على أن تبايع وتدخل في طاعته، قال: أوليس لي خراج بادوريا وغيرها،لست قابلا شيثا ولا آمنهم على شيء، ولكني أراك يا فتى- وسيف يومئذ حدث- حدثا، فهل لك أن تتبعني وأموّلُك! فأبى عليه، فقال ابن الحر حين خرج من الحبس: لا كوفة أمي ولا بصرة أبي ** ولا أنا يثنيني عن الرحلة الكسل قال أبو الحسن: يروى هذا البيت لسحيم بن وثيل الرياحي فلا تحسبني ابن الزبير كناعس ** إذا حل أغفى أو يقال له ارتحل فإن لم أزرك الخيل تردي عوابسا ** بفرسانها لا أُدْعَ بالحازم البطل وإن لم تر الغارات من كل جانب ** عليك فتندم عاجلا أيها الرجل فلا وضعت عندي حصان قناعها ** ولا عشتُ إلا بالأماني والعلل وهي طويلة. فبعث مصعب الأبرد بن قرة الرياحي في نفر، فقاتله فهزمه ابن الحر، وضربه ضربة على وجهه، فبعث إليه مصعب حريث بن زيد -أو يزيد- فبارزه فقتله عبيد الله بن الحر، فبعث إليه مصعب الحجاج بن جارية الخثعمي ومسلم بن عمرو، فلقياه بنهر صرصر، فقاتلهم فهزمهم، فأرسل إليه مصعب قوما يدعونه إلى أن يؤمنه ويصله، ويوليه أي بلد شاء، فلم يقبل، وأتى نرسي ففر دهقانها ظيزجشنس بمال الفلوجة، فتبعه ابن الحر حتى مر بعين التمر وعليها بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فتعوذ بهم الدهقان، فخرجوا إليه فقاتلوه -وكانت خيل بسطام خمسين ومائة فارس- فقال يونس بن هاعان الهمداني من خيوان، ودعاه ابن الحر إلى المبارزة: شر دهر آخره، ما كنت أحسبني أعيش حتى يدعوني إنسان إلى المبارزة! فبارزه فضربه ابن الحر ضربة أثخنته، ثم اعتنقا فخرا جميعا عن فرسيهما، وأخذ ابن الحر عمامة يونس وكتفه بها ثم ركب، ووافاهم الحجاج بن حارثة الخثعمي، فحمل عليه الحجاج فأسره أيضا عبيد الله، وبارز بسطام بن مصقلة المجشر، فاضطربا حتى كره كل واحد منهما صاحبه وعلاه بسطام، فلما رأى ذلك ابن الحر حمل على بسطام واعتنقه بسطام، فسقطا إلى الأرض، وسقط ابن الحر على صدر بسطام فأسره، وأسر يومئد ناسا كثيرا، فكان الرجل يقول: أنا صاحبك يوم كذا، ويقول الآخر: أنا نازل فيكم، ويمت كل واحد منهم بما يرى أنه ينفعه، فيخلي سبيله، وبعث فوارس من أصحابه عليهم دلهم المرادي يطلبون الدهقان، فأصابوه، فأخذوا المال قبل القتال، فقال ابن الحر: لو أن لي مثل جرير أربعه ** صبحت بيت المال حتى أجمعه ولم يهلني مصعب ومن معه ** نعم الفتى ذلكم ابن مشجعه ثم إن عبيد الله أتى تكريت، فهرب عامل المهلب عن تكريت، فأقام عبيد الله يجبي الخراج، فوجه إليه مصعب الأبرد بن قرة الرياحي والجون بن كعب الهمداني في ألف، وأمدهما المهلب بيزيد بن الغفل في خمسمائة، فقال رجل من جعفى لعبيد الله: قد أتاك عدد كئير فلا تقاتلهم، فقال: يخوفني بالقل قومي وإنما ** أموت إذا جاء الكتاب المؤجل لعل القنا تدني بأطرافها الغنى ** فنحيا كراما أو نكر فنقتل فقال للمجشر ودفع إليه رايته، وقدم معه دلهما المرادي، فقاتلهم يومين وهو في ثلائمائة، فخرج جرير بن كريب، وقتل عمرو بن جندب الأزدي وفرسان كثير من فرسانه، وتحاجزوا عند المساء، وخرج عبيد الله من تكريت فقال لأصحابه: إني سائر بكم إلى عبد الملك بن مروان، فتهيئوا، وقال: إني أخاف أن أفارق الحياة ولم أذعر مصعبا وأصحابه، فارجعوا بنا إلى الكوفة. قال: فسار إلى كسكر فنفى عاملها، وأخذ بيت مالها، ثم أتى الكوفة فنزل لحام جرير، فبعث إليه مصعب عمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتله، فخرج إلى دير الأعور، فبعث إليه مصعب حجار بن أبجر، فانهزم حجار، فشتمه مصعب ورده، وضم إليه الجون بن كعب الهمداني وعمر بن عبيد الله بن معمر، فقاتلوه بأجمعهم، وكثرت الجراحات في أصحاب ابن الحر وعقرت خيولهم، وجرح المجشر، وكان معه لواه ابن الحر، فدفعه إلى أحمر طيء، فانهزم حجار بن أبجر ثم كر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى أمسوا، فقال ابن الحر: لو أن لي مئل الفتى المجشر ** ثلاثة بَيَّتُهُم لا أمتري ساعدني ليلة دير الأعور ** بالطعن والضرب وعند المعبر لطاح فيها عمر بن معمر وخرج ابن الحر من الكوفة، فكتب مصعب إلى يزيد بن الحارث بن رؤيم الشيباني -وهو بالمدائن- يأمره بقتال ابن الحر، فقدم ابنه حوشبا فلقيه بباجسري، فهزمه عبيد الله وقُتل فيهم، وأقبل ابن الحر فدخل المدائن، فتحصنوا، فخرح عبيد الله فوجه إليه الجون بن كعب الهمداني وبشر بن عبد الله الأسدي، فنزل الجون بحولايا، وقدم بشر إلى تامرا فلقي ابن الحر، فقتله ابن الحر وهزم أصحابه، ثم لقي الجون بن كعب بحولايا، فخرج إلبه عبد الرحمن بن عبد الله، فحمل عليه ابن الحر فطعنه فقتله وهزم أصحابه، وتبعهم، فخرج إليه بشير بن عبد الرحمن بن بشير العجلي، فالتقوا بسورا فاقتتلوا قتالا شديدا، فانحاز بشير عنه، فرجع إلى عمله، وقال: قد هزمت ابن الحر، فبلغ قوله مصعبا فقال: هذا من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وأقام عبيد الله في السواد يغير ويجبي الخراج، فقال ابن الحر في ذلك: سلو ابن رؤيم عن جلادي وموقفي ** بديوان كسرى لا أوليهمُ ظهري أكر عليهم معلما وتراهمُ ** كمعزى تحنى خشية الذئب بالصخرِ ولهم في حصن كِسرى بن هُرْمُزٍ ** بمشحوذة بيض وخطية سُمر فأجزيتهم طعا وضربا تراهم ** يلوذون نما موهنًا بذرا القَصْر يلوذون مني رهبة ومخافة ** لواذًا كما لاذ الححائم من صَقْر ثم إن عبيد الله بن الحر -فيما ذكر- لحق بعبد الملك بن مروان، فلما صار إليه وجهه في عشرة نفر نحو الكوفة، وأمره بالسير نحوها حتى تلحقه الجنود، فسار بهم، فلما بلغ الأنبار وجّه إلى الكوفة من يخبر أصحابه بقدومه، ويسألهم أن يخرجوا إليه، فبلغ ذلك القيسية، فأتوا الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عامل ابن الزبير على الكوفة، فسالوه أن يبعث معهم جيشا، فوجه معهم، فلما لقوا عبيد الله قاتلهم صاعة، ثم غرقت فرسه، وركب معبرا فوثب عليه رجل من الأنباط فأخذ بعضديه وضربه الباقون بالمرادي، وصاحوا إن هذا طلبة أمير المؤمنين، فاعتنقا فغرقا، ثم استخرجوه فجزوا رأسه، فبعثوا به إلى الكوفة ثم إلى البصرة. قال ابو جعفر: وقد قيل في مقتله غير ذلك من القول، قبل: كان سبب مقتل عبيد الله بن الحر أنه كان يغشى بالكوفة مُصعبا، فرآه يقدم عليه أهل البصرة، فكتب إلى عبد الله بن الزبير -فيما ذكر- قصيدة يعاتب بها مصعبا ويخوفه مسيره إلى عبد الملك بن مروان، يقول فيها: أبلغ أمير المؤمنين رسالة ** فلست على رأي قبيح أواربُهْ أفي الحق أن أجفى ويَجعل مصعب ** وزيريه من كنت فيه أحاربه فكيف وقد أبليتكم حق بيعتي ** وحقي يُلوى عندكم وأطالبه وأبليتكم ما لا يضيع مثله ** وآسيتكم والأمر صعب مراتبه فلما استنار الملك وانقادت العدا ** وأدرك من مال العراق رغائبه جفا مصعب عني ولوكان غيره ** لأصبح فيما بيننا لا أعاتبه لقد رابني من مصعب ان مصعبا ** أرى كل ذي غش لثا هو صاحبه وما أنا إن حَلّأتموني بوارد ** على كدر قد غُصَّ بالصفو شاربه وما لامرئ إلا الذي الله سائق ** إليه وما قد خط في الزبر كاتبه إذا قمت عند الباب أدخِلَ مُسلمٌ ويمنعني أن أدخل الباب حاجبُه وهي طويلة. وقال لمصعب وهو في حبسه، وكان قد حبس معه عطية بن عمرو البكري، فخرج عطية، فقال عبيد الله: أقول له صبرًا عَطيُّ فإنما ** هو السجن حتى يجعل الله مخرجا أرى الدهر لي يومين يوما مطردا ** شريدا ويوما في الملوك متوّجا أتَطعَنُ في دبني غداة أتيتُكم ** وللدين تُدني الباهلي وحَشْرَجا! ألم تر أن الملك قد شين وجهه ** ونَبْعُ بلاد الله قد صار عَوْسَجَا! وهي طويلة. وقال أيضا يعاتب مصعبا في ذلك، ويذكر له تقريبه سويد بن منجوف، وكان سويد خفيف اللحية: بأي بلاء أم بأية نعمة ** تَقدَّمُ قبلي مسلمٌ والمهلّبُ ويدعى ابن منجوف أمامي ** كأنه خصي أتى للماء والعَير يَسرُبُ وشيخ تميم كالثغامة رأسُه ** وعيلان عنا خائف مترقب جعلت قصور الأزد ما بين منبجٍ ** إلى الغاف من وادي عُمان تصوّب بلاد نفى عنها العدوَّ سيوفنا ** وصُفرة عنها نازحُ الدار أجنب وقال قصيدة يهجو فيها قيس عَيلان، يقول فيها: أنا ابن بني قيس فإن كنت سائلا ** بقيس تجدهم ذروة في القبائل ألم تر قيسا قيس عيلان بَرَقَعَت ** لحاها وباعت نَبلَها بالمغازل وما زلت أرجو الأزد حتى رأيتُها ** تُقَصِّرُ عن بنيانها المتطاول فكتب زُفَر بن الحارث إلى مصعب: قد كفيتك قتال ابن الزرقاء وابن الحر يهجو قيسا. ثم إن نفرا من بني سليم أخذوا ابن الحُرّ فأسروه، فقال: إني إنما قلت: ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ** إلينا وسارت بالقَنا والقنابل فقتله رجل منهم يقال له عياش، فقال زفر بن الحارث: لما رأيتُ الناس أولاد علة ** وأغرق فينا نَزغةً كلُّ قائلِ تكلم عنا مَشيُنا بسيوفنا ** إلى الموت واستنشاط حبل المراكل فلو يَسألُ ابنُ الحُرِّ أُخبِرَ أنها ** يمانية لا تُشتَرى بالمغازل وأُخبر أنا ذاتُ علمٍ سيوفُنا ** بأعناقِ ما بين الطُّلى والكواهل وقال عبد الله بن هَمّام: ترنمت يا بنَ الحر وحدك خاليا ** بقول امرئ نَشوان أو قول ساقِطِ أتذكر قوما أوجعتك رماحهم ** وذبوا عن الأحساب عند المآقط وتبكي لِما لاقت ربيعة منهم ** وما أنت في أحساب بكر بواسط فهلّا بجعفي طَلبتَ ذُحُولَها ** ورهطك دُنيا في السنين الفوارط تركناهم يوم الثَّري أذلة ** يلوذون من أسيافنا بالعرافط وخالطكم يوم النخيل بجمعه ** عُميرٌ فما استبشرتم بالمُخالِط ويوم شراحيلٍ جدعنا أنوفكم ** وليس علينا يوم ذاك بقاسط ضربنا بحد السيف مفرِق رأسه ** وكان حديثا عهدُه بالمواشط فإن رغمتْ من ذاك آنُفُ مَذحجٍ ** فرغما وسخطا للأنوف السواخط أخبار متفرقة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وافت عرفات أربعة ألوية. قال محمد بن عمر: حدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: وقفت في سنة ثمانية وستين بعرفات أربعة ألوية: ابن الحنفية في أصحابه في لواء قام عند جبل الشاة، وابن الزبير في لواء، فقام مقام الإمام اليوم، ثم تقدم ابن الحنفية بأصحابه حتى وقفوا حذاء ابن الزبير، ونجدة الحروري خلفهما، ولواء بني أمية عن يسارهما، فكان أول لواء انفض لواء محمد بن الحنفية، ثم تبعه نجدة، ثم لواء بني أمية، ثم لواء ابن الزبير، واتبعه الناس. قال محمد: حدثني ابن نافع، عن أبيه، قال: كان ابن عمر لم يدفع تلك العشية إلا بدفعة ابن الزبير، فلما أبطأ ابن الزبير وقد مضى ابن الحنفية ونجدة وبنو أمية قال ابن عمر: ينتظر ابن الزبير أمر الجاهلية، ثم دفع، فدفع ابن الزبير على أثره. قال محمد: حدثني هشام بن عمارة، عن سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه، قال: خفت الفتنة، فمشيت إليهم جميعا، فجئت محمد بن علي في الشعب، فقلت: يا أبا القاسم، اتق الله فإنا في مشعر حرام، وبلد حرام، والناس وفد الله إلى هذا البيت، فلا تفسد عليهم حجهم، فقال: والله ما أريد ذلك، وما أحول بين أحد وبين هذا البيت، ولا يؤتى أحد من الحاج من قبلي، ولكني رجل أدفع عن نفسي من ابن الزبير، وما يروم مني، وما أطلب هذا الأمر إلا ألا يختلف علي فيه اثنان! ولكن ائت ابن الزبير فكلمه، وعليك بنجدة، قال محمد: فجئت ابن الزبير فكلمته بنحو ما كلمت به ابن الحنفية، فقال، أنا رجل قد اجتمع علي الناس وبايعوني، وهؤلاء أهل خلاف، فقلت: أرى خيرا لك الكف، قال: أفعل، ثم جئت نجدة الحروري فأجده في أصحابه، وأجد عكرمة غلام ابن عباس عنده، فقلت له: استاذن لي على صاحبك، قال: فدخل، فلم ينشب أن أذن لي، فدخلت فعظمت عليه، وكلمته كما كلمت الرجلين، فقال: أما أن ابتدئ أحدا بقتال فلا، ولكن من بدأ بقتال قاتلته، قلت: فإني رأيت الرجلين لا يريدان قتالك، ثم جئت شيعة بني أمية فكلمتهم بنحو ما كلمت به القوم، فقالوا: نحن على ألا نقاتل أحدا إلا أن يقاتلنا. فلم أر في تلك الألوية قوما أسكن ولا أسلم دفعة من ابن الحنفية. قال أبو جعفر: وكان العامل لابن الزبير في هذه السنة على المدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري، وعلى البصرة والكوفة أخوه مصعب، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعلى خراسان عبد الله بن خاتم السلمي؛ وبالشام عبد الله بن مروان. ثم دخلت سنة تسع وستين ذكر خبر قتل عبد الملك سعيد بن عمرو ففيها كان خروج عبد الملك بن مروان -فيما زعم الواقدي- إلى عين وردة، واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها، فبلغ ذلك عبد الملك فرجع إلى دمشق، فحاصره -قال: ويقال: خرج معه- فلما كان ببطنان حبيب رجع إلى دمشق فتحصن فيها، ورجع عبد الملك إلى دمشق. وأما عوانة بن الحكم فإنه قال -فيما ذكر هشام بن محمد عنه-: إن عبد الملك بن مروان لما رجع من بطنان حبيب إلى دمشق مكث بدمشق ما شاء الله، ثم سار يريد قرقيسياء، وفيها زفر بن الحارث الكلابي ومعه عمرو بن سعيد، حتى إذا كان ببطنان حبيب فتك عمرو بن سعيد، فرجع ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي وزهير بن الأبرد الكلبي، حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك، فلما بلغه رجوع عمرو بن سعيد هرب وترك عمله، ودخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها. وقال غيرهما: كانت هذه القصة في سنة سبعين. وقال: كان مسير عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص: إنك تخرج إلى العراق، وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى ذلك جاهدت معه، وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك، فلم يجبه عبد الملك إلى شيء، فانصرف عنه عمرو راجعا إلى دمشق، فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق. رجع الحديث إلى حديث هشام، عن عوانة قال: ولما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه، فأمر بداره فهدمت واجتمع الناس، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارا، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه. وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إلي من ذلك شيء، غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية. ونزل. وأصبح عبد الملك، ففقد عمرو بن سعيد، فسأل عنه، فأُخبر خيره، فرجع عبد الملك إلى دمشق، فإذا عمرو قد جلل دمشق المسوح فقاتله بها أياما، وكان عمرو بن سعيد إذا أخرج حميد بن حريث الكلبي على الخيل أخرج إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي، وإذا أخرج عمرو بن سعيد زهير بن الأبرد الكلبي أخرج إليه عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل الكلبي. قال هشام: حدثني عوانة أن الخيلين توافقتا ذات يوم، وكان مع عمرو بن سعيد رجل من كلب يقال له رجاء بن سراج، فقال رجاء: يا عبد الرحمن بن سراج، ابرز -وكان عبد الرحمن مع عبد الملك- فقال عبد الرحمن: قد أنصف القارة من راماها، وبرز له، فاطّعنا وانقطع ركاب عبد الرحمن، فنجا منه ابن سراج، فقال عبد الرحمن: والله لولا انقطاع الركاب لرميت بما في بطنك من تبن، وما اصطلح عمرو وعبد الملك أبدا، فلما طال قتالهم جاء نساء كلب وصبيانهم فبكين وقلن لسفيان بن الأبرد ولابن بحدل الكلبي: علام تقتلون أنفسكم لسلطان قريش! فحلف كل واحد منهما ألا يرجع حتى يرجع صاحبه، فلما أجمعوا على الرجوع نظروا فوجدوا سفيان أكبر من حريث، فطلبوا إلى حريث، فرجع. ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا، وكتبا بينهما كتابا، وآمنه عبد الملك وذلك عشية الخميس. قال هشام: فحدثني عوانة أن عمرو بن سعيد خرج في الخيل متقلدا قوسا سوداء، فأقبل حتى أوطأ فرسه أطناب سرادق عبد الملك فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو: يا أبا أمية، كأنك تشبه بتقلدك هذه القوس بهذا الحي من قيس! قال: لا، ولكني أتشبه بمن هو خير منهم، العاص بن أمية. ثم قام مغضبا والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك دمشق يوم الخميس، فبعث إلى عمرو أن أعط الناس أرزاقهم، فأرسل إليه عمرو إن هذا ليس لك ببلد فاشخص عنه. فلما كان يوم الاثنين وذلك بعد دخول عبد الملك دمشق بأربع بعث إلى عمرو أن ائتني -وهو عند امرأته الكلبية، وقد كان عبد الملك دعا كريب بن أبرهة بن الصباح الحميري فاستشاره في أمر عمرو بن سعيد، فقال له: في هذا هلكت حمير، لا أرى لك ذلك، لا ناقتي في ذا ولا جملي- فلما أتى رسول عبد الملك عمرا يدعوه صادف الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو بن سعيد: يا أبا أمية، والله لأنت أحب إلي من سمعي وبصري، وقد أرى هذا الرجل قد بعث إليك أن تأتيه، وأنا أرى لك ألا تفعل، فقال له عمرو: ولم؟ قال: لأن تبيع ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظبما من عظماء ولد إسماعيل يرجع فيغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث أن يقتل، فقال له عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه -وكان عبد الله بن يزيد زوج أم موسى بنت عمرو بن سعيد- فقال عمرو للرسول: أبلغه السلام، وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله. فلما كان العشي لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهي وقميص قوهي، وتقلد سيفه وعنده امرأته الكلبية وحميد بن حريث بن مجدل الكلبي، فلما نهض متوجها عثر بالبساط، فقال له حميد: أما والله لئن أطعتني تأته، وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت إلى قولهم، ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بني مروان فاجتمعوا عنده، فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له فدخل، ولم تزل أصحابه يحبسون عند كل باب حتى دخل عمرو قاعة الدار، وما معه إلا وصيف له، فرمى عمرو ببصره نحو عبد الملك، فإذا حوله بنو مروان، وفيهم حسان بن مالك بن بحدل الكلبي وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي. فلما رأى جماعتهم أحس بالشر، فالتفت إلى وصيفه فقال: انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد، فقل له يأتيني. فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له: لبيك! فقال له: اغرب عني في حرق الله وناره. وقال عبد الملك لحسان وقبيصة: إذا شئتما فقوما فالتقيا وعمرا في الدار، فقال عبد الملك لهما كالمازح ليطمئن عمرو بن سعيد: أيكما أطول؟ فقال حسان: قبيصة يا أمير الؤمنين أطول مني بالإمرة، وكان قبيصة على الخاتم. ثم التفت عمرو إلى وصيفه فقال: انطلق إلى يحيى فمره أن يأتيني، فقال له: لبيك، ولم يفهم عنه، فقال له عمرو: اغرب عني، فلما خرج حسان وقبيصة أمر بالأبواب فغلقت، ودخل عمرو فرحب به عبد الملك، وقال: هاهنا يا أبا أمية، يرحمك الله! فأجلسه معه على السرير، وجعل يحدثه طويلا، ثم قال: يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير الؤمنين. فقال عبد الملك: أوتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك! فأخذ السيف عنه، ثم تحدثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، فقال: إنك حيث خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة، فقال له بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير الؤمنين؟ قال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية، فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين، فقال عمرو: قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنبن، فاخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس! فقال عبد الملك: أمكرا أبا أمية عند الموت! لا ها الله إذًا، ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس، ولما نخرجها منك إلا صعدا، ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك إلى كسر عظم مني أن تركب ما هو أعظم من ذلك. فقال له عبد الملك: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقي عليك وتصلح قريش لأطلقتك، ولكلن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على مل ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه. فلما رأى عمرو أن ثنيته قد اندقت وعرف الذي يريد عبد الملك، قال: أغدرًا يا ابن الزرقاء! وقيل: إن عبد الملك لما جذب عمرا فسقطت ثنيته جعل عمرو يمسها، فقال عبد الملك له: أرى ثنيتك تد وقعت منك موقعا لا تطيب نفس ك بعدها. فأمر به فضرب عنقه. رجع الحديث إلى حديث عوانة. وأذن المؤذن العصر، فخرج عبد الملك يصلي بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان أن يقتله، فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي، وليتول ذلك من هو أبعد رحما منك! فألقى عبد العزيز السيف وجلس، وصلى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل، وغلقث الأبواب ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس عمرو معه، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد فأقبل في الناس حتى حل بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو، وأناس بعد من أصحابه كثير، فجعل من كان معه يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية! وأقبل مع يحيى بن سعيد حميد بن حريث وزهير بن ا لأبرد فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، وضرب عبد لعمرو بن سعيد يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان فأدخله بيت القراطيس، ودخل عبد الملك حين صلى فوجد عمرا حيا، فقال لعبد العزيز: ما منعك من أن تقتله! قال: منعني أنه ناشدني الله والرحم فرفقت له. فقال له عبد الملك: أخزى الله أمك البوالة على عقبيها. فإنك لم تشبه غيرها - وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وكانت أم عبد العزيز ليلى، وذلك تول ابن الرقيات: ذاك ابن ليلى عبد العزيز ببا ** بليون تغدو جفانه رذما ثم إن عبد الملك قال: يا كلام، ائتني بالحربة. فأتاه بالحربة فهزها، ثم طعنه بها فلم تجز، ثم ثنى فلم تجز، فضرب بيده إلى عضد عمرو، نوجد مس الدرع، فضحك، ثم قال: ودارع أيضا يا أبا أمية! إن كنت لمعدا! يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو فصرع، وجلس على صدره فذبحه وهو يقول: يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصني ** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني وانتفض عبد الملك رعدة -وكذلك الرجل زعموا يصيبه إذا قتل ذا قرابة له- فحمل عبد الملك عن صدره فوضع على سريره، فقال: ما رأيت مثل هذا قط، قتله صاحب دنيا ولا طالب آخرة. ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن كان معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس، فألقاه إلى الناس، وقام عبد العزيز بن مروان فأخذ المال في البدور، فجعل يلقيها إلى الناس، فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا الرأس انتهبوا الأموال وتفرقوا. وقد قيل: إن عبد الملك بن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو، فقتله وألقى رأسه إلى الناس وإلى أصحابه. قال هشام: قال عوانة: فحدثت أن عبد الملك أمر بتلك الأموال التي طرحت إلى الناس فجبيت حتى عادت كلها إلى بيت المال، ورمي يحيى بن سعيد يومئذ في رأسه بصخرة، وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد، وخرج يجلس عليه، وفقد الوليد بن عبد الملك فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم، فأتاه إبراهيم بن عربي الكناني فمال: هذا الوليد عندي، قد أصابته جراحة، وليس عليه بأس، فأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز، فقال: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين أتراك قاتلا بني أمية في يوم واحد، فأمر بيحيى فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد، فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها فأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعنبسة بن سعيد فأمر به أن يقتل، فقام إليه عبد العزيز بن مروان، فقال أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وهلاكها، فأمر بعنبسة فحبس، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب رأسه عبد الملك بقضيب خيزران كان معه، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي قال: نعم، لأن عمرا أكرمني وأهنتني، وأدناني وأقصيتني، وقربني وأبعدتني، وأحسن إلي وأسأت إلي، فكنت معه عليك. فأمر به عبد الملك أن يقتل، فقام عبد العزيز فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي فوهبه له. وأمر ببني سعيد فحبسوا، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر. ثم إن عبد الملك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم استشار الناس في قتله، فقام بعض خطباء الناس فقال: يا أمير الؤمنين، هل تلد الحية إلا حية، نرى والله أن تقتله فإنه منافق عدو. ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري، فقال: يا أمير المؤمنين، إن يحيى ابن عمك، وقرابته ما قد علمت، وقد صنعوا ما صنعوا، وصنعت بهم ما قد صنعت، ولست لهم بآمن، ولا أرى لك قتلهم، ولكن سيرهم إلى عدوك، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم بيد غيرك، وإن هم سلموا ورجعوا رأيت فيهم رأيك. فأخذ برأيه، وأخرج آل سعيد فالحقهم بمصعب بن الزبير، فلما قدمرا عليه دخل يحيى بن سعيد، فقال له ابن الزبير: انفلت وانحص الذنب، فقال: والله إن الذنب لبهلبه. ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته لعمرو، فقالت لرسوله: ارجع إليه فأعلمه أني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربه، وكان عمرو بن سعيد وعبد الملك يلتقيان في النسب إلى أمية، وكانت أم عمرو أم البنين ابنة الحكم ابن أبي العاص عمة عبد الملك. قال هشام: فحدثنا عوانة أن الذي كان بين عبد الملك وعمرو كان شرا قديما، وكان ابنا سعيد أمهما أم البنين، وكان عبد الملك ومعاوية ابني مروان، فكانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أم مروان بن الحكم الكنانية يتحدثون عندها، فكان ينطلق مع عبد الملك ومعاوية غلام لهم أسود، وكانت أم مروان إذا أتوها هيأت لهم طعاما، ثم تأتيهم به لتضع بين يدي كل رجل صحفة على حدة، وكانت لا تزال تؤرش بين معاوية بن مروان ومحمد بن سعيد، وبين عبد الملك وعمرو بن سعيد، فيقتتلون ويتصارمون الحين، لا يكلم بعضهم بعضا، وكانت تقول: إن لم يكن عد هذين عقل فعند هذين، فكان ذلك دأبها كلما أتوها حتى أثبتت الشحناء في صدورهم. وذكر أن عبد الله بن يزيد القسري أبا خالد كان مع يحيى بن سعيد حيث دخل المسجد فكسر باب المقصورة، فقاتل بني مروان، فلما قتل عمرو وأخرج رأسه إلى الناس ركب عبد الله وأخوه خالد فلحقوا بالعراق، فقام مع ولد سعيد وهم مع مصعب حتى اجتمعت الجماعة على عبد الملك، وقد كانت عين عبد الله بن يزيد فقئت يوم المرج، وكان مع ابن الزبير يقاتل بني أمية، وإنه دخل على عبد الملك بعد الجماعة، فقال: كيف أنتم آل يزيد؟ فقال عبد الله: حرباء حرباء، فقال عبد الملك: ذلك بما قدمت أيديكم، وما الله بظلام للعبيد. قال هشام عن عوانة: إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة: أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد، فلما نظر إليهم عبد الملك قال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإن الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا بل كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية. فأقطع بأمية بن عمرو -وكان أكبرهم- فلم يقدر أن يتكلم، وكان أنبلهم وأعقلهم، فقام سعيد بن عمرو وكان الأوسط فقال: يا أمير المؤمنين، ما تنعى علينا أمرا كان في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، فوعدنا جنة، وحذرنا نارا! وأما الذي كان بينك وبين عمرو فإن عمرا ابن عمك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى الله، وكفى بالله حسيبا، ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لك من ظهرها. فرق لهم عبد الملك رقة شديدة، وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم، وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم؛ فأحسن جائزئهم ووصلهم وقربهم. وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: عجب منك ومن عمرو بن سعيد، كيف أصبت غرته فقتلته، فقال عبد الملك: دانيته مني ليسكن روعه ** فأصول صولة حازم مستمكن غضبا ومحمية لديني إنه ** ليس المسيء سبيله كالمحسن قال عوانة: لقي رجل سعيد بن عمرو بن سعيد بمكة، فقال له: ورب هذه البنية، ما كان في القوم مثل أبيك، ولكنه نازع القوم ما في أيديهم فعطب. وكان الواقدي يقول: إنما كان في سنة تسع وستين بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد الحصار، وذلك أن عمرو بن سعيد تحصن بدمشق فرجع عبد الملك إليه من بطنان حبيب، فحاصره فيها، وأما قتله أباه فإنه كان في سنة سبعين. أخبار متفرقة وفي هذه السنة حَكَّم محكِّم من الخوارج بالخيف من منى فقتل عند الجمرة، ذكر محمد بن عمر أن يحيى بن سعيد بن دينار حدثه عن أبيه قال: رأيته عند الجمرة سل سيفه، وكانوا جماعة فأمسك الله بأيديهم، وبدر هو من بينهم، فحكم، فمال الناس عليه فقتلوه. وأقام الحج للناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. وكان عامله فيها على المصرين: الكوفة والبصرة أخوه مصعب بن الزبير. وكان على قضاء الكوفة شريح وعلى قضاء البصرة هاشم بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. ثم دخلت سنة سبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففي هذه السنة ثارت الروم، واستجاشوا على من بالشأم من ذلك من المسلمين، فصالح عبد الملك ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفا منه على المسلمين. وفيها شخص-فيما ذكر محمد بن عمر- مصعب بن الزبير إلى مكة فقدمها بأموال عظيمة، فقسمها في قومه وغيرهم، وقدم بدواب كثيرة وظهر وأثقال، فأرسل إلى عبد الله بن صفوان وجبير بن شيبة وعبد الله بن مطيع مالا كثيرا ونحر بدنا كثيرة. وحج بالناس في هذه السنة عيد الله بن الزبير. وكان عماله على الأمصار في هذه السنة عماله في السنة التي قبلها على المعاون والقضاء. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث خبر مسير عبد الملك بن مروان لحرب مصعب بن الزبير ثم قتله فمن ذلك مسير عبد الملك بن مروان فيها إلى العراق لحرب مصعب بن الزبير، وكان عبد الملك فبما قيل لا يزال يقرب من مصعب، حتى يبلغ بُطنان حَبيب، ويخرج مصعب إلى باجُمَيرا، ثم تهجم الشتاء فيرجع كل واحد منهما إلى موضعه، ثم يعودان، فقال عدي بن زيد بن عدي بن الرقاع العاملي: لعمري لقد أصحرت خيلنا ** بأكناف دجلة للمُصعَبِ إذا ما منافق أهل العرا ** ق عوتب ثُمّثَ لم يُعتب دلفنا إليه بذي تُدرَإٍ ** قليل التفقد للغُيّب يهزون كل طويل القنا ** ة ملتثم النصل والثعلب كأن وعاهم إذا ما غدوا ** ضجيج قطا بلد مخصب فقدمنا واضح وجهه ** كريم الضرائب والمنصب أُعينَ بنا ونصرنا به ** ومن ينصر الله لم يُغلب فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، قال: أقبل عبد الملك من الشام يريد مصعبا -وذلك قبل هذه السنة، في سنة سبعين- ومعه خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال خالد لعبد الملك: إن وجهتني إلى البصرة وأتبعتني خيلا يسيرة رجوت أن أغلب لك عليها. فوجهه عبد الملك، فقدمها مستخفيا في مواليه وخاصته، حتى نزل على عمرو بن أصمع الباهلي. قال عمر: قال أبو الحسن: قال مسلمة بن محارب: أجار عمرو بن أصمع خالدا، وأرسل إلى عباد بن الحصين وهو على شرطة ابن معمر -وكان مصعب إذا شخص عن البصرة استخلف عليها عبيد الله بن عبيد الله بن معمر - ورجا عمرو بن أصمع أن يبايعه عباد بن الحصين- بأني قد أجرت خالدا فأحببت أن تعلم ذلك لتكون لي ظهرا. فوافاه رسوله حين نزل عن فرسه، فقال له عباد: قل له: والله لا أضع لبد فرسي حتى آتيك في الخيل. فقال عمرو لخالد: إني لا أغرك، هذا عباد يأتينا الساعة. ولا والله ما أقدر على منعك، ولكن عليك بمالك بن مسمع. قال أبو زيد: قال أبو الحسن: ويقال إنه نزل على علي بن أصمع، فبلغ ذلك عبادا فأرسل إليه عباد: إني سائر إليك. حدثننى عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، عن مسلمة وعوانة أن خالدا خرج من عند ابن أصمع يركض، عليه قميص قوهي رقيق، قد حسره عن فخذيه، وأخرج رجليه من الركابين، حتى أتى مالكا، فقال: إني قد اضطررت إليك، فأجرني، قال: نعم، وخرج هو وابنه، وأرسل إلى بكر بن وائل والأزد، فكانت أول راية أتته راية بني يشكر. وأقبل عباد في الخيل، فتواقفوا، ولم يكن بينهم، فلما كان من الغد غدوا إلى حفرة نافع بن الحارث الني نسبت بعد إلى خالد، ومع خالد رجال من بني تميم قد أتوه، منهم صعصعة بن معاوية وعبد العزيز بن بشر ومرة بن محكان، في عدد منهم، وكان أصحاب خالد جفرية ينسبون إلى الجفرة، وأصحاب ابن معمر زبيرية، فكان من الجفرية عبيد الله بن أبي بكرة وحمران والمغيرة بن المهلب، ومن الزبيرية قيس بن الهيثم السلمي، وكان يستأجر الرجال يقاتلون معه، فتقاضاه رجل أجرة فقال: غدا أعطيكها، فقال غطفان بن أنيف، أحد بني كعب بن عمرو: لبئس ما حكمت يا جلاجل** النقد دبن والطعان عاجل وأنت بالباب سمير آجل وكان قيس يعلق في عنق فرسه جلاجل، وكان على خيل بني حنظلة عمرو بن وبرة القحيفي، وكان له عبيد يؤاجرهم بثلاثين ثلاثين كل يوم، فيعطيهم عشرة عشرة، فقيل له: لبئس ما حكمت يا ابن وبرة ** تعطي ثلاثين وتعطي عشرة ووجه المصعب زحر بن قيس الجعفي مددا لابن معمر في ألف، ووجه عبد الملك عبيد الله بن زياد بن ظبيان مددا لخالد، فكره أن يدخل البصرة، وأرسل مطر بن التوأم فرجع إليه فأخبره بتفرق الناس، فلحق بعبد الملك. قال أبو زيد: قال أبو الحسن: فحدثني شيخ من بني عرين عن السكن بن قتادة، قال: اقتتلوا أربعة وعشرين يوما، وأصيبت عين مالك، فضجر من الحرب، ومشت السفراء، بينهم يوسف بن عبد الله بن عثمان بن أبي العاص، فصالحه، على أن يخرج خالدا وهو آمن، فأخرج خالدا من البصرة، وخاف ألا يجيز المصعب أمان عببد الله، فلحق مالك بثأج، فقال الفرزدق يذكر مالكا ولحوق التميمية به وبخالد: عجبت لأقوام تميم أبوهم ** وهم في بني سعد عظام المبارك وكانوا أعز الناس قبل مسيرهم ** إلى الأزد مصفرا لحاها ومالك فما ظنكم بابن الحواري مصعب ** إذا أفتر عن أنيابه غير ضاحك ونحن نفينا مالكا عن بلاده ** ونحن فقأنا عينه بالنيازك قال أبو زيد: قال أبو الحسن: حدثني مسلمة أن المصعب لما انصرف عبد الله إلى دمشق لم يكن له همة إلا البصرة، وطمع أن يدرك بها خالدا، فوجده قد خرح، وأمن ابن معمر الناس، فأقام أكثرهم، وخاف بعضهم مصعبا فشخص، فغضب مصعب على ابن معمر، وحلف ألا يوليه، وأرسل إلى الجفرية فسبهم وأنبهم. قال أبو زيد: فزعم المدائني وغيره من رواة أهل البصرة أنه أرسل إليهم فأتي بهم، فأقبل على عبيد الله بن أبي بكرة، فقال: يا ابن مسروح، إنما أنت ابن كلبة تعاورها الكلاب. فجاءت بأحمر وأسود وأصفر من كل كلب بما يشبهه، إنما كان أبوك عبدا نزل إلى رسول الله ﷺ من حصن الطائف، ثم أقمتم البينة تدعون أن أبا سفيان زنى بأمكم، أما والله لئن بقيت لألحقنكم بنسبكم. ثم دعا بحمران فقال: يا ابن اليهودية، إنما أنت علج نبطي سبيت من عين التمر. ثم قال للحكم بن المنذر بن الجارود: يا ابن الخبيث، أتدري من أنت ومن الجارود، إنما كان الجارود علجا بجزيرة ابن كاوان فارسيا، فقطع إلى ساحل البحر، فانتمى إلى عبد القيس، ولا والله ما أعرف حيا أكثر اشتمالا على سوءة منهم. ثم أنكح أخته المكعبر الفارسي فلم يصب شرفا قط أعظم منه، فهؤلاء ولدها يا ابن قباذ. ثم أتي بعبد الله بن فضالة الزهراني فقال: ألست من أهل هجر، ثم من أهل سماهيج، أما والله لأردنك إلى نسبك. ثم أتي بعلي بن أصمع، فقال: أعبدٌ لبني تميم مرة وعزي من باهلة! ثم أتي بعبد العزيز بن بشر بن حناط فقال: يا ابن المشتورر، ألم يسرق عمك عنزا في عهد عمر، فأمر به فسير ليقطعه، أما والله ما أعنت ألا من ينكح أختك -وكانت أخته تحت مقاتل بن مسمع- ثم أتي بأبي حاضر الأسدي فقال: يا ابن الإصطخرية، ما أنت والأشراف! إنما أنت من أهل قطر دعيّ في بني أسد، ليس لك فيهم قريب ولا نسيب. ثم أتي بزياد بن عمرو فقال: يا ابن الكرماني، إنما أنت علج من أهل كرمان قطعت إلى فارس فصرت ملاحا، ما لك وللحرب! لأنت بجر القلس أحذق. ثم أتي بعبد الله بن عثمان بن أبي العاص فقال: أعلي تكثر وأنت علج من أهل هجر، لحق أبوك بالطائف وهم يضمون من تأشَّب إليهم يتعززون به، أما والله لأردنك إلى أصلك. ثم أتي بشيخ بن النعمان فقال: يا ابن الخبيث، إنما أنت علج من أهل زندورد، هربت أمك وقتل أبوك، فتزوج أخته رجل من بني يشكر. فجاءث بغلامين فألحقناك بنسبهما، ثم ضربهم مائة مائة. وحلق رؤوسهم ولحاهم، وهدم دورهم، وصهرهم في الشمس ثلاثا. وحملهم على طلاق نسائهم، وجمر أولادهم في البعوث، وطاف بهم في أقطار البصرة، وأحلفهم ألا ينكحوا الحرائر. وبعث مصعب خداش بن يزيد الأسدي في طلب من هرب من أصحاب خالد، فأدرك مرة بن محكان فأخذه، فقال مرة: بني أسد إن تقتلوني تحاربوا ** تميما إذا الحرب العوان اشمَعَلَّتِ بني أسد هل فيكم من هوادة ** فتعفون إن كانت بي النعل زلّتِ فلا تحسبِ الأعداء إذ غبت عنهم ** وأوريت معنا أن حربي كلّت تمشَّى خداش في الأسكة آمنا ** وقد نهلت مني الرماح وعلّت فقربه خداش فقتله -وكان خداش على شرطة مصعب يومئذ- وأمر مصعب سنان بن ذهل أحد بني عمرو بن مرثد بدار مالك بن مسمَع فهدمها، وأخذ مُصعب ما كان في دار مالك، فكان فيما أخذ جارية ولدت له عمر بن مصعب. قال: وأقام مصعب بالبصرة حتى شخص إلى الكوفة، ثم لم يزل بالكوفة حتى خرج لحرب عبد الملك، ونزل عبد الملك مسكَن، وكتب عبد الملك إلى المروانية من أهل العراق، فأجابه كلهم وشرطوا عليه ولاية أصبهان، فأنعم بها لهم كلهم، منهم حجار بن أبجر، والغضبان بن القبعثري، وعتاب بن ورقاء، وقَطَن بن عبد الله الحارثي، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار إليه مصعب وقد خذله أهل الكوفة. قال عروة بن المغيرة بن شعبة: فخرج يسير متكئا على معرفة دابته، ثم تصفح الناس يمينا وشمالا فوقعت عينه علي، فقال: يا عروة، إليّ، فدنوت منه، فقال: أخبرني عن الحسين بن علي، كيف صنع بإبائه النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب؟ فقال: إن الأُلى بالطَّف من آل هاشم ** تأسَّوا فسَنُّوا للكرام التأسيا قال: فعلمتُ أنه لا يريم حتى يقتل، وكان عبد الملك -فيما ذكر محمد بن عمر عن عبد الله بن عمد بن عبد الله بن أبي قرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن رجاء بن حيوة- قال: لما قتل عمرو بن سعيد وضع السيف فقتل من خالفه، فلما أجمع بالمسير إلى مصعب وقد صفت له الشأم وأهلها خطب الناس وأمرهم بالتهيؤ إلى مصعب، فاختلف عليه رؤساء أهل الشأم من غير خلاف لما يريده، ولكنهم أحبوا أن يقيم ويقدم الجبوش، فإن ظفروا فذاك، وإن لم يظفروا أمدهم بالجيوش خشية على الناس إن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أقمت مكانك وبعثت على هؤلاء الجيوش رجلا من أهل بيتك، ثم سرحته إلى مصعب! فقال عبد الملك: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني أجد في نفسي أني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجئت إلى ذلك، ومصعب في بيت شجاعة، أبوه أشجع قريش، وهو شجاع ولا علم له بالحرب، يحب الخفض، ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي، فسار عبد الملك حنى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا. وكتب عبد الملك إلى شيعته من أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال: ما فيه؟ فقال: ما قرأته، فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، وجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس منه مني. ولقد كتب إلي أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم. قال: إذا لا تناصحنا عشائرهم. قال: فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم. فقال: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن ذلك، يرحمم الله أبا بحر، إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه. حدثني عمر، قال: حدثنا محمد بن سلام، عن عبد القاهر بن السري، قال: همّ أهل العراق بالغدر بمصعب. فقال قيس بن الهيثم: ويحكم لا تدخلوا أهل الشام عليكم، فوالله لئن تطعموا بعيشكم ليصفين عليكم منازلكم، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة، ولقد رأيتنا في الصرائف وأحدنا على ألف بعير، وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه. قال: ولما تدانى العسكران بدير الجاثليق من مسكن، تقدم إبراهيم بن الأشتر فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، فوجه عبد الملك بن مروان عبد الله بن يزيد بن معاوية، فقرب من محمد بن مروان. والتقى القوم فقتل مسلم بن عمرو الباهلي، وقتل يحيى بن مبشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع، وقتل إبراهيم بن الأشتر، فهرب عتاب بن ورقاء -وكان على الخيل مع مصعب- فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثي: أبا عثمان، قدم خيلك، قال: ما أرى ذلك، قال: ولم؟ قال: أكره أن تقتل مذحج في غير شيء؟ فقال لحجار بن أيحر: أبا أسيد، قدم رايتك، قال: إلى هذه العذرة! قال: ما تتأخر إليه والله أنتن وألأم، فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك، فقال: ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله. فقال مصعب: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم. حدثني أبو زيد، قال حدثني محمد بن سلام، قال: أخبر ابن خازم بمسير مصعب إلى عبد الملك، فقال: أمعه عمر بن عبيد الله بن معمر؟ قيل: لا، استعمله على فارس، قال: أمعه المهلب بن أبي صفرة؟ قيل: لا؟ استعمله على الموصل، قال: أمعه عباد بن الحصان؟ قل: لا، استخلفه على البصرة، فقال: وأنسا بخر اسان! خذيني فجُرّيني جَعارِ وأبشِري ** بلحمِ امرئ لم يَشهَدِ اليومَ ناصرُهْ فقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب: يا بني، اركب أنت ومن معك إلى عمك بمكة فأخبره ما صنع أهل العراق، ودعني فإني مقتول. فقال ابنه: والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن إن أردت ذلك فالحق بالبصرة فهم على الجماعة، أو الحق بأمير المؤمنين. قال مصعب: والله لا تتحدث قريش أني فررت بما صنعت ربيعة من خذلانها حتى أدخل الحرم منهزما، ولكن أقاتل، فإن قتلت فلعمري ما السيف بعار، وما الفرار لي بعادة ولا خلق، ولكن إن أردت أن ترجع فارجع فقاتل، فرجع فقاتل حتى قتل. قال علي بن محمد عن يحيى بن سعيد بن أبي المهاجر، عن أبيه: إن عبد الملك أرسل إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب: إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا. وقال الهيثم بن عدي: حدثنا عبد الله بن عياش، عن أبيه، قال: إنا لوقوف مع عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعبا إذ دنا زياد بن عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، قلما أرادني مصعب بسوء إلا دفعه عني، فإن رأيت أن تؤمنه على جرمه! قال: هو آمن، فمضى زياد -وكان ضخما على ضخم- حتى صار بين الصفين، فصاح: أين أبو البختري إسماعيل بن طلحة؟ فخرج اليه، فقال: إني أريد أن أذكر لك شيئا، فدنا حتى اختلفت أعناق دوابهما -وكان الناس ينتطقون بالحواشي المحشوة- فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه -وكان نحيفا- فقال: أنشدك الله يا أبا المغيرة، إن هذا ليس بالوفاء لمصعب، فقال: هذا أحب إلي من أن أراك غدا مقتولا. ولما أبى مصعب قبول الأمان نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال له: يا ابن أخي، لا تقتل نفسك. لك الأمان. فقال له مصعب: قد آمنك عمك فامض إليه. قال: لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل، قال: فتقدم بين يدي أحتسبك، فقاتل بين يديه حتى قتل، وأثخن مصعب بالرمي، ونظر إليه زائدة بن قدامة فشد عليه فطعنه، وقال: يا لثارات المختار! فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتز رأسه، وقال: إنه قتل أخي النابئ بن زياد. فأتى به عبد الملك بن مروان فأثابه ألف دينار، فأبى أن ياخذها. وقال: إني لم أقتله على طاعتك، إنما قتلته على وتر صنعه بي، ولا آخذ في حمل رأس مالا، فتركه عند عبد الملك. وكان الوتر الذي ذكره عبيد الله بن زياد بن ظبيان أنه قتل عليه مصعبا أن مصعبا كان ولي في بعض ولايته شرطة مطرّف بن سيدان الباهلي ثم أحد بني جأوة. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني أبو الحسن المدائني ومخلد بن يحيى بن حاضر، أن مطرفا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بني نُمبر قد قطعا الطريق، فقتل النابئ، وضرب النميري بالسياط فتركه، فجمع له عبيد الله بن زياد بن ظبيان جمعا بعد أن عزله مصعب عن البصرة وولاه الأهواز، فخرج يريده، فالتقيا فتواقفا وبينهما نهر، فعبر مطرف إليه النهر، وعاجله ابن ظبيان فطعنه فقتله، فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب ابن ظبيان، فسار حتى بلغ عسكر مكرم، فنسب إليه، ولم يلق ابن ظبيان، ولحق ابن ظبيان بعبد الملك لما قتل أخوه، فقال البعيث اليشكري بعد قتل مصعب يذكر ذلك: ولما رأينا الأمر نكسا صدوره ** وهم الهوادي أن تكن تواليا صبرنا لأمر الله حتى يقيمه ** ولم نرض إلا من أمية واليا ونحن قتلنا مصعبا وابن مصعب ** أخا أسد والنخعي اليمانيا ومرت عقاب الموت منا بمسلم ** فأهوت له نابا فأصبح ثاويا سقينا ابن سيدان بكأس روية ** كفتنا وخير الأمر ما كان كافيا حدثني أبو يزيد، قال: حدثني علي بن عمد، قال: مر ابن ظبيان بابنة مطرّف بالبصرة، فقيل لها: هذا قاتل أبيك، فقالت: في سبيل الله أبي، فقال ابن ظبيان: فلا في سبيل الله لاقى حمامَهُ ** أبوكِ ولكن في سبيل الدراهم فلما قتل مصعب دعا عبد الملك بن مروان أهل العراق إلى البيعة، فبايعوه، وكان مصعب قتل على نهر يقال له الدجيل عند دير الجاثليق، فلما قتل أمر به عبد الملك وبابنه عيسى فدفنا. ذكر الواقدي عن عثمان بن محمد، عن أبي بكر بن عمر، عن عروة قال: قال عبد الملك حين قتل مصعب: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم. قال أبو زيد: وحدثني أبو نعيم، قال: حدثني عبد الله بن الزبير أبو أبي أحمد، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: إني لواقف إلى جنب مصعب بن الزبير فأخرجت له كتابا من قبائي، فقلت له: هذا كتاب عبد الملك، فقال: ما شئتَ، قال: ثم جاء رجل من أهل الشأم فدخل عسكره، فأخرج جارية فصاحت: واذُلّاه! فنظر إليها مصعب، ثم أعرض عنها. قال: وأتي عبد الملك برأس مصعب، فنظر إليه فقال: متى تغدو قريش مثلك، وكانا يتحدثان إلى حُبَّى، وهما بالمدينة، فقيل لها: قتل مصعب، فقالت: تعس قاتله! قيل: قتله عبد الملك بن مروان، قالت: بأبي القاتل والقتول. قال: وحج عبد الملك بعد ذلك، فدخلت عليه حبى، فقالت؟ أقتلت أخاك مصعبا؟ فقال: من يذق الحرب يجد طعمها ** مرا وتتركه بجعجاع وقال ابن قيس الرقيات: لقد أورثت المصرين خزيا وذلة ** قتيل بدير الجاثليق مقيم فما نصحت لله بكر بن وائل ** ولا صبرت عند اللقاء تميم ولو كان بكريا تعطف حوله ** كتائب يغلي حميمها ويدوم ولكنه ضاع الذمام ولم يكن ** بها مضري يوم ذاك كريم جزى الله كوفيا هناك ملامة ** وبصريهم إن المليم مليم وإن بني العلات أخلوا ظهورنا ** ونحن صريح بينهم وصميم فإن نفن لا يبقوا ولا يك بعدنا ** لذي حرمة في المسلمين حريم قال أبو جعفر: وقد قيل إن ما ذكرت من مقتل مصعب والحرب التي جرت بينه وبين عبد الملك كانت في سنة الثانية وستين، وإن أمر خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد ومصيره إلى البصرة من قبل عبد الملك كان في سنة إحدى وسبعين، وقتل مصعب في جمادى الأخرة. ذكر الخبر عن دخول عبد الملك بن مروان الكوفة وفي هذه السنة دخل عبد الملك بن مروان الكوفة وفرق أعمال العراق والمصرين الكوفة والبصرة على عماله في قول الواقدي، وأما أبو الحسن فإنه ذكر أن ذلك في سنة الثانية وسبعبن. وحدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: قتل مصعب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الأولى أو الأخرة سنة الثانية وسبعين. ولما أتى عبد الملك الكوفة -فيما ذكر- نزل النُّخَيلة ثم دعا الناس إلى البيعة، فجاءت قُضاعةُ، فرأى قلة، فقال: يا معشر قضاعة، كيف سلمتم من مُضَرَ مع قلتكم! فقال عبد الله بن يعلى النَّهدي: نحن أعز منهم وأمنع، قال: بمن؟ قال: بمن معك منا يا أمير المؤمنين. ثم جاءت مَذْحج وهَمْدان، فقال: ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا. ثم جاءت جُعْفِيٌّ، فلما نظر إليهم عبد الملك قال: يا معشر جعفي، اشتملتم على ابن أختكم، وواريتموه؟ -يعني يحيى بن سعيد بن العاص- قالوا: نعم. قال: فهاتوه، قالوا: وهو آمن؟ قال: وتشترطون أيضا! فقال رجل منهم: إنا والله ما نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحَّب عليه تسحب الولد على والده، فقال: أما والله لنعم الحي أنتم، إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والإسلام، هو آمن، فجاؤوا به وكان يكنى أبا أيوب فلما نظر إلى عبد الملك قال: أيا قبيح، بأي وجه تنظر إلى ربك وقد خلعتني! قال: بالوجه الذي خلقه، فبايع ثم ولى فنظر عبد الملك في قفاه فقال: لله دره، أي ابن زوملة هو! يعني غريبة. وقال علي بن محمد: حدثني القاسم بن معن وغيره أن مَعبَد بن خالد الجَدَلي قال: ثم تقدمنا إليه معشر عَدْوان، قال: فقدمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخرت -وكان معبد دميما- فقال عبد الملك: من؟ فقال الكاتب: عدوان، فقال عبد الملك: عذيرَ الحي من عَدْوا ** نَ كانوا حَيَّةَ الأرض بغى بعضهم بعضا ** فلم يَرْعَوا على بعض ومنهم كانت السادا ** ت والموفون بالقرض ثم أقبل على الجميل فقال: إيه، فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: ومنهم حكم يقضي ** فلا يُنقَض ما يقضي ومنهم من يجيز الحج ** بالسُّنة والفَرض وهم مذ ولِدوا شَبّوا ** بسِر النسب المحض قال: تركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال: من هو؟ قال: لا أدري، فقلت من خلفه: ذو الإصبع، قال: فأقبل على الجميل فقال: ولم سمي ذا الإصبع؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: لأن حية عضت إصبعه فقطعتها، فأقبل على الجميل فقال: ما كان اسمه؟ فقال: لا أدري، فقلت من خلفه: حرثان بن الحارث، فأقبل على الجميل، فقال: من أيكم كان؟ قال: لا أدري. فقلت من خلفه: من بني ناج، فقال: أبعد بني ناج وسعيك بينهم ** فلا تُتبِعنْ عينيك ما كان هالكَا إذا قلتُ معروفا لأصلح بينهم ** يقول وُهَيْبٌ لا أُصالح ذلكا فأضحى كظهر العير جُبّ سَنامُهُ ** تُطيفُ به الوِلدانُ أحدبَ باركا ثم أقبل على الجميل، فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، فقال لي: في كم أنت؟ قلت: في ثلاثمائة، فأقبل على الكاتبينِ، فقال: حطا من عطاه هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا، فرجعت وأنا في سبعمائة، وهو في ثلاثمائة. ثم جائت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث، فأوصى به بشرا أخاه، وقال: اجعله في صحابتك. وأقبل داود بن قحذم في مائتين من بكر بن وائل، عليهم الأقبية الداودية، وبه سميت، فجلس مع عبد الملك على سريره، فأقبل عليه عبد الملك، ثم نهض ونهضوا معه، فأتبعهم عبد الملك بصره، فقال: هؤلاء الفساق، والله لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة. ثم إنه ولى -فيما قيل- قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة أربعين يوما ثم عزله، وولى بشر بن مروان وصعد منبر الكوفة فخطب فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم. ثم قال: إني قد استعملت عليكم بشر بن مروان، وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، والشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا. واستعمل محمد بن عمير على همدان، ويزيد بن رؤيم على الري، وفرق العمال، ولم يف لأحد شرط عليه ولاية أصبهان، ثم قال: علي هؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام، وأفسدوا العراق، فقيل: قد أجارهم رؤساء عشائرهم، فقال: وهل يجير علي أحد. وكان عبد الله بن يزيد بن أسد لجأ إلى علي بن عبد الله بن عباس، ولجأ إليه أيضا يحيى بن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث وعمرو بن زيد الحكمي إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فآمنهم عبد الملك، فظهروا. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تنازع الرياسة بالبصرة عبيد الله بن أبي بكرة وحمران بن أبان. فحدثني عمر بن شبة قال: حدثني علي بن محمد قال: لما قتل المصعب وثب حمران بن أبان وعبد الله بن أبي بكرة فتنازعا في ولاية البصرة، فقال ابن أبي بكرة: أنا أعظم غناء منك، أنا كنت أنفق على أصحاب خالد يوم الجفرة. فقيل لحمران: إنك لا تقوى على ابن أبي بكرة، فاستعن بعبد الله بن الأهتم، فإنه إن أعانك لم يقو عليك ابن أبي بكرة. ففعل، وغلب حمران على البصرة وابن الأهتم على شرطها. وكان لحمران منزلة عند بني أمية، حدثني أبو زيد قال: حدثني أبو عاصم النبيل قال: أخبرني رجل: قدم شيخ أعرابي فرأى حمران فقال: من هذا؟ فقالوا: حمران، فقال: لقد رأيت هذا وقد مال رداؤه عن عاتقه فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه. قال أبو زيد: قال أبو عاصم: فحدثت بذلك رجلا من ولد عبد الله بن عامر، فقال: حدثني أبي أن حمران مد رجله فابتدر معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها. ذكر خبر ولاية خالد بن عبد الله على البصرة وفي هذه السنة بعث عبد الملك خالد بن عبد الله على البصرة واليا. حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: مكث حمران على البصرة يسيرا وخرج ابن أبي بكرة حتى قدم على عبد الملك الكوفة بعد مقتل مصعب، فولى عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد على البصرة وأعمالها، فوجه خالد عبيد الله بن أبي بكرة خليفته على البصرة، فلما قدم على حمران قال: أقد جئت، لا جئت! فكان ابن أبي بكرة على البصرة حتى قدم خالد. وفي هذه السنة رجع عبد الملك -فيما زعم الواقدي- إلى الشام. قال: وفيها نزع ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف عن المدينة، واستعمل عليها طلحة بن عبد الله بن عوف؟ قال: وهو آخر وال لابن الزبير على المدينة، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان، فهرب طلحة، وأقام طارق بالمدينة حتى كتب إليه عبد الملك. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير في قول الواقدي. خطبة عبد الله بن الزبير بعد مقتل مصعب وذكر أبو زيد عن أبي غسان محمد بن يحيى، قال: حدثني مصعب بن عثمان، قال: لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل مصعب قام في الناس فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. ألا إنه لم يُذْلِلِ اللهُ من كان الحق معه وإن كان فردا، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وحزبُه وإن كان معه الأنام طُرًّا. ألا وإنه قد أتانا من العراق خبرٌ حزننا وأفرحنا، أتانا قتل مُصعَب رحمة الله عليه، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي حزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمُهُ عند المصيبة، ثم يرعوي من بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر وكريم العزاء، ولئن أُصبتُ بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمانَ بخِلْوِ مصيبة، وما مصعب إلا عبدٌ من عبيد الله وعون من أعواني. ألا إن أهلَ العراق أهلُ الغَدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص، والله ما قتل منهم رجل في زَحف في الجاهلية ولا الاسلام، وما نموت إلا قَعصًا بالرماح، وموتا تحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيدُ مُلكُه، فإن تقبل لا آخذها أخذَ الأشِرِ البَطر، وإن تدبر لا أبكِ عليها بكاءَ الحَرِقِ المَهِين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وذكر أن عبد الملك لما قتل مصعبا ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصُنع. وأمر به إلى الخَوَرْنَق، وأذن إذنا عاما، فدخل الناس فأخذوا مجالسهم. فدخل عمرو بن حُرَيث المخزومي فقال: إلي وعلى سريري، فأجلسه معه. ثم قال: أي الطعام أكلت أحب إليك وأشهى عندك؟ قال: عَناق حمراء قد أجيد تمليحها، وأحكم نضجها، قال: ما صنعت شيئا، فأين أنت من عُمروس راضع قد أجيد سَمطه، وأحكم نُضجه، اختلجتَ إليك رجله. فأتبعتَها يده، غُذي بشَريجَين من لبن وسمن. ثم جاءت الموائد فأكلوا، فقال عبد الملك بن مروان: ما ألذ عيشها لو أن شيئا يدوم! ولكنّا كما قال الأول: وكل جديد يا أُمَيمَ إلى بُلًى ** وكل امرئ يوما يصير إلى كانْ فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث: لمن هذا البيت؟ ومن بنى هذا البيت؟ وعمرو يخبره، فقال عبد الملك: وكل جديد يا أميم إلى بلى ** وكل امرئ يوما يصير إلى كان ثم أتى مجلسه فاستلقى وقال: اعمل على مَهَلٍ فإنك مَيّتٌ ** واكدَح لنفسك أيها الإنسانْ فكأن ما قد كان لم يكُ إذ مضى ** وكأن ما هو كائنٌ قد كان وفي هذه السنة افتتح عبد الملك -في قول الواقدي- قَيْسارية. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة قال أبو جعفر: فمن ذلك ما كان من أمر الخوارج وأمر المهلب بن أبي صفرة وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد. ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن حصيرة بن عبد الله وأبا زهير العبسي حدثاه أن الأزارقة والمهلب بعدما اقتتلوا بسولاف ثمانية أشهر أشد القتال، أتاهم أن مصعب بن الزبير قد قُتل، فبلغ ذلك الخوارج قبل أن يبلغ المهلب وأصحابه، فناداهم الخوارج: ألا تخبرونا ما قولكم في مصعب؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: فهو وليكم في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم، قالوا: وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا؟ قالوا: ونحن أولياؤه أحياء وأمواتا؟. قالوا: فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟ قالوا: ذلك ابن اللعين، نحن إلى الله منه براء، هو عندنا أحل دما منكم، قالوا: فأنتم منه بُراء في الدنيا والآخرة؟ قالوا: نعم كبراءتنا منكم، قالوا: وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا؟ قالوا: نعم نحن له أعداء كعداوتنا لكم، قالوا: فإن إمامكم مصعبا قد قتله عبد الملك بن مروان، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، وأنتم الآن تتبرؤون منه، وتلعنون أباه، قالوا: كذبتم يا أعداء الله. فلما كان من الغد تبين لهم قتل مصعب، فبايع المهلب الناس لعبد الملك بن مروان، فأتتهم الخوارج فقالوا: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه، وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم عندهم، قالوا: فقد أخبرتمونا أمس أنه وليكم في الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟ قالوا: ذاك إمامنا وخليفتنا -ولم يجدوا إذ بايعوه بدا من أن يقولوا هذا القول- قالت لهم الأزارقة: يا أعداء الله، أنتم أمس تتبرؤون منه في الدنيا والاخرة، وتزعمون أنكم له أعداء أحياء وأموالا، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم، وقد قتل إمامكم الذي كنتم تولونه فأيهما المحق، وأيهما المهتدي، وأيهما الضال! قالوا لهم: يا أعداء الله، رضينا بذاك إذ كان ولي أمورنا، ونرضى بهذا كما رضينا بذاك، قالوا: لا والله ولكنكم إخوان الشياطين، وأولياء الظالمين، وعبيد الدنيا. وبعث عبد الملك بن مروان بشر بن مروان على الكوفة، وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسِيد على البصرة، فلما قدم خالد أثبت المهلب على خراج الأهواز ومعونتها، وبعث عامر بن مِسْمَع على سابور، ومقاتل بن مسمع على أرْدشِير خُرَّه، ومسمع بن مالك بن مسمع على فَساودرابْجِرد، والمغيرة بن المهلب على إصطخر. ثم إنه بعث إلى مقاتل فبعثه على جيش، وألحقه بناحية عبد العزيز، فخرج يطلب الأزارقة، فانحطوا عليه من قبل كرمان حتى أتوا دَرابْجِرد، فسار نحوهم. وبعث قَطَريٌّ مع صالح بن مخراق سبعمائة فارس، فأقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير بالناس ليلا، يجزون على غير تعبية، فهزم الناس، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل، وانهزم عبد العزيز بن عبد الله، وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود، فأقيمت فيمن يزيد، فبلغت مائة ألف -وكانت جميلة- فغار رجل من قومها كان من رؤوس الخوارج يقال له أبو الحديد الشَّنّي فقال: تنحوا هكذا، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم، فضرب عنقها. ثم زعموا أنه لحق بالبصرة، فرآه آل منذر فقالوا: والله ما ندري أنحمدك أم نذمك! فكان يقول: ما فعلته إلا غيرة وحمية. وجاء عبد العزيز حتى انتهى إلى رامهرمز، وأتى المهلب فأخبر به، فبعث إليه شيخا من أشياخ قومه كان أحد فرسانه، فقال: ائته فإن كان منهزما فعزه وأخبره أنه لم يفعل شيئا لم يفعله الناس قبله، وأحبره أن الجنود تأتيه عاجلا، ثم يعزه الله وينصره. فأتاه ذلك الرجل، فوجده نازلا في نحو من ثلائين رجلا كئيبا حزينا، فسلم عليه الأزدي وأخبره أنه رسول المهلب، وبلغه ما أمره به وعرض عليه أن يذكر له ما كانت له من حاجة. ثم انصرف إلى المهلب فأخبره الخبر، فقال له المهلب: الحق الآن بخالد بالبصرة فأخبره الخبر، فقال: أنا آتيه أخبره أن أخاه هزم! والله لا آتيه. فقال المهلب: لا والله لا يأتيه غيرك، أنت الذي عاينه ورأيته، وأنت كنت رسولي إليه، قال: هو إذا بهديك يا مهلب أن ذهب إليه العام، ثم خرج. قال المهلب: أما أنت والله فإنك لي آمن، أما والله لو أنك مع غيري، ثم أرسلك على رجليك خرجت تشتد! قال له وأقبل عليه: كانك إنما تمن علينا بحلمك! فنحن والله نكافئك بل نزيد، أما تعلم أنا نُعرّض أنفسنا للقتل دونك، ونحميك من عدوك! ولو كنا والله مع من يجهل عليها ويبعثنا في حاجاته على أرجلنا، ثم احتاج إلى قتالنا ونصرتنا جعلناه بينا وبين عدونا، ووقينا به أنفسنا. قال له المهلب: صدقت صدقت. ثم دعا فتى من الأزد كان معه فسرحه إلى خالد يخبره خبر أخيه، فأتاه الفتى الأزدي وحوله الناس، وعليه جبة خضراء ومطرف أخضر، فسلم عليه، فرد عليه، فقال: ما جاء بك؟ قال: أصلحك الله! أرسلني إليك المهلب لأخبرك خبر ما عاينته، قال: وما عاينت؟ قال: رأيت عبد العزيز برامهرمز مهزوما، قال: كذبت، قال: لا، والله ما كذبت، وما قلت لك إلا الحق، فإن كنت كاذبا فاضرب عنقي، وإن كنت صادقا فأعطني أصلحك الله جبتك ومطرفك. قال: ويحك ما أيسر ما سألت، ولقد رضيت مع الخطر العظيم إن كنت كاذبا بالخطر الصغير إن كنت صادقا. فحبسه وأمر بالإحسان إليه حتى تبينت له هزيمة القوم، فكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أني بعثت عبد العزيز بن عبد الله في طلب الخوارج. وأنهم لقوه بفارس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم عبد العزيز لما انهزم عنه الناس، وقتل مقاتل بن مسمع، وقدم الفَلّ إلى الأهواز. أحببت أن أعلم أمير المؤمنين ذلك ليأتيني رأيه وأمره أنزل عنده إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. فكتب إليه: أما بعد، فقد قدم رسولك في كتابك، تعلمني فيه بعثتك أخاك على قتال الحوإرج، وبهزيمة من هُزم، وقتل من قتل، وسألت رسولك عن مكان المهلب، فحدثني أنه عامل لك على الأهواز، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة، الحسن السياسة، البصير بالحرب، المقاسي لها، ابنها وابن أبنائها! انظر أن تنهض بالناس حتى تستقبلهم بالأهواز ومن وراء الأهواز. وقد بعثت إلى بِشر أن يُمدك بجيش من أهل الكوفة، فإذا أنت لقيت عدوك فلا تعمل فيهم برأي حتى تحضره المهلب، وتستشيره فيه إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله. فشق عليه أنه فَيَّل رأيه في بعثة أخيه وترك المهلب، وفي أنه لم يرض رأيه خالصا حتى قال: أحضره المهلب واستشره فيه. وكتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فإني قد كتبت إلى خالد بن عبد الله آمره بالنهوض إلى الخوارج، فسرِح إليه خمسة آلاف رجل، وابعث عليهم رجلا من قبلك ترضاه، فإذا قضوا غزاتهم تلك صرفتهم إلى الري فقاتلوا عدوهم، وكانوا في مسالحهم، وجبوا فيئهم حتى تأتي أيام عقبهم فتُعقبهم وتبعث آخرين مكانهم. فقطع على أهل الكوفة خمسة آلاف، وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وقال: إذا قضيت غزاتك هذه فانصرف إلى الري. وكتب له عليها عهدا. وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز، وجاء عبد الرحمن بن محمد ببعث أهل الكوفة حتى وافاهم بالأهواز، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من مدينة الأهواز ومن معسكر القوم. وقال المهلب لخالد بن عبد الله: إني أرى هاهنا سفنا كثيرة، فضمها إليك. فوالله ما أظن القوم إلا محرقيها. فما لبث إلا ساعة حتى ارتفعت خيل من خيلهم إليها فحرقتها. وبعث خالد بن عبد الله على ميمنته المهلب، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق، فقال: يا ابن أخىِ، ما يمنعك من الخندق! فقال: والله لهم أهون علي من ضرطة الجمل، قال: فلا يهونوا عليك يا ابن أخي، فإنهم سباع العرب، لا أبرح أو تضرب عليك خندقا، ففعل. وبلغ الخوارج قول عبد الرحمن بن محمد لهم "أهون علي من ضرطة الجمل"، فقال شاعرهم: يا طالب الحق لا تُستَهو بالأمل ** فإن من دون ما تهوى مدى الأجل واعمل لربك واسأله مثوبته ** فإن تقواه فاعلم أفضلُ العمل واغزُ المخانيث في الماذي مُعْلِمة ** كيما تصبح غَدوًا ضرطة الجمل فاقاموا نحوا من عشرين ليلة. ثم إن خالدا زحف إليهم بالناس، فرأوا أمرًا هالهم من عدد الناس وعدتهم، فأخذوا ينحازون، واجترأ عليهم الناس، فكرت عليهم الخيل وزحف إليهم، فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون لا يرون لهم طاقة بقتال جماعة الناس، وأتبعهم خالد بن عبد الله داود بن قحذم في جيش من أهل البصرة، وانصرف خالد إلى البصرة، وانصرف عبد الرحمن بن محمد إلى الري وأقام المهلب بالأهواز، فكتب خالد بن عبد الله إلى عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله أني خرجت إلى الأزارقة الذين مرقوا من الدين، وخرجوا من ولاية المسلمين، فالتقينا بمدينة الأهواز فتناهضنا فاقتتلنا كأشد قتال كان في الناس. ثم إن الله أنزل نصره على المؤمنين والمسلمين، وضرب الله وجوه أعدائه، فاتبعهم المسلمون يقتلونهم، ولا يَمنعون ولا يمتنعون، وأفاء الله ما في معسكرهم على المسلمين، ثم أتبعتهم داود بن قحذم، والله إن شاء مهلكهم ومستأصلهم، والسلام عليك. فلما قدم هذا الكتاب على عبد الملك كتب عبد الملك إلى بشر بن مروان: أما بعد، فابعث من قبلك رجلا شجاعا بصيرا بالحرب في أربعة آلاف فارس، فليسيروا إلى فارس في طلب المارقة، فإن خالدا كتب إلي يخبرني أنه قد بعث في طلبهم داود بن قَحْذَم، فمر صاحبك الذي تبعث ألا يخالف داود بن قحذم إذا ما التقيا، فإن اختلاف القوم بينهم عون لعدوهم عليهم. والسلام عليك. فبعث بشر بن مروان عَتّاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة، فخرجوا حتى التقوا هم وداود بن قذحم بأرض فارس ثم اتبعوا المقوم يطلبونهم حتى نفقت خيول عامهم، وأصابهم الجهد والجوع، ورجع عامة ذَيْنِك الجيشين مشاة إلى الأهواز، فقال ابن قيس الرقيات -من بني مخزوم- في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته: عبدَ العزيز فضحتَ جيشك كلهم ** وتركتهم صرعى بكل سبيلِ من بين ذي عطش يجود بنفسه ** ومُلَحَّب بين الرجال قتيل هلّا صبرت مع الشهيد مقاتلا ** إذ رُحت منتكث القُوَى بأصيل وتركت جيشك لا أمير عليهمُ ** فارجع بعار في الحياة طوبل ونسيت عِرسك إذ تُقاد سبيةً ** تُبكى العيونَ برنّة وعويل خروج أبي فديك الخارجي وغلبته على البحرين وفي هذه السنة كان خروج أبي فُدَيك الخارجي، وهو من بني قيس بن ثعلبة، فغلب على البحرين، وقتل نجدة بن عامر الحنفي، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك، فبعث أخاه أمية بن عبد الله على جند كثيف إلى أبي فديك، فهزمه أبو فديك، وأخذ جارية له فاتخذها لنفسه، وسار أمية على فرس له حتى دخل البصرة في ثلاثة أيام، فكتب خالد إلى عبد الملك بحاله وحال الأزارقة. خبر توجيه عبد الملك الحجاج لقتال ابن الزبير وفي هذه السنة وجه عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، وكان السبب في توجيه الحجاج إليه دون غيره -فيما ذكر- أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام، قام إليه الحجاج بن يوسف فقال: يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولني قتاله. فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، فسار حتى قدم مكة وقد كتب إليهم عبد الملك بالأمان إن دخلوا في طاعه. فحدثني الحارث، قال: حدثني عمد بن سعد، قال أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا مصعب بن ثابب، عن أبي الاسود، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، قال: بعث عبد الملك بن مروان حين قُتل مصعب بن الزبير الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير بمكة، فخرج في ألفين من جند أهل الشام في جمادى من سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، فكان يبعث البعوث إلى عرفة في الخيل، ويبعث ابن الزبير بعئا فيقتتلون هنالك، فكل ذلك تهزم خيل ابن الزبير وترجع خيل الحجاج بالظفر. ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في حصار ابن الزبير ودخول الحرم عليه ويخبره أن شوكته قد كلّت، وتفرق عنه عامة أصحابه، ويسأله أن يمده برجال، فجاءه كتاب عبد الملك، وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند بالحجاج، فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجاج، وكان قدوم الحجاج الطائف في شعبان سنة الثانية وسبعين. فلما دخل ذو القعدة رحل الحجاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون وحصر ابن الزبير. حج الحجاج بالناس في هذه السنة وابن الزبير محصور، وكان قدوم طارق مكة لهلال ذي الحجة، ولم يطف بالبيت ولم يصل إليه وهو محرم، وكان يلبس السلاح ولا يقرب النساء ولا الطيب إلى أن قتل عبد الله بن الزبير. ونحر ابن الزبير بدنا بمكة يوم النحر، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة. قال محمد بن عمر: حدثني سعيد بن مسلم بن بابك، عن أبيه، قال: حججت في سنة الثانية وسبعين فقدمنا مكة، فدخنلاها من أعلاها، فنجد أصحاب الحجاج وطارق فيما بين الحَجون إلى بئر ميمون، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حج بالناس الحجاج، فرأيته واقفا بالهضبات من عرفة على فرس، وعليه الدرع والمغفر، ثم صَدَر فرأيته عدل إلى بئر ميمون، ولم يطُف بالبيت وأصحابه متسلحون، ورأيت الطعام عندهم كثيرا، ورأيت العير تأتي من الشأم تحمل الطعام، الكعك والسَّويق والدقيق، فرأيت أصحابه مخاصيب، ولقد ابتعنا من بعضهم كعكا بدرهم، فكفانا إلى أن بلغنا الجُحفة وإنا لثلاثة نفر. قال محمد بن عمر: حدثني مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال -وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة الثانية وسبعين. أمر عبد الله بن خازم السلمي مع عبد الملك وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم السُّلمي يدعوه إلى بيعته ويُطعِمه خُراسان سبع سنين، فذكر علي بن محمد أن المفضَّل بن محمد ويحيى بن طُفيل وزهير بن هُنيد حدثوه -قال: وفي خبر بعضهم زيادة على خبز بعض- أن مُصعب بن الزبير قتل سنة الثانية وسبيعن وعبد الله بن خازم بأبْرشَهْر يقاتل بحير بن ورقاء الصُّريمي صُرَيم بن الحارث، فكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن خازم مع سورة بن أشيم النُّمَيري: إن لك خراسان سبع سنين على أن تبايع لي. فقال ابن خازم لسورة: لولا أن أضرب بين بني سُلَيم وبني عامر لقتلتك ولكن كلْ هذه الصحيفة، فأكلها. قال: وقال أبو بكر بن محمد بن واسع: بل قدم بعهد عبد الله بن خازم سوادةُ بن عبيد الله النميري. وقال بعضهم: بعث عبد الملك إلى ابن خازم سِنان بن مكمّل الغَنوي، وكتب إليه: إن خراسان طُعمة لك، فقال له ابن خازم: إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غَني، وقد علم أني لا أقتل رجلا من قيس، ولكن كُلْ كتابه. قال: وكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح أحد بني عوف بن سعد -وكان خليفة ابن خازم على مرو- بعهده على خراسان ووعده ومنّاه، فخلع بكير بن وشاح عبد الله بن الزبير، ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير بأهل مَرْو، فيجتمع عليه أهل مرو وأهل أبرشهر، فترك بحيرا، وأقبل إلى مرو يريد أن يأتي ابنه بالتِّرمِذ، فاتبعه بحير، فلحقه بقرية يقال لها بالفارسية: شاهميغد، بينها وبين مرو ثمانية فراسخ. قال: فقاتله ابن خازم، فقال مولى لبني ليث: كنت قريبا من معترك القوم في منزل، فلما طلعت الشمس تهايج العسكران، فجعلت أسمع وقع السيوف، فلما ارتفع النهار خفيت الأصرات، فقلت: هذا لارتفاع النهار، فلما صليت الظهر -أو قبل الظهر- خرجت، فتلقاني رجل من بني تميم، فقلت: ما الخبر؟ قال: قتلتُ عدو الله ابن خازم وها هو ذا، وإذا هو محمول على بغل، وقد شدوا في مذاكيره حبلا وحجرا وعدلوه به على البغل. قال: وكان الذي قتله وكيع بن عُميرة القُريعي وهو ابن الدَّوْرَقية، اعتَور عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجُشمي ووكيع، فطعنوه فصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله، فقال بعض الولاة لوكيع: كيف قتلت ابن خازم؟ قال: غلبته بفضل القَنا، فلنا صرع قعدت على صدره، فحاول القيام فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثارات دويلة ودويلة - أخ لوكيع لأمه، قُتل قبل ذلك في غير تلك الأيام. قال وكيع: فتنخم في وجهي وقال: لعنك الله تقتل كبش مضر بأخيك، علْج لا يساوي كفا من نوى -أو قال: من تراب- فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت. قال: فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث فقال: هذه والله البسالة. قال: وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بني غُدانة إلى عبد الملك بن مروان يخبره بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وشاح في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم، فارأد أخذ رأس ابن خازم، فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس وقيد بحيرا وحبسه، وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله، فلما قدم بالرأس على عبد الملك دعا الغُداني رسول بَحير وقال: ما هذا؟ قال: لا أدري، وما فارقت القوم حتى قتل، فقال رجل من بني سليم: أليلتنا بنيسابور رُدّي ** على الصبح ويحك أو أنيري كواكبها زواحف لاغِبات ** كأن سماءها بيدي مُديرِ تلوم على الحوادث أم زيد ** وهل لك في الحوادث من نكير! جهلن كرامتي وصددن عني ** إلى أجل من الدنيا قصير فلو شهد الفوارس من سُليمٍ ** غداة يطاف بالأسد العقير لنازل حوله قوم كرام ** فعز الوِترُ في طلب الوتور فقد بقيتْ كلاب نابحات ** وما في الأرض بعدك من زئير فولى الحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف. وكان العامل على المدينة طارق مولى عثمان من قبل عبد الملك، وعلى الكوفة بشر بن مروان، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود. وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة. وعلى خراسان في قول بعضهم عبد الله بن خازن السلمي، وفي قول بعض: بكير بن وشاح. وزعم من قال كان على خراسان في سنة الثانية وسبعين عبد الله بن خازم أن عبد الله بن خازم إنما قتل بعدما قتل عبد الله بن الزبير، وأن عبد الملك إنما كتب إلى عبد الله بن خازم يدعوه إلى الدخول في طاعته على أن يطعمه خراسان عشر سنين بعدما قتل عبد الله بن الزبير، وبعث برأسه إليه، وأن عبد الله بن خازم حلف لما ورد عليه رأس عبد الله بن الزبير ألا يعطيه طاعة أبدا، وأنه دعا بطست فغسل رأس ابن الزبير، وحنطه وكفنه، وصلى عليه، وبعث به إلى أهل عبد الله بن الزبير بالمدينة، وأطعم الرسول الكتاب، وقال: لولا أنك رسول لضربت عنقك. وقال بعضهم: قطع يديه ورجليه وضرب عنقه. فصل نذكر فيه الكتاب من بدء أمر الإسلام روى هشام وغيره أن أول من كتب من العرب حرب بن أمية بن عبد شمس بالعربية. وأن أول من كتب بالفارسية بيوراسب، وكان في زمان إدريس. وكان أول من صنف طبقات الكتاب وبين منازلهم لهراسب بن كاوغان بن كيموس. وحكي أن أبرويز قال لكاتبه: إنما الكلام أربعة أقسام: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء، فهذه دعائم المقالات إن التمس لها خامس لم يوجد، وإن نقص منها رابع لم تتم، فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحتم، وإذا أخبرت فحقق. وقال أبو موسى الأشعري: أول من قال أما بعد داود، وهي فصل الخطاب الذي ذكره الله عنه. وقال الهيثم بن عدي: أول من قال "أما بعد" قس بن ساعدة الإيادي. أسماء من كتب للنبي ﷺ علي بن أبي طالب عليه السلام وعثمان بن عفان، كانا يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه. وكان عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث والعلاء بن عقبة يكتبان بين القوم في حوائجهم، وكان عبد الله بن الأرقم ربما كتب إلى الملوك عن النبي ﷺ. أسماء من كان يكتب للخلفاء والولاة وكتب لأبي بكر عثمان وزيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن خلف الخزاعي وحنظلة بن الرببع. وكتب لعمر بن الخطاب زيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم وعبد الله بن خلف الخزاعي أبو طلحة الطلحات على ديوان البصرة. وكتب له على ديوان الكوفة أبو جبيرة بن الضحاك الأنصاري. وقال عمر بن الخطاب لكتابه وعماله: إن القوة على العمل ألا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تذاءبت عليكم الأعمال، فلا تدرون بأيها تبدؤون وأيها تأخذون. وهو أول من دون الدواوين في العرب في الإسلام. وكان يكتب لعثمان مروان بن الحكم، وكان عبد الملك يكتب له على ديوان المدينة، وأبو جبيرة الأنصاري على ديوان الكوفة، وكان أبو غطفان بن عوف بن سعد بن دينار من بني دهمان بن قيس عيلان يكتب له، وكان يكتب له أهيب مولاه، وحمران مولاه. وكان يكتب لعلي عليه السلام سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولي قضاء الكوفة لابن الزبير. وكان يكتب له عبد الله بن مسعود، وروي أن عبد الله بن جبير كتب له. وكان عبيد الله به أبي رافع يكتب له. واختلف في اسم أبي رافع، فقيل اسمه إبراهيم، وقيل أسلم، وقيل سنان، وقيل عبد الرحمن. وكان يكتب لمعاوية على الرسائل عبيد بن أوس الغساني. وكان يكتب له على ديوان الخراج سرجون بن منصور الرومي. وكتب له عبد الرحمن بن دراج، وهو مولى معاوية، وكتب على بعض دواوينه عبيد الله بن نصر بن الحجاج بن علاء السلمي. وكان يكتب لمعاوية بن يزيد الريان بن مسلم، ويكتب له على الديوان سرجون. ويروى أنه كتب له أبو الزعيزعة. وكتب لعبد الملك بن مروان قبيصة بن ذؤيب بن حلجلة الخزاعي، ويكنى أبا إسحاق. وكتب على ديوان الرسائل أبو الزعيزعة مولاه. وكان يكتب للوليد القعقاع بن خالد -أو خليد العبسي- وكتب له على ديوان الخراج سليمان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم شعيب العماني مولاه، وعلى ديوان الرسائل جناح مولاه، وعلى المستغلات نفيع بن ذؤيب مولاه. وكان يكتب لسليمان سليمان بن نعيم الحميري. وكان يكتب لمسلمة سجيع مولاه، وعلى ديوان الرسائل الليث بن أبي رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، وعلى ديوان الخراج سليمان بن سعد الخشني، وعلى ديوان الخاتم نعيم بن سلامة مولى لأهل اليمن من فلسطين، وقيل بل رجاء بن حيوة كان يتقلد الخاتم. وكان يكتب ليزيد بن المهلب المغيرة بن أبي فروة. وكان يكتب لعمر بن عبد العزيز الليث بن أبى رقية مولى أم الحكم بنت أبي سفيان، ورجاء بن حيوة. وكتب له إسماعيل بن أبى الحكم مولى الزبير، وعلى ديوان الخراج سليمان بن سعد الخشني، وقلد مكانه صالح بن جبير الغساني -وقيل: الغداني- وعدي بن الصباح بن المثنى، ذكر الهيثم بن عدي أنه كان من جلة كتابه. وكتب ليزيد بن عبد الملك قبل الخلافة رجل يقال له يزيد بن عبد الله، ثم استكتب أسامة بن زيد السليحي. وكتب لهشام سعيد بن الوليد بن عمرو بن جبلة الكلبي الأبرش، ويكنى أبا مخاشع، وكان نصر بن سيار يتقلد ديوان خراج خراسان لهشام. وكان من كتابه بالرصافة شعيب بن دينار. وكان يكتب للوليد بن يزيد بكير بن الشماخ، وعلى ديوان الرسائل سالم مولى سعيد بن عبد الملك، ومن كتابه عبد الله بن أبي عمرو، ويقال عبد الأعلى بن أبي عمرو، وكتب له على الحضرة عمرو بن عتبة. وكتب ليزيد بن الوليد الناقص عبد الله بن نعيم، وكان عمرو بن الحارث مولى بني جمح يتولى له ديوان الخاتم، وكان يتقلد له ديوان الرسائل ثابث بن سليمان بن سعد الخشني -ويقال الربيع بن عرعرة الخشني- وكان يتقلد له الخراج والديوان الذي للخاتم الصغير النضر بن عمرو من أهل اليمن. وكتب لإبراهيم بن الوليد ابن أبي جمعة، وكان يتقلد له الديوان بفلسطين، وبايع الناس إبراهيم -أعني ابن الوليد- سوى أهل حمص، فإنهم بايعوا مروان بن محمد الجعدي. وكتب لمروان عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب العامري ومصعب بن الربيع الخثعمي، وزياد بن أبي الورد. وعلى ديوان الرسائل عثمان بن قيس مولى خالد القسري. وكان من كتابه مخلد بن محمد بن الحارث -ويكنى أبا هاشم- ومن كتابه مصعب بن الربيع الخثعمي، ويكنى أبا موسى. وكان عبد الحميد بن يحيى من البلاغة في مكان مكين، ومما اختير له من الشعر: تَرحّلَ ما ليس بالقافل ** وأعقَبَ ما ليس بالزائلِ فلهفي على الخَلَف النازل ** ولهفي على السلف الراحل أُبكّي على ذا وأَبكِي لذا ** بكاء مولهة ثاكل تُبَكّي من ابن لها قاطع ** وتبكي على ابن لها واصل فليستْ تفتَّرُ عن عَبْرة ** لها في الضمير ومن هامل تقضَّت غَواياتُ سُكْرِ الصبى ** وردَّ التُّقى عَنَنَ الباطل وكتب لأبي العباس خالد بن بَرْمَك، ودفع أبو العباس ابنته رَيطة إلى خالد بن برمك حتى أرضعتها زوجته أم خالد بنت يزيد بلِبان بنت لخالد تدعى أم يحيى، وأرضعت أم سلمة زوجة أبي العباس أم يحيى بنت خالد بلبان ابنتها ريطة. وقلد ديوان الرسائل صالح بن الهيثم مولى ريطة بنت أبي العباس. وكتب لأبي جعفر المنصور عبد الملك بن حُميد مولى حاتم بن النعمان الباهلي من أهل خُراسان، وكتب له هاشم بن سعيد الجُعفي وعبد الأعلى بن أبي طلحة من بني تميم بواسط. وروي أن سليمان بن مخلد كان يكتب لأبي جعفر، ومما كان يتمثل به أبو جعفر المنصور: وما إنْ شَفى نفسا كأمر صريمة ** إذا حاجة في النفس طال اعتراضتُها وكتب له الربيع. وكان عُمارة بن حمزة من نبلاء الرجال، وله: لا تَشْكون دهرا صَحَحتَ به ** إن الغنى في صحة الجسم هبك الإمام أكنت منتفعا ** بغضارة الدنيا مع السقم وكان يتمثل بقول عبد بني الحَسحاس: أمِنْ أمية دمع العين مذروف ** لو أن ذا منك في اليوم معروفُ لا تُبكِ عينَك إن الدهر ذو غِيَرٍ ** فيه تفرَّق ذو إلف ومألوفُ وكتب للمهدي أبو عببد الله وأبان بن صدقة على ديوان رسائله، ومحمد بن حُميد الكاتب على ديوان جنده ويعقوب بن داود، وكان اتخذه على وزارئه وأمره، وله: عجبا لتصريف الأمو ** ر محبةً وكراهيه والدهر يلعب بالرجا ** لِ له دوائرُ جاريه ولابنه عبد الله بن يعقوب - وكان له محمد ويعقوب، كلاهما شاعر مجيد: وزع المشيب شراستي وغرامي ** ومَرَى الجفون بمُسبَل سَجّام ولقد حرصتُ بأن أواري شخصه ** عن مقلتي فرُمتُ غير مرام وصبغت ما صبغ الزمان فلم يدم ** صِبغي ودامت صِبغة الأيام لا تَبعدنَّ شيبة ذيالة ** فارقتُها في سالف الأعوام ما كان ما استصحبت من أيامها ** إلا كبعض طوارق الأحلام ولأبيه: طلق الدنيا ثلاثا ** واتخذ زوجا سواها إنها زوجة سوء ** لا تبالي من أتاها واستوزر بعده الفيض بن أبي صالح، وكان جوادا. وكتب للهادي موسى عُبيد الله بن زياد بن أبي ليلى ومحمد بن حُميد. وسأل المهدي يوما أبا عبيد الله عن أشعار العرب، فصنفها له، فقال: أحكمها قول طَرفة بن العبد: أرى قبر نحام بخيل بماله ** كقبر غَوي في البطالة مُفسدِ ترى جثوتين من تراب عليهما ** صفائح صُمٌّ من صفيح مصمَّد أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة ** وما تنقص الأيام والدهر يَنفَدِ لعمرُك إن الموت ما أخطأ الفتى ** لكالطول المُرخى وثِنياه باليد وقوله: وقد أرانا كلانا هَمّ صاحبه ** لو أن شيئا إذا ما فاتنا رَجعا وكان شيء إلى شيء ففرّقَه ** دهر يكرُّ على تفريق ما جمَعا وقول لبيد: ألا تسألانِ المرءَ ماذا يحاولُ ** أنَحبٌ فيُقضى أم ضلالٌ وباطلُ ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطلُ ** وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ أرى الناس لا يدرون ما قدرُ أمرِهمْ ** بلى كل ذي رأيٍ إلى الله واسِلُ وكقول النابغة الجعدي: وفد طال عهدي بالشباب وأهله ** ولاقيتُ رَوعات تٌشيبٌ النواصيا فلم أجِدِ الإخوان إلا صحابةً ** ولم أجِدِ الأهلين إلا مثاويا ألم تعلمي أن قد رُزِئتُ مُحاربا ** فما لك من اليوم شيءٌ ولا ليا وكقول هُدبة بن خَشرَم: ولستُ بمفراح إذا الدهر سرّني ** ولا جازع من صرفه المتقلبِ ولا أبتغي الشر والشرُّ تاركي ** ولكن متى أحمل على الشر أركبِ وما يعرفُ الأقوامُ للدهر حقَّه ** وما الدهر مما يكرهون بمُعتِبِ وللدهر في أهل الفتى وتِلادِه ** نصيب كحزِّ الجازِر المتشعِّب وكقول زيادة بن زيد، وتمثل به عبد الملك بن مروان: تذكَّر عن شحط أميمة فارعَوى ** لها بعد إكثار وطول نحيبِ وإنَّ امرأً قد جرب الدهرلم يخَفْ ** تقلب عَصرَيه لغيرُ لبيب هل الدهر والأيام إلا كما ترى ** رزيئة مال أو فراق حبيب وكل الذي يأتي فأنت نسيبُهُ ** ولست لشيء ذاهب بنسيب وليس بعيد ما يجيءكمقبل ** ولا ما مضى من مُفرح بقريب وكقول ابن مُقبل: لما رأت بَدل الشباب بكت له ** والشيب أرذلُ هذه الأبدالِ والناس همهم الحياة ولا أرى ** طول الحياة يزيدُ غير خَبال وإذا افتقرت إلى الذخائرَ لم تجد ** ذخرا يكون كصالح الأعمال ووزر له يحيى بن خالد. ووزر للرشيد ابنه جعفر بن يحيى بن خالد، فمن مليح كلامه: "الخط سمة الحكمة، به تفصَّل شُذورها، وينظم منثورها". قال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ فقال: أن يكرن الاسم محيطا بمعناك، مخبرا عن مغزاك، مخرجا من الشركة، غير مستعان عليه بالفكرة. قال الأصمعي: سمعت يحيى بن خالد يقول: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعدنا عبرة. ونأتي بتسمية باقي كتّاب خلفاء بني العباس إذا انتهينا إلى الدولة العباسية إن شاء الله تعالى. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ذكر الكائن الذي كان فيها من الأمور الجليلة خبر مقتل عبد الله بن الزبير فمن ذلك مقتل عبد الله بن الزبير. ذكر الخبر عن صفة ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر. قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن عبيد الله بن القبطية، قال: كانت الحرب بين ابن الزبير والحجاج ببطن مكة ستة أشهر وسبع عشرة ليلة. قال محمد بن عمر: وحدثني مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد -وكان عالما بفتنة ابن الزبير- قال: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة الثانية وسبعين وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين، وكان حصر الحجاج لابن الزبير ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة. حدثنا الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إسحاق بن يحيى، عن يوسف بن ماهك. قال: رأيت المنجنيق يرمى به، فرعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد والبرق على الحجارة، فاشتمل عليها، فأعظم ذلك أهل الشام، فأمسكوا بأيديهم، فرفع الحجاج بركة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع حجر المنجنيق فوضعه فيه، ثم قال: ارموا، ورمى معهم. قال: ثم أصبحوا، فجاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، فانكسر أهل الشام، فقال الحجاج: يا أهل الشام، لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة، هذه صواعق تهامة، هدا الفتح قد حضر فأبشروا، إن القوم يصيبهم مثل ما أصابكم، فصعقت من الغد. فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدة، فقال الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون، وأنتم على الطاعة وهم على خلاف الطاعة. فلم تزل الحرب ببن ابن الزبير والحجاج حتى كان قبيل مقتله وقد تفرق عنه أصحابه، وخرج عامة أهل مكة إلى الحجاج في الأمان. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله، عن المنذر بن جهم الأسدي، قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد تفرق عنه أصحابه وخذله من معه خذلانا شديدا. وجعلوا يخرجون إلى الحجاج حتى خرج إليه نحو من عشرة آلاف. وذكر أنه كان ممن فارقه وخرج إلى الحجاج ابناه حمزة وخُبيب، فأخذا منه لأنفسهما أمانا، فدخل على أمه أسماء، كما ذكر محمد بن عمر عن أبي الزناد، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، قال: دخل ابن الزبير على أمه حين رأى من الناس ما رأى من خذلانهم، فقال: يا أمه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطوني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له. فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت! أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك. وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا! القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه. ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي. فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة، ولم يجُر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته. ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي. اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني. فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيرا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقلت: لا أدعه أبدا، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق. ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي. اللهم قد سلمت لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين. قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا شهرا، ويقال: خمسة أيام. قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن يعقوب بن عبد الله عن عمه قال: دخل ابن الزبير على أمه وعليه الدرع والغفر فوقف فسلم، ثم دنا فتناول يدها فقبلها. فقالت: هذا وداع فلا تبعد، قال ابن الزبير: جئت مودعا إني لأرى هذا آخر يوم من الدنيا يمر بي، واعلمي يا أمه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي، قالت: صدقت يا بني، أتمم على بصيرتك، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك، وادن مني أودعك، فدنا منها فقبلها وعانقها، وقالت حيث مست الدرع: ما هذا صنيع من يريد ما تريد! قال: ما لبست هذا الدرع إلا لأشُد منك، قالت العجوز: فإنه لا يشد مني، فنزعها ثم أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمرة، ثم انصرف ابن الزبير وهو يقول: إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكرْ فسمعت العجوز قوله، فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب. حدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: أخبرني محمد بن عمر، قال: أخبرنا ثور بن يزيد، عن شيخ من أهل حمص شهد وقعة ابن الزبير مع أهل الشام، قال: رأيته يوم الثلاثاء وإنا لنطلع عليه أهل حمص خمسمائة خمسمائة من باب لنا ندخله، لا يدخله غيرنا، فيخرج إلينا وحده في أثرنا، ونحن منهزمرن منه، فما أنسى أرجوزة له: إني إذا أعرف يومي أصبِرْ ** وإنما يعرف يومَيهِ الحرّْ إذا بعضُهم يَعرِف ثم يُنكِرْ فأقول: أنت والله الحر الشريف، فلقد رأيته يقف في الأبطح ما يدنو منه أحد حتى ظننا أنه لا يقتل. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن نافع مولى بني أسد، قال: رأيت الأبواب قد شحنت من أهل الشام يوم الثلاثاء، وأسلم أصحاب ابن الزبير المحارس، وكثرهم القوم فأقاموا على كل باب رجالا وقائدا وأهل بلد، فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وكان الحجاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة، فمرة يحمل ابن الزبير في هذه الناحية، ومرة في هذه الناحية. فلكأنه أسد في أجمة ما يقدم عليه الرجال. فيعدو في أثر القوم وهم على الباب حتى يخرجهم وهو يرتجز: إني إذا أعرف يومي أصبر ** وأنما يعرف يومَيْه الحر ثم يصيح: يا أبا صفوان، ويل أمه فتحا لو كان له رجال! لو كان قِرني واحدا كفيتهْ قال ابن صفوان: إي والله وألف. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: فحدثني ابن أبي الزناد وأبو بكر بن عبد الله بن مصعب، عن أبي المنذر. وحدثنا نافع مولى بني أسد، قالا: لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب، بات ابن الزبير يصلي عامة الليل، ثم احتبى بحمائل سيفه فأغفى، ثم انتبه بالفجر فقال: أذن يا سعد، فأذن عند المقام، وتوضأ ابن الزبير، وركع ركعتي الفجر، ثم تقدم، وأقام المؤذن، فصلى بأصحابه، فقرأ (ن والقلم) حرفا حرفا، ثم سلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اكشفوا وجوهكم حتى أنظر، وعليهم المغافر والعمائم، فكشفوا وجوههم فقال: يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطُلِمنا في الله لم تصبنا زبّاءُ بتّة. أما بعد يا آل الزبير، فلا يرُعكم وقع السيوف، فإني لم أحضر موطئا قط إلا ارتثثت فيه من القتل، وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهر كالمرأة أعزل، غضوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كل امرئ قِرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن أين عبد الله بن الزبير، ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول: أبى لابن سلمى أنه غيرُ خالد ** ملاقي المنايا أيَّ صَرْفٍ تيمَّما فلستُ بمُبتاع الحياة بسُبّةٍ ** ولا مُرتَقٍ من خشية الموت سُلَّما احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحَجون، فرمي بآجرة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودُمي وجهه، فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه ولحيته قال: فلسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما وتغاوَوا عليه. قالا: وصاحت مولاة لنا مجنونة: وا أمير المؤمنيناه! قالا: وقد رأته حيث هوى، فأشارت لهم إليه، فقتل وإن عليه ثياب خَزّ. وجاء الخبر إلى الحجاج، فسجد وسار حتى وقف عليه وطارق بن عمرو، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكرَ من هذا، فقال الحجاج: تمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين! قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا ما كان لنا عذر، إنا محاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا في كل ما التقينا نحن وهو. فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا. حدثنا عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن رجاله، قال: كأني أنظر إلى ابن الزبير وقد قتل غلاما أسود ضربه فعرقبه، وهو يمر في حملته عليه ويقول: صبرا يا ابن حام، ففي مثل هذه المواطن تصبر الكرام. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الجبار بن عمارة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: بعث الحجاج برأس ابن الزبير ورأس عبد الله بن صفوان ورأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى المدينة فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان، ثم دخل الحجاج مكة فبايع من بها من قريش لعبد الملك بن مروان. أخبار متفرقة قال أبو جعفر: وفى هذه السنة ولى عبد الملك طارقا مولى عثمان المدينة فوليها خمسة أشهر. وفي هذه السنة توفي بشر بن مروان في قول الواقدي، وأما غيره فإنه قال كانت وفاته في سنة أربع وسبعين. وفيها أيضا وجّه -فيما ذكر- عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر لقتال أبي فديك، وأمره أن يندب معه من أحب من أهل المصرين، فقدم الكوفة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، ثم قدم البصرة فندب أهلها، فانتدب معه عشرة آلاف، فأخرج لهم أرزاقهم وأعطياتهم، فأعطوها. ثم سار بهم عمر بن عبيد الله، فجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمد بن موسى بن طلحة، وجعل أهل البصرة على الميسرة وعليهم ابن أخيه عمر بن موسى بن عبيد الله، وجعل خيله في القلب، حتى انتهوا إلى البحرين، فصف عمر بن عبيد الله أصحابه. وقدم الرجالة في أيديهم الرماح قد ألزموها الأرض، واستتروا بالبراذع. فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحد، فكشفوا ميسرة عمر بن عبيد الله حتى ذهبوا في الأرض إلا المغيرة بن المهلب ومعن بن الغيرة ومجاعة بن عبد الرحمن وفرسان الناس فنهم مالوا إلى صف أهل الكوفة وهم ثابتون، وارتث عمر بن موسى بن عبيد الله، فهو في القتلى قد أثخن جراحة. فلما رأى أهل البصرة أهل الكوفة لم ينهزموا تذمموا ورجعوا وقاتلوا وما عليهم أمير حتى مروا بعمر بن موسى بن عبيد الله جريحا فحملوه حتى أدخلوه عسكر الخوارج وفيه تبن كثير فأحرقره. ومالت عليهم الريح، وحمل أهل الكوفة وأهل البصرة حتى استباحوا عسكرهم وقتلوا أبا فديك وحصروهم في المشقر، فنزلوا على الحكم، فقتل عمر بن عبيد الله منهم فيما ذكر نحوا من ستة آلاف، وأسر ثمانمائة، وأصابوا جارية أمية بن عبد الله حبلى من أبي فديك وانصرفوا إلى البصرة. وفي هذه السنة عزل عبد الملك خالد بن عبد الله عن البصرة وولاها أخاه بشر بن مروان، فصارت ولايتها وولاية الكوفة إليه. فشخص بشر لما ولي مع الكوفة البصرة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث. وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة. فهزم الروم. وقيل: إنه كان في هذه السنة وقعة عثمان بن الوليد بالروم في ناحية أرمينية، وهو في أربعة آلاف والروم في ستين ألفا. فهزمهم وكثر القتل فيهم. وأقام الحج في هذه السنة للناس الحجاج بن يوسف وهو على مكة واليمن واليمامة. وعلى الكوفة والبصرة -في قول الواقدي- بشر بن مروان، وفي قول غيره على الكوفة بشر بن مروان، وعلى البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسعد وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث. وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. وعلى خراسان بكير بن وشاح. ثم دخلت سنة أربع وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة قال أبو جعفر: فمما كان فيها من ذلك عزل عبد الملك طارق بن عمرو عن المدينة، واستعماله عليها الحجاح بن يوسف. فقدمها فيما ذكر فأقام بها شهرا ثم خرج معتمرا. وفيها كان فيما ذكر نقض الحجاج بن يوسف بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير بناه، وكان إذ بناه أدخل في الكعبة الحجر، وجعل لها بابين، فأعادها الحجاج على بنائها الأول في هذه السنة، ثم انصرف إلى المدينة في صفر، فأقام بها ثلاثة أشهر يتعبث بأهل المدينة ويتعنتهم، وبنى بها مسجدا في بني سلمة، فهو ينسب إليه. واستخف فيها بأصحاب رسول الله ﷺ، فختم في أعناقهم، فذكر محمد بن عمران بن أبي ذئب حدثه عمن رأى جابر بن عبد الله مختوما في يده. وعن ابن أبي ذئب، عن إسحاق بن يزيد، أنه رأى أنس بن مالك مختوما في عنقه، يريد أن يذله بذلك. قال ابن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: رأيت الحجاج أرسل إلى سهل بن سعد فدعاه، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان؟ قال: قد فعلت. قال: كذبت. ثم أمر به فختم في عنقه برصاص. وفيها استقضى عبد الملك أبا إدريس الخولاني فيما ذكر الواقدي. وفي هذه السنة شخص في قول بعضهم بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ذكر الخبر عن حرب المهلب الأزارقة وفي هذه السنة وُلِّيَ المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك. ذكر الخبر عن أمره وأمرهم فيها ولما صار بشر بالبصرة كتب عبد الملك إليه فيما ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه: أما بعد: فابعث المهلب في أهل مصره إلى الأزارقة، ولينتخب من أهل مصره وجوههم وفرسانهم وأولي الفضل والتجربة منهم، فإنه أعرف بهم وخله ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين. وأبعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا شريفا حسيبا صليبا، يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين فليتبعوهم أي وجه ما توجهوا حتى يبيدهم الله ويستأصلهم. والسلام عليك. فدعا بشر المهلب فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء، فبعث بجديع بن سعيد بن قببصة بن سراق الأزدي -وهو خال يزيد ابنه- فأمره أن يأتي الديوان فينتخب الناس، وشق على بشر أن إمرة المهلب جاءت من قبل عبد الملك، فلا يستطيع أن يبعث غيره، فأوغرت صدره عليه حتى كأنه كان له إليه ذنب. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولي الفضل منهم والنجدة. قال أبو مخنف: فحدثني أشياخ الحي عن عبد الرحمن بن مخنف قال: دعاني بشر بن مروان فقال لي: إنك قد عرفت منزلتك مني وأثرتك عندي، وقد رأيت أن أوليك هذا الجيش للذي عرفت من جزئك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظني بك. انظر هذا الكذا كذا -يقع في المهلب- فاستبد عليه بالأمر، ولا تقبلن له مشورة ولا رأيا، وتنقصه وقصر به. قال: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدو والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغريني بابن عمتي كأني من السفهاء أو ممن يستصبى ويستجهل، ما رأيت شيخا في مثل هيئتي ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني، شب عمرو عن الطوق. قال: ولما رأى أني لست بالنشيط إلى جوابه قال لي: ما لك؟ قلت: أصلحك الله! وهل يسعني إلا إنفاذ أمرك في كل ما أحببت وكرهت! قال: امض راشدا. قال: فودعته وخرجت من عنده. وخرج المهلب بأهل البصرة حتى نزل رامَ مَهُرْمُز فلقي بها الخوارج، فخندق عليهم، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة على ربع أهل المدينة معه بشر بن جرير، وعلى ربع تميم وهمدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وعلى ربع كندة وربيعة إسحاق بن محمد بن الأشعث، وعلى ربع مَذحج وأسد زَحْر بن قيس. فأقبل عبد الرحمن حتى نزل من المهلب على ميل أو ميل ونصف. حيث تراءى العسكران برام مهرمز، فلم يلبث الناس إلا عشرا حتى أتاهم نعي بشر بن مروان، وتوفي بالبصرة، فارفضَّ ناس كثير من أهل البصرة وأهل الكوفة، واستخلف بشر خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان الذين انصرفوا من أهل الكوفة زحر بن قيس وإسحاق بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، فبعث عبد الرحمن بن مخنف ابنه جعفرا في آثارهم، فرد إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين ثم أخذ عليهما ألا يفارقاه، فلم يلبثا إلا يوما حتى انصرفا، فأخذا غير الطريق، وطُلبا فلم يلحقا، وأقبلا حتى لحقا زحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله فكتب إلى الناس كتابا وبعث رسولا يضرب وجوه الناس ويردهم، فقدم بكتابه مولى له، فقرأ الكتاب على الناس، وقد جمعوا له: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن عبد الله، إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإن الله كنب على عباده الجهاد، وفرض طاعة ولاة الامر، فمن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، ومن ترك الجهاد في الله كان الله عنه أغنى، ومن عصى ولاة الأمر والقوّام بالحق أسخط الله عليه، وكان قد استحق العقوبة في بشره، وعرض نفسه لاستفاءة ماله وإلقاء عطائه، والتسيير إلى أبعد الأرض وشر البلدان. أيها المسلمون، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم، إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، الذي ليست فيه غميزة، ولا لأهل المعصية عنده رخصة، سوطه على من عصى، وعلى من خالف سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحة. عباد الله، ارجعوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين فيأتيكم ما تكرهرن. أقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلا قتلته إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله. وأخذ كلما قرا عليهم سطرا أو سطرين قال له زحر: أوجز، فيقول له مولى خالد: والله إني لأسمع كلام رجل ما يريد أن يفهم ما يسمع. أشهد لا يعيج بشيء مما في هذا الكتاب. فقال له: اقرأ أيها العبد الأحمر ما أمرت به، ثم ارجع إلى أهلك، فإنك لا تدري ما في أنفسنا. فلما فرغ من قراءته لم يلتفت الناس إلى ما في كتابه، وأقبل زحر واسحاق بن محمد ومحمد بن عبد الرحمن حتى نزلوا قرية لآل الأشعث إلى جانب الكرفة، وكتبوا إلى عمرو بن حريث: أما بعد، فإن الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمة الله عليه تفرقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير وإلى مصرنا، وأحببنا ألا ندخل الكوفة إلا بإذن الأمير وعلمه. فكتب إليهم: أما بعد. فإنكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فلن يكون لكم عندنا إذن ولا أمان. فلما أتاهم ذلك انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجاج بن يوسف. عزل بكير بن وشاح عن خراسان وولاية أمية بن عبد الله عليها وفي هذه السنة عزل عبد الملك بُكَير بن وِشاح عن خراسان وولاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. ذكر الخبر عن سبب عزل بكير وولاية أمية وكانت ولاية بكير بن وشاح خراسان إلى حين قدم أمية عليها واليا سنتين في قول أبي الحسن، وذلك أن ابن خازم قتل سنة ثلاث وسبعين وقدم أمية سنة أربع وسبعين. وكان سبب عزل بكير عن خراسان أن بحيرا -فيما ذكر علي عن المفضل- حبسه بكير بن وشاح لما كان منه فيما ذكرت في رأس ابن خازم حين قتله، فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال: ظن بكير أن خراسان تبقى له في الجماعة! فمشت السفراء بينهم، فأبى بحير، فدخل عليه ضرار بن حصين الضبي. فقال: ألا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمك يعتذر إليك وأنت أسيره، والمشرفي في يده -ولو قتلك ما حبقت فيك عنز- ولا تقبل منه! ما أنت بموفق. اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك. فقبل مشورته. وصالح بكيرا، فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألا يقاتله. وكانت تميم قد اختلفت بخراسان، فصارت مقاعس والبطون يتعصبون له، فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوهم من المشركين، فكتبوا إلى عبد الملك بن مروان: إن خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلا على رجل من قريش لا يحسدونه ولا يتعصبون عليه، فقال عبد الملك: خراسان ثغر المشرق، وقد كان به من الشر ما كان، وعليه هذا التميمي، وقد تعصب الناس وخافوا أن يصيروا إلى ما كانوا عليه، فهلك الثغر ومن فيه. وقد سألوا أن أولي أمرهم رجلا من قريش فيسمعوا له وطيعوا، فقال أمية بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، تداركهم برجل منك، قال: لولا انحيازك عن أبي فديك كنت ذلك الرجل. قال: يا أمير المؤمنين، والله ما انحزت حتى لم أجد مقاتلا، وخذلني الناس، فرأيت من انحيازي إلى فئة أفضل من تعريضي عصبة بقيت من المسلمين للهلكة، وقد علم ذلك مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكتب إليك خالد بن عبد الله بما بلغه من عذري -قال: وكان خالد كتب إليه بعذره، ويخبره أن الناس قد خذلوه- فقال مرار: صدق أمية يا أمير المؤمنين، لقد صبر حتى لم يجد مقاتلا، وخذله الناس. فولاه خراسان، وكان عبد الملك يحب أمية، ويقول نتيجتي أي لِدتي، فقال الناس: ما رأينا أحدا عوض من هزيمة ما عوض أمية، فر من أبي فديك فاستعمل على خراسان. فقال رجل من بكر بن وائل في محبس بُكير بن وشاح: أتتك العيس تنفخ في بُراها ** تشف عن مناكبها القُطوعُ كأن مواقع الأكوار منها ** حمام كنائسٍ بُقعٌ وُقوع بأبيضَ من أمية مضرحي ** كأن جبينه سيفٌ صنيع وبحير يومئذ بالسنج يسأل عن مسير أمية، فلما بلغه أنه قد قارب أبرشهر قال لرجل من عجم أهل مرو يقال له رُزَين -أو زرير-: دلني على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه، ولك كذا وكذا، وأجزل لك العطية، وكان عالما بالطريق، فخرج به فسار من السنج إلى أرض سَرَخْسَ في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور فوافى أمية حين قدم أبرشهر، فلقيه فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها وتحسن به طاعتهم ويخف على الوالي مئونتهم، ورفع عن بكير أموالا أصابها، وحذره غدره. قال: وسار معه حتى قدم مرو، وكان أمية سيدا كريما، فلم يعرض لبكير ولا لعماله، وعرض عليه أن يوليه شرطته، فأبى بكير، فولاها بحير بن ورقاء، فلام بكيرا رجال من قومه، فقالوا: أبيت أن تلي فولى بحيرا وقد عرفت ما بينكما! قال: كنت أمس والي خراسان تُحمل الحراب بين يدي، فأصير اليوم على الشرطة أحمل الحربة! وقال أمية لبكير: اختر ما شئت من عمل خراسان، قال: طُخارستان، قال: هي لك. قال: فتجهز بكير وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأمية: إن أتى بكير طخارستان خلعك، فلم يزل يحذره حتى حذر، فأمره بالمقام عنده. أخبار متفرقة وحج بالناس في هذه السنة الحجاج بن يوسف. وكان ولي قضاء المدينة عبد الله بن قيس بن مَخرَمة قبل شخوصه إلى المدينة كذلك، ذُكر ذلك عن محمد بن عمر. وكان على المدينة ومكة الحجاج بن يوسف، وعلى الكوفة والبصرة بشر بن مروان، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسعد، وعلى قضاء الكوفة شُريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هُبَيرة، وقد ذكر أن عبد الملك بن مروان اعتمر في هذه السنة، ولا نعلم صحة ذلك. ثم دخلت سنة خمس وسبعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة محمد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مَرْعش. وفي هذه السنة ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة. وفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خُراسان وسِجِسْتان. ولاية الحجاج على الكوفة وخطبته في أهلها وفيها قدم الحجاج الكوفة. فحدثني أبو زيد، قال: حدثني محمد بن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءةً، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خَزّ حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خارجةً، فهمّوا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه وقال: أنا ابن جَلَا وطَلّاع الثنايا ** متى أضَعِ العِمامة تَعرفوني أما والله إني لأحمل الشر محمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمئله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قِطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللِّحى. قد شمَّرتْ عن ساقها تشميرا هذا أوان الشَّد فاشتدّي زِيَمْ ** قد لّفَّها الليلُ بسَوّاقٍ حُطَمْ ليس براعي إبل ولا غنم ** ولا بجزارٍ على ظهر وَضَم قد لفها الليل بعصلَبي ** أروَعَ خَرّاجٍ من الدوّيِّ مُهاجرٍ ليس بأعرابيِّ ليس أوان يكره الخِلاطُ ** جاءت به والقُلُص الأعلاطُ تَهوي هُويَّ سابقِ الغَطاطِ وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقَعقَعُ لي بالشِّنان، ولقد فُرِرتُ عن ذكاء، وجَرَيت إلى الغاية القصوى. إن أمير المؤمنين عبد الملك نثر كنانته ثم عَجَم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعم في الفتن، وسننتم سنن الغي. أما والله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت. فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك! والله لتستقيمن على سبل الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده. من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله. ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك. قال: ويقال: إنه لما طال سكوته تناول محمد بن عُمير حصى فأراد أن يحصبه بها، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمّه! والله إني لأحسب خبره كرُوائه. فلا تكلم الحجاج جعل الحص ينتثر من يده ولا يعقل به، وأن الحجاج قال في خطبته: شاهت الوجوه! إن الله ضرب { مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون }، وأنتم أولئك وأشباه أولئك، فاستوثقوا واستقيموا. فوالله لأذيقنكم الهوان حتى تَدِرّوا، ولأعصبَّنكم عَصْب السَّلَمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتَدَعُنّ الإرجاف، وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبْر وما الهبر! أو لأهْبُرنكم بالسيف هبْرا يدَع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا السُّمَّهى، وتقلعوا عن ها وها. إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده. ألا إنه لو ساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزو طوعا، وقد بلغني رفضكم المهلب وإقبالكم على مصركم عصاة مخالفين، وإني أقسم لكم بالله لا أجد أحدا بعد ثالثة إلا ضربت عنقه. ثم دعا العُرَفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وائتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضي هذه المدة. تفسير الخطبة: قوله: " أنا ابن جلا " فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة. والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ. أوينع الثمر: بلغ إدراكه. وقوله: " فاشتد زيم " فهى اسم للحرب. والحطم: الذي يحطم كل شئ يمر به. والوضم: ما وقى به اللحم من الأرض. والعصلبي: الشديد. والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل. والأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها. أنشد أبو زيد الأصمعي: واعرورت العلط العرضي تركضه ** أم الفوارس بالديداء والربعة والشنان، جمع شنة: القرية البالية اليابسة، قال الشاعر: كأنك من جمال بني أقيش ** يقعقع خلف رجليه بشن وقوله: " فعجم عيدانها " أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى: وملفوظها كلقيط العجم وقوله: " أمرها عودًا " أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل. وقوله: " لأعصبنكم عصب السلمة " فالعصب القطع، والسلمة؛ شجرة من العضاه. وقوله: " لا أخلق إلا فريت " فالخلق: التقدير، قال الله تعالى: " من مضغة مخلقة وغير مخلقة " أي مقدرة وغير مقدرة. يعني ما يتم وما يكون سقطًا، قال الكميت يصف قربة: لم تجثم الخالقات فريتها ** ولم يفض من نطاقها السرب وإنما وصف حواصل الطير، يقول: لبست كهذه. وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر: وبهو هواء فوق مور كأنه ** من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته. والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي: وذاب للشمس لعاب فنزل ** وقام ميزان الزمان فاعتدل والزرقات: الجماعات. تم التفسير. قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني محمد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرًا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال: يا أهل العراق، وأهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، إني سمعت تكبيرًا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامي، ألا يرجع رجل منكم على ظلعه. ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكونون نكالًا لما قبلها، وأدبًا لما بعدها. قوله: " تحتها قصف "، فهو شدة الريح. واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء. والظلع: الضعف والوهن من شدة السير. وقوله: " تهوي هوي سابق الغطاط "، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير. قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وأنشد لحسان ابن ثابت: يغشون حتى ما تهر كلابهم ** لايسألون عن الغطاط المقبل بقتح الغين. قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز: قام إلى أدماء في الغطاط ** يمشي بمثل قائم الفسطاط تم التفسير. قال: فقام إليه عمير بن ضابىء التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابني، وهو أشب مني؛ قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابىء التميمي، قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى؛ قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخًا كبيرًا، قال: أوليس يقول: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه؛ فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله. ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان؛ فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلًا! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر مناديًا فنادى: ألا إن عمير بن ضابىء أتى بعد ثالثة؛ وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب. فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برا مهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو. قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذجح؛ فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر. قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليه كتاب عبد الملك قال القارىء: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله. فقال له: اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: " أما بعد سلام عليكم "، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله. قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمى، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابىء البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني - وكذب عليه. فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابىء، فأتي به شيخًا كبيرًا، فقال له: ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلًا فهو أجلد مني جلدًا، وأحدث مني سنًا، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقًا وإلا فعاقبني. قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلًا؛ فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه. قال عمرو بن سعيد: فوالله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزًا مضريًا، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين، أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابىء فضرب عنقه. ولما قتل الحجاج عمير بن ضابىء لقى إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر. فقال ابن الزبير: أقول لإبراهيم لما لقيته ** أرى الأمر أمسى منصبًا متشعبًا تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى ** سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا تخير فإما أن تزور ابن ضابىء ** عميرًا وإما أن تزور المهلبا هما خطتا كره نجاؤك منهما ** ركوبك حوليًا من الثلج أشهبا فحال ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي أقربا فكائن ترى من مكره العدو ممسن ** تحمم حنو السرج حتى تحنبا وكان قدوم الحجاج الكوفة - فيما قيل - في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أبي الشقفي على البصرة أميرًا، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالدًا الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف. وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة. وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف. وعلى خراسان أمية بن عبد الله. وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة ابن أوفى. وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ. ذكر الخبر عن ثورة الناس بالحجاج بالبصرة وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به: ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: خرج الحجاج بن يوسف من الكوفة بعد ما قدمها، وقتل ابن ضابىء في فوره ذلك حتى قدم البصرة. فقام فيها بخطبة مثل الذي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إياهم، فأتى برجل من بني يشكر فقيل: هذا عاص، فقال: إن بي فتقًا. وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكئوا على العارض بقنطرة رامهرمز، فقال المهلب: جاء الناس رجل ذكر. وخرج الحجاج حتى نزل رستقباذ في أول شعبان سنة خمس وسبعين فثار الناس بالحجاج، عليهم عبد الله بن الجارود، فقتل عبد الله بن الجارود، وبعث بثمانية عشر رأسًا فنصبت برامهرمز للناس، فاشتدت ظهور المسلمين، وساء ذلك الخوارج، وقد كانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف، فانصرف الحجاج إلى البصرة. وكان سبب أمر عبد الله بن الجارود أن الحجاج لما ندب الناس إلى اللحاق بالمهلب بالبصرة فشخصوا سار الحجاج حتى نزل رستقباذ قريبًا من دستوى في آخر شعبان ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخًا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها. فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا. فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج وتابعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه وبرءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، وانصرف إلى البصرة، وكتب إلى المهلب وإلى عبد الرحمن ابن مخنف: أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج؛ والسلام. نفي المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز في هذه السنة نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمرهم في هذه السنة ذكر هشام عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: ناهض المهلب وابن مخنف الأزارقة برامهروز بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان يوم الاثنين سنة خمس وسبعين، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرض منها يقال لها كازرون، وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أن المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل؛ وإن أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا. وإن الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلًا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فتل، وقتلوا حوله، فقال شاعرهم: لمن العسكر المكلل بالصر ** عى فهم بين ميت وقتيل فتراهم تسفى الرياح عليهم ** حاصب الرمل بعد جر الذيول وأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أن كتاب الحجاج بن يوسف أى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف؛ أن ناهضًا الخوارج حين يأتيكما كتابي. فناهضاهم يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان سنة خمس وسبعين واقتتلوا قتالًا شديدًا لم يكن بينهم فيما مضى قتال كان أشد منه، وذلك بعد الظهر، فمالت الخوارج على المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى عسكره، فسرح إلى عبد الرحمن رجالًا من صلحاء الناس، فأتوه، فقالوا: إن المهلب يقول لك: إنما عدونا واحد، وقد ترى ما قد لقى المسلمون، فأمد إخوانك يرحمك الله. فأخذ يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجئ من عسكر عبد الرحمن من الخيل والرجال إلى عسكر المهلب ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا خمس كتائب أو ستا تجاه عسكر المهلب، وانصرفوا بحدهم وجمعهم إلى عبد الرحمن بن مخنف، فلما رآهم قد صمدوا له نزل ونزل معه القراء، عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر ابن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من خاصة قومه أحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلتهم قتالا شديدًا. ثم إن الناس انكشفوا عنه، فبقى في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى إذا دنا من أبيه حالت الخوارج بينه وبين أبيه، فقاتل حتى ارتشته الخوارج، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلط العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب حتى أتاه، فدفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب بذلك الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فنعى عبد الرحمن بمنىً، وذم أهل الكوفة، وبعث الحجاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف عتاب بن ورقاء، وأمره إذا ضمتهما الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك، فلم يجد بدًا من طاعة الحجاج ولم يقدر على مراجعته، فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يقضي أموره، ولا يكاد يستشير المهلب في شئ. فلما رأى ذلك المهلب اصطنع رجالًا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيره، فأغراهم بعتاب. قال أبو مخنف عن يوسف بن يزيد: إن عتابا أتى المهلب بسأله أن يرزق أصحابه، فأجلسه المهلب معه على مجلسه، قال: فسأله أن يرزق أصحابه سؤالًا فيه غلظة وتحبهم، قال: فقال له المهلب: وإنك لها هنا بابن اللخناء! فبنو تميم يزعمون أنه رد عليه، وأما يوسف بن يزيد وغيره فيزعمون أنه قال: والله إنها لمعمة مخولة، ولوددت أن الله فرق بيني وبينك، قال: فجرى بينهما الكلام حتى ذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب عليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب، وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكرهه فاحتمله له. فإنه لذلك منك أهل، ففعل، وقام عتاب فرجع من عنده، واستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه، ويقع فيه فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء أهل المصر، ويسأله أن يضمه إليه، فوافق ذلك من الحجاج حاجة إليه فيما لقى أشراف الكوفة من شبيب، فبعث إليه أن اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب، فبعث المهلب عليه حبيب بن المهلب. وقال حميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن بن مخنف: إن يقتلوك أبا حكيم غدوة ** فلقد تشد وتقتل الأبطالا أو يثكلونا سيدا لمسود ** سمح الخليقة ماجدًا مفضالا فلمثل قتلك هد قومك كلهم ** من كان يحمل عنهم الأثقالا من كان يكشف غرمهم وقتالهم ** يومًا إذا كان القتال نزالا! أقسمت ما نيلت مقاتل نفسه ** حتى تدرع من دم سربالا وتناجز الأبطال تحت لوائه ** بالمشرفية في الأكف نصالًا يومًا طويلًا ثم آخر ليلهم ** حين استبانوا في السماء هلالا وتكشفت عنه الصفوف وخيله ** فهناك نالته الرماح فمالا وقال سراقة بن مرداس البارقي: أعيني جودا بالدموع السواكب ** وكونا كواهي شنة مع راكب على الأزد لما أن أصيب سراتهم ** فنوحا لعيش بعد ذلك خائب نرحي الخلود بعدهم وتعوقنا ** عوائق موت أو قراع الكتائب وكنا بخير قبل قتل ابن مخنف ** وكل امرئ يومًا لبعض المذاهب أمار دموع الشيب من أهل مصره ** وعجل في الشبان شيب الذوائب وقاتل حتى مات أكرم ميتة ** وخر على خد كريم وحاجب وضارب عنه المارقين عصابة ** من الأزد تمشي بالسيوف القواضب فلا ولدت أنثى ولا آب غائب ** إلى أهله إن كان ليس بآيب فيا عين بكى مخنفًا وابن مخنف ** وفرسان قومي قصرةً وأقاربي وقال سراقة أيضًا يرثي عبد الرحمن بن مخنف: ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة ** وأزد عمان رهن رمس بكازر وضارب حتى مات أكرم ميتة ** بأبيض صاف كالعقيقة باتر وصرع حول التل تحت لوائه ** كرام المساعي من كرام المعاشر قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنف ** وأدبر عنه كل ألوث داثر أمد فلم يمدد فراح مشمرًا ** إلى الله لم يذهب بأثواب غادر وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحوًا من سنة. وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وكان يرى رأى الصفرية، وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية. ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج وما كان منه في هذه السنة ذكر أن صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس حج سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم. وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب بالفتك به، وبلغه ذرء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ليعدهم، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها. ثم دخلت سنة ست وسبعين ذكر الكائن من الأحداث فيها فمن ذلك خروج صالح بن مسرح. ذكر الخبر عن خروج صالح بن مسرح وعن سبب خروجه وكان سبب خروجه - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي - أن صالح بن مسرح التميمي كان رجلا ناسكًا مخبتًا مصفر الوجه، صاحب عبادة، وأنه كان بدارا وأرض الموصل والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن وفقههم وقص عليهم، فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن يرى رأيهم، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل. وكان قصصه: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ". اللهم إنا لا نعدل بك. ولا نحفد إلا إليك، ولا نعبد إلا إياك، لك الخلق والأمر، ومنك النفع والضر، وإليك المصير. ونشهد أن محمدًا عبدك الذي اصطفيته، ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك، ونصيحة عبادك، ونشهد أنه قد بلغ الرسالة، ونصح للأمة، ودعا إلى الحق، وقام بالقسط، ونصر الدين. وجاهد المشركين، حتى توفاه الله ﷺ. أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر الموت، وفراق الفاسقين، وحب المؤمنين، فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله، وتفرغ بدنه لطاعة الله، وإن كثرة ذكر الموت يخيف العبد من ربه حتى يجأر إليه، ويستكين له، وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال الله في كتابه: " ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون " وإن حب المؤمنين للسبب الذي تنال به كرامة الله ورحمته وجنته، جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين. ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، حتى قبضه الله، صلوات الله عليه، ثم ولى الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين، فاقتدى بهديه، واستن بسنته، حتى لحق بالله - رحمه الله - واستخلف عمر، فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله، وأحيا سنة رسول الله، ولم يحنق في الحق على جرته، ولم يخف في الله لومة لائم، حتى لحق به رحمة الله عليه، وولى المسلمين من بعده عثمان، فاستأثر بالفئ، وعطل الحدود، وجار في الحكم، واستذل المؤمن، وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه، فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين؛ وولى أمر الناس من بعده علي بن أبي طالب، فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، وركن وأدهن، فنحن من علي وأشياعه براء، فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة، وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم، وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم. ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة آمنين، وتعانقوا الحور العين، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة، قال: بينا أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم: ما أدري ما تنتظرون! حتى متى أنتم مقيمون! هذا الجوار قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا، وتباعدًا عن الحق، وجرأة على الرب؛ فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون. قال: فتراسل أصحاب صالح، وتلاقوا في ذلك، فبيناهم في ذلك إذ قدم عليهم المحلل بن وائل اليشكري بكتاب من شبيب إلى صالح بن مسرح: أما بعد، فقد علمت أنك كنت أردت الشخوص، وقد كنت دعوعتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين، ولن نعدل بك منا أحدًا، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني؛ فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تختر مني المنية ولما أجاهد الظالمين، فياله غبنًا، وياله فضلا متروكًا! جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه، والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام، والسلام عليك، قال: فلما قدم على صالح المحلل بن وائل بذلك الكتاب من شبيب كتب إليه صالح: أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطآ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأً من المسلمين نبأني بنبإ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا. وقد قدم على رسولك بكتابك، فكل ما فيه فهمته، ونحن في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا إنتظارك، فأقبل إلينا، ثم اخرج بنا متى ما أحببت، فإنك ممن لا يستغني عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور. والسلام عليك، فلما قدم على شبيب كتابه بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه؛ منهم أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم، والمحلل بن وائل اليشكري، والصقر ابن حاتم من بني تيم بن شيبان، وإبراهيم بن حجر أبو الصقير بن بني محلم، والفضل بن عامر من بني ذهل بن شيبان، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح بدارًا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله! فو الله ما تزداد السنة إلا دروسًا، ولا يزداد المجرمون إلا طغيانًا، فبث صالح رسله في أصحابه، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين، فاجتمع بعضهم إلى بعض، وتهيئوا، وتيسروا للخروج في تلك الليلة، واجتمعوا جميعًا عنده في تلك الليلة لميعاده. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: والله إني لمع شبيب بالمدائن إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس لما رأيت من المنكر والعدوان والفساد في الأرض، فقمت إليه فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أتقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك؛ أما أن فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا فريبًا كان أو بعيدًا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغين باغين قد تركوا أمر الله، واستحوذ عليهم الشيطان. فقال: لا بل ندعوهم، فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك وليقاتلنك من يزري عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم. قال: فقلت له: فكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا ولنا. وقال: فأحسن القول وأصاب، رحمة الله عليه وعلينا. قال أبو مخنف: فحدثني رجل من بني محلم أن صالح بن مسرح لأصحابه ليلة خرج: اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس غلا أن يكونوا قومًا يريدونكم، وينصبون لكم، فإنكم إنما خرجتم غضبًا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حفها، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها، فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤلون، وإن عظمكم رجالة، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أراجلكم، وتقووا بها على عدوكم فخرجوا فأخذوا تلك الليلة الدواب فحملوا رجالتهم عليها، وصارت رجالتها فرسانًا، وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين - وقيل في مائة وعشرة - قال: وبلغ مخرجهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدى بن عدى بن عميرة من بني الحارث بن معاوية بن ثور في خمسمائة، فقال له: أصلح الله الأمير! أتبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة! قد خرج معه رجال من ربيعة قد سموا لي، كانوا يعازوننا، الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة رجل، قال له: فإني أزيدك خمسمائة أخرى، فسر إليهم في ألف، فسار من حران في ألف رجل، فكان أول جيش سار إلى صالح وسار إليه عدي، وكأنما يساق إلى الموت، وكان عدي رجلا يتنسك، فأقبل حتى إذا نزل دوغان نزل بالناس وسرح إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه من بني خالد من بني الورثة؛ يقال له: زياد بن عبد الله، فقال: إن عديا بعشي إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأتي بلدًا آخر فتقاتل أهله؛ فإن عديا للقائك كاره، فقال له صالح: ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك من هذا البلد إلى غيره، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمة السوء رأينا رأينا، فإن شئنا بدأنا بك، وإن شئنا رحلنا إلى غيرك، فانصرف إليه الرسول فأبلغه ما أرسل به، فقال له: ارجع إليه فقل له: إني والله ما أنا على رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك، فقاتل غيري، فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى يأتي عدي بن عدي بن عميرة في سوق دوغان وهو قائم يصلي الضحى، فلم يشعر إلا والخيل طالعة عليهم، فلما بصروا بها تنادوا، وجعل صالح شبيبًا في كتيبة في ميمنة أصحابه، وبعث سويد بن سليم الهندي من بني شيبان في كتيبة في ميسرة أصحابه، ووقف هو في كتيبة في القلب، فلما دنا منهم رآهم على غير تعبية، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيبًا فحمل عليهم، ثم حمل سويد عليهم فكانت هزيمتهم ولم يقاتلوا، وأتى عدي بن عدي بدابته وهو يصلي فركبها ومضى على وجهه، وجاء صالح بن مسرح حتى نزل عسكره وحوى ما فيه، وذهب فل عدي وأوائل أصحابه حتى دخلوا على محمد بن مروان، فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة من بني ربيعة بن عامر بن صعصعة فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعاهما، فقال: اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا الخروج، وأغذا السير، فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه؛ فخرجا من عنده فأغذا السير، وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: إنه توجه نحو آمد، فأتبعاه حتى انتهيا إليه، وقد نزل على أهل آمد فنزلا ليلا، فيخندقا وانتهيا إليه وهما متساندان كل واحد منهما في أصحابه على حدته، فوجه صالح شبيبًا إلى الحارث بن جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد بن جزء السلمي. قال أبو مخنف: فحدثني المحلمي، قال: انتهوا إلينا في أول وقت العصر، فصلى بنا صالح العصر، ثم عبانا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله قوم قط، وجعلنا والله نرى الظفر يحمل الرجل منا على العشرة منهم فيهزمهم، وعلى العشرين فكذلك، وجعلت خليهم لا تثبت لخيلنا. فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جل من معهما فترجل، فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد، إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا وبينهم، وقد أفشوا فينا الجراحة، وأفشيناها فيهم، وقد قتلوا منا نحوًا من ثلاثين رجلًا، وقتلنا منهم أكثر من سبعين، ووالله ما أمسينا حتى كرهناهم وكرهونا، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا وما نقدم عليهم، فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم، ورجعنا إلى عسكرنا فصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر. ثم إن صالحًا دعا شبيبًا وروءس أصحابه فقال: يا أخلائي، ماذا ترون؟ فقال شبيب: أرى أنا قد لقينا هؤلاء القوم فقاتلناهم، وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم، فقال صالح: وأنا أرى ذلك، فخرجوا من تحت ليلتهم سائرين، فمضوا حتى قطعوا أرض الجزيرة، ثم دخلوا أرض الموصل فساروا فيها حتى قطعوها ومضوا حتى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجاج سرح إليهم الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني في ثلاثة آلاف رجل من أهل الكوفة، ألف من المقاتلة الأولى، وألفين من الفرض الذي فرض لهم الحجاج. فسار حتى إذا دنا من الدسكرة خرج صالح بن مسرح نحو جلولاء وخانقين، وأتبعه الحارث ابن عميرة حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج من أرض الموصل على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى، وصالح يومئذ في تسعين رجلا، فعبي الحارث ابن عميرة يومئذ أصحابه، وجعل على ميمنته أبا الرواغ الشاكري، وعلى ميسرته الزبير بن الأروح التميمي، ثم شد عليهم - وذلك بعد العصر وقد جعل أصحابه ثلاثة كراديس؛ فهو في كردوس، وشبيب في كردوس في ميمنته، وسويد بن سليم في كردوس في الميسرة، في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد ابن سليم، وثبت صالح وثبت صالح بن مسرح فقتل، وضارب شبيب حتى صرع، فوقع رجالة، فشد عليهم فانكشفوا، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح ابن مسرح فأصابه قتيلا، فنادى: إلى يا معشر المسلمين؛ فلاذوا به، فقال لأصحابه: ليعجل كل واحد منكم ظهره إلى ظهره صاحبه، وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن، ونرى رأينا، ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا بشبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيًا، وقال لأصحابه: احرقوا الباب، فإذا صار حمرًا فدعوه فإنهم لا يقدرون على أن يخرجوا منه حتى نصبحهم فنقتلهم، ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى عسكرهم، فأشرف شبيب عليهم وطائفة من أصحابه، فقال بعض أولئك الفرض: يا بني الزواني، ألم يخزكم الله! فقالوا: يافساق، نعم تقاتلوننا لقتالنا إياكم إذ أعماكم الله عن الحق الذي نحن عليه، فما عذركم عند الله في الفري على أمهاتنا! فقال له حلماؤهم إنما هذا من قول شباب فينا سفهاء، والله ما يعجبنا قولهم ولا نستحله. وقال شبيب لأصحابه: يا هؤلاء، ما تنظرون! فو الله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم، فقالوا له: مرنا بأمرك، فقال لهم: إن الليل أخفى للويل، بايعوني ومن شئم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم لذلك منكم آمنون، وأنا أرجوا أن ينصركم الله عليهم. قالوا: فابسط يدك فلنبايعك، فبايعوه، ثم جاءوا ليخرجوا، وقد صار بابهم جمرًا، فأتوا باللبود فبلوها بالماء، ثم ألقوها على الجمر، ثم قطعوا عليها، فلم يشعر الحارث بن عميرة ولا أهل العسكر إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا، وخلوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، فكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب، وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى من سنته. خبر دخول شبيب الكوفة وما كان من أمره مع الحجاج وفي هذه السنة دخل الكوفة ومعه زوجته عزالة. ذكر الخبر عن دخوله الكوفة وما كان من أمره وأمر الحجاج بها والسبب الذي دعا شبيبا إلى ذلك وكان السبب في ذلك - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الله ابن علقمة، عن قبيصة بن عبد الرحمن الخشعمي - أن شبيبًا لما قتل صالح بن مسرح بالمدبج وبايعه أصحاب صالح، ارتفع إلى أرض الموصل فلقى سلامة بن سيار بن المضاء التيمي تيم شيبان، فدعاه إلى الخروج معه، وكان يعرفه قبل ذلك إذ كانا في الديوان والمغازي، فاشترط عليه سلامة أن ينتخب ثلاثين فارسًا، ثم لا يغيب عنه إلا ثلاث ليال عددًا. ففعل، فانتخب ثلاثين فارسًا، فانطلق بهم نحو عنزة، وإنما أرادهم ليشفي نفسه منهم لقتلهم أخاه فضالة، وذلك أن فضالة كان خرج قبل ذلك في ثمانية عشر نفسًا حتى نزل ماء يقال له الشجرة من أرض الجبال عليه أثلة عظيمة، وعليه عنزة، فلما رأته عنزة قال بعضهم لبعض: نقتلهم ثم نغدو بهم إلى الأمير فنعطي ونجى، فأجمعوا على ذلك، فقال بنو نصر أخواله: لعمر الله لا نساعدكم على قتل ولدنا. فنهضت عنزة إليهم فقاتلوهم فقتلوهم، وأتوا برءوسهم عبد الملك بن مروان، فلذلك أنزلهم بانقيا، وفرض لهم، ولم تكن لهم فرائض قبل ذلك إلا قليلة، فقال سلامة بن سيار، أخو فضالة يذكر قتل أخيه وخذلان أخواله إياه: وما خلت أخوال الفتى يسلمونه ** لوقع السلاح قبل ما فعلت نصر قال: وكان خروج أخيه فضالة قبل خروج صالح بن مسرح وشبيب. فلما بايع سلامة شبيبًا اشترط عليه هذا الشرط، فخرج في ثلاثين فارسًا حتى انتهى إلى عنزة، فجعل يقتل المحلة منهم بعد المحلة حتى انتهى إلى فريق منهم فيهم خالته، وقد أكبت على ابن لها وهو غلام حين احتلم، فقالت وأخرجت ثديها إليه: أنشدك برحم هذا يا سلامة! فقال: لا والله، ما رأيت فضالة مذ أناخ بعمر الشجرة - يعني أخاه - لتقومن عنه، أو لأجمعن حافتك بالرمح، فقامت عن ابنها عند ذلك فقتله. قال أبو مخنف: فحدثني المفضل بن بكر من بني تيم بن شيبان أن شبيبًا أقبل في أصحابه نحو راذان. فلما سمعت به طائفة من بني تيم ابن شيبان خرجوا هرابًا منه، ومعهم ناس من غيرهم قليل، فأقبلوا حتى نزلوا دير خرزاد إلى جنب حولايا، وهم نحو من ثلاثة آلاف، وشبيب في نحو من سبعين رجلا أو يزيدون قليلا، فنزل بهم؛ فهابوه وتحصنوا منه، ثم إن شبيبًا سرى في اثني عشر فارسًا من أصحابه إلى أمه، وكانت في سفح ساتيد ما نازلة في مظلة من مظال الأعراب: فقال: لأتين بأمي فلأجعلنها في عسكري فلا تفارقني أبدًا حتى أموت أو تموت. وخرج رجلان من بني تيم بن شيبان تخوفا على أنفسهما فنزلا من الدير، فلحقا بجماعة من قومهما وهم نزول بالجال منهم على مسيرة ساعة من النهار، وخرج شبيب، في أولئك الرهط في أولهم وهم اثنا عشر، يريد أمه بالسفح، فإذا هو بجماعة من بني تيم بن شيبان غارين في أموالهم مقيمين، لا يرون أن شبيبًا يمر بهم لمكانهم الذي هم به، ولا يشعر بهم، فحمل عليهم في فرسانه تلك، فقتل منهم ثلاثين شيخًا؛ فيهم حوثرة بن أسد ووبرة بن عاصم الذان كانا نزلا من الدير، فلحقا بالجبال. ومضى شبيب إلى أمه فحملها من السفح، فأقبل بها، وأشرف رجل من أصحاب الدير من بكر بن وائل على أصحاب شبيب، وقد استخلف شبيب أخاه على أصحابه مصاد بن يزيد، ويقال لذلك الرجل الذي أشرف عليهم سلام بن حيان، فقال لهم: يا قوم، القرآن بيننا وبينكم. ألم تسمعوا قول الله: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه " قالوا: بلى، قال لهم: فكفوا عنا حتى نصبح، ثم نخرج إليكم على أمان لنا منكم، لكيلا تعرضوا لنا بشئ نكرهه حتى تعرضوا علينا أمركم هذا، فإن نحن قبلناه حرمت عليكم أموالنا ودماؤنا، وكنا لكم إخوانًا وإن نحن لم نقبله رددتمونا إلى مأمننا، ثم رأيتم رأيكم فيما بيننا وبينكم؛ قالوا لهم: فهذا لكم. فلما أصبحوا خرجوا إليهم، فعرض عليهم أصحاب شبيب قولهم، ووصفوا لهم أمرهم، فقبلوا ذلك كله، وخالطوهم ونزلوا إليهم، فدخل بعضهم إلى بعض، وجاء شبيب وقد اصطلحوا، فأخبره أصحابه خبرهم، فقال: أصبتم ووفقتم وأحسنتم. ثم إن شبيبًا ارتحل فخرجت معه طائفة وأقامت طائفة جانحة، وخرج يومئذ معه إبراهيم بن حجر المحلمي أبو الصقير كان مع بني تيم بن شيبان نازلًا فيهم، ومضى شبيب في أداني أرض الموصل وتخوم أرض جوخى، ثم ارتفع نحو أذربيجان، وأقبل سفيان بن أبي العالية الخشعمي في خيل قد كان أمر أن يدخل بها طبرستان، فأمر بالقفول، فأقبل راجعًا في نحو من ألف فارس، فصالح صاحب طبرستان. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة عن سفيان بن أبي العالية الخثعمي أن كتاب الحجاج أتاه: أما بعد، فسر حتى تنزل الدسكرة فيمن معك، ثم أقيم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن ذي المشعار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه، فلما أتاه الكتاب أقبل حتى نزل الدسكرة، ونودي في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن: أن برئت الذمة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف سفيان بن أبي العالية بالدسكرة قال: فخرجوا حتى أتوه، وأتته خيل المناظر، وكانوا خمسمائة، عليهم سورة بن أبجر التميمي من بني أبان بن دارم، فوافوه إلا نحوًا من خمسين رجلا تخلفوا عنه، وبعث إلى سفيان بن أبي العالية ألا تبرح العسكر حتى آتيك. فعجل سفيان فارتحل في طلب شبيب، فلحقه بخانقين في سفح جبل على ميمنته خازم بن سفيان الخثعمي من بني عمر بن شهران، وعلى ميسرته عدي بن عميرة الشيباني، وأصحر لهم شبيب، ثم ارتفع عنهم حتى كأنه يكره لقاءه، وقد أكن له أخاه مصادًا معه خمسون في هزم من الأرض، فلما رأوه جمع أصحابه ثم مضى في سفح الجبل مشرفًا فقالوا: هرب عدو الله فاتبعوه، فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني: أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونسير بها، فإن يكونوا قد أكمنوا لنا كمينًا كنا قد حذرناه، وإلا فإن طلبهم لن يفوتنا. فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم ولما رأى الكمين أن قد جاوزهم خرجوا إليهم، فحمل عليهم شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من ورائهم، فلم يقاتلهم أحد، وكانت الهزيمة، فثبت ابن أبي العالية في نحو من مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدًا حسنًا؛ حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه، فقال سويد بن سليم لأصحابه: أمنكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية؟ فو الله لئن عرفته لأجهدن نفسي في قتله، فقال شبيب: أنا من أعرف الناس به، أما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية! فإنه ذلك، فإن كنت تريده فأمهله قليلًا، ثم قال: يا قعنب، اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا يتنقضون ويتسسللون، وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية فطاعنه، فلم تصنع رمحاهما شيئًا، ثم اضطربا بسيفهما ثم اعتنق كل منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض يعتركان؛ ثم تحاجزوا وحمل عليهم شبيب فانكشفوا، وأتى سفيان غلام له يقال له غزوان، فنزل عن برذونة، وقال: اركب يا مولاي، فركب سفيان، وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان فقتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبي العالية حتى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني أتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقاتلتهم، فضرب الله وجوههم، ونصرنا عليهم، فبينا نحن كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيبًا عنهم، فحملوا على الناس فهزموهم، فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم، حتى خررت بين القتلى، فحملت مرتثًا، فأتى بي بابل مهروذ، فهأنذا بها والجند الذين وجههم إلى الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف، ويعتذر بغير العذر والسلام. فلما قرأ الحجاج الكتاب قال: من صنع كما صنع هذا، وأبلى كما أبلى فقد أحسن. ثم كتب إليه: أما بعد: فقد أحسنت البلاء، وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورًا إلى أهلك والسلام. وكتب إلى سورة بن أبحر: أما بعد فيا بن أم سورة، ما كنت خليقًا أن تجترئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبًا إلى الخيل التي بالمدائن، فلينتخب منهم خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة. واحزم في أمرك، وكد عدوك، فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة. والسلام. فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدي بن عميرة إلى المدائن. وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة، ثم دخل على عبد الله بن أبي عصيفير - وهو أمير المدائن في إمارته الأولى - فسلم عليه، فأجازه بألف درهم، وحمله على فرس، وكساه أثوابًا. ثم إنه خرج من عنده، فأقبل بأصحابه حتى قدم بهم على سورة بن أبجر ببابل مهروذ، فخرج في طلب شبيب، وشبيب يجول في جوخى وسورة في طلبه، فجاء شبيب حتى انتهى إلى المدائن فتحصن منه أهل المدائن وتحرزوا. وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن، فأصاب بها دواب جند كثيرة فقتل من ظهر له ولم يدخلوا البيوت. فأتى فقيل له: هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك. فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرءوا من علي وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم خرجوا فقطعوا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه فأخبرته بمنزل شبيب بالنهروان، فدعا رءوس أصحابه فقال: إنهم قلما يلقون مصحرين أو على ظهر إلا انتصفوا منكم، وظهروا عليكم، وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل إلا قليلا، وقد رأيت أن أنتخبكم فأسير في ثلثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فآتيهم الآن إذ هم آمنون لبياتكم؛ فو الله إلى لأرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم الذين صرعوا منهم بالنهروان من قبل فقالوا: اصنع ما أحببت. فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة الخثعمي، وانتخب من أصحابه ثلثمائة رجل من أهل القوة والجلد الشجاعة، ثم أقبل بهم نحو النهروان، وبات شبيب وقد أذكى الحرس، فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم، فاستووا على خيولهم وتعبوا تعبيتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا واستعدوا فحمل عليهم سورة وأصحابه فثبتوا لهم، وضاربوهم حتى صد عنهم سورة وأصحابه، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا له العرصة، وحملوا عليهم معه، وجعل شبيب يضرب ويقول: من ينك العير ينك نياكا ** جندلتان اصطكتا اصطكاكا فرجع سورة إلى عسكره وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم حتى أقبل بهم نحو المدائن، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذي فيه شبيب، واتبعه شبيب وهو يرجو أن يلحقه فيصيب عسكره، ويصيب بهزيمته أهل المعسكر، فأخذ السير في طلبهم، فانتهوا إلى المدائن فدخلوها، وجاء شبيب حتى انتهى إلى بيوت المدائن. فدفع إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي عصيفير في أهل المدائن فرماهم الناس بالنبل، ورموا من فوق البيوت بالحجارة، فارتفع شبيب بأصحابه عن المدائن، فمر على كلواذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج فأخذها، ثم خرج يسير في أرض جوخى، ثم مضى نحو تكريت، فبينا ذلك الجند في المدائن إذ أرجف الناس بينهم، فقالوا: هذا شبيب قد دنا، وهو يريد أن يبيبت أهل المدائن الليلة، فارتحل عامة الجند. فلحقوا بالكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة الخثعمي، قال: والله لقد هربوا من المدائن وقالوا: نبيت الليلة، وإن شبيبًا لبتكبريت، قال: ولما قدم الفل على الحجاج سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندي. قال أبو مخنف: حدثنا النضر بن صالح العبسي وفضيل بن خديج الكندي أن الحجاج لما أتاه الفل قال: قبح الله سورة! ضيع العسكر والجند، وخرج يبيت الخوارج، أما والله لأسوءنه، وكان بعد قد حبسه ثم عفا عنه. قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج أن الحجاج دعا الجزل - وهو عثمان بن سعيد - فقال له: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق، ول تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت؟ لله أنت يا أخا بني عمرو بن معاوية! فقال: نعم أصلح الله الأمير قد فهمت؛ قال له: فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس، فقال: أصلح الله الأمير! لاتبعثن معي أحدًا من أهل هذا الجند المفلول المهزوم، فإن الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت ألا ينفعك والمسلمين منهم أحد؛ قال له: فإن ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت. ثم دعا أصحاب الدواووين فقال: اضربوا على الناس البعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس، من كل ربع ألف رجل، وعجلوا ذلك، فجمعت العرفاء، وجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف، فأمرهم بالعسكر فعسكروا، ثم نودى فيهم بالرحيل، ثم ارتحلوا ونادى منادي الحجاج: أن برئت الذمة من رجل أصبناه من هذا البعث متخلفًا؛ قال: فمضى الجزل بن سعيد، وقد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته، فخرج حتى أتى المدائن، فأقام فيها ثلاثًا، وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وبغلين وألفي درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام حتى ارتحلوا، فأصاب الناس ما شاؤوا من تلك الجزر والعلف الذي وضع لهم ابن عصيفير. ثم إن الجزل بن سعيد خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج، ولا يقيم له إرادة أن يفرق الجزل أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على غير تعبية، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبية، ولا ينزل إلا خندق على نفسه خندقًا، فلما طال ذلك على شبيب أمر أصحابه ذات ليلة فسروا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبًا دعانا ونحن بدير بيرما ستون مائة رجل، فجعل على كل أربعين من أصحابه رجلًا، وهو في أربعين، وجعل أخاه مصادًا في أربعين، وبعث سويد بن سليم في أربعين، وبعث المحلل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه فأخبرته أن الجزل بن سعيد قد نزل دير يزيد جرد، قال: فدعانا عند ذلك فعبانا هذه التعبئة، وأمرنا على دوابنا، وقال لنا: تيسروا فإذا قضمت دوابكم فاركبوا، وليسر كل امرئ منكم مع أميره الذي أمرناه عليه، ولينظر كل امرئ منكم ما يأمره أميره فليتبعه. ودعا أمرائنا فقال لهم: إني أريد أن أبيت هذا العسكر الليلة، ثم قال لأخيه مصاد: إيتهم فارتفع من فوقهم حتى تأتيهم من ورائهم من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامي من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت من قبل المغرب، وليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم، تحملون وتكرون عليهم، وتصيحون بهم حتى يأتيكم أمري. فلم نزل على تلك التعبئة، وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، حتى إذا قضمت دوابنا - وذلك أول الليل أول ما هدأت العيون - خرجنا حتى انتهينا إلى دير الحرارة، فإذا القوم مسلحة، عليهم عياض بن أبي لينة، فما هو إلا أن انتهينا إليهم، فحمل عليهم مصاد أخو شبيب في أربعين رجلًا، وكان أمام شبيب، وقد كان أراد أن يسبق شبيبًا حتى يرتفع عليهم ويأتيهم من ورائهم كما أمره، فلما لقى هؤلاء قاتلهم فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثم إنا دفعنا إليهم جميعًا، فحملنا عليهم فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير جرد إلا قريب من ميل. فقال لنا شبيب: اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم؛ فأتبعناهم والله ملظين بهم، ملحين عليهم، ما نرفه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همة إلا عسكرهم، فانتهوا إلى عسكرهم، ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقوا بالنبل، وكانت عيون لهم قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليه، وتحرز ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الحرارة، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان على الطريق. فلما أن دفعنا إلى هذه المسلحة التي كانت بدير الحرارة فألحقناهم بعسكر جماعتهم ورجعت المسالح الأخر حتى اجتمعت، منعها أهل العسكر دخول العسكر وقالوا لهم: قاتلوا، وانضحوا عنكم بالنبل. قال أبو مخنف: وحدثني جرير بن الحسين الكندي، قال: كان على المسلحتين الأخريين عاصم بن حجر على التي تلي حلوان، وواصل ابن الحارث السكوني إلى الأخرى. فلما اجتمعت المسالح جعل شبيب يحمل عليها حتى اضطرها إلى الخندق، ورشقهم أهل العسكر بالنبل حتى ردوهم عنهم. فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم قال لأصحابه: سيروا ودعوهم، فمضى على الطريق نحو حلوان حتى إذا كان قريبًا من موضع قباب حسين بن زفر من بني بدر بن فزارة - وإنما كانت قباب حسين بن زفر بعد ذلك - قال لأصحابه: انزلوا فاقضموا وأصلحوا نبلكم وتروحوا وصلوا ركعتين، ثم اركبوا؛ فنزلوا ففعلوا ذلك. ثم إنه أقبل بهم راجعًا إلى عسكر أهل الكوفة أيضًا، وقال: سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها بدير بيرما أول الليل، ثم أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم، فأقبلوا. قال: فأقبلنا معهم وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إلهم، وقد أمنونا فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا قريبًا منهم، فانتهينا إليهم قبيل الصبح فأحطنا بعسكرهم، ثم صحنا بهم من كل جانب، فإذا هم يقاتلوننا من كل جانب، ويرموننا بالنبل. ثم إن شبيبًا بعث إلى أخيه مصاب وهو يقاتلهم من نحو الكوفة أن أقبل إلينا وخل لهم سبيل الطريق إلى الكوفة، فأقبل إليه، وترك ذلك الوجه، وجعلنا نقاتلهم من تلك الوجوه الثلاثة، حتى أصبحنا، فأصبحنا ولم نستفل منهم شيئًا، فسرنا وتركناهم، فجعلوا يصيحون بنا: أين يا كلاب النار! أين أيتها العصابة المارقة! أصبحوا نخرج إليكم، فارتفعنا عنهم نحوًا من ميل ونصف، ثم نزلنا فصلينا الغداة، ثن أخذنا الطريق على براز الروذ، ثم مضينا إلى جسر جسرايا وما يليها، فأقبلوا في طلبنا. قال أبو مخنف: فحدثني مولى لنا يدعى غاضرة أو قيصر، قال: كنت مع الناس تاجرًا وهم في طلب الحرورية، وعلينا الجزل بن سعيد، فجعل يتبعهم فلا يسير إلا على تعبية، ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في أرض جوخى وغيرها يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إليه كتابًا، فقر على الناس: أما بعد، فأني بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك بإتباع هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها، فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم. والسلام. فقرئ الكتاب علينا ونحن بقطراثا ودير أبي مريم، فشق ذلك على الجنرال. وأمر الناس بالسير. فخرجوا في طلب الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. قال أبو مخنف: فحدثني إسماعيل بن نعيم الهمذاني ثم البرسمي أن الحجاج بعث سعيد بن المجالد على ذلك الجيش، وعهد إليه أن لقيت المارقة فازحف إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم وواقفهم واستعن بالله عليهم، ولا تصنع صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع. وأقبل الجزل في طلب شبيب حتى انتهوا إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره، وخندق عليه. وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرًا، فقام فيهم خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ياأهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم وكسروا خراجكم، وأتنم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم، ونزلوا بلدًا سوى بلدكم، فأخرجوا على اسم الله إليهم. فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل، فقال له الجزل: أقم أنت في جماعة الجيش، فارسهم وراجلهم، وأصحر له، فوالله ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك، فإن ذلك شر لهم وخير لك. فقال له: قف أنت في الصف، فقال: يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين. فقال: هو رأيي إن أصبت، فالله وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه براء، قال: فوقف الجزل في صف أهل الكوفة وقد أخرجهم من الخندق، وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الرواسي، ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل فطفتا، وأمر دهقانها أن يشتري لهم ما يصلحهم، ويتخذ لهم غداء، ففعل، ودخل مدينة قطفتا وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ من الغداء حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل ذلك العسكر، فصعد الدهقان السور فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من حصنه، فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: ما لي أراك متغير اللون! فقال له الدهقان: قد جاءتك الجنود من كل ناحية، قال: لا بأس، هل أدرك غداءنا؟ قال: نعم، قال: فقربه، وقد أغلق الباب، وأتى بالغداء، فتغدى وتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه. ثم إنهم اجتمعوا على باب المدينة، فأمر بالباب ففتح، ثم خرج على بغله فحمل عليهم. وقال: لا حكم إلا للحكم الحكيم، أنا أبو مدله، أثبتوا إن شئتم. وجعل سعيد يجمع قومه وخيله، ويزلفها في أثره، ويقول: ما هؤلاء! إنما هم أكلة رأس، فلما رآهم شبيب قد تقطعوا وانتشروا لف خيله كلها، ثم جمعها، ثم قال: استعرضوهم استعراضًا، وانظروا إلى أميرهم، فو الله لأقتلنه أو يقتلني. وحمل عليهم مستعرضًا لهم، فهزمهم وثبت سعيد بن المجالد، ثم نادى أصحابه: إلي إلي، أنا ابن ذا مران! وأخذ قلنسوته فوضعها على قربوص سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه بالسيف، فخالط دماغه، فخر ميتًا، وانهزم ذلك الجيش، وقتلوا كل قتلة، حتى انتهوا إلى الجزل، ونزل الجزل ونادى: أيها الناس، إلي. وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن كان أميركم القادم قد هلك فأميركم الميمون النقيبة المبارك حي لم يمت فقاتل الجزل قتالًا شديدًا حتى حمل من بين القتلى، فحمل إلى المدائن مرتثًا، وقدم فل أهل ذلك العسكر الكوفة، وكان من أشد الناس بلاءً يومئذ خالد بن نهيك من بني ذهل بن معاوية وعياض بن أبي لينة، حتى استنقذاه وهو مرتث. هذا حديث طائفتك من الناس، والحديث الأخر قتالهم فيما بين دير أبي مريم إلى براز الروز. ثم إن الجزل كتب إلى الحجاج. قال: وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد فأمنهم، وذلك اليوم يوم سوقهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، فأحب أن يأمنهم، وكان أصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دواب وثياب وأشياء ليس لهم منها بد، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، وساروا أول الليل حتى نزلوا عقر الملك الذي يلي قصر ابن هبيرة، ثم أغذ السير من الغد، فبات بين حمام عمر بن سعد وبين قبين. فلما بلغ الحجاج مكانه بعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فبعثه في ألفي فارس نقاوة، وقال له: اخرج إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم أنزل إليه في الرجال فإن استطرد ذلك فدعه ولا تتبعه. فخرج فعسكر بالسبخة، فبلغه أن شبيب قد أقبل، فأقبل نحوه وكأنما يساقون إلى الموت، وأمر الحجاج عثمان ابن قطن فعسكر بالناس بالسبخة، ونادى: ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة! وأمر سويد بن عبد الرحمن أن يسير في الألفين الذين معه حتى يلقى شبيبًا فعبر بأصحابه إلى زرارة وهو يعبئهم ويحرضهم إذ قيل له: قد غشيك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، وقدم رايته ومضى إلى أقصى زرارة، فأخبر أن شبيبًا قد أخبر بمكانك فتركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات وهو يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به. ثم قيل له: أما تراهم! فنادى: في أصحابه، فركبوا في آثارهم. وإن شبيبًا أتى دار الرزق. فنزلها، فقيل: إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون بالسبخة، فلما بلغهم مكان شبيب صاح بعضهم ببعض وجالوا، وهموا أن يدخلوا الكوفة حتى قيل لهم: إن سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل. قال هشام: وأخبرني عمر بن بشير، قال: لما نزل شبيب الدير أمر بغنم تهيأ له، فصعد الدهقان، ثم نزل وقد تغير لونه، فقال: مالك! قال: قد والله جاءك جمع كثير؛ قال: أبلغ الشواء بعد! قال: لا، قال: دعه. قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال: قد والله أحاطوا بالجوسق، قال: هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث لهم، فلما فرغ توضأ وصلى بأصحابه الأولى، ثم تقلد سيفين بعدما لبس درعه، وأخذ عمود حديد ثم قال: أسرجوا لي البغلة، فقال أخوه مصاد: أفي هذا اليوم تسرج بغلة! قال: نعم أسرجوها، فركبها، ثم قال: يا فلان، أنت على الميمنة وأنت يا فلان على الميسرة، وقال لمصاد: أنت في القلب، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم. قال: فخرج إليهم وهو يحكم، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير نحو من ميل. قال: وجعل سعيد يقول: يا معشر همدان، أنا ابن ذي مران، إلي إلي. ووجه سربًا مع ابنه وقد أحس أنها تكون عليه، فنظر شبيب إلى مصاد فقال: أثكلينك الله إن لم أثكله ولده. قال: ثم علاه بالعمود، فسقط ميتًا، وانهزم أصحابه وما قتل بينهم يومئذ إلا قتيل واحد. قال: وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى أتوا الجزل، فناداهم الجزل: أيها الناس، إ لي إلي. وناداهم عياض بن أبي لينة: أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم قد هلك فهذا أميركم الميمون النقيبة، أقبلوا إليه، وقاتلوا معه؛ فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزمًا، وقاتل الجزل قتالًا شديدًا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض ابن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتث، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، فأتى بالجزل حتى أدخل المدائن، وكتب إلى الحجاج بن يوسف. قال أبو مخنف: حدثني بذلك ثابت مولى زهير: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم ورأيه، فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك، وقد أرادني العدو بكل ريدة فلم يصب مني غرة، حتى قدم على سعيد بن مجالد رحمة الله عليه، ولقد أمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني، وتعجل إليهم في الخيل، فأشهد عليه أهل المصرين أني بريئ من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع. فمضى فأصيب تجاوز الله عنه، ودفع الناس إلي، فنزلت ودعوتهم إلي، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها. فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له عند ذلك أني قد صدقته ونصحت له. والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد أتاني كتابك وقرأته، وفهمت كل ما ذكرت فيه، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم، وقد أصبت وأحسنت البلاء، وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيان ابن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك. والسلام. فقدم عليه حيان بن أبجر الكناني من بني فراس - وهم يعالجون الكي وغيره - فكان يداويه، وبعث إليه عبد الله بن أبي عصيفير بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللطف والهدية. قال: وأقبل شبيب نحو المدائن، فعلم أنه لا سبيل له إلى أهلها مع المدينة، فأقبل حتى انتهى إلى الكرخ، فعبر دجلة إليه، وبعث إلى أهل سوق بغداد وهو بالكرخ أن اثبتوا في سوقكم فلا بأس عليكم - وكان ذلك يوم سوقهم - وقد كان بلغه أنهم يخافونه قال: ويخرج سويد حتى جعل بيوت مزينة وبني سليم في ظهره وظهور أصحابه، وحمل عليهم شبيب حملةً منكرة، وذلك عند المساء، فلم يقدر منهم على شئ، فأخذ على بيوت الكوفة نحو الحيرة، وأتبعه سويد لا يفارقه حتى قطع بيوت الكوفة كلها إلى الحيرة، وأتبعه سويد حتى انتهى إلى الحيرة، فيجده قد قطع قنطرة الحيرة ذاهبًا، فتركه وأقام حتى أصبح. وبعث إليه الحجاج أن أتبعه فأتبعه، ومضى شبيب حتى أغار في أسفل الفرات على من وجد من قومه، وارتفع في البر من وراء خفان في أرض يقال لها الغلظة، فيصيب رجالا من بني الورثة، فحمل عليهم، فاضطرهم إلى جدد من الأرض، فجعلوا يرمونه وأصحابه بالحجارة من حجارة الأرحاء كانت حولهم، فلما نفدت وصل إليهم فقتل منهم ثلاثة عشر رجلا، منهم حنظلة بن مالك ومالك بن حنظلة وحمران بن مالك؛ كلهم من بني الورثة. قال أبو مخنف: حدثني بذلك عطاء بن عرفجة بن زياد بن عبد الله الورثي. ومضى شبيب حتى يأتي بني أبيه على اللصف ماء لرهطه وعلى ذلك الماء الفرز بن الأسود، وهو أحد بني الصلت، وهو الذي كان ينهي شبيبًا عن رأيه، وأن يفسد بني عمه وقومه، فكان شبيب يقول: والله لئن ملكت سبعة أعنة لأغزون الفزر. فلما غشيهم شبيب في الخيل سأل عن الفزر فاتقاه الفزر، فخرج على فرس لا تجارى من وراء البيوت، فذهب عليها في الأرض، وهرب منه الرجال، ورجع وقد أخاف أهل البادية حتى أخذ على القطقطانة؛ ثم على قصر مقاتل، ثم أخذ على شاطئ الفرات حتى أخذ على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم مضى حتى دخل دقوقاء، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان. فتركه الحجاج وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب من ماذرواسب دهقان بابل مهروذ وعظيمها إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أن تاجرًا من تجار الأنبار من أهل بلادي أتاني فذكر أن شبيبًا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك، ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتي فحدثاني أنه قد نزل خانيجار. فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج بالبصرة، فلما قرأه الحجاج أقبل جوادًا إلى الكوفة، وأقبل شبيب يسير حتى انتهى إلى قرية يقال لها حربى على شاطئ دجلة فعبر منها، فقال: مااسم هذه القرية؟ فقالوا: حربى؛ فقال: حربى يصلى بها عدوكم، وحرب تدخلونه بيوتهم، إنما يتطير من يقوف ويعيف، ثم ضرب رايته وقال لأصحابه: سيروا؛ فأقبل حتى نزل عقرقوفا، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين، لو تحولت بنا من هذه القرية المشؤومة الاسم! قال: وقد تطيرت أيضًا! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوي منها، إنما شؤمها إن شاء الله على عدوكم تحملون عليهم فيها، فالعقر لهم. ثم قال لأصحابه: يا هؤلاء، إن الحجاج ليس بالكوفة، وليس دون الكوفة إن شاء الله شيء، فسيروا بنا. فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكتب عروة إلى الحجاج أن شبيبًا قد أٌقبل مسرعًا يريد الكوفة، فالعجل العجل. فطوى الحجاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة، ونزلها الحجاج صلاة الظهر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب، فصلى المغرب والعشاء، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئًا يسيرًا، ثم ركبوا خيولهم فدخلوا الكوفة، فجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق، ثم شد حتى ضرب باب القصر بعموده قال أبو المنذر: رأيت ضربة شبيب بباب القصر قد أثرت أثرًا عظيمًا، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبة، ثم قال: وكأن حافرها بكل خميلة ** كيل يكيل به شحيح معدم عبد دعى من ثمود أصله ** لا بل يقال أبو أيهم يقدم ثم اقتحموا المسجد الأعظم وكان كبيرًا لا يفارقه قوم يصلون به فقتل عقيل بن مصعب الوادعي وعدي بن عمر الثقفي وأبا ليث بن أبي سليم مولى عنبسة بن أبي سفيان، وقتلوا أزهر بن عبد الله العامري، ومروا بدار حوشب وهو على الشرط فوقفوا على بابه وقالوا: إن الأمير يدعوا حوشبًا، فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب ليركبه حوشب، فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم، فأراد أن يدخل، فقالوا له: كما أنت، حتى يخرج صاحبك. فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فخرج إليهم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم، وذهب لينصرف، فجعلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب، وقتلوا غلامه ميمونًا، وأخذوا برذونه ومضوا حتى مروا بالجحاف ابن نبيط الشيباني من رهط حوشب، فقال له سويد: إنزل إلينا، فقال له: ما تصنع بنزولي! قال له سويد: أقضيك ثمن البكرة التي كنت ابتعت منك بالبادية، فقال له الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس قضاء الدين هذا المكان! أما ذكرت أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على ظهر فرسك! قبح الله يا سويد دينًا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة. قال: ثم مضوا فمروا بمسجد بن ذهل فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلي في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفًا إلى منزله، فشدوا عليه ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم. اللهم إني عنهم ضعيف، فانتصر لي منهم! فضربوه حتى قتلوه، ثم مضوا حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة. قال هشام: قال أبو بكر بن عياش: واستقبله النضر بن قعقاع ابن شور الذهلي، وأمه ناجية بنت هاني بن قبيصة بن الشيباني فأبطره حين نظر إليه - قال: يعني بقوله: أبطره أفزعه - فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله؛ قال له سويد مبادرًا: أمير المؤمنين، ويلك! فقال: أمير المؤمنين. حتى خرجوا من الكوفة متوجهين نحو المردمة، وأمر الحجاج المنادي فنادى: يا خيل الله اركبي وأبشري، وهو فوق باب القصر، وثم مصباح مع غلام له قائم، فكان أول من جاء إليه من الناس عثمان بن قطن بن عبد الله بن الحصين ذي الغصة، ومعه مواليه، وناس من أهله، فقال: أنا عثمان بن قطن، أعلموا الأمير مكاني، فيليأمر بأمره، فقال له ذلك الغلام: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل جانب، وبات عثمان فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح. ثم إن الحجاج بعث بسر بن غالب الأسدي من بني والية في ألفي رجل، وزائدة بن قدامة الثقفي في ألفي رجل، وأبا الضريس مولى بني تميم في ألف من الموالي، وأعين - صاحب حمام أعين مولى بشر بن مروان - في ألف رجل، وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإذا قدم عليك محمد بن موسى فجهز معه ألفي رجل إلى سجستان، وعجل سراحه. وأمر عبد الملك محمد بن موسى بمكاتبة الحجاج، فلما قدم محمد ابن موسى جعل يتحبس في الجهاز، فقال له نصحاؤه: تعجل أيها الأمير إلى عملك؛ فإنك لا تدري ما يكون من أمر الحجاج! وما يبدو له. فأقام على حاله، وحدث من أمر شبيب ما حدث، فقال الحجاج لمحمد ابن موسى بن طلحة بن عبيد الله: تلقى شبيبًا وهذه الخارجة فتجاهدهم ثم تمضي إلى عملك، وبعث الحجاج مع هؤلاء الأمراء أيضًا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز القرشي وزيادة بن عمرو العشكي. وخرج شبيب حيث خرج من الكوفة. فأتى المردمة وبها رجل من حضرموت على العشور يقال له ناجية بن مرثد الحضرمي، فدخل الحمام ودخل عليه شبيب فاستخرجه فضرب عنقه، واستقبل شبيب النضر بن القعقاع بن شور - وكان مع الحجاج حين أقبل من البصرة، فلما طوى الحجاج المنازل خلفه وراءه - فلما رآه شبيب ومعه أصحابه عرفه، فقال له شبيب: يانضر بن القعقاع، لاحكم إلا لله - وإنما أراد شبيب بمقالته له تلقينه. فلم يفهم النضر - فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون " فقال أصحاب شبيب: يا أمير المؤمنين؛ كأنك إنما تريد بمقالتك أن تلقنه. فشدوا على نضر فقتلوه. قال: واجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات. فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القواد. وأخذ نحو القادسية، ووجه الحجاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له: أتبع شبيبًا حتى تواقعه حيثما أدركته، إلا أن يكون منطلقًا ذاهبًا فاتركه ما لم يعطف عليك أو ينزل فيقيم لك، فلا تبرح إن هو أقام حتى تواقعه، فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبًا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز النهدي، وكان شجاعًا، وعلى ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي الشيباني، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة ثم اعترض بها الصف، فوجف وجيفًا، واضطرب حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر بن قيس، فقاتل زحر حتى صرع، وانهزم أصحابه، وظن القوم أنهم قد قتلوه، فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يتمشى حتى دخل قرية فبات بها، وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه ورأسه بضع عشرة جراحة ما بين ضربة وطعنة، فمكث أيامًا، ثم أتى الحجاج وعلى وجهه وجراحة القطن، فأجلسه الحجاج معه على السرير وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين الناس وهو شهيد فينظر إلى هذا وقال أصحاب شبيب لشبيب وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرًا: قد هزمنا لهم جندًا. وقتلنا لهم أميرًا من أمرائهم عظيمًا. انصرف بنا الآن وافرين، فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل، وهزيمتنا هذا الجند، قد أرعبت هذه أرعبت هذه الأمراء والجنود التي بعثت في طلبكم فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم ما دون الحجاج من شئ وأخذ الكوفة إن شاء الله فقالوا: نحن لرأيك سمع تبع، ونحن طوع يديك قال: فانقض بهم جوادًا حتى يأتي نجران - وهي نجران الكوفة ناحية عين التمر - ثم سأل عن جماعة القوم فخبر باجتماعهم بروذبار في أسفل الفرات في بهقباذ الأسفل، على رأس أربعة وعشرين فرسخًا من الكوفة. فبلغ الحجاج مسيره إليهم، فبعث إليهم عبد الرحمن بن الغرق مولى ابن أبي عقيل - وكان على الحجاج كريمًا - فقال له: الحق بجماعتهم - يعني جماعة الأمراء - فأعلمهم بمسير المارقة إليهم، وقل لهم: إن جمعكم قتال فأمير الناس زائدة بن قدامة، فأتاهم ابن الغرق فأعلمهم ذلك وانصرف عنهم. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: انتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة، ففي ميمنتنا زياد بن عمرو العتكي، وفي ميسرتنا بشر بن غالب الأسدي، وكل أمير واقف في أصحابه. فأقبل شبيب حتى وقف على تل، فأشرف على الناس وهو على فرس له كميت أغر. فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فتقف في ميمنتنا، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت على ميسرتنا، وجاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القلب. قال: وخرج زائدة ابن قدامة يسير في الناس فيما بن ميمنتهم إلى ميسرتهم يحرض الناس ويقول: يا عباد الله أنتم الكثيرون الطيبون وقد نزل بكم القليلون الخبيثون فاصبروا - جعلت لكم الفداء - لكرتين أو ثلاث تكرون عليهم، ثم هو النصر ليس بينه حاجز ولا دونه شئ ألا ترون إليهم والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، إنما هم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيثكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، غضوا الأبصار، واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم، ثم انصرف إلى موقفه. قال: ويحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفهم، وثبت زياد في نحو من نصف أصحابه، ثم ارتفع عنهم سويد قليلًا، ثم كر عليهم ثانيةً، ثم اطعنوا ساعة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: أنا والله فيهم يومئذ، قال: اطعنا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدًا، وجعل ينادي: ياخيلي، ويشد بالسيف فيقاتل قتالا شديدًا، فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشجع العرب وأشده قتالًا وما يعرض له. قال: ثم إنا ارتفعنا عنهم آخرًا فإذا هم يتقوضون، فقال له أصحابه: ألا تراهم يتقوضون! احمل عليهم، فقال لهم شبيب: خلوهم حتى يخفوا، فتركوهم قليلًا، ثم حمل عليهم الثالثة فانهزموا. فنظرت إلى زياد ابن عمرو وإنه ليضرب بالسيف وما من سيف يضرب به إلا نبا عنه وهو مجفف، ولقد رأيته اعتوره أكثر من عشرين سيفًا فما ضره من ذلك شئ ثم إنه انهزم وقد جرح جراحة يسيرة. وذلك عند المساء قال: ثم شددنا على عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فهزمناه، وما قاتلنا كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو، فمضينا منهزمين حتى انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلناه قتالًا شديدًا وصبر لنا. ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط، أن أخا شبيب مصادًا حمل على بشر بن غالب وهو في الميسرة، فأبلى وكرم والله وصبر، فنزل ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو من خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا عن آخرهم. وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الأزدي، وأمه زارة امرأة ولدت في الأزد، فيقال لهم بنو زارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه مالوا فشدوا على أبي الضريس مولى بني تميم، وهو يلي بشر بن غالب، فهزموه حتى انتهى إلى موقف أعين، ثم شدوا عليه وعلى أعين جميعًا فهزموهما حتى انتهوا بهما إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إ ليه نزل ونادى: يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إلى إلى! لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إمانكم؛ فقاتلهم عامة الليل حتى كان السحر. ثم إن شبيبًا شد عليه في جماعة من أصحابه فقتله وأصحابه وتركهم ربضةً حوله من أهل الحفاظ. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: سمعت زائدة ابن قدامة ليلتئذ رافعًا صوته يقول: يأيها الناس، اصبروا وصابروا، " يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " ثم والله ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل. قال أبو مخنف: وحدثني فروة بن لقيط أن أبا الصقير الشيباني ذكر أنه قتل زائدة بن قدامة، وقد حاجه في ذلك آخر يقال له الفضل ابن عامر. قال: ولما قتل شبيب زائدة بن قدامة دخل أبو الضريس وأعين جوسقًا عظيمًا، وقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم إلى البيعة عند الفجر. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت فيمن قدم إليه فبايعه وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه، فكل من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه، وأخذ سلاحه منه، ثم يدنى من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، ثم يخلى سبيله. قال: وإنا لكذلك إذ انفجر الفجر ومحمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله في أقصى العسكر، معه عصابة من أصحابه قد صبروا، فلما انفجر الفجر أمر مؤذنه فأذن، فلما سمع شبيب الأذان قال: ماهذا؟ فقال: هذا محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله لم يبرح؛ فقال: قد ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا؛ نحوًا هؤلاء عنا وانزلوا بنا فلنصل. قال: فنزل فأذن هو، ثم استقدم فصلى بأصحابه، فقرأ: " ويل لكل همزة لمزة "، و " أرأيت الذي يكذب بالدين "، ثم سلم، ثم ركبوا فحمل عليهم فانكشفت طائفة من أصحابه، وثبتت طائفة قال فروة: فما أنسى قوله وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه وهو يقول: " آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " قال: وضارب حتى قتل. قال: فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيبًا هو الذي قتله. ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شئ، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيبًا، فلم يبق منهم أحد. وقد ذكر من أمر محمد بن موسى بن طلحة غير أبي مخنف أمرًا غير الذي ذكرته عنه، والذي ذكر من ذلك أن عبد الملك بن مروان كان ولي محمد بن موسى بن طلحة سجستان، فكتب إليه الحجاج: إنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك. فعدل إليه محمد، فأرسل إليه شبيب: إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجاج، وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك، فأبى إلا محاربته، فواقفه شبيب، وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله، فدعا إلى البراز، فبرز إليه البطين ثم قعنب ثم سويد، فأبى إلا شبيبًا، فقالوا لشبيب: قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم هذه الأشراف! فبرز إليه شبيب، وقال: إني أنشدك الله في دمك، فإن لك جوارًا. فأبى إلا قتاله، فحمل عليه شبيب فضربه بعصا حديد فيها أثنا عشر رطلا بالشأمى، فهشم بها بيضه عليه ورأسه فسقط، ثم كفنه ودفنه، وابتاع ما غنموا من عسكره، فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه وقال: هو جاري بالكوفة، ولي أن أهب ما غنمت لأهل الردة. قال عمر بن شبة: قال أبو عبيدة: كان محمد بن موسى مع عمر ابن عبيد الله بن معمر بفارس، وشهد معه قتال أبي فديك وكان ميمنته، وشهر بالنجدة وشدة البأس وزوجه عمر بن عبيد الله بن معمر ابنته أم عثمان وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان - فولاه سجستان، فمر بالكوفة وبها الحجاج بن يوسف، فقيل للحجاج: إن صار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب، منعك منه؛ قال: فما الحيلة؟ قيل: تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه وأن شبيبًا في طريقه، وأنه قد أعياك، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته. ففعل، فعدل إليه محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فواقعه شبيب، فقال له شبيب: إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك لو قد التقت حلقتا البطان قد أسلموك، فصرعت مصرع أصحابك؛ فأطعني وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن الموت؛ فأبى محمد بن موسى، فبارزه شبيب فقتله. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. قال عبد الرحمن: لقد كان فيمن بايعه تلك الليلة أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، فلما بايعه قال له شبيب: ألست أبا بردة! قال: بلى؛ قال شبيب لأصحابه: يا أخلائي، أبو هذا أحد الحكمين، فقالوا: ألا نقتل هذا؟ فقال: إن هذا لاذنب له فيما صنع أبوه؛ قالوا: أجل قال: وأصبح شبيب: فأتى مقبلا نحو القصر الذي فيه أبو الضريس وأعين فرموه بالنبل، وتحصنا منه، فأقام ذلك اليوم عليهم، ثم شخص عنهم، فقال له أصحابه: مادون الكوفة أحد يمنعنا؛ فنظر فإذا أصحابه قد جرحوا؛ فقال لهم: ما عليكم أكثر مما قد فعلتم، فخرج بهم على نفر، ثم على الصراة، ثم على بغداد، ثم خرج إلى خانيجار فأقام بها. قال: ولما بلغ الحجاج أن شبيبًا قد أخذ نحو نفر ظن أنه يريد المدائن - وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يده من أرض الكوفة أكثر - فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، ودعاه وسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعًا حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج عبد الله بن أبي عصيفير؛ وكان بها الجزل مقيمًا أشهرًا يداوي جراحته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده بكرمه، فلما قدم عثمان بن قطن المدائن لم يعده، ولم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشئ، فقال الجزل: اللهم زد ابن عصيفير جودًا وكرمًا وفضلا وزد عثمان بن قطن ضيقًا وبخلا، قال: ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال: انتخب الناس، واخرج في طلب هذا العدو، فأمره بنخبة ستة آلاف، فنتخب فرسان الناس ووجوههم، وأخرج من قومه ستمائة من كندة وحضرموت، واستحثه الحجاج بالعسكر، فعسكر بدير عبد الرحمنن فلما أراد الحجاج إشخاصهم كتب إليهم: أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء. ووليتم الدبر يوم الزحف، وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة وإني أقسم لكم بالله قسمًا صادقًا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إ يقاعًا أكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلًا، وقد أعذر من أنذر: وقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي والسلام عليكم. قال: ثم سرح ابن الأصم مؤذنه، فأتى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث عند طلوع الشمس، فقال له: ارتحل الساعة وناد في الناس: أن برئت الذمة من رجل من هذا البعث وجدناه متخلفًا. فخرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في الناس حتى مر بالمدائن فنزل يومًا وليلة، وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا، ثم أقبلوا حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل فسأله عن جراحته، وسأله ساعة وحدثه. ثم إن الجزل قال له: يا بن عم: إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم، فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم إنتصفوا مني، وكان لهم الفضل علي، وإذا خندقت علي وقاتلتهم في مديق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا في تعبية أو في خندق. ثم إنه ودعه، فقال له الجزل: هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنها لا تجارى. فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الله في طلبه، حتى إذا كان على التخوم أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه، فكتب إليه الحجاج بن يوسف: أما بعد، فاطلب شبيبًا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده. والسلام. فخرج عبد الرحمن حين قرأ كتاب الحجاج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه قد تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وأدنى المرامية، فلا يصيب له غرة ولا له علة، فيمضي ويدعه. قال: ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل إليه، جعل يخرج إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله، فينزل على مسيرة عشرين فرسخًا، ثم يقيم في أرض غليظة حزنة، فيجيء عبد الرحمن، فإذا دنا من شبيب أرتحل شبيب فسار خمسة عشر أو عشرين فرسخًا، فنزل منزلًا غليظًا خشنًا، ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. قال أبو مخنث: فحدثني عبد الرحمن بن جندب أن شبيبًا كان قد عذب ذلك العسكر وشق عليهم، وأخفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء، فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مر به على خانقين ثم على جلولاء ثم على تامرًا، ثم أقبل حتى نزل البت - قرية من قرى الموصل على تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلا نهر يسمى حولايا - قال: وجاء عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث حتى نزل في نهر حولايا وفي راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل عواقيل من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن. قال: وأرسل شبيب إلى عبد الرحمن: إن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا، فقال له عبد الرحمن: نعم، ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة. قال: وكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخى كلها خندقًا واحدًا، وخلى شبيبًا وكسر خراجها وهو يأكل أهلها. والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله إن شاء الله ناصرك عليه. والسلام. قال: وبعث الحجاج إلى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن بن محمد ومعه من أهل الكوفة وهم معسكرون على نهر حولايا قريبًا من البت. عشية الثلاثاء، وذلك يوم التروية، فنادى الناس وهو على بغلة: أيها الناس، أخرجوا إلى عدوكم. فوثب إليه الناس، فقالوا: ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال، فبت الليلة ثم اخرج بالناس على تعبية. فجعل يقول: لأجازنهم، ولتكون الفرصة لي أولهم. فأتلهم عبد الرحمن فأخذ بعنان دابته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريد من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدًا، وهو غدًا خيرًا لك وللناس. إن هذه ساعة ريح وغبرة، وقد أمسيت فانزل، ثم أبكر بنا إليهم غدوة. فنزل، فسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج فبنوا له قبة فبات فيها، ثم أصبح يوم الأربعاء، فجاء أهل البت إلى شبيب - وكان قد نزل بيعتهم - فقالوا: أصلحك الله! أنت ترحم الضعفاء وأهل الجزية، ويكلمك من تلي عليه، ويشكون إليك ما نزل بهم فتنظر لهم، وتكف عنهم، وإن هؤلاء القوم جبابرة لا يكلمون ولا يقبلون العذر، والله لئن بلغهم أنك مقيم في بيعتنا ليقتلننا إن قضي لك أن ترتحل عنا، فإن رأيت جانب القرية ولا تجعل لهم علينا مقالًا، قال: فإني أفعل ذلك بكم، ثم خرج فنزل جانب القرية. قال: فبات عثمان ليلته كلها يحرضهم؛ فلما أصبح - وذلك يوم الأربعاء - خرج بالناس فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه، فقالوا: ننشدك الله أن تخرج بنا هذا اليوم، فإن الريح علينا! فأقام بهم ذلك اليوم، وأراد شبيب قتالهم، وخرج أصحابه، فلما رآهم لم يخرجوا إليه أقام، فلما كان ليلة الخميس خرج عثمان فعبى الناس على أرباعهم، فجعل كل ربع في جانب العسكر، وقال لهم: أخرجوا على هذه التعبية، وسألهم: من كان على ميمنتكم؟ قالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي، وكان على ميسرتنا عقيل بن شداد السلولي، فدعاهما فقال لهما: قفا مواقفكما التي كنتما بها، وليتكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرا، فوالله لا أزول حتى يزول نخل راذان على أصوله. فقالا: ونحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيرًا. ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج فجعل ربع أهل المدينة تميم وهمدان نحو نهر حولايا في المسيرة، وجعل ربع كندة وربيعة ومذحج وأسد في الميمنة، ونزل يمشي في الرجال. وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلًا، فقطع إليهم النهر، فكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصاد بن يزيد أخاه، وزحفوا وسما بعضهم لبعض. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح العبسي أن عثمان كان يقول فيكثر: " لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لاتمتعون إلا قليلًا ". أين المحافظون على دينهم، المحامون عن فيئهم! فقال عقيل بن شداد بن حبشي السلولي: لعلي أن أكون أحدهم، قتل أولئك يوم روذبار. ثم قال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما ياي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولايبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري، وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني ثم المرهبي، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم: لأضربن بالحسام الباتر ** ضرب غلام من سلول صابر ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها، وعليها خالد بن نهيك بن قيس الكندي، فنزل خالد فقاتل قتالًا شديدًا، وحمل عليه شبيب من ورائه وهو على ربع كندة وربيعة يومئذ، وهو صاحب الميمنة، فلم ينثني شبيب حتى علاه بالسيف فقتله، ومضى عثمان بن قطن وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين راجلًا، فلما دنا منهم عثمان بن قطن شد عليهم في الأشراف وأهل الصبر فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضًا في خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقد كان شبيب رجلهم، فاضطربوا ساعة، وقاتل عثمان بن قطن فأحسن القتال. ثم إنهم شدوا عليهم فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب فضربه ضربة بالسيف استدار لها، ثم قال: " وكان أمر الله مفعولًا ". ثم إن الناس قتلوه، وقتل يومئذ الأبرد بن ربيعة الكندي، وكان على تل، فألقى سلاحه إلى غلامه وأعطاه فرسه، وقاتل حتى قتل. ووقه عبد الرحمن فرآه ابن أبي سبرة الجعفي وهو على بغلة فعرفه، فنزل إليه فناوله الرمح وقال له: اركب، فقال عبد الرحمن ابن محمد: أينا الرديف؟ قال ابن أبي سبرة: سبحان الله! أنت الأمير تكون المقدم، فركب وقال لابن أبي سبرة: ناد في الناس: الحقوا بدير أبي مريم، فنادى، ثم انطلقا ذاهبين، ورأى واصل بن الحارث السكوني فرس عبد الرحمن الذي حمل عليه الجزل يجول في المعسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قد هلك، فطلبه في القتلى فلم يجده، وسأل عنه فقيل له: قد رأينا رجلًا قد نزل عن دابته فحمله عليها، فما أخلقه أن يكون إياه؛ وقد أخذ هاهنا آنفًا. فأتبعه واصل بن الحارث على برذونه ومع واصل غلامه على بغل، فلما دنوا منهما قال محمد بن أبي سبرة لعبد الرحمن: قد والله لحق بنا فارسان، فقال عبد الرحمن: فهل غير اثنين؟ فقال: لا، فقال عبد الرحمن: فلا يعجز اثنان عن اثنين. قال: وجعل يحدث ابن أبي سبرة وكأنه لا يكترث بهما، حتى لحقهما الرجلان، فقال له ابن أبي سبرة: رحمك الله! قد لحقنا الرجلان، فقال له: فانزل بنا، فنزلا فانتضيا سيفهما، ثم مضيا إليهما، فلما رآهما واصل عرفهما، فقال لهما: إنكما قد تركما النزول في موضعه، فلا تنزلا الآن، ثم حسر العمامة عن وجهه، فعرفاه فرحبا به، وقال لابن الأشعث: إني لما رأيت فرسك يجول في العسكر ظننتك رجلًا، فأتيتك ببردوني هذا لتركبه، فترك لابن أبي سبرة بغلته، وركب البرذون، وانطلق عبد الرحمن بن الأشعث حتى نزل دير اليعار، وأمر شبيب أصابه فرفعوا عن الناس السيف، ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجالة فبايعوه، وقال له أبو الصقير المحملي: قتلت من الكوفيين سبعة في جوف النهر كان آخرهم رجلًا تعلق بثوبي وصاح، ورهبني حتى رهبته، ثم إني أقدمت عليه فقتلته. وقتل من كندة مائة وعشرون يومئذ وألف من سائر الناس أو ستمائة، وقتل عظم العرفاء يومئذ. قال أبو مخنف: حدثني قدامة بن حازم بن سفيان الخثعمي أنه قتل منهم يومئذ جماعة، وبات عبد الرحمن بن محمد تلك الليلة بدير اليعار، فأتاه فارسان فصعدا إليه فوق البيت، وقام آخر قريبًا منهما فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلًا يناجيه، ثم نزل هو وأصابه، وقد كان الناس يتحدثون أن ذلك كان شبيبًا، وأنه قد كان كاتبه، ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل فسار حتى أتى دير أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة صبر الشعير وألقت بعضه على بعض كأنه القصور، ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، فأكلوا يومئذ، وعلفوا دوابهم، واجتمع الناس إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد ذهب الناس وتفرقوا وقتل خيارهم فالحق أيها الرجل بالكوفة. فخرج إلى الكوفة ورجع الناس أيضًا، وجاء فاختبأ من الحجاج حتى أخذ منه الأمان بعد ذلك. نقش الدنانير والدراهم بأمر عبد الملك بن مروان وفي هذه السنة أمر عبد الملك بن مروان بنقش الدنانير والدراهم. ذكر الواقدي: أن سعد بن راشد حدثه عب صالح بن كيسان بذلك. قل: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، أن عبد الملك ضرب الدراهم والدنانير عامئذ، وهو أول من أحدث ضربها. قال: وحدثني خالد بن أبي ربيعة، عن أبي هلال، عن أبيه، قال: كانت مثاقيل الجاهلية التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة، وكان العشرة وزن السبعة. قال: وحدثني عبد الرحمن بن جرير الليثي عن هلال بن أسامة قال: سألت سعيد بن المسيب في كم تجب الزكاة من الدنانير؟ قال: في كل عشرين مثقالًا بالشأمى نصف مثقال، قلت: ما بال الشأمي من المصري؟ قال: هو الذي تضرب عليه الدنانير. وكان ذلك وزن الدنانير قبل أن تضرب الدنانير، كانت اثنين وعشرين قيراطًا إلا حبة، قال سعيد. قد عرفته، قد أرسلت بدنانير إلى دمشق فضربت على ذلك. وفي هذه السنة: وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك بن مروان وولي أبان بن عثمان المدينة في رجب. وفيها استقضي أبان بن نوفل بن مساحق بن عمرو بن خداش من بني عامر بن لؤي. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وأقام الحج للناس في هذه السنة أبان بن عثمان وهو أمير على المدينة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي. وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. ثم دخلت سنة سبع وسبعين محاربة شبيب عتاب بن ورقاء وزهرة بن حوية وقتلهما ففي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية ذكر الخبر عن سبب مقتلهما وكان سبب ذلك فيما ذكر هشام عن أبي مخنف، عن عبد الرحمن ابن جندب وفروة بن لقيط، أن شبيبًا لما هزم الجيش الذي كان الحجاج وجهه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إليه، وقتل عثمان ابن قطن، ذلك في صيف وحر شديد، اشتد الحر عليه وعلى أصحابه. فأتى ماه بهزاذان فتصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا فلحقوا به. وناس ممن كان الحجاج يطلبهم الحجاج بمال أو تباعات؛ كان منهم رجل من الحي يقال له الحر بن عبد الله بن عوف. وكان دهقانان من أهل نهر درقيط قد أساءا إليه وضيقا عليه، فشد عليهما فقتلهما، ثم لحق بشبيب فكان معه بماه، وشهد معه مواطنه حتى قتل. فلما آمن الحجاج كل من كان خرج إلى شبيب من أصحاب المال والتباعات - و1لك بعد يوم السبخة - خرج إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج. فأتى به فدخل. وقد أوصى ويئس من نفسه، فقال له الحجاج. يا عدو الله. قتلت رجلين من أهل الخراج! فقال له: قد كان أصلحك الله ما هو أعظم من هذا. فقال: وما هو؟ قال: خروجي من الطاعة وفراق الجماعة. ثم آمنت كل من خرج إليك، فهذا أماني وكتابك لي. فقال له الحجاج: أولى لك! قد لعمري فعلت، وخلى سبيله. قال: ولما انفسخ الحر عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة. فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب ماذرواسب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن شبيبًا قد أقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ولا أدري أين يريد! فلما قرأ الحجاج كتابه قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأبصر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم. فقام إليه الناس من كل جانب، وقالوا نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليند بنا الأمير إليهم فإنا حيث سره. وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ كبير لا يستم قائمًا حتى يؤخذ بيده. فقال له: أصلح الله الأمير! إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة فلينفروا إليهم كافة، وأبعث عليهم رجلًا ثبتًا شجاعًا مجربًا للحرب ممن يرى الفرار هضمًا وعارًا والصبر مجدًا وكرمًا. فقال الحجاج: فأنت ذاك فاخرج، فقال: أصلح الله الأمير! إنما يصلح للناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئًا، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إما أثبت على الراحلة فأكون نع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي. فقال له الحجاج: جزاك الله عن الإسلام وأهله في أول الإسلام خيرًا، وجزاك الله عن الإسلام في آخر الإسلام خيرًا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة. ألا فسيروا أيها الناس. فانصرف الناس وليس يدرون من هو أميرهم! وكتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن شبيبًا قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم. ويفل جنودهم؛ فإن رأي أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم فليفعل. والسلام. فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين. فسرحهم حين أتاه الكتاب إلى الحجاج. وجعل أهل الكوفة يتجهزون إلى شبيب ولا يدرون من أميرهم! وهم يقولون: يبعث فلانًا أو فلانًا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه وهو على خيل الكوفة مع المهلب، وقد كان ذلك الجيش من أهل الكوفة هم الذين كان بشر بن مروان بعث عبد الرحمن بن مخنف عليهم إلى قطري. فلم يلبث عبد الرحمن بن مخنف إلا نحوًا من شهرين حتى قدم الحجاج على العراق. فلم يلبث عليهم عبد الرحمن بن مخنف بعد قدوم الحجاج إلا رجب وشعبان. وقتل قطري عبد الرحمن في آخر رمضان. فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك الجيش من أهل الكوفة الذين أصيب فيهم عبد الرحمن ابن مخنف، وأمر الحجاج عتابًا بطاعة المهلب، فكأن ذلك قد كبر على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك الجيش ويضمه إليه، فلما أن جاء كتاب الحجاج بإتيانه سر بذلك، قال: ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة؛ فيهم زهرة بن حوية السعدي من بني الأعرج، وقبيصة بن والق التغلبي، فقال لهم: من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ فقلوا: رأيك أيها الأمير أفضل؛ قال: فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء؛ وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة فيكون هو الذي يسير في الناس؛ قال زهرة بن حوية: أصلح الله الأمير! رميتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل وقال له قبيصة بن والق: إني مشير عليك برأيي، فإن يكن خطأ فبعد اجتهادي في النصيحة لأمير المؤمنين وللأمير ولعامة المسلمين، وإن يك صوابًا فا لله سد دني له؛ إنا قد تحدثنا وتحدث الناس أن جيشًا قد فصل إليك من قبل الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وفلوا واستخفوا بالصبر، وهان عليهم عار الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم، كأنما هي في قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يبيتوا إلا وهم يرون أنهم مبيتون فعلت، فإنك تحارب حولا قلبًا، ظعانًا رحالا، وقد جهزت إليه أهل الكوفة ولست واثقًا بهم كل الثقة، وإنما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام، إن شبيبًا بينا هو في أرض إذ هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهو غارون فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق، فقال: لله أنت! ما أحسن ما رأيت! وما أحسن ما أشرت به علي! قال: فبعث عبد الرحمن بن الغرق مولى عقيل إلى من أقبل من أهل الشام. فأتاهم وقد نزلوا هيت بكتاب من الحجاج: أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله، وخذوا حذركم، وعجلوا السير. والسلام. فأقبل القوم سراعًا. قال: وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه قادم عليكم فيها. فأمره الحجاج فخرج بالناسفعسكر بهم بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهر سير الدنيا. فصار بينه وبين مطرف بن المغيرة ابن شعبة جسر دجلة. فلما نزل شبيب مدينة بهرسير قطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب: أن ابعث إلى رجالا من وجوه أصحابك أدارسهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه، فبعث إليه شبيب رجالا من وجوه أصحابه؛ فيهم قعنب وسويد والمحلل، فلما أرادوا أن ينزلوا في السفينة بعث إليهم شبيب ألا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلى رسول من عند مطرف، فرجع الرسول، وبعث إلى مطرف أن ابعث إلى من أصحابك بعدد أصحابي يكونوا رهنًا في يدي حتى ترد علي أصحابي. فقال مطرف لرسوله: القه وقل له: كيف آمنك أنا على أصحابي إذا أنا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فرجع الرسول إلى شبيب فأبلغه، فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم تفعلونه وتستحلونه، فبعث إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي وسليمان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني ويزيد بن أبي زياد مولاه وصاحب حرمه، فلما صاروا في يدي شبيب سرح إليه أصحابه، فأتوا مطرف فمكثوا أربعة أيام يتراسلون، ثم لم يتفقوا على شئ، فلما تبين لشبيب أن مطرفًا غير تابعه ولا داخل معه تهيأ للمسير إلى عتاب بن ورقاء وإلى أهل الشام. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شعيبًا دعا رءوس أصحابه فقال لهم: إنه لم يثبطني على رأي قد كنت رأيته إلا هذا الثقفي منذ أربعة أيام، قد كنت حدثت نفسي أن أخرج في جريدة خيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام رجاء أن أصادف غرتهم أو يحذروا فلا أبالي كنت ألقاهم منقطعين من المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا مصر كالكوفة يعتصمون به؛ وقد جاءتني عيوني اليوم فخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءتني عيوني من نحو عتاب بن ورقاء فحدثوني أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة الصراة، فما أقرب بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب بن ورقاء. قال: وخاف مطرف أن يبلغ خبره وما كان من إرساله إلى شبيب الحجاج، فخرج نحو الجبال، وقد كان أراد أن يقيم حتى ينظر ما يكون بين شبيب وعتاب. فأرسل إليه شبيب: أما إذ لم تبايعني فقد نبذت إليك على سواء، فقال مطرف لأصحابه: اخرجوا بنا وافرين فإن الحجاج سيقاتلنا، فيقاتلنا وبنا قوة أمثل. فخرج ونزل المدائن؛ فعقد شبيب الجسر، وبعث إلى المدائن أخاه مصادًا، وأقبل إليه عتاب حتى نزل بسوق حكمة، وقد أخرج الحجاج جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم، ومن نشيط إلى الخروج من شبابهم، وكانت مقاتلتهم أربعين ألفًا سوى الشباب، ووافى مع عتاب يومئذ أربعون ألفًا من المقاتلة وعشرة آلاف من الشباب بسوق حكمة فكانوا خمسين ألفًا، ولم يدع الحجاج قرشيًا ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعت الحجاج وهو على منبر حين وجه عتابًا إلى شبيب في الناس وهو يقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا، ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة. والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي كانت لأولينكم كنفًا خشنًا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل. ثم نزل، وتوافى الناس مع عتاب بسوق حكمة. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: عرضنا شبيب بالمدائن فكنا ألف رجل، فقام فينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر المسلمين، إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان وأكثر من ذلك قليلا، وأنقص منه قليلا، فأنتم اليوم مئون ومئون، ألا إني مصل الظهر ثم سائر بكم، فصلى الظهر ثم نودي في الناس: يا خيل الله اركبي وأبشري، فخرج في أصحابه، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون، فلما جاوزنا ساباط ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة ساعة طويلة، ثم أمر مؤذن فأذن، ثم تقدم فصلى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بناعلى عتاب بن روقاء وأصحابه، فلما أن رآهم من ساعته نزل وأمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا المغرب، وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني. وكانت عيون عتاب بن ورقاء قد جاءوه فأخبروه أنه قد أقبل إليه، فخرج بالناس كلهم فعبأهم، وكان قد خندق أول يوم نزل، وكان يظهر كل أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن، فبلغ ذلك شبيبًا، فقال: أسير إليه أحب إلى من أن يسير إلى، فأتاه، فلما صف عتاب الناس بعث على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا بن أخي، إنك شريف فاصبر وصابر، فقال: أما أنا فوالله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق - وكان يومئذ على ثلث بني تغلب: اكفني الميسرة فقال: أنا شيخ كبير، كثير من أن أثبت تحت رايتي، قد أنيت مني القيام، ما أستطيع القيام إلا أن أقام؛ ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ونعيم بن عليم التغلبيان - وكان كل واحد منهما على ثلثي من أثلاث تغلب - فقال: ابعث أيهما أحببت، فأيهما بعثت فلبتعثن ذا حزم وعزم وغناء. فبعث نعيم بن عليم على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي - وهو ابن عم عتاب شيخ أهل بيته - على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم الرجال معهم السيوف، وصف وهم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية، ثم سار فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية؛ فيحثهم على تقوى الله، ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم. قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله أن تميم بن الحارث الأزدي قال: وقف علينا فقص علينا قصصًا كثيرًا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات؛ قال: يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبًا في الجنة الشهداء. وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: " واصبروا إن الله مع الصابرن "! فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي؛ ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله! فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار، أين القصاص؟ قال ذلك فلم يجيبه والله أحد منا؛ فلما رآى ذلك، قال: أين من يروي شعر عنترة؟ قال: فلا والله مرد عليه إنسان كلمةً، فقال: إنا لله! كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث وأبو بكر من محمد بن أبي جهم العدوي، وأقبل شبيب وهو في ستمائة وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا. فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المحلل بن وائل إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذا الريات؟ قالوا: رايات ربيعة، فقال: شبيب: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت الباطل، لها في كل نصيب، والله لأجاهدنكم محتسبًا للخير في جهادكم، أنتم ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدله، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم وهو على مسناة أمام الخندق ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق بن الحليس ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها وتنادى أناس من بني تغلب: قتل قبيصة بن والق. فقال شبيب: قتلتم قبيصة بن والق التغلبي يا معشر المسلمين! قال الله: " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان منا الغاوين "، هذا مثل ابن عمكم قبيصة بن والق، أتى رسول الله ﷺ فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الكافرين! ثم وقف عليه فقال: ويحك! لو ثبت على إسلامك الأول سعدت، ثم حمل من الميسرة على عتاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتل في الميمنة رجال من بني تميم وهمدان، فأحسنوا القتال، فما زالوا كذلك حتى أتوا فقيل لهم: قتل عتاب بن ورقان، فانفضوا، ولم يزل عتاب جالسًا على طنفسة في القلب وزهرة بن حورية معه، إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: يا زهرة بن حوية، هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من نحو رجال تميم معي من جميع الناس! ألا صابر لعدوه! ألا مؤاس بنفسه! فانفضوا عنه وتركوه، فقال له زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلًا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا؛ فقال له: جزاك الله خيرًا من جزى آمرًا بمعروف وحاثًا على تقوى. فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة صبرت معه قليلة، وقد ذهب الناس يمينًا وشمالًا، فقال له عمار بن يزيد الكلبي من بني المدينة: أصلحك الله! إن عبد الرحمن بن محمد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير، فقال له: قد فر قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط موطنًا لم أبتل بمثله قط أقل مقاتلًا ولا أكثر هاربًا خاذلًا؛ فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب من بني زيد بن عمرو يقال له عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وكان قد أصاب دمًا في قومه، فلحق بشبيب، وكان من الفرسان، فقال لشبيب: والله إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء! فحمل عليه فطعنه، فوقع فكان هو ولي قتله. ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لايستطيع أن يقوم، فجاء الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فوجده صريعًا فعرفه، فقال: من قتل هذا؟ فقال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهرة حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد ذعرتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرًا للظالمين! قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط قال: رأيناه والله توجع له، فقال رجل من شبان بكر بن وائل: والله إن أمير المؤمنين منذ الليلة ليتوجع لرجل من الكافرين! قال: إنك لست بأعرف بضلالهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم مالا تعرف؛ ما لو ثبتوا عليه كانوا إخوانًا. وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي، وقتل أبو خثيمة بن عبد الله يومئذ، واستمكن شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعا إلى البيعة، فبايعه الناس من ساعتهم، وهربوا من تحت ليلتهم، وأخذ شبيب يبايعهم، ويقول إلى ساعة يهربون. وحوى شبيب على ما في العسكر، وبعث إليه أخيه، فأتاه من المدائن، فلما وافاه بالعسكر أقبل إلى الكوفة وقد أقام بعسكره ببيت قرة يومين، ثم توجه نحو وجه أهل الكوفة، وقد دخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج فيمن معهما من أهل الشام الكوفة، فشدوا للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبر الكوفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملًا، ومن لم يكن شهد قتل عتاب بن ورقاء. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: والله لخرجنا نتبع آثار الناس، فانتهى إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وهما يمشيان كأني أنظر إلى رأس عبد الرحمن قد امتلاُ طينًا، فصددت عنهما، وكرهت أن أذعرهما، ولو أني أوذن بهما أصحاب شبيب لقتلا مكانهما، وقلت في نفسي: لئن سقت إلى مثلكما من قومي القتل ما أنا برشيد الرأي؛ وأقبل شبيب حتى نزل الصراة. قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن سوار أن شبيبًا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سوار، فندب الناس، فقال: أيكم يأتي برأس عامل سوار؟ فانتدب له بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، فساروا مغذين حتى انتهوا إلى دار الخراج والعمال في سمرجة فدخلوا الدار وقد كادوا الناس بأن قالوا: أجيبوا الأمير، فقالوا: أي الأمراء؟ قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبًا، فاغتر بذلك العامل منهم. ثم إنهم شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه فضربوا عنقه، وقبضوا على ما كان من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين، هلم الحربة يا غلام، فخرق بها البدور، وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء. ثم خرج إليه سفيان بن الأبرد مع الحجاج، وكان اتاه قبل خروجه معه، فقال: إبعثني أستقبله قبل أن يأتيك، فقال: ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا. ذكر الخبر عن دخول شبيب الكوفة مرة ثانية وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة دخلته الثانية. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من حربه بها الحجاج قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن موسى بن سوار، قال: قدم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف من الدسكرة الكوفة بعدما قدم جيش الشام الكوفة، وكان مطرف بن المغيرة كتب إلى الحجاج: إن شبيبًا قد أطل علي، فابعث إلى المدائن بعثًا. فبعث إليه سيرة بن عبد الرحمن ابن مخنف في مائتي فارس، فلما خرج مطرف يريد الجبل خرج بأصحابه معه وقد أعلمهم ما يريد، وكتم ذلك سبرة، فلما انتهى إلى دسكرة الملك دعا سبرة فأعلمه ما يريدن ودعا إلى أمره، فقال له: نعم أنا معك، فلما خرج من عنده بعث إلى أصحابه فجمعهم، وأقبل بهم فصادف عتاب ابن ورقاء قد قتل وشبيبًا قد مضى إلى الكوفة، فأقبل حتى انتهى إلى قرية يقال لها بيطرى، وقد نزل شبيب حمام عمر، فخرج سبرة حتى يعبر الفرات في معبر قرية شاهي، ثم أخذ الظهر حتى قدم على الحجاج، فوجد أهل الكوفة مسخوطًا عليهم، فدخل على سفيان بن الأبرد، فقص قصته عليه وأخبره بطاعته وفراقه مطرفًا، وانه لم يشهد عتابًا ولم يشهد هزيمة في مواطن أهل الكوفة، ولم أزل للأمير عاملًا، ومعي مائتا رجل لم يشهدوا معي هزيمة قط، وهم على طاعتهم ولم يدخلوا في فتنة. فدخل سفيان إلى الحجاج فخبره بخبر ما قص عليه سبرة بن عبد الرحمن، فقال: صدق وبر! قل له: فليشهد معنا لقاء عدونا، فخرج إليه فأعلمه ذلك. وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمام أعين، ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتاب، ورجال كانوا عمالًا في نحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في نحو من ألف، فنزل زرارة، وبلغ ذلك شبيبًا، فتعجل إليه في أصحابه، فلما أنتهى إليه حمل عليه فقتله، وهزم أصحابه، وجاءت المنهزمة فدخلوا الكوفة. وجاء شبيب حتى قطع الجسر، وعسكر دونه إلى الكوفة، وأقام شبيب في عسكره ثلاثة أيام؛ فلم يكن في أول يوم إلا قتل الحارث بن معاوية، فلما كان في اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه وغلمانه عليهم السلاح، فأخذوا بأفواه السكك مما يلي الكوفة، وخرج أهل الكوفة فأخذوا بأفواه سككهم، وخشوا إن لم يخرجوا موجدة الحجاج وعبد الملك بن مروان. وجاء شبيب حتى ابتنى مسجدًا في أقصى السبخة مما يلي موقف أصحاب القت عند الإيوان، وهو قائم حتى الساعة، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج ابا الورد مولىً له عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة وغلماناُ له، وقالوا له: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحمتكم منه. ثم إن الحجاج أخرج له غلامه طهمان في مثل تلك العدة على مثل تلك الهيئة، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال إن كان هذا الحجاج فقد أرحمتكم منه. ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فقال: ائتوني ببغل أركبه ما بينى وبين السبخة، فأتى ببغل محجل، فقيل له: إن الأعاجم أصلحك الله تطير أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل، فقال: أدنوه منى، فإن اليوم يوم أغر محجل؛ فركبه ثم خرج في أهل الشام حتى أخذ في سكة البريد، ثم خرج في أعلى السبخة، فلما نظر الحجاج إلى شبيب وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فلما رأى الحجاج قد خرج إليه أقبل بأصحابه، وجاء سبرة بن عبد الرحمن إلى الحجاج فقال: أين يأمرني الأمير أن أقف؟ فقال: قف على أفواه السكك، فإن جاءوكم فكان فيكم قتال فقاتلوا، فانطلق حتى وقف في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة، فجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء. وأقبل إليهم شبيب حتى إذا دنى منهم عبى أصحابه ثلاثة كراديس، كتيبة معه، وكتيبة مع سويد بن سليم، وكتيية مع المحلل بن وائل، فقال لسويد. احمل عليهم في خيلكن فحمل عليهم، فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدمًا حتى انصرف، وصاح الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا. قدم كرسي يا غلام، وأمر شبيب المحلل. فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعلوا بسويد، فناداهم الحجاج: يا أهل السمع والطاعة؛ هكذا فافعلوا، قدم كرسي يا غلام. ثم إن شبيبًا حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له، حتى إذا غشى أطراف الرماح وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلًا. ثم إن أهل الشام طعنوه قدمًا حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد، احمل في خيلك على أهل هذه السكة - يعني سكة لحام جرير - لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه. فانفرد سويد بن سليم فحمل على أهل تلك السكة؛ فرمى من فوق البيوت رأفواه السكك، فانصرف، وقد كان الحجاج جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلثمائة رجل من أهل الشام ردءًا له ولأصحابه لئلا يؤتوا من ورائه. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط: إن شبيبًا قال لنا يومئذ: يا أهل الإسلام إنما شرينا الله. ومن شرى الله لم يكبر عليه ما أصابه من أذى والألم في جنب الله. الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة. ثم جمع أصحابه، فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه: يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة. ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح. فجثوا على الركب. وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه. فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس. فوثبوا في وجه، فما زالوا يطعنون ويضربون قدمًا ويدفعون شبيبًا وأصابه وهو يقاتلهم حتى بلغوا موضع بستان زائدة. فلما بلغ ذلك المكان نادى شبيب أصحابه: يا أولياء الله، الأرض الأرض. ثم نزل وأمر أصحابه فنزل نصفهم وترك نصفهم مع سويد بن سليم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبث، ثم قال: يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، هذا أول الفتح والذي نفس الحجاج بيده! وصعد المسجد معه نحو من عشرين رجلًا معهم النبل، فقال: إن دنوا منا فارشقوهم، فاقتتلوا عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه. ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: إئذن لي في قتالهم فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحة، قال: فإني قد أذنت لك، قال: فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم، فقال له: افعل ما بدا لك، قال: فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادًا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، قتلها فروة بن الدفان الكلبي، وحرق في عسكره، وأتى ذلك الخبر الحجاج وشبيبًا، فأما الحجاج وأصحابه فكبروا تكبيرة واحدة، وأما شبيب فوثب هو وكل راجل معه على خيولهم، وقال الحجاج لأهل الشام: شدوا عليهم فإنه قد أتاهم ما أرعب قلوبهم. فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. قال هشام: فحدثني أصغر الخارجي، قال: حدثني من كان مع شبيب قال: لما انهزم الناس فخرج من الجسر تبعه خيل الحجاج، قال: فجعل يخفق برأسه، فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك؛ قال: فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه؛ قال: ودنوا منا؛ فقلنا يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك، قال: فالتفت والله غير مكترث، ثم جعل يخفق برأسه. قال: فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق الله وناره، فتركوه ورجعوا. قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني أبو عمرو العذرى، قال: قطع شبيب الجسر حين عبر. قال: وقال لي فروة: كنت معه حين انهزمنا فما حرك الجسر، ولا اتبعونا حتى قطعنا الجسر. ودخل الحجاج الكوفة، ثم صعد المنبر فحمد الله، ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هاربًا، وترك امرأته يكسر في أستها القصب. وقد قيل في قتال الحجاج شبيبًا بالكوفة ما ذكره عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن المغيرة بن عطية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا مزاحم بن زفر بن جساس التيمي، قال: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه وهو على سرير عليه لحاف، فقال: إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشير علي؛ إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم، ودخل حريمكم، وقتل مقاتلتكم، فأشيروا على؛ فأطرقوا. وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: إن أذن لي الأمير تكلمت، فقال: تكلم، فقال: إن الأمير والله ما راقب الله، ولا حفظ أمير المؤمنين. ولا نصح للرعية. ثم جلس بكرسيه في الصف. قال: وإذا هو قتيبة، قال: فغضب الحجاج وألقى اللحاف، ودلى قدميه من السرير كأني أنظر إليهما؛ فقال: من المتكلم؟ قال: فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج إليه فتحاكمه؛ قال: فارتد لي معسكرًا ثم اغد إلى، قال: فخرجنا نلعن عنسبة بن سعيد، وكان كلم الحجاج في قتيبة، فجعله من أصحابه، فلما أصيحنا وقد أوصينا جميعًا. غدونا في السلاح، فصلى الحجاج الصبح ثم دخل، فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة فيقول: أجاء بعد؟ أجاء بعد؟ ولا ندري من يريد! وقد أفعمت المقصورة بالناس، فخرج الرسول فقال: أجاء بعد؟ وإذا قتيبة يمشي في المسجد عليه قباء هروى أصفر، وعمامة خز أحمر، متقلدًا سيفًا عريضًا قصير الحمائل كأنه في إبطه، قد أدخل بركة قبائه في منطقته، والدرع يصفق ساقيه وفتح له الباب فدخل ولم يحجب، فلبث طويلًا ثم خرج، وأخرج معه لواءً منشورًا. فصلى الحجاج ركعتين، ثم قام فتكلم، وأخرج اللواء من باب الفيل. وخرج الحجاج يتبعه، فإذا بالباب بغلة شقراء غراء محجلة فركبها، وعارضه الوصفاء بالدواب، فأبى غيرها. وركب الناس. وركب قتيبة فرسًا أغر محجلا كوميتًا كأنه في سرجه رمانة من عظم السرج، فأخذ في طريق دار السقاية حتى خرج إلى السبخة وبها عسكر شبيب، وذلك يوم الأربعاء، فتواقفوا، ثم غدوا يوم الخميس للقتال، ثم غادوهم يوم الجمعة. فلما كان وقت الصلاة انهزمت الخوارج. قال أبو زيد: حدثني خلاد بن يزيد، قال: حدثنا الحجاج بن قتيبة، قال: جاء شبيب وقد بعث إليه الحجاج أميرًا فقتله، ثم آخر فقتله. أحدهما أعين صاحب حمام أعين، قال: فجاء حتى دخل الكوفة ومعه غزالة، وقد كانت نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران. قال: ففعلت. قال: واتخذ شبيب في عسكره أخصاصًا، فقام الحجاج فقال: لا أراكم تناصحون في قتال هؤلاء القوم يا أهل العراق! وأنا كاتب إلى أمير المؤمنين ليمدني بأهل الشام. قال: فقام قتيبة فقال: إنك لم تنصح لله ولا لأمير المؤمنين في قتالهم. قال عمر بن شبة: قال خلاد: فحدثني محمد بن حفص بن موسى ابن عبيد الله بن معمر بن عثمان التميمي أن الحجاج خنق قتيبة بعمامته خنقًا شديدًا. ثم رجع الحديث إلى حديث الحجاج وقتيبة. قال: فقال: وكيف ذاك؟ قال: تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعًا من الناس فينهزمون عنه. ويستحي فيقاتل حتى يقتل؛ قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيؤاسونك بأنفسم. قال: فلعنه من ثم. وقال: والله لأبرزن له غدًا؛ فلما كان الغد حضر الناس، فقال قتيبة: اذكر يمينك أصلح الله الأمير! فلعنوه أيضًا. وقال الحجاج: اخرج فارتد لي معسكرًا، فذهب فتهيأ وهو وأصحابه فخزجوا، ف أتى على موضع فيه بعض القذر: موضع كناسة، فقال: ألقوا لي هاهنا. فقيل: إن الموضع قذر، فقال: ما تدعونني إليه أقذر، الأرض تحته طيبة، والسماء فوقه طيبة. قال: فنزل وصف الناس وخالد بن عتاب بن ورقاء مسخوط عليه فليس في القوم، وجاء شبيب وأصحابه فقربوا دوابهم، وخزجوا يمشون، فقال لهم شبيب: الهوا عن رميكم، ودبوا تحت تراسكم، حتى إذا كانت أسنتهم فوقها، فأصدقوها صعدًا، ثم ادخلوا تحتها لتستقلوا فتقطعوا أقدامهم، وهي الهزيمة بإذن الله. فأقبلوا يدبون إليهم. وجاء خالد بن عتاب في شاكريته، فدار من وراء عسكرهم، فأضرم أخصاصهم بالنار. فلما رأوا ضوء النار وسمعوا معمعتها التفتوا فرأوها في بيوتهم، فولوا إلى خيلهم وتبعهم الناس، وكانت الهزيمة. ورضي الحجاج عن خالد، وعقد له على قتالهم. قال: ولما قتل شبيب عتابًا أراد دخول الكوفة ثانية، فأقبل حتى شارفها فوجه إليه الحجاج سيف بن هانىء ورجلًا معه ليأتياه بخبر شبيب، فأتيا عسكره، ففطن بهما، فقتل الرجل، وأفلت سيف، وتبعه رجل من الخوارج، فأوثب سيف فرسه ساقية، ثم سأل الرجل الأمان على أن يصدقه، فآمنه، فأخبره ان الحجاج بعثه وصاحبه ليأتياه بخبر شبيب. قال: فأخبره أنا نأتيه يوم الاثنين. فأتى سيف الحجاج فأخبره؛ فقال: كذب وماق، فلما كان يوم الاثنين توجهوا يريدون الكوفة، فوجه إليهم الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي، فلقيه شبيب بزرارة فقتله، وهزم أصحابه ودنا من الكوفة فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلًا على شاطىء الفرات في دار الرزق. فأقبل البطين وقد وجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقوى عليهم، فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه ونجا، ومضى البطين إلى دار الرزق، وعسكر على شاطىء الفرات. وأقبل شبيب فنزل دون الجسر، فلم يوجه إليه الحجاج أحدًا، فمضى فنزل السبخة بين الكوفة والفرات، فأقام ثلاثًا لا يوجه إليه الحجاج أحدًا، فأشير على الحجاج ان يخرج بنفسه، فوجه قتيبة بن مسلم، فهيأ له عسكرًا ثم رجع، فقال: وجدت المآتي سهلًا، فسر على الطائر الميمون؛ فنادى في أهل الكوفة فخرجوا، وخرج معه الوجوه حتى نزلوا في ذلك العسكر وتواقفوا، وعلى ميمنة شبيب البطين. وعلى ميسرته قعنب مولى بني أبي ربيعة بن ذهل، وهو في زهاء مائتين. وجعل الحجاج على ميمنته مطر بن ناجية الرياح. وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء الرياح في زهاء أربعة آلاف. وقيل له: لاتعرفه موضعك، فتنكر وأخفي مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب، فحمل عليه، فضربه بعمود وزنه خمسة عشر رطلًا فقتله، وشبه له أعين صاحب حمام أعين بالكوفة، وهو مولىً لبكر بن وائل فقتله، فركب الحجاج بغلة غراء محجلة، وقال: إن الدين أغر محجل، وقال لأبي كعب: قدم لواءك، أنا ابن أبي عقيل. وحمل شبيب على خالد بن عتاب وأصحابه، فبلغ بهم الرحبة، وحملوا على مطر بن ناجية فكشفوه، فنزل عند ذلك الحجاج وأمر أصحابه فنزلوا، فجلس على عباءة ومع عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلول الضبي لجام شبيب؛ فقال: ما تقول في صالح بن مسرح؟ وبم تشهد عليه؟ قال: أعلى هذا الحال، وفي هذه الحزة؟! والحجاج ينظر، قال: فبرىء من صالح، فقال مصقلة: برىء الله منك. وفلرقوه إلا أربعين فارسًا هم أشد أصحابه، وانحاز الآخرون إلى دار الرزق؛ وقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتاهم فقاتلهم، فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج فارس فعرفه شبيب، فأمر علوان فشد على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ودفنه وقال: هي أقرب إليكم رحمًا - يعني غزالة. ومضى القوم على حاميتهم، ورجع خالد إلى الحجاج فأخبره بانصراف القوم. فأمره أن يحمل على شبيب فحمل عليهم. وأتبعه ثمانية، منهم قعنب والبطين وعلوان وعيسى والمهذب وابن عويمر وسنان، حتى بلغوا به الرحبة، وأتى شبيب في موقفه بخطوط بني عمير السدوسي. فقال له شبيب: يا خوط، لاحكم إلا لله، فقال: لاحكم إلا لله، فقال شبيب: خوط من أصحابكم. ولكنه كان يخاف، فأطلقه. وأتى بعمير بن القعقاع، فقال له: لاحكم إلا لله يا عمير، فجعل لايفقه عنه، ويقول: في سبيل الله شبابي. فردد عليه شبيب: لاحكم إلا لله. ليتخلصه، فلم يفقه، فأمر بقتله، وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر النفر الذين تيعوا خالدًا فأبطئوا. ونعس شبيب فأيقظه حبيب بن خدرة، وجعل أصحاب الحجاج لايقدمون عليه هيبة له، وسار إلى دار الرزق، فجمع رثة من قتل من أصحابه، وأقبل الثمانية إلى موضع شبيب فلم يجدوه، فظنوا أنهم قتلوه، ورجع مطر وخالد إلى الحجاج فأمرهما فأتبعا الرهط الثمانية. واتبع الرهط شبيبًا، فمضوا جميعًا حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرًا هناك وخالد يقفوهم. فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحوًا من فرسخين حتى ألقوا أنفسهم في دجلة بخيلهم، وألقى خالد نفسه بفرسه فمر به ولواؤه في يده، فقال شبيب: قاتله الله فارسًا وفرسه! هذا أشد الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض؛ فقيل له: هذا خالد بن عتاب، فقال: معرق له في الشجاعة؛ والله لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف، عن أبي عمرو العذري، أن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال: والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولى الله هاربًا، وترك امرأته يكسر في أستها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في أثره ثلاثة آلاف من أهل الشام، فقال له الحجاج: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله قد فل حده، وقصم نابه. فخرج حبيب بن عبد الرحمن في أثر شبيب حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن؛ فكان كل من ليست تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، وقبل ذلك ما قد نادى فيهم الحجاج يوم هزموا: عن من جاءنا منكم فهو آمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيبًا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى إذا دنا من عسكرهم نزل فصلى بهم المغرب. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في أهل الشام ليلة جاءنا شبيب بيتنا. قال: فلما أمسينا جميعًا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعًا. وقال لكل ربع منا: ليجزي كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يغثهم هذا الربع الآخر، فإنه قد بلغني أن هذه الخوارج منا قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون؛ فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب فبيتنا، فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري فضاربهم طويلًا، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر، وقد جعل عليهم سعيدبن بحل العامري فقاتلهم، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر وعليهم النعمان بن سعيد الحميري فما قدر منهم على شيء، ثم أقبل على الربع الآخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي فقاتلهم طويلًا، فلم يظفر بشيء، ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألز بنا حتى قلنا، لايفارقنا، ثم نازلنا راجلًا طويلًا، فسقط والله بيننا وبينهم الأيدي، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، قتلنا منهم نحوًا من ثلاثين، وقتلوا منا نحوًا من مائة، والله لو كانوا فيما نرى يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وايم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهونا وكرهناهم، ولقد رأيت الرجل منا يضرب بسيفه الرجل منهم فما يضره شئ من الإعياء والضعف، ولقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسًا ينفح بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء، فلما يأسوا منا ركب شبيب ثم قال لمن كان نزل من أصحابه: أركبوا، فلما استووا على متون خيولهم وجه منصرفًا عنا. قال أبو مخنف: حدثني فروة بن لقيط، عن شبيب، قال: لما انصرفنا عنهم وبنا كآبة شديدة، وجراحة ظاهرة، قال لنا: ما أشد هذا الذي لو كنا إنما نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في ثواب الله! فقال أصحابه: صدقت يا أمير المؤمنين، قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم ولا مقاتلته له: قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، ولآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال: كأنك لم تشتر علفًا، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، فقلت له: أين ترى عدونا هذا نزل؟ قال: بلغني أنه قد نزل منا قريبًا، وايم الله لوددت اني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم، قلت: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت سيفي، فخر والله ميتًا، فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو مات، فانصرفت راجعًا، فأستقبل الآخر خارجًا من القرية، قال: أين تذهب هذه الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم! فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، وأتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه فقلت له: ما لك؟ فقال: أنت والله من عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي، فاضربنا بسيفنا ساعة، فوالله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته؛ قال: فمضينا حتى قطعنا دجلة، ثم أخذنا في أرض جوخى حتى قطعنا دجلة مرة أخرى من عند واسط، ثم أخذنا إلى الأهواز ثم إلى فارس، ثم ارتفعنا إلى كرمان. ذكر الخبر عن مهلك شبيب وفي هذه السنة في قول هشام بن محمد، وفي قول غيره كان هلاكه سنة ثمان وسبعين. ذكر سبب هلاكه قال هشام: عن أبي مخنف: قال: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أقفلنا الحجاج إليه - يعني إلى شبيب - فقسم فينا مالًا عظيمًا، وأعطى كل جريح منا وكل ذي بلاء، ثم أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، فتجهز سفيان، فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسان أصحابه! فأمضى سفيان بعد شهرين، وأقام شبيب بكرمان، حتى إذا انجبر واستراش هو وأصحابه أقبل راجعًا، فيستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وقد كان الحجاج كتب إلى الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو زوج ابنة الحجاج وعامله على البصرة. أما بعد، فابعث رجلًا شجاعًا شريفًا من أهل البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع. فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان وشبيب، ولما أن التقيا بجسر دجيل عبر شبيب إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مهاصر بن صيفي العذري على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسان الفهري، وبعث على ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري، فأقبل شبيب في ثلاثة كراديس من أصحابه، وهو كتيبة وسويد في كتيبة، وقعنب المحلمي في كتيبة، وخلف المحلل بن وائل في عسكره. قال: قلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته على ميمنته حمل هو على سفيان، فاضطربنا طويلًا من النهار، حتى انحازوا فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه. فكر علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، كل ذلك لا نزول من صفنا. وقال لنا سفيان بن الأبرد: لاتنصرفوا. ولكن لتزحف الرجال إليهم زحفًان فوالله لازلنا نطاعنهم ونضاربهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فلما اتنهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم حتى المساء أشد قتال قاتله قوم قط، فما هو إلا أن نزلوا فأوقعوا لنا من اطعن والضرب شيئًا ما رأينا مثله من قوم قط. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن من ذلك ظفرهم. دعا الرماة فقال: ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل بالنبل عند المساء، وقد صفهم سفيان بم الأبرد على حدة، وبعث على المرامية رجلًا، فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم، فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم، فشغلناهم عنهم، فلما رموا بالنبل ساعة ركب شبيب وأصحابه ثم كروا على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلًا، ثم عطف بخيله علينا، فمشى عامدًا نحونا؛ فطاعناه حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا. فقال سفيان لأصحابه: أيها الناس، دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة. قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله، فعبرنا أمامه، وتخلف في أخرانا، فأقبل على فرسه، وكانت بين يديه فرس انثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة، ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة، فسقط في الماء، فلما سقط قال: " ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ". فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: " ذلك تقدير العزيز العليم ". قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي بهذا الحديث - وكان ممن يقاتله من أهل الشام. وحدثني فروة بن لقيط، وكان ممن شهخد مواطنه - فأما رجل من بني رهطة من بني مرة بن همام فإنه حدثني انه كان معه قوم يقاتلون من عشيرته، ولم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالًا كثيرًا، فكأن ذلك قد أوجع قلوبهم، وأوغر صدورهم؛ وكان رجل يقال له مقاتل من بني تيم بن شيبان من أصحاب شبيب، فلما قتل شبيب رجالًا من بني تيم بن شيبان أغار هو على بني مرة بن همام فأصاب منهم رجلًا، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهم بغير أمري! فقال له: أصلحك الله! قتلت كفار قومي، وقتلت كفار قومك، قال: وأنت الوالي علي حتى تقطع الأمور دوني! فقال: أصلحك الله! أليس من ديننا قتل من كان على غير رأينا، منا كان أو من غيرنا! قال بلى، قال: فإنما فعلت ما كان ينبغي، ولا والله يا أمير المؤمنين ما أصبت م رهطك عشر ما أصبت من رهطي، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد من قتل الكافرين؛ قال: إني لا أجد من ذلك. وكان معه رجال كثير قد أصاب من عشائرهم، فزعموا انه لما تخلف في أخريات أصحابه قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة! فقطعوا الجسر، فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، ووقع في الماء فغرق. قال أبو مخنف: فحدثني ذلك المري بهذا الحديث، وناس من رهط شبيب يذكرون هذا أيضًا؛ وأما حديث العامة فالحديث الأول. قال أبو مخنف: وحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: إنا والله لنتهيأ للانصراف إذ جاء صاحب الجسر فقال: أين اميركم؟ قلنا: هو هذا، فجاءه فقال: أصلحك الله! عن رجلًا منهم وقع في الماء فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبرنا، ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاصر بن صيفي فعبر إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه منهم صافر ولا آثر. فنزل فيه، فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرًا، وأصبحنا فطلبنا شبيبًا حتى استخرجناه وعليه الدرع، فسمعت الناس يزعمون أنه ثق شق بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعًا صلبًا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان؛ فقال سفيان: إحمدوا الله الذي أعانكم فأصبح عسكرهم في أيدينا. قال أبو زيد عمر بن شبة: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط، قال: كان شبيب ينعى لأمه فيقال: قتل فلا تقبل قال: فقيل لها: إنه غرق، فقبلت، وقالت: إني أعلم أني لما ولدته أنه خرج مني شهاب من نار، فعلمت إنه لا يطفئه إلا الماء. قال هشام عن أبي مخنف: حدثني فروة بن لقيط الأزدي ثم الغامري أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سليمان بن ربيعة إذ بعث به وبمن معه الوليد بن عقبة عن أمر عثمان إياه بذلك مددًا لأهل الشام أرض الروم، فلما قفل المسلمون أقيم السبي للبيع، فرأى يزيد ابن نعيم أبو شبيب جارية حمراء، لا شهلاء ولا زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، فابتاعها ثم أقبل بها، وذلك سنة خمس وعشرين اول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت عليه، فضربها فلم تزدد إلا عصيانًا، فلما رأى ذلك امر بها فأصلحت، ثم دعا بها فأدخلت عليه، فلما تغشاها تلقت منه بحمل فولدت شبيبًا، وذلك سنة خمس وعشرين في ذي الحجة في يوم النحر يوم السبت. وأحبت مولاها حبًا شديدًا - وكانت حدثة - وقالت: إن شئت أجبتك إلى ما سألتني من الإسلام، فقال لها: شئت، فأسلمت، وولدت شبيبًا وهي مسلمة، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم انه خرج من قبلي شهاب فثقب يسطع حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهرقون فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه إني أرى ولدي هذا غلامًا، أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعًا. قال: فكان أبوه يختلف به وبأمه إلى البادية إلى أرض قومه على ماء يدعى اللصف. قتال أبو مخنف: وحدثني موسى بن أبي سويد بن رادي أن أن جند أهل الشام الذين جاؤوا حملوا معهم الحجر فقالوا: لانفر من شبيب حتى يفر هذا الحجر؛ فبلغ شبيبًا امرهم، فأراد أن يكيدهم، فدعا بأفراس أربعة. أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه، وعه غلام له يقال له حيان، وأمره أن يحمل معه إدواة من ماء، ثم سار حتى يأتي ناحية من المعسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرسًا، ثم يمسوها الحديد حتى تجد حره ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: من نجا منكم فإن موعده هذه التلعة؛ وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم، ثم وغلت في العسكر، ودخل يتلوها محكمًا فضرب الناس بعضهم بعضًا، فقام صحبهم الذي كان عليهم، وهو حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فنادى: أيها الناس، إن هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر، ففعلوا وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود وأوهنته، فلما أن هدأ الناس ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيان، فقال: أفرغ يا حيان على رأسي من الماء، فلما مد رأسه ليصب عليه الماء هم حيان أن يضرب عنقه، فقال لنفسه لا أجد لي مكرمة ولا ذكرًا أرفع من قتلي هذا، وهو أماني عند الحجاج، فاستقبلته الرعدة حيث هم بما هم به، فلما أبطأ بحل الإدواة قال: ما يبطئك بحلها! فتناول السكين من موجزه فخرقها به، ثم ناولها إياه، فأفرغ عليه الماء. فقال حيان: منعني والله الجبن وما أخذني من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به. ثم لحق شبيب بأصحابه في عسكره. خروج مطرف بن المغيرة على الحجاج وعبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان ولحق بالجبال فقتل. ذكر السبب الذي كان عند خروجه وخلعه عبد الملك بن مروان: قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يوسف بن يزيد بن بكر الأزدي أن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء نبلاء، أشرافًا بأبدانهم سوى شرف أبيهم ومنزلتهم في قومهم. قال: فلما قدم الحجاج فلقوه وشافههم علم أنهم رجال قومه وبنو أبيه، فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف بن المغيرة على المدائن، وحمزة بن المغيرة على همذان. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد بن عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، قال: قدم علينا مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، فإن عملت بما أمرني فأنا أسعد الناس، وإن لم أفعل فنفسي أوبقت، وحظ نفسي ضيعت، ألا إني جالس لكم العصرين، فارفعوا إلى حوائجكم، وأشيروا علي بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوكم خيرًا ماستطعت. ثم نزل. وكان بالمدائن إذ ذاك رجال من أشراف أهل المصر وبيتوتات الناس، وبها مقاتلة لا تسعها عدة، عن كان كون بأرض جوخى أو بأرض الأنبار فأقبل مطرف حين نزل حتى جلس للناس في الإيوان، وجاء حكيم بن الحارث الأزدي يمشي نحوه، وكان من وجوه الأزد وأشرافهم، وكان الحجاج قد استعمله بعد ذلك على بيت المال - فقال له: أصلحك الله! إني كنت منك نائيًا حين تكلمت، وإني أقبلت نحوك لأجيبك، فوافق ذلك نزولك، إنا قد فهمنا ماذكرت لنا، أنه عهد إليك، فأرشد الله العاهد والمعهود إليه، وقد منيت من نفسك العدل، وسألت المعونة على الحق، فأعانك الله على ما نويت، إنك تشبه أباك في سرته برضا الله والناس، فقال له مطرف: هاهنا إلي؛ فأوسع له وجلس في جنبه. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد انه كان من خير عامل قدم عليهم قط، أقمعه لمريب، وأشده إنكارًا للظلم، فقدم عليه بشر بن الأجدع الهمداني، ثم الثوري، وكان شاعرًا فقال: إني كلفت بخود غير فاحشة ** غراء وهنانة حسانة الجيد كأنها الشمس يوم الدجن إذ برزت ** تمشي مع الآنس الهيف الأماليد سل الهوى بعلنداة مذكرة ** عنها إلى المجتدي ذي العرف والجود إلى الفتى الماجد الفياض نعرفه ** في الناس ساعة يحلى كل مردود من الأكارم أنسابًا إذا نسبوا ** والحامل الثقل يوم المغرم الصيد إني أعيذك بالرحمن من نفر ** حمر السبال كأسد الغابة السود فرسان شيبان لم نسمع بمثلهم ** أبناء كل كريم النجل صنديد شدوا على ابن حصين في كتيبته ** فغادره صريعًا ليلة العيد وابن المجالد أردته رماحهم ** كأنما زل عن خوصاء صيخود وكل جمع بروذابار كان لهم ** قد فيض بالطعن بين النخل والبيد فقال له: ويحك! ما جئت إلا لترغبنا. وقد كان شبيب أقبل من ساتيدما، فكتب مطرف إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أكرمه الله أن شبيبًا قد أقبل نحونا، فإن رأى الأمير أن يمدني برجال أضبط بهم المدائن فقل، فإن المدائن باب الكوفة وحصنها. فبعث إليه الحجاج بن يوسف سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف في مائتين وعبد الله بن كناز في مائتين، وجاء شبيب فأقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ثم جاء حتى انتهى إلى كلواذا، فعبر منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير ومطرف بن المغيرة في المدينة العتيقة التي فيها منزل كسرى والقصر الأبيض، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبين شبيب، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلى رجالا من صلحاء أصحابك أدارسهم القرآن، وأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه رجالا منهم سويد بن سليم وقعنب والمحلل بن وائل، فلما أدنى منهم المعبر وأرداوا أن ينزلوا فيه أرسل إليهم شبيب ألا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، وبعث إلى مطرف: أن ابعث إلي بعدة من أصحابك حتى ترد علي أصحابي، فقال لرسوله: القه فقل له: فكيف أمنك على أصحابي إذا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل في ديننا الغدر، وأنتم تفعلونه وتهونونه. فسرح إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي، وسليمان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة - وكان على حرس مطرف - فلما وقعوا في يديه بعث أصحابه إليه. قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح، قال: كنت عند مطرف بن المغيرة بن شعبة فما أدري أقال: إني كنت في الجند الذين كانوا معهم، أو قال: كنت بإزائه حيث دخلت عليه رسل شبيب! وكان لي ولأخي ودًا مكرمًا، ولم يكن ليستر منا شيئًا، فدخلوا عليه وما عنده أحد من الناس غيري وغير أخي حلام بن صالح، وهم ستة ونحن ثلاثة، وهم شاكون في السلاح، ونحن ليس علينا إلا سيوفنا، فلما دنوا قال سويد: السلام على من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله، فقال له مطرف: أجل، فسلم الله على أولئك، ثم جلس القوم، فقال لهم مطرف: قصوا على أميركم، وخبروني ماالذي تطلبون؟ وإلام تدعون؟ فحمد الله سويد بن سليم وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الذي ندعوا إليه كتاب الله وسنة محمد ﷺ، وإن الذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفئ وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية. فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، ولا نقمتم إلا جورًا ظاهرًا، أنا لكم على هذا متابع، فتابعوني إلى ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، وتكون يدي وأيديكم واحدة، فقالوا: هات، اذكر ما تريد أن تذكر فإن يكن ما تدعون إليه حقًا نجبك؛ قال: فإني أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة العاصين على إحداثهم الذي أحدثوه، وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمرون عليهم من يرضون لأنفسهم على مثل الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب؛ فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا، وكثر تبعكم منهم وأعوانكم على عدوكم، وتم لكم هذا الأمر الذي تريدون. قال: فوثبوا من عنده، وقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه أبدًا، فلما مضوا فكادوا أن يخرجوا من صفة البيت التفت إليه سويد بن سليم، فقال: يا بن المغيرة لو كان القوم عداةً غدرًا كنت قد أمكنتهم من نفسك، ففزع لها مطرف، وقال: صدقت وإله موسى وعيسى. قال: ورجعوا إلى شبيب فأخبروه بمقالته، فطمع فيه، وقال لهم: إن أصبحتم فليأته أحدكم؛ فلما أصبحوا بعث إليه سويدًا وأمره بأمره، فجاء سويد حتى انتهى إلى باب مطرف، فكنت أنا المستأذن له، فلما دخل وجلس أردت أن انصرف، فقال لي مطرف: اجلس فليس دونك ستر؛ فجلست وأنا يومئذ شاب أغيد، فقال له سويد: من هذا الذي ليس لك دونه ستر؟ فقال له: هذا الشريف الحسيب، هذا ابن مالك بن زهير بن جذيمة، فقال له: بخ أكرمت فارتبط، إن كان دينه على قدر حسبه فهو الكامل، ثم أقبل عليه فقال: إن لقينا أمير المؤمنين بالذي ذكرت لنا، فقال لنا: القوه فقولوا له: ألست تعلم أن إختيار المسلمين منهم خيرهم لهم فيما يرون رأي رشيد! فقد مضت به السنة بعد الرسول ﷺ، فإذا قال لكم: نعم، فقولوا له: فإن قد اخترنا لأنفسنا أرضانا فينا، وأشدنا إضطلاعًا لما حمل، فما لم يغير ولم يبدل فهو ولي أمرنا. وقال لنا: قولوا له فيما ذكرت لنا من الشورى حين قلت: إن العرب إذا علمت أنكم إنما تريدون بهذا الأمر قريشًا كان أكثر لتبعكم منهم؛ فإن أهل الحق لا ينقصهم عند الله أن يقلوا، ولا يزيد الظالمين خيرًا أن يكثروا، وإن تركنا حقنا الذي خرجنا له، ودخولنا فيما دعوتنا إليه من الشورى خطيئة وعجز ورخصة إلى نصر الظالمين ووهن، لأنا لا نرى أن قريشًا أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب. وقال: فإن زعم أنهم أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب فقولوا له: ولم ذاك؟ فإن قال: لقرابة محمد ﷺ بهم فقولوا له: فوالله ما كان ينبغي إذًا لأسلافنا الصالحين من المهاجرين الأولين أن يتولوا على أسرة محمد، ولا على ولد أبي لهب لو لم يبقى غيرهم؛ ولو لا أنهم علموا أن خير الناس عند الله أتقاهم، وأن أولاهم بهذا الأمر أتقاهم وأفضلهم فيهم، وأشدهم اضطلاعًا بحمل أمورهم ما تولى أمور الناس. ونحن أول من أنكر الظلم وغير الجور وقاتل الأحزاب، فإن اتبعنا فله ما لنا وعليه ما علينا، وهو رجل من المسلمين وإلا يفعل، فهو كبعض من نعادي ونقاتل من المشركين. فقال له مطرف: قد فهمت ما ذكرت، ارجع يومك هذا حتى تنظر في أمرنا. فرجع، ودعا مطرف رجالًا من أهل ثقاته وأهل نصائحه؛ منهم سليمان بن حذيفة المزني، والربيع بن يزيد الأسدي. قال النضر بن صالح: وكنت أنا ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة قائمين على رأسه بالسيف، وكان على حرسه، فقال لهم مطرف: يا هؤلاء، إنكم نصحائي وأهل مودتي ومن أثق بصلاحه وحسن رأيه، والله مازلت لأعمال هؤلاء الظلمة كارهًا، أنكرها بقلبي، وأغيرها ما استطعت بفعلي وأمري، فلما عظمت خطيئتهم، ومر بي هؤلاء القوم يجاهدونهم، لم أر أنه يسعني إلا مناهضتهم وخلافهم إن وجدت أعوانًا عليهم، وإني دعوت هؤلاء القوم فقلت لهم كيت وكيت، وقالوا لي كيت وكيت، فلست أرى القتال معهم، ولو تابعوني على رأيي وعلى ما وصفت لهم لخلعت عبد الملك والحجاج، ولسرت إليهم أجاهدهم. فقال له المزني: إنهم لن يتابعوك، وإنك لن تتابعهم فأخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد، وقال له الأسدي مثل ذلك، فجثا مولاه ابن أبي زياد على ركبتيه ثم قال: والله لا يخفى مما كان بينك وبينهم على الحجاج كلمة واحدة، وليزادن على كل كلمة عشرة أمثالها، والله أن لو كنت في السحاب هاربًا من الحجاج ليلتمسن أن يصل إليك حتى يهلكك أنت ومن معك؛ فالنجاء النجاء من مكانك هذا، فإن أهل المدائن من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، وأهل عسكر شبيب يتحدثون بما كان بينك وبين شبيب، ولا تمس من يومك هذا حتى يبلغ الخبر الحجاج؛ فاطلب دارًا غير المدائن. فقال له صاحباه: ما نرى الرأي إلا كما ذكر لك، قال لهما مطرف: فما عندكما؟ قالا: الإجابه إلى ما دعوتنا إليه والمؤاساة لك بأنفسنا على الحجاج وغيره. قال: ثم نظر إلي، فقال: ما عندك؟ فقلت: قتال عدوك، والصبر معك ما صبرت، فقال لي: ذاك الظن بك. قال: ومكث حتى إذا كان في اليوم الثالث أتاه قعنب فقال له: إن تابعتنا فأنت منا، وإن أبيت فقد نابذناك، فقال: لا تعجلوا اليوم فإنا ننظر. قال: وبعث إلى أصحابه أن ارحلوا الليلة من عندي آخركم حتى توفوا الدسكرة معي لحدث حدث هنالك. ثم أجدلج وخرج أصحابه معه حتى مر بدير يزد جرد فنزله، فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن القحافي من خثعم، فدعاه إلى صحبته، فصحبه فكساه وحمله. وأمر له بنفقة، ثم سار حتى نزل الدسكرة، فلما أراد أن يرتحل منها لم يجد بدًا من أن يعلم أصحابه ما يريد، فجمع إليه رؤوس أصحابه، فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله، ثم قال لهم: أما بعد، فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب " وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منكم صحبي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجود، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوا. قال: فوثب إليه أصحابه فبايعوه، ثم إنه دخل رحله وبعث إلى سبر بن عبد الرحمن بن مخنف وإلى عبد الله بن كناز النهدي فاستخلاهما، ودعاهما إلى مثل ما دعا إليه عامة أصحابه، فأعطياه الرضا، فلما ارتحل انصرفا بمن معهما من أصحابه حتى أتيا الحجاج فوجداه قد نازل شبيبًا، فشهدا معه وقعة شبيب. قال: وخرج مطرف بأصحابه من الدسكرة موجهًا نحو حلوان، وقد الحجاج بعث في تلك السنة سويد بن عبد الرحمن السعدي على حلوان وماسبذان؛ فلما بلغه أن مطرف بن المغيرة قد أقبل نحو أرضه عرف أنه إن رفق في أمره أو داهن لا يقبل ذلك منه الحجاج، فجمع له سويد أهل البلد والأكراد، فأما الأكراد فأخذوا عليه ثنية حلوان، وخرج إليه سويد وهو يحب أن يسلم من قتاله، وأن يعافى من الحجاج، فكان خروجه كالتعذير. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقم الخثعمي أن الحجاج بن جارية الخثعمي حين سمع بخروج مطرف من المدائن نحو الجبل أتبعه في نحو من ثلاثين رجلا من قومه وغيرهم. قال: وكنت فيهم فلحقناه بحلوان، فكنا ممن شهد معه قتال سويد بن عبد الرحمن. قال أبو مخنف: وحدثني بذلك أيضًا النضر. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة. قال: ما هو إلا أن قدمنا على مطرف بن المغيرة، فسر بمقدمنا عليه. وأجلس الحجاج ابن جارية معه على مجلسه. قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح. وعبد الله بن علقمة، أن سويدًا لما خرج إليهم بمن معه وقف في الرجال ولم يخرج بهم من البيوت، وقدم ابنه القعقاع في الخيل، وما خيله يومئذ بكثير. قال أبو مخنف: قال النضر بن صالح: أراهم كانوا مائتين، وقال ابن علقمة: أراهم كانوا ينقصون عن الثلثمائة. قال: فدعا مطرف الحجاج بن جارية فسرحه إليهم في نحو من عدتهم، فأقبلوا نحو القعقاع وهم جادون في قتاله، وهم فرسان متعالمون، فلما رآهم سويد قد تيسروا نحو ابنه أرسل إليهم غلامًا يقال له رستم - قتل معه بعد ذلك بدير الجماجم - وفي يده راية بني سعد، فانطلق وغلامه حتى انتهى إلى الحجاج بن جارية، فأسر إليه: إن كنتم تريدون الخروج من بلادنا هذه إلى غيرها فاخرجوا عنا، فإنا لا نريد قتالكم، وإن كنتم إيانا تريدون فلا بد من منع ما في أيدينا. فلما جاءه بذلك قال له الحجاج بن جارية: إئت أميرنا فاذكر له ماذكرت لي، فخرج حتى أتى مطرفًا فذكر له مثل الذي ذكر للحجاج بن جارية، فقال له مطرف: ما أريدكم ولا بلادكم، فقال له: فالزم هذا الطريق حتى تخرج من بلادنا، فإنا لا نجد بدًا من أن يرى الناس وتسمع بذلك أنا قد خرجنا إليك. قال: فبعث مطرف إلى الحجاج فأتاه، ولزموا الطريق حتى مروا بالثنية فإذا الأكراد بها، فنزل مطرف ونزل معه عامة أصحابه وصعد إليهم في الجانب الأيمن الحجاج بن جارية، وفي الجانب الأيسر سليمان بن حذيفة، فهزماهم وقتلاهم، وسلم مطرف وأصحابه فمضوا حتى دنوا من همذان، فتركها وأخذ ذات اليسار إلى ما دينار، وكان أخوه حمزة بن المغيرة على همذان، فكره أن يدخلها فيتهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرض ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة: أما بعد، فإن النفق قد كثرت والمؤنة قد اشتدت، فامدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح. وبعث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلًا، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك! أنت قتلت مطرفًا؟ فقال له: ما أنا قتلته جعلت فداك! ولكن مطرفًا قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك، فقال له: ويحك! من سول له هذا الأمر! فقال: نفسه سولت هذا له. ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه ثم قال: نعم، وأنا باعث إليه بمال وسلاح، ولكن أخبرني ترى ذلك يخفى لي؟ قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزة: فوالله لئن أنا خذلته في أنفع النصرين له نصر العلانية، لا أخذله في أيسر النصرين نصر السريرة. قال: فسرح إليه مع يزيد بن أبي زياد بمال وسلاح، فأقبل به حتى أتى مطرفًا ونحن نزول في رستاق من رساتيق ماه دينار، يقال له: سامان متاخم أرض أصبهان، وهو رستان كانت الحمراء تنزله. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، قال: والله ما هو إلا أن مضى يزيد بن أبي زياد، فسمعت أهل العسكر يتحدثون أن الأمير بعث إلى أخيه يسأله النفقة والسلاح، فأتيت مطرفًا فحدثته بذلك، فضرب بيده على جبهته ثم قال: سبحان الله! قال الأول: ما يخفى إلا ما لا يكون، قال: وما هو إلا أن قدم يزيد بن أي زياد علينا. فسار مطرف بأصحابه حتى نزل قم وقاشان وأصبهان. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن علقمة أن مطرفًا حين نزل قم وقاشان واطمئن، دعا الحجاج بن جارية فقال له: حدثني عن هزيمة شبيب يوم السبخة أكانت وأنت شاهدها، أم كنت خرجت قبل الوقعة؟ قال: لا. بل شهدتها؛ قال: فحدثني حديثهم كيف كان؟ فحدثه، فقال: إني كنت أحب أن يظفر شبيب وإن كان ضالًا فيقتل ضالًا. قال: فظننت أنه تمنى ذلك لأنه كان يرجوا أن يتم له الذي يطلب لو هلك الحجاج، قال: ثم إن مطرفًا بعث عماله. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أن مطرفًا عمل عملًا حازمًا لو لا أن الأقدار غالبة. قال: كتب مع الربيع بن يزيد إلى سويد ابن سرحان الثقفي، وإلى بكير بن هارون البجلي: أما بعد، فإنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى جهاد من عند عن الحق، واستأثر بالفئ، وترك حكم الكتاب، فإذا ظهر الحق ودمغ الباطل، وكانت كلمة الله هي العليا، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمة يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا، فمن قبل هذا منا كان أخانا في ديننا. وولينا في محيانا ومماتنا، ومن رد ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه فكفى بنا عليه حجة، وكفى بتركه الجهاد في سبيل الله غبناُ، وبمداهنة الظالمين في أمر الله وهنًا! إن الله كتب القتال على المسلمين وسماه كرهًا، ولن ينال رضوان الله إلا بالصبر على أمر الله، وجهاد أعداء الله، فأجيبوا رحمتكم الله إلى الحق. وادعوا إليه من ترجون إجابته، وعرفوه ما لا يعرفه، وليقبل إلى كل من رأى رأينا، وأجاب دعوتنا، ورأى عدوه عدونا. أرشدنا الله وإياكم، وتاب علينا وعليكم، إنه هو التواب الرحيم. والسلام. فلما قدم الكتاب على ذينك الرجلين دبًا في رجال من أهل الري ودعوا من تابعهما، ثم خرجا في نحو من مائة من أهل الري سرًا لا يفطن بهم، فجاءوا حتى وافوا مطرفًا. وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان: أما بعد، فإن كان للأمير أصلحه الله حاجة في أصبهان فليبعث إلى مطرف جيشًا كثيفًا يسأصله ومن معه، فإنه لا تزلا عصابة قد انتفحت له من بلدة من البلدان حتى توافيه بمكانه الذي هو به، فإنه قد استكشف وكثر تبعه، والسلام. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، إذا أتاك رسولي فعسكر بمن معك، فإذا مر بك عدي بن وتاد فاخرج معه في أصحابك، واسمع له وأطع. والسلام. فلما قرأ كتابه خرج فعسكر، وجعل الحجاج بن يوسف يسرح إلى البراء بن قبيصة الرجال على دواب البريد عشرين عشرين. وخمسة عشر خمسة عشر، وعشرة وعشرة، حتى سرح إليه نحوًا من خمسمائة، وكان في ألفين. وكان الأسود بن سعد الهمذاني أتى الري في فتح الله على الحجاج يوم لقي شبيبًا بالسبخة، فمر بهمذان والجبال، ودخل على حمزة فاعتذر إليه، فقال الأسود: فأبلغت الحجاج عن حمزة، فقال: قد بلغني ذاك، وأراد عزله، فخشي أن يمكر به، وأن يمتنع منه، فبعث إلى قيس بن سعيد العجلي - وهو يومئذ على شرطة حمزة بن المغيرة ولبني عجل وربيعة عدد بهمذان - فبعث إلى قيس بن سعد بعهده على همذان، وكتب إليه أن أوثق حمزة ابن المغيرة في الحديد، واحبسه قبلك حتى يأتيك أمري. فلما أتاه عهده وأمره أقبل ومعه ناس من عشيرته كثير، فلما دخل المسجد وافق الإقامة لصلاة العصر. فصلى حمزة، فلما انصرف حمزة انصرف معه قيس بن سعد العجلي صاحب شرطة، فأقرأه كتاب الحجاج إليه، وأراه عهده، فقال حمزة. سمعًا وطاعةً؛ فأوثقه وحبسه في السجن، وتولى أمر همذان، وبعث عماله عليها، وجعل عماله كلهم من قومه؛ وكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله، أني قد شددت حمزة بن المغيرة في الحديد، وحبسته في السجن وبعث عمالي على الخراج، ووضعت يدي في الجباية، فإن رأي الأمير أبقاه الله أن يأذن لي في المسير إلى مطرف أذن لي حتى أجاهده في قومي، ومن أطاعني من أهل بلادي؛ فإني أرجو أن يكون الجهاد أعظم أجرًا من جباية الخراج. والسلام. فلما قرأ الحجاج كتابه ضحك ثم قال: هذا جانب آثرًا ما قد أمناه. وقد كان حمزة بهمذان أثقل ما خلق الله على الحجاج مخافة أن يمد أخاه بالسلاح والمال، ولا يدري لعله يبدو له فيعق، فلم يزل يكيده حتى عزله؛ فاطمأن وقصد قصد مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثل أن الحجاج لما قرأ كتاب قيس بن سعد العجلي وسمع قوله: إن أحب الأمير سرت إليه حتى أجاهده في قومي، قال: ما أبغض إلى أن تكثر العرب في أرض الخراج. قال: فقال لي ابن الغرق: ما هو إلا أن سمعتها من الحجاج فعلمت أنه لو قد فرغ له قد عزله. قال: وحدثني النضر بن صالح أن الحجاج كتب إلى عدي بن وتاد الإيادي وهو على الري يأمره بالمسير إلى مطرف بن المغيرة وبالممر على البراء ابن قبيصة، فإذا اجتمعوا فهو أمير الناس. قال أبو مخنف: وحدثني أبي عند عبد الله بن زهير، عن عبد الله بن سليم الأزدي، قال: إني لجالس مع عدي بن وتاد على مجلسه بالري إذ أتاه كتاب الحجاج، فقرأه ثم دفعه إلي، فقرأته فإذا فيه: أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فانهض بثلاثة أرباع من معك من أهل الري، ثم أقبل حتى تمر بالبراء بن قبيصة بجي، ثم سيرا جميعًا، فإذا لقيتهما فأنت أمير الناس حتى يقتل الله مطرفًا، فإذا كفى الله المؤمنين مؤنته فانصرف إلى عملك في كنف من الله وكلاءته وستره، فلما قرأته قال لي: قم وتجهز. قال: وخرج فعسكر، ودعا الكتاب فضربوا البعث على ثلاثة أرباع الناس، فما مضت جمعة حتى سرنا فانتهينا إلى جي، ويوافينا بها قبيص القحافي تسعمائة من أهل الشام، فيهم عمر بن هبيرة، قال: ولم نلبث بجي إلا يومين حتى نهض عدي بن وتاد بمن أطاعه من الناس ومعه ثلاثة آلاف مقاتل من أهل الري وألف مقاتل مع البراء بن قبيص بعثهم إليه الحجاج من الكوفة، وسبعمائة من أهل الشام، ونحو ألف رجل من أهل أصبهان والأكراد، فكان في قريب من ستة آلاف مقاتل، ثم أقبل حتى دخل على مطرف بن المغيرة. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، عن عبد الله بن علقمة. أن مطرفًا لما بلغه مسيرهم إليه خندق على أصحابه خندقًا، فلم يزالوا فيه حتى قدموا عليه. قال أبو مخنف: وحدثني يزيد مولى عبد الله بن زهير، قال: كنت مع مولاي إذ ذاك؛ قال: خرج عدي بن وتاد فعبى الناس، فجعل على ميمنته عبد الله بن زهير، ثم قال للبراء بن قبيصة: قم في الميسرة، فغضب البراء، وقال: تأمرني بالوقوف في الميسرة وأن أمير مثلك! تلك خيلي في الميسرة، وقد بعثت عليها فارس مصر الطفيل بن عامر بن واثلة، قال: فأنهي ذلك إلى عدي بن وتاد، وقال لابن أقيصر الخثعمي: إنطلق فأنت على الخيل، وانطلق إلى البراء بن قبيص فقل له: إنك قد أمرت بطاعتي، ولست من الميمنة والميسرة والخيل والرجالة في شئ، إنما عليك أن تؤمر فتطيع، ولا تعرض لي في شئ أكرهه فأتنكر لك - قد كان له مكرمًا. ثم إن عديًا بعث على الميسرة عمر بن هبيرة، وبعث في مائة من أهل الشام، فجاء حتى وقف برايته، فقال رجل من أصحابه للطفيل بن عامر: خل رايتك وتنح عنا، فإنما نحن أصحاب هذا الموقف، فقال الطفيل: إني لا أخاصمكم، إنما عقد لي هذه الراية البراء من قبيصة، وهو أميرنا، وقد علمنا أن صاحبكم على جماعة الناس، فإن كان قد عقد لصاحبكم هذا فبارك الله له، ما أسمعنا وأطوعنا! فقال لهم عمر بن هبيرة: مهلًا، كفوا عن أخيكم وابن عمكم، رايتنا رايتك، فإن شئت آثرناك بها. قال: فما رأينا رجلين كانا أحلم منهما في موقفهما ذلك. قال: ونزل عدي بن وتاد ثم زحف نحو مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح وعبد الله بن علقمة أن مطرفًا بعث على ميمنته الحجاج بن جارية، وعلى ميسرته الربيع بن يزيد الأسدي، وعلى الحامية سليمان بن صخر المزني، ونزل هو يمشي في الرجال، ورأيته مع يزيد بن أبي زياد مولى أبيه المغيرة بن شعبة. قال: فلما زحف القوم بعضهم إلى بعض وتدانوا قال لبكير بن هارون البجلي: اخرج إليهم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وبكتم بأعماله الخبيثة. فخرج إليهم بكير بن هارون على فرس لهم أدهم أرح ذنوب عليه الدرع والمغفر والساعدان، في يده الرمح، شد درعه بعصابة حمراء من حواشي البرود، فنادى بصوت عال رفيع: يا أهل قبلتنا، وأهل ملتنا، وأهل دعوتنا، إنا نسألكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي علمه بما تسرون مثل علمه بما تعلنون لما أنصفتمونا وصدقتمونا، وكانت نصيحتكم لله لا لخلقه، وكنتم شهداء لله على عباده بما يعلمه الله من عباده. خبروني عن عبد الملك بن مروان، وعب الحجاج بن يوسف، ألستم تعلمونهما جبارين مستأثرين يتبعان الهوى، فيأخذان بالظنة، ويقتلان على الغضب. قال: فتنادوا من كل جانب: يا عدو الله كذبت، ليسا كذلك، فقال لهم: ويلكم " لا تفترون على الله كذبًا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " ويلكم، أو تعلمون من الله ما لا يعلم، إني قد استشهدتكم وقد قال الله في الشهادة: " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ". فخرج إليه صارم مولى عدي بن وتاد وصاحب رايته، فحمل على بكير ابن هارون البجلي، فاضربا بسيفهما، فلم تعمل ضربة مولى عدي شيئًا، وضربه بكير بالسيف فقتله، ثم استقدم، فقال: فارس لفارس، فلم يخرج إليه أحد، فجعل يقول: صارم قد لاقيت سيفًا صارمًا ** وأسدًا ذا لبدة ضارمًا قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسرة، وفيها الطفيل بن عامر بن واثلة، فالتقى هو والطفيل - وكانا صديقين متؤاخيين - فتعارفا، وقد رفع كل منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلًا، ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه. ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلًا، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشف ميسرة مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه. ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالًا طويلًا، ثم إنه حذره حتى اتنهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سليمان بن صخر المزني فقتله، وانكشف خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه جعل يناديهم يومئذ: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ". قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده إلى عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسنًا. قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف. قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحًا ناسكًا عفيفًا. أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأسًا مع ابن أقيصر الخثعمي، فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله قد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيرًا. قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ماله؟ قال: فأخبره بمقالتي؛ فقال إنه ضعيف العقل؛ قال: ثم انصرفنا إلى الري بن عدي بن وتاد. قال: وبعث رجالًا من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم. قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال مكن أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا. فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناسًا كثيرًا فخلى عنهم. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلى فيه. قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير، قال: كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف: أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعدًا له. فذاك ما هو أهوى وأحب؛ وإن كان حيًا فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلى إن شاء الله. والسلام. قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولابد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه. وقمنا من عنده. قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفًا حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنته. وقال حبيب بن خدرة مولى لبنى هلال بن عامر: هل أتى فائد عن أيسارنا ** إذ خشينا من عدو خرقا إذ أتاني الخوف من مأمننا ** فطوينا في سواد أفقا وسلي هدية يوم هل رأيت ** بشرًا أكرم منا خلقا! وسليها أعلى العهد لنا ** أو يصيرون علينا حنقا! ولكم من خلة من قبلها ** قد صرمنا حبلها فانطلقا قد أصبنا العيش عيش ناعمًا ** وأصبنا العيش عيشًا رنقا وأصبت الدهر دهرًا اشتهى ** طبقًا منه وألوى طبقا وشهدت الخيل في ملومة ** ما ترى منهن إلا الحدقا يتساقون بأطراف القنا ** من نجيع الموت كأسا دهقا فطراد الخيل قد يؤنقني ** ويرد اللهو عني الأنقا بمشيح البيض حتى يتركوا ** لسيوف الهند فيها طرقا فكأني من غد وافقتها ** مثل ما وافق شن طبقا ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الأزارقة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري. ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي من أجله حدث الاختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطريًا وأصحابه من الأزارقة بعدما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحوًا من سنة. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالًا شديدًا، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت - وجيرفيت مدينة كرمان - فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالًا شديدًا. وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يد المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عند عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فساودرابجرد. وكورة إصطخر. فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول الشاعر الأزد وهو يعاتب المهلب: نقاتل عن قصور درابجرد ** ونجبي للمغيرة والرقاد وكان الرقاد بن زياد بن همام - رجل من العتيك - كريمًا على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة. وكتب إلى المهلب: أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما أرى لقد اصطلمت هذه الخارجة المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك. وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، قم جاهدهم أشد الجهاد. وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة؛ والسلام. فأخرج المهلب بنيه؛ كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم وأخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم. فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا. فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرسانًا قط، ولا كفرسانك من العرب فرسانًا قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور. فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة. قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم؛ وقال هؤلاء: نحن من بني تميم؟ فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء: كيف رأيت؟ قال: رأيت قومًا والله ما يعينك عليهم إلا الله. فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه. وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصر إلى الحجاج فآتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فقد آتاني كتاب الأمير أصلحه الله. واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فأما أنا فوالله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير - أصلحه الله - فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام. ثم إن الهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهرًا لا يستقل منهم شيئًا، ولا يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يردعونهم به ويكفونهم عنهم. ثم إن رجلًا منهم كان عاملًا لقطرى على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بني ضبة، فقتل رجلًا قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطرى، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم: ما أرى أن أفعل! رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى! قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد ربه الكبير، وخلعوا قطريًا، وبايع قطريًا منهم عصابة نحوًا من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحوًا من شهر غدوة وعشية. فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطريًا وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضأ غدوًا وعشيًا، وقد رجزت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله! والسلام. فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا آتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مأونتهم عليك أشد، والسلام. فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضًا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضًا. فأناهضهم على تفئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام. فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهرًا لا يحركهم. ثم إن قطريًا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان. وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالًا شديدًا. ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين. وقال كعب الأشقري - والأشقر بطن من الأزد - يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور. وأيام جيرفت: يا حفص إن عداني عنكم السفر ** وقد أرقت فآذى عيني السهر علقت يا كعب بعد الشيب غانية ** والشيب فيه عن الأهواء مزدجر أممسك أنت عنها بالذي عهدت ** أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر علقت خودًا بأعلى الطف منزلها ** في غرفة دونها الأبواب والحجر درمًا مناكبها ريا مآكمها ** تكاد إذ نهضت بالمشي تنبتر وقد تركت بشط الزابيين لها ** دارًا بها يسعد البادون والحضر واخترت دارًا بها حي أسر بهم ** ما زال فيهم لمن تختارهم خير لما نيت بي بلادي سرت منتجعًا ** وطالب الخير مرتاد ومنتظر أبا سعيد فإني جئت منتجعًا ** أرجو نوالك لما مسني الضرر لولا المهلب ما زرنا بلادهم ** ما دامت الأرض فيها الماء والشجر فما من الناس من حي علمتهم ** إلا يرى فيهم من سيبكم أثر أحييتهم بسجال من نداك كما ** تحيا البلاد إذا ما مسها المطر إني لأرجو إذا ما فاقه نزلت ** فضلا من الله في كفيك يبتدر فاجبر أخًا لك أوهى الفقر قوته ** لعله بعد وهي العظم ينجبر جفا ذوو نسبي عني وأخلقني ** ظني فلله دري كيف آتمر يا واهب القينة الحسناء سنتها ** كالشمس هر كولة في طرفها فتر وما تزال بدور منك رائحة ** وآخرون لهم من سيبك الغرر نماك للمجد أملاك ورثتهم ** شم العرانين في أخلاقهم يسر ثاروا بقتلى وأوتار تعددها ** في حين لاحدث في الحرب يتئر واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ** فما لأمرهم ورد ولا صدر وما تجاوز باب الجسر من أحد ** وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا وأدخل الخوف أجواف البيوت على ** مثل النساء رجال ما بهم غير واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ** أمر تشمر في أمثاله الأزر نظل من دون خفض معصمين بهم ** فشمر الشيخ لما أعظم الخطر كنا نهون قبل اليوم شأنهم ** حتى تفاقم أمر كان يحتقر لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ** واستنفر الناس تارات فما نفروا نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته ** عنه وليس به في مثله قصر أفشى هنالك مما كان مذ عصروا ** فيهم صنائع مما كان يدخر تلبسوا لقراع الحرب بزتها ** فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا ساروا بألوية للمجد قد رفعت ** وتحتهن ليوث في الوغى وقر حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا ** برامهرمز وافاهم بها الخبر نعي بشر فجال اليوم وانصدعوا ** إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا ثم استمر بنا راض ببيعته ** ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد ** شبت لنا ولهم نار لها شرر نلقي مساعير أبطالًا كأنهم ** جن نقارعهم ما مثلهم بشر نسقى ونسقيهم سمًا على حنق ** مستأنفي الليل حتى أسفر السحر قتلى هنالك لا عقل ولا قود ** منا ومنهم دماء سفكها هدر حتى تنحوا لنا عنها تسوقهم ** منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا لم يغن عنهم غداة التل كيدهم ** عند الطعان ولا المكر الذي مكروا باتت كتائبنا تردى مسومةً ** حول المهلب حتى نور القمر هناك ولوا حزانًا بعدما فرحوا ** وحال دونهم الأنهار والجدر عبوا جنودهم بالسفح إذ نزلوا ** بكازرون فما عزوا ولا ظفروا وقد لقوا مصدقًا منا بمنزلة ** ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت ** أسد بسفك دماء الناس قد زئروا لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهم ** فيهم على من يقاسي حربهم صعر المقدمين إذ ما خيلهم وردت ** والعاطفين إذا ما ضيع الدبر وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهم ** ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا والله ما نزلوا يومًا بساحتنا ** إلا أصابهم من حربنا ظفر ننفيهم با لقنا عن كل منزلة ** تروح منا مساعير وتبتكر ولوا حذارًا وقد هزوا أسنتنا ** نحو الحروب فما نجاهم الحذر صلت الجبين طويل الباع ذو فرح ** ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر مجرب الحرب ميمون نقيبته ** لا يستخف ولا من رأيه البطر وفي ثلاث سنين يستديم بنا ** يقارع الحرب أطوارًا ويأتمر يقول إن غدًا مبد لناظره ** وفي الليالي وفي الأيام معتبر دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا ** إن المحارب يستأني وينتظر حتى أتته أمور عندها فرج ** وقد تبين ما يأتي وما يذر لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا ** وقد تقاربت الآجال والقدر سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا ** وقبل ذلك كانت بيننا مئر وزادنا حنقًا قتلى نذكرها ** لا تستفيق عيون كلما ذكروا إذا ذكرنا جروزًا والذين بها ** قتلى مضى لهم حولان ما قبروا تأتي علينا حزازات النفوس فما ** نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا ** ولا نقيلهم يومًا إذا عثروا لا عذر يقبل منا دون أنفسنا ** ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا صفان بالقاع كالطودين بينهما ** كالبرق يلمع حتى يشخص البصر على بصائر كل غير تاركها ** كلا الفريقين تتلى فيهم السور يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ** مشي الزوامل تهدي صفهم زمر وشيخنا حوله منا ململمة ** حي من الأزد فيما نابهم صبر في موطن يقطع الأبطال منظره ** تشاط فيه نفوس حين تبتكر مازال منا رجال ثم نضربهم ** بالمشرفي ونار الحرب تستعر وباد كل سلاح يستعان به ** في حومة الموت إلا الصارم الذكر ندوسهم بعناجيج مجففة ** وبيننا ثم من صم القنا كسر يغشين قتلي وعقري ما بها رمق ** كأنما فوقها الجادي يعتصر قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ** تشفي صدور رجال طالما وتروا مجاوين بها خيلاُ معقرة ** للطير فيها وفي أجسادهم جزر في معرك تحسب القتلى بساحته ** أعجاز نخل زفته الريح ينعقر وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ** قد كان للأزد فيها الحمد والظفر في كل يوم تلاقى الأزد مفظعةً ** يشيب في ساعة من هولها الشعر والأزد قومي خيار القوم قد علنوا ** إذا قرومهم يوم الوغى خطر فيهم معاقل من عز يلاذ بها ** يومًا إذا شمرت حرب لها درر حي بأسيافهم يبغون مجدهم ** إن المكارم في المكروه تبتدر لولا المهلب للجيش الذي وردوا ** أنهار كرمان بعد الله ما صدروا إن اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ** بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ** دينًا يخالف ما جاءت به النذر قالت طفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه، ذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم: لقد مس منا عبد رب وجنده ** عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ** بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم وما قطري الكفر إلا نعامة ** طريد يدوي ليله غير نائم إذا فر منا هارب كان وجهه ** طريقًا سوى قصد الهدى والمعالم فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ** به الفلك في لج من البحر دائم ذكر الخبر عن هلاك قطري وأصحابه قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة ذكر سبب مهلكهم: وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلف الذي حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف. عن يونس بن يزيد - سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشًا من أهل الشام عظيمًا في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم، وكتب الحجاج إلى إسحاق بن محمد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطيع لسفيان. فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتد هدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازة وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزًا فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد. فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي فقطعت المغفر، وقطعت جلدةً من حلقي وأختلج السيف فأضرب به وجهها. فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتةً، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز. وقال: ما أردت إلى قتل هذه أخزاها الله - فقلت: أو ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله إن كادت لتقتلني؛ قال: قد رأيت، فوالله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطريًا حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني من الماء - وقد كان اشتد عطشه - فقال: أعطني شيئًا حتى أسقيك، فقال: ويحك؛ والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتني بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرًا عظيمًا من فوقه دهداه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه. والعلج حينئذ لا يعرف قطريًا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سورة بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارة مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله. فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي - وكلهم يزعم أنه قاتله - فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصتلحوا، فدفعوه إليه. فأقبل به إلى إسحاق بن محمد - وهو على أهل الكوفة - ولم يأته جعفر لشئ كان بينه وبينه قبل ذلك - وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق. وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج. فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا به إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما - يعني أنه يفرض للصغار في الديوان - وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطريًا كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره. فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربةً فصرعته، ثم جاؤوني بعد، فأقبلوا يضربونهم بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه، قال: جئت الآن وقد سرحنا بالرأس. فانصرف عنه فقال له أصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه. ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفًا إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أيامًا. ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال: لعمري لقد قام الأصم بخطبة ** لذي الشك منها في الصدور غليل لعمري لأن أعطيت سفيان بيعتي ** وفارقت ديني إنني لجهول إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ** تساوك هزلى مخهن قليل تعاورها القذاف من كل جانب ** بقومس حتى صعبهن ذلول فإن يك أفناها الحصار فربما ** تشحط فيما بينهن قتيل وقد كنا مما إن يقدن على الوجى ** لهن بأبواب القباب صهيل فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم، ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند وطبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم. ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه. وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد - أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرًا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقةً كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام. فلما ولاه غزو ماوراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو. قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على الخراسان ابنه زيادًا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أيامًا، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقيل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس. قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: إقطع يا بكير؛ فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! إعبر ثم يعبر الناس بعدك. فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت ألا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره. فانتخب بكير فرسانًا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى أمية إلى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة. فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إن قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرًا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: إحرق هذه السفن. وامض إلى مرو فخلع أمية، وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما؛ قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي مارأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلون؛ قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفًا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع؛ قال: فيهلك أمية ومن معه؛ قال: ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالًا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحد من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرًا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون. فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابًا، فقال عتاب في ذلك: إن الحواضن تلقاها مجففة ** غلب الرقاب على المنسوبة النجب تركت أمرك من جبن ومن خور ** وجئتنا حمقًا يا ألأم العرب لما رأيت جبال السغد معرضةً ** وليت موسى ونوحًا عكوة الذنب وجئت ذيخًا مغذى ما تكلمنا ** وطرت من سعف البحرين كالخرب أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ** تحت الخوافق دون العارض اللجب يخب بي مشرف عار نواهقه ** يغشى الكتيبة بين العدو والخبب قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه. فقال شماس بن دثار - وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله. فقدمه أمية في ثمانمائة، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه. فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيع مني، لم تفي لأمية ولم تشكر له صنيعه بك؛ قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك. قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدًا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتًا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده. قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية بالناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة - وعارمة جارية بكير - فأحجم، فقال له بكير: لا أبالك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارم فحل يمنعها، فقدم لوائك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يومًا، فحماهم بكير، ثم التقوا يومًا آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم: لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس. قال: ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش؛ فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يومًا آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح؛ فحمل حريث من قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، وأتبع حريث بكيرًا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة. قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله؛ فلا يرميهم أحد. قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلحة، وأحب ذلك أيضًا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه - وكان أمية يحب العافية - فصالحه على أن يقضي عنه أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أيضًا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يومًا حتى يخرج عن مرو، فأخذ الآمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابًا على باب سنجان، ودخل أمية بالمدينة. قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيًا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير. وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة؛ فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرامائي؛ قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فاستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفًا؛ قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك. فأدى عنه عشرين ألفًا. وكان أمية سهلًا لينًا سخيًا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه؛ قال: وكان مع ذلك ثقيلاُ عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي. وعزل أمية بحيرًا عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب. وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه. فضرب عبد الملك بعثًا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليل الأسدي جعالته رجلًا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه فجلس بكير يومًا في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: صلت علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاح بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحمًا فسأله فقال: إنما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرًا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لو لا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان؛ فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل؛ فآمنته ووصلته. قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرًا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك. فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وإن تكركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز؛ وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذ دخل بكير، وبدل وشمردل ابنا أخيه، فنهضت فخذوهم. وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام أمية عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذاوكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع. فلما كان من الغد أخرج بكيرًا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعك والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة - وهو رأس أهل العالية - ولابن والآن العدوي - وهو يومئذ من رؤساء بني تميم - ليعقوب بن خالد الذهلي: أتقتلونه؟ فلم يجيبوه؛ فقال لبحير: أتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه. فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه - وكان صديقًا لبكير - فاحتضن أمية، وقال: أذكرك الله أيها الأمير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال: عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير؛ قال: لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرًا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك؛ قال: يا بعقوب، ما أعطيته ذمة، ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من أسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني أسد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد؛ فقال بحير: لا والله يابن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة. وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت من أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء. قال: ثم وجه أمية رجلًا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه؛ فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم إلى أمية. وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك؛ فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو. وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية: ألا أبلغ أمية أن سيجزي ** ثواب الشر إن له ثوابا ومن ينظر عتابك أو يرده ** فلست بناظر منك العتابا محا المعروف منك خلال سوء ** منحت صنيعها بابًا فبابا ومن سماك إذا قسم الأسامي ** أمية إذ ولدت فقد أصابا قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد. وحدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين وسنة سبع وسبعين. وقد قيل: إن هلاك شبيب كان في سنة ثمان وسبعين، وكذلك قيل في هلاك قطري وعبيدة بن هلال وعبد ربه الكبير. وغزا في هذه السنة الصائفة الوليد. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ذكر الخبر عن الكائن في هذه السنة من الأحداث الجليلة في ذلك عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان وضمه خراسان وسجستان إلى الحجاج بن يوسف. فلم ضم ذلك إليه فرق فيه عماله. ذكر الخبر عن العمال الذين ولاهم الحجاج خراسان وسجستان وذكر سبب في توليته من ولاه ذلك وشيئا منه ذكر أن الحجاج لما فرغ من شبيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل - وقد قيل: إنه استخلف عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم عزله، وجعل مكانه المغيرة بن عبد الله - فقدم عليه المهلب بها، وقد فرغ من أمر الأزارقة. فقال هشام: حدثني أبو مخنف عن أبي المخارق الراسبي، أن المهلب بن أبي صفرة لما فرغ من الأزارقة قدم على الحجاج - وذلك سنة ثمان وسبعين - فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاء من أصحاب المهلب، فأخذ الحجاج لا يذكر له المهلب رجلًا من أصحابه ببلاء حسن إلا صدقه الحجاج بذلك، فحملهم الحجاج وأحسن عطاياهم، وزاد في أعطياتهم، ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال، وأحق بالأموال، هؤلاء حماة الثغور، وغيظ الأعداء. قال هشام عن أبي مخنف: قال يونس بن أبي إسحاق: وقد كان الحجاج ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: إلا أدلك على رجل هو أعلم بسجستان مني، وقد كان ولي كابا وزابل، وجباهم وقاتلهم وصالحهم؟ قال له: بلى، فمن هو؟ قال عبيد الله بن أبي بكرة. ثم إنه بعث المهلب على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان العامل هناك أمية بن هبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وكان عاملًا لعبد الملك بن مروان، لم يكن للحجاج شيء من أمره حين بعث على العراق حتى كانت تلك السنة، فعزله عبد الملك وجمع سلطانه للحجاج، فمضى المهلب إلى خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، فمكث عبيد الله بن أبي يكرة بقية سنته. فهذه رواية أبي مخنف عن أبي المخارق. وأما علي بن محمد فإنه ذكر عن المفضل بن محمد أن خراسان وسجستان جمعتا للحجاج مع العراق في أول سنو ثمان وسبعين بعد ما قتل الخوارج، فاستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على خراسان، والمهلب بن أبي صفرة على سجستان، فكره المهلب سجستان، فلقي عبد الرحمن بن عبيد طارق العبشمي - وكان على شرطة الحجاج - فقال: إن الأمير ولاني سجستان، وولى ابن أبي بكرة خراسان، وأنا أعرف بخراسان منه، قد عرفتها أيام الحكم بن عمرو الغفاري، وابن أبي بكرة أقوى على سجستان مني، فكلم الأمير يحولني إلى خراسان، وابن أبي بكرة إلى سجستان؛ قال: نعم، وكلم زاذان فروخ يعينني؛ فكلمه، فقال: نعم، فقال عبد الرحمن بن عبيد للحجاج: وليت المهلب سجستان وابن أبي بكرة أقوى عليها منه، فقال زاذان فروخ: صدق، قال: إنا قد كتبنا عهده؛ قال زاذان فروخ: ما أهون تحويل عهده! فحول ابن أبي بكرة إلى سجستان، والمهلب إلى خراسان، وأخذ المهلب بألف ألف من خراج الأهواز، وكان ولاها إياه خالد بن عبد الله، فقال المهلب لابنه المغيرة: إن خالدًا ولاني الأهواز، وولاك إصطخر، وقد أخذني الحجاج بألف ألف، فنصف علي ونصف عليك، ولم يكن عند المهلب مال، كان إذا عزل استقرض؛ قال: فكلم أبا معاوية مولى عبد الله بن عامر - وكان أبو ماوية على بيت مال عبد الله بن عامر - فأسلف المهلب ثلثمائة ألف، فقالت خيرة القشيرية امرأة المهلب: هذا لا يفي بما عليك؛ فباعت حليًا لها ومتاعًا، فأكمل خمسمائة ألف، وحمل المغيرة إلى أبيه خمسمائة ألف فحملها إلى الحجاج، ووجه المهلب ابنه حبيبًا على مقدمته، فأتى الحجاج فودعه، فأمر الحجاج له بعشرة آلاف وبغلة خضراء، قال: فسار حبيب على تلك البغلة حتى قدم خراسان هو وأصحابه على البريد، فسار عشرين يومًا، فتلقاهم حين دخلوا حمل حطب، فنفرت البغلة فتعجبوا منها ومن نفارها بعدذلك التعب وشدة السير. فلم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان أمير المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وامير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وخليفته بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله ابن أبي بكرة، وعلى فضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة - فيما قيل - موسى بن أنس. وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم. ثم دخلت سنة تسع وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة في ذلك ما أصاب أهل الشام في هذه السنة من الطاعون حتى كادوا يفنون من شدته، فلم يغز في تلك السنة أحد - فيما قيل - للطاعون الذي كان بها وكثرة الموت. وفيها - فيما قيل -: أصابت الروم أهل أنطاكية. ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل. ذكر الخبر عن غزوته إياه قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته. ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحًا، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجًا، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته. فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضباني، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ماشاء وهدم قلاعًا وحصونًا، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخًا، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالًا، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شئ إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا؛ قال شريح: والله لقد بلغت سنًا، وقد هلكت لداتي، ما تأتي على ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما إخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم؛ فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي. فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز مومئذ ويقول: أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا ** قد عشت بين المشركين أعصرا ثمت أدركت النبي المنذرا ** وبعده صيقه وعمرا ويوم مهران ويوم تسترا ** والجمع في صفينهم والنهرا وبا جميرات مع المشقرا ** هيهات ما أطول هذا عمرا فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطمعة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا. وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذي بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جندًا كثيفًا من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله. وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرًا، وانصرف عنها أمية بن عبد الله، وقيل استعفى شريح القاضي من القضاء في هذه السنة، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج وولى أبا بردة. وحج بالناس في هذه السنة - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر - أبان بن عثمان، وكذلك قال الواقدي وغيره من أهل السير. وكان أبان هذه السنة أميرًا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة على خراجها، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس ثم دخلت سنة ثمانين ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة وفي هذه السنة جاء - فيما حدثت عن ابن سعد، عن محمد بن عمر الواقدي - سيل بمكة ذهب بالحجاج، فغرقت بيوت مكة فسمى ذلك العام عام الجحاف، لأن ذلك السيل جحف كل شئ مر به. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء السيل حتى ذهب بالحجاج ببطن مكة، فسمى لذلك عام الجحاف، ولقد رأيت الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء تمر بهم ما لأحد فيهم حيلة، وإني لأنظر إلى الماء قد بلغ الركن وجاوزه. وفي هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف، فيما زعم الواقدي. ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهر وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة. قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك - وكان الملك يومئذ اسمه السبلي في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر عي عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه. إلى الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله. قال: فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعة إخوة قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: إن الأسد تقل أولادها، والخنازير كثير أولادها. ووجه المهلب ابنه حبيبًا إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفًا، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة. ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب قال: فمكث المهلب سنتين مقيمًا بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين. قال: وخرج رجل من العدو بومًا فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عد لوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قومًا من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم؛ وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فقال المهلب: خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري. ثم صالح المهلب أهل كس على فدية، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج. تسيير الجنود مع ابن الأشعث لحرب رتبيل وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك؛ وقد اختلف أهل السير في سبب توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل؛ فأما يونس بن أبي إسحاق - فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه - فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل وما لقوا بها كتب إليه: أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم وأما ما أردت أن يأتيك فيه من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذي أصيب فيه المسلمون أو كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشدًا موفقًا. وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالسًا حين دخل عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه. قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثًا هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج. فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له؛ فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء. ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملًا وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال عباد: ما رأيت فرسًا أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغلة علنداة، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج؛ يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمي فعسكر بالأهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب. ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطانًا. فقال الحجاج: ليس هنالك، هولى أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي؛ فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان ينة ثمانين؛ فجمع أهلها حين قدمها. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي - رجل من همدان كان معه - أنه صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسركهم ووضعت له الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن محمد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارهًا، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه. ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقًا رستاقًا، وحصنًا حصنًا، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلدًا بعث إليه عاملا، وبعث معه أعوانًا، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضًا عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله. ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم. وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدى السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج بن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه. ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملًا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشًا أنفق عليهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثن أجمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي. وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك وكان على المدينة في هذه السنة آبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس وأغزى عبد الملك في هذه السنة ابنه الوليد. ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففي هذه السنة كان فتح قاليقلا، حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي ابن محمد، قال: أغزى عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بن عبد الملك، ففتح قاليقلا. ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله وكان سبب قتله أن بحيرًا كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر: لعمري لقد أغضبت عينًا على القذى ** وبت بطينا من رحيق مروق وخليت ثأرًا طل واخترت نومة ** ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ** تركت بحيرًا في دم متر قرق فقل لبحير نم ولا تخش ثائرًا ** بعوف فعوف أهل شاة حبلق دع الضأن يومًا قد سبقتم بوتركم ** وصرتم حديثًا بين غرب ومشرق وهبوا فلوا أمسى بكير كعهده ** صحيحًا لغاداهم بجأواء فيلق وقال أيضًا: فلو كان بكر بارزًا في أداته ** وذي العرش لم يقدم عليه بحير ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ** وفي الله طلاب بذاك جدير وبلغ بحيرًا أن الأنباء يتوعدونه، فقال: توعدني الأنباء جهلًا كأنما ** يرون فنائي مقفرًا من بني كعب رفعت له كفي بحد مهند ** حسام كلون الملح ذي رونق عضب فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفًا، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل. ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حمارًا، ومضى إلى سجستان فجاور قرابةً لبحير هنالك ولا طفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثًا قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيرًا عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابًا يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز. قال: فلقي قومًا من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجرًا، فعمل له خنجرًا وأحماه وغمسه في لبن أتان مرارًا، ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بأخرون يومئذ، فلقى بحيرًا بالكتاب، وقال: إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهرًا أو نحوًا من شهر يحضر معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به، قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحدًا، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يومًا وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه يكلمه، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى: يا لثارات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤسًا لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكني ما صنعت خاليًا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرًا؛ فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسًا بالموت صبرًا من هذا؛ وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبجير، فقال له أنس بن طلق: ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشمه أنس وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل أن يموت، فقال له أنس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيرًا، فاستحي هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير: لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إنا لله وإنا إليه راجعون، غزوة أصيب فيها بحير؛ فغضب عوف بن كعب والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجي: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواءً ببكير فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة: لله در فتى تجاوز همه ** دون العراق مفاوزًا وبحورًا ما زال يدأب نفسه ويكدها ** حتى تناول في خرون بحيرا قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فأخذ لصعصعة ديتين. ذكر الخبر عن خلاف ابن الأشعث على الحجاج قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الحجاج ومن معه من جند العراق، وأقبلوا إليه لحربه في قول أبي مخنف، وروايته لذلك عن أبي المخارق الراسبي، وأما الواقدي فإنه زعم أن ذلك كان في سنة اثنتين وثمانين. ذكر الخبر عن السبب الذي دعا عبد الرحمن بن محمد إلى ما فعل من ذلك وما كان من صنيعه بعد خلافه الحجاج في هذه السنة قد ذكرنا فيما مضى قبل ما كان من عبد الرحمن بن محمد في بلاد رتبيل، وكتابه إلى الحجاج بما كان منه هناك، وبما عرض عليه من الرأي فيما يستقبل من أيامه في سنة ثمانين، ونذكر الآن ما كان من أمره في سنة إحدى وثمانين في رواية أبي مخنف، عن أبي المخارق. ذكر هشام عن أبي مخنف قال: قال أبو المخارق الراسبي: كتب الحجاج إلى عبد الرحمن بن محمد جواب كتابه: أما بعد، فإن كتابك أتاني، وفهمت ما ذكرت فيه، وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدوًا قليلًا ذليلًا، قد أصابوا من المسلمين جندًا كان بلاؤهم حسنًا، وغناؤهم في الإسلام عظيمًا. لعمرك يا بن أم عبد الرحمن؛ إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخى النفس عمن أصيب من المسلمين. إني لم أعدد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأى مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك، والتياث رأيك، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم. ثم أردفه كتابًا فيه: أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم أردفه كتابًا آخر فيه: أما بعد، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، وإلا فإن إسحاق ابن محمد أخاك أمير الناس، فخله وما وليته. فقال حين قرأ كتابه: أنا أحمل ثقل إسحاق؛ فعرض له، فقال: لا تفعل، فقال: ورب هذا - يعني المصحف - لئن ذكرته لأحد لأقتلنك. فظن أنه يريد السيف، فوضع يده على قائم السيف، ثم دعا الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب، ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأى استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولى التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأيًا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحًا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج، فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني، ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني أن أباه كان أول متكلم يومئذ، وكان شاعرًا خطيبًا، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد، فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك، إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادًا كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذي لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب، فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله، وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيًا - وكان على شرطته حين أقبل - فقال: عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعوني على خلع الحجاج عدو الله وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء قال أبو مخنف: حدثني عمر بن ذر القاص أن أباه كان معه هنالك، وأن ابن محمد كان ضربه وحبسه لا نقطاعه كان إلى أخيه القاسم بن محمد، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف دعاه فحمله وكساه وأعطاه، فأقبل معه فيمن أقبل، وكان قاصًا خطيبًا قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي أن ابن محمد لما أقبل من سجستان أمر على بست عياض ابن هميان البكري، من بني سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي ثم الدارمي، ثم بعث إلى رتبيل، فصالحه على أن ابن الأشعث إن ظهر فال خراج عليه أبدًا ما بقي، وإن هزم فأراده ألجأه عنده. قال أبو مخنف: حدثني خشينة بن الوليد العبسي أن عبد الرحمن لما خرج من سجستان مقبلا إلى العراق سار بين يديه الأعشى على فرس، وهو يقول: شطت نوى من داره بالإيوان ** إيوان كسرى ذي القرى والريحان من عاشق أمسى بزابلستان ** إن ثقيفًا منهم الكذابان كذابها الماضي وكذاب ثان ** أمكن ربي من ثقيف همدان يومًا إلى الليل يسلى ما كان ** إنا سمونا للكفور الفتان حين طغى في الكفر بعد الإيمان ** بالسيد الغطريف عبد الرحمن سار بجمع كالدبى من قحطان ** ومن معد قد أتى ابن عدنان بجحفل جم شديد الإرنان ** فقل لحجاج ولي الشيطان يثبت لجمع مذحج وهمدان ** فإنهم ساقوه كأس الذيقان وملحقوه بقرى ابن مروان قال: وبعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وبعث الحجاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلا هزمها، فقال الحجاج: من هذا؟ فقيل له: عطية، فذلك قول الأعشى: فإذا جعلت دروب فا ** رس خلفهم دربًا فدربا فابعث عطية في الخيو ** ل يكبهن عليك كبًا ثم إن عبد الرحمن أقبل يسير بالناس، فسأل عن أبي إسحاق السبيعي، وكان قد كتبه في أصحابه، وكان يقول: أنت خالي، فقيل له: ألا تأتيه فقد سأل عنك! فكره أن يأتيه، ثم أقبل حتى مر بكرمان فبعث عليهم خرشة ابن عمرو التميمي، ونزل أبو إسحاق بها، فلم يدخل في فتنته حتى كانت الجماجم، ولما دخل الناس فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس. قال أبو مخنف فيما حدثني أبو الصلت التيمي: خلع عبد الملك بن مروان تيحان بن أبجر من تيم الله بن ثعلبة، فقام فقال: أيها الناس، إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي، فخلعه الناس إلا قليلًا منهم، ووثبوا إلى ابن محمد فبايعوه، وكانت بيعته: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع. فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ويسأله أن يعجل بعثه الجنود إليه، وبعث كتابه إلى عبد الملك يتمثل في آخره بهذه الأبيات، وهي للحارث بن وعلة: سائل مجاور جرم جنيت لهم ** حربًا تفرق بين الجيرة الخلط وهل سموت بجرار له لجب ** جم الصواهل بين الجم والفرط وهل تركت نساء الحي ضاحية ** في ساحة الدار يستوقدون بالغبط وجاء حتى نزل البصرة. وقد كان بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن وهو بسجستان، فكتب إليه: أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا بن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد ﷺ. الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها؛ ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم والسلام عليك. وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويثموا أولادهم، ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إنا شاء الله. فلما قرأ كتابه قال: فعل الله به وفعل، لا والله مالي نظر. ولكن لابن عمه نصح. لما رقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد ين معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته. قال: فخرج إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري. اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك. ثم نزل. وأقام الحجاج بالبصرة وتجهز ليلقى ابن محمد. وترك رأي المهلب وفرسان الشام يسقطون إلى الحجاج، في كل يوم مائة وخمسون وعشرة وأقل على البرد من قبل عبد الملك، وهو في كل يوم تسقط إلى عبد الملك كتبه ورسله بخبر ابن محمد أي كورة نزل، ومن أي كورة يرتحل، وأي الناس إليه أسرع. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج أن مكتبه كان بكرمان، وكان بها أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأهل البصرة، فلما مر بهم ابن محمد بن الأشعث، انجلفوا معه، وعزم الحجاج رأيه على استقبال ابن الأشعث، فسار بأهل الشام حتى نزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حر العكي - أو الجذامى - وعبد الله بن رميشه الطائي، ومطهر على الفريقين، فجاءوا حتى انتهوا إلى دجيل، وقد قطع عبد الرحمن بن محمد خيلا له، عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلثمائة فارس - وكانت مسلحةً له وللجند - فلما انتهى إليه مطهر بن حر أمر عبد الله بن رميثة الطائي فأقدم عليهم، فهزمت خيل عبد الله حتى انتهت إليه، وجرح أصحابه. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في أصحاب ابن محمد إذ دعا الناس وجمعهم إليه ثم قال: اعبروا إليه من هذا المكان، فأقحم الناس خيولهم دجيل من ذلك المكان الذي أمرهم به. فوالله ما كان بأسرع من أن عبر عظم خيولنا، فما تكاملت حتى حملنا على مطهر بن حر والطائي فهزمناهما يوم الأضحى في سنة إحدى وثمانين وقتلناهم قتلا ذريعًا، وأصبنا عسكرهم، وأتت الحجاج الهزيمة وهو يخطب، فصعد إليه أبو كعب بن عبيد بن سرجس فأخبره بهزيمة الناس، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر ومقاتل وطعام ومادة، فإن هذا المكان الذي نحن به لا يحمل الجند، ثم انصرف راجعًا وتبعته خيول أهل العراق، فكلما أدركوا منهم شاذًا قتلوه، وأصابوا ثقلا حووه، ومضى الحجاج لا يلوي على شيء حتى نزل الزاوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلاء فأخذه فحمله إليه، وخلى البصرة لأهل العراق. وكان عامله عليها الحكم ابن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي. وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة. وقد كان الحجاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعًا دعا بكتاب المهلب، فقرأه ثم قال: لله أبوه! أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي، ولكنا لم نقبل. وقال غير أبي مخنف: كان عامل البصرة يومئذ الحكم بن أيوب على الصلاة والصدقة، وعبد الله بن عامر بن مسمع على الشرط، فسار الحجاج في جيشه حتى نزل رستقباذ وهي من دستوري من كور الأهواز، فعسكر بها، وأقبل ابن الأشعث فنزل تستر، وبينهما نهر، فوجه الحجاج مطهر ابن حر العكي في ألفي رجل، فأوقعوا بمسلحة لابن الأشعث، وسار ابن الأشعث مبادرًا، فواقعهم، وهي عشية عرفة من سنة إحدى، وثمانين فيقال: إنهم قتلوا من أهل الشام ألفًا وخمسمائة، وجاءه الباقون منهزمين، ومعه يومئذ مائة وخمسون ألف ألف، ففرقها في قواده، وضمنهم إياها، وأقبل منهزمًا إلى البصر. وخطب ابن الأشعث أصحابه فقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، وبلغ أهل البصرة هزيمة الحجاج، فأراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر دونه، فرشاه الحكم ابن أيوب مائة ألف، فكف عنه. ودخل الحجاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر فانتزع المائة الألف منه. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف عن أبي الزبير الهمداني. فلما دخل عبد الرحمن بن محمد البصرة بايعه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من قراءها وكهولها، وكان رجل من الأزد من الجهاضن يقال له عقبة بن عبد الغافر له صحابة، فننزا فبايع عبد الرحمن مستبصرًا في قتال الحجاج، وخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن على البصرة. وكان دخول عبد الرحمن البصرة فر آخر ذي الحجة من سنة إحدى وثمانين. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك، كذا حدثني أحمد ابن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي، وقال: في هذه السنة ولد ابن أبي ذئب. وكان العامل في هذه السنة على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعلى حرب خراسان المهلب، وعلى خراجها المغيرة بن المهلب من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ذكر الخبر عن الكائن من الأحداث فيها خبر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث بالزاوية فمن ذلك ما كان بين الحجاج وعبد الرحمن بن محمد من الحروب بالزاوية، ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني قال: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم. ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج، وحتى قاتلوهم على خنادقهم، وانهزمت عامة قريش وثقيف، حتى قال عبيد بن موهب مولى الحجاج وكاتبه: فر البراء وابن عمه مصعب ** وفرت قريش غير آل سعيد ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام، فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوض صفهم، حتى دنوا منا، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه، وانتضى نحوًا من شبر من سيفه، وقال: لله در مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل! فعلمت أنه والله لايريد أن يفر قال: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي، فغمزني غمزةً شديدة، فسكنت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد الكلبي قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: أبشر أيها الأمير، فإن الله قد هزم العدو. فقال لي: قم فانظر؛ قال: فقمت فنظرت؛ فقلت: قد هزمهم الله، قال: قم يا زياد فانظر؛ قال: فقام فنظر فقال: الحق أصلحك الله يقينًا قد هزموا، فخر ساجدًا، فلما رجعت شتمني أبي وقال: أردت أن تهلكني وأهل بيتي. وقتل في المعركة عبد الرحمن بن عوسجة أبو سفيان النهمي، وقتل عقبة ابن عبد الغافر الأزدي ثم الجهضي، في أولئك القراء في ربضة واحدة وقتل عبد الله بن رزام الحارثي، وقتل المنذر بن الجارود، وقتل عبد الله ابن عامر بن مسمع، وأتى الحجاج برأسه، فقال: ما كنت أرى هذا فارقني حتى جاءني الآن برأسه؛ وبارز سعيد بن يحيى ين سعيد بن العاص رجلًا يومئذ فقتله، وزعموا أنه كان مولى للفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، كان شجاعًا يدعى نصيرًا، فلما رأى مشيته بين الصفين، وكان يلومه على مشيته قال: لا ألومه على هذه المشية أبدًا. وقتل الطفيل بن عامر بن واثلة، وقد كان وهو بفارس يقبل مع عبد الرحمن من كرمان إلى الحجاج: ألا طرقتنا بالغريين بعدما ** كللنا على شحط المزار جنوب أتوك يقودون المنايا وإنما ** هدتها بأولانا إليك ذنوب ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ** من الله في دار القرار نصيب ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله ** عذاب بأيدي المؤمنين مصيب متى نهبط المصرين يهرب محمد ** وليس بمنجي ابن اللعين هروب قال: منيتنا أمرًا كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة. وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة. ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمن ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة - وكان جريحًا - إلى سفوان فمات من جراحته، وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت: وحامي زياد على رايته ** وفر جدي بني العنبر فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمنًا بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال: علام تلومين من لم يلم ** تطاول ليلك من معصر! فإن كان أردى أباك السنان ** فقد تلحق الخيل بالمدير وقد تنطح الخيل تحت العجا ** ج غير البرى ولا المعذر ونحن منعنا لواء الحريش ** وطاح لواء بني جحدر فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا: خلى طفيل على الهم فانشعبا ** وهد ذلك ركني هدة عجبا وابني سمية لا أنساهما أبدًا ** فيمن نسيت وكل كان لي نصبا وأخطأتني المنايا لا تطالعني ** حتى كبرت ولم يتركن لن نشبا وكنت بعد طفيل كالذي نضبت ** عنه المياه وفاض الماء فأنقضبا فلا بعير له في الأرض يركبه ** وإن سعى إثر من قد فاته لغبا وسار من أرض خاقان التي غلبت ** أبناء فارس في أربائها غلبا ومن سجستان أسباب تزينها ** لك المنية حينًا كان مجتلبا حتى وردت حياض الموت فانكشفت ** عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا وغادروك صريعًا رهن معركة ** ترى النسور على القتلى بها عصبا تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا ** وأسلموا للعدو السبي والسلبا يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهم ** وهم كثير يرون الخزي والحربا قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقم بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصرة أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، حليف حرب ابن أمية على الكوفة. قال أبو مخنف - كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: إنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام قالأبو مخنف: فحدثن سهم بن عبد الرحمن الجهني أنهم كانوا ألفين، وكان حنظلة بن الوراد من بني رياح ين يربوع التميمي وابن عتاب ابن ورقاء على المدائنن وكان مطر بن ناجية من بني يربوع على المعونة، فلما بلغه ما كان من أمر ابن الأشعث أقبل حتى دنا من الكوفة، فتحصن منه ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر بن ناجية بابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام فحاصرهم، فصالحوه على أن يخرجوا ويخلوه والقصر، فصالحهم. قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فألقى جحفلته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم. قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها. وأقبل ابن الأشعث منهزمًا إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها. وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم. قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين. ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعدما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق - فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى - فافعل. فعدلت ودخل الناس، فلما دخلى الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند دار عمرو بن حريث إلا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس. فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتى به عبد الرحمن بن محمد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك وأعظمهم عنك غناء؛ فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه. وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من أهل البصرة عبد الرحمن ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثًا، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدى الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثًا. وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم! واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعًا على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مئة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم. وجاءت الحجاج أيضًا أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا. فنزل فكان في عسكره مخندقًا وابن محمد في عسكره مخندقًا، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضًا، وأدنى خندقه من صاحبه. واشتد القتال بينهم. فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضى أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماهم. فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعنا جميعًا عنده؛ كلاهما في جند بهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطائهم كما تجري على أهل الشام، وأن ينزل ابن محمد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه واليًا ما دام حيًا، وكان عبد الملك واليًا؛ فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولى القتال، محمد بن مروان وعبد الملك في طاعته. فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح. خار الله لك فيما ارتأيت. والسلام عليك. فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال: يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذاو كذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا. وقال محمد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. قالوا: نرجع العشية، فرجعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدًا ما بقيتم. فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل. فأعادوا خلعه ثانية. وكان عبد الله بن ذواب السلمي وعمير بن تيجان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس، فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة. وقد زعم أبو يزيد السكسكي أنه إنما كان أيضًا يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن محمد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله مالهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعنى فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس - ومد بها صوته يسمع الناس - وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبي، وسعيد ابن جبير، وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون؛ وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، وق غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر. ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلًا ركينًا وقورًا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن محمد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم. قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات؛ كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئًا. ذكر الخبر عن وفاة المغيرة بن المهلب وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان. ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، قال: كان المغيرة بن المهلب خليفة أبيه بمرو على عمله كله، فمات فر رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد، وعلمه أهل العسكر فلم يخبروا المهلب، وأحب يزيد أن يبلغه، فأمر النساء فصرخن، فقال المهلب: ماهذا؟ فقيل: مات المغيرة، فاسترجع، وجزع حتى ظهر جزعه عليه، فلامه بعض خاصته، فدعى يزيد فوجهه إلى مرو، فجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته. وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيدًا، وكان المهلب يوم مات المغيرة مقيمًا بكس وراء النهر لحرب أهلها. قال: فسار يزيد في ستين فارسًا - ويقال: سبعين - فيهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي وعبد الله بن معمر بن سمير اليشكري، ودينار السجستاني، والهيثم بن منخل الجرموزي، وغزوان الإسكاف صاحب زم - وكان أسلم على يد المهلب - وأبو محمد الزمى، وعطية - مولى العتيك - فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة نسف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار؛ قالوا: فأين الأثقال؟ قالوا: قدمناها؛ قالوا: فأعطونا شيئًا، فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة ثوبًا وكرابيس وقوسًا، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنت أعلم بهم فقاتلوهم، فاشتد القتال بينهم، ويزيد على فرس قريب من الأرض، ومعه رجل من الخوارج كان يزيد أخذه، فقال: استبصقني! فمن عليه، فقال له: ما عندك؟ فحمل عليهم حتى خالطهم وصار من وراءهم وقد قتل رجلًا، ثم كر فخالطهم حتى تقدمه وقتل رجلًا ثم رجع إلى يزيد. وقتل يزيد عظيمًا من عظمائهم. ورمى يزيد في ساقه، واشتدت شوكتهم، وهرب أبو محمد الزمى، وصبر لهم يزيد حتى حاجزوهم، وقالوا: قد غدرنا، ولكن لا ننصرف حتى نموت جميعًا أو تموتوا أو تعطونا شيئًا، فحلف يزيد لا يعطيهم شيئًا، فقال مجاعة: أذكرك الله، قد هلك المغيرة، وقد رأيت ما دخل على المهلب من مصابه، فأنشدك الله أن تصاب اليوم! قال: إن المغيرة لم يعد أجله، ولست أعدوا أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا، وجاء أبو محمد الزمى بفوارس وطعام، فقال له يزيد: أسلمتنا يا أبا محمد؛ فقال: إنما ذهبت لأجيئكم بمدد وطعام، فقال الراجز: يزيد يا سيف أبا سعيد ** قد علم الأقوام والجنود والجمع يوم المجمع المشهود ** أنك يوم الترك صلب العود وقال الأشقري: والترك تعلم إذ لاقى جموعهم ** أن قد لقوه شهابًا يفرج الظلمى بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ** غير التأسى وغير الصبر معتصما نرى شرائج تغشى القوم من علق ** وما أرى نبوة منهم ولا كزمى وتحتهم قرح يركبن ماركبوا ** من الكريهة حتى ينتلعن دما في حازة الموت حتى جن ليلهم ** كلا الفريقين ما ولى ولا انهزما وفي هذه السنة صالح المهلب أهل كس على فدية، ورحل عنها يريد مرو. ذكر الخبر عن سبب إنصراف المهلب عن كس ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن المهلب اتهم قومًا من مضر فحبسهم وقفل من كِسّ وخلفهم، وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة، وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن. وقطع النهر فلما صار ببلخ أقام بها وكتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخلى الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كس: إن المهلب كتب إلي أن أحبس الرهن حتى أقدم أرض بلخ، فإن عجلت لي ما عليك سلمت إليك رهائنك، وسرت فعجل لهم صلحهم، ورد عليهم من كان في أيديهم منهم. وأقبل فعرض لهم الترك، فقالوا: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذًا أم يزيد! وقاتلهم فقتلهم، وأسر منهم أسرى ففدوهم، فمن عليهم وخلاهم، ورد عليهم الفداء. وبلغ المهلب قوله: ولدتني أم يزيد إذًا، فقال: يا أنف العبد أن تلده رحمه! وغضب. فلما قدم عليه بلخ قال له: أين الرهن؟ قال: قبضت ماعليهم وخليتهم، قال: ألم أكتب إليك ألا تخليهم! قال: أتاني كتابك وقد خليتهم، وقد كفيت ما خفت؛ قال: كذبت، ولكنك تقربت إليهم وإلى ملكهم فأطلعته على كتابي إليك. وأمر بتجريده، فجزع من التجريد حتى ظن المهلب أن به برصا، فجرده وضربه ثلاثين صوتًا. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلثمائة صوت ولم يجردني، أنفًا واستحياء من التجريد، وحلف ليقتلن المهلب فركب المهلب يومًا وركب حريث، فأمر غلامين له وهو يسير خلف المهلب أن يضرباه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، ولم يجترئ الآخر لما صار وحده أن يقدم عليه، فلما رجع قال لغلامه: ما منعك منه؟ قال: الإشفاق والله عليك، ووالله ما جزعت على نفسي، وعلمت أنا إن قتلناه أنك ستقتل ونقتل، ولكن كان نظري لك، ولو كنت أعلم أنك تسلم من القتل لقتلته. قال: فترك حريث إتيان المهلب وأظهر أنه وجع، وبلغ المهلب، أنه تمارض وأنه يريد الفتك به، فقال المهلب لثابت بن قطبة: جئني بأخيك، فإنما هو كبعض ولدي عندي، وما كان ما كان من إليه إلا نظرًا له وأدبًا، ولربما ضربت بعض ولدي أؤدبه. فأتى ثابت أخاه فناشده، وسأله أن يركب. إلى المهلب، فأبى وخافه وقال: والله لا أجيئه بعد ما صنع بي ما صنع، ولا آمنه ولا يأمنني فلما رأى ذلك أخوه ثابت قال له: أما إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، وخاف ثابت أن يفتك حريث بالمهلب فيقتلون جميعًا؛ فخرجا في ثلثمائة من شاكريتهما والمنقطعين إليها من العرب. خبر وفاة المهلب بن أبي صفرة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي المهلب بن أبي صفرة. ذكر الخبر عن سبب موته ومكان وفاته قال علي بن محمد: حدثني المفضل، قال: مضى المهلب منصرفه من كس يريد مرو، فلما كان بزاغول من مرو الروذ أصابته الشوصة - وقوم يقولون: الشوكة - فدعا حبيبًا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفتروكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم؛ قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تنسئ في الأجل، وتشري المال، وتكثر العدد؛ وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا، وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم؛ إن بني الأم يختلفون، فكيف ببني العلات! وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإن أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك. إعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإن كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب. وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن، وأدب الصالحين، وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبًا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه. ومات المهلب وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب، ثم سار إلى مرو. وكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج ويقال: إنه قال عند موته ووصيته: لو كان الأمر إلي لوليت سيد ولدي حبيبًا. قال: وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين، فقال نهار بن توسعة التميمي: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ** ومات الندى والجود بعد المهلب أقام بمرو الروذ رهني ضريحه ** وقد غيبا عن كل شرق ومغرب إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ** على الناس؟ قلناه ولم نتهيب أبح لنا سهل البلاد وحزنها ** بخيل كأرسال القطا المتسرب يعرضها للطعن حتى كأنما ** يجللها بالأرجوان المخضب تطيف به قحطان قد عصبت به ** وأحلافها من حي بكر وتغلب وحيا معد عوذ بلوائه ** يفدونه بالنفس والأم والأب وفي هذه السنة ولى الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب خراسان بعد موت المهلب. وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة؛ قال الواقدي: عزله عنها لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخر. قال: وفيها ولى عبد الملك هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة. وعزل هشام بن إسماعيل عن قضاء المدينة لما وليها نوفل بن مساحق العامري، وكان يحيى بن الحكم هو الذي استقضاه على المدينة، فلما عزل يحيى ووليها أبان ابن عثمان أقره على قضائها؛ وكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاث عشرة ليلة، فلما عزل هشام بن إسماعيل نوفل بن مساحق عن القضاء ولى مكانه عمرو بن خالد الزرقي. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عم إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان على الكوفة والبصرة والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد ابن المهلب من قبل الحجاج. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ذكر الأحداث التي كانت فيها خبر هزيمة ابن الأشعث بدير الجماجم فمما كان فيها من ذلك هزيمة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم. ذكر الخبر عن سبب انهزامه ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في خيل جبلة بن زحل، فلما حمل عليه أهل الشام مرة بعد مرة، نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه فقال: يا معشر القراء، إن الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم؛ إني سمعت عليًا - رفع الله درجته في الصالحين، وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصديقين - يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنه من رأى عدوانًا يعمل به، ومنكرًا يدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه، وقال أبو البختري: أيها الناس، قاتلوهم على دينكم ودنياكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليفسدن عليكم دينكم، وليغلبن على دنياكم. وقال الشعبي: يا أهل الإسلام، قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، فوالله ما أعلم قومًا على بسيط الأرض أعمل بظلم، ولا أجور منهم في الحكم، فليكن بهم البدار. وقال سعيد بن جبير: قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم، وتجبرهم في الدين، واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة. قال أبو مخنف، قال أبو الزبير: فتهيأنا للحملة عليهم، فقال لنا جبلة: إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى تواقعوا صفهم. قال: فحملنا عليهم حملة بجد منا في قتالهم، وقوة منا عليهم، فضربنا الكتائب الثلاث حتى اشفترت، ثم مضينا حتى واقعنا صفهم فضربناهم حتى أزلناهم عنه، ثم انصرفنا فمررنا بجبلة صريعًا لا ندري كيف قتل. قال: فهدنا ذلك وجبنا فوقفنا موقفنا الذي كنا به، وإن قراءنا لمتوافرون، ونحن نتناعى جبلة بن زحر بيننا، كأنما فقد به كل واحد منا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشد علينا فقدًا، فقال لنا أبو البختري الطائي: لا يستبينن فيكم قتل جبلة بن زحر، فإنما كان كرجل منكم أتته منيته ليومها، فلم يكن ليتقدم يومه ولا ليتأخر عنه، وكلكم ذائق ما ذاق، ومدعو فمجيب. قال: فنظرت إلى وجوه القراء فإذا الكآبة على وجوههم بينة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل فيهم قد ظهر، وإذا أهل الشام قد سروا وجذلوا، فنادوا: يا أعداء الله، قد هلكتم، وقد قتل الله طاغوتكم. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي أن جبلة حين حمل هو وأصحابه علينا انكشفنا، وتبعونا، وافترقت منا فرقة فكانت ناحية، فنظرنا فإذا أصحابه يتبعون أصحابنا، وقد وقف لأصحابه ليرجعوا إليه على رأس رهوة، فقال بعضنا، هذا والله جبلة بن زجر، إحملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال عنه لعلكم تصيبونه. قال: فحملنا عليه، فأشهد ما ولى، ولكن حنل علينا بالسيف. فلما هبط من الرهوة شجرناه بالرماح فأذريناه عن فرسه فوقع قتيلًا، ورجع أصحابه، قلما رأيناهم مقبلين تنحينا عنهم، فلما رأوه قتيلًا رأينا من استرجاعهم وجزعهم ما قرت به أعيننا؛ قال: فتبينا ذلك في قتالهم إيانا وخوجهم إلينا قال أبو مخنف: حدثني سهم بن عبد الرحمن الجهني، قال: لما أصيب جبلة هد الناس مقتله، حتى قدم علينا بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجع الناس مقدمه، وقالوا: هذا يقوم مقام جبلة، فسمع هذا القول من بعضهم أبو البختري، فقال: قبحتم! إن قتل منكم رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن ابن مصقلة ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة، وقلتم: لم يبق أحد يقاتل معه! ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم! وكان مقدم بسطام من الري، فالتقى هو وقتيبة في الطريق، فدعاه قتيبة إلى الحجاج وأهل الشام، ودعاه بسطام إلى عبد الرحمن وأهل العراق، فكلاهما أبى على صاحبه، وقال بسطام: لأن أموت مع أهل العراق أحد إلي من أن أعيش مع أهل الشام، وكان قد نزل ماسبذان؛ فلما قدم قال لابن محمد: أمرني على خيل ربيعة؛ ففعل، فقال لهم: يا معشر ربيعة، إن في شرسفة عند الحرب فاحتملوها لي - وكان شجاعًا - فخرج الناس ذات يوم ليقتتلوا، فحمل في خيل ربيعة حتى دخل عسكرهم، فأصابوا فيهم نحوًا من ثلاثين امرأة من بين أمة وسرية، فأقبل بهن حتى إذا دنا من عسكره ردهن، فجئن ودخلن عسكر الحجاج، فقال: أولى لهم! منع القوم نساءهم، أما لو لم يردوهن لسبيت نساؤهم غدًا إذا ظهرت. ثم اقتتلوا يومًا آخر بعد ذلك، فحمل عبد الله بن مليل الهمداني في خيل له حتى دخل عسكرهم فسبا ثماني عشر امرأة، وكان معه طارق بن عبد الله الأسدي - وكان راميًا - فخرج شيخ من أهل الشام من فسطاطة، فأخذ الأسدي يقول لبعض أصحابه: استر مني هذا الشيخ لعلني أرميه أو أحمل عليه فأطعنه، فإذا الشيخ يقول رافعًا صوته: اللهم لمنا وإياهم بعافية؛ فقال الأسدي: ما أحب أن أقتل مثل هذا، فتركه، وأقبل ابن مليل بالنساء غير بعيد؛ ثم خلى سبيلهن أيضًا، فقال الحجاج مثل مقالته الأولى. قال هشام: قال أبي: أقبل الوليد بن نحيت الكلبي من بني عامر في كتيبة إلى جبلة بن زحر، فانحط عليه الوليد بن رابية - وكان جسيمًا، وكان جبلة رجلا ربعة - فالتقيا، فضربه على رأسه فسقط، وانهزم أصحابه وجيء برأسه. قال هشام: فحدثني بهذا الحديث أبو مخنف وعوانة الكلبي، قال: لما جيء برأس جبلة بن زحر إلى الحجاج حمله على رمحين ثم قال: يا أهل الشام، أبشروا؛ هذا أول الفتح، لا والله ما كانت فتنة قط فخبت حتى يقتل فيها عظيم من عظماء أهل اليمن، وهذا من عظمائهم. ثم خرجوا ذات يوم فخرج رجل من أهل الشام يدعوا إلى المبارزة، فخرج إليه الحجاج ابن جارية، فحمل عليه، فطعنه فأذاره وحمل أصحابه فاستنقذوه، فإذا هو رجل من خثعمة يقال له أبو الدرداء فقال الحجاج بن جارية: أما إني لم أعرفه حتى وقع، ولو عرفته ما بارزته ما أحب أن يصاب من قومي مثله. وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه ابن عم له من أهل الشام، فاضطربا بسيفيهما، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ فلما تساءلا تحاجزا. وخرج عبد الله بن رزام الحارثي إلى كتيبة الحجاج، وقال: اخرجوا لي رجلا رجلا، فأخرج إليه رجل، فقتله ثم فعل ذلك ثلاثة أيام، يقتل كل يوم رجلًا، حتى إذا كان اليوم الرابع أقبل، فقالوا: قد جاء لا جاء الله به! فدعا إلى المبارزة، فقال الحجاج للجراح: اخرج إليه، فخرج إليه، فقال له عبد الله بن رزام - وكان له صديقًا: ويحك يا جراح! ما أخرجك إلي! قال: قد ابتليت بك، قال: فهل لك في خير؟ قال: ما هو؟ قال: أنهزم لك فترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فإني أحتمل مقالة الناس في إنهزامي عنك حبًا لسلامتك، فإني لا أحب أن أقتل من قومي مثلك؛ قال: فافعل، فحمل عليه فأخذ يستطرد له - وكان الحارثي قد قطعت لهاته، وكان يعطش كثيرًا، وكان معه غلامه له معه إدواة من ماء، فكلما عطش سقاه الغلام - فاطرد له الحارثي، وحمل عليه الجراح حملة بجد لا يريد إلا قتله، فصاح به غلامه: إن الرجل جاد في قتلك! فعطف عليه فضربه بالعمود على رأسه فصرعه، فقال لغلامه: إنضح على وجهه من ماء الإدواة، واسقه؛ ففعل ذلك به، فقال: يا جراح، بئسما ما جزيتني، أردت بك العافية وأردت أن تزريني المنية! فقال: لم أرد ذلك، فقال: انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان، قال: قال سعيد الحرشي: أنا في صف القتال يومئذ إذ خرج رجل من أهل العراق، يقال له: قدامة بن الحريش التميمين فوقف بين الصفين، فقال: يا معشر جرامقة أهل الشام، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، فإن أبيتم فليخرج إلي رجل، فخرج إليه رجل من أهل الشام فقتله، حتى قتل أربعة، فلما رأى ذلك الحجاج أمر مناديًا فنادى: لا يخرج إلى هذا الكلب أحد، قال: فكف الناس. قال سعيد الحبشي: فدنوت من الحجاج فقلت: أصلح الله الأمير! إنك رأيت ألا يخرج إلى هذا الكلب أحد، وإنما هلك من هلك من هؤلاء النفر بآجالهم، ولهذا الرجل آجل، وأرجو أن يكون قد حضر، فأذن لأصحابي الذين قدموا معي فليخرج إليه رجل منهم، فقال الحجاج: إن هذا الكلب لم يزل هذا له عادة وقد أرعب الناس، وقد أذنت لأصحابك، فمن أحب أن يقوم فليقم. فرجع سعيد الحرشي إلى أصحابه فأعلمهم، فلما نادى ذلك الرجل بالبراز برز إليه رجل من أصحاب الحرشي، فقتله قدامة، فشق ذلك على سعيد، وثقل عليه لكلامه الحجاج، ثم نادى قدامة: من يبارز؟ فدنا سعيد من الحجاج، فقال: أصلح الله الأمير! إئذن لي في الخروج إلى هذا الكلب. فقال: وعندك ذلك؟ قال سعيد: نعم، أنا كما تحب؛ فقال الحجاج: أرني سيفك، فأعطاه إياه، فقال الحجاج: معي سيف أثقل من هذا، فأمر له بالسيف، فأعطاه إياه، فقال الحجاج - ونظر إلى سعيد فقال: ما أجود درعك وأقوى فرسك! ولا أدري كيف تكون مع هذا الكلب! قال سعيد: أرجو أن يظفرني الله به؛ قال الحجاج: اخرج على بركة الله. قال سعيد: فخرجت إليه، فلما دنوت منه، قال: قف يا عدو الله، فوقفت، فسرني ذلك منه، فقال: إختر إما أن تمكني فأضربك ثلاثًا، وإما أن أمكنك فتضربني ثلاثًا، ثم تمكنني. قلت: أمكني، فوضع صدره على قربوسه ثم قال: إضرب، فجمعت يدي على سيفي، ثم ضربت على المغفر متمكنًا، فلم يصنع شيئًا، فساءني ذلك من سيفي ومن ضربتي، ثم أجمع رأيي أن أضربه على أصل العاتق، فإما أن أقطع وإما أن أوهن يده عن ضربته، فضربته فلم أصنع شيئًا؛ فساءني ذلك ومن غاب عني ممن هو في ناحية العسكر حين بلغه ما فعلت، والثالثة كذلك. ثم اخترط سيفًا ثم قال: أمكني، فأمكنته، فضربني ضربةً صرعني منها، ثم نزل عن فرسه وجلس على صدري، وانتزع من خفيه خنجرًا أو سكينًا فوضعها على حلقي يريد ذبحي، فقلت له: أنشدك الله! فإنك لست مصيبًا من قتلي الشرف والذكر مثل ما أنت مصيب من تركي، قال: ومن أنت؟ قلت: سعيد الحرشي، قال: أولى يا عدو الله! فانطلق فأعلم صاحبك ما لقيت. قال سعيد: فانطلقت أسعى حتى أنتهيت إلى الحجاج، فقال: كيف رأيت! فقلت: الأمير كان أعلم بالأمر. رجع الحديث إلى الحديث أبي مخنف، عن أبي يزيد، قال: وكان أبو البختري الطائي وسعيد بن جبير يقولان: " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا " إلى آخر الآية، ثم يحملان حتى يواقعا الصف. قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم سواء أعدها عدًا. قال: نزلنا دير الجماجم مع ابن محمد غداة الثلاثاء ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وهزمنا يوم الأربعاء بأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة عند إمتداد الضحى ومتوع النهار، وما كنا قط أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم. قال: خرجنا إليهم وخرجوا إلينا يوم الأربعاء، لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة، فقاتلناهم عامة النهار أحسن قتال قاتلناهموه قط، ونحن أمنون من الهزيمة، عالون بالقوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من قبل ميمنة أصحابه، حتى دنا من الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن بن محمد، فوالله ما قاتله كبير كبير قتال حتى انهزم، فأنكرها الناس منه، وكان شجاعًا ولم يكن الفرار له بعادة، فظن الناس أنه قد كان أومن، وصولح على أن ينهزم بالناس، فلما فعلها تقوضت الصفوف من نحوه، وركب الناس وجوههم وأخذوا في كل وجه، وصعد عبد الرحمن بن محمد المنبر، فأخذ ينادي الناس: عباد الله، إلي أنا ابن محمد؛ فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره، وجاء عبد الله بن ذؤاب السلمي في خيل له، فوقف منه قريبًا، وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبلهم تحوزه، فقال: يا بن رزام، احمل على هذه الرجال والخيل، فحمل عليهم حتى أمعنوا. ثم جاءت خيل لهم أخرى ورجال، فقال: احمل عليهم يا بن ذؤاب، فحمل عليهم حتى أمعنوا، وثتب لا يبرح منبره، ودخل أهل الشام العسكر، فكبروا، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفل الأزدي - وكانت مليكة ابنة أخيه امرأة عبد الرحمن - فقال: إنزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعًا يهلكهم الله به بعد اليوم. فنزل وخلى أهل العراق العسكر، وانهزموا لا يلوون على شيء، ومضا عبد الرحمن بن محمد مع ابن جعدة بن هبيرة ومعه أناس من أهل بيته؛ حتى إذا حاذوا قرية بني جعدة بالفلوجة دعوا بمعبر، فعبروا فيه، فانتهى إليهم بسطام بن مصقلة، فقال: هل في السفينة عبد الرحمن بن محمد؟ فلم يكلموه، وظن أنه فيهم، فقال: " لا وألت نفس عليها تحاذر " ضرم قيس على البلا ** د حتى إذا اضطرمت أجذما ثم جاء حتى انتهى إلى بيته وعليه السلاح وهو على فرسه لم ينزل عنه، فخرجت إليه ابنته فالتزمها، وخرج إليه أهله يبكون، فأوصاهم بوصية وقال: لا تبكوا، أرأيتم إن لم أترككم، كم عسيت أن أبقى معكم حتى أموت! وإن أنا مت فإن الذي رزقكم الآن حي لا يموت، وسيرزقكم بعد وفاتي كما رزقكم في حياتي؛ ثم ودع أهله وخرج من الكوفة. قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائد، أنهم لما هزموا ارتفاع النهار حين امتد ومتع، قال: جئت أشتد ومعي الرمح والسيف والترس حتى بلغت أهلي من يومي، ما ألقيت شيئًا من سلاحي، فقال الحجاج: اتركوهم فليتبدلوا ولا تتبعوهم، ونادى المنادي من رجع فهو آمن. ورجع محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخليا الحجاج والعراق، وجاء الحجاج حتى دخل الكوفة، وأجلس مصقلة ابن كرب بن رقبة العبدي إلى جنبه، وكان خطيبًا فقال: إشتم كل امرئ بما فيه ممن كنا أحسنا إليه، فاشتمه بقلة شكره، ولؤم عهده؛ ومن علمت منه عيبًا فعبه بما فيه، وصغر إليه نفسه. وكان لا يبايعه أحد إلا قال له: أتشهد أنك قد كفرت؟ فإذا قال: نعم، بايعه وإلا قتله، فجاء إليه رجل من خثعم ق كان معتزلًا للناس جميعًا من وراء الفرات، فسأله عن حاله فقال: ما زلت معتزلًا وراء هذه النطفة، منتظرًا أمر الناس حتى ظهرت، فأتيتك لأبايعك مع الناس؛ قال: أمتربص! أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل أنا إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر؛ قال: إذًا أقتلك؛ قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباح مساء، قال: اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فزعموا أنه لم يبقى حوله قرشي ولا شامي ولا أحد من الحزبين إلا رحمه ورثى له من القتل. ودعا بكميل بن زياد النخعي فقال له: أنت المقتص من عثمان أمير المؤمنين؟ قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلًا، فقال: والله ماأدري على أينا أشد غضبًا؟ عليه حين أقاد من نفسه، أم على حين عفوت عنه؟ ثم قال: أيها الرجل من ثقيف، لا تصرف عن أنيابك، ولا تهدم على تهدم الكثيب، ولا تكثر كثران الذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، فإنه يشرب غدوة ويموت عشية، ويشرب عشية ويموت غدوة، اقض ما أنت قاض، فإن الموعد الله، وبعد القتل الحساب، قال الحجاج إن الحجة عليك، قال: ذلك إن كان القضاء إليك، قال: بلى كنت فيمن قتل عثمان، وخلعت أمير المؤمنين، اقتلوه. فقدم فقتل، قتله أبو الجهم بم كنانة الكلبي من بني عامر بن عوف، ابن عم منثور بن جمهور. وأتى بآخر من بعده، فقال الحجاج: إني أرى رجلًا ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر، فقال: أخادعي عن نفسي! أنا أكفر أهل الأرض، واكفر من فرعون ذي الأوتاد، فضحك الحجاج وخلى سبيله. وأقام بالكوفة شهرًا، وعزل أهل الشام عن بيوت أهل الكوفة هزيمة ابن الأشعث وأصحابه في وقعة مسكن وفي هذه السنة كانت الوقعة بمسكن بين الحجاج وابن الأشعث بعدما انهزم من دير الجماجم. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وعن صفتها قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي يزيد السكسكي، قال: خرج محمد بن سعيد بن أبي وقاص بعد وقعة الجماجم حتى نزل المدائن، واجتمع إليه ناس كثير، وخرج عبيد الله بن عبد الرحمن بن شمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي حتى أتى البصرة وبها أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، ابن عم الحجاج، فأخذها، وخرج عبد الرحمن بن محمد حتى قدم البصرة وهو بها، فاجتمع الناس إلى عبد الرحمن ونزل، فأقبل عبيد الله حينئذ إلى ابن محمد بن الأشعث، وقال له: إني لم أرد فراقك، وإنما أخذتها لك. وخرج الحجاج فبدأ بالمدائن، فأقام عليها خمسًا حتى هيأ الرجال في المعابر، فلما بلغ محمد بن سعد عبورهم إليهم خرجوا حتى لحقوا بابن الأشعث جميعًا. وأقبل نحو الحجاج، فخرج الناس معه إلى مسكن على دجيل، وأتاه أهل الكوفة والفلول من الأطراف، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصقلة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبشق الماء من جانب، فجعل القتال من وجه واحد، وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشد القتال حتى قتل زياد بن غنيم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك واصحابه هدًا شديدًا. قال أبو مخنف: حدثني أبو جهضم الأزدي، قال: بات الحجاج ليله كله يسير فينا يقول لنا: إنكم أهل الطاعة، وهم أهل المعصية، وأنتم تسعون في رضوان الله، وهم يسعون في سخط الله، وعادة الله عندكم فيهم حسنة؛ ما صدقتموهم في موطن قط ولا صبرتم إلا أعقبكم الله النصر عليهم والظفر بهم؛ قأصبحوا إليهم عادين جادين، فإني لست أشك في النصر إن شاء الله. قال: فأصبحنا، وقد عبأنا في السحر، فباكرناهم فقاتلناهم أشد قتال قاتلناهموه قط، وقد جاءنا عبد الملك بن المهلب مجففًا، وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد، فقال له الحجاج: ضم إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلي أحمل عليهم، ففعل، محمل الناس من كل جانب، فانهزم أهل العراق أيضًا، وقتل أبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وقالا قبل أن يقتلا: إن الفرار كل ساعة بنا لقبيح. فأصيبا. قال: ومشى بسطام بن مصقلة الشيباني في أربعة آلاف من أهل الحفاظ من أهل المصرين، فكسروا جفون السيوف، وقال لهم ابن مصقلة: لو كنا إذا فررنا بأنفسنا من الموت نجونا منه فررنا، ولكنا قد علمنا أنه نازل بنا عما قليل، فأين المحيد عما لابد منه! يا قوم إنكم محقون، فقاتلوا على الحق، والله لو لم تكونوا على الحق لكان موت في عز خيرًا من حياة في ذل. فقاتل هو وأصحابه قتالًا شديدًا كشفوا فيه أهل الشام مرارًا، حتى قال الحجاج: علي بالرماة لايقاتلهم غيرهم، فلنا جاءتهم الرماة وأحاط بهم الناس من كل جانب قتلوا إلا قليلًا، وأخذ بكير بن ربيعة بن ثروان الضبي أسيرًا، فأتى به الحجاج فقتله. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الجهضم، قال: جئت بأسير كان الحجاج يعرفه بالبأس، فقال الحجاج: يا أهل الشام، إنه من صنع الله لكم أن هذا غلام من الغلمان جاء بفارس أهل العراق أسيرًا، اضرب عنقه، فقتله. قال: ومضى ابن الأشعث والفل من المنهزمين معه نحو سجستان فأتبعهم الحجاج عمارة بن تميم اللخمي ومعه ابنه محمد بن الحجاج وعمارة أمير على القوم؛ فسار عمارة بن تميم إلى عبد الرحمن فأدركه بالسوس، فقاتله ساعة من نهار، ثم إنه انهزم هو وأصحابه فمضوا حتى أتوا سابور، واجتمعت إلى عبد الرحمن بن محمد الأكراد مع من كان من الفلول، فقاتلهم عمارة بن تميم قتالًا شديدًا على العقبة حتى جرح عمارة وكثير من أصحابه، ثم انهزم عمارة وأصحابه وخلوا لهم عن العقبة، ومضى عبد الرحمن مر بكرمان. قال الواقدي: كانت وقعة الزاوية بالبصرة في المحرم سنة ثلاث وثمانين. قال أبو مخنف: حدثني سيف الله بن بشر العجلي، من المنخل بن حابس العبدي، قال: لما دخل عبد الرحمن بن محمد كرمان تلقاه عمرو بن لقيط العبدي - وكان عامله فيها - فهيأ له نزلًا فنزل، فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل: والله لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أن قد كنت جبانًا، فقال عبد الرحمن: والله ما جبنت، والله لقد دلفت الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت فارسًا، وقاتلت راجلًا، وما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلًا ولا أرى معي مقاتلًا، ولكني زاولت ملكًا مؤجلًا. ثم إنه مضى بمن معه حتى فوز في مفازة كرمان. قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: لما مضى ابن محمد في مفازة كرمان وأتبعه أهل الشام دخل بعض أهل الشام قصرًا في المفازة، فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر أبي جدة اليشكري، وهي قصيدة طويلة: أيا لهفًا ويا حزنًا جميعًا ** ويا حر الفؤاد لما لقينا! تركنا الدين والدنيا جميعًا ** وأسلمنا الحلال والبنينا فما كنا أناسًا أهل دين ** فنصبر في البلاء إذا ابتلينا وما كنا أناسًا أهل دينًا ** فنمنعها ولو لم نرج دينا تركنا دورنا لطغام عك ** وأنباط القرى والأشعرينا ثم إن ابن محمد مضى حتى خرج من زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بني تميم قد كان عبد الرحمن استعمله عليها، يقال له عبد الله بن عامر البعار من بني مجاشع بن دارم، فلما قدم عليه عبد الرحمن بن محمد منهزمًا أغلق باب المدينة دونه، ومنه دخولها، فأقام عليها عبد الرحمن أيامًا رجاء افتتاحها ودخولها. فلما رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، وقد كان استعمل عليها رجلًا من بكر بن وائل يقال له عياض بن هميان أبو هشام بن عياض السدوسي، فاستقبله، وقال له: انزل، فجاء حتى نزل به، وانتظر حتى غفل أصحاب عبد الرحمن وتفرقوا عنه وثب عليه فأوثقه، وأراد أن يأمن به عند الحجاج. ويتخذ بها عنده مكانًا. وقد كان رتيبل سمع يمقدم عبد الرحمن عليه، فاستقبله في جنوده، فجاء رتيبل حتى أحاط ببست، ثم نزل وبعث إلى البكري: والله لئن آذيته بما يقذى عينه، أو ضررته ببعض المضرة، أو رزأته حبلًا من شعر لاأبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبي ذراريكم، وأقسم بين الجند أموالكم. فأرسل إليه البكري أن أعطانا أمانًا على أنفسنا وأموالنا، ونحن ندفعه إليك سالمًا، وما كان له من مال موفرًا. فصالحهم على ذلك وآمنهم، ففتحوا لابن الأشعث الباب وخلوا سبيله، فأتى رتيبل فقال له: إن هذا كان عاملي على هذه المدينة، وكنت حيث وليته واثقًا به، مطمئنًا إليه. فغدر بي وركب مني ما قد رأيت، فأذن لي في قتله، قال: قد آمنته وأكره أن أغدر به، قال: فأذن لي دفعه ولهزه، والتصغير به، قال: أما هذا فنعم. ففعل به عبد الرحمن بن محمد، ثم مضى حتى دخل مع رتيبل بلاده، فأنزله رتيبل عنده وأكرمه وعظمه، وكان معه ناس من الفل كثير. ثم إن عظم الفلول وجماعة أصحاب عبد الرحمن ومن كان لا يرجو الأمان من الرؤوس والقادة الذين نصبوا للحجاج في كل موطن مع ابن الأشعث، ولم يقبلوا أمان الحجاج في أول مرة، وجهدوا عليه الجهد كله، اقبلوا في أثر ابن الأشعث وفي طلبه حتى سقطوا بسجستان، فكان بها منهم وممن تبعهن من أهل سجستان وأهل البلد نحو من ستين ألفًا، ونزلوا على عبد الله بن عامر البعار فحصروه، وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بقدومهم وعددهم وجماعتهم، وهو عند رتبيل. وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فكتبوا إليه: أن أقبل إلينا لعلنا نسير إلى خراسان، فإن بها منا جندًا عظيمًا، فلعلهم يبايعوننا على قتال أهل الشام، وهي بلاد واسعة عريضة، وبها الرجال والحصون. فخرج إليهم عبد الرحمن بن محمد بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر البعار حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن فضرب وعذب وحبس. وأقبل نحو عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال أصحاب عبد الرحمن بن محمد لعبد الرحمن: اخرج بنا عن سجستان فلندعها له ونأتي خراسان، فقال عبد الرحمن بن محمد: على خراسان يزيد بن المهلب، وهو شاب شجاع صارم، وليس بتارك لكم سلطانه، ولوا دخلتموها وجدتموه إليكم سريعًا، ولن يدع أهل الشام أتباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألا تنالوا ما تطلبون، فقالوا: إنما أهل خراسان منا، ونحن نرجو أن لو قد دخلناها ان يكون من يتبعنا منهم أكثر ممن يقاتلنا، وهو أرض طويلة عريضة ننتحي فيها حيث شئنا، ونمكث حتى يهلك الله الحجاج أو عبد الملك، أونرى من رأينا. فقال لهم عبد الرحمن: سيروا على اسم الله. فساروا حتى بلغوا هراة، فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة القرشي في ألفين، ففارقه، فأخذ طريقًا سوى طريقهم، فلما أصبح ابن محمد قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس فيها مشهد إلا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى منكم أحد، فلما رأيت أنكم لا تقاتلون، ولا تصبرون، أتيت ملجأ ومأمنًا فكنت فيه، فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا، فإنا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيت أن أمضي إلى خراسان وزعمتم أنكم مجتمعون لي، وأنكم لن تفرقوا عني. ثم هذا عبيد الله بن عبد الرحمن قد صنع ما قد رأيتم، فحسبي منكم يومي هذا فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله، فمن أحب منكم أن يتبعني فليتبعني. ومن كره ذلك فليذهب حيث أحب في عياذ من الله. فتفرقت منهم طائفة، ونزلت معه طائفة، وبقى عظم العسكر، فوثبوا إلى عبد الرحمن بن العباس لما انصرف عبد الرحمن، فبايعوه، ثم مضى ابن محمد إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة فلقوا بها الرقاد الأزدي من العتيك، فقتلوه، وسار إليهم يزيد بن المهلب. وأما علي بن محمد المدائني فإنه ذكر عن المفضل بن محمد أن ابن الأشعث لما انهزم من مسكن مضى إلى كابل، وأن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة أتى هراة، فذم ابن الأشعث وعابه بفراره، وأتى عبد الرحمن بن عباس سجستان فانضم إليه فل ابن الأشعث، فسار إلى خراسان في جمع يقال في عشرين ألفًا، فنزل هراة ولقوا الرقاد بن عبيد العتكي فقتلوه، وكان مع عبد الرحمن من عبد القيس عبد الرحمن بن المنذر بن الجارود، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع، ومن هو أكل مني حدًا وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس فيه سلطان، فإني أكره قتالك، وإن أحببت أن أمدك بمال لسفرك أعنتك به؛ فأرسل إليه: ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا لمقام، ولكنا أردنا أن نريح، ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت، فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشمي على الجباية، وبلغ يزيد، فقال: من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج؛ فقدم المفضل في أربعة آلاف - ويقال في ستة آلاف - ثم أتبعه في أربعة آلاف، ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال: ما أراني إلا قد ثقلت عن الحرب، أي فرس يحملني! ثم دعا بفرسه الكامل فركبه، واستخلف على مرو خاله جديع بن يزيد، وصير طريقه على مرو الروذ، فأتى قبر أبيه فأقام عنده ثلاثة أيام، وأعطى من معه مائة درهم مائة درهم، ثم أتى هراة فأرسل إلى الهاشمي: قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك، فاخرج فوالله ما أحب أن أقاتلك. قال: فأبى إلا القتال ومعه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، ودس الهاشمي إلى جند يزيد يمنيهم ويدعوهم إلى نفسه، فأخبر تعضهم يزيد، فقال: جل الأمر عن العتاب، أتغدى بهذا قبل أن يتعشى بي؛ فسار إليه حتى تدانى العسكران، وتأهبوا للقتال، وألقى ليزيد كريس فقعد عليه، وولى الحرب أخاه المفضل، فأقبل رجل من أصحاب الهاشمي - يقال له خليد عينين من عبد القيس - على ظهر فرسه، فرفع صوته فقال: دعت يا يزيد بن المهلب دعوةً ** لها جزع ثم استهلت عيونها ولو يسمع الداعي النداء أجابها ** بصم القنا والبيض تلقى جفونها وقد فر أشراف العراق وغادروا ** بها بقرا للحين جما قرونها وأراد أن يحض يزيد، فسكت يزيد طويلا حتى ظن الناس أن الشعر قد حركه، ثم قال لرجل: ناد وأسمعهم، جشموهم ذلك، فقال خليد: لبئس المنادي والمنوه باسمه ** تناديه أبكار العراق وعونها يزيد إذا يدعى ليوم حفيظة ** ولا يمنع السو آت إلا حصونها فأني أراه عن قليل بنفسه ** يدان كما قد كان قبل يدينها فلا حرة تبكيه لكن نوائح ** تبكي عليه البقع منها وجونها فقال يزيد للمفضل: قدم خيلك، فتقدم بها، وتهايجوا فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرق الناس عن عبد الرحمن، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، وصبر معه العبديون، وحمل سعد بن نجد القردوسي على حليس الشيباني وهو أمام عبد الرحمن، فطعنه حليس فأذراه عن فرسه، وحماه أصحابه، وكثرهم الناس فانكشفوا، فأمر يزيد بالكف عن اتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى، فولى يزيد عطاء بن أبي السائب العسكر، وأمره بضم ما كان فيه، فأصابوا ثلاث عشرة امرأة، فأتوا بهن يزيد، فدفعهن إلى مرة بن عطاء بن أبي السائب، فحملهن إلى الطبسين، ثم حملهن إلى العراق. وقال يزيد لسعد بن نجد: من طعنك؟ قال: حليس الشيباني، وأنا والله راجلا أشد منه وهو فارس. قال: فبلغ حليسًا، فقال: كذب والله، لأنا أشد منه فارسًا وراجلًا. وهرب عبد الرحمن بن منذر بن بشر بن حارثة فصار إلى موسى بن عبد الله بن خازم، قال: فكان في الأسرى محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمرو بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعياش بن الأسود بن عوف الزهري والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز حصين، وأبو العلج مولى عبيد الله بن معمر، ورجل من آل أبي عقيل، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسند، وأتى ابن سمرة مرو، ثم انصرف يزيد إلى مرو وبعث بالأسرى إلى الحجاج مع سبرة بن نخف بن أبي صفرة، وخلى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة، وسعى قوم بعبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد فحبسه. وأما هشام فإنه ذكر أنه حدثه القاسم بن محمد الحضرمي، عن حفص ابن عمرو بن قبيصة، عن رجل من بني حنيفة يقال له جابر بن عمارة، أن يزيد بن المهلب حبس عنده عبد الرحمن بن طلحة وآمنه، وكان الطلحي قد آلى على يمين ألا يرى يزيد بن المهلب في موقف إلا أتاه حتى يقبل يده شكرًا لما أبلاه. قال: وقال محمد بن سعد بن أبي وقاص ليزيد: أسألك بدعوة أبي لأبيك! فخلى سبيله. ولقول محمد بن سعد ليزيد: " أسألك بدعوة أبي لأبيك " حديث فيه بعض الطول. قال هشام: حدثني أبو مخنف، قال: حدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي، قال: بعث يزيد بن المهلب ببقية الأسرى إلى الحجاج بن يوسف؛ بعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، فقال: أنت صاحب شرطة عبد الرحمن؟ فقال: أصلح الله الأمير! كانت فتنه شملت البر والفاجر، فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا، فإن عفوت فبحلمك وفضلك وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين، فقال الحجاج: أما قولك: " إنها شملت البر والفاجر " فكذبت، ولكنها شملت الفجار، وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك، فعزل، ورجا الناس له العافية حتى قدم بالهلقام بن نعيم، فقال له الحجاج: أخبرني عنك، مارجوت من إتباع عبد الرحمن بن محمد؟ أرجوت أن يكون خليفة؟ قال: نعم، رجوت ذلك، وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك، قال: فغضب الحجاج وقال: اضربوا عنقه، فقتل: قال: ونظر إلى موسى بن عمر بن عبيد الله بن معمر وقد نحى عنه فقال: اضربوا عنقه، وقتل بقيتهم. وقد كان آمن عمرو بن أبي قرة الكندي ثم الحجري وهو شريف وله بيت قديم، فقال: يا عمرو، كنت تفضي إلي وتحدثني أنك ترغب عن ابن الأشعث وعن الأشعث قبله، ثم تبعت عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث؛ والله م بك عن اتباعهم رغبة، ولا نعمة عين لك ولا كرامة. قال: وقد كان الحجاج حين هزم الناس بالجماجم نادي مناديه: من لحق بقتيبة بن مسلم بالري فهو أمانه، فلحق ناس كثير بقتيبة، وكان فيمن لحق به عامر الشعبي، فذكر الحجاج الشعبي يومًا فقال: أين هو؟ وما فعل؟ فقال له يزيد بن أبي مسلم: بلغني أيها الأمير أنه لحق بقتيبة بن مسلم بالري، قال: فابعث إليه فلنؤت به، فكتب الحجاج إلى قتيبة: أما بعد، فابعث إلى بالشعبي حين تنظر في كتابي هذا؛ والسلام عليك؛ فسرح إليه. قال أبو مخنف: فحدثني السري بن إسماعيل عن الشعبي، قال: كنت لابن أبي مسلم صديقًا، فلما قدم بي على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم فقلت: أشر علي؛ قال: ما أدري ما أشير به عليك غير أن أعتذرما استطعت من عذر! وأشار بمثل ذلك نصحائي وإخواني، فلما دخلت عليه رأيت والله غير ما رأوا لي، فسلمت عليه بالإمرة ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا حقًا، قد والله سودناه عليك، وحرضنا وجهدنا عليك كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا الأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد الحجة لك علينا، فقال له الحجاج: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت؛ قد أمنت عندنا يا شعبي، فانصرف قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلًا قال: هلم يا شعبي؛ قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنيت ياشعبي، فاطمأنت نفسي، قال: كيف وجدت الناس يا شعبي بعدنا؟ قال - وكان لي مكرمًا: فقلت: أصلح الله الأمير! اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفًا قال: انصرف يا شعبي، فانصرفت. قال أبو مخنف: قال خالد بن قطن الحارثي: أتى الحجاج بالأعشى، أعشى همدان، فقال: إيه يا عدو الله! أنشدني قولك: " بين الأشج وبين قيس "، أنفذ بيتك، قال: بل أنشدك ما قلت لك؛ قال: بل أنشدني هذه؛ فأنشده: أبى الله إلا أن يتمم نوره ** ويطفئ نور الفاسقين فيخمدا ويظهر أهل الحق في كل موطن ** ويعد وقع السيف من كان أصيدا وينزل ذلا بالعراق وأهله ** لما نقضوا العهد الوثيق الموكدا وما أحدثوا من بدعة وعظيمة ** من القول لم تصعد إلى الله مصعدا وما نكثوا من بيعة بعد بيعة ** إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا وجبنًا حشاه ربهم في قلوبهم ** فما يقربون الناس إلا تهددا فلا صدق في قول ولا صبر عندهم ** ولكن فخرًا فيهم وتزيدا فكيف رأيت الله فرق جمعهم ** ومزقهم عرض البلاد وشردا! فقتلاهم قتلى ضلال وفتنة ** وحيهم أمسى ذليلا مطردا ولما زحفنا لابن يوسف غدوة ** قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا فكا فحنا الحجاج دون صفوفنا ** كفاحًا ولم يضرب لذلك موعدا بصف كأن البرق في حجراته ** إذا ما تجلى بيضه وتوقدا دلفنا إليه في صفوف كأنها ** جبال شروري لو تعان فتنهدا فما لبث الحجاج أن سل سيفه ** علينا فولى جمعنا وتبددا وما زاحف الحجاج إلا رأيته ** معانًا ملقى للفتوح معودا وإن ابن عباس لفى مرجحنة ** نشبهها قطعًا من الليل أسودا فما شرعوا رمحًا ولا جردوا له ** ألا ربما لا في الجبان فجردا وكرت علينا خيل سفيان كرةً ** بفرسانها والسمهرى مقصدا وسفيان يهديها كأن لواءه ** من الطعن سندبات بالصبغ مجسدا كهول ومرد من قضاعة حوله ** مساعير أبطال إذا النكس عردا إذ قال شدوا شدة حملوا معًا ** فأنهل خرصان الرماح وأوردا جنود أمير المؤمنين وخيله ** وسلطانه أمسى عزيزًا مؤيدا فيهنى أمير المؤمنين ظهوره ** على أمة كانوا بغاة وحسدا نزوا يشتكون البغا من أمرائهم ** وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا وجدنا بني مروان خير أئمة ** وأفضل هذي الناس حلمًا وسوددا وخير قريش في قريش أرومةً ** وأكرمهم إلا النبي محمدا إذا ما تدبرنا عواقب أمره ** وجدنا أمير المؤمنين مسددا سيغلب قوم غالبوا الله جهرة ** وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا كذاك يضل الله من كان قلبه ** مريضًا ومن وإلى النفاق وألحدا فقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ** وبيضًا عليهن الجلابيب خردا يناديهم متعبرات إليهم ** ويذرين دمعًا في الخدود وإثمدا فإلا تناولهن منك برحمة ** يكن سبايا والبعولة أعبدا أنكثًا وعصيانًا وغدرًا وذلةً ** أهان الإله من أهان وأبعدا لقد شام المصرين فرخ محمد ** بحق وما لاقى من الطير أسعدا كما شام الله النجير وأهله ** بجد له قد كان أشقى وأنكدا فقال أهل الشام: أحسنوا، أصلح الله الأمير! فقال الحجاج: لا، لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها، ثم قال: يا عدو الله إنا لسنا نحمدك على هذا القول إنما قلت: تأسف ألا يكون ظهر وظفر، وتحريضًا لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنفذ لنا قولك: بين الأشج وبين قيس باذخ فأنفذها، فلما قال: بخ بخ لوالده وللمولود قال: الحجاج: لا والله لا تبخبخ بعدها لأحد أبدًا، فقدمه فضرب عنقه. وقد ذكر من أمر هؤلاء الأسرى الذين أسرهم يزيد بن المهلب ووجههم إلى الحجاج ومن فلول ابن الأشعث الذين انهزموا يوم مسك أمر غير ما ذكره أبو مخنف عن أصحابه. والذي ذكر عنهم من ذلك أنه لما انهزم ابن الأشعث مضى هؤلاء مع سائر الفل إلى الري، وقد غلب عليهم عمر بن أبي الصلت بن كنارة مولى بني نصر بن معاوية، وكان من أفرس الناس، فانضموا إليه، فأقبل قتيبة بن مسلم إلى الري من قبل الحجاج وقد ولاه عليها. فقال النفر الذين ذكرت أن يزيد بن المهلب وجههم إلى الحجاج مقيدين وسائر فل ابن الأشعث الذين صاروا إلى الري لعمر بن أبي الصلت: نوليك أمرنا وتحارب بنا قتيبتة؛ فشاور عمر أباه أبا الصلت، فقال له أبوه: والله يا بني ما كنت أبالي إذا سار هؤلاء تحت لوائك أن تقتل من غد. فعقد لواءه، وسار فهزم وهزم أصحابه، وانكشفوا إلى سجستان، واجتمعت بها الفلول، وكتبوا إلى عبد الرحمن بن محمد وهو عند رتبيل، ثم كان من أمرهم وأمر يزيد ين المهلب ما قد ذكرت. وذكر أبو عبيدة أن يزيد لما أراد أن يوجه الأسرى إلى الحجاج قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت ابن طلحة! فقال يزيد: هو الحجاج، ولا يتعرض له! وقال: وطن نفسك على العزل، ولا ترسل به، فإن له عندنا بلاء، قال: وما بلاءه؟ قال لزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف، فأداها طلحة عنه. فأطلقه، وأرسل بالباقين، فقال الفرزدق: وجد ابن طلحة يوم لاقى قومه ** فحطان يوم هراة خير المعشر وقال: إن الحجاج لما أتى بهؤلاء الأسرى من عند يزيد بن المهلب قال الجاجبة: إذا دعوتك بسيدهم فآتني بفيروز، فأبرز سريره - وهوحينئذ بواسط الصب قبل أن تبنى مدينة واسط - ثم قال لحاجبه: جئني بسيدهم؛ فقال لفيروز: قم؛ فقال له الحجاج: أبا عثمان، ما أخرجك مع هؤلاء، فوالله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس، فكنا فيها، قال: أكتب لي أموالك، قال: ثم ماذا، قال: أكتبها أول؛ قال: ثم أنا آمن على دمي، قال: اكتبها، ثم أنظر؛ قال: اكتب يا غلام ألف ألف ألفي ألف، فذكر مالًا كثيرًا، فقال: الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي، قال: فأدها؛ قال: وأنا آمن على دمي، قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك؛ قال: والله لاتجمع مالي ودمي، فقال الحجاج للحاجب: نحه، فنحاه. ثم قال: أتني بمحمد بن سعد بن أبي وقاص، فدعاه، فقال له الحجاج: إيهن يا ظل الشيطان أعظم الناس تيهًا وكبرًا، تأبى بيعة يزيد بن معاوية، وتشبه بحسين وابن عمر، ثم صرت مؤذنًا لابن كنارة عبد بني نصر - يعني عمر بن أبي الصلت - مجعل يضرب بعود في يده رأسه حتى أدماه؛ فقال له محمد: أيها الرجل، ملكت فأسجح! فكف يده، فقال: إن رأيت أن تكتب إلى أمير المؤمنين فإن جاءك عفو كنت شريكًا في ذلك محمودًا، وإن جاءك غير ذلك كنت قد أعذرت فأطرق مليًا ثم قال: اضرب عنقه، فضربت عنقه. ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة، أتقوم بالعمود على رأس ابن الحائك، وتشرب معه الشراب في حمام فارس، وتقول المقالة التي قلت! أين الفرزدق؟ قم فأنشده ما قلت فيه، فأنشده: وخضبت أيرك للزناء ولم تكن ** يوم الهياج لتخضب الأبطالا فقال: أما والله لقد رفعته عن عقائل نسائك، ثم أمر بضرب عنقه. ثم دعا ابن عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فإذا غلام حدث، فقال: أصلح الله الأمير! ما لي ذنب إنما كنت غلامًا صغيرًا مع أبي وأمي لا أمر لي ولا نهي، وكنت معهما حيث كانا، فقال: وكانت أمك مع أبيك في هذه الفتن كلها؟ قال: نعم، قال: على أبيك لعنة الله. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: جعل ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أمنت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك. قال: قم يا حوشب فاضرب عنقه، فقام إليه، فقال له الهلقام: يا بني لقيطة، أتنكأ القرح! فضرب عنقه. ثم أوتي بعبد الله بن عامر، فلما قام بين يديه قال: لا رأت عيناك يا حجاج الجنة إن أقلت ابن المهلب بما صنع. قال: وما صنع؟ قال: لآنه كاس في إطلاق أسرته ** وقاد نحوك في أغلالها مضرا وقى بقومك ورد الموت أسرته ** وكان قومك أدنى عنده خطرا فأطرق الحجاج مليًا ووقرت في قلبه، وقال: وما أنت وذاك! اضرب عنقه. فضربت عنقه. ولم تزل في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه. ثم أمر بفيروز فعذب، فكان فيما عذب به أن كان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق، قم يجر عليه حتى يخرق جسده، ثم ينضح عليه الخل والملح، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لايشكون أني قد قتلت، ولي ودائع وأموال عند الناس، لا تؤدى إليكم أبدًا، فأطهروني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال. فأعلم الحجاج، فقال: أظهروه، فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا فيروز حصين؛ إن لي عند أقوام مالًا، فمن كان لي عنده شيء فهو له، وهو منه في حل، فلا يؤدين منه أحد درهمًا، ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجاج فقتل. وكان ذلك مما روى الوليد بن هشام بن قحذم، عن أبي بكر الهذلى. وذكر ضمرة بن ربيعة، عن أبي شوذب، أن عمال الحجاج كتبوا إليه: إن الخراج قد انكسر، وإن أهل الذمة قد ألموا ولحقوا بالأمصار، فكتب إلى البصرة وغيرها أن من كان له أصل في قرية فليخرج إليها. وجعلوا لا يدرون أين يذهبون! فجعل قراء أهل البصرة يخرجون إليهم مقنعين فيبكون لما يسمعون منهم ويرون. قال: فقدم ابن الأشعث على تفيئة ذلك، واستبصر قراء أهل البصرة في قتال الحجاج مع عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث. وذكر عن ضمرة بن ربيعة عن الشيباني، فقال: قتل الحجاج يوم الزاوية أحد عشر ألفًا، ما استحيا منهم إلا واحدًا، كان ابنه في كتاب الحجاج، فقال له: أتحب أن نعفو لك عن أبيك؟ قال: نعم، فتركه لابنه؛ وإنما خدعهم بالأمان، أمر مناديًا فنادى عند الهزيمة: ألا لا أمان لفلان ولا فلان، فسمى رجالًا من أولئك الأشراف، ولم يقل: الناس آمنون، فقالت العامة: قد آمن الناس كلهم إلا هؤلاء النفر، فأقبلوا إلى حجرته فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال: لآمرن بكم اليوم رجلًا ليس بينكم وبينه قرابة، فأمر بهم عمارة بن تميم اللخمي فقربهم فقتلهم. وروي عن النضر بن شمير، عن هشام بن حسان، أنه قال: بلغ ما قتل الحجاج صبرًا مائة وعشرين، أو مائة وثلاثين ألفًا. وقد ذكر في هزيمة ابن الأشعث بمسكن قول غير الذي ذكره أبو مخنف والذي ذكر من ذلك أن ابن الأشعث والحجاج اجتمعا بمسكن من أرض أبزقباذ، فكان عسكر ابن الأشعث على نهر يدعى خداج مؤخر النهر، نهر تيري، ونزل الحجاج على نهر أفريذ والعسكران جميعًا بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهرًا - وقيل: دون ذلك - ولم يكن الحجاج يعرف إليهم طريقًا إلا الطريق الذي يلتقون فيه، فأتى بشيخ كان راعيًا يدعى زورقًا فدله على طريق من وراء الكرخ طوله ستة فراسخ، في أجمة وضحضاح من الماء، فانتخب أربعة آلاف من جلة أهل الشام، وقال لقائدهم: ليمن هذا العلج أمامك، وهذه أربعة آلاف درهم معك، فإن أقامك على عسكرهم فادفع المال إليه، وإن كان كذبًا فاضرب عنقه، فإن رأيتهم فاحمل عليهم فيمن معك، وليكن شعاركم: يا حجاج يا حجاج. فانطلق القائد صلاة العصر، وذلك مع صلاة العصر، فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجاج حتى عبر السيب - وكان قد عقده - ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهب ما فيه. فقيل له: لو اتبعته؟ فقال: قد تعبنا ونصبنا، فرجع إلى عسكره فألقى أصحابه السلاح، وباتوا آمنين في أنفسهم لهم الظفر. وهم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم، فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدري أين يتوجه! دجيل عن يساره ودجلة أمامه، ولها جرف منكر، فكان من غرق أكثر ممن قتل. وسمع الحجاج الصوت فعبر السيب إلى عسكره، ثم وجه خيله إلى القوم فالتقى العسكران على عسكر ابن الأشعث، وانحز في ثلثمائة، فمضى على شاطئ دجلة حتى أتى دجيلًا فعبره في السفن، وعقروا دوابهم، وانحدروا في السغن إلى البصرة، ودخل الحجاج عسكرهم فانتهب ما فيه، وجعل يقتل من وجد حتى قتل أربعة آلاف؛ فيقال: إن فيمن قتل عبد الله ابن شداد بن الهاد؛ وقتل بسطام بن مصقلة بن هبيرة، وعمر ابن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود والحكم بن مخرمة العبديين، وبكير بن ربيعة بن ثروان الضبي؛ فأتى الحجاج برؤوسهم على ترس، فجعل ينظر إلى رأس بسطام ويتمثل: إذا مررت بوادي حية ذكر ** فاذهب ودعني أقاسي حية الوادي ثم نظر إلى رأس بكير، فقال: ما ألقى هذا الشقي مع هؤلاء. خذ بإذنه يل غلام فألقه عنهم. ثم قال: ضع هذا الترس بين يدي مسمع بن مالك ابن مسمع، فوضع بين يديه، فبكى، فقال له الحجاج: ما أبكاك؟ أحزنًا عليهم؟ قال: بل جزعًا لهم من النار. ذكر خبر بناء مدينة واسط وفي هذه السنة بنى الحجاج واسطًا، وكان سبب بنائه ذلك - فيما ذكر - أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان، فعسكروا بحمام عمر. وكان فتى من أهل الكوفة من بني أسد حديث عهد بعرس بابنه عم له، انصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلًا، فطرق الباب طارق ودق دقًا شديدًا، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شرًا، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه وعرفوا ذلك فقال: إذنوا له، ففعلوا فأغلق الباب وقد كانت المرأة نجدت منزلها وطيبته، فقال الشامي: قد آن لكم، فاستقنأه الأسدي فأندر رأسه، فلما أذن بالفجر خرج الرجل إلى العسكر وقال لامرأته إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين أن أخرجوا صاحبكم، فسيأتون بك الحجاج، فاصدقيه الخبر على وجهه؛ ففعلت، ورفع القتيل إلى الحجاج، وأدخلت المرأة عليه وعنده عنبسة ابن سعيد على سريره، فقال لها: ما خطبك؟ فأخبرته، فقال: صدقتني. ثم قال لولاية الشامي إدفنوا صاحبكم فإنه قتيل الله إلى النار، لا قود له ولا عقل، ثم نادى مناديه: لا ينزلن أحد على أحد، واخرجوا فعسكروا. وبعث روادًا يرتادون له منزلًا، وأمعن حتى نزل أطراف كسكر، فبينا هو في موضع واسط إذا راهب قد أقبل على حمار له وعبر دجلة، فلما كان في موضع واسط تفاجت الآتان فبالت، فنزل الراهب، فاحتفر ذلك البول، ثم احتمله فرمى به في دجلة، وذلك بعين الحجاج، فقال: علي به، فأتى به، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: نجد في كتبنا أنه يبنى في هذا الوضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده. فاختط الحجاج مدينة واسط، وبنى المسجد في ذلك الموضع. وفي هذه السنة عزل عبد الملك - فيما قال الواقدي - عن المدينة أبان بن عثمان، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكان العمال في هذه السنة على الأمصار سوى المدينة هم العمال الذين كانوا عليها في السنة التي قبلها؛ وأما المدينة فقد ذكرنا من كان عليها فيها ثم دخلت سنة أربع وثمانين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها كانت غزوة عبد الله بن عبد الملك بن مروان الروم، ففتح فيها المصيصة، كذلك ذكر الواقدي. خبر قتل الحجاج أيوب بن القرية وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان ممن كان مع ابن الأشعث. وكتان سبب قتله إياه - فيما ذكر - أنه كان يدخل على حوشب بن يزيد بعد انصرافه من دير الجماجم - وحوشب على الكوفة عامل للحجاج - فيقول حوشب: انظروا إلى هذا الواقف معي، وغدًا أو بعد غد يأتي كتاب من الأمير لا أستطيع إلا نفاذه، فبينا هو ذات يوم واقف إذ آتاه كتاب من الحجاج: اما بعد، فإنك قد صرت كهفًا لمنافقي أهل العراق ومأوى، فإذا نظرت في كتابي هذا فابعث إلي بابن القرية مشدودة يده إلى عنقه، مع ثقة من قبلك. فلما قرأ حوشب الكتاب رمى به إليه، فقرأه فقال: سمعًا وطاعة؛ فبعث به إلى الحجاج موثقًا، فلما دخل الحجاج قال له: يا بن القرية، ما أعددت لهذا الموقف؟ قال: أصلح الله الأمير! ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف، دنيا، وآخرة، ومعروف. قال: إخرج مما قلت، قال: أفعل، أما الدنيا فمال الحاضر، يأكل منه البر والفاجر، وأما الآخرة فميزان عادل ومشهد ليس فيه باطل، وأما المعروف فإن كان علي اعترفت، وإن كان لي إغترفت. قال: إما لا فاعترف بالسيف إذا وقع بك. قال: أصلح الله الأمير! أقلني عشرتي، وأسغني رقيقي؛ فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا هبوة. قال الحجاج: كلا والله لأرينك جهنم، قال: فأرحني فإني أجد جرها، قال: قدمه يا حرسي فاضرب عنقه، فلما نظر إليه الحجاج يتشحط في دمه قال: لو كنا تركنا ابن القرية حتى نسمع من كلامه! ثم أمر به فاخرج فرمى به. قال هشام: قال عوانة: حين منع الحجاج من الكلام ابن قرية، قال له ابن القرية: أما والله لو كنت أنا وأنت على السواء لسكنا جميعًا، أو لألفيت منيعًا. فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس وفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك بباذغيس. ذكر سبب فتحه إياها: ذكر علي بن محمد، عن المضل بن محمد، قال: كان نيزك ينزل بقلعة باذغيس، فتحين يزيد عزوه، ووضع عليه العيون، فبلغه خروجه، فخالفه يزيد إليها، وبلغ نيزك فرجع، فصالحه على أن يدفع إليه ما في القلعة من الخزائن، ويرتحل عنها بعياله، فقال كعب بن معدان الأشقري: وباذغيس التي من حل ذروتها ** عز الملوك فإن شا جار أو ظلما منعة لم يكدها قبله ملك ** إلا إذا واجهت جيشًا له وجما تخال نيرانها من بعد منظرها ** بعض النجوم إذا ما ليلها عتما لما أطاف بها ضاقت صدورهم ** حتى أقروا له بالحكم فاحتكما فذل ساكنها من بعد عزته ** يعطي الجزية عارفًا بالذل مهتضما وبعد ذلك أيامًا نعددها ** وقبلها ما كشفت الكرب والظلما أعطاك ذاك ولى الرزق يقسمه ** بين الخلائق والمحروم من حرما يداك إحداهما تسقي العدو بها ** سمًا وأخرى نداها لم يزل ديما فهل كسيب يزيد أو كنائله ** إلا الفرات وإلا النيل حين طما ليسا بأجود منه حين مدهما ** إذ يعلوان حداب الأرض والأكما وقال: ثنائي على حي العتيك بأنها ** كرام مقارها، كرام نصابها إذا عقدوا للجار حل بنجوة ** عزيز مراقيها، منيع هضابها نفى نيزكًا عن باذغيس ونيزك ** بمنزلة أعيا الملوك أغتصابها محلقة دون السماء كأنها ** غمامة صيف زل عنها سحابها ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا ** ولا الطير إلا نسرها وعقابها وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ** ولا نبحت إلا النجوم كلابها تمنيت أن ألقي العتيك ذوي النهى ** مصلة تحمى بملك ركابها كما يتمنى صاحب الحرث أعطشت ** مزارعه غيثًا غزيرًا ربابها فأسقى بعد اليأس حتى تحيرت ** جداولها ريًا وعب عبابها لقد جمع الله النوى وتشعبت ** شعوب من الآفاق شتى مآبها قال: وكان نيزك يعظم القلعة إذا رآها سجد لها. وكتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بالفتح، وكانت كتب يزيد إلى الحجاج يكتبها يحيى بن يعمر العدواني، وكان حليفًا لهذيل، فكتب: إن لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان وأثناء الأنهار؛ فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إلى يزيد فحمله على البريد، فقدم عليه أفصح الناس، حفظت كلام أبي وكان فصيحًا. قال: من هناك فأخبرني هل يلحن عنبس ين سعيد؟ قال: نعم كثيرًا، قال: ففلان؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عنى أألحن؟ قال: نعم تلحن لحنا خفيًا؛ تزيد حرفًا وتنقص حرفًا، وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن. قال: قد أجلتك ثلاثًا، فإن أجدك بعد ثلاث بأرض العراق قتلتك. فرجع إلى خراسان. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين سميت قبل في سنة ثلاث وثمانين. ثم دخلت سنة خمس وثمانين ذكر ما فيها من الأحداث خبر هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففيها كان هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. ذكر السبب الذي به هلك، وكيف كان: ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: لما انصرف ابن الأشعث من هراة راجعًا إلى رتبيل كان معه رجل من أود يقال له علقمة بن عمرو، فقال له: ما أريد أن أدخل معك؛ فقال له عبد الرحمن: لم؟ قال: لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب الحجاج قد جاء، فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلمًا أو قتلكم. ولكن هنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطى أمانًا أو نموت كرامًا. فقال له عبد الرحمن: أما لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك، فأبى عليه علقمة، ودخل عبد الرحمن بن محمد إلى رتبيل. وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودودًا النضري، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفى لهم. قال: وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن بن محمد أن ابعث به إلي، وإلا فوالذي لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل. وكان عند رتبيل رجل من بني تميم ثم من بني يربوع يقال له عبيد بن أبي سبيع، فقال لرتبيل: أنا آخذ لك من الحجاج عهدًا ليكفن الخراج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن بن محمد، قال رتبيل لعبيد: فإن فعلت فإن لك عندي ما سألت. فكتب إلى الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى بعث إليه بعبد الرحمن بن محمد، فأعطاه الحجاج على ذلك مالًا وأخذ من رتبيل عليه مالًا، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن بن محمد إلى الحجاج، وترك له الصلح الذي كان يأخذه منه سبع سنين. وكان الحجاج يقول: بعث إلى رتبيل بعدو الله. فألقى نفسه من فوق إجار فمات. قال أبو مخنف: وحدثني سليمان بن أبي راشد. أنه سمع مليكة ابنة يزيد تقول: والله لما مات عبد الرحمن وإن رأسه لعلى فخذي، كان السل قد أصابه. فلما مات وأرادوا دفنه بعث إليه رتبيل فحز رأسه، فبعث به إلى الحجاج، وأخذ ثمانية رجلًا من آل الأشعث فحبسهم عنده، وترك جميع من كان معه من أصحابه. وكتب إليه الحجاج بأخذه الثمانية عشر رجلًا من أهل بيت عبد الرحمن، فكتب إليه: أن اضرب رقابهم، وابعث إلي برؤوسهم، وكره أن يؤتى بهم إليه أحياء فيطلب فيهم إلى عبد الملك، فيترك منهم أحدًا. وقد قيل في أمر بن أبي سبيع وابن الأشعث غير ما ذكرت عن أبي مخنف، وذلك ما ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يقول: زعم أن عمارة بن تميم خرج من كرمان فأتى سجستان وعليها رجل من بني العنبر يدعى مودودًا، فحصره ثم آمنه، ثم استولى على سجستان، وأرسل إلى رتبيل. وكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفًا من أهل الشام لم يخلفوا طاعة، ولم يخلعوا خليفة، ولم يتبعوا إمام ضلالة، يجري على كل رجل منهم في كل شهر مائة درهم، يستطعمون الحرب استطعامًا، يطلبون ابن الأشعث. فأبى رتبيل أن يسلمه. وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع التميمي قد خص به، وكان رسوله إلى رتبيل، فخص بريتبيل أيضاُ، وخف عليه. فقال القاسم ابن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر التميمي، فأقتله، فهم به، وبلغ ابن أبي سبيع، فخافه فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث فأجابه، فخرج سرًا إلى عمارة بن تميم، فاستعجل في ابن الأشعث، فجعل له ألف ألف، فأقام عنده، وكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه أن أعط عبيدًا ورتبيل ما سألاك واشترط، فاشترط رتبيل ألا تغزي بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين قي كل سنة تسعمائة ألف، فأعطى رتبيل وعبيدًا ما سألا، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث فأحضره وثلاثين من أهل بيته، وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق القاسم جامعة، وأرسل بهم إلى أدنى مسالح عمارة منه، وقل لجماعة من كان مع ابن الأشعث من الناس: تفرقوا إلى حيث شئتم، ولما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات، فاحتز رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة، فضرب أعناقهم، وأرسل برأس ابن الأشعث وبرؤوس أهله وبامرأته إلى الحجاج، فقال في ذلك بعض الشعراء: هيهات موضع جثة من رأسها ** رأس بمصر وجثة بالرخج وكان الحجاج أرسل به إلى عبد الملك، فأرسل به إلى عبد الملك إلى عبد العزيز وهو يومئذ على مصر. وذكر عمر بن شبة أن ابن عائشة حدثه قال: أخبرني سعد بن عبيد الله قال: لما أتاني عبد الملك برأس ابن الأشعث أرسل به مع خصي إلى امرأة منهم كانت تحت رجل من قريش، فلما وضع بين يديها قالت: مرحبًا بزائر لايتكلم؛ ملك من الملوك طلب ما هو أهله فأيت المقادير. فذهب الخصي يأخذ الرأس فاجتذبته من يده، قالت: لا والله حتى أبلغ حاجتي، ثم دعت بخطمي فغلته وغلفته ثم قالت: شأنك به الآن. فأخذه، ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها، قال: إن استطعت أن تصيب منها سخلة. وذكر أن ابن الأشعث نظر إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رتبيل فتمثل: يطرده الخوف فهم تائه ** كذاك من يكره حر الجلاد منخرق الخفين يشكو الوجا ** تنكبه أطراف مرو حداد قد كان في الموت له راحة ** والموت حتم في رقاب العباد فالتفت إليه فقال: يالحية، هلا ثبت في موطن من المواطن فنموت بين يديك، فكان خيرًا مما صرت إليه! قال هشام: قال أبو مخنف: خرج الحجاج في أيامه تلك يسير ومعه حميد الأرقط وهو يقول: مازال يبني خندقًا ويهدمه ** عن عسكر يقوده فيسلمه حتى يصير في يديك مقسمه ** هيهات من مصفه منهزمه إن أخ الكظاظ من لا يسأمه فقال الحجاج: هذا أصدق من قول الفاسق أعشى همدان: نبئت أن بني يو ** سف خر من زلق فتبًا قد تبين له من زلق وتب ودحض فانكب، وخاف وخاب، وشك وارتاب؛ ورفع صوته فما أبقى أحد إلا فزع لغضبه، وسكت الأرقط، فقال له الحجاج: عد فيما كنت فيه، مالك يا أرقط! قال: إني جعلت فداك أيها الأمير وسلطان الله عزيز، ما هو إلا أن رأيتك غضب فأرعدت خصائلي، واجزألت مفاصلي، واظلم بصري، ودالات بي الأرض. قال له الحجاج: أجل، إن سلطان الله عزيز، عد فيما كنت فيه، ففعل. وقال الحجاج وهو ذات يموم يسير معه زياد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو أعور، فقال الحجاج للأريقط: كيف قلت لابن سمرة؟ قال: قلت: يا أعور العين فديت العورا ** كنت حبست الخندق المحفورا يرد عنك القدر المقدورا ** ودائرات السوء أن تدورا وقد قيل: أن مهلك عبد الرحمن بن محمد كان في سنة أربع وثمانين. عزل يزيد بن المهلب عن خراسان وفي هذه السنة عزل الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل بن المهلب أخا يزيد. ذكر السبب الذي من أجله عزله الحجاج عن خراسان واستعمل المفضل: ذكر علبي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن الحجاج وفد إلى عبد الملك، فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن في هذا الدير شيخًا من أهل الكتب عالمًا، فدعا به فقال: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم، نجد ما مضى من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن؛ قال: أفمسمي كان أم موصوفًا؟ قال: كل ذلك؛ موصوف بغير اسم، واسم بغير صفة، قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه؛ مللك أقرع، من يقم لسبيله يصرع، قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، قال: ثم ماذا؟ قال: رجل اسمه اسم نبي يفتح على الناس، قال: أتعرفني؟ قال: قد أخبرت بك. قال: أفتعلم ما ألي؟ قال: نعم، قال: فمنيليه بعدي؟ قال: رجل يقال له يزيد، قال: في حياتي أم بعد موتي؟ قال: لا أدري، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة؛ لا أعرف غير هذا. قال: فوقع في نفسه يزيد بن المهلب، وارتحل فسار سبعًا وهو وجل من قول الشيخ؛ وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق، فكتب إليه: يا بن أم الحجاج، قد علمت الذي تغزو، وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك، ولعمري إني لأرى مكان نافع بن علقمة، فاله عن هذا حتى يأتي الله بما هو آت؛ فقال الفرزدق تذكر مسيره: لو أن طيرًا كلفت مثل سيره ** إلى واسط من إيلياء لملت سرى بالمهاري من فلسطين بعدما ** دنا الليل من شمس النهار فولت فما عاد ذاك اليوم حتى أناخها ** بميسان قد ملت سراها وكلت كأن قطاميًا على الرحل طاويًا ** إذا غمرة الظلماء عنه تجلت قال فبينا الحجاج يومًا خال إذ دعا عبيد بن موهب، فدخل وهو ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: ويحك يا عبيد! إن أهل الكتب يذكرون أن ما تحت يدي يليه رجل يقال له يزيد، وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة، ويزيد بن حصين بن نمير، ويزيد بن دينار، فليسوا هناك، وما هو إن كان إلا يزيد بن المهلب؛ فقال عبيد: لقد شرفتهم وأعظمت ولا يتهم، وإن لهم لعددًا وجلدًا، وطاعة وحظًا، فأخلق به، فأجمع على عزل يزيد فلم يجد له شيئًا حتى قدم الخيار بن أبي سبرة بن ذؤيب بن عرفجة بن محمد بن سفيان بن مجاشع - وكان من فرسان المهلب - وكان مع يزيد - فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، قال: حسن الطاعة، لين السيرة، قال: كذبت، أصدقني عنه، قال: الله أجل وأعظم، قد أسرج ولم يلجم، قال: صدقت، واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك قال: ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب بالزبيرية، فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى نقصًا بآل المهلب طاعتهم لآل الزبير، بل أراه وفاء منهم لهم، وإن وفاءهم يدعوهم إلى الوفاء لي، فكتب إليه الحجاج يخوفه غدرهم لما أخبره به الشيخ. فكتب إليه عبد الملك: قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلًا يصلح لخراسان؛ فسمى له مجاعة بن سعر السعدي، فكتب إليه عبد الملك: إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعر، فانظر لي رجلًا صارمًا، ماضيًا لأمرك، فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه: وله وبلغ يزيد أن الحجاج عزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولى خراسان؟ قالوا: رجلا من ثقيف، قال: كلا، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلًا من قيس، وأخلق بقتيبة! قال: فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه أن استخلف المفضل وأقبل، فاستشار يزيد حضين بن المنذر، فقال له: أقمم واعتل، فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنما أتيت من الحجاج، فإن أقمت ولم تعجل رجوت أن يكتب إليه أن يقر يزيد، قال: إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف؛ فأخذ في الجهاز، وأبطأ ذلك على الحجاج، فكتب إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان، فعجل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، قال: بل حسدتني، قال يزيد: يا بن بهلة، أنا أحسدك! ستعلم. وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين. فعزل الحجاج المفضل، فقال الشاعر للمفضل وعبد الملك وهو أخوه لأمه: يا بني بهلة إنما أخزاكما ** ربي غداة غدا الهمام الأزهر أحفرتم لأخيكم فوقعتم ** في قعر مظلمة أخوها المعور جودوا بتوبة مخلصين فإنما ** يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر وقال حضين ليزيد: أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني ** فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فما أنا بالباكي عليك صبابة ** وما أنا بالداعي لترجع سالما فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: كيف قلت ليزيد؟ قال: قلت: أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني ** فنفسك أول اللوم إن كنت لائما فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ** فإنك تلقى أمره متفاقما قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته ألا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير، فقال رجل لعياض بن حضين: أما أبوك فوجده قتيبة حين فره قارحًا بقوله: " أمرته ألا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير " قال علي: حدثنا كليب بن خلف، قال: كتب الحجاج إلى يزيد أن اغز خوارزم، فكتب إليه: أيها الأمير، إنها قليلة السلب، شديدة الكلب. فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم، فكتب إليه: إني أريد أن أغزو خوارزم فكتب إليه: لا تغزها فإنها كما وصفت؛ فغزا ولم يطعه، فصالحه أهل خوارزم، وأصاب سبيًا مما صالحوه، وقفل في الشتاء، فاشتد عليهم البرد، فأخذ الناس ثياب الأسرى فلبسوها، فمات ذلك السبي من البرد. قال: ونزل يزيد بلستانة، وأصاب أهل مرو الروذ طاعون ذلك العام، فكتب إليه الحجاج: أن اقدم، فقدم، فلم يمر ببلد إلا فرشوا له الرياحين. وكان يزيد ولي سنة اثنتين وثمانين، وعزل سنة خمس وثمانين، وخرج من خراسان في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وولى قتيبة وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف في عزل الحجاج يزيد عن خراسان سببًا غير الذي ذكره علي بن محمد، والذي ذكر من ذلك عن أبي مخنف أن أبا المخارق الراسبي وغيره حدثوه أن الحجاج لم يكن له حين فرغ من عبد الرحمن بن محمد هم إلا يزيد ين المهلب وأهل بيته - وقد كان الحجاج أذل أهل العراق كلهم إلا يزيد وأهل بيته ومن معهم من أهل المصرين بخراسان، ولم يكن يتخوف بعد عبد الرحمن بن محمد بالعراق غير يزيد بن المهلب - فأخذ الحجاج في مواربة يزيد ليسبخرجه من خراسان، فكان يبعث إليه يلأتيه، فيعتل عليه بالعدو وحرب خراسان، فمكث بذلك حتى كان آخر سلطان عبد الملك، ثم إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد بن المهلب، ويخبره بطاعة آل المهلب لا بن الزبير، وأنه لا وفاء لهم؛ فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى تقصيرًا بولد المهلب طاعتهم لآل الزبير ووفاءهم لهم، فإن طاعتهم ووفاءهم لهم، هو دعاهم إلى طاعتي والوفاء لي. ثم ذكر بقية الخبر نحو الذي ذكره علي بن محمد، غزو المفضل باذغيس وأخرون وفي هذه السنة غزا المفضل باذغيس ففتحها. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، قال: عزل الحجاج يزيد، وكتب إلى المفضل بولايته على خراسان سنة خمس وثمانين، فوليها تسعة أشهر، فغزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنمًا، فقسمه بين الناس، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائة درهم، ثم غزا خرون وشومان، فظفر وغنم، وقسم ما أصاب بين الناس. ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاءه شيء. وإن غنم شيئًا قسمه بينهم، فقال كعب الأشقري يمدح المفضل: ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر ** عصائب شتى ينتوون المفضلا فمن زائر يرجو فواضل سيبه ** وآخر يقضى حاجة قد ترحلا إذا ما انتوينا غير أرضك لم نجد ** بها منتوى خيرًا ولا متعللا إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهى ** وقد قدموا من صالح كنت أولا لعمري لقد صال المفضل صولة ** أباحت بشومان المناهل والكلا ويوم ابن عباس تناولت مثلها ** فكانت لنا بين الفريقين فيضلا صفت لك أخلاق المهلب كلها ** وسربلت من مسعاته ما تسربلا أبوك الذي لم يسع ساع كسعيه ** فأورث مجدًا لم يكن متنحلا خبر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم السلمي بالترمذ ذكر سبب قتله ومصيره إلى الترمذ حتى قتل بها: ذكر أن سبب مصيره إلى الترمذ كان أن أباه عبد الله بن خازم لما قتل من قتل من بني تميم بفرتنا - وقد مضى ذكري خبر قتله إياهم - تفرق عنه عظم من كان بقي معه منهم، فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: حول ثقلي عن مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه. فشخص موسى من مرو في عشرين ومائتي فارس، فأتى آمل وقد ضوى إليه قوم من الصعاليك، فصار في أربعمائة، وانضم إليه رجال من بني سليم، منهم زرعة بن علقمة فأتى زم فقاتلوه، فظفر بهم وأصاب مالا، وقطع النهر، فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه، وقال: رجل فاتك، وأصحابه مثله أصحاب حرب وشر، فلا آمنه. وبعث إليه بصلة عين ودواب وكسوة، ونزل على عظيم من عظماء أهل بخارى في نوقان، فقال له: إنه لا خير في المقام في هذه البلاد، وقد هابك القوم وهم لا يأمنونك. فأقام عند دهقان نوقان أشهرًا، ثم خرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنًا، فلم يأت بلدًا إلا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم. قال علي بن محمد: فأتى سمرقند فأقام بها، وأكرمه طرخون ملكها، وأذن له في المقام، فأقام ما شاء الله، ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم ودك وخبز وإبريق شراب، وذلك في كل عام يومًا، يجعل ذلك لفارس الصغد فلا يقر به أحد غيره، هو طعامه في ذلك اليوم، فإن أكل منه أحد غيره بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له، فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر عنها، فسكت، فقال صاحب موسى: لأكلن ما على هذه المائدة، ولأبارزن فارس الصغد، فإن قتلته كنت فارسهم فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة، فجاء معضبًا، فقال: يا عربي، بارزني، قال: نعم، وهل أريد إلا المبارزة! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارس الصغد! لو لا أني أعطيتك وأصحابك الآمان لقتلتكم، اخرجوا عن بلدي، ووصله. فخرج موسى فأتى كس فكتب صاحب كس إلى طرخون يستنصره، فأتاه، فخرج إليه موسى في سبعمائة فقاتلهم حتى أمسوا، وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرة، فلما أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رءوسهم كما يصنع الخوارج، وقطعوا صفينات أخبيتهم كما يصنع العجم إذا استماتوا وقال موسى لزرعة بن علقمة: انطلق إلى طرخون فاحتل له. فأتاه، فقال له طرخون: لم صنع أصحابك ما صنعوا؟ قال: استقتلوا فما حاجتك إلى أن تقتل أيها الملك موسى وتقتل! فإنك لا تصل إليه حتى بقتل مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعًا ما نلت حظًا، لأن له قدرًا في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لم تسلم من آخر؛ قال: ليس إلى ترك كس في يده سبيل؛ قال: فكف عنه حتى يرتحل، فكف وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر إلى جانب منه، فنزل موسى على بعض دهاقين الترمذ خارجًا من الحصن والدهقان مجانب لتر مذشاه، فقال لموسى: إن صاحب الترمذ متكرم شديد الحياء، فإن ألطفته وأهديت إليه أدخلك حصنه، فإنه ضعيف، قال: كلا، ولكني أسأله أن يدخلني حصنه، فسأله فأبى، فما كره موسى وأهدى له وألطفه، حتى لطف الذي بينهما، وخرج فتصيد معه، وكثر إلطاف موسى له، فصنع صاحب الترمذ طعامًا وأرسل إليه: إني أحب أن أكرمك، فتغد عندي، وائتني في مائة من أصحابك، فانتخب موسى من أصحابه مائةً، فدخلوا على خيولهم، فلما صارت في المدينة تصاهلت، فتطير أهل الترمذ وقالوا لهم: انزلوا، فنزلوا، فأدخلوا بينًا، خمسين في خمسين، وغدوهم، فلما فرغوا من الغداء اضطجع موسى، فقالوا له: اخرج، قال: لا أصيب منزلا مثل هذا، فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبري، وقاتلوهم في المدينة، فقتل من أهل الترمذ عدة، وهرب الأخرون فدخلوا منازلهم، وغلب موسى على المدينة، وقال لترمذ شاه: اخرج فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك. فخرج الملك وأهل المدينة فأتوا الترك يستنصرونهم، فقالوا: دخل إليكم مائة رجل أخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكس، فنحن لا نقاتل هؤلاء. فأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة، فأقام، فلما قتل أبوه انضم إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوى، فكان يخرج فيغير على من حوله. قال: فأرسل الترك قومًا إلى أصحاب موسى ليعلموا علمه، فلما قدموا قال موسى لأصحابه: لا بد من مكيدة لهؤلاء - قال: وذلك في أشد الحر - فأمر بنار فأججت، وأمر أصحابه فلبسوا ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودًا، ومدوا أيديهم إلى النار كأنهم يصطلون. وأذن موسى للترك فدخلوا، ففزعوا مما رأوا، وقالوا: لم صنعتم هذا؟ قالوا: نجد البرد في هذا الوقت، ونجد الحر في الشتاء، فرجعوا وقالوا: جن لا نقاتلهم، قال: وأراد صاحب الترك أن يغزو موسى، فوجه إليه رسلا، وبعث بسم ونشاب في مسك، وإنما أراد بالسم أن حربهم شديدة، والنشاب الحرب، والمسك السلم، فاختر الحرب أو السلم، فأحرق السم، وكسر النشاب، ونثر المسك، فقال القوم: لم يريدوا الصلح، وأخبر أن حربهم مثل النار، وإنه يكسرنا، فلم يغزهم، قال: فولى بكير بن وشاح خراسان فلم يعرض له، ولم يوجه إليه أحدًا، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريده، فخالفه بكير، وخلع، فرجع إلى مرو، فلما صالح أمية بكيرًا أقام عامة ذلك، فلما كان في قابل وجه إلى موسى رجلًا من خزاعة في جمع كثير، فعاد أهل الترمذ إلى الترك فاستنصروهم فأبوا، فقالوا لهم: قد غزاهم قوم منهم وحصروهم، فإن أعناهم عليهم ظفرنا بهم، فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة، فقال موسى لعمرو بن خالد بن حصين الكلابي - وكان فارسًا: قد طال أمرنا وأمر هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيت عسكر الخزاعي، فإنهم للبيات آمنون، فما ترى؟ قال: البيات نعما هو، وليكن ذلك بالعجم، فإن العرب أشد حذرًا، وأسرع فزعًا، وأجرًا على الليل من العجم، فبيتهم فإني أرجو أن ينصرنا الله عليهم، ثم ننفرد لقتال الخزاعي فنحن في حصن وهم بالعراء، وليسوا بأولى بالصبر، ولا أعلم بالحرب منا، قال: فاجمع موسى على بيات الترك، فلما ذهب من الليل ثلثه خرج في أربعامائة، وقال لعمرو بن خالد: أخرجوا بعدنا وكونوا منا قريبًا؛ فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، أخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر، ثم أخذ من ناحية كفتان، فلما قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعًا، ثم قال: أطيفوا بعسكرهم؛ فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأقبل وقدم عمرًا بين يديه مشوا خلفه، فلما رأته أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابري سبيل. قال: فلما جازوا الرصد تفرقوا وأطافوا بالعسكر وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف، فثاروا يقتل بعضهم بعضًا وولوا، وأصيب من المسلمين ستة عشر رجلًا، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحًا ومالًا، وأصبح الخزاعي وأصحابه قد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها من البيات، فتحذروا فقال لموسى عمرو بن خالد: إنك لا تظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم يكثرون، فدعني آتهم لعلي أصيب من صاحبهم فرصة؛ إني إن خلوت به قتلته، فتناولني بضرب، قال: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل! قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد، فقناوله بضرب؛ ضربه خمسين سوطًا، فخرج من عسكر موسى فأتى عسكر الخزاعي مستأمنًا وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فلم أزل معه، وكنت أول من أتاه، فلما قدمت اتهمني، وتعصب على، وتنكر لي وقال لي: قد تعصبت لعدونا، فأنت عين له، فضربني، ولم آمن القتل، وقلت: ليس بعد الضرب إلا القتل، فهربت منه، فآمنه الخزاعي وأقام معه. قال: فدخل يومًا وهو خال ولم ير عنده سلاحًا، فقال كأنه ينصح له: أصلحك الله! إن مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحوال بغير سلاح، فقال: إن معي سلاحًا، فرفع صدر فراشه فإذا سيف منتضى، فتناوله عمرو فضربه فقتله، وخرج فركب فرسه، ونذروا به بعد ما أمعن، فطلبوه ففاتهم، فأتى موسى وتفرق ذلك الجيش، فقطع بعضهم النهر، وأتى بعضهم موسى مستأمنًا، فأمنه، فلم يوجه إليه أمية أحدًا قال: وعزل أمية، وقدم المهلب أميرًا، فلم يعرض لابن خازم، وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة ه هذا الثغر ما أقام هذا الثط بمكانه، فإن قتل كان أول طالع عليكم أميرًا على خراسان رجل من قيس، فمات المهلب ولم يوجه إليه أحدًا، ثم تولى يزيد بن المهلب فلم يعرض له، وكان المهلب ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولى يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما؛ الحارث بن منقذ، وقتل صهرًا لهما كانت عنده أم حفص ابنه ثابت، فبلغهما ما صنع يزيد. قال: فخرج ثابت إلى طرخون فشكل إليه ماصنع به - وكان ثابت محببًا في العجم، بعيد الصوت، يعظمونه ويثقون به، فكان الرجل منهم إذا أعطى عهدًا يريد الوفاء به حلف بحياة ثابت فلا يغدر - فعضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله، وقد سقط إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة، وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، وقوم من بني تميم ممن كان يقاتل ابن خازم في الفتنة من أهل خراسان، فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن، فقال له ثابت وحريث: سر تعطع النهر فتخرج يزيد ين المهلب عن خراسان؛ ونوليك، فإن طرخون ونيزك والسبل وأهل بخارى معك، فهم أن يفعل، فقال له أصحابه: إن ثابتًا وأخاه خائفان ليزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان وأمنا توليا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم مكانك. فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ. وقال لثابت: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر مما يلينا، وتكون هذه الناحية لنا نأكلها. فرضي ثابت بذلك، وأخرج من كان من عمال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، وقوى أمرهم وأمر موسى، وانصرف طرخون ونيزك وأهل بخارى والسبل إلى بلادهم، وتدبير الأمر لحريث وثابت، والأمير موسى ليس له غير الاسم، فقال لموسى أصحابه: لسنا نرى من الأمر في يديك شيئًا أكثر من اسم الإمارة، فأما التدبير فلحريث وثابت، فاقتلهما وتول الأمر، فأبى وقال: ما كنت لأغدر بهما وقد قويا أمري، فحسدوهما وألحوا على موسى في أمرهما حتى أفسدوا قلبه، وخوفوه غدرهما، وهم بمتابعتهم على الوثوب بثابت وحريث. واضطرب أمرهم؛ فإنهم لفي ذلك إذ خرجت عليهم الهياطلة والتبت والترك، فأقبلوا في سبعين ألفًا لا يعدون الحاسر ولا صاحب بيضة جماء، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس، قال: فخرج ابن خازم إلى ربض المدينة في ثلثمائة راجل وثلاثين مجففًا، وألقي له كرسي فقعد عليه. قال: فأمر طرخون أن يثلم حائط الربض، فقال موسى: دعوهم، فهدموا ودخل أوائلهم، فقال: دعوهم يكثرون، وجعل يقلب طبرزينًا بيده، فلما كثروا قال: الآن امنعوهم، فركب وحمل عليهم فقاتلهم حتى أخرجهم عن الثلمة ثم رجع فجلس على الكرسي وذمر الملك أصحابه ليعودوا، فأبوا، فقال لفرسانه: هذا الشيطان، من سره أن ينظر إلى رسم فلينظر إلى صاحب الكرسي، فمن أبي فليقدم عليه. ثم تحولت الأعاجم إلى رستاق كفتان. قال: فأغاروا على سرح موسى، فاغنم ولم يطعم، وجعل يعبث بلحيته، فسار ليلا على نهر في حافتيه نبات لم يكن فيه ماء، وهو يفضي إلى خندقهم، في سبعمائة، فأصبحوا عند عسكرهم، وخرج السرح فأغار عليه فاستاقه، وأتبعه قوم منهم، فعطف عليه سوار، مولى لموسى، فطعن رجلًا منهم فصرعه، فرجعوا عنهم وسليم موسى بالسرح. قال: وغاداهم العجم القتال، فوقف ملكهم على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء. فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم صدر النهار، وألح عليهم حتى أزالوهم عن التل، ورمى يومئذ حريث بنشابه في جبهته، فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم، فوجأ رجلًا منهم بقبيعة سيفه، فطعن فرسه، فاحتمله فألقاه في نهر بلخ فغرق، وعليه درعان، فقتل العجم قتلًا ذريعًا، ونجا منهم من نجا بشر، ومات حريث بن قطبة بعد يومين، فدفن في قبته. قال: وارتحل موسى، وحملوا الرءوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرءوس جوسفين، وجعلوا الرءوس يقابل بعضها بعضًا. وبلغ الحجاج خبر الواقعة، فقال: الحمد لله الذي نصر المنافقين على الكافرين، فقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث، فأرحنا من ثابت، فأبى وقال: لا. وبلغ ثابتًا بعض ما يخوضون فيه، فدس محمد بن عبد الله بن مرثد الخزاعي، عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري - وكان في خدمة موسى بن عبد الله - وقال له: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك من أين أنت! فقل: من سبى الباميان، فكان يخدم موسى وينقل إلى ثابت خبرهم، فقال له: تحفظ ما يقولون. وحذر ثابت فكان لا ينام حتى يرجع الغلام، وأمر قومًا من شاكريته يحرسونه ويبيتون عنده في داره، ومعهم قوم من العرب، وألح القوم على موسى فأضجروه، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم علي، وفيم تريدون هلاككم، وقد أبرمتموني! فعلى أي وجه تفتكون به، وأنا لا أغدر به! فقال نوح بن عبد الله أخو موسى: خلناه وإياه، فإذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك، قال: أما والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم - والغلام يسمع - فأتى ثابتًا فأخره، فخرج من ليلته في عشرين فارسًا، فمضى، وأصبحوا وقد ذهب يدروا من أين أوتوا وفقدوا الغلام، فعلموا انه كان عينًا له عليهم، ولحق ثابت بحشورا فنزل المدينة، وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم، فقال موسى لأصحابه: قد فتحتم على أنفسكم بابًا فسدوه. وسار إليه موسى، فخرج إليه ثابت في جمع كثير فقاتلهم، فأمر موسى بإحراق السور، وقاتلهم حتى ألجثوا ثابتًا وأصحابه إلى المدينة، وقاتلوهم عن المدينة. فأقبل رقبة بن الحر العنبري حتى اقتحم النار؛ فانتهى إلى باب المدينة ورجل من أصحاب ثابت واقف يحمي أصحابه، فقتله، ثم رجع فخاض النار وهي تلتهب، وقد أخذت بجوانب نمط عليه، فرمى به عنه ووقف، وتحصن ثابت في المدينة، وأقام موسى في الربض، وكان ثابت حين شخص إلى حشورا أرسل إلى طرخون، فأقبل طرخون معينًا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وأعانه أهل كس ونسف وبخاري، فصار ثابت في ثمانين ألفًا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا. قال: وكان أصحاب ثابت يعبرون نهرًا إلى موسى بالنهار - ثم يرجعون بالليل إلى عسكرهم، فخرج يومًا رقبة - وكان صديقًا لثابت، وقد كان ينهى أصحاب موسى عما صنعوا - فنادى ثابتًا، فبرز له - وعلى رقبة قباء خز - فقال له: كيف حالك يارقبة؟ فقال: ما تسأل عن رجل عليه جبة خز في حمارة القيظ! وشكى إليه حالهم، فقال: أنتم صنعتم هذا بأنفسكم، فقال: أما والله دخلت في أمرهم، ولقد كرهت ما أرادوا، فقال ثابت: أين تكون حتى يأتيك ما قدر لك؟ قال: أنا عند المحل الطفاوي - رجل من قيس من يعصر - وكان المحل شيخًا صاحب شراب - فنزل رقبة عنده. قال: فبعث ثابت إلى رقبة في خمسائة درهم مع علي بن المهاجر الخزاعي، وقال: إن لنا تجار قد خرجوا من بلخ، فإذا بلغ أنهم قد قدموا فأرسل إلي تأتك حاجتك. فأتى على باب المحل، فدخل فإذا رقبة والمحل جالسان بينهما جفنة فيها شراب، وخوان عليه دجاج وأرغفة، ورقبة شعث الرأس، متوشح بملحفة حمراء، فدفع إليه الكيس، وابلغه الرسالة وما كلمه، وتناول الكيس وقال له بيده، اخرج، ولم يكلمه. قال: وكان رقبة جسيمًا كبيرًا غائر العينين، ناتئ الوجنتين، مفلج، بين كل سنين له موضع سن، كان وجهه ترس. قال: فلما أضاق أصحاب موسى واشتد عليهم الحصار قال يزيد بن هزيل: إن مقام هؤلاء مع ثابت والقتل أحسن من الموت جوعًا، والله لأفتكن بثابت أو لأموتن. فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، إن هذا لم يأتك رغبة فيك ولا جزعًا لك، ولقد جاءك بغدرة، فاحذره وخلني إياه، فقال: ما كنت لأقدم على رجل أتاني لا أدري أكذلك هو أم لا. قال: فدعني أرتهن منه رهنًا، فأرسل ثابت إلى يزيد فقال: أما أنا فلم أكن أظن رجلا يغدر بعد ما يسأل الأمان، وابن عمك أعلم بك مني، فانظر ما يعاملك عليه، فقال يزيد لظهير: أبيت يا أبا سعيد إلا حسدًا! قال: أما يكفيك ما ترى من الذل! تشردت عن العراق وعن أهلي، وصرت بخراسان فيما ترى، فما تعطفك الرحم! فقال له ظهير: أما والله لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنا ابنيك قدامة والضحاك. فدفعهما إليهم، فكانا في يدي ظهير. قال: وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت، لا يقدر منه على مايريد، حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتى أباه نعيه من مرو، فخرج متفضلا إلى زياد ليعزيه، ومعه ظهير ورهط من أصحابه وفيهم يزيد بن هزيل، وقد غابت الشمس، فلما صار على نهر الصغانيان تأخر يزيد بن هزيل ورجلان معه، وقد تقدم ظهير وأصحابه، فدنا يزيد بن ثابت فضربه فعض السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ. قال: ورمى يزيد وصاحباه بأنفسهم في نهر الصغانيان، فرموهم، فنجا يزيد سباحة وقتل صاحباه، وحمل ثابت إلى منزله فلما أصبح طرخون أرسل إلى ظهير: أتني بابني يزيد، فأتاه بهما، فقدم ظهير الضحاك بن يزيد فقتلهم، ورمى به وبرأسه في النهر، وقدم قدامة ليقتله، فالتفت فوقع السيف في صدره ولم يبن. فألقاه في النهر حي فغرق، فقال طرخون: أبوهما قتلهما وغدره. فقال يزيد بن هزيل: لأقتلن يا بني كل خزاعي بالمدينة، فقال له عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء - وكان ممن أتى موسى من فل ابن الأشعث: لو رمت ذاك من خزاعة لا تصعب عليك. وعاش ثابت سبعة أيام ثم مات. وكان يزيد بن هزيل سخيًا شجاعًا شاعرًا، ولى أيام ابن زياد جزيرة ابن كاوان، فقال: قد كنت أدعو الله في السر مخلصًا ** ليمكنني من جزية ورجال فاترك فيها ذكرطلحة خاملًا ** ويحمد فيها نائلي وفعالي قال: فقام بأمر العجل بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قيامًا ضعيفًا، وانتشر أمرهم، فأجمع موسى على بياتهم، فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه، فكيف يبيتنا! لقد طار قلبك، لا يحرسن الليلة أحد العسكر. فلما ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثمانمائة قد عباهم من النهار، وصيرهم أرباعًا. قال: فصير على ربع رقبة بن الحرب وعلى ربع أخاه نوح بن عبد الله بن خازم، وعلى ربع يزيد بن هزيل، وصار هو في ربع، وقال لهم: إذا دخلتم عسكرهم فتفرقوا، ولا يمرن أحد منكم بشيء إلا ضربه، فدخلوا عسكره من أربع نواح لا يمرون بدابة ولا رجل ولا خباء ولا جوالق إلا ضربوه وسمع الوجبة نيزك فلبس سلاحه، ووقف في ليلة مظلمة، وقال لعلي بن المهاجر الخزاعي: انطلق إلى طرخون فأعلمه موقفي، وقال له: ما ترى أعمل به، فأتى طرخون، فإذا هو في فازة قاعد على كرسيه وشاكريته قد أوقدوا النيران بين يديه، فأبلغه رسالة نيزك، فقال: اجلس، وهو طامح ببصره نحو العسكر والصوت. إذا أقبل محمية السلمى وهو يقول: " حم لا ينصرون "، فتفرق في الشاكرية، ودخل محمية الفازة. وقام إليه طرخون فبدره فضربه، فلم يغني شيئًا، قال: وطعنه طرخون بذباب السيف في صدره وصرعه، ورجع إلى الكرسي فجلس عليه، وخرج محمية يعدو. قال: ورجعت الشاكرية، فقال لهم طرخون: فررتم من رجل! أرأيتم لو كان نارًا هل كانت تحرق منكم أكثر من واحد! فما فرغ من كلامه حتى دخل جواريه الفازة، وخرج الشاكرية هرابًا، فقال للجواري: اجلسن، وقال لعلي بن المهاجر: قم، قال: فخرجا فإذا نوح بن عبد الله ابن خازم في السرادق، فتجاولا ساعة، واختلفا ضربتين، فلم يصنعا شيئًا، وولى نوح وأتباعه طرخون، فطعن فرس نوح في خاصرته فشب فسقط نوح والفرس في نهر الصغانيان ورجع طرخون وسيفه يقطر دمًا، حتى دخل السرادق وعلي بن المهاجر معه، ثم دخلا الفازة. وقال طرخون للجواري: ارجعن، فرجعن إلى السرادق؛ وأرسل طرخون إلى موسى: كف أصحابك؟ فإذا نرتحل إذا أصبحنا، فرجع موسى إلى عسكره، فلما أصبحوا ارتحل طرخون والعجم جميعًا، فأتى كل قوم بلادهم، قال: وكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ابن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان حتى أتى ملكًا فغلبه على مدينته وأخرجه منها، ثم سارت إليه الجنود من العرب والترك فكان يقاتل العرب أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى، لا يعازه فيه أحد قال: وكان بقومس رجل يقال له عبد الله، يجتمع إليه فتيان يتنادمون عنده في مؤونته ونفقته، فلزمه دين، فأتى موسى بن عبد الله، فأعطاه أربعة آلاف، فأتى بها أصحابه، فقال الشاعر يعاتب رجلا يقال له موسى: فما أنت موسى إذ يناجى إلهه ** ولا واهب القينات موسى بن خازم قال: فلما عزل يزيد وولى المفضل خراسان أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فأخرج عثمان بن مسعود - وكان يزيد حبسه - فقال: إني أريد أن أوجهك إلى موسى بن عبد الله، فقال: والله لقد وترني، وإني لثائر بابن عمتي ثابت وبالخزاعي، وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستموني وشردتم بني عمتي، واصطفيتم أموالهم، فقال له المفضل: دع هذا عنك، وسر فأدرك بثأرك فوجهه في ثلاثة آلاف، وقال له: مر مناديًا فليناد: من لحق بنا فله ديوان، فنادى بذلك في السوق، فسارع إليه الناس، وكتب المفضل إلى مدرك وهو ببلخ أن يسير معه، فخرج، فلما كان ببلخ خرج ليلة يطوف في العسكر، فسمع رجلا يقول: قتلته والله، فرجع إلى أصحابه، فقال: قتلت موسى ورب الكعبة! قال: فأصبح فسار من بلخ وخرج مدرك معه متثاقلًا، فقطع النهر فنزل جزيرة بالترمذ يقال لها اليوم جزيرة عثمان - لنزول عثمان بها في خمسة عشر ألفًا - وكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى، فضيقوا عليه وعلى أصحابه، فخرج موسى ليلًا فأتى كفتان، فامتار منها، ثم رجع فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرة، فقال لأصحابه: حتى متى! اخرجوا بنا فاجعلوا يومكم؛ إما ظفرتم وإما قتلتم. وقال لهم: اقصدوا للصغد والترك، فخرج وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك بن المهلب وخرج فصير ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال: لا تهايجوه إلا أن يقاتلكم، وقصد لطرخون وأصحابه، فصدقوهم، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم فجعلوا ينقلونه، ونظر معاوية بن خالد بن أبي برزة إلى عثمان وهو على برذون لخالد بن أبي برزة الأسلمي، فقال: انزل أيها الأمير، فقال خالد: لا تنزل فإن معاوية مشئوم. وكرت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصن، فقاتلهم، فعقر به فسقط، فقال لمولى له: احملني، فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعًا، وإن هلكنا هلكنا جميعًا. قال: فارتدف، فنظر إليه عثمان حين وثب فقال: وثبة موسى ورب الكعبة! وعليه مغفر له موشى بخز أحمر في أعلاه ياقوتة اسما نجونية، فخرج من الخندق فكشفوا أصحاب موسى فقصد لموسى، وعثرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فابتدروه فانطووا عليه فقتلوه، ونادى منادي عثمان: لا تقتلوا أحدًا، من لقيتموه فخذوه أسيرًا. قال: فتفرق أصحاب موسى، وأسر منهم قوم، فعرضوا على عثمان، فكان إذا أتى بأسير من العرب قال: دماؤنا لكم حلال، ودماؤكم علينا حرام! يأمر بقتله، وإذا أتى بأسير من الموالي شتمه، وقال: هذه العرب تقاتلني، فهلا غضبت لي! فيأمر به فيشدخ، وكان فظًا غليظًا، فلم يسلم عليه يومئذ أسير إلا عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء؛ فإنه كان مولاه، فلما نظر إليه أعرض عنه وأشار بيده أن خلوا عنه، ورقبة بن الحر لما أتى به نظر إليه وقال: ما كان من هذا إلينا كبير ذنب وكان صديقًا لثابت، وكان مع قوم فرفى لهم، والعجب كيف أسرتموه! قالوا: طعن فرسه فسقط عنه في وهدة فأسر؛ فأطلقه وحمله، وقال لخالد بن أبي برزة: ليكن عندك. قال: وكان الذي أجهز على موسى ابن عبد الله واصل بن قيصلة العنبري. ونظر يومئذ عثمان إلى زرعة بن علقمة السلمة والحجاج بن مروان وسنان الأعرابي ناحية فقال: لكم الأمان، فظن الناس أنه لم يؤمنهم حتى كاتبوه. قال: وبقيت المدينة في يدي النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم، فقال: لا أدفعها إلى عثمان، ولكني أدفعها إلى مدرك، فدفعها إليه وآمنه، فدفعها مدرك إلى عثمان. وكتب المفضل بالفتح إلى الحجاج، فقال الحجاج: العجب من ابن بهلة! أمره بقتل ابن سمرة فيكتب إلي أنه لمأبه ويكتب إلي إنه قتل موسى بن عبد الله بن خازم؛ قال: وقتل موسى سنة خمس وثمانين، فذكر البحتري أن مغراء بن المغيرة بن أبي صفرة قتل موسى فقال: وقد عركت بالترمذ الخيل خازمًا ** ونوحًا وموسى عركةً بالكلاكل قال: فضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولى قتيبة أخبر عنه فقال: ما دعاك إلى ماصنعت بفتى العرب بعد موته! قال: كان قتل أخي، فأمر به قتيبة فقتل بين يديه. عزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز وفي هذه السنة أراد عبد الملك بن مروان خلع أخيه عبد العزيز بن مروان. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمرهما فيه ذكر الواقدي أن عبد الملك هم بذلك، فنهاه عنه قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل هذا، فإنك باعث على نفسك صوت نعار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه! فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه إلى أن يخلعه. ودخل عليه روح بن زنباع الجذامي - وكان أجل الناس عند عبد الملك - فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، فقال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: أي والله، وأنا من أول من يجيبك إلى ذلك؛ فقال: نصيح إن شاء الله. قال: فبينى هو على ذلك وقد نام عبد الملك وروح ابن زنباع إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقًا، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابة فقال: لا يحجب عني قبيصة أي ساعة جاء من ليل أو نهار، إذا كنت خاليًا أو عندي رجل واحد، وإن كنت عندي النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه فدخل، وكان الخاتم إليه، وكان السكة إليه، تأتيه الأخبار قبل عبد الملك، ويقرأ الكتب قبله، ويأتي بالكتاب إلى عبد الملك منشورًا فيقرؤه، إعظامًا لقبيصة - فدخل عليه فسلم عليه وقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك عبد العزيز! قال: وهل توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح فقال: كفانا الله أبازرعة ما كنا نريد وما أجمعنا عليه وكان ذلك مخالفًا لك يا أبا إسحاق، فقال: قبيصة: ماهو؟ فأخبره بما كان؛ فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها، فقال عبد الملك: ربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمر بن سعيد، ألم تكن العجلة فيه خيرًا من التأني! خبر موت عبد العزيز بن مروان وفي هذه السنة توفي عبد العزيز بن مروان بمصر في جمادى الأولى، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وولاه مصر. وأما المدائني فإنه قال في ذلك ما حدثنا به أبو زيد عنه، أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد، وأفد وفدًا في ذلك عليهم عمران ابن عصام العنزي، فقام عمران خطيبًا، فتكلم وتكلم الوفد وحثوا عبد الملك وسألوه ذلك فقال عمران بن عصام: أمير المؤمنين إليك نهدي ** على نأي التحية والسلاما أجبني في بنيك يكن جوابي ** لهم عادية ولنا قواما فلو أن الوليد أطاع فيه ** جعلت له الخلافة والذماما شبيهك حول قبته قريش ** به يستمطر الناس الغماما ومثلك في التقى لم يصب يومًا ** لدن خلع القلائد والتماما فإن تأثر أخاك بها فإن ** وجدك لا نطيق لها إتهاما ولكنا نحاذر من بنيه ** بني العلات مأثرة سماما ونخشى إن جعلت الملك فيهم ** سحابًا أن تعود لهم جهاما فلا يك ما حلبت غدًا لقوم ** وبعد غد بنوك هم العياما فأقسم لو تخطاني عصام ** بذلك ما عذرت به عصاما ولو أني حبوت أخًا بفضل ** أريد به المقالة والمقاما لعقب في بني على بنيه ** كذلك أو لرمت مراما فمن يك في أقاربه صدوع ** فصدع الملك أبطؤه التئاما فقال عبد الملك: يا عمران، إنه عبد العزيز، قال: احتل له يا أمير المؤمنين. قال علي: أراد عبد الملك بيعة الوليد قبل أمر الأشعث، لأن الحجاج بعث في ذلك عمران بن عصام، فلما أبى عبد العزيز أعرض عبد الملك عما أراد حتى مات عبد العزيز، ولما أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك! فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فإنه أعز الخلق على أمير المؤمنين. فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد، فقال عبد الملك: اللهم إن عبد العزيز قطعني فاقطعه. فكتب إليه عبد الملك: احمل خراج مصر. فكتب إليه عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إني وإياك قد بلغنا سنًا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلًا، وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولًا! فإن رأيت ألا تفنث على بقية عمري فافعل. فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، وقال لابنيه: إن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك. وقال لابنيه: الوليد وسليمان: هل قارفتما حرامًا قط؟ قالا: لا والله قال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة! قال: فلما أبى عبد العزيز أن يجيب عبد الملك إلى ما أراد، قال عبد الملك: اللهم قد قطعني فاقطعه، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره، فدعا عليه، فاستجيب له. قال: وكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه أن يستكتب محمد بن يزيد الأنصاري، وكتب إليه: إن أردت رجلًا مأمونًا فاضلًا عاقلًا وديعًا مسلمًا كتومًا تتخذه لنفسك، وتضع عنده سرك، وما لا تحب أن يظهر، فاتخذ محمد بن يزيد. فكتب إليه عبد الملك: احمله إلي. فحمله، فاتخذه عبد الملك كاتبًا. قال محمد: فلم يكن يأتيه كتاب إلا دفعه إلي، ولا يستر شيئًا إلا أخبرني به وكتمه الناس، ولا يكتب إلى عامل من عماله إلا أعلمنيه، فإني لجالس يومًا نصف النهار إذا ببرد قد قدم من مصر، فقال: الأذن على أمير المؤمنين. قلت: ليست هذه ساعة إذن، فأعلمني ما قد قدمت له، قال: لا. قلت: فإن كان معك كتاب فادفعه إلي. قال: لا، قال: فأبلغ بعض من حضرني أمير المؤمنين، فخرج فقال: ما هذا؟ قلت: رسول قدم من مصر، قال: فخذ الكتاب، قلت: زعم أنه ليس معه كتاب، قال: فسله عما قدم له، قلت: قد سألته فلم يخبرني، قال أدخله، فأدخلته، فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز! فاسترجع وبكى ووجم ساعة ثم قال: يرحم الله عبد العزيز! مضى والله عبد العزيز لشأنه، وتركنا وما نحن فيه، ثم بكى النساء وأهل الدار، ثم دعاني من غد، فقال: إن عبد العزيز رحمه الله قد مضى لسبيله، ولا بد للناس من علم وقائم يقوم بالأمر من بعدي، فمن ترى؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سيد الناس وأرضاهم وأفضلهم الوليد بن عبد الملك، قال: صدقت وفقك الله! فمن ترى أن يكون بعده؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أين تعدلها عن سليمان فتى العرب! قال: وفقت، أما إنا لو تركنا الوليد وإياها لجعلها لبنيه، اكتب عهدًا للوليد وسليمان من بعده، فكتب بيعة الوليد ثم سليمان من بعده. فغضب علي الوليد فلم يولني شيئًا حين أشرت بسليمان من بعده. قال علي، عن أبي جعدية: كتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس لبيعة الوليد وسليمان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حي؛ فضربه هشام ضربًا مبرحًا وألبسه المسوح، وسرحه إلى ذباب - ثنية بالمدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يصلبوني ما لبست سراويل مسوح، ولكن قلت: يصلبوني فيسترني، وبلغ عبد الملك الخبر، فقال: قبح الله هشامًا! إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه، أو يكف عنه. بيعة عبد الملك لابنيه الوليد وسليمان وفي هذه السنة بايع عبد الملك لابنيه: الوليد، ثم من بعده سليمان، وجعلهما وليي عهد المسلمين، وكتب بيعته لهما البلدان، فبايع الناس، وامتنع من ذلك سعيد بن المسيب، فضربه هشام بن إسماعيل - وهو عامل عبد الملك على المدينة - وطاف به وحبسه، فكتب عبد الملك إلى هشام يلومه على ما فعل من ذلك، وكان ضربه ستين سوطًا، وطاف به فيد تبان سعر حتى بلغ به رأس الثنية. وأما الحارث فقد قال: حدثني ابن سعيد، عن محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا قالوا: استعمل عبد الله ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس؛ فضربه ستين سوطًا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، وقال: مالنا ولسعيد، دعه! وحدثني الحارث، عن ابن سعد، أن محمد بن عمر أخبره قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا أن عبد العزيز بن مروان توفي بمصر في جمادى سنة أربع وثمانين، فعقد عبد الماك لابنيه الوليد وسليمان العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فبايع الناس، ودعا سعيد بن المسيب أب يبايع لهما، فأبى وقال: لا حتى أنظر، فضربه هشام بن إسماعيل ستين سوطًا وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن؛ قال: والله لولا أني، ظننت أنه الصلب لما لبست هذا التبان أبدًا. فرده إلى السجن، وحبسه وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول: سعيد والله كان أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من شقاق وخلاف. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثنا أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان العامل على المشرق في هذه السنة كم العراق الحجاج بن يوسف. ثم دخلت سنة ست وثمانين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر وفاة عبد الملك بن مروان فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الملك بن مروان، وكان مهلكه في النصف من شوال منها. حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي عبد الملك بن مروان يوم الخميس للنصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر. وأما الحارث فإنه حدثني عن أبي سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: أجمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين. قال ابن عمر: وحدثني أبو معشر نجيح، قال: مات عبد الملك بن مروان بدمشق يوم الخميس اانصف من شوال سنة ست وثمانين، فكانت ولايته منذ يوم بويع إلى يوم توفي إحدى وعشرين سنة وشهرًا ونصفًا، كان تسع سنين منها يقاتل عبد الله بن الزبير، ويسلم عليه بالخلافة بالشام، ثم بالعراق بعد مقتل مصعب، وبقي بعد مقتل عبد الله بن الزبير واجتماع الناس عليه ثلاث عشر سنة وأربعة أشهر إلا سبع ليال. وأما علي بن محمد المدائني، فإنه - فيما حدثنا أبو زيد عنه - قال: مات عبد الملك سنة ست وثمانين بدمشق، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة عشر يومًا. ذكر الخبر عن مبلغ سنه يوم توفي اختلف أهل السير في ذلك، فقال أبو معشر فيه - ما حدثني الحارث عن أبي سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو معشر نجيح، قال: مات عبد الملك بن مروان وله ستون سنة. قال الواقدي: وقد روى لنا أنه مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة. قال: والأول أثبت. وهو على مولده، قال: وولد سنة ست وعشرين في خلافة عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وشهد يوم الدار مع أبيه وهو ابن عشر سنين. وقال المدائني علي بن محمد - فيما ذكر، أبو زيد عنه: مات عبد الملك وهو ابن ثلاث وستين سنة. ذكر نسبه وكنيته أما نسبه، فإنه عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف. وأما كنيته فأبو الوليد. وأمه عائشة بنت معاوية بنت المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وله يقول ابن قيس الرقيات: أنت ابن عائشة التي ** فضلت أروم نسائها لم تلتفت للداتها ** ومضت على غلوائها ذكر أولاده وأزواجه منهم الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر - درج - وعائشة؛ أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض. ويزيد، ومروان، ومعاوية - درج - وأم كلثوم، وأمهم عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وهشام، وأمه أم هشام بنت هشام إسماعيل بن هشامبن الوليد بن المغيرة المخزومي. وقال المدائني: اسمها عائشة بنت هشام. وأبو بكر، واسمه بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله، والحكم - درج - أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان. وفاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغير بن خالد بن العاص ابن هشام بم المغيرة. وعبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة ومحمد وسعيد الخير والحجاج؛ لأمهات أولاد. قال المدائني: وكان له من النساء - سوى من ذكرنا - شقراء بنت سلمة ابن حلبس الطائي، وابنة لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر. وذكر المدائني، عن عوانة وغيره أن أم سلمة بن يزيد بن وهب بن نباتة الفهمي دخل على عبد الملك فقال له: أي الزمان أدركت أفضل؟ وأي الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا ذامًا وحامدًا؛ وأما الزمان فيرفع أقوامًا ويضع أقوامًا، وكلهم يذم زمانه لأنه يبلي جديدهم، ويهرم صغيرهم، وكل ما فيه منقطع غير الأمل؛ قال: فأخبرني عن فهم، قال: هم كما قال من قال: درج الليل والنهار على فه ** م بن عمرو فأصبحوا كالرميم وخلت دارهم فأضحت يبابًا ** بعد عز وثروة ونعيم كذاك الزمان يذهب بالنا ** س وتبقى ديارهم كالرسوم قال: فمن يقول منكم: رأيت الناس مذ خلقوا وكانوا ** يحبون الغنى من الرجال وإن كان الغنى قليل خير ** بخيلًا بالقليل من النوال فما أدرى علام وفيم هذا ** وماذا يرتجون من البخال أللدينا؟ فبيس هناك دنيا ** ولا يرجى لحادثة الليالي قال: أنا. قال علي: قال أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معبط لعبد الملك بن مروان: نبئت أن ابن القلمس عابني ** ومن ذا من الناس الصحيح المسلم! فأبصر سبل الرشد سيد قومه ** وقد يبصر الرشد الرئيس المعمم فمن أنتم؟ ها خبرونا من أنتم ** وقد جعلت أشياء تبدو وتكتم فقال عبد الملك: ما كنت أرى أن مثلنا يقال له: من أنتم! أما والله لولا ما تعلم لقلت قولًا ألحقكم بأصلكم الخبيث حتى تموت. وقال عبد الله بن الحجاج الثعلبي لعبد الملك: يا بن العاص ويا خير فتى ** أنت سداد الدين إن دين وهى أنت الذي لا يجعل الأمر سدى ** جيبت قريش عنكم جوب الرحى إن أبا العاصي وفي ذاك اعتصى ** أوصى بنيه فوعوا منه الوصى إن يسعروا الحرب ويأبوا ما أبى ** الطاعنين في النحور والكلى شزرًا ووصلًا للسيوف بالخطا ** إلى القتال فحووا ما قد حوى وقال أعشى بن شيبان: عرفت قريش كلها ** لبني أبي العاص الإمارة لأبرها وأحقها ** عند المشورة بالإشارة المانعين لما ولوا ** والنافعين ذوي الضرارة وهم أحقهم بها ** عند الحلاوة والمرارة وقال عبد الملك: ما أعلم مكان أحد أقوى على هذا الأمر مني. وإن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسًا. خلافة الوليد بن عبد الملك وفي هذه السنة بويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة، فذكر أنه لما دفن أباه وانصرف عن قبره. دخل المسجد فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فخطب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله المستعان بمصيبتا بوت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا. فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن هشام السولي، فإنه قام وهو يقول: الله أعطاك التي لا فوقها ** وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها ** إليك حتى قلدوك طوقها فبايعه، ثم تتابع الناس على البيعة. وأما الواقدي فإنه ذكر أن الوليد لما رجع من دفن أبيه، ودفن خارج باب الجابية، لم يدخل منزله حتى صعد على منبر دمشق، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إنه لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم الله، وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت. وقد صار إلى منازل الأبرار ولي هذه الأمة الذي يحق عليه لله من الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه؛ من حج هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشن هذه الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزًا ولم يكن مفرطًا. أيها الناس، عليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل، فنظر إلى ما كان من دواب الخلافة فحازه، وكان جبارًا عنيدًا. ولاية قتيبة بن مسلم على خراسان من قبل الحجاج وفي هذه السنة قدم قتيبة بن مسلم خراسان واليًا عليها من قبل الحجاج، فذكر علي بن محمد أن كليب بن خلف، أخبره عن طفيل ابن مرداس العمي والحسن بن رشيد، عن سليمان بن كثير العمي، قال: أخبرني عمي قال: رأيت قتيبة بن مسلم حين قدم خراسان في سنة ست وثمانين، فقدم والمفضل يعرض الجند، وهو يريد أن يغزو أخرون وشومان، فخطب الناس قتيبة، وحثهم على الجهاد، وقال: إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه، ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة، والعدو وقمًا، ووعد نبيه ﷺ النصر بحديث صادق، وكتاب ناطق، فقال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ". ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب، وأعظم الذخر عنده فقال: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله "، إلى قوله " أحسن ما كانوا يعملون ". ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق، فقال " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون ". فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم، وإياي والهوينى. ذكر ما كان من أمر قتيبة بخراسان في هذه السنة ثم عرض قتيبة الجند في السلاح والكراع، وسار واستخلف بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان بن السعدي، فلما كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وبعض عظمائهم فساروا معه، فلما قطع النهر تلقاه تيش الأعور ملك الطغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب، فدعاه إلى بلاده، فأتاه وأتى ملك كفتان بهدايا وأموال، ودعا إلى بلاده، فمضى مع بيش إلى الصغانيان، فسلم إليه بلاده، وكان ملك آخرون وشومان قد أساء جوار تيش وغزاه وضيق عليه، فسار قتيبة إلى أخرون وشومان - وهما من طخارستان، فجاءه غشتاسبان فصالحه على فدية أداها إليه، فقبلها قتيبة ورضي، انصرف إلى مرو، واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، وتقدم جنده فسبقهم إلى مرو، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسارا، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذ؛ فوهب له قرية تدعى تنجانة، ثم قدم صالح على قتيبة فاستعمله على الترمذ. قال: واما الباهليون فيقولون: قدم قتيبة خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند، فكان جميع ما أحصوا من الدروع في جند خراسان ثلثمائة وخمسين درعًا، فغزا أخرون وشومان، ثم قفل فركب السفن فانحدر إلى آمل، وخلف الجند، فأخذوا طرق بلخ إلى مرو، وبلغ الحجاج، فكتب إليه يلومه ويعجز رأيه في تخليفه الجند، وكتب إليه: إذا غزوت فكن في مقدم الناس، وإذا قفلت فكن في أخرياتهم وساقتهم. وقد قيل: إن قتيبة أقام قبل أن يقطع النهر في هذه السنة على بلخ، لأن بعضها كان منتقدًا عليه، وقد ناصب المسلمين، فحارب أهلها، فكان ممن سبى امرأة برمك، أبا خالد بن برمك - وكان برمك على النوبهار - فسارت لعبد الله بن مسلم الذي يقال له الفقير، أخى قتيبة بن مسلم، فوقع عليها، وكان به شيء من الجذام. ثم إن أهل بلخ صالحوا من غد اليوم الذي حاربهم قتيبة، فأمر قتيبة برد السبى، فقالت امرأة برمك لعبد الله بن مسلم: يا تازي، إني قد علقت منك. وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة، فأوصى أن يلحق به ما في بطنها، وردت إلى برمك، فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد، فادعوه، فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه، فتركوه وأعرضوا عن دعواهم. وكان برمك طبيبًا، فداوى بعد ذلك مسلمة من علة كانت به. وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب، وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان، وعبد الملك بن المهلب عن شرطته. وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان الأمير على العراق كله والمشرق كله الحجاج بن يوسف وعلى الصلة بالكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل. وعلى الحرب بها من قبل الحجاج زياد بن جرير بن عبد الله. وعلى البصرة أيوب بن الحكم. وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. ثم دخلت سنة سبع وثمانين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث في هذه السنة عزل الوليد بن عبد الملك هشام بن إسماعيل عن المدينة، وورد عزله عنها - فيما ذكر - ليلة الأحد لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين. وكانت إمرته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه. خبر إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة وفي هذه السنة ولي الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة. قال الواقدي: قدمها واليًا في شهر ربيع الأول؛ وهو ابن خمس وعشرين سنة، وولد سنة اثنتين وستين. قال: وقدم على ثلاثين بعيرًا، فنزل دار مروان. قال: فحدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة ونزل دار مروان دخل عليه الناس فسلموا، فلما صلى الظهر دعا عشرة م فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله ابن عمرو، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد؛ فدخلوا عليه فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيرًا، وافترقوا. قال: وكتب الوليد إلى عمر يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان فيه سيء الرأي. قال الواقدي: فحدثني داود بن جبير، قال: أخبرتني أمولد سعيد بن المسيب أن سعيدًا دعا أبنه ومواليه فقال: إن هذا الرجل يوقف للناس أوقد وقف - فلا يتعرض له أحد ولا يؤذه بكلمة، فإنا سنترك ذلك لله وللرحيم، فإن كان ما علمت لسيء النظر لنفسه، فأما كلامه فلا أكلمه أبدًا. قال: وحدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر، عن أبيه، قال: كان هشام بن إسماعيل يسيء جوارنا ويؤذينا، ولقى منه علي بن الحسين أذى شديدًا، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس، فقال ما أخاف إلا من علي بن الحسين. فمر به علي وقد وقف عند دار مروان، وكان علي قد تقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد منهم بكلمة؛ فلما مر ناداه هشام بن إسماعيل: الله أعلم حيث يجعل رسالاته. خبر صلح قتيبة ونيزك وفي هذه السنة قدم نيزك على قتيبة، وصالح قتيبة أهل باذغيس على ألا يدخلها قتيبة. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد أن أبا الحسن الجشمي أخبره عن أشياخ من أهل خراسان، وجبلة بن فروخ عن محمد بن المثنى، أن نيزك طرخان كان في يديه أسراء من المسلمين، وكتب إليه قتيبة حين صالح ملك شومان فيمن في يديه من أسرى المسلمين أن يطلقهم، ويهدده في كتابه، فخافه نيزك، فأطلق الأسرى، وبعث بهم إلى قتيبة، فوجه إليه قتيبة سليًا الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه كتابًا يحلف فيه بالله: لئن لم يقدم عليه ليغزونه، ثم ليطلبنه حيث كان، لا يقلع منه حتى يظفر به أو يموت قبل ذلك. فقدم سليم على نيزك بكتاب قتيبة - وكان يستنصحه - فقال له: يا سليم، ما أظن عند صاحبك خيرًا، كتب إلي كتابًا لايكتب إلى مثلي! قال له سليم: يا أبا الهياج، إن هذا رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فما أحسن حلك عنده وعند جميع مضر! فقدم نيزك مع سليم على قتيبة، فصالحه أهل باذغيس في سنة سبع وثمانين على ألا يدخل باذغيس. خبر غزو مسلمة بن عبد الملك أرض الروم وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقى الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة. قال الواقدي: فيها لاقى مسلم ميمونًا الجرماني ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل انطاكية عند طوانة، فقتل منهم بشرًا كثيرًا، وفتح الله على يديه حصونًا. وقيل: إن الذي غزا الروم في هذه السنة هشام بن عبد الملك، ففتح الله على يديه حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل ممن المستعربة نحوًا من ألف مقاتل، وسبى ذراريهم ونسائهم. خبر غزو قتيبة بيكند وفي هذه السنة غزا قتيبة بيكند. ذكر الخبر عن غزوته هده ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس. عن أبيه، عن حسين بن مجاهد الرازي وهارون بن عيسى، عن يونس ابن أبي إسحاق وغيرهم، أن قتيبة لما صالح نيزك أقام إلى وقت الغزو، ثم غزا في تلك السنة - سنة سبع وثمانين - بيكند، فسار من مرو وأتى مرو الروذ، ثم أتى آمل! ثم مضى إلى زم فقطع النهر، وسار إلى بيكند - وهي أدنى مدائن بخاري إلى النهر، يقال لها مدينة التجار على رأس المفازة من بخاري - فلما نزل بعقوتهم استنصروا الصغد، واستمدوا من حولهم، فآتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطريق فلم ينفذ لقتيبة رسول، ولم يصل إليه رسول، ولم يجر له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج، فأشفق الحجاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار وهم يقتتلون في كل يوم. قال: وكان لقتيبة عين يقال له تنذر من العجم، فأعطاه أهل بخاري الأعلى مالًا على أن يفشأ عنهم قتيبة؛ فآتاه، فقال: أخلني، فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبي، فقال تنذر: هذا عامل يقدم عليك، وقد عزل الحجاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو! فدعا قتيبة سياه مولاه، فقال: اضرب عنق تنذر، فقتله، ثم قال لضرار: لم يبق أحد يعلم هذا الخبر غيري وغيرك، وإني أعطي الله عهدًا إن ظهر هذا الحديث من أحد حتى تنقضي حربنا هذه لألحقنك به؛ فاملك لسانك، فإن انتشار هذا الحديث يفت في أعضاد الناس. ثم أذن للناس. قال: فدخلوا، فراعهم قتل تنذر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة: ما يروعكم من قتل عبد أحانه الله! قالوا: إنا كنا نظنه ناصحًا للمسلمين، قال: بل كان غاشًا فأحانه الله بذنبه، فقد مضى لسبيله، فاغدوا على قتال عدوكم، والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به. فغدا الناس متأهبين، وأخذوا مصافهم، ومشى قتيبة قحض أهل الريات، فكانت بين الناس مشاولة، ثم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مأخذها، وأنزل الله على المسلمين الصبر، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزموا يريدون المدينة، واتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرًا كيف شاءوا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة، وهم قيل، فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من بني قتيبة. وارتحل عنهم يريد الرجوع، فلما سار مرحلة أو ثنتين، وكان منهم عل خمسة فراسخ نقضوا وكفروا، فقتلوا العامل وأصحابه، وجدعوا آنفهم وآذانهم، وبلغ قتيبة فرجع إليهم، وقد تحصنوا، فقاتلهم شهرًا، ثم وضع الفعلة في أصل المدينة فعلقوها بالخشب، وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فتنهدم، فسقط الحائط وهم يعلقونه، فقتل أربعين من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى وقاتلهم، فظفر بهم عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتيبة: أنا افدي نفسي، فقال له سليم الناصح: ما تبذل؟ قال: خمسة آلاف حريرة صينية قيمتها ألف ألف، فقال قتيبة: ما ترون؟ قالوا: نرى أن فداءه زيادة في غنائم المسلمين، وما عسى أن يبلغ من كيد هذا! قال: لا والله لا تروع بك مسلمة أبدًا، وأمر به فقتل قال علي: قال أبو الذيال، عن المهلب بن إياس، عن أبيه والحسن ابن رشيد، عن طفيل بن مرداس، أن قتيبة لما فتح بيكند أصابوا فيها من آنية الذهب والفضة ما لا يحصى، فولى الغنائم والقسم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني ملكان - وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين - وإياس بن بيهس الباهلي، فأذابا الآنية والأصنام فرفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفًا، فأعلماه فرجع فيه وأمرهما أن يذيباه فأذاباه، فخرج منه خمسون ومائة ألف مثقال - أو خمسون ألف مثقال - وأصابوا في بيكند شيئًا كثيرًا، وصار في أيدي المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان، ورجع قتيبة إلى مرو وقوى المسلمون، فاشتروا السلاح والخيل، وجلبت إليهم الدواب. وتنافسوا في حسن الهيئة والعدة، وغالوا بالسلاح حتى بلغ الرمح سبعين؛ وقال الكميت: ويوم بيكند لا تحصى عجائبه ** وما بخاراء مما أخطأ العدد وكان في الخزائن سلاح وآلة من آلة الحرب كثير، فكتب قتيبة إلى الحجاج يستأذنه في دفع ذلك السلاح إلى الجند، فأذن له، فأخرجوا ما كان في الخزائن من عدة الحرب وآلة السفر، فقسمه في الناس فاستعدوا، فلما كان الربيع ندب الناس وقال: إني أغزيكم قبل أن تحتاجوا إلى حمل الزاد، وأنتقلكم قبل أن تحتاجوا إلى الإدفاء؛ فسار في عدة حسنة من الدواب والسلاح، فأتى آمل؛ ثم عبر من زم إلى بخارى، فأتى نومشكث - وهي من بخارى - فصالحوه. قال علي: حدثنا أبو الذيال، عن أشياخ من بني عدي، أن مسلمًا الباهلي قال لو ألان: إن عندي مالًا أحب أن أستودعكه، قال: أتريد أن يكون مكتومًا أو لا تكره أن يعلمه الناس؟ قال: أحب أن تكتمه؛ قال: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا ومره إذا رأى رجلا في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف؛ قال: نعم، فجعل مسلم المال في خرج، ثم حمله على بغل وقال لمولى له: انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا وكذا، فإذا رأيت رجلًا جالسًا فخل عن البغل وانصرف. فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده. فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظن أنه قد بدا له، فانصرف وجاء رجل من بني تغلب فجلس في ذلك الموضع، وجاء مول مسلم فرأى الرجل جالسًا، فخلى عن البغل ورجع، فقام التغلبي إلى البغل، فلما رأى المال ولم ير مع البغل أحدًا قاد البغل إلى منزله، فأخذ البغل وأخذ المال، فظن مسلم أن المال قد صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال: ماقبضت شيئًا، ولا لك عندي مال. قال: فكان مسلم يشكوه ويتنقصه. قال: فأتى يومًا مجلس بني ضبيعة فشكاه والتغلبي جالس، فقام إليه فخلا به وسأله عن المال، فأخبره فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: والخاتم؟ قال: نعم؛ قال: اقبض مالك، وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل التي كان يشكو إليهم وألان فيعذره ويخبرهم الخبر، وفي وألان يقول الشاعر: ولست كو ألان الذي ساد بالتقى ** ولست كعمران ولا كالمهلب وعمران: ابن الفصيل البرجمي. وحج بالناس في هذه السنة - فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر - عمر بن عبد العزيز، وهو أمير على المدينة. وكان على قضاء المدينة في هذه السنة أبو بكر بن عمرو بن حزم من قبل عمر بن عبد العزيز. وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وخليفته على البصرة في هذه السنة - فيما قيل - الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله ابن أذينة، وعامله على الحرب بالكوفة زياد بن جرير بن عبد الله، وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. ثم دخلت سنة ثمان ثمانين ذكر ما كان فيها من الأحداث خبر فتح حصن طوانة من بلاد الروم فمن ذلك ما كان من فتح الله على المسلمين حصنًا من حصون الروم يدعى طوانة في جمادى الآخرة وشتوا بها، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك، والعباس بن الوليد بن عبد الملك. فذكر محمد بن عمر الواقدي أن ثور بن يزيد حدثه عن أصحابه قال: كان فتح طوانة على يدي مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد، وهزم المسلمون العدو يومئذ هزيمة صاروا إلى كنيستهم، ثم رجعوا فانهزم الناس حتى ظنوا ألا يجتبروها أبدًا، وبقي العباس معه نفير؛ منهم ابن محيريز الجمحي، فقال العباس لابن محيريز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك؛ فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعًا، فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة. وكان الوليد بن عبد الملك ضرب البعث على أهل المدينة في هذه السنة. فذكر محمد بن عمر، عن أبيه، أن مخرمة بن سليم الوالبي قال: ضرب عليهم بعث ألفين. وأنهم تجاعلوا فخرج ألف وخمسمائة، وتخلف خمسمائة، فغزوا الصائفة مع مسلمة والعباس، وهما على الجيش. وإنهم شتوا بطوانة وافتتحوها. وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك. ذكر عمارة مسجد النبي ﷺ وفيها أمر الوليد بن عبد الملك بهدم مسجد رسول الله ﷺ وهدم بيوت أزواج رسول الله ﷺ وإدخالها في المسجد، فذكر محمد بن عمر، أن محمد بن جعفر بن وردان البناء قال: رأيت الرسول الذي بعثه الوليد بن عبد الملك قدم في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانين، قدم معتجرًا، فقال الناس: ما قدم به الرسول! فدخل على عمر بن عبد العزيز بكتاب الوليد يأمره بإدخال حجر أزواج رسول الله ﷺ في مسجد رسول الله، وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، فإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فمر أهل المصر فليقوموا له قيمة عدل، ثم اهدم عليهم وادفع إليهم الأثمان، فإن لك في ذلك سلف صدق؛ عمر وعثمان فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده، فأجاب القوم إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذ في هدم بيوت أزواج النبي ﷺ وبناء المسجد، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى قدم الفعلة، بعث بهم الوليد. قال محمد بن عمر: وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمه، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس: القاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، يرونه أعلامًا في المسجد ويقرونه، فأسسوا أساسه. قال محمد بن عمر: وحدثني يحيى ين النعمان الغفاري، عن صالح بن كيسان، قال: لما جاء كتاب الوليد من دمشق وسار خمس عشرة بهدم المسجد، تجرد عمر بن عبد العزيز، قال صالح: فاستعملني على هدمه وبنائه، فهدمناه بعمال المدينة، فبدأنا بهدم بيوت أزواج النبي ﷺ حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد. قال محمد: وحدثني موسى بن أبي بكر، عن صالح بن كيسان، قال: ابتدأنا بهدم مسجد رسول الله ﷺ في صفر من سنة ثمان وثمانين، وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله ﷺ، وأن يعينه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، وبعث إليه بمائة عالم، وبعث من الفسيفساء بأربعين حملا، وأمر أن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت، فبعث بها إلى الوليد فبعث بذلك الوليد إلى عمر بن عبد العزيز، وفي هذه السنة ابتدأ عمر بن عبد العزيز في بناء المسجد. وفيها غزا أيضًا مسلمة الروم، ففتح على يديه حصون ثلاثة: حصن قسطنطينة، وغزالة، وحصن الأخرم، وقتل من المستعربة نحو من ألف مع سبي الذرية وأخذ الأموال. ذكر غزو قتيبة نومشكث وراميثنه وفي هذه السنة غزا قتيبة نومشكث وراميثنه. ذكر الخبر عما كان من خبر غزوته هذه ذكر علي بن محمد، أن المفضل بن محمد أخبره عن أبيه ومصعب بن حيان، عن مولى لهم أدرك ذلك، أن غزا نومشكث في سنة ثمان وثمانين، واستخلف على مرو بشار بن مسلم، فتلقاه أهلها، فصالحهم، ثم صار إلى راميثنه فصالحه أهلها، فانصرف عنهم وزحف إليه الترك، معهم السغد وأهل فرغانة، فاعترضوا المسلمين في طريقهم، فلحقوا عبد الرحمن ابن مسلم الباهلي وهو على الساقة، بينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل رسولًا إلى قتيبة بخبره، وغشيه الترك فقاتلوه، وأتى الرسول قتيبة فرجع بالناس، فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتلهم، وقد كاد الترك يستعملونهم، فلما رأى الناس قتيبة طابت أنفسهم فصبروا، وقاتلوهم إلى الظهر، وأبلى يومئذ نيزك وهو مع قتيبة، فهزم الله الترك، وفض جمعهم، ورجع قتيبة يريد مرو، وقطع النهر من الترمذ يريد بلخ، ثم أتى مرو. وقال الباهليون: لفي الترك المسلمين عليهم كور مغانون التركي ابن أخت ملك الصين في مائتي ألف، فأظهر الله المسلمين عليهم، ذكر ما عمل الوليد من المعروف وفي هذه السنة كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في البلدان. قال محمد بن عمر: حدثني ابن أبي سبرة، قال: حدثني صالح بن كيسان، قال: كتب الوليد إلى عمر في تسهيل الثنايا وحفر الآبار بالمدينة، وخرجت كتبه إلى البلدان بذلك، وكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله بذلك، قال: وحبس المجذمين عن أن يخرجوا على الناس، وأجرى عليهم أرزاقًا، وكانت تجري عليهم. وقال. ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان؛ قال: كتب الوليد إلى عمر ابن عبد العزيز أن يعمل الفوارة التي عند دار يزيد بن عبد الملك اليوم، فعملها عمر وأجرى ماءها فلما حج الوليد وقف عليها، فنظر إلى بيت الماء والفوارة، فأعجبته، وأمر لها بقوام يقومون عليها، وأن سقى أهل المسجد منها، ففعل ذلك وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز في رواية محمد بن عمر ذكر أن محمد بن عبد الله بن جبير - مولى لبني العباس - حدثهعن صالح بن كيسان، قال: خرج عمر بن عبد العزيز تلك السنة - يعني سنة ثمان وثمانين - بعدة من قريش، أرسل إليهم بصلات وظهر للحمولة، وأحرموا معه من ذي الحليفة، وساق معه بدنا، فلما كان بالتنعيم لقيهم نفر من قريش، منهم ابن أبي مليكة وغيره. فأخبروه أن مكة قليلة الماء، وأنهم يخافون على الحاج العطش. وذلك أن المطر قل، فقال عمر: فالمطلب هاهنا بين، تعالوا ندع الله. قال: فرأيتهم دعوا ودعا معهم، فألحوا في الدعاء. قال صالح: فلا والله إن وصلنا إلى البيت ذلك اليوم إلا مع المطر حتى كان مع الليل، وسكبت السماء، وجاء سيل الوادي، فجاء أمر خافه أهل مكة، ومطرت عرفه ومنى وجمع؛ فما كانت إلا عبرًا، قال: ونبتت مكة تلك السنة للخصب. وأما أبو معشر فإنه قال: حج بالناس سنة ثمان وثمانين عمر بن الوليد ابن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى عنه. وكانت العمال على الأمصار في هذه السنة العمال الذين ذكرنا أنهم كانوا عمالها في سنة سبع ثمانين. ثم دخلت سنة تسع وثمانين ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها خبر غزو مسلمة أرض الروم فمن ذلك افتتاح المسلمين في هذه السنة حصن سورية، وعلى الجيش مسلمة بن عبد الملك، زعم الواقدي أن مسلمة غزا في هذه السنة أرض الروم، ومعه العباس بن الوليد ودخلاها جميعًا ثم تفرقا، فافتتح مسلمة حصن سورية، وافتتح العباس أذرولية، ووافق من الروم جميعًا فهزمهم. وأما غير الواقدي فإنه قال: قصد مسلمة عمورية فوافق بها للروم جمعًا كثيرًا، فهزمهم الله، وافتتح هرقلة وقمودية. وغزا العباس الصائفة من ناحية البُدَنْدُون. خبر غزو قتيبة بخارى وفي هذه السنة غزا قتيبة بخارى، ففتح راميثنه. ذكر علي بن محمد عن الباهليين أنهم قالوا ذلك، وأن قتيبة رجع بعد ما فتحها في طريق بلخ، فلما كان بالفارياب أتاه كتاب الحجاج: أن رد وردان خذاه. فرجع قتيبة سنة تسع وثمانين، فأتى زم، فقطع النهر، فلقيه السغد وأهل كس ونسف في طريق المفازة، فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السفلي عن يمين وردان، فلقوه بجمع كثير، ففاتلهم يومين وليلتين، ثم أعطاه الله الظفر عليهم؛ فقال نهار بن توسعة: وباتت لهم منا بخرقان ليلة ** وليلتنا كانت بخرقان أطولا قال علي: أخبرنا أبو الذيال عن المهلب بن إياس، وأبو العلاء عن إدريس بن حنظلة، أن قتيبة غزا وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين فلم يطقه، ولم يظفر من البلد بشيء، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج: أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج: أن ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله مما كان منك، وأتها من مكان كذا وكذا وقيل: كتب إليه الحجاج أن كس بكس وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعني من بنيات الطريق. خبر ولاية خالد القسري على مكة وفي هذه السنة ولى خالد بن عبد الله القسري مكة فيما زعم الواقدي، وذكر أن عمر بن صالح حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول على منبر مكة وهو يخطب: أيها الناس، أيهما أعظم؟ أخليفة الرجل على أهله، أم رسوله إليهم؟ والله لو لم تعلموا فضل الخليفة، إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقى فسقاه ملحًا أجاجًا، واستسقاه الخليفة فسقاه عذبًا فراتًا، بئرًا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين - ثنية طوى وثنية الحجون - فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم. قال: ثم غارت البئر فذهبت فلا يدري أين هي اليوم. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونًا ومدائن هنالك وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان العمال في هذه السنة على الأمصار العمال في السنة التي قبلها وقد ذكرناهم قبل. ثم دخلت سنة تسعين ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها ففي هذه السنة غزا مسلمة أرض الروم - فيما ذكر محمد بن عمر - من ناحية سورية، ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا فيها العباس بن الوليد؛ قال بعضهم: حتى بلغ الأرزن؛ وقال بعضهم: حتى بلغ سورية. وقال محمد بن عمر: قول من قال: حتى بلغ سورية أصح. وفيها قتل محمد بن القاسم الثقفي داهر بن صصة ملك السند، وهو على جيش من قبل الحجاج بن يوسف. وفيها استعمل الوليد قرة بن شريك على مصر موضع عبد الله بن عبد الملك. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فذهبوا به إلى ملكهم، فأهداه ملك الروم إلى الوليد بن عبد الملك. خبر فتح بخارى وفيها فتح قتيبة بخارى، وهزم جموع العدو بها. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس؛ وأبا العلاء عن إدريس بن حنظلة؛ أن كتاب الحجاج لما ورد على قتيبة يأمره بالتوبة مما كان، من انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى قبل الظفر به والمصير إليه، ويعرفه الموضع الذي ينبغي له أن يأتي بلده منه، خرج قتيبة إلى بخارى في سنة تسعين غازيًا، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرونهم، فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة فحصرهم، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم ليقاتلوهم، فقالت الأزد: اجعلونا على حدة وخلوا بيننا وبين قتالهم. فقال قتيبة: تقدموا؛ فتقدموا يقاتلونهم وقتيبة جالس، عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعًا مليًا، ثم جال المسلمون، وركبهم المشركون فحطموهم حتى دخلوا في عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، وانطوت مجنبتًا المسلمين على الترك، فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم لنا عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد، والأحياء كلها وقوف. فمشى قتيبة إلى بني تميم، فقال: يا بني تميم، إنكم أنتم بمنزلة الحطمية، فيوم كأيامكم، أبى لكم الفداء! قال: فأخذ وكيع اللواء بيده، وقال: يا بني تميم، أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف - وهريم بن أبي طلحة المجاشعي على خيل بني تميم ووكيع رأسهم، والناس وقوف - فأحجموا جميعًا، فقال وكيع: يا هريم، قدم، ودفع إليه الراية، وقال: قدم خيلك فتقدم هريم، ودب وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدو فوقف، فقال له وكيع: اقحم يا هريم؛ قال: فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصئول وقال: أنا أقحم خيلي هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها! والله إنك لأحمق؛ قال: يا بن اللخناء، ألا أراك ترد أمري! وحذفه بعمود كان معه، فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال: ما بعد هذا أشد من هذا، وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب؛ فقنطر النهر وقال لأصحابه: من وطن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه؛ فما عبر معه إلا ثمانمائة راجل، فدب فيهم حتى إذا أعيوا أقعدهم فأراحوا حتى دنا من العدو، فجعل الخيل مجنبتين، وقال لهريم: إني مطاعن القوم، فاشغلهم عنا بالخيل، وقال للناس: شدوا، فحملوا فما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم خيله عليهم فطاعنوهم بالرماح، فما كفوا عنهم حتى حدروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة: أما ترون العدو منهزمين! فما عبر أحد ذلك النهر حتى ولى العدو منهزمين، فأتبعهم الناس، ونادى قتيبتة: من جاء برأس فله مائة. قال: فزعم موسى بن المتوكل القريعي، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بني قريع، كل رجل يجيء برأس، فيقال له: من أنت؟ فيقول: قريعي. قال: فجاء رجل من الأزد برأس فألقاه، فقالوا له: من أنت؟ قال: قريعي؛ قال: وجههم بن زحر قاعد، فقال: كذب والله أصلحك الله! إنه لابن عمي؛ فقال له قتيبة: ويحك! ما دعاك إلى هذا؟ قال: رأيت كل من جاء قريعي: فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس أن يقول: قريعي. قال: فضحك قتيبة. قال: وجرح يومئذ خاقان وابنه، ورجع قتيبة إلى مرو، وكتب إلى الحجاج: إني بعثت عبد الرحمن بن مسلم، ففتح الله على يديه. قال: وقد كان شهد الفتح مولى للحجاج، فقدم فأخبره الخبر، فغضب الحجاج على قتيبة، فاغتم لذلك، فقال له الناس. ابعث وفدًا من بني تميم وأعطهم وأرضهم يخبروا الأمير أن الأمر على ما كتبت، فبعث رجالًا فيهم عرام بن شتير الضبي، فلما قدموا على الحجاج صاح بهم وعاتبهم ودعا بالحجام بيده مقراض فقال: لأقطعن ألسنتكم أو لتصدقني، قالوا: الأمير قتيبة، وبعث عليهم عبد الرحمن، فالفتح للأمير والرأس الذي يكون على الناس، وكلمه بهذا عرام بن شتير، فسكن الحجاج. خبر صلح قتيبة مع السغد وفي هذه السنة جدد قتيبة الصلح بينه وبين طرخون ملك السغد. ذكر الخبر عن ذلك قال علي: ذكر أبو السري عن الجهم الباهلي، قال: لما أوقع قتيبة بأهل بخارى ففض جمعهم هابه أهل السغد، فرجع طرخون ملك السغد ومعه فارسان حتى وقف قريبًا من عسكر قتيبة، وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلًا يكلمه، فأمر قتيبة رجلًا فدنا منه وأما الباهليون فيقولون: نادى طرخون حيان النبطي فأتاه، فسألهم الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه، وأخذ منه رهنًا حتى يبعث إليه بما صالحه عليه، وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك. غدر نيزك وفي هذه السنة غدر نيزك فنقض الصلح الذي كان بينه وبين المسلمين وامتنع بقلعته، وعاد حربًا، فغزاه قتيبة. ذكر الخبر عن سبب غدره وسبب الظفر به قال علي: ذكر أبو الذيال، عن المهلب بن إياس والمفضل الضبي عن أبيه، وعلى بن مجاهد وكليب بن خلف العمي؛ كل قد ذكر شيئًا فألفته؛ وذكر الباهليون شيئًا فألحقته في خبر هؤلاء وألفته؛ أن قتيبة فصل من بخارى ومعه نيزك وقد ذعوه ما قد رأى من الفتوح، وخاف قتيبة، فقال: لأصحابه وخاصته: متهم أنا مع هذا، ولست آمنه؛ وذلك أن العربي بمنزلة الكلب؛ إذا ضربته نبح، وإذا أطعمته بصبص واتبعك، وإذا غزوته ثم أعطيته شيئًا رضي، ونسي ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارًا، فلما أعطاه فدية قبلهما ورضي، وهو شديد السطوة فاجر فلو استأذنت ورجعت كان الرأي، قالوا: استأذنه. فلما كان قتيبة بآمل استأذنهفي الرجوع إلى تخارستان، فأذن له، فلما فارق عسكره متوجهًا إلى بلخ قال لأصحابه: أغذوا السير؛ فساروا سيرًا شديدًا حتى أتوا النوبهار، فنزل يصلي فيه وتبرك به. وقال لأصحابه: إني لا أشك أن قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي، فأقيموا ربيئة تنظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنه لا يبلغ البروقان حتى بلغ تخارستان، فيبعث المغيرة رجلًا فلا يدركنا حتى ندخل شعب خلم؛ ففعلوا. قال: وأقبل الرسول من قبل قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلما مر الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان - ومدينة بلخ يومئذ خراب - ركب نيزك وأصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة فركب بنفسه في طلبه، فوجده قد دخل شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذام ملك مروروذ، وإلى سهرب ملك الطالقان، وإلى ترسل ملك الفارياب، وإلى الجوز جاني ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة. وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله وماله، وسأله أن يأذن له إن اضطر إله أن يأتيه ويؤمنه في بلاده، فأجابه إلى ذلك وضم ثقله. قال: وكان جبغويه ملك تخارستان ضعيفًا، واسمه الشذ، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه - وجبغويه ملك تخارستان ونيزك من عبيده - فلما استوثق منه وضع عليه الرقباء، وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه، وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء، وقد تفرق الجند فلم يبق مع قتيبة إلا أهل مرو، فبعث عبد الرحمن أخاه إلى بلخ في اثني عشر ألفًا إلى البروقان، وقال: أقم بها، ولا تحدث شيئًا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو تخارستان، واعلم أني قريب منك، فسار عبد الرحمن فنزل البروقان، وأمهل قتيبة حتى إذا كان آخر الشتاء كتب إلى أبرشهر وبيورد وسرخس وأهل هراة ليقدموا قبل أوانهم الذي كانوا يقدمون عليه فيه. خبر فتح الطالقان وفي هذه السنة، أوقع قتيبة بأهل الطالقان بخراسان - فيما قال بعض أهل الأخبار - فقتل من أهلها مقتلةً عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن نيزك طرخان لما غدر وخلع قتيبة وعزم على حربه، طابقه على حربه مللك الطالقان وواعده المصير إليه من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة، فلما هرب نيزك من قتيبة ودخل شعب خلم الذي يأخذ إلى طخارستان علم أنه لا طاقة له بقتيبة، فهرب، وسار قتيبة إلى الطالقان فأوقع بأهلها، ففعل ما ذكرت فيما قبل وقد خولف قائل هذا القول فيما قال من ذلك، وأنا ذاكره في أحداث سنة إحدى وتسعين. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز، كذلك حدثني أحمد ابن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. كذلك قال محمد بن عمر. وكان عمر بن عبد العزيز في هذه السنة عامل الوليد بن عبد الملك على مكة والمدينة والطائف. وعلى العراق والمشرق الحجاج بن يوسف، وعامل الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله. وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى الكوفة زياد بن جرير بن عبد الله. وعلى قضائها أبو بكر بن أبي موسى وعلى خراسان قتيبة بن مسلم. وعلى مصر قرة بن قرة بن شريك. هرب يزيد بن المهلب وإخوته من سجن الحجاج وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه من السجن مع آخرين غيرهم، فلحقوا بسليمان بن عبد الملك مستجيرين به من الحجاج ابن يوسف، والوليد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن سبب تخلصهم من سجن الحجاج ومسيرهم إلى سليمان قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: خرج الحجاج إلى رستقباذ للبعث، لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على عامة أرض فارس، فخرج بيزيد وبإخوته المفضل وعبد الملك حتى قدم بهم رستقباد؛ فجعلهم في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريبًا من حجرته، وجعل عليهم حرسًا من أهل الشام، وأغرمهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، وكان يزيد يصبر صبرًا حسنًا، وكان الحجاج يغيظه ذلك، فقيل له: إنه رمى بنشابة فثبت نصلها في ساقه، فهو لا يمسها شيء إلا صاح، فإن حركت أدنى شيء سمعت صوته، فأمر أن يعذب ويدهق ساقه، فلما فعل ذلك به صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج، فلما سمعت صياح يزيد صاحت وناحت، فطلقها. ثم إنه كف عنهم، وأقبل يستأديهم، فأخذوا يؤدون وهو يعملون في التخلص من مكانهم، فبعثوا إلى مروان بن المهلب وهو بالبصرة يأمرونه أن يضمر لهم الخيل، ويرى الناس أنه إنما يريد بيعها ويعرضها على البيع، ويغلي بها لئلا تشترى فتكون لنا عدة أن نحن قدرنا على أن ننجو مما هاهنا. ففعل ذلك مروان، وحبيب بالبصرة يعذب أيضًا. وأمر يزيد بالحرس فصنع لهم طعامًا كثير فأكلوا؛ وأمر بشراب فسقوا، فكانوا متشاغلين به، ولبس يزيد ثياب طباخه، ووضع على لحيته لحية بيضاء، وخرج فرآه بعض الحرس فقال: كان هذه مشية يزيد! فجاء حتى استعرض وجهه ليلًا، فرأى بياض اللحية، فانصرف عنه، فقال: هذا شيخ. وخرج المفضل على أثره. ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفنهم وقد هيثوها في البطائح، وبينهم وبين البصرة ثمانية عشر فرسخًا، فلما انتهوا إلى السفن أبطأ عليهم عبد الملك وشغل عنهم، فقال يزيد للمفضل: اركب بنا فإنه لاحق، فقال المفضل - وعبد الملك أخوه لأمه - وهي بهلة، هندية: لا والله، لا أبرح حتى يجيء ولو رجعت إلى السجن. فأقام يزيد حتى جاءهم عبد الملك، وركبوا عند ذلك السفن، فساروا ليلتهم حتى أصبحوا، ولما أصبح الحرس علموا بذهابهم، فرفع ذلك إلى الحجاج، وقال الفرزدق في خروجهم: فلم أر كالرهط الذين تتابعوا ** على الجذع والحراس غير نيام مضوا وهم مستقنون أنهم ** على الجذع والحراس غير نيام وإن منهم إلا يكن جأشه ** بعضب صقيل صارم وحسام فلما التقوا لم يلتقوا بمنفه ** كبير ولا رخص العظام غلام بمثل أبيهم حين تمت لداتهم ** لخمسين قل في جرأة وتمام ففزع له الحجاج، وذهب معه وهمه أن ذهبوا قبل خراسان، وبعث البريد إلى قتيبة بن مسلم يحذره قدومهم، ويأمره أن يستعد لهم، وبعث إلى أمراء الثغور والكور أن يرصدوهم، ويستعدوا لهم، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بهربهم، وأنه لا يراهم أرادوا إلا خراسان، ولم يزل الحجاج يظن ببريد ماصنع، كان يقول: إني لأظنه يحدث نفسه بمثل الذي صنع ابن الأشعث. ولما دنا يزيد من البطائح، من موقوع استقبله الخيل، قد هيئت له ولإخوته، فخرجوا عليها ومعهم دليل لهم من كلب يقال له: عبد الجبار بن يزيد بن الربعة، فاخذ بهم السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين، فقيل له: إنما أخذ الرجل طريق الشام، وهذه الخيل حسرى في الطريق، وقد أتى من رآهم موجهين في البر، فبعث إلى الوليد يعلمه ذلك، ومضى يزيد حتى قدم فلسطين، فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي - وكان كريمًا على سليمان - وأنزل بعض ثقله وأهله على سفيان بن سليمان الأزدي، وجاء وهيب بن عبد الرحمن حتى دخل على سليمان، فقال: هذا يزيد بن المهلب، وإخوته في منزلي، وقد أتوك هرابًا من الحجاج متعوذين بك؛ قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبدًا وأنا حي. فجاء بهم حتى أدخلهم عليه، فكانوا في مكان آمن. وقال الكلبي دليلهم في مسيرهم: ألا جعل الله الأخلاء كلهم ** فداء على ما كان لابن المهلب لنعم الفتى يا معشر الأزد أسعفت ** ركابكم بالوهب شرقي منقب عدلن يمينًا عنهم رمل عالج ** وذات يمين القوم أعلام غرب فإلا تصبح بعد خمس ركابنا ** سليمان من أهل اللوى تنأوب تقر قرار الشمس مما وراءنا ** وتذهب في داج من الليل غيهب بقوم هم كانوا الملوك هديتهم ** بظلماء لم يبصر بها ضوء كوكب ولا قمر إلا ضئيلًا كأنه ** سوار حناه صائغ السور مذهب قال هشام: فأخبرني الحسن ين أبان العليمي، قال: بينا عبد الجبار ابن يزيد بن الربعة يسرى بهم فسقطت عمامة يزيد، ففقدها فقال: يا عبد الجبار، ارجع فاطلبها لنا، قال: إن مثلي لا يؤمر بهذا، فأعاد؛ فأبى، فتناوله بالسوط، فانتسب له، فاستحيا منه، فذلك قوله: ألا جعل الله الأخلاء كلهم ** فداء على ما كان لابن المهلب وكتب الحجاج: إن آل المهلب خانوا مال الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان، وكان آل المهلب قدموا على سليمان، وقد أمر الناس أن يحصلوا ليسرحوا إلى خراسان، لا يرون إلا أن يزيد توجه إلى خراسان ليفتن من بها. فلما بلغ الوليد مكانه عند سليمان هون عليه بعض ما كان في نفسه، وطار غضبًا للمال الذي ذهب به. وكتب سلمان إلى الوليد: إن يزيد بن المهلب عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف، كان الحجاج أغرمهم ستة آلاف ألف فأدوا ثلاثة آلاف ألف، وبقي ثلاثة آلاف ألف، فهي على فكتب إليه: لا والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلى، فكتب إليه: لئن أنا بعثت به إليك لأجيئن معه، فأنشدك الله أن تفضحني ولا أن تخفرني. فكتب إليه: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: إبعثني إليه، فوالله ما أحب أن أوقع بينك وبينهم عداوة وحربًا، ولا أن يتشاءم بي لكما الناس، أبعث إليه بي، وأرسل معي إبنك، واكتب إليه بألطف ما قدرت عليه. فأرسل ابنه أيوب معه. وكان الوليد أمره أن يبعث به إليه في وثاق، فبعث به إليه، وقال لابنه: إذا أردت أن تدخل عليه فادخل أنت ويزيد في سلسلة ثم ادخلا جميعًا على الوليد، ففعل ذلك به حين انتهيا إلى الوليد، فدخلا عليه، فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة، قال: والله لقد بلغنا من سليمان! ثم إن الغلام دفع كتاب أبيه إلى عمه وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي فداؤك! لا تخفر ذمة أبي، وأنت أحق من منعها، ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك. واقرأ الكتاب: لعبد الله الوليد أمير المؤمنين من سليمان بن عبد الملك. أما بعد يا أمير المؤمنين، فوالله إن كنت لا أظن لو استجار بي عدو قد نابذك وجاهدك فأنزلته أجرته أنك لا تذل جاري، ولا تخفر جواري، بله لم أجر إلا سامعًا مطيعًا حسن البلاء والأثر في الإسلام هو وأبوه وأهل بيته، وقد بعثت به إليك، فإن كنت إنما تغزو قطيعتي والإخفار لذمتي، والإبلاغ في مساءتي، فقد قدرت إن أنت فعلت. وأنا أعيذك بالله من احتراد قطيعتي، وانتهاك حرمتي وترك بري وصلتي، فوالله يا أمير المؤمنين ما تدري ما بقائي وبقاؤك، ولا متى يفرق الموت بيني وبينك! فإن استطاع أمير المؤمنين أدام الله سروره ألا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل، ولحقي مؤد، وعن مساءتي نازع، فليفعل. والله يا أمير المؤمنين ما أصبحت بشيء من أمر الدنيا بعد تقوى الله فيها بأسر مني برضاك وسرورك. وإن رضاك مما ألتمس به رضوان الله، فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد يومًا من الدهر مسرتي وصلتي وكرامتي وإعظام حقي فتجاوز لي عن يزيد، وكل ما طلبته به فهو علي. فلما قرأ كتابه، قال: لقد شققنا على سليمان! ثم دعا ابن أخيه فأدناه منه. وتكلم يزيد فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء، فمن ينسى ذلك فلسنا ناسيه، ومن يكفر فلسنا كافريه، وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيها عظيمة. فقال: اجلس، فجلس فآمنه وكف عنه، ورجع إلى سليمان وسعى إخوته في المال الذي عليه، وكتب إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد، وأهل بيته مع سليمان، فاكفف عنهم، واله عن الكتاب فيهم. فلما رأى ذلك الحجاج كف عنهم. وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف درهم، فتركها له، وكف عن حبيب بن المهلب. ورجع يزيد إلى سليمان بن عبد الملك فأقام عنده يعلمه الهيئة، ويصنع له طيب الأطعمة، ويهدي له الهدايا العظام. وكان من أحسن الناس عنده منزلةً، وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سليمان، ولا تأتي سليمان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب، وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد إلا خطيئة الجارية. فبلغ ذلك الوليد بن عبد الملك، فدعا الحارث بن مالك بن ربيعة الأشعري، فقال: انطلق إلى سليمان فقل له: يا خالفة أهل بيته، إن أمير المؤمنين قد بلغه أنه لا تأتيك هدية ولا فائدة إلا بعثت إلى يزيد بنصفها، وإنك تأتي الجارية من جواريك فلا ينقضي طهرها حتى تبعث بها إلى يزيد، وقبح ذلك عليه، وعيره به، أتراك مبلغًا ما أمرتك به؟ قال: طاعتك طاعة، وإنما أنا رسول؛ قال: فآته فقل له ذلك، وأقم عنده، فإني باعث إليه بهدية فادفعها إليه، وخذ منه البراءة بما تدفع إليه. ثم أقبل فمضى حتى قدم عليه وبين يديه المصحف، وهو يقرأ، فدخل عليه فسلم، فلم يرد عليه السلام حتى فرغ من قراءته ثم رفع رأسه إليه فكلمه بكل شيء أمره به الوليد فتمعر وجهه، ثم قال: أما والله لئن قدرت عليك يومًا من الدهر لأقطعن منك طابقًا! فقال له: إنما كانت على الطاعة. ثم خرج من عنده. فلما أتى بذلك الذي بعث به الوليد إلى سليمان، دخل عليه الحارث بن ربيعة الأشعري وقال له: أعطني البراءة بهذا الذي دفعت إليك، فقال: كيف قلت لي؟ قال: لا أعيده عالمًا أبدًا، إنما كان على فيه الطاعة. فسكن، وعلم أن قد صدقه الرجل، ثم خرج وخرجوا معه، فقال: خذوا نصف هذه الأعدال وهذه الأسفاط وابعثوا بها إلى يزيد قال: فعلم الرجل أنه لا يطيع في يزيد أحدًا، ومكث يزيد بن المهلب عند سليمان تسعة أشهر. وتوفي الحجاج سنة خمس وتسعين في رمضان لتسع بقين منه في يوم الجمعة. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها غزا - فيما ذكر محمد بن عمر وغيره - الصائفة عبد العزيز بن الوليد، وكان على الجيش مسلمة بن عبد الملك. وفيها غزا أيضًا مسلمة الترك؛ حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح على يديه مدائن وحصون. وفيها غزا موسى بن نصير الأندلس، ففتح على يديه أيضًا مدائن وحصون. وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم نيزك طرخان. تتمة خبر قتيبة مع نيزك رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد رقصة نيزك وظفر قتيبة به حتى قتله. ولما قدم من كان قتيبة كتب إليه يأمره بالقدوم عليه من أهل أبرشهر وبيورد وسرخس وهراة على قتيبة، سار بالناس إلى مروروذ واستخلف على الحرب حماد بن مسلم، وعلى الخراج عبد الله بن الأهتم. وبلغ مرزبان مروروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. وقدم قتيبة مروروذ فأخذ ابنين له فتلهما وصلبهما، ثم سار إلى الطالقان فقام صاحبها ولم يحاربه، فكف عنه، وفيها لصوص، فقتلهم قتيبة وصلبهم، واستعمل على الطالقان عمرو بن مسلم، ومضى إلى الفارياب، فخرج إليه ملك الفارياب مذعنًا مقرًا بطتاعته، فرضى عنه، ولم يقتل بها أحدًا، واستعمل عليها رجلا من باهلة. وبلغ صاحب الجوزجان خبرهم، فترك أرضه وخرج إلى الجبال هاربًا، وسار قتيبة إلى الجوزجان فلقيه أهلها سامعين مطيعين، فقبل منهم، فلم يقتل فيها أحدًا، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني، ثم أتى بلخ فلقيه الأصبهبذ في أهل بلخ، فدخلها فلم يقيم بها إلا يومًا واحدًا. ثم مضى يبتع عبد الرحمن حتى أتى شعب خلم، وقد مضى نيزك فعسكر ببغلان، وخلف مقاتلةً على فم الشعب ومضايقة يمنعونه، ووضع مقاتلةً في قلعة حصينة من وراءالشعب، فأقام قتيبة أيامًايقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر منهم على شيء، ولا يقدر على دخوله، وهو مضيق الوادي يجري وسطه، ولا يعرف طريقًا يفضي به إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتمل العساكر، فبقي متلددًا يلتمس الحيل. قال: فهو في ذلك إذ قدم عليه الروب خان ملك الروب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي وراء هذا الشعب، فآمنه قتيبة، وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلًا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة والناس الشعب، فأتى القلعة ثم مضى إلى سمنجان ونيزك ببغلان بعين تدعى فنج جاه، وبين سمنجان وبغلان مفازة ليست بالشديدة قال: فأقام قتيبة بسمنجان أيامًا، ثم سار نيزك، وقدم أخاه عبد الرحمن، وبلغ نيزك فارتحل من منزله حتى قطع وادي فرغانة، ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن بن مسلم يتبعه، فنزل عبد الرحمن وأخذ بمضايق الكرز، ونزل قتيبة أسكيمشت بينه وبين عبد الرحمن فرسخان. فتحرز نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد، وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدري وجدر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليمًا الناصح، فقال: انطلق إلى نيزك واحتل لأن تأتيني به بغير أمان، فإن أعياك وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك؛ فاعمل لنفسك. قال: فاكتب لي إلى عبد الرحمن لا يخالفني؛ قال: نعم. فكتب له إلى عبد الرحمن فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالًا فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب. قال: فبعث عبد الرحمن خيلا فكانوا حيث أمرهم سليم، ومضى سليم وقد حمل معه من الأطعمة التي تبقى أيامًا والأخبصة أو قارًا، حتى أتى نيزك، فقال له نيزك: خذلتني يا سليم، قال: ما خذلتك، ولكنك عصيتني وأسأت بنفسك، خلعت وغدرت، قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تأتيه فقد أمحكته، وليس ببارح موضعه هذا، قد اعتزم على أن يشتو بمكانه؛ هلك أو سلم؛ قال: آتيه على غير أمان! قال: ما أظنه يؤمنك لما في قلبه عليك، فإنك قد ملأته غيظًا، ولكني أرى ألا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو إن فعلت ذاك أن يستحي ويعفو عنك، قال: أترى ذلك؟ قال: نعم؛ إن نفسي لتأبى هذا، وهو إن رآني قتلني، فقال له سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وأن تعود حالك عنده إلى ما كانت؛ فأما إذ أبيت فإني منصرف. قال: فنغديك إذًا، قال: إني لأظنكم في شغل عن تهيئة الطعام، ومعنا طعام كثير قال: ودعا سليم بالغداء فجاءوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغم ذلك نيزك، وقال سليم: يا أبا الهياج، أنا لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار وأقمت على حالك لم أمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق وأت قتيبة، قال: ما كنت لآمنه على نفسي، ولا آتيه على غير أمان؛ فإن ظني به أنه قاتلي وإن آمني، ولكن الأمان أعذر لي وأرجي، قال: فقد آمنك أفتتهمني! قال: لا، قال: فانطلق معي، قال له أصحابه: اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلا حقًا، فدعا بدوابه وخرج مع سليم، فلما انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض قال: ياسليم، من كان لا يعلم متى يموت فإني أعلم متى أموت، أموت إذا عاينت قتيبة؛ قال: كلا أيقتلك مع الأمان! فركب ومضى معه جبغويه - وقد برأ من الجدري - وصول وعثمان ابنا أخي نيزك - وصول طرخان خليفة جبغوية، وخنس طرخان صاحب شرطه - قال: فلما خرج من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم على فوهة الشعب؛ فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم: هذا أول الشر؛ قال: لا تفعل، تخلف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم، فأرسل رسولًا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن أبي مهزم إلى عبد الرحمن: أن اقدم بهم على، فقدم بهم عبد الرحمن عليه، فحبس أصحاب نيزك، ودفع إلى ابن بسام الليثي، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك، فجعل ابن بسام نيزك في قبته، وحفر حول القبة خندقًا، ووضع عليه حرسًا. ووجه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكرز من متاع ومن كان فيه، وقدم به على قتيبة، فحبسهم ينتظر كتاب الحجاج فيما كتب إليه، فأتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يومًا يأمره بقتل نيزك. قال: فدعا به فقال: هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمن أو عند سليم؟ قال: لي عند سليم؛ قال: كذبت، وقام فدخل ورد نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيام لا يظهر للناس، قال: فقام المهلب ابن إياس العدوي، وتكلم في أمر نيزك، فقال بعضهم: ما يحل له أن يقتله، وقال بعضهم: ما يحل له تركه، وكثرت الأقاويل فيه. وخرج قتيبة اليوم الرابع فجلس وأذن للناس، فقال: ما ترون في قتل نيزك؟ فاختلفوا، فقال قائل: اقتله، وقال قائل: أعطيته عهدًا فلا تقتله؛ وقال قائل: ما نأمنه على المسلمين. ودخل ضرار بن حصين الضبي فقال: ما تقول يا ضرار؟ قال: أقول: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهدًا إن أمكنك منه أن تقتله، فإن لم تفعل لا ينصرنك الله عليه أبدًا. فأطرق قتيبة طويلا، ثم قال: والله لو لم يبق من أجلي إلا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، وأرسل إلى نيزك فأمر بقتله وأصحابه فقتل مع سبعمائة. وأما الباهليون فيقولون: لم يؤمنه ولم يؤمنه سليم، فلما أراد قتله دعا به ودعا بسيف حنفي فانتضاه وطول كمية ثم ضرب عنقه بيده، وأمر عبد الرحمن فضرب عنق صول، وأمر صالحًا فقتل عثمان - ويقال: شقران ابن أخي نيزك - وقال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة: هل بك قوة؟ قال: نعم، وأريد - وكانت في بكر أعرابية - فقال: دونك هؤلاء الدهاقين. قال: وكان إذا أتى برجل ضرب عنقه وقال: أوردوا ولا تصدروا، فكان من قتل يومئذ اثنا عشر ألفًا في قول الباهليين، وصلب نيزك وابني أخيه في أصل عين تدعى وخش خاشانفي أسكيمشت، فقال المغيرة بن حبناء يذكر ذلك في كلمة له طويلة: لعمر لنعمت غزوة الجند غزوةً ** قضت نحبها من نيزك وتعلت قال علي: أخبرنا مصعب بن حيان، عن أبيه، قال: بعث قتيبة برأس نيزك مع محفن بن جزء الكلابي، وسوار بن زهدم الجرمي، فقال الحجاج: إن كان قتيبة لحقيقًا أن يبعث برأس نيزك مع ولد مسلم، فقال سوار: أقول لمحفن وجرى سنيح ** وآخر بارح من عن يميني وقد جعلت بواثق من أمور ** ترفع حوله وتكف دوني نشدتك هل يسرك أن سرجي ** وسرجك فوق أبغل باذيين قال: فقال محفن: نعم وبالصين. قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم وعلى بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة؛ عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة دعا يومًا بنيزك وهو محبوس، فقال: ما رأيك في السبل والشذ؟ أتراهما يأتيان إن أرسلت إليهما؟ قال: لا؛ قال: فأرسل إليهما قتيبة فقد ما عليه، ودعا نيزك وجبغويه فدخلا، فإذا السبل والشذ بين يديه على كرسيين، فجلسا بإزائهما، فقال الشذ لقتيبة: إن جبغويه - وإن كان لي عدوًا - فهو أسن مني، وهو الملك وأنا كعبده، فأذن لي أدن منه، فأذن له، فدنا منه، فقبل يده وسجد له، قال: ثم استأذنه في السبل، فأذن له فدنا منه فقبل يده، فقال نيزك لقتيبة: ائذن لي أدن من الشذ، فإني عبده، فأذن له، فدنا منه فقبل يده، ثم أذن قتيبة للسبل والشذ فانصرفا إلى بلادهما، وضم إلى الشذ الحجاج القيني، وكان من وجوه أهل خراسان وقتل قتيبة نيزك، فأخذ الزبير مولى عابس الباهلي خفًا لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالًا وعقارًا؛ من ذلك الجوهر الذي أصابه في خفه. فسوغه إياه قتيبة، فلم يزل موسرًا حتى هلك بكابل في ولاية أبي داود. قال: وأطلق قتيبة جبغوية ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد. ورجع قتيبة إلى مرو، واستعمل أخاه عبد الرحمن على بلخ، فكان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال ثابت قطنة: لا تحسبن الغدر حزمًا فربما ** ترقت به الأقدام يومًا فزلت وقال: وكان الحجاج يقول: بعثت قتيبة فتى غرًا فما زدته ذراعًا إلا زادني باعًا. قال علي: أخبرنا حمزة بن إبراهيم، عن أشياخ من أهل خراسان، وعلى بن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وغيرهما، أن قتيبة بن مسلم لما رجع إلى مرو وقتل نيزك طلب ملك الجوزجان - وكان قد هرب عن بلاده - فأرسل يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه فيصالحه، فطلب رهنًا يكونون في يديه ويعطى رهائن، فأعطى قتيبة حبيب بن عبد الله بن عمرو بن حصين الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان وهائن من أهل بيته، فخلف ملك الجوزجان حبيبًا بالجوزجان في بعض حصونه، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان. فقال أهل الجوزجان: سموه، فقتلوا حبيبًا، وقتل قتيبة الرهن الذين كانوا عنده، فقال نهار بن توسعة لقتيبة: أراك الله في الأتراك حكمًا ** كحكم في قريظة والنضير قضاء من قتيبة غير جور ** به يشفى الغليل من الصدور فإن بر نيزك خزيًا وذلًا ** فكم في الحرب حمق من أمير! وقال المغيرة بن حبناء يمدح قتيبة ويذكر قتل نيزك ووصول ابن أخي نيزك وعثمان - أو شقران: لمن الديار عفت بسفح سنام ** إلا بقية أيصر وثمام عصف الرياح ذيولها فمحونها ** وجرين فوق عراصها بتمام دار لجارية كأن رضابها ** مسك يشاب مزاجه بمدام أبلغ أبا حفص قتيبة مدحتي ** واقرأ عليه تحيتي وسلامي يا سيف أبلغها فإن ثنائها ** حسن وإنك شاهد لمقامي يسمو فتتضع الرجال إذا سما ** لقتيبة الحامي حمى الإسلام لأغر منتجب لكل عظيمة ** نحر يباح به العدو لهام يمضي إذا هاب الجبان وأحمشت ** حرب تسعر نارها بضرام تروي القناة مع اللواء أمامه ** تحت اللوامع والنحور دوام والهام تفريه السيوف كأنه ** بالقاع حين تراه قيض نعام وترى الجياد مع الجياد ضوامرًا ** بفنائه لحوادث الأيام وبهن أنزل نيزكا من شاهق ** والكرز حيث يروم كل مرام وأخاه شقرانًا سقيت بكأسه ** وسقيت كأسهما أخا باذام وتركت صولا حين صال مجدلا ** يركبنه بدوابر وحوام خبر غزو قتيبة شومان وكس ونسف وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وتسعين - غزا قتيبة شومان وكس ونسف غزوته الثانية وصالح طوخان. ذكر الخبر عن ذلك قال علي: أخبرنا بشر بن عيسى عن أبي صفوان، وأبو السري وجبلة بن فروخ عن سليمان بن مجالد، والحسن بن رشيد عن طفيل بن مرداس العمي، وأبو السري المروزي عن عمه، وبشر بن عيسى وعلي ابن مجاهد، عن حنبل بن أبي حريدة عن مرزبان قهستان، وعياش ابن عبد الله الغنوي، عن أشياخ من أهل خراسان، قال: وحدثني ظئري - كل قد ذكر شيئًا، فألفته، وأدخلت من حديث بعضهم في حديث بعض - أن فيلسنشب باذق - وقال بعضهم: فيسبشتان ملك شومان - طرد عامل قتيبة ومنع الفدية التي صالح عليها قتيبة، فبعث إليه قتيبة عياشًا الغنوي ومعه رجل من نساك أهل خراسان يدعوان ملك شومان إلى أن يؤدي الفدية على ما صالح عليه قتيبة، فقدما البلد، فخرجوا إليهما فرموهما، فانصرف الرجل وأقام عياش الغنوي فقال: أما هاهنا مسلم! فخرج إليه رجل من المدينة فقال: أنا مسلم، فما تريد؟ قال: تعينني على جهادهم، قال: نعم، فقال له عياش: كن خلفي لتمنع لي ظهري، فقام خلفه - وكان اسم الرجل المهلب - فقاتلهم عياش، فحمل عليهم، فتفرقوا عنه، وحمل المهلب على عياش من خلفه فقتله، فوجدوا به ستين جراحةً، فغمهم قتله، وقالوا: قتلنا رجلًا شجاعًا وبلغ قتيبة، فسار إليهم بنفسه، وأخذ طريق بلخ، فلما أتاها قدم أخاه عبد الرحمن، واستعمل على بلخ عمرو بن مسلم، وكان ملك شومان صديقًا لصالح بن مسلم، فأرسل إليه رجلًا يأمره بالطاعة، ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح، فأبى وقال لرسول صالح: ما تخوفني به من قتيبة، وأنا أمنع الملوك حصنًا أرمي أعلاه، وأنا أشد الناس قوسًا وأشد الناس رميًا، فلا تبلغ نشابي نصف حصني، فما أخاف من قتيبة! فمضى قتيبة من بلخ فعبر النهر، ثم أتى شومان وقد تحصن ملكها فوضع عليه المجانيق، ورمى حصنه فهشمه، فلما خاف أن يظهر عليه، ورأى ما نزل به جمع ما كان له من مال وجوهر فرمى به في عين في وسط القلعة لا يدرك قعرها. قال: ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم فقتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوة، فقتل المقاتلة وسبي الذرية، ثم رجع إلى باب الحديد فأجاز منه إلى كس ونسف، وكتب إليه الحجاج، أن كس بكس وانسف نسف، وإياك والتحويط. ففتح كس ونسف، وامتنع عليه فرياب فحرقها فسميت المحترقة. وسرح قتيبة من كس ونسف أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السغد، إلى طرخون، فسار حتى نزل بمرج قريبًا منهم، وذلك في وقت العصر، فانتبذ الناس وشربوا حتى عبثوا وعاثوا وأفسدوا، فأمر عبد الرحمن أبا مرضية - مولى لهم - أن يمنع الناس من شرب العصير، فكان يضربهم ويكسر آنيتهم ويصب نبيذهم، فسال في الوادي، فسمى مرج النبيذ، فقال بعض شعرائهم: أما النبيذ فلست أشربه ** أخشى أبا مرضية الكلب متعسفًا يسعى بشكته ** يتوثب الحيطان للشرب فقبض عبد الرحمن من طرخون شيئًا كان قد صالحه عليه قتيبة، ودفع إليه رهنًا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية، وأنت شيخ كبير فلا حاجة لنا بك، قال: فولوا من أحببتم. قال: فولوا غوزك، وحبسوا طرخون؛ فقال طرخون: ليس بعد سلب الملك إلا القتل، فيكون ذلك بيدي أحب إلي من أن يليه مني غيري، فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره. قال: وإنما صنعوا بطرخون هذا حين خرج قتيبة إلى سجستان وولوا غوزك. وأما الباهليون فيقولون: حصر قتيبة ملك شومان، ووضع على قلعته المجانيق، ووضع منجنيقًا كان يسميها. الفحجاء، فرمى بأول حجر فأصاب الحائط ورمى بأخر فوقع في المدينة، ثم تتابعت الحجارة في المدينة فوقع حجر منها في مجلس الملك، فأصاب رجلًا فقتله، ففتح القلعة عنوةً، ثم رجع إلى كس ونسف، ثم مضى إلى بخارى فنزل قرية فيها بيت نار وبيت آلهه، وكان فيها طواويس، فسموه منزل الطواويس، ثم سار إلى طرخون بالسغد ليقبض منه ما كان صالحه عليه، فلما أشرف على وادي السغد فرأى حسنه تمثل: واد خصيب عشيب ظل يمنعه ** من الأنيس حذار اليوم ذا الرهج وردته بعنانيج مسومة ** يردين بالشعث سفاكين للمهج قال: فقبض من طرخون صلحه، ثم رجع إلى بخاري فملك بخاري خذاه غلامًا حدثًا، وقتل من خاف أن بضاده، ثم أخذ على آمل ثم أتى مرو. قال: وذكر الباهليون عن بشار بن عمرو، عن رجل من باهلة، قال: لم يفرغ الناس من ضرب أبنيتهم حتى افتتحت القلعة. ولاية خالد بن عبد الله القسري على مكة وفي هذه السنة ولى الوليد بن عبد الملك مكة خالد بن عبد الله القسري فلم يزل واليًا عليها إلى أن مات الوليد. فذكر محمد بن عمر الواقدي أن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة حدثه عن نافع مولى بني مخزوم، قال: سمعت خالد بن عبد الله يقول: يا أيها الناس إنكم بأعظم بلاد الله حرمه، وهي التي اختار الله من البلدان، فوضع بها بيته، ثم كتب على عباده حجه من استطاع إليه سبيلًا. أيها الناس، فعليكم بالطاعة، ولزوم الجماعة، وإياكم والشبهات، فإني والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم. إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها، فسلموا وأطيعوا، ولا تقولوا كيت وكيت. إنه لا أرى فيما كتب به الخليفة أو رأه إلا إمضاؤه، واعلموا أنه بلغني أن قومًا من أهل الخلاف يقدمون عليكم، ويقيمون في بلادكم، فإياكم أن تنزلوا أحدًا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة، فإني لا أجد أحدًا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله، فانظروا من تنزلون في منازلكم، وعليكم بالجماعة الطاعة فإن الفرقة هي البلاء العظيم. قال محمد بن عمرو: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن موسى بن عقبة عن أبي حبيبة، قال: اعتمرت فنزلت دور بني أسد في منازل الزبير، فلم أشعر به يدعوني، فدخلت عليه، فقالت: من أنت؟ قلت: من أهل المدينة؛ قال: ما أنزلك في منازل مخالف للطاعة! قلت: إنما مقامي إن أقمت يومًا أو بعضه، ثم ارجع منزلي وليس عندي خلاف، أنا ممن يعظم أمر الخلافة، وأزعم أن من جحدها فقد هلك. قال: فلا عليك ما أقمت، إنما يكره أن يقيم من كان زاريًا على الخليفة. قلت: ما عاذ الله! وسمعته يومًا يقول: والله لو أعلم هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم. إنه لا يسكن حرم الله وآمنه مخالف للجماعة، زار عليهم. قلت: وفق الله الأمير. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج الوليد بن عبد الملك سنة إحدى وتسعين. وكذلك قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن أبي بكر، قال: حدثنا صالح بن كيسان، قال: لما حضر قدوم الوليد أمر عمر بن عبد العزيز عشرين رجلًا من قريش يخرجون معه، فيتلقون الوليد بن عبد الملك. منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الحارث بن هشام، وأخوه محمد بن عبد الرحمن وعبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان، فخرجوا حتى بلغوا السويداء، وهم مع عمر بن عبد العزيز - وفي الناس يومئذ دواب وخيل - فلقوا الوليد وهو على ظهر، فقال لهم الحاجب: انزلوا لأمير المؤمنين، فنزلوا، ثم أمرهم فركبوا، فدعا بعمر بن عبد العزيز فسايره حتى نزل بذى خشب، ثم أحضروا، فدعاهم رجلًا رجلا فسلموا عليه، ودعا بالغداء فتغدوا عنده، وراح من ذى خشب، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بناءه فأخرج الناس منه، فما ترك فيه أحد، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يخرجه، وما عليه إلا ريطتان ما تساويان إلا خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت! قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلمت على أمير المؤمنين! قال: والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد رجاء ألا يرى سعيدًا حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة، فقال: من ذالك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين ومن حاله ومن حاله ولو علم بمكانك فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه فنسلم عليه، فدار في المسجد حتى وقف على القبر، ثم أقبل حتى وقف على سعيد فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد ولا قام، فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟ قال الوليد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس، فقلت أجل يا أمير المؤمنين. قال: وقسم الوليد بالمدينة رفيقًا كثيرًا عجمًا بين الناس، وآنية من ذهب وفضة، وأموالًا وخطب بالمدينة في الجمعة وصلى بهم قال محمد بن عمر: وحدثني إسحاق بن يحيى قال: رأيت الوليد يخطب على منبر رسول الله ﷺ يوم الجمعة عام حج، قد صف له جنده صفين من المنبر إلى جدار مؤخر المسجد، في أيديهم، الجرزة وعمد الحديد على العواتق، فرأيته طلع في دراعة وقلنسوة، ما عليه رداء، فصعد المنبر فلما صعد سلم ثم جلس فأذن المؤذن، ثم سكتوا، فخطب الخطبة الأولى وهو جالس، ثم قام فخطب الثانية قائمًا، قال إسحاق: فلقيت رجاء بن حيوة وهو معه، فقلت: هكذا يصنعون! قال: نعم، وهكذا صنع معاوية فلهم جرا، قلت: أفلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيضة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك بن مروان فأبى أن يفعل؛ وقال: هكذا خطب عثمان، فقلت: والله ما خطب هكذا، ما خطب عثمان إلا قائمًا. قال رجاء: روي لهم هذا فأخذوا به. قال إسحاق: لم نر منهم أحدًا أشد تجبرًا منه. قال محمد بن عمر: وقدم بطيب مسجد رسول الله ﷺ ومجمرة وبكسوة الكعبة فنشرت وعلقت على حبال في المسجد من ديباج حسن لم ير مثله قط، فنشرها يومًا وطوى ورفع. قال: وأقام الحج الوليد بن عبد الملك. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة تسعين، غير مكة فإن عاملها كان في هذه السنة خالد بن عبد الله القسري في قول الواقدي. وقال غيره: كانت ولاية مكة في هذه السنة أيضًا إلى عمر بن عبد العزيز. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك وعمر بن الوليد أرض الروم، ففتح على يد مسلمة حصون ثلاثة، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم. فتح الأندلس وفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفًا، فلقى ملك الأندلس - زعم الواقدي أنه يقال له أدرينوق، وكان رجلا من أهل أصبهان، قال: وهم ملوك عجم الأندلس – فزحف له طارق بجميع من معه، فزحف الأدرينوق في سرير الملك وعلى الأدرينوق تاجه وقفازه وجميع الحلية التي كان يلبسها الملوك، فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى قتل الله الأدرينوق، وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفيها غزا - فيما زعم بعض أهل السير - قتيبة سجستان يريد رتبيل الأعظم والزابل، فلما نزل السجستان تلقته رسل رتبيل بالصلح، فقبل ذلك وانصرف واستعمل عليهم عبد ربه عبد الله بن عمير الليثي. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها فمما كان فيها من ذلك غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، ففتح الله على يديه سمسطية. وفيها كانت أيضًا غزوة مروان بن الوليد الروم. فبلغ خنجرة وفيها كانت غزوة مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فافتتح ماسا وحصن الحديد وغزالة وبرجمة من ناحية ملطية. صلح قتيبة ملك خوارزم شاه وفتح خام جود وفيها قتل قتيبة ملك خام جرد، وصالح ملك خوارزم صلحًا مجددًا ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه ذكر علي بن محمد أن أبا الذيال أخبره عن المهلب بن إياس والحسن بن رشيد، عن طفيل بن مرداس العمي وعلى بن مجاهد، عن حنبل ابن أبي حريدة، عن مرزبان قهستان وكليب بن خلف والباهليين وغيرهم - وقد ذكر بعضهم مالم يذكر بعض فألفته - أن ملك خوارزم كان ضعيفًا، فغلبه أخوه خرزاذ على أمره - وخرزاذ أصغر منه - فكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو دابة أو متاعًا فاخرًا أرسل فأخذه، أو بلغه أن لأحد منهم بنتًا أو أختًا أو امرأةً جميلة أرسل إليه فغصبه، وأخذ ما شاء، وحبس ما شاء، لا يمتنع عليه أحد، ولا يمنعه الملك، فإذا قيل له، قال: لا أقوى عليه، وقد ملأه مع هذا غيظًا، فلما طال ذلك منه عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه يريد أن يسلمها إليه، وبعث إليه بمافتيح مدائن خوارزم، ثلاثة مفاتيح من ذهب، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من كان يضاده، يحكم فيه بما يرى، وبعث في ذلك رسلا، ولم يطلع أحدًا من مرازبته ولا دهاقنه على ما كتب به إلى قتيبة، فقدمت رسله على قتيبة في آخر الشتاء ووقت الغزو، وقد تهيأ للغزو، فأظهر قتيبة أنه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما يحب من قبل قتيبة، وسار واستخلف على مرو ثابتًا الأعور مولى مسلم قال: فجمع ملوكه أحباره ودهاقينه فقال: إن قتيبة يريد السغد، وليس بغازيكم، فهلم نتنعم في ربيعنا هذا فأقبلوا على الشرب والتنعم، وأمنوا عند أنفسهم الغزو، قال: فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزارسب دون النهر، فقال خوارزم شاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله، قال: لكني لا أرى ذلك، قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة؛ ولكني أرى أن نصرفه بشيء نؤديه إليه، فنصرفه عامنا هذا، ونرى رأينا قالوا: ورأينا رأيك. فأقبل خوارزم شاه فنزل في مدينة الفيل من وراء النهر قال: ومدائن خوارزم شاه ثلاث مدائن يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل أحصنهن، فنزلها خوارزم شاه - وقتيبة في هرازسب دون النهر لم يعبره بينه وبين خوارزم شاه نهر بلخ - فصالحه على عشرة آلاف رأس، وعين ومتاع، وعلى أن يعينه على ملك خام جرد، وأن يفي له بما كتب إليه، فقبل ذلك منه قتيبة، ووفى له. وبعث قتيبة أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادي خوارزم شاه، فقاتله، فقتله عبد الرحمن، وغلب على أرضه وقد منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير، فقتلهم، وأمر قتيبة لما جاءه بهم عبد الرحمن بسريره فأخرج وبرز للناس. قال: وأمر بقتل الأسرى فقتل بين يديه ألف وعن يمينه ألف وعن يساره ألف وخلف ظهره ألف. قال: قال المهلب بن إياس: أخذت يومئذ سيوف الأشراف فضرب بها الأعناق، فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح، فأخذوا سيفي فلم يضرب به شيء إلا أبانه، فحسدني بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب أن أصفح به، فصفح به قليلا، فوقع في ضرس المقتول فثلمه قال أبو الذيال: والسيف عندي. قال: ودفع قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه ومن كان يخالفه فقتلهم، واصطفى أموالهم فبعث بها إلى قتيبة، ودخل قتيبة مدينة فيل، فقبل من خورازم شاه ما صالحه عليه، ثم رجع إلى هزارسب، وقال كعب الأشقري: رمتك فيل بما فيها وما ظلمت ** ورامها قبلك الفجفاجة الصلف لا يجزئ الثغر خوار القناة ولا ** هش المكاسر والقلب الذي يجف هل تذكرون ليالي الترك تقتلهم ** ما دون كازه الفجفاج ملتحف لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا ** فهم ثقال على أكتافها عنف أنتم شباس ومرداذان محتقر ** وبسخراء قبور حشوها القلف إني رأيت أبا حفص تفضله ** أيامه ومساعي الناس تختلف قيس صريح وبعض الناس يجمعهم ** قرى وريف فمنسوب ومقترف لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ** سبعين ألفًا وعز السغد مؤتنف وفي سمرقند أخرى أتت قاسها ** لئن تأخر عن حوبائك التلف ما قدم الناس من خير سبقت به ** ولا يفوتك مما خلفوا شرف قال: أنشدني علي بن مجاهد: رمتك فيل بما دون كاز.. قال: وكذلك قال الحسن بن رشيد الجوزجاني؛ وأما غيرهما فقال: رمتك فيل بما فيها.. وقالوا: فيل مدينة سمرقند؛ قال: وأثبتها عندي قول علي بن مجاهد. قال: وقال الباهليون: أصاب قتيبة من خوارزم مائة ألف رأس. قال: وكان خاصة قتيبة كلموه سنة ثلاث وتسعين وقالوا: الناس كانوا قدموا من سجستان فأجمه عامهم هذا، فأبى. قال: فلما صالح أهل خوارزم سار إلى السغد، فقال الأشقزي: لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ** سبعين ألفًا أعز السغد مؤتنف فتح سمرقند قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم منصرفه من خوارزم سمرقند، فافتتحها. ذكر الخبر عن ذلك قد تقدم ذكرى الإسناد عن القوم الذين ذكر علي بن محمد أنه أخذ عنهم حين صالح قتيبة صاحب خوارزم، ثم ذكر مدرجًا في ذلك أن قتيبة لما قبض صلح خوارزم قام إليه المجشر بن مزاحم السلمي فقال: إن لي حاجة، فأخلني، فأخلاه، فقال: إن أردت السغد يومًا من الدهر فالآن، فإنهم آمنون من أن تأتيهم من عامك هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار بهذا عليك أحد؟ قال: لا، قال: فأعلمته أحدًا؟ قال: لا، قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك. فأقام يومه ذلك، فلما أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال: سر في الفرسان والمرامية، وقدم الأثقال إلى مرو، فوجهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأثقال يريد مرو يومه كله، فلما أمسى كتب إليه: إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر في الفرسان والمرامية نحو السغد، واكتم الأخبار، فإني بالأثر. قال: فلما أتى عبد الرحمن الخبر أمر أصحاب الأثقال أن يمضوا إلى مرو، وسار حيث أمرهم، وخطب قتيبة الناس فقال: إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن، وهذه السغد شاغرة برجلها، قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، منعونًا ما كنا صالحنا عليه طرخون، وصنعوا به ما بلغكم، وقال الله: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه "، فسيروا على بركة الله، فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة، وقال الله: " وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ". قال: فأتى السغد وقد سبقه إليها عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألفًا، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم وبخارى بعد ثلاثة أو أربعة من نزول عبد الرحمن بهم، فقال: إنا إذا نزلنا بساحة قوم " فساء صباح المنذرين ". فحصرهم شهرًا، فقاتلوا في حصارهم مرارًا من وجه واحد. وكتب أهل السغد وخافوا طول الحصار إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة: إن العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم. فأجمعوا على أن يأتوهم، وأرسلوا إليهم: أرسلوا من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم. قال: وانتخبوا فرسانًا من أبناء المرازبة والأساورة والأشداء الأبطال فوجهوهم وأمروهم أن يبيتوا عسكرهم، وجاءت عيون المسلمين فأخبروهم. فانتخب قتيبة ثلثمائة أو ستمائة من أهل النجدة، واستعمل عليهم صالح ابن مسلم، فصيره في الطريق الذي يخاف أن يؤتى منه. وبعث صالح عيونًا يأتونه بخبر القوم، ونزل على فرسخين من عسكر القوم، فرجعت إليه عيونه فأخبروه أنهم يصلون إليه من ليلتهم، ففرق صالح خيله ثلاث فرق؛ فجعل كمينًا في موضعين، وأقام على قارعة الطريق، وطرقهم المشركون ليلًا، ولا يعلمون بمكان صالح، وهم آمنون في أنفسهم من أن يلقاهم أحد دون العسكر، فلم يعلموا بصالح حتى غشوه. قال: فشدوا عليه حتى إذا اختلفت الرماح بينهم خرج الكمينان فاقتتلوا. قال: وقال رجل من البراجم: حصرتهم فما رأيت قط قومًا كانوا أشد قتالًا من أبناء أولئك الملوك ولا أصبر، فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا نفر يسير، وحوينا سلاحهم، واحترزنا رءوسهم، وأسرنا منهم أسرى، فسألناهم عمن قتلنا، فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك، أو عظيمًا من العظماء، أو بطلًا من الأبطال؛ ولقد قتلتم رجالًا إن كان الرجل ليعدل بمائة رجل، فكتبنا على آذانهم، ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا وما منا رجل إلا معلق رأسًا معروفًا بإسمه، وسلبنا من جيد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودواب فرهة، فنفلنا قتيبة ذلك كله وكسر ذلك أهل السغد، ووضع قتيبة عليهم المجانيق، فرماهم بها، وهو في ذلك يقاتلهم لا يقلع عنهم، وناصحه من معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، فقاتلوا قتالًا شديدًا، وبذلوا أنفسهم. فأرسل إليه غوزك: إنما تقاتلني بإخوتي وأهل بيتي من العجم، فأخرج إلي العرب، فغضب قتيبة ودعا الجدلي فقال: أعرض الناس، وميز، أهل البأس فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء وجعل يدعو برجل رجل. فيقول: ما عندك؟ فيقول العريف: شجاع، ويقول: ما هذا؟ فيقول: مختصر، ويقول: ماهذا؟ فيقول: جبان، فسمى قتيبة الجبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم فأعطاه الشجعان والمختصرين، وترك لهم رفث السلاح، ثم زحف بهم فقاتلهم بهم فرسانًا ورجالًا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدوها بغرائر الدخن، وجاء رجل حتى قام على الثلمة فشتم قتيبة، وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم قتيبة: اختاروا منكم رجلين، فاختاروا، فقال: أيكمايرمي هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف، وإن أخطأه قطعت يده، فتلكأ أحدهما وتقدم الآخر، فرماه فلم يخطئ عينه، فأمر له بعشرة آلاف. قال: وأخبرنا الباهليون، عن يحيى بن خالد عن أبيه خالد بن باب مولى مسلم بن عمرو، قال: كنت في رماة قتيبة، فلما افتتحنا المدينة صعدت السور فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه فوجدته ميتًا على الحائط، وما أخطأت النشابة عينه حتى خرجت من قفاه، ثم أصبحوا من غد فرموا المدينة، فثلموا فيها، وقال قتيبة: ألحوا حتى تعبروا الثلمة، فقاتلوهم حتى صاروا على ثلمة المدينة، ورماهم السغد بالنشاب، فوضعوا ترستهم فكان الرجل يضع ترسه على عينه، ثم يحمل حتى صاروا على الثلمة، فقالوا له: انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غدًا. فأما باهل فيقولون: قال قتيبة: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة، ومجانيقنا تخطر على رؤوسهم ومدينتهم. قال: وأما غيرهم فيقولون: قال قتيبة: جزع العبيد، فانصرفوا على ظفركم، فانصرفوا، فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف في كل عام على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس، ليس فيهم صبي ولا شيخ ولا عيب، على أن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون فهم فيها مقاتل، فيبني له فيه مسجد فيدخل ويصلي، ويوضع له فيها منبر فيخطب، ويتغدى ويخرج، قال: فلما تم الصلح بعث قتيبة عشرة، من كل خمس برجلين، فقبضوا ما صالحوهم عليه، فقال قتيبة: الآن ذلوا حين صار إخوانهم وأولادهم في أيديكم، ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدًا ووضعوا منبرًا، ودخلها في أربعة آلاف انتخبهم، فلما دخلها أتى المسجد فصلى وخطب ثم تغدى، وأرسل إلى أهل السغد: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذه؛ فإني لست خارجًا منها، وإنما صنعت هذا لكم، ولست أخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه، غير أن الجند يقيمون فيها، قال: أما الباهليون فيقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس، وبيوت النيران وحلية الأصنام، فقبض ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت؛ ثم وضعت بين يديه، فكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها، فقالت الأعاجم: إن فيها أصنامًا من حرقها هلك. فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، فجاء غوزك، فجثا بين يديه وقال: أيها الأمير. إن شكرك علي واجب، لا تعرض لهذه الأصنام؛ فدعا قتيبة بالنار وأخذ شعلة بيده، وخرج فكبر، ثم أشعلها، وأشعل الناس فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال، قال: وأخبرنا مخلد بن حمزة بن بيض، عن أبيه، قال: حدثني من شهد قتيبة وفتح سمرقند أو بعض كور خراسان فاستخرجوا منها قدورًا عظامًا من نحاس، فقال قتيبة لحضين: يا أبا ساسان، أترى رقاش كان لها مثل هذه القدور؟ قال: لا، لكن كان لعيلان قدر مثل هذه القدور، فضحك قتيبة وقال: أدركت بثأرك. قال: وقال محمد بن أبي عيينة لسلم بن قتيبة بين يدي سليمان بن علي: إن العجم ليعيرون قتيبة الغدر إنه غدر بخوارزم وسمرقند، قال: فأخبرنا شيخ من بني سدوس عن حمزة بن بيض قال: أصاب قتيبة بخراسان بالسغد جارية من ولد يزد جرد، فقال: أترون ابن هذه يكون هجينًا؟ فقالوا: نعم، يكون هجينًا من قبل أبيه، فبعث بها إلى الحجاج، فبعث بها الحجاج إلى الوليد، فولدت له يزيد ابن الوليد. قال: وأخبرنا بعض الباهلين، عن نهشل بن يزيد، عن عمه - وكان قد أدرك ذلك كله - قال: لما رأى غوزك إلحاح قتيبة عليهم كتب إلى ملك الشاش وإخشاذ فرغانة وخاقان: إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب، فإن وصل إلينا كنتم أضعف وأذل، فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها؛ فنظروا في أمرهم فقالوا: إنما نؤتي من سفلتنا، وإنهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيون بهذا الأمر، فانتخبوا أبناء الملوك وأهل النجدة من فتيان ملوكهم، فليخرجوا حتى يأتوا عسكر قتيبة فليبيت، فإنه مشغول بحصار السغد، ففعلوا، ولوا عليهم ابنًا لخاقان، وساروا وقد أجمعوا أن يبيتوا العسكر، وبلغ قتيبة فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس، فكان شعبة بن ظهير وزهير بن حيان فيمن انتخب، فكانوا أربعمائة، فقال لهم: إن عدوكم قد رأوا بلاء الله عندكم، وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم، كل ذلك يفلجكم الله عليهم، فأجمعوا على أن يحتالوا غرتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم، وقد فضلكم الله بدينه، فأبلوا الله بلاء حسنًا تستوجبون به الثواب، مع الذب عن أحسابكم. قال: ووضع قتيبة عيونًا على العدو حتى إذا قربوا منه ما يصلون إلى عسكره من الليل أدخل الذين انتخبهم، فكلمهم وحضهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم، فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فتزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصفوا لهم، ففرق صالح خيله، وأكمن كمينًا عن يمينه، وكمينًا عن يساره، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه، جاء العدو باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله، فلما رأوه شدوا عليه، حتى إذا اختلفت الرماح شد الكمينان عن يمين وعن شمال، فلم نسمع إلا الاعتزاء، فلم نر قومًا كانوا أشد منهم. قال: وقال رجل من البراجم: حدثني زهير أو شعبة قال: إنا لنختلف عليهم بالطعن والضرب إذ تبينت تحت الليل قتيبة، وقد ضربت ضربة أعجبتني وأنا أنظر إلى قتيبة، فقلت: كيف ترى بأبي أنت وأمي! قال: اسكت دق الله فاك! قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب ونحتز الرءوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى المعسكر، فلم أر جماعة قط جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منا رجل إلا معلق رأسًا معروفًا باسمه، وأسير في وثاقه. قال: وجئنا قتيبة بالرءوس، فقال: جزاكم الله عن الدين والأعراض خيرًا وأكرمني قتيبة من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والإكرام حيان العدوي وحليسًا الشيباني، فظنت أنه رأى منهما مثل الذي رأى مني، وكسر ذلك أهل السغد، فطلبوا الصلح، وعرضوا الفدية فأبى، وقال: أنا ثائر بدم طرخون، كان مولاي وكان من أهل ذمتي. قالوا: حدث عمرو بن مسلم، عن أبيه. قال: أطال قتيبة المقام، وثلمت الثلمة في سمرقند. قال: فنادى مناد فصيح بالعربية يشتم قتيبة؛ قال: فقال عمرو بن أبي زهدم: ونحن حول قتيبة، فحين سمعنا الشتم خرجنا مسرعين، فمكثنا طويلا وهو ملح بالشتم، فجئت إلى رواق قتيبة فاطلعت، فإذا قتيبة محتب بشملة يقول كالمناجي لنفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان! أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية، فانصرفت إلى أصحابي، فقلت: كم من نفس أبيه ستموت غدًا منا ومنهم! وأخبرتهم الخبر. قال: وأما باهلة فيقول: سار قتيبة فجعل النهر يمينه حتى ورد بخاري، فاستنهضهم معه، حتى إذا كان بمدينة أربنجن، وهي التي تجلب منها اللبود الأربنجنية، لقيهم غوزك صاحب السغد في جمع عظيم من الترك وأهل الشاش وفرغانة، فكانت بينهم وقائع من غير مزاحفة، كل ذلك يظهر المسلمون، ويتحاجزون حتى قربوا من مدينة سمرقند، فتزاحفوا يومئذ، فحمل السغد على المسلمين حملة حطموهم حتى جازوا عسكرهم، ثم كر المسلون عليهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل الله من المشركين عددًا كثيرًا، ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم. قال: وأخبرنا الباهليون عن حاتم بن أبي صغيرة؛ قال: رأيت خيلًا يومئذ تطاعن خيل المسلمين وقد أمر يومئذ قتيبة بسريره فأبرز، وقعد عليه، وطاعنوهم حتى جازوا قتيبة، وإنه لمحتب بسيفه ما حل حبوته، وانطوت مجتنبا المسلمين على الذين هزموا القلب، فهزموهم حتى ردوهم إلى سكرهم، وقتل من المشركين عدد كثير ودخلوا مدينة سمرقند فصالحوهم وصنع غوزك طعامًا ودعا قتيبة، فأتاه في عدد من أصحابه فلما تغدى استوهب منه سمرقند فقال للملك: انتقل عنها، فانتقل عنها، وتلى قتيبة: " وإنه أهلك عاد الأولى وثمود فما أبقى " قال: وأخبرنا أبو الذيال، عن عمر بن عبد الله التميمي، قال: حدثني الذي سرحه قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند، قال: قدمت إلى الحجاج فوجهني إلى الشام فقدمتها فدخلت مسجدها، فجلست قبل طلوع الشمس وإلى جنبي رجل ضرير فسألته عن شيء من أمر الشام، فقال: إنك لغريب، قلت: أجل؛ قال: من أي بلد أنت؟ قلت: من خراسان قال: ما أقدمك؟ فأخبرته؛ فقال: والذي بعث محمدًا بالحق ما افتتحتموها إلا غدرًا، وإنكم يا أهل خراسان للذين تسلبون بني أمية ملكهم، وتنقضون دمشق حجرًا حجرًا. قال: وأخبرنا العلاء بن جرير، قال: بلغني أن قتيبة لما فتح سمرقند وقف على جبلها فنظر إلى الناس متفرقين في مروج السغد، فتمثل قول طرفة: وأرتع أقوام ولولا محلنا ** بمخشية ردوا الجمال فقوضوا قال: وأخبرنا خالد بن الأفصح، قال: قال الكميت: كانت سمرقند أحقابًا يمانيةً ** فاليوم تنسبها قيسية مضر قال: وقال أبو الحسن الجشمي: فدعا قتيبة نهار بن توسعة حين صالح أهل السغد، فقال: يا نهار، أين قولك: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ** ومات الندى والجود بعد المهلب أقام بمرور الروذ رهن ضريحه ** وقد غيبا عن كل شرق ومغرب أفغزو هذا يا نهار؟ قال: لا، هذا أحسن، وأنا الذي أقول: وما كان مذكنا ولا كان قبلنا ** ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم أعم لأهل الترك قتلًا بسيفه ** وأكثر فينا مقسمًا بعد مقسم قال: ثم ارتحل قتيبة راجعًا إلى مرو، واستخلف على سمرقند عبد الله ابن مسلم، وخلف عنده جندًا كثيفًا، وآلة من آلة الحرب كثيرة، وقال: لا تدعن مشركًا يدخل باب من أبواب سمرقند إلا مختوم اليد. وإن جفت الطينة قبل أن يخرج فقتله، وإن وجدت معه حديدة؛ سكينًا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلًا فوجدت فيها أحدًا منهم فاقتله، فقال كعب الأشقري - ويقال رجل من جعفى: كل يوم يحوي قتيبة نهبًا ** ويزيد الأموال مالًا جديدا باهلي قد ألبس التاج حتى ** شاب منه مفارق كن سودا دوخ السغد بالكتائب حتى ** ترك السغد بالعراء قعودا فوليد يبكي لفقد أبيه ** وأب موجع يبكي الوليدا كلما حل بلدة أو آتاهها ** تركت خيله بها إخدودا قال: وقال قتيبة: هذا العداء لا عداء عيرين، لأنه فتح خوارزم وسمرقند في عام واحد؛ وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل: عادي بين عيرين. ثم انصرف عن سمرقند فأقام بمرو. وكان عامله على خوارزم إياس بن عبد الله بن عمرو على حربها، وكان ضعيفًا. وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى بني مسلم. قال: فاستضعف أهل خوارزم إياسًا، وجمعوا له، فكتب عبيد الله إلى قتيبة، فبعث قتيبة عبد الله بن مسلم في الشتاء عاملا، وقال: اضرب إياس بن عبد الله وحيان النبطي مائة مائة، واحلقهما، وضم إليك عبيد الله بن أبي عبيد الله، مولى بني مسلم واسمع منه فإنا له وفاء. فمضى حتى إذا كان من خورازم على سكة، فدس إلى إياس فأنذره فتنحى، وقدم فأخذ حيان فضربه مائة وحلقه. قال: ثم وجه قتيبة بعد عبد الله المغيرة بن عبد الله في الجنود إلى خوارزم، فبلغهم ذلك، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم خوارزم شاه. لا نعينك، فهرب إلى بلاد الترك. وقدم المغيرة فسبا وقتل. وصالحه الباقون، فأخذ الجزية. وقدم على قتيبة. فاستعمله على نيسابور. فتح طليطلة وفي هذه السنة عزل موسى بن نصير طارق بن زياد عن الأندلس وجهه إلى مدينة طليطلة ذكر الخبر عن ذلك ذكر محمد بن عمر أن موسى بن نصير غضب على طارق في سنة ثلاث وتسعين، فشخص إليه في رجب منها، ومعه حبيب بن عقبة بن نافع الفهري، واستخلف حين شخص على إفريقيا ابنه عبد الله بن موسى بن نصير، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه، فترضاه فرضي عنه. وقبل منه عذره، ووجهه منها إلى مدينة طليطلة - وهي من عظام مدائن الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يومًا - فأصاب فيها مائدة سليمان بن داود، فيها من الذهب والجوهر ما الله أعلم به. قال: أجدب أهل إفريقيا جدبًا شديدًا، فخرج موسى بن نصير فاستصقى، ودعا يومئذ حتى انتصف النهار. وخطب الناس، فلما أراد أن ينزل قيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين! قال: ليس هذا يوم ذاك. فسقوا سقيًا كفاهم حينًا. خبر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجاز وفيها عزل عمر بن عبد العزيز عن المدينة. ذكر سبب عزل الوليد إياه عنها وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل عمله بالعراق، واعتدائه عليهم، وظلمه لهم بغير حق ولا جناية، وأن ذلك بلغ الحجاج، فاضطغنه على عمر، وكتب إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق، ولجؤوا إلى المدينة ومكة وإن ذلك وهن فكتب الوليد إلى الحجاج: أن أشر علي برجلين، فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حيان وخالد بن عبد الله. فولى خالدًا مكة وعثمان المدينة، وعزل عمر بن عبد العزيز قال: محمد بن عمر: خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة فأقام بالسويداء وهو يقول لمزاحم: أتخاف أن تكون ممن نفته طيبة! وفيها ضرب عمر بن عبد العزيز خبيب بن عبد الله بن الزبير بأمر الوليد إياه، وصب على رأسه قربة من ماء بارد. ذكر محمد بن عمر، أن أبا المليح الزبير خمسين سوطًا، وصب على رأسه قربة من ماء في يوم شات. ووقفه على باب المسجد، فمكث يومه ثم مات. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى. عن أبي معشر. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلا ما كان من المدينة، فإن العامل عليها كان عثمان بن حيان المري، وليها - فيما قيل - في شعبان سنة ثلاث وتسعين. وأما الواقدي فإنه قال: قدم عثمان المدينة لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين. وقال بعضهم: شخص عمر بن عبد العزيز عن المدينة معزولا في شعبان من سنة ثلاث وتسعين وغزا فيها، واستخلف عليها حين شخص عنها أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. وقدم عثمان بن حيان المدينة لليلتين بقيتا من شوال. ثم دخلت سنة أربع وتسعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من غزوة العباس بن الوليد أرض الروم، فقيل: إنه فتح فيها أنطاكية. وفيها غزا - فيما قيل - عبد العزيز بن الوليد أرض الروم حتى بلغ غزالة. وبلغ الوليد بن هشام المعيطي أرض برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفيها كانت الرجفة بالشأم. وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند. غزو الشاش وفرغانة وفيها غزا قُتيبة شاش وفَرْغانة حتى بلغ خَجَنْدة وكاشان، مدينتَيْ فرغانة. ذكر الخبر عن غزوة قتبية هذه ذكر علي بن محمد؛ أن أبا الفوارس التميمي، أخبره عن ماهان ويونس ابن أبي إسحاق، أن قتيبة غزا سنة أربع وتسعين. فلما قطع النهر فرض على أهل بخارى وكس ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل. قال: فساروا معه إلى السند، فوجهوا إلى الشاش، وتوجه هو إلى فرغانة، وسار حتى أتى خجنده، فجمع له أهلها. فلقوه فاقتتلوه مرارًا، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين. ففرغ الناس يومًا فركبوا خيولهم، فأوفى رجل على نشز فقال: تالله ما رأيت كاليوم غزة، لو كان هيج اليوم ونحن على ما أرى من الانتشار لكانت الفضيحة، فقال له رجل إلى جنبه: كلا، نحن كما قال: عوف بن الخرع: نؤم البلاد لحب اللقا ** ولا نتقي طائرًا حيث طارا سنيحًا ولا جاريًا بارحًا ** على كل حال نلاقي اليسارا وقال سحبان وائل يذكر قتالهم بخجندة: فسل الفوارس في خجن ** دة تحت مرهفة العوالي هل كنت أجمعهم إذا ** هزموا وأقدم في قتالي أم كنت أضرب هامة ال عاتي واصبر للعوالي هذا وأنت قريع قي س كلها ضخم النوال وفضلت قيسًا في الندى ** وأبوك في الحجج الخوالي ولقد تبين عدل حك مك فيهم في كل مال تمت مروءتكم ونا غى عزكم غلب الجبال قال: ثم أتى قتيبة كاشان مدينة فرغانة، وآتاه الجنود الذين وجههم إلى الشاش وقد فتحوها وحرقوا أكثرها، وانصرف قتيبة إلى مرو. وكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم الثقفي أن وجه من قبلك من أهل العراق إلى قتيبة، ووجه إليهم جهم بن زحر بن قيس، فإنه في أهل العراق خير منه في أهل الشام. وكان محمد وادن لجهم بن زحر، فبعث سليمان بن صعصعة وجهم بن زحر، فلما ودعه جهم بكى وقال: يا جهم، إنه للفراق؛ قال: لا بد منه. قال: وقدم على قتيبة سنة خمس وتسعين. ولاية عثمان بن حيان المري على المدينة وفي هذه السنة قدم عثمان بن حيان المرّي المدينة واليًا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن ولايته قد ذكرنا قبل سبب عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن المدينة ومكة وتأميره على المدينة عثمان بن حيان، فزعم محمد بن عمر أن عثمان قدم المدينة أميرًا عليها لليلتين بقيتا من شوال سنة أربع وتسعين، فنزل بها دار مروان وهو يقول: محلة والله مظعان، المغرور من غر بك. فاستقضي أبا بكر بن حزم. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي حرة، عن عمه قال: رأيت عثمان بن حيان أخذ رياح بن عبيد الله ومنقذًا العراقي فحبسهم وعاقبهم، ثم بعث بهم في جوامع إلى الحجاج بن يوسف، ولم يترك بالمدينة أحدًا من أهل العراق تاجرًا ولا غير تاجر، وأمر بهم أن يخرجوا من كل بلد، فرأيتهم في الجوامع، واتبع أهل الأهواء، وأخذ هيصما فقطعه، ومنحورًا - وكان من الخوارج - قال: وسمعته يخطب على المنبر يقول بعد حمد الله: أيها الناس، إن وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه، وقد ضوى إليكم من يزيدكم خبالا. أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق. هم والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه. والله ما جربت عراقيًا قط إلا وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول، وما هم لهم بشيعة، وإنهم لأعداء لهم ولغيرهم، ولكن لما يريد الله من سفك دمائهم فإني والله لا أوتي بأحد أوى أحدًا منهم، أو إكراه منزلا، ولا أنزله، إلا هدمت منزله، وأنزلت به ما هو أهله. ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته جعل يمر عليه من يريد الجهاد فيستشيره: الشام أحب إليك أم العراق؟ فيقول: الشام أحب إلي. إني رأيت العراق داء عضالا، وبها فرخ الشيطان. والله لقد أعضلوا بي، وإني لأراني سأفرقهم في البلدان، ثم أقول: لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج، وكيف؟ ولما؟ وسرعة وجيف في الفتنة، فإن خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل. لم يصلحوا على عثمان فلقى منهم الأمرين، وكان أول الناس فتق هذا الفتق العظيم، ونقدوا عرى الإسلام عروة عروة، وأنغلوا البلدان. والله إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم. ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه، ووليهم رجل الناس جلدًا فبسط عليهم السيف، وأخافهم، فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا، وذلك أنه خبرهم وعرفهم. أيها الناس، إنا والله ما رأينا شعارًا قط مثل الأمن، ولا رأينا حلسًا قط شرًا من الخوف، فالزموا الطاعة، فإن عندي يا أهل المدينة خبرة من الخلاف. والله ما أنتم بأصحاب قتال، فكونوا من أحلاس بيوتكم، وعضوا على النواجذ، فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم. إنكم في فضول كلام غيره ألزم لكم، فدعوا عيب الولاة. فإن الأمر إنما ينقض شيئًا شيئًا حتى تكون الفتنة وإن الفتنة من البلاء. والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد. قال: يقول القاسم بن محمد: صدق في كلامه هذا الأخير، إن الفتنة لهكذا. قال محمد بن عمرو: وحدثني خالد بن القاسم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري قال: رأيت منادي عثمان بن حيان ينادي عندنا: يا بني أمية بن زيد، برئت ذمة ممن آوى عراقيًا - وكان عندنا رجل من أهل البصرة له فضل يقال له أبو سوادة، من العباد - فقال: والله ما أحب أن أدخل عليكم مكروه، بلغوني مأمني؛ قلت: لا خير لك في الخروج، إن الله يدفع عنا وعنك. قال: فأدخلته بيتي، وبلغ عثمان بن حيان فبعث أحراسًا فأخرجته إلى بيت أخي، فما قدروا على شيء، وكان الذي سعى بي عدوًا، فقلت للأمير: أصلح الله الأمير! يؤتى بالباطل فلا تعاقب عليه. قال: فضرب الذي سعى بي عشرين سوطًا. وأخرجنا العراقي، فكان يصلي معنا ما يغيب يومًا واحدًا وحدب عليه أهل دارنا، فقالوا: نموت دونك! فما برح حتى عزل الخبيث. قال محمد بن عمر: وحدثنا عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة، قال: غنما بعث الوليد عثمان بن حيان إلى المدينة لإخراج من بها من العراقيين وتفريق أهل الأهواء ومن ظهر عليهم أو علا بأمرهم، فلم يبعثه واليًا، فكان لا يصعد المنبر ولا يخطب عليه فلما فعل في أهل العراق ما فعل. وفي منحور وغيره أثبته على المدينة، فكان يصعد على المنبر. ذكر الخبر عن مقتل سعيد بن جبير وفي هذه السنة قتل الحجاج سعيد بن جبير. ذكر الخبر عن مقتله وكان سبب قتل الحجاج إياه خروجه عليه معمن خرج عليه. مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلعه معه، فلما هزم عبد الرحمن وهرب إلى بلاد رتبيل هرب سعيد. فحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: كتب الحجاج إلى فلان وكان على أصبهان - وكان سعيد، قال الطبري: أظنه أنه لما هرب من الحجاج ذهب إلى أصبهان فكتب إليه -: إن سعيدًا عندك فخذه. فجاء الأمر إلى رجل تحرج، فأرسل إلى سعيد: تحول عني، فتنحى عنه، فأتى أذربيجان، فلم يزل بأذربيجان فطال عليه السنون. واعتمر فخرج إلى مكة فأقام بها، فكان ناس من ضربه يستخفون فلا يخبرون بأسمائهم. قال: أبو حصين وهو يحدثنا هذا: الرجل لا يؤمن، وهو رجل سوء، وأنا أتقيه عليك، فاطعن واشخص، فقال: يا أبا حصين، قد والله فررت حتى استجيب من الله: سيجيئني ما كتب الله لي. قلت: أظنك والله سعيدًا كما سمتك أمك قال: فقدم ذلك الرجل إلى مكة، فأرسل فأخذ فلان له وكلمه، فجعل يديره. وذكر أبو عاصم عن عمر بن قيس، قال: كتب الحجاج إلى الوليد: إن أهل النفاق والشقاق قد لجثوا إلى مكة. فإن رأى أمير المؤمنين يأذن في فيهم! فكتب الوليد إلى خالد بن عبد الله القسري؛ فأخذ عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد وطلق بن حبيب وعمرو بن دينار؛ فأما عمرو بن دينار وعطاء فأرسلا لأنهما مكيان، وأما الآخرون فبعث بهم إلى الحجاج، فمات طلق في الطريق، وحبس مجاهد حتى مات الحجاج، وقتل سعيد بن جبير، حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا الأشجعي، قال: لما أقبل الحرسيان بسعيد بن جبير نزل منزلا قريبًا من الربذة، فانطلق أحد الحرسيين في حاجته وبقي الآخر، فاستيقظ الذي عنده، وقد رأى رؤيا، فقال: يا سعيد، إني أبرأ إلى الله من دمك! إني رأيت في منامي؛ فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير. اذهب حيث شئت لا أطلبك أبدًا؛ فقال سعيد: أرجو العافية وأرجو، وأبى حتى جاء ذاك؛ فنزلا من الغد، فأرى مثلها، فقيل: ابرأ من دم سعيد فقال: يا سعيد، اذهب حيث شئت، إني أبرأ إلى الله من دمك، حتى جاء به. فلما جاء به إلى داره التي كان فيها سعيد وهي دارهم هذه، حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم قال: دخلت عليه في دار سعيد هذه. جيء به مقيدًا فدخل عليه قراء أهل الكوفة. قلت: يا أبا عبد الله، فحدثكم؟ قال: إي والله ويضحك، وهو يحدثنا، وبنية له في حجرة، فنظرت نظرة فأبصرت القيد فبكت، فسمعته يقول: أي بنية لا تطيري إياك - وشق والله عليه - فاتبعناه نشيعه، فانتهينا به إلى الجسر، فقال الحرسيان: لا نعبر به أبدًا حتى يعطينا كفيلًا، نخاف أن يغرق نفسه. قال: قلنا: سعيد يغرق نفسه! فما عبروا حتى كفلنا به. قال وهب بن جرير: حدثنا أبي، قال: سمعت الفضل بن سويد قال: بعثني الحجاج في حاجة، فجيء بسعيد بن جبير، فرجعت فقلت: لأنظرن ما يصنع فقمت على رأس الحجاج، فقال له الحجاج: يا سعيد، ألم أشركك في أمانتي! ألم أستعملك! ألم أفعل! حتى ظننت أنه يخلى سبيله؛ قال: بلى، قال: فما حملك على خروجك على؟ قال: عزم على، قال: فطار غضبًا وقال: هيه! رأيت لعزمة عدو الرحمن عليك حقًا، ولم تر لله ولا لأمير المؤمنين ولا لي عليك حقًا! اضربا عنقه، فضربت عنقه، فندر رأسه عليه كمة بيضاء لا طية صغيرة. وحدثت عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، قال: سمعت خلف بن خليفة يذكر عن رجل قال: لما قتل سعيد بن جبير فندر رأسه لله، هلل ثلاثًا: مرة يفصح بها، وفي الثنتين يقول. مثل ذلك فلا يفصح بها. وذكر أبو بكر الباهلي، قال: سمعت أنس بن أبي شيخ، يقول: لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير، قال: لعن الله ابن النصرانية - قال: يعني خالدًا القسري، وهو الذي أرسل به من مكة - أما كنت أعرف مكانه! بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة. ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد، ما أخرجك على؟ فقال: أصلح الله الأمير! إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة، قال: فطابت نفس الحجاج، وتطلق وجهه، ورجا أن يتخلص من أمره، قال: فعاوده في شيء، فقال له: إنما كانت له بيعة في عنقي؛ قال: فغضب وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، فقال: يا سعيد. ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها، وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك! قال: بلى، قال: ثم قدمت الكوفة واليًا على العراق فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية! قال: بلى؛ قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين، وتفي بواحدة للحائك ابن الحائك! اضربا عنقه؛ قال: فإياه عني جرير بقوله: يا رب ناكث بيعتين تركته ** وخضاب لحيته دم الأوداج وذكر عتاب بن بشر، عن سالم الأفطس، قال: أتى الحجاج بسعيد بن جبير وهو يريد الركوب، وقد وضع إحدى رجليه في الغرز - أو الركاب - فقال: والله لا أركب حتى تبوء مقعدك من النار، اضربوا عنقه، فضربت عنقه، فالتبس مكانه، فجعل يقول: قيودنا قيودنا، فظنوا أنه قال: القيود التي على سعيد بن جبير: فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. قال محمد بن حاتم: حدثنا عبد الملك بن عبد الله عن هلال بن خباب قال: جيء بسعيد بن جبير إلى الحجاج فقال: أكتبت إلى مصعب ابن الزبير؟ قال: بل كتب إلى مصعب؛ قال: والله لأقتلنك؛ قال: إتي إذًا لسعيد كما سمتني أمي! قال: فقتله؛ فلم يلبث بعده إ لا نحوًا من أربعين يومًا، فكان إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه فيقول: يا عدو الله، لم قتلتني؟ فيقول: مالي ولسعيد بن جبير! مالي ولسعيد ابن جبير! قال أبو جعفر: وكان يقال لهذه السنة سنة الفقهاء، مات فيها عامة فقهاء أهل المدينة، مات في أولها علي بن الحسين عليه السلام ثم عروة بن الزبير، ثم سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. واستقضى الوليد في هذه السنة بالشام سليمان بن حبيب واختلف فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة، فقال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه - قال: حج بالناس مسلمة بن عبد الملك سنة أربع وتسعين وقال الواقدي: حج بالناس سنة أربع وتسعين عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك - قال: ويقال: مسلمة بن عبد الملك. وكان العامل فيها على مكة خالد بن عبد الله القسري، وعلى المدينة عثمان بن حيان المري، وعلى الكوفة زياد بن جرير، وعلى قضائها أبو بكر ابن أبي موسى، وعلى البصرة الجراح بن عبد الله. وعلى قضائها عبد الرحمن ابن أذينة وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك، وكان العراق والمشرق كله إلى الحجاج. ثم دخلت سنة خمس وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها ففيها كانت غزوة العباس بن الوليد بن عبد الملك أرض الروم، ففتح الله على يديه ثلاثة حصون فيما قبل، وهي: طولس، والمرزبانين، وهرقلة. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفيها بنيت واسط القصب في شهر رمضان وفيها انصرف موسى بن نصير إلى إفريقية من الأندلس، وضحى بقصر الماء - فيما قيل - على ميل من القيروان. بقية الخبر عن غزو الشاش وفيها غزا قتيبة بن مسلم الشاش ذكر الخبر عن غزوته هذه رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد، قال: وبعث الحجاج جيشًا من العراق فقدموا على قتيبة سنة خمس وتسعين، فغزا فلما كان بالشاش - أو بكشماهن - أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه ذلك، وقفل راجعًا إلى مرو، وتمثل: لعمري لنعم المرء من آل جعفر ** بحوران أمسى أعلقته الحبائل فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت ** فما في حياة بعد موتك طائل قال: فرجع بالناس ففرقهم، فخلف في بخارى قومًا، ووجه قومًا إلى كس ونسف، ثم أتى مرو فأقام بها، وأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك كالذي يجب لك، فالمم مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك؛ حتى كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت به وفيها مات الحجاج بن يوسف في شوال - وهو يومئذ ابن أربع وخمسين سنة وقيل: ابن ثلاث وخمسين سنة - وقيل: كانت وفاته في هذه السنة لخمس ليال بقين من شهر رمضان وفيها استخلف الحجاج لما حضرته الوفاة على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج وكانت إمرة الحجاج على العراق فيما قال الواقدي عشرين سنة وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين. وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو من ألف رجل معه. وفيها - فيما ذكر - ولد المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وفيها ولي الوليد بن عبد الملك يزيد بن أبي كبشة على الحرب والصلاة بالمصرين: الكوفة والبصرة، وولى خراجهما يزيد بن أبي مسلم. وقيل: إن الحجاج كان استخلف حين حضرته الوفاة على حرب البلدين والصلاة بأهلهما يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موت الحجاج على ما كان الحجاج استخلفهما عليه، وكذلك فعل بعمال الحجاج كلهم، أقرهم بعده على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته. وحج بالناس في هذه السنة بثر بن الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، إلا ما كان من الكوفة والبصرة، فإنهما ضمتا إلى من ذكرت بعد موت الحجاج. ثم دخلت سنة ست وتسعين ذكر الأحداث التي كانت فيها ففيها كانت - فيما قال الواقدي - غزوة بشر بن الوليد الشاتية، فقفل ومات الوليد. ذكر الخبر عن موت الوليد بن عبد الملك وفيها كانت وفاة الوليد بن عبد الملك، يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين في قول جميع أهل السير. واختلف في قدر مدة خلافته، فقال الزهري في ذلك - ما حدثت عن ابن وهب عن يونس عنه: ملك الوليد عشر سنين إلا شهرًا. وقال أبو معشر فيه، ما حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت خلافة الوليد تسع سنين وسبعة أشهر، وقال هشام بن محمد: كانت ولاية الوليد ثمان سنين وتسعة أشهر. وقال الواقدي: كانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين. واختلف أيضًا في مبلغ عمره، فقال محمد بن عمر: توفي بدمشق وهو ابن ست وأربعين سنة وأشهر. وقال هشام بن محمد: توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة. وقال عليبن محمد: توفي وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر. وقال علي: كانت وفاة الوليد بدير مران، ودفن خارج باب الصغير. ويقال: في مقابر الفراديس. ويقال: إنه توفي وهو ابن سبع وأربعين سنة. وقيل: صلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكان له - فيما قال علي - تسعة عشر ابنًا: عبد العزيز، ومحمد، والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمر، وروح، وبشر، ويزيد، ويحيى؛ أم عبد العزيز ومحمد وأم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى. ذكر الخبر عن بعض سيره حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادمًا، وكل ضرير قائدًا، وفتح في ولايته فتوح عظام؛ فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر. وفتح محمد بن القاسم الهند. قال: وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عنده فيأخذ حزمة البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول بفلس فيقول زد فيها. قال: أتاه رجل من بني مخزوم يسأله عن دينه، فقال: نعم، إن كنت مستحقًا لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقًا لذلك مع قرابي! لذلك، قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده، وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل ضم هذا إليك، فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام إليه عثمان ابن يزيد بن خالد بن عبد الله بن أسيد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن على دينًا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم، نقضي عنكم، قال: مرض الوليد فرهقته غشية، فمكث عامه يومه عندهم ميتًا، فبكى عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج، فاسترجع، ثم أمر بحبل فشد في يديه، ثم أوثق إلى اسطوانة، وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له، فقد طالما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته! وجعل يدعو، فإنه لكذلك إذ قدم عليه بريد بإفاقته. قال علي: ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أسر بعافية أمير المؤمنين من الحجاج؛ فقال عمر بن عبد العزيز: ما أعظم نعمة الله علينا بعافيتك، وكأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر فيه أنه لما بلغه برؤك خر الله ساجدًا، وأعتق كل مملوك له، وبعث بقوارير من أنبج الهند. فما لبث إلا أيامًا حتى جاء الكتاب بما قال. قال: ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضئ الوليد يومًا للغداء، فمد يده، فجعلت أصب عليه الماء وهو ساه والماء يسيل ولا أستطيع أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي، وقال: أناعس أنت! ورفع رأسه إلي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ قلت: لا؛ قال: ويحك! مات الحجاج! فاسترجعت. فقال: أسكت ما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها. قال علي: وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضًا عن البناء والمصانع. فولى سليمان، فكان صاحب نكاح وطعام، فكان يسأل الناس بعضهم بعضًا عن التزويج والجواري. فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ ورثى جرير الوليد فقال: يا عين جودي بدمع هاجه الذكر ** فما لدمعك بعد اليوم مدخر إن الخليفة قد وارت شمائله ** غبراء ملحدة في جولها زور أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم ** مثل النجوم هوى من بينها القمر كانوا جميعًا فلم يدفع منيته ** عبد العزيز ولا روح ولا عمر حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حج الوليد بن عبد الملك، وحج محمد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد: يا أمير المؤمنين، اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل من أم البنين إلى محمد فيها، فأبى وقال: ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه - وكانت هدايا كثيرة - فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا محمد أن تصرف إلي، ولا حاجة لي بها، قال: ولم؟ قالت: بلغني أنه غصبها الناس، وكلفهم عملها، وظلمهم. وحمل محمد المتاع إلى الوليد، فقال: بلغني أنك أصبتها غصبًا، قال: معاذ الله! فامر فاستخلف بين الركن والمقام خمسين يمينًا بالله ما غصب شيئًا منها، ولا ظلم أحدًا، ولا أصابها إلا من طيب؛ فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات محمد بن يوسف باليمين، أصابه داء تقطع منه. وفي هذه السنة كان الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سليمان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: كان الوليد وسليمان وليي عهد عبد الملك، فلما أفضى الأمر إلى الوليد، أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان، فأبى سليمان، فأراده أن يجعله له من بعده، فأبى، فعرض عليه أموالًا كثيرة، فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك؛ فلم يجبه أحد إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس. فقال عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لعبد العزيز من بعده، فإنه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه. فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم، فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب، وأمر بحجره فأخرجت، فمرض، ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك. قال عمر: قال علي: وأخبرنا أبو عاصم الزيادي عن الهلواث الكلبي، قال: كنا بالهند مع محمد بن القاسم، فقتل الله داهرًا، وجاءنا كتاب من الحجاج أن اخلعوا سليمان، فلما ولى سليمان جاءنا كتاب سليمان، أن ازرعوا واحرثوا، فلا شام لكم، فلم نزل يتلك البلاد حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقفلنا. قال عمر: قال علي: أراد الوليد أن يبني مسجد دمشق، وكانت فيه كنيسة، فقال الوليد لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل رجل منكم بلبنة، فجعل كل رجل يأتيه بلبنة، ورجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق؛ قال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة! وهدموا الكنيسة وبناها مسجدًا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا ذلك إليه، فقيل: أن كل ما كان خارجًا من المدينة افتتح عنوة، فقال لهم عمر: نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما، فإنها فتحت عنوة، نبنيها مسجدًا، فلما قال لهم ذلك قالوا: بل ندع لكم هذا الذي هدم الوليد، ودعوا لنا كنيسة توما. ففعل ذلك عمر. فتح قتيبة كاشغر وغزو الصين وفي هذه السنة افتتح بن مسلم كاشغر، وغزا الصين. ذكر الخبر عن ذلك رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد بالإسناد الذي ذكرت قبل. قال: ثم غزا قتيبة في سنة ست وتسعين، وحمل مع الناس عيالهم وهو يريد أن يحرز عياله في سمرقند خوفًا من سليمان. فلما عبر النهر استعمل رجلًا من مواليه يقال الخوارزمي على مقطع النهر، وقال: لا يجوزن أحد إلا بجواز؛ ومضى إلى فرغانة، وأرسل إلى شعب عصام من يسهل له الطريق إلى كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين، فأتاه موت الوليد وهو بفرغانة. قال: فأخبرني أبو الذيال عن المهلب بن إياس، قال: قال إياس بن زهير: لما عبر قتيبة النهر أتيته فقلت له: إنك خرجت ولم أعلم رأيك في العيال فنأخذ أهبة ذلك، وبني الأكابر معي، ولي عيال قد خلفتهم وأم عجوز، وليس عندهم من يقوم بأمرهم، فإن رأيت أن تكتب لي كتابًا مع بعض بني أوجهه فيقدم علي بأهلي! فكتب، فأعطاني الكتاب فانتهيت إلى النهر وصاحب النهر من الجانب الآخر، فألويت بيدي، فجاء قوم في سفينة فقالوا: من أنت؟ أين جوازك؟ فأخبرتهم، فقعد معي قوم ورد قوم السفينة إلى العامل، فأخبروه. قال: ثم رجعوا إلي فحملوني، فانتهيت إليهم وهم يأكلون وأنا جائع، فرميت بنفسي، فسألني عن الأمر، وأنا آكل لا أجيبه، فقال: هذا أعرابي قد مات من الجوع، ثم ركبت فمضيت فأتيت مرو، فحملت أمي، ورجعت أريد العسكر، وجاءنا موت الوليد، فانصرفت إلى مرو. وقال: وأخبرنا أبو مخنف، عن أبيه، قال: بعث قتيبة كثير بن فلان إلى كاسغر، فسبى منها سبيًا، فختم أعناقهم مما أفاء الله على قتيبة، ثم رحع قتيبة وجاءهم موت الوليد. قال: وأخبرنا يحيى بن زكريا الهمداني عن أشياخ من أهل خراسان والحكم بن عثمان، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان. قال: وغل قتيبة حتى قرب من الصين. قال: فكتب إليه ملك الصين أن ابعث لنا رجلًا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم. فانتخب قتيبة من عسكره اثنا عشر رجلًا - وقال بعضهم: عشرة - من أفناء القبائل، لهم جمال وأجسام وشعور وبأس، بعدما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه. فكلمهم قتيبة، وفاطنهم فرأى عقولًا جمالًا، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الحز والوشى واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم، ودواب يركبونها. قال: وكان هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوهًا بسيط اللسان، فقال: يا هبيرة كيف أنت صانع؟ قال: أصلح الله الأمير! قد كفيت الأدب وقل ماشئت اقله. وآخذ به، قال: سيروا على بركة الله، وبالله التوفيق. لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت ألا انصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم. قال: فساروا، عليهم هبيرة بن المشمرج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثيابًا بيضًا تحتها الغلائل، ثم مسوا الغالية، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا، فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قومًا ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده. قال: فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الحز والمطارف، وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا، فقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك الأولى، وهم أولئك. فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر. وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم، ثم أقبلوا نحو مشمرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: ارجعوا، لما دخل قلوبهم من خوفهم. قال: فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء قط، فلما أمسى أرسل إليهم الملك، أن ابعثوا إلى زعيمكم وأفضلكم رجلًا، فبعثوا إلى هبيرة، فقال له حين دخل عليه: قد رأيتم عظيم ملكي، وليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي. وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم. قال: سل؛ قال: لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث؟ قال: أما زينا الأول فلبسناه في أهالينا وريحنا عندهم، وأما اليوم الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا. قال: ما أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خليه في بلادك وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصًا من خلف الدنيا قادرًا عليها وغزاك! وأما تخويفك إلينا بالقتل فإن لنا آجالًا إذا حضرت فأكرمها بالقتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه؛ قال: فما الذي يرضي صاحبك؟ قال: إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها، قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجاز فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل الجزية وختم الغلمة وردهم، ووطئ التراب، فقال سوادة بن عبد الله السلولي: لا عيب في الوفد الذين بعثتهم ** للصين إن سلكوا طريق المنهج كسروا الجفون على القذى خوف الردى ** حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج لم يرض غير الختم في أعناقهم ** ورهائن دفعت بحمل سمرج أدى رسالتك التي استرعيته ** وأتاك من حنث اليمين بمخرج قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة، فقال: لله قبر هبيرة بن مشمرج ** ماذا تضمن من ندى وجمال! وبديهة يعيا بها أبناؤه ** عند احتفال مشاهد الأقوال كان الربيع إذا السنون تتابعت ** والليث عند تكعكع الأبطال فسقت بقرية حيث أمسى قبره ** غر يرحن بمسبل هطال بكت الجياد الصافنات لفقده ** وبكاه كل مثقف عسال وبكته شعث لم يجدن مواسيًا ** في العام ذي السنوات والإمحال قال: وقال: الباهليون: كان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثنى عشر فرسًا من جياد الخيل؛ واثنى عشر هجينًا، لا يجاوز بالفرس أربعة آلاف، فيقام عليها وقت الغزو، فإذا تأهب للغزو وعسكر قيدت وأضمرت، فلا يقطع نهرًا بخيل حتى تخف لحومها، فيحمل عليها من يحمله في الطلائع. وكان يبعث في الطلائع الفرسان من الأشراف، ويبعث معهم رجالًا من العجم ممن يستنصح على تلك الهجن، وكان إذا بعث بطليعة أمر بلوح فنقش، ثم يشقه شقين فأعطاه شقة، واحتبس شقة، لئلا يمثل مثلها، ويأمره أن يدفنها في موضع يصفه له من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، أو خربة، ثم يبعث بعده من يستبريها ليعلم أصادق في طليعته أم لا. وقال ثابت قطنة العتكي يذكر من قتل من ملوك الترك: أقر العين مقتل كارزنك ** وكشبيز وما لاقى بيار وقال كميت يذكر غزوة السغد وخوارزم: وبعد في غزوة كانت مباركة ** تردى زراعة أقوام وتحتصد نالت غمامتها فيلًا بوابلها ** والسغد حين دنا شؤبوبها البرد إذ لا يزال له نهب ينفله ** من المقاسم لا وخش ولا نكد تلك الفتوح التي تدلي بحجتها ** على الخليفة إنا معشر حشد لم تثن وجهك عب قوم غزوتهم ** حتى يقال لهم: بعدًا وقد بعدوا لم ترض من حصنهم إن كان ممتنعًا ** حتى يكبر فيه الواحد الصمد خلافة سليمان بن عبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك بالخلافة، وذلك في اليوم الذي توفي فيه الوليد بن عبد الملك، وهو بالرملة. وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة، ذكر محمد بن عمر، أنه نزعه عن المدينة لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وتسعين. قال: وكان عمله على المدينة ثلاث سنين. وقيل: كانت امرأته عليها سنتين غير سبع ليال. قال الواقدي: وكان أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قد استأذن عثمان أن ينام في غد، ولا يجلس للناس ليقوم ليلة إحدى وعشرين، فأذن له. وكان أيوب بن سلمة المخزومي عنده، وكان الذي بين أيوب بن سلمة وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم سيئًا، فقال أيوب لعثمان: ألم تر إلى ما يقول هذا؟ إنما هذا منه رثاء؛ فقال عثمان: قد رأيت ذلك، ولست لأبى إن أرسلت إليه غدوة ولم أجده جالسًا لأجلدنه مائة، ولأحلقن رأسه ولحيته. قال أيوب: فجاءني أمر أحبه، فعجلت من السحر، فإذا شمعة في الدار، فقلت: عجل المري، فإذا رسول سليمان قد قدم على أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده. قال أيوب: فدخلت دار الإمارة، فإذا لبن حيان جالس، وإذا بأبي بكر على كرسي يقول للحداد: اضرب في رجل هذا الحديد، ونظر إلى عثمان فقال: آبوا على أدبارهم كشفًا ** والأمر يحدث بهده الأمر وفي هذه السنة عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق، وأمر عليه يزيد بن المهلب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره أن يقتل آل أبي عقيل وبسط عليهم العذاب. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، قال: قدم صالح العراق على الخراج ويزيد على الحرب، فبعث يزيد زياد بن المهلب على عثمان، وقال له: كاتب صالحًا، وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب. خبر مقتل قتيبة بن مسلم وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم بخراسان. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكان سبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يجعل ابنه عبد العزيز ابن الوليد ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فقال جرير في ذلك: إذا قيل أي الناس خير خليفة ** أشارت إلى عبد العزيز الأصابع رأوه أحق الناس كلهم بها ** وما ظلموا، فبايعوه وسارعوا وقال أيضًا جرير يحضن الوليد على بيعة عبد العزيز: إلى عبد العزيز سمت عيون الر ** عية إذ تحيرت الرعاء إليه دعت دواعيه إذا ما ** عماد الملك خرت والسماء وقال أولو الحكومة من قريش ** علينا البيع إن بلغ الغلاء رأوا عبد العزيز ولي عهد ** وما ظلموا بذاك ولا أساؤوا فماذا تنظرون بها وفيكم ** جسور بالعظائم واعتلاء! فزحلفها بأزملها إليه ** أمير المؤمنين إذا تشاء فإن الناس قد مدوا إليه ** أكفهم وفي برح الخفاء ولو قد بايعوك ولي عهد ** لقام الوزن واعتدل البناء فبايعه على خلع سليمان الحجاج بن يوسف وقتيبة، ثم هلك الوليد وقام سليمان بن عبد الملك، فخافه قتيبة. قال علي بن محمد: أخبرنا بشر بن عيسى والحسن بن رشيد وكليب ابن خلف. عن طفيل بن مرداس، وجبلة بن فروخ، عن محمد بن عزيز الكندي، وجبلة بن أبي رواد ومسلمة بن محارب، عن السكن بن قتادة؛ أن قتيبة لما أتاه موت الوليد بن عبد الملك وقيام سليمان. أشفق من سليمان لأنه كان يسعى في بيعة عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج. وخاف أن بولي سليمان يزيد بن المهلب خراسان. قال: فكتب إليه كتابًا يهنئه بالخلافة، ويعزيه على الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان. وكتب إليه كتابًا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم، وعظم صوته فيهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه. وكتب كتابًا ثالثًا في خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب. فإن كان يزيد بن المهلب حاضرًا، فقرأه ثم ألقاه إليه، فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين. فقد قام رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد ين المهلب دفع إليه الكتاب، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه كتابًا آخر فقرأه، ثم رمى به إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث، فقرأه فتمعر لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده. وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى، فإنه قال - فيما حدثت عنه: كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب، وذكر غدره وكفره وقلة شكره، وكان في الثاني ثناء على يزيد، وفي الثالث: لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمني لأخلعنك خلع النعل، ولأملأنها عليك خيلا ورجالا. وقال أيضًا: لما قرأ سليمان الكتاب الثالث وضعه بين مثالين من المشل التي تحته ولم يحر في ذلك مرجوعًا. رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد. قال: ثم أمر - يعني سليمان برسول قتيبة أن ينزل، فحول إلى دار الضيافة، فلما أمسى دعا به سليمان فأعطاه صرة فيها دنانير، فقال: هذه جائزتك. وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك بعهده. قال: فخرج الباهلي، وبعث معه سليمان رجلًا من عبد القيس، ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة - أو مصعب - فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة، فرجع العبدي، ودفع العهد إلى رسول قتيبة، وقد خلع؛ واضطرب الأمر، فدفع إليه عهده، فاستشار إخوته، فقالوا: لا يثق بك سليمان بعد هذا. قال علي: وحدثني بعض العنبريين، عن أشياخ منهم، أن توبة ابن أبي أسيد العنبري، قال: قدم صالح العراق، فوجهني إلى قتيبة ليطلعني طلع ما في يده، فصحبني رجل من بني أسد، فسألني عما خرجت فيه، فكاتمته أمري، فإنا لنسير إذ سنح لنا سانح؛ فنظر إلى رفيقي فقال: أراك في أمر جسيم وأنت تكتمني! فمضيت، فلما كنت بحلوان تلقاني الناس بقتل قتيبة. قال علي: وذكر أبو الذيال وكليب بن خلف وأبو علي الجوزجاني عن طفيل بن مرداس، وأبو الحسن الجثمي ومصعب بن حيان عن أخيه مقاتل بن حيان، وأبو مخنف وغيرهم، أن قتيبة لما هم بالخلع استشار إخوته، فقال له عبد الرحمن: اقطع بعثًا فوجه فيه كل من تخافه، ووجه قومًا إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحب المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فلا يقم معك إلا مناصح. وقال له عبد الله: اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه. فليس يختلف عليك رجلان. فأخذ برأي عبد الله، فخلع سليمان، ودعا الناس إلى خلعه، فقال للناس: إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي؛ أتاكم أمية فكتب إلى أمير المؤمنين إن خراج خراسان لا يقوم بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد فدوم بكم ثلاث سنين لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية! لم يجب فيئًا، ولم ينكأ عدوًا، ثم جاءكم بنوه بعده؛ يزيد، فحل تباري إلى النساء، وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنقة القيسي قال: فلم يجبه أحد، فغضب فقال: لا أعز الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة - ولا أقول أهل العالية - يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ والكذب والبخل، بأي يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم، أن بيوم سلمكم! فوالله لأنا أعز منكم. يا أصحاب مسيلمة، يا بني ذميم - ولا أقول تميم - يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان يا أصحاب سجاح، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النحل أعنة الخيل، يا معشر الأزد، تبدلتم بقلوس السفن أعنه الخيل الحصن؛ إن هذا لبدعة في الإسلام! والأعراب، وما الأعراب! لعنة الله على الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيخ والفيصوم ومنابت القلقل، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان، حتى إذا جمعتكم كما تجمع قزع الخريف قلتم كيت وكيت! أما والله إني لابن أبيه! وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة. إن حول الصليان الزمزمة يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان. كأني بأمير مزجاء، وحكم قد جاءكم فغلبكم على فيئكم وأظلالكم. إن ها هنا نارًا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. إن الشام أب مبرور، وإن العراق أب مكفور. حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم! يا أهل خراسان، انسبوني تجدوني عراقي الأم، عراقي الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من الأمن والعافية قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة وسلوه الشكر والمزيد قال: ثم نزل فدخل منزله، فأتاه أهل بيته فقالوا: ما رأينا كاليوم قط، والله ما اقتصرت على أهل العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرًا وهم أنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميمًا وهم إخوتك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت الأزد وهم يدك! فقال: لما تكلمت فلم يجيبني أحد غضبت، فلم أدر ما قلت؛ إن أهل العالية كإبل الصدقة قد جمعت من كل أوب، وأما بكر فإنها أمة لا تمنع يد لامس وأما تميم فجمل أجرب، وأما عبد القيس فما يضرب العير بذنبه، وأما الأزد فأعلاج، شرار من خلق الله، لو ملكت أمرهم لو سمتهم قال: فغضب الناس وكرهوا خلع سليمان، وغضبت القبائل من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه وخلعه، وكان أول من تكلم في ذلك الأزد، فأتوا حضين بن المنذر فقالوا: إن هذا قد دعا إلى ما دعا إليه من خلع الخليفة، وفيه فساد الدين والدنيا، ثم لم يرض بذلك حتى قصر بنا وشتمنا، فما ترى يا أبا حفص؟ وكان يكتني في الحرب بأبي ساسان، ويقال: كنيته أبو محمد - فقال لهم: حضين: مضر بخراسان تعدل هذه الثلاثة الأخماس؛ وتميم أكثر الخمسين، وهم فرسان خراسان، ولا يرضون أن يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم من الأمر أعانوا قتيبة؛ قالوا: إنه قد وتر بني تميم بقتل ابن الأهتم، قال: لا تنظروا إلي هذا فإنهم يتعصبون للمضربة، فانصرفوا رادين لرأي حضين، فأرادوا أن يولوا عبد الله بن حوذان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حضين، فقالوا: قد تدافعنا الرياسة، فنحن نوليك أمرنا، وربيعة لا تخالفك، قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل؛ قالوا: ما ترى؟ قال: إن جعلتم هذه الرياسة في تميم تم أمركم؛ قالوا: فمن ترى من تميم؟ قال: ما أرى أحدًا غير وكيع، فقال حيان مولى بني شيبان: إن أحدًا لا يتقلد هذا الأمر فيصلي بحره، ويبذل دمه، ويتعرض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلا هذا الأعرابي وكيع؛ فإنه مقدام لا يبالي ما ركب، ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي. فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرًا، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله - وكان حيان يلاطف حشم الولاة فلا يخفون عنه شيئًا - قال: فدعا قتيبة رجلا فأمره بقتل حيان، وسمعه بعض الخدم، فأتى حيان فأخبره، فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض، وأتى الناس وكيعًا فسألوه أن يقوم بأمرهم؛ فقال: نعم، وتمثل قول الأشهب بن رميلة: سأجني ما جنيت وإن ركني ** لمعتمد إلى نضد ركين قال: وبخراسان يومئذ من المقاتلة من أهل البصرة من أهل العالية تسعة آلاف، وبكر سبعة آلاف، رئيسهم الحضين بن المنذر، وتميم عشرة آلاف عليهم ضرار بن حصين الضبي، وعبد القيس أربعة آلاف عليهم عبد الله بن علوان عوذي، والأزد عشرة آلاف رأسهم عبد الله أبو حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف عليهم جهم بن زحر - أو عبيد الله بن علي - والموالي سبعة آلاف عليهم حيان - وحيان يقال إنه من الديلم، ويقال: إنه من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته - فأرسل حيان إلى وكيع: أرأيت إن كففت عنك وأعنتك تجعل في جانب نهر بلخ وخراجه ما دمت حيا، وما دمت واليًا؟ قال: نعم، فقال للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضًا؛ قالوا: نعم، فبايعوا وكيعًا سرًا، فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال: إن الناس يختلفون إلى وكيع، وهم يبايعونه - وكان وكيع يأتي منزل عبد الله بن مسلم الفقير فيشرب عنده - فقال عبد الله: هذا يحسد وكيعًا، وهذا الأمر باطل، هذا وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه؛ وهذا يزعم أنهم يبايعونه. قال: وجاء وكيع إلى قتيبة فقال: احذر ضرارًا فإني لا آمنه عليك، فأنزل قتيبة ذلك منهما على التحاسد. وتمارض وكيع ثم إن قتيبة دس ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع فبايعه سرًا، فتبين لقتيبة أن الناس يبايعونه، فقال لضرار: قد كنت صدقتني، قال: إن لم أخبرك إلا يعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد، وقد قضيت الذي كان علي، قال: صدقت. وأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه فوجده رسول قتيبة قد طلى على رجله مغرةً، وعلى ساقه خرزًا وودعًا، وعنده رجلان من زهران يرقيان رجله، فقال له: أجب الأمير، قال: قد ترى ما برجلي. فرجع الرسول إلى قتيبة فأعاده إليه، قال: يقول لك: ائتني محمولًا على سرير، قال: لا أستطيع. قال قتيبة لشريك بن الصامت الباهلي أحد بني وائل - وكان على شرطته - ورجل من غني انطلقا إلى وكيع فأتياني به. فإن أبى فاضربا عنقه؛ ووجه معهما خيلا، ويقال: كان على شرطه بخراسان ورقاء بن نصر الباهلي. قال علي: قال أبو الذيال: قال ثمامة بن ناجذ العدوي: أرسل قتيبة إلى وكيع من يأتيه به، فقلت: أنا آتيك به أصلحك الله! فقال: ائتني به، فأتيت وكيعًا - وقد سبق إليه الخبر أن الخيل تأتيه - فلما رآني قال: يا ثمامة، ناد في الناس؛ فناديت: فكان أول من أتاه هريم بن أبي طحمة في ثمانية. قال: وقال الحسن بن رشيد الجوزجاني: أرسل قتيبة إلى وكيع. فقال هريم: أنا آتيك به، قال: فانطلق. قال هريم: فركبت برذوني مخافة أن يردني، فأتيت وكيعًا وقد خرج قال: وقال كليب بن خلف: أرسل قتيبة إلى وكيع شعبة بن ظهير أحد بني صخر بن نهشل، فأتاه، فقال: يا بن ظهير: لبث قليلًا تلحق الكتائب ثم دعا بسكين فقطع خرزًا كان على رجليه. ثم لبس سلاحه، وتمثل: شدوا على سرتي لا تنقلف ** يوم لهمدان ويوم للصدف وخرج وحده ونظر إليه نسوة فقلن: أبو مطرف وحده؛ فجاء هريم بن أبي طحمة في ثمانية، فيهم عميرة البريد بن ربيعة العجيفي. قال حمزة بن إبراهيم وغيره: إن وكيعًا خرج فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد؛ قال: ما اسمك؟ قال: ضرغامة؛ قال: ابن من؟ قال: ابن ليث، قال: دونك هذه الراية. قال المفضل بن محمد الضبي: ودفع وكيع رايته إلى عقبة بن شهاب المازني؛ قال: ثم رجع إلى حديثهم، قالوا: فخرج وكيع وأمر غلمانه، فقال: اذهبوا بثقلي إلى بني العم، فقالوا: لا نعرف موضعهم، قال: انظروا رمحين مجموعين أحدهما فوق الآخر، فوقهما مخلاة، فهم بنو العم، قال: وكان في العسكر منهم خمسمائة؛ قال: فنادى وكيع في الناس، فأقبلوا أرسالا من كل وجه، فأقبل في الناس يقول: قرم إذا حمل مكروهة ** شد الشراسيف لها الحزيم وقال قوم: تمثل وكيع حين خرج: أنخن بلقمان بن عاد فجسنه ** أريني سلاحي لن يطيروا بأعزل واجتمع إلى قتيبة أهل بيته، وخواص من أصحابه وثقاته، فيهم إياس ابن بيهس بن عمرو، ابن عم قتيبة دنيا، وعبد الله بن وألان العدوي، وناس من رهطه، بني وائل. وأتاه حيان بن إياس العدوي في عشرة، فيهم عبد العزيز بن الحارث، قال: وأتاه ميسرة الجدلي - وكان شجاعًا - فقال: إن شئت أتيتك برأس وكيع، فقال: قف مكانك. وأمر قتيبة رجلا، فقال: ناد في الناس، أين بنو عامر؟ فنادى: أين بنو عامر؟ فقال محفن بن جزء الكلابي - وقد كان جفاهم: حيث وضعتهم؛ قال: ناد أذكركم الله والرحم! فنادى محفن: أنت قطعتها، قال: ناد لكم العتبي، فناداه محفن أو غيره: لا أقالنا الله إذا، فقال قتيبة: يا نفس صبرًا على ما كان من ألم ** إذ لم أجد لفضول القوم أقرانا ودعا بعمامة كانتأمه بعثت بها إليه، فاعتم بها، كان يعتم بها في الشدائد، ودعا بيرذون له مدرب، كان يتطير إليه في الزحوف، فقرب إليه ليركبه، فجعل يقمص حتى أعياه، فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فقعد عليه وقال: دعوه؛ فإن هذا أمر يراد. وجاء حيان النبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله بن مسلم، فقال عبد الله لحيان: احمل على هذين الطرفين، قال: لم يأن لذلك، فغضب عبد الله، وقال: ناولني قوسي، قال حيان: ليس هذا يوم قوس، فأرسل وكيع إلى حيان: أين ما وعدتني؟ فقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي، ومضيت نحو عسكر وكيع. فمل بمن معك في العجم إلى. فوقف ابن حيان مع العجم، فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعجام إلى عسكر وكيع، فكبر أصحابه، وبعث قتيبة أخاه صالحًا إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة يقال له سليمان الزنجيرج - وهو الخرنوب، ويقال: بل رماه رجل من بلعم فأصاب هامته - فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل، فوضع في مصلاه، فتحول قتيبة فجلس عنده ساعة، ثم تحول إلى سريره. قال: وقال أبو السري الأزدي: رمى صالحًا رجل من بني ضبة فأثقله، وطعنه زياد بن عبد الرحمن الأزدي، من بني شريك بن مالك قال: وقال أبو مخنف: حمل رجل من غنى علي الناس فرأى رجلا مجففًا فشبهه بجهم بن زحر بن قيس فطعنه، وقال: إن غنيا أهل عز ومصدق ** إذا حاربوا والناس مفتتنونا فإذا الذي طعن علج، وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء، فقتلوه، وأحرق الناس موضعًا كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه، ودنوا منه فقاتل عنه رجل من باهلة من بني وائل، فقال له قتيبة: انج بنفسك، فقال له: بئس ما جزيتك إذًا، وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق قال: فدعا قتيبة بدابة، فأتى ببرذون فم يقر ليركبه، فقال: إن له لشأنًا؛ فلم يركبه. وجلس وجاء الناس حتى بلغوا الفسطاط، فخرج إياس بن بيهس وعبد الله بن وألان حين بلغ الناس الفسطاط وتركا قتيبة. وخرج عبد العزيز بن الحارث يطلب ابنه عمرًا - أو عمر - فلقيه الطائي فحذره، ووجد ابنه فأردفه. قال: وفطن قتيبة للهيثم بن المنخل وكان ممن يعين عليه، فقال: أعلمه الرماية كل يوم ** فلما اشتد ساعده رماني قال: وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم، بنو مسلم، وقتل ابنه كثير بن قتيبة وناس من أهل بيتهن ونجا أخوه ضرار، استنقذه أخواله، وأمه غراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال قوم: قتل عبد الكريم بن مسلم بقزوين. وقال أبو عبيدة: قال أبو مالك: قتلوا قتيبة سنة ست وتسعين، وقتل من بني مسلم أحد عشر رجلًا فصلبهم وكيع، سبعة منهم لصلب مسلم وأربعة من بني أبنائهم: قتيبة، وعبد الرحمن، وعبد الله الفقير، وعبيد الله، وصالح، وبشار، ومحمد بنو مسلم. وكثير بن قتيبة، ومغلس بن عبد الرحمن، لم ينج من صلب مسلم غير عمرو - وكان عامل الجوزجان - وضرار، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة، فجاء أخواله فدفعوه حتى نحوه، ففي ذلك يقول الفرزدق: عشية ما ود ابن غرة أنه ** له من سوانا إذ دعا أبوان وضرب إياس بن عمرو - ابن أخي مسلم بن عمرو - على ترقوتة فعاش. قال: ولما غشى القوم الفسطاط قطعوا أطنابه. قال زهير: فقال جمهم ابن زحر لسعد: انزل، فحز رأسه، وقد أثخن جراحًا، فقال: أخاف أن تجول الخيل، قال: تخاف وأنا إلى جنبك! فنزل سعد فشق صوقعة الفسطاط؛ فاحتز رأسه، فقال حضين بن المنذر: وإن ابن سعد وابن زحر تعاورا ** بسيفهما رأس الهمام المتوج عشية جئنا بابن زحر وجئتم ** بأدغم مرقوم الذراعين ديزج أصم غداني كأن جبينه ** لطاخة نقس في أديم ممجمج قال: فلما قتل مسلمة يزيد بن المهلب استعمل على خراسان سعيد بن خذينبة بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، فحبس عمال يزيد، وحبس فيهم جهم بن زحر الجعنفي، وعلى عذابه رجل من باهلة، فقيل له: هذا قاتل قتيبة، فقتله في العذاب، فلامه سعيد، فقال: أمرتني أن أستخرج منه المال فعذبته فأتى على أجله. قال: وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزمية، فلما قتل خرجت، فأخذها بعد ذلك يزيد بن المهلب، فهي أم خليده. قال علي: قال حمزة بن إبراهيم وأبو اليقظان: لما قتل قتيبة صعد عمارة بن جنية الرياحي المنبر فتكلم فأكثر، فقال له وكيع: دعنا من قذرك هذرك، ثم تكلم وكيع فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول: من ينك العير ينك نياكا أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتال. قد جربوني ثم جربوني ** من غلوتين ومن المئين حتى إذا شبت وشيبوني ** خلوا عناني وتنكبوني أنا أبو مطرف قال: وأخبرنا أبو معاوية، عن طلحة بن إياس، قال: قال وكيع يوم قتل قتيبة: أنا ابن خندف تنميني قبائلها ** للصالحات وعمي قيس عيلانا ثم أخذ بلحيته ثم قال: شيخ إذا حمل مكروهة ** شد الشراسف لها والحزيم والله لأقتلن، ثم لأقتلن، ولأصلبن، ثم لأصلبن؛ إني والغ دمًا، إن مر زبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى عليكم أسعاركم، والله ليصيرن القفيز في السوق غدًا بأربعة أو لأصلبنه، صلوا على نبيكم. ثم نزل. قال علي: وأخبرنا المفضل بن محمد وشيخ من بني تميم، ومسلمة بن محارب، قالوا: طلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته فخرج وكيع وهو يقول: ده درين، سعد القين: في أي يومي من الموت أفر ** أيوم لم يقدر أم يوم قدر لا خير في أحزم جياد القرع ** في أي يوم لم أرع ولم أرع والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتى أوتي بالرأس، أو يذهب برأسي مع رأس قتيبة. وجاء بخشب فقال: إن هذه الخيل لا بد لها من فرسان - يتهدد بالصلب - فقال له حضين: يا أبا مطرف، تؤتي به فاسكن وأتى حضين الأزد فقال: أحمقى أنتم! بايعناه وأعطيناه المقادة، وعرض نفسه، ثم تأخذون الرأس! أخرجوه لعنه الله من رأس! فجاءوا بالرأس فقالوا: يا أبا مطرف، إن هذا هو احتزه، فاشكمه؛ قال: نعم، فأعطاه ثلاثة آلاف، وبعث بالرأس مع سليط بن عبد الكريم الحنفي ورجال من القبائل وعليهم سلط، ولم يبعث من بني تميم أحدًا. قال: قال: أبو الذيال: كان فيمن ذهب بالرأس أنيف بن حسان أحد بني عدي. قال أبو مخنف: وفي وكيع لحيان النبطي بما كان أعطاه. قال: قال خريم بن أبي يحيى، عن أشياخ من قيس، قالوا: قال سليمان للهذيل ابن زفر حين وضع رأس قتيبة ورءوس أهل بيته بين يديه: هل ساءت هذا يا هذيل؟ قال: لو ساءني ساء قومًا كثيرًا؛ فكلمه خريم بن عمرو والقعتاع ابن خليد، فقال: ائذن في دفن رءوسهم، قال: نعم، وما أردت هذا كله. قال علي: قال أبو عبد الله السلمي، عن يزيد ني سويد، قال: قال رجل من عجم أهل خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة والله لو كان قتيبة من فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة، إلا أنه قد غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه أن اختلهم واقتلهم في الله. قال: وقال الحسن بن رشيد: قال الإصبهبذ لرجل: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب! قال: فأيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به في الأرض مكبلا بالحديد، ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. قال علي: قال المفضل بن محمد الضبي جاء رجل إلى قتيبة يوم قتل وهو جالس، فقال: اليوم يقتل ملك العرب - وكان قتيبة عندهم ملك العرب - فقال له: اجلس. قال: وقال كليب بن خلف: حدثني رجل ممن كان مع وكيع حين قتل قتيبة، قال: أمر وكيع رجلا فنادى: لا يسلبن قتيل، فمر ابن عبيد الهجري على أبي الحجر الباهلي فسلبه، فبلغ وكيعًا فضرب عنقه. قال أبو عبيدة: قال عبد الله بن عمر، من تيم اللات: ركب وكيع ذات يوم، فأتوه بسكران، فأمر به فقتل، فقيل له: ليس عليه القتل، إنما عليه الحد، قال: لا أعاقب بالسياط، ولكني أعاقب بالسيف، فقال نهار بن توسعة: وكنا نبكي من الباهلي ** فهذا الغداني شر وشر وقال أيضًا: ولما رأينا الباهلي ابن مسلم ** تجبر عمناه عضبًا مهندا وقال الفرزدق يذكر وقعة وكيع: ومنا الذي سل السيوف وشامها ** عشية باب القصر من فرغان عشية لم تمنع بنيها قبيلة ** بعز عراقي ولا بيمان عشية ما ود ابن غراء أنه ** له من سوانا إذ دعا أبوان عشية لم تستر هوازن عامر ** ولا غطفان عورة ابن دخان عشية ود الناس أنهم لنا ** عبيد إذ الجمعان يضطربان رأوا جبلا يعلو الجبال إذا التقت ** رءوس كبيريهن ينتطحان رجال على الإسلام إذ ما تجالدوا ** على الدين حتى شاع كل مكان وحتى دعا في سور كل مدينة ** مناد ينادي فوقها بأذان سيجزى وكيعًا بالجماعة إذ دعا ** إليها بسيف صارم وبنان جزاء بأعمال الرجال كما جرى ** ببدر وباليرموك فئ جنان وقال الفرزدق في ذلك أيضًا: أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ** لآل تميم أقعدت كل قائم وقال علي: أخبرنا خريم بن أبي يحيى، عن بعض عمومته قال: أخبرني شيوخ من غسان قالوا: إنا لبثنية العقاب إذ نحن برجل يشبه الفيوج معه عصًا وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان؛ قلنا: فهل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل قتيبة بن مسلم أمس، فتعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا ذلك قال: أين ترونني الليلة من إفريقية؟ ومضى واتبعناه على خيولنا، فإذا شيء يسبق الطرف. وقال الطرماح: لولا فوارس مذحج ابنه مذحج ** والأزد زعزع واستبيح العسكر وتقطعت بهم البلاد ولم يوب ** منهم إلى أهل العراق مخبر واستضلعت عقد الجماعة وازدري ** أمر الخليفة واستحل المنكر قوم هم قتلوا قتيبة عنوة ** والخيل جانحة عليها العثير بالمرج مرج الصين حيث تبينت ** مضر العراق من الأعز الأكبر! إذ حالفت جزعًا ربيعة كلها ** وتفرقت مضر ومن يتمضر وتقدمت أزد العراق ومذحج ** للموت يجمعها أبوها الأكبر قحطان تضرب رأس كل مدحج ** تحمي بصائرهن إذ لا تبصر والأزد تعلم أن تحت لوائها ** ملكًا قراسية وموت أحمر فبعزنا نصر النبي محمد ** وبنا تثبت في دمشق المنبر وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي: كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ** بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والقوم حوله ** وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه ** وراح إلى الجنات عفا مطهرا فما رزئ الإسلام بعد محمد ** بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا وقال الأصم بن الحجاج يرثي قتيبة: ألم يأن للأحياء أن يعرفوا لنا ** بلى نحن أولى الناس بالمجد والفخر نقود تميمًا والموالي ومذحجا ** وأزد وعبد القيس والحي من بكر نقتل من شئنا بعزة ملكنا ** ونجبر من شئنا على الخسف والقسر سليمان كم من عسكر قد حوت لكم ** أسنتنا والمقربات بن تجري وكم من حصون قد أبحنا منيعة ** ومن بلد سهل ومن جبل وعر ومن بلدة لم يغزها الناس قبلنا ** غزونا نقود الخيل شهرًا إلى شهر مرن على الغزو الجرور ووقرت ** على النفر حتى ما تهال من النفر وحتى لو أن النار شبت وأكرهت ** على النار خاضت في الوغى لهب الجمر تلاعب أطراف الأسنة والقنا ** بلباتها والموت في لجج خضر بهن أبحنا كل مدينة ** من الشرك حتى جاوزت مطلع الفجر ولو لم تعجلنا المنايا لجاوزت ** بنار دم ذي القرنين ذا الصخر والقطر ولكن آجالًا قضين ومدة ** تناهى إليها الطيبون بنو عمرو وفي هذه السنة عزل سليمان بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن مكة، وولاها طلحة بن داود الحضرمي. وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم الصائفة، ففتح حصنًا يقال له حصن عوف. وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي وهو أمير مصر في صفر في قول بعض أهل السير. وقال بعضهم: كان هلاك قرة في حياة الوليد في سنة خمس وتسعين في الشهر الذي هلك فيه الحجاج. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان الأمير على المدينة في هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود. ثم دخلت سنة سبع وتسعين ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث فمن ذلك ما كان من تجهيز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعماله ابنه داود بن سليمان على الصائفة، فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا - فيما ذكر الواقدي - مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. ففتح الحصن الذي كان فتحه الوضاح صاحب الوضاحية. وفيها غزا عمر بن هبيرة الفزاري في البحر أرض الروم، فشتا بها وفيها قتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بالأندلس، وقدم برأسه على سليمان حبيب بن أبي عبيد الفهري. ولاية يزيد بن المهلب على خراسان وفيها ولى سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب خراسان. ذكر الخبر عن سبب ولايته خراسان وكان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما أفضت الخلافة إليه ولى يزيد بن المهلب حرب العراق والصلاة وخراجها. فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن يزيد نظر لما ولاه سليمان ما ولاه من أمر العراق في أمر نفسه، فقال: إن العراق قد أخر بها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم عليه صرت مثل الحجاج أدخل على الناس الحرب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، ومتى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجاج لم يقبل مني فأتى يزيد سليمان فقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه، فتكون أنت تأخذه به؟ صالح بن عبد الرحمن، مولى بني تميم فقال له: قد قبلنا رأيك، فأقبل يزيد إلى العراق. وحدثني عمر بن شيبة، قال: قال علي: كان صالح قدم العراق قبل قدوم يزيد، فنزل واسطًا. قال علي: فقال عباد بن أيوب: لما قدم يزيد خرج الناي يتلقونه، فقيل لصالح: هذا يزيد، وقد خرج الناس يتلقونه، فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح، عليه دراعه ودبوسية صفراء صغيرة، بين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد فسايره فلما دخل المدينة قال له صالح: قد فرغت لك هذه الديار - فأشار له إلى دار - فنزل يزيد، ومضى صالح إلى منزله، قال: وضيق صالح على يزيد فلم يملكه شيئًا، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال له يزيد: اكتب ثمنها على، واشتري متاعًا كثيرًا، وصك صكاكًا إلى صالح لباعتها منه، فلم ينفذه، فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال هذا عملي بنفسي، فلم يلبث أن جاء صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد: ما هذه الصكاك؟ الخراج لا يقوم لها، قد أنفذت لك منذ أيام صكًا بمائة ألف، وعجلت لك أرزاقك، وسألت مالًا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء، ولا يرضى أمير المؤمنين به، وتؤخذ به! فقال له يزيد: يا أبا الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرة، وضاحكه. قال: فإني أجيزها، فلا تكثرن على، قال: لا قال علي بن محمد: حدثنا مسلمة بن محارب وأبو العلاء التيمي والطفيل بن مرداس العمى وأبو حفص الأزدي عمن حدثه عن جهم ابن زحر بن قيس، والحسن بن رشيد عن سليمان بن كثير، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، وعامر بن حفص وأبو مخنف عن عثمان ابن عمرو بن محصن الأزددي وزهير بن هنيد وغيرهم - وفي خبر بعضهم ما ليس في خبر بعض، فألفت ذلك - أن سليمان بن عبد الملك ولى يزيد ابن المهلب العراق ولم يوله خراسان، فقال سليمان بن عبد الملك لعبد الملك ابن المهلب وهو بالشام ويزيد بالعراق: كيف أنت يا عبد الملك إن وليتك خراسان؟ قال: يجدني أمير المؤمنين حيث يحب، ثم أعرض سليمان عن ذلك قال: وكتب عبد الملك بن المهلب إلى جرير بن يزيد الجهضمي وإلى رجال من خاصته: إن أمير المؤمنين عرض على ولاية خراسان فبلغ الخبر يزيد ين المهلب، وقد ضجر بالعراق، وقد ضيق عليه صالح ابن عبد الرحمن، فليس يصل معه إلى شيء، فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال: إني أريدك لأمر قد أهمني، فأحب أن تكفينيه، قال: مرني بما أحببت، قال: أنا فيما ترى من الضيق، وقد أضجرني ذلك. وخراسان شاغرة برجلها، وقد بلغني أن أمير المؤمنين ذكرها لعبد الملك بن المهلب، فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين، فإني أرجو أن آتيك بعهدك عليها، قال: فاكتم ما أخبرتك به. وكتب إلى سليمان كتابين: أحدهما يذكر له فيه أمر العراق. وأثنى فيه علي ابن الأهتم وذكر له علمه بها، ووجه ابن الأهتم وحمله على البريد، وأعطاه ثلاثين ألفًا. فسار سبعًا، فقدم بكتاب يزيد على سليمان، فدخل عليه وهو يتغذى، فجلس ناحية، فأتى بدجاجتين فأكلهما قال: فدخل ابن الأهتم فقال له سليمان: لك مجلس غير هذا تعودا إليه. ثم دعا به بعد ثالثة، فقال له سليمان: إن يزيد بن المهلب كتب إلي يذكر علمك بالعراق وبخراسان، ويثني عليك، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها؛ بها ولدت، وبها نشأت، فلي بها وبأصلها خبر وعلم. قال: ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك يشاوره في أمرها! فأشر على برجل أوليه خراسان؛ قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد يولي، فإن ذكر منهم أحدًا أخبرته برأيي فيه، هل يصلح لها أو لا؛ قال: فسمى سليمان رجلًا من قريش؛ قال: يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان، قال: فعبد الملك بن المهلب، قال: لا، حتى عدد رجالًا، فكان في آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين، وكيع رجل شجاع صارم بئيس مقدام، وليس بصاحبها مع هذا، إنه لم يقد ثلثمائة قط فرأى لأحد عليه طاعة. قال: صدقت ويحك، فمن لها! قال: رجل أعلمه لم تسمه، قال: فمن هو؟ قال لا أبوح باسمه إلا أن يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك، وأن يجيرني منه إن علم؛ قال: نعم، سمه من هو؟ قال: يزيد بن المهلب؛ قال: ذاك بالعراق، والمقام بها أحب إليه من المقام بخراسان، قال: قد علمت يا أمير المؤمنين، ولكن تكرهه على ذلك، فيستخلف على العراق رجلا ويسير؛ قال: أصبت الرأي فكتب عهد يزيد على خراسان، وكتب إليه كتابًا: إن ابن الأهتم كما ذكرت في عقله ودينه وفضله ورأيه. ودفع الكتاب وعهد يزيد إلى ابن الأهتم، فسار سبعًا، فقدم على يزيد فقال له: ما وراءك؟ قال: فأعطاه الكتاب، فقال: ويحك! أعندك خير؟ فأعطاه العهد، فأمر يزيد بالجهاز للمسير من ساعته، ودعا ابنه مخلدًا فقدمه إلى خراسان، قال: فسار من يومه، ثم سار يزيد واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على البصرة عبد الله بن هلال الكلابي، وصير مروان ابن المهلب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، ولمروان يقول أبو البهاء الإبادي: رأيت أبا قبيصة كل يوم ** على العلات أكرمهم طباعا إذا ما هم أبوا أن يستطيعوا ** جسيم الأمر يحمل ما استطاعا وإن ضاقت صدورهم بأمر ** فضلتهم بذاك ندى وباعا وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في ذلك: حدثني أبو مالك أن وكيع بن أبي سود بعث بطاعته وبرأس قتيبة إلى سليمان، فوقع ذلك من سليمان كل موقع، فجعل يزيد بن المهلب لعبد الله بن الأهتم مائة ألف على أن ينقر وكيعًا عنده، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! والله ما أحد أوجب شكرًا، ولا أعظم عندي يدًا من وكيع، لقد أدرك بثأري، وشفاني من عدوى، ولكن أمير المؤمنين أعظم وأوجب على حقًا، وإن النصيحة تلزمني لأمير المؤمنين؛ إن وكيعًا لم يجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة؛ خامل في الجماعة، نابه في الفتنة، فقال: ما هو إذًا ممن نستعين به - وكانت قيس تزعم أن قتيبة لم يخلع - فاستعمل سليمان يزيد ابن المهلب على حرب العراق، وأمره إن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع فينزع يدًا من طاعة، أن يقيد وكيعًا به. فغدر يزيد، فلم يعط عبد الله ابن الأهتم ما كان ضمن له، ووجه ابنه مخلد بن يزيد إلى وكيع، رجع الحديث إلى حديث علي. قال علي: أخبرنا أبو مخنف عن عثمان بن عمرو بن محصن، وأبو الحسن الخراساني عن الكرماني، قال: وجه يزيد ابنه مخلدًا إلى خراسان فقدم مخلد عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي، ثم الصنابحي حين دنا من مرو، فلما قدمها أرسل إلى وكيع أن القني، فأبى، فأرسل إليه عمرو، يا أعرابي أحمق جلفًا جافيًا، وتثاقل وكيع عن الخروج، فأخرجه عمرو الأزدي، فلما بلغوا مخلدًا نزل الناس كلهم غير وكيع ومحمد بن حمران السعدي وعباد بن لقيط أحد بني قيس بن ثعلبة، فأنزلوهم، فلما قدم مرو حبس وكيعًا فعذبه، وأخذ أصحابه فعذبهم قبل قدوم أبيه. قال علي عن كليب بن خلف، قال: أخبرنا إدريس بن حنظلة، قال: لما قدم مخلد خراسان حبسني، فجاءني ابن الأهتم فقال لي: أتريد أن تنجو؟ قلت: نعم، قال: أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المري إلى قتيبة في خلع سليمان، فقلت له: يا بن الأهتم، إياي تخدع عن ديني! قال: فدعا بطومار وقال: إنك أحمق، فكتب كتبًا عن لسان القعقاع ورجال من قيس إلى قتيبة، أن الوليد بن عبد الملك قد مات، وسليمان باعث هذا المزوني على خراسان فاخلعه. فقلت: يا بن الأهتم تهلك والله نفسك! والله لئن دخلت عليه لأعلمنه أنك كتبتها. وفي هذه السنة شخص يزيد بن المهلب إلى خراسان أميرًا عليها، فذكر علي بن محمد، عن أبي السري المروزي الأزدي، عن عمه، قال: ولى وكيع سنة سبع وتسعين. قال علي: فذكر المفضل بن محمد عن أبيه، قال: أدنى يزيد أهل الشام وقومًا من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة: وما كنا نؤمل من أمير ** كما كنا نؤمل من يزيد فأخطأ ظننا فيه وقدما ** زهدنا في معاشرة الزهيد إذا لم يعطنا نصفًا أمير ** مشينا نحوه مثل الأسود فمهلًا يا يزيد أنب إلينا ** ودعنا من معاشرة العبيد نجيئ فلا نرى إلا صدودا ** على أنا نسلم من بعيد ونرجع خائبين بلا نوال ** فما بال التجهم والصدود! قال علي: أخبرنا زياد بن الربيع، عن غالب القطان، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز واقفًا بعرفات من خلافة سليمان، وقد حج سليمان عامئذ وهو يقول لعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد: العجب لأمير المؤمنين، استعمل رجلا على أفضل ثغر للمسلمين! فقد بلغني عمن يقدم من التجار من ذلك الوجه أنه يعطي الجارية من جواريه مثل سهم ألف رجل. أما والله ما الله أراد بولايته - فعرفت أنه يعني يزيد والجهنية - فقلت: يشكر بلاءهم أيام الأزارقة. قال: ووصل يزيد عبد الملك بن سلام السلولي فقال: ما زال سيبك يا يزيد بحوبتي ** حتى ارتويت وجودكم لا ينكر أنت الربيع إذا تكون خصاصة ** عاش السقيم به وعاش المقتر عمت سحابته جميع بلادكم ** فرووا وأغدقهم سحاب ممطر فسقاك ربك حيث كنت مخيلةً ** ريا سحائبها تروح وتبكر وفي هذه السنة حج بالناس سليمان بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن ذكرهم، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وفيها عزل سليمان طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي مليكة. قال: لما صدر سليمان ابن عبد الملك من الحج عزل طلحة بن داود الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستتة أشهر، وولى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها إلا خراسان فإن عاملها الحرب والخراج والصلاة يزيد بن المهلب. وكان خليفته على الكوفة - فيما قيل - حرملة بن عمير اللخمي أشهرًا، ثم عزله وولاها بشير بن حسان النهدي. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر محاصرة مسلمة بن عبد الملك القسطنطينية فمن ذلك ما كان من توجيه سليمان بن عبد الملك أخاه مسلمة بن عبد الملك إلى القسطنطينية، وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه، فشتا بها وصاف. فذكر محمد بن عمر أن ثور بن يزيد حدثه عن سليمان بن موسى، قال: لما دنا مسلمة من قسطنطينية أمر كل فارس أن يحمل على عجز فرسه مديين من طعام حتى يأتي به القسطنطينية، فأمر بالطعام فألقى فيه ناحية مثل الجبال، ثم قال للمسلمين لا تأكلوا منه شيئًا، أغيروا في أرضهم، وازدرعوا وعمل بيوتًا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس، ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنه شيء، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات ثم أكلوا من الزرع، فأقلم مسلمة بالقسطنطينية قاهرًا لأهلها، معه وجوه أهل الشام: خالد بن معدان وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي، ومجاهد بن جبسر؛ حتى آتاه موت سليمان فقال القائل: تحمل مدييها ومديي مسلمة حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: فلما ولى سليمان غزا الروم فنزل دابق، وقدم مسلمة فهابه الروم، فشخص إليون من أرمينية، فقال لمسلمة: ابعث لي رجلا يكلمني، فبعث ابن هبيرة، فقال له ابن هبيرة: ما تعدون الأحمق فيكم؟ قال: الذي يملأ بطنه من كل شيء يجده، فقال له ابن هبيرة: إنا أصحاب دين، ومن ديننا طاعة أمرائنا تعجب؛ قال: صدقت كنا وأنتم نقاتل على الدين ونغضب له، فأما اليوم فإنا نقاتل على الغلبة والملك، نعطيك عن كل رأس دينارًا. فرجع ابن هبيرة إلى الروم من غده، وقال: أبا أن يرضى، أتيته وقد تغدى وملأ بطنه ونام، فانتبه وقد غلب عليه البلغم، فلم يدر ما قلت. وقالت البطارقة لإليون: إن صرفت عنا مسلمة ملكناك. فوثقوا له فأتى مسلمة فقال: قد علم القوم أنك لا تصدقهم القتال، وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، ولو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم فأحرقه، فقوى العدو وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، فكانوا على ذلك حتى مات سليمان. قال: وكان سليمان بن عبد الملك لما نزل دابق أعطى الله عهدًا ألا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى الروم القسطنطينية. قال: وهلك ملك الروم، فأتاه إليون فأخبره، وضمن له أن يدفع إليه أرض الروم، فوجه معه مسلمة حتى نزل بها، وجمع كل طعام حولها وحصر أهلها وأتاهم إليون فملكوه فكتب إلى مسلمة يخبره بالذي كان، ويسأله أن يدخل من الطعام ما يعيش به القوم، ويصدقونه بأن أمره وأمر مسلمة واحد، وأنهم في أمان من السباء والخروج من بلادهم وأن يأذن ليلة في حمل الطعام، وقد هيأ إليون السفن والرجال، فأذن له، فما بقى في تلك الحظائر إلا مالا يذكر؛ حمل في ليلة، وأصبح إليون محاربًا، وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب بها، فلقى الجند ما لم يلق جيش؛ حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وسليمان مقيم بدابق، ونزل الشتاء فلم يقدر يمدهم حتى هلك سليمان. مبايعة سليمان لابنه أيوب وليا للعهد وفي هذه السنة بايع سليمان بن عبد الملك لابنه أيوب بن سليمان وجعله ولي عهده، فحدثني عمر بن شبة، عن علي بن محمد، قال: كان عبد الملك أخذ على الوليد وسليمان أن يبايعا لابن عاتكة ولمروان بن عبد الملك من بعده، قال: فحدثني طارق بن المبارك قال: مات مروان بن عبد الملك في خلافة سليمان منصرفة من مكة، فبايع سليمان حين مات مروان لأيوب، وأمسك عن يزيد وتربص به، ورجا أن يهلك، فهلك أيوب وهو ولي عهده. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة، قال محمد بن عمر: أغارت برجان في سنة ثمان وتسعين على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة من الناس، فأمده سليمان بن عبد الملك بمسعدة - أو عمرو بن قيس - في جمع فمكرت بهم الصقالبة، ثم هزمهم الله بعد أن قتلوا شراحيل بن عبد ابن عبدة. وفي هذه السنة - فيما زعم الواقدي - غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل إنطاكية، وأصاب الوليد ناسًا من ضواحي الروم وأسر منهم بشرًا كثيرًا. غزو جرجان وطبرستان وفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان، فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن يزيد بن المهلب لما قدم خراسان أقام ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم أقبل إلى دهستان وجرجان، وبعث ابنه مخلدا على خراسان، وجاء حتى نزل بدهستان، وكان أهلها طائفة من الترك، فأقام عليها، وحاصر أهلها معه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ووجوه من أهل خراسان والري، وهو في مائة ألف مقاتل سوى الموالي والمماليك والمتطوعين، فكانوا يخرجون فيقاتلون الناس، فلا يلبثهم الناس أن يهزموهم فيدخلون حصنهم، ثم يخرجون أحياناُ فيقاتلون فيشتد قتالهم وكان جهم وجمال ابنا زحر من يزيد بمكان، وكان يكرمهما، وكان محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفى له لسان وبأس، غير أنه كان يفسد نفسه بالشراب، وكان لا يكثر غثيان يزيد وأهل بيته، وكأنه أيضًا حجزه عن ذلك ما رأى من حسن أثرهم على ابني زحر جهم وجمال. وكان إذا نادى المنادي: يا خيل الله اركبي وأبشري كان أول فارس من أهل العسكر يبدر إلى موقف البأس عند الروع محمد بن عبد الرحمن ب أبي سبرة، فنودي ذات يوم في الناس، فبدر الناس ابن أبي سبرة، فإنه لواقف على تل إذ مر به عثمان بن المفضل، فقال له: يا بن أبي سبرة، ما قدرت على أن أسبقك إلى الموقف قط، فقال: وما يغني ذلك عني، وأنتم ترشحون غلمان مذحج، وتجهلون حق ذوي الأسنان والتجارب والبلاء! فقال: أما إنك لو تريد ما قبلنا لم نعدل عنك ما أنت له أهل. قال: وخرج الناس فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فحمل محمد بن أبي سبرة على تركي قد صد الناس عنه، فاختلفا ضربتين، فثبت سيف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله، ثم أقبل وسيفه في يده يقطر دمًا، وسيف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه من فارس، ونظر يزيد إلى ائتلاق السيفين والبيضة والسلاح فقال: من هذا؟ فقالوا: ابن أبي سبرة، فقال: لله أبوه! أي رجل هو لولا إسرافه على نفسه! وخرج يزيد بعد ذلك يومًا وهو يرتاد مكانًا يدخل منه على القوم، فلم يشعر بشيء حتى هجم عليه جماعة من الترك - وكان معه وجوه الناس وفرسانهم، وكان في نحو من أربعمائة، والعدو في نحو من أربعة آلاف فقاتلهم ساعة، ثم قالوا ليزيد: أيها الأمير، انصرف ونحن نقاتل عنك، فأبى أن يفعل، وعشي القتال يومئذ بنفسه، وكان كأحدهم، وقاتل ابن أبي سبرة وابنا زحر والحجاج بن جارية الخثعمي وجل أصحابه فأحسنوا القتال، حتى إذا أرادوا الانصراف جعل الحجاج بن جارية عن الساقة، فكان يقاتل من وراءه حتى انتهى إلى الماء، وقد كانوا عطشوا فشربوا، وانصرف عنهم العدو، ولم يظفروا منهم بشيء، فقال سفيان ابن صفوان الخثعمي: لولا ابن جارية الأغر جبينة ** لسقيت كأسًا مرة المتجرع وحماك في فرسانه وخيوله ** حتى وردت الماء غير متعتع ثم إنه ألح عليها وأنزل الجنود من كل جانب حولها، وقطع عنهم المواد، فلما جهدوا، وعجزوا عن قتال المسلمين، واشتد عليهم الحصار والبلاء. وبعث صول دهقان إلى يزيد: أني أصالحك على أن تؤمنني على نفسي وأهل بيتي ومالي، وأدفع إليك المدينة وما فيها وأهلها. فصالحه، وقبل منه، ووفى له، ودخل المدينة فأخذ ما كان فيها من الموال والكنوز ومن السبي شيئًا لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرًا، وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد الملك. ثم خرج حتى أتى جرجان، وقد كانوا يصالحون أهل الكوفة على مائة ألف، ومائتي ألف أحيانًا، وثلثمائة ألف، وصالحوا عليها، فلما أتاهم يزيد استقبلوه بالصلح، وهابوه وزادوه. واستخلف عليهم رجالًا من الأزد يقال له: أسد بن عبد الله، ودخل يزيد إلى الإصبهبذ في طبرستان فكان معه الفعلة يقطعون الشجر، ويصلحون الطرق، حتى انتهوا إليه، فنزل به فحصره وغلب على أرضه، وأخذ الإصهبذ يعرض على يزيد الصلح ويريده على ما كان يؤخذ منه، فيأبى رجالًا افتتاحها. فبعث ذات يوم أخاه أبا عيينة في أهل المصرين، فأصعد في الجبل إليهم، وقذ بعث الإصبهبذ إلى الديلم، فاستجاش بهم، فاقتتلوا. فحازهم المسلمون ساعة وكشفوهم، وخرج رأس الديلم يسأل المبارزة، فخرج إليه ابن أبي سبرة فقتله، فكانت هزيمتهم حتى انتهى المسلمون إلى فم الشعب؛ فذهبوا ليصعدوا فيه، وأشرف عليهم العدو يرشقونه بالنشاب، يرمونه بالحجارة، فانهزم الناس من فم الشعب من غير كبير قتال ولا قوة من عدوهم على إتباعهم وطلبهم، وأقبلوا يركب بعضهم بعضًا، حتى أخذوا يتساقطون في اللهوب، ويتدهدى الرجل من رأس الجبل حتى نزلوا إلى عسكر يزيد لا يعبئون بالشر شيئًا. وأقام يزيد بمكانه على حاله، وأقبل الإصبهبذ يكاتب أهل جرجان ويسألهم أن يثبوا بأصحاب يزيد، وأن يقطعوا عليه مادته والطرق فيما بينه وبين العرب، ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فوثبوا بمن كان يزيد خلف من المسلمين، فقتلوا منهم من قدروا عليه، واجتمع بقيتهم فتحصنوا من جانب، فلم يزالوا فيه حتى خرج إليهم يزيد، وأقام يزيد على الإصبهبذ في أرضه حتى صالحه سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف نقدًا ومائتي ألف وأربعمائة حمار موقرة زعفرانًا، وأربعمائة رجل، على رأس كل رجل برنس، على البرنس طيلسان ولجام من فضة وسرقة من حرير، وقد كانوا صالحوا قبل ذلك على مائتي ألف درهم، ثم خرج منها يزيد وأصحابه كأنهم فل، ولولا ما صنع أهل جرجان لم يخرج من طبرستان حتى يفتحها. وزاما غير أبي مخنف، قال في أمر يزيد وأمر أهل جرجان ما حدثني أحمد بن زهير، علي بن محمد، عن كليب بن خلف وغيره؛ أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجران، ثم امتنعوا وكفروا، فلم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته أحد إلا وعلى وجل وخوف من أهل جرجان؛ كان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان، فأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. ثم غزا مصقلة خراسان أيام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب وجنده بالرويان، وهي متاخمة طبرستان فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدو عليهم بضايقه، فقتلوا جميعًا، فهو يسمي وادي مصقلة. قال: وكان يضرب به المثل؛ حتى يرجع مصقلة من طبرستان، قال علي، عن كليب بن خلف العمي، عن طفيل بن مرداس العمي وإدريس بن حنظلة: إن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، فكانوا يجيئون أحيانًا مائة ألف، ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانًا مائتي ألف، وأحيانًا ثلثمائة ألف؛ وكانوا ربما أعطوا ذلك، وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجًا، حتى أتاهم يزيد بن المهلب فلم يعازه أحد حين قدمها، فلما صالح صول وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد بن العاص. حدثني أحمد، عن علي، عن كليب بن خلف العمي، عن طفيل بن مرداس، وبشر بن عيسى عن أبي صفوان، قال علي: وحدثني أبة حفص الأردي عن سليمان بن كثير، وغيرهم؛ أن صولًا التركي كان ينزل دهستان والبحيرة - جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم - فكان صول يغير على فيروز بن قول، مرزبان جرجان، وبينهم خمسة وعشرون فرسخًا، فيصيب من أطرافهم ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان، فوقع بين فيروز وبين ابن عم له يقال له المرزبان منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل البياسان فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلب بخراسان، وأخذ صول جرجان، فلما قدم على يزيد بن المهلب قال له: ما أقدمك؟ قال: خفت صولًا، فهربت منه، قال له يزيد: هل من حيلة لقتاله؟ قال: نعم، شيئ واحد، إن ظفرت به قتلته، او أعطي بيده، قال: ماهو؟ قال: إن خرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، ثم أتيته ثم فحاصرته بها ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابًا تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل له على ذلك جعلًا، ومنه، فإنه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه لأنه يعظمه، فيتحول عن جرجان، فينزل البحيرة. فكتب يزيد بن المهلب إلى صاحب طبرستان: إني أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت أن بلغه أني أريد ذلك أن يتحول إلى البحيرة فينزلها، فإن تحول إليها لم أقدر عليه؛ وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان فلم يأت البحيرة حملت إليك خمسين ألف مثقال؛ فاحتل له حيلة؛ تحبسه بجرجان، فإنه إن أقام بها ظفرت به. فلما رأى الإصبهبذ الكتاب أراد أن يتقرب إلى صول، فبعث بالكتاب إليه، فلنا أتاه الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة وحمل الأطعمة ليتحصن فيها. وبلغ يزيد أنه قد سار من جرجان إلى البحيرة، فاعتزم على السير إلى الجرجان، فخرج في ثلاثين ألفًا، ومعه فيروز ابن قول، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، واستخلف على سمرقند وكس ونسف وبخارى ابنه معاوية بن يزيد، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب، وأقبل حتى أتى جرجان - ولم تكن يومئذ مدينة غنما هي جبال محيطة بها، وأبواب ومخارم، يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد - فدخلها يزيد لم يعازه أحد، وأصاب أموالًا، وهرب المرزبان، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، فأناخ على الوصول، وتمثل حين نزل بهم: فخر السيف وارتعشت يداه ** وكان بنفسه وقيت نفوس قال: فحاصرهم، فكان يخرج إليه صول في الأيام فيقاله ثم يرجع إلى حصنه، ومع يزيد أهل الكوفة وأهل البصرة. ثم ذكر من فصة جهم ابن زحر وأخيه محمد نحوًا مما ذكره هشام، غير أنه قال في ضربة التركي ابن أبي سبرة: فنشب سيف التركي في درقة ابن أبي سبرة. قال علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن عنبسة، قال: قاتل محمد بن أبي سبرة الترك بجرجان فأحاطوا به واعتوروه بأسيافهم، فانقطع في يده ثلاث أسياف. ثم رجع إلى حديثهم؛ قال: فمكثوا بذلك - يعني الترك - محصورين يخرجون فيقاتلون، ثم يرجعون إلى حصنهم ستة شهر، حتى شربوا ماء الأحساء، فأصابهم داء يسمى السؤاد، فوقع فيهم الموت، وأرسل صول في ذلك يطلب الصلح، فقال يزيد بن المهلب: لا، إلا أن ينزل على حكمي، فأبى فأرسل إليه: إني أصالحك على نفسي ومالي وثلثمائة من أهل بيتي وخاصتي، على أن تؤمنني فننزل البحيرة، فأجابه إلى ذاك يزيد، فخرج بماله وثلثمائة ممن أحب، وصار مع يزيد، فقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفًا صبرًا، ومن على الآخرين فلم يقتل منهم أحدًا. وقال الجند ليزيد: أعطنا أرزاقنا، فدعا إدريس بن حنظلة العمي، فقال: يل بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند، فدخلها إدريس، فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد: فيها مالا أستطيع إحصاءه، وهو في ظروف، فنحصي الجواليق ونعلم ما فيها، ونقول للجند: ادخلوا فخذوا، فمن أخذ شيئًا عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل. قال: نعم ما رأيت، فأحصوا الجواليق عددًا، وعلموا كل الجواليق ما فيه، وقالوا للجند: خذوا، فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابًا أو طعامًا أو ما حمل من شيء فيكتب على كل رجل ما أخذ، فأخذوا شيئًا كثيرًا. قال علي: قال أبو بكر الهذلي: كان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها، فدعا يزيد الذي رفع عليه فشتمه؛ وقال لشهر: هي لك، قال: لا حاجة لي فيها، فقال الطامي الكلبي - ويقال: سنان بن مكمل النميري: لقد باع شهر دينه بخريطة ** فمن يأمن القراء بعدك يا شهرًا؟! أخذت به شيئًا طفيفًا وبعته ** من ابن جونبوذ إن هذا هو الغدر وقال مرة النخعي لشهر: يا بن المهلب ما أردت إلى امرئ ** لولاك كان كصالح القراء قال علي: قال أبو محمد الثقفي: أصاب يزيد بن المهلب تاجًا بجرجان فيه جوهر، فقال: أترون أحدًا يزهد في هذا التاج؟ قالوا: لا، فدعا محمد بن واسع الأزدي، فقال: خذ هذا التاج فهو لك؛ فقال: لا حاجة لي فيه، قال: عزمت عليك، فأخذه، وخرج فأمر يزيد رجلًا ينظر ما يصنع به، فلقي سائلًا فدفعه إليه، فأخذ الرجل السائل، فاتى به يزيد وأخبره الخبر، فأخذ يزيد التاج، وعوض السائل مالًا كثيرًا. قال علي: وكان سليمان بن عبد الملك كلما افتتح قتيبة فتحًا قال ليزيد بن المهلب: أما ترى ما يصنع الله على يدي قتيبة؟ فيقول ابن المهلب: ما فعلت جرجان التي حالت بين الناس وبين الطريق الأعظم، وأفسدت قومس وأبرشهر! ويقول: هذه الفتوح ليست بشيء، الشأن في جرجان. فلما ولي يزيد بن المهلب لم يكن له همة غير جرجان. قال: ويقال: كان يزيد بن المهلب في عشرين ومائة ألف، معه أهل الشام ستون ألفًا. قال علي في حديثه، عمن ذكر خبر جرجان عمنهم: وزاد فيه على ابن مجاهد، عن خالد بن صبيح أن يزيد بن المهلب لما صالح صولا طمع في طبرستان أن يفتحها، فاعتزم على أن يسير إليها، استعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على البياسان ودهستان، واستعمل على أندرستان أسد ابن عمرو - او ابن عبد الله بن الربعة - وهي مما يلي طبرستان، وخلفه في أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فأرسل إليه يسأله الصالح، وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد ورجا أن يفتحها، فوجهأخاه أبا عيينة من وجه، وخالد بن يزيد من وجه، وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة. وقال يزيد لأبي عيينة: شاور هريمًا فإنه ناصح. وأقام يزيد معسكرًا. قال: واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان وأهل الديل، فأتوه فالتقوا في سند جب، فانهزم المشركون، وأتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب فدخله المسلمون، فصعد المشركون في الجبل، وأتبعهم المسلمون، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضًا يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف العدو عن اتباعهم، وخافهم الإصبهبذ، فكتب إلى المرزبان ابن عم فيروز بن قول وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان: إنا قد قتلنا يزيد وأصجابه فاقتل ممن في البياسان من العرب. فخرج على أهل البياسان والمسلمون غارون في منازلهم، قد أجمعوا على قتلهم، فقتلوا جميعًا في ليلة، فأصبح عبد الله بن المعمر مقتولًا وأربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحد، وقتل من بني العم خمسين رجلًا؛ قتل الحسين بن عبد الرحمن وإسماعيل ابن إبراهيم بن شماس. وكتب إلى الأصبهبذ يأخذ بالمضايق والطرق. وبلغ يزيد قتل عبد الله بن المعمر وأصحابه، فأعظموا ذلك، وهالهم، ففزع يزيد إلى حيان النبطي. وقال: ر يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين، قد جاءنا عن جرجان ما جاءنا، وقد أخذ هذا بالطريق، فأعمل في الصلح؛ قال: نعم، فأتى حيان الإصبهبذ فقال: أنا رجل منكم، وإن كان الدين قد فرق بيني وبينكم، فإني لكم ناصح، وأنت أحب إلي من يزيد، وقد بعث يستمد، وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفًا، وليس آمن أن يأتيك ما لا تقوم له، فأرح نفسك منه، وصالحه فإنك إن صالحته صيره حده على أهل جرجان، بغدرهم وقتلهم من قتلوا، فصالحه على سبعمائة ألف - وقال علي بن مجاهد: على خمسمائة ألف - وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل برنس وطيلسان، ومع كل رجل جام فضة وسرقة خز وكسوة. ثم رجع إلى يزيد بن المهلب فقال: ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه، قال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم. وكان يزيد قد طابت نفسه على أن يعطيهم ما سألوا، ويرجع إلى جرجان فأرسل يزيد من يحمل ما صالحهم عليه حيان، وانصرف إلى جرجان، وكان يزيد قد غرم حياناُ مائتي ألف، فخاف ألا يناصحه. والسبب الذي له أغرم حيان فيه ما حدثني علي بن مجاهد، عن خالد بن صبيح، قال: كنت مؤدبًا لولد حيان، فدعاني فقال لي: اكتب كتابًا إلى مخلد بن يزيد - ومخلد يومئذ ببلخ، ويزيد بمرو - فتناولت القرطاس، فقال: اكتب: من حيان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد، فغمرني مقاتل ابن حيان ألا تكتب، وأقبل على أبيه فقال: يا أبت تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك! قال: نعم يا بني، فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة. ثم قال لي: اكتب، فكتبت، فبعث مخلد بكتابه إلى أبيه، فأغرم يزيد حيان مائتي ألف درهم. فتح جرجان وفي هذه السنة فتح يزيد جرجان الفتح الآخر بعد غدرهم بجنده ونقضهم العهد، قال علي، عن الرهط الذين ذكر أنهم حدثوه بخبر جرجان وطبرستان: ثم إن يزيد لما صالح أهل طبرستان قصد لجرجان، فأعطى الله عهدًا؛ لئن ظفر بهم ألا يقلع عنهم، ولا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم، ويختبز من ذلك الطحين، ويأكل منه، فلما بلغ المزربان أنه قد صالح الإصبهبذ وتوجه إلى جرجان، جمع أصحابه وأتى وجاه، فتحصن فيها، وصاحبها لا يحتاج إلى عدة من طعام ولا شراب. وأقبل يزيد حتى نزل عليها وهم متحصنون فيها. وحولها غياض فليس يعرف لها إلا طريق واحد، فأقام بذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لهم مأتى إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون في الأيام فيقاتلونه ويرجعون إلى حصنهم، فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان كان مع يزيد يتصيد ومعه شاكرية له. وقال هشام بن محمد، عن أبي مخنف: فخرج رجل من عسكره من طيئ يتصيد، فأبصر وعلًا يرقى في الجبل، فأتبعه، وقال لمن معه: قفوا مكانكم، ووقل في الجبل يقتص الأثر، فما شعر بشيء حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد أصحابه، فخاف ألا يهتدي، فجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، حتى وصل إلى أصحابه، ثم رجع إلى العسكر. ويقال: إن الذي كان يتصيد الهياج بن عبد الرحمن الأزدي من أهل طوس، وكان منهومًا بالصيد، فلما رجع إلى العسكر أتى عامر بن أيم الواشجي صاحب شرطة يزيد، فمنعوه من الدخول، فصاح: إن عندي نصيحة. وقال هشام عن أبي مخنف: جاء حتى رفع ذلك إلى ابني زحر بن قيس، فانطلق به ابنا زحر حتى أدخلاه على يزيد، فأعلمه، فضمن له بضمان الجهنية - أم ولد كانت ليزيد - على شيء قد سماه. وقال علي بن محمد في حديثه عن أصحابه: فدعا به يزيد فقال: ما عندك؟ قال: أتريد أن تدخل وجاه بغير قتال؟ قال: نعم، قال: جعالتي؟ قال: احتكم، قال: أربعة آلاف؛ قال: لد دية، قال: عجلوا لي أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الإحسان. فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب أف وأربعمائة، فقال: الطريق لا يحمل هذه الجماعة لالتفاف الغياض، فاختار منهم ثلثمائة، فوجههم، واستعمل عليهم جهم بن زحر. وقال بعضهم: استمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وقال له: أن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي منهزمًا، وضم إليه جهم بن زحر، وقال يزيد للرجل الذي ندب الناس معه: متى تصل إليهم؟ قال: غدًا عند العصر فيما بين الصلاتين، قال: امضوا على بركة الله؛ فإني سأجهد على مناهضتهم غدًا عند صلاة الظهر. فساروا، فلما قارب انتصاف النهار من غد أمر يزيد الناس أن يشعلوا النار في حطب كان جمعه في حصارهم إياهم، فصيره آكامًا، فأضرموه نارًا؛ فلم تزل الشمس حتى صار عسكره أمثال الجبال من النيران، ونظر العدو إلى النار، فهالهم ما رأوا من كثرتها، فخرجوا إليهم. وأمر يزيد الناس حين زالت الشمس فصلوا، فجمعوا بين الصلاتين، ثم زحفوا إليهم فاقتتلوا، وسار الآخرون بقية يومهم والغد، فهجموا على عسكر الترك قبيل العص ر، وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتل في هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقعوا جميعًا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم، وقتل مقاتليهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفًا إلى الأندرهز - وادي جرجان - وقال: من طلبهم بثأر فليقتل، فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة في الوادي، وأجرى الماء في الوادي على الدم، وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم، ولتبر يمينه، فطحن واختبز وأكل وبنى مدينة جرجان. وقال بعضهم: قتل يزيد من أهل جرجان أربعين ألفًا، ولم تكن من قبل ذلك مدينة ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي. واما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أنه قال: دعا يزيد جهم ابن زحر فبعث معه أربعمائة رجل حتى أخذوا في المكان الذي دلوا عليه وقد أمرهم يزيد فقال: إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا، حتى إذا كان في السحر فكبروا، ثم انطلقوا نحو باب المدينة، فإنكم تجدوني وقد نهضت بجميع الناس إلى بابها؛ فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى إذا كانت الساعة التي أمره ينهض فيها مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدًا إلا قتله. وكبر، ففزع أهل المدينة فزعًا لم يدخلهم مثله قط فيما مضى، فلم يرعهم إلا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبرون فدهشوا، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأقبلوا لا يدرون أين يتوجهون! غير أن عصابة منهم ليسوا بالكثير قد أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة، فدقت يد جهم، وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبثوا أن قتلوهم إلا قليلًا. سمع يزيد بن المهلب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدوهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع عنه كبير دفع، ففتح الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع كبير دفع، ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجذوع فرسخين عن يمين الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها، وأصاب ما كان فيها. قال علي في حديثه، عن شيخوخة، الذين قد ذكرت أسمائهم قبل. وكتب يزيد إلى سليمان بن عبد الملك: أما بعد، فإن الله قد فتح لأمير المؤمنين فتحًا عظيمًا، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه، أظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسى بن قباذ وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان ومن بعدهما من خلفاء الله، حتى فتح الله ذلك لأمير المؤمنين؛ كرامة من الله له، وزيادة في نعمه عليه. وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفئ والغنيمة ستة آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله. فقال له كاتبة بن المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تكتب بسمية مال، فأنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وأما سخت نفسه لك به فسوغكه فتكلفت الهدية فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقبله، فكان بك قد استغرقت ماسميت لم يقع منه موقعًا، ويبق المال الذي سميت مخلدًا عندهم عليك في دواوينهم، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالفتح، سله القدوم فتشافهه بما أحببت مشافهة، ولا تقصر، فإنك أن تقصر عما أحببت أحرى من أن تكثر. فأبى يزيد وأمضى. وقال: بعضهم كان في الكتاب أربعة آلاف ألف. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك، فحدثت عن علي بن محمد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن شيخ من أهل الري أدرك يزيد، قال: أتى يزيد بن المهلب الري حين فرغ من جرجان، فبلغه وفاة أيوب بن سليمان وهو يسير في باغ أبي صالح على باب الري، فارتجز راجز بين يديه فقال: إن يك أيوب مضى لشأنه ** فإن داوود لفي مكانه يقيم ما قد زال من سلطانه وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة. وفيها غزا داوود بن سليمان بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصن المرأة مما يلي ملطية. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وهو يومئذ أمير على مكة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عليها سنة سبع، وقد ذكرناهم قبل، غير أن عامل يزيد بن المهلب على البصرة في هذه السنة كان - فيما قيل - سفيان بن عبد الله الكندي. ثم دخلت سنة تسع وتسعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث وفاة سليمان بن عبد الملك فمن ذلك وفاة سليمان بن عبد الملك، توفي - فيما حدثت عن هشام. عن أبي مخنف - بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر، فكانت ولايته سنتين لعشر أشهر إلا خمسة أيام. وقد قيل: توفي لعشر ليال مضين من صفر. وقيل: كانت خلافته سنتين وسبعة أشهر وقيل: سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد حدث الحسن بن حماد، عن طلحة أبي محمد، عن أشياخه، أنهم قالوا: استخلف سليمان بن عبد الملك بعد الوليد ثلاث سنين. وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر. ذكر الخبر عن بعض سيره حدثت عن علي بن محمد، قال: كان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخير، ذهب عنهم الحجاج، فولى سليمان، فأطلق الأسارى، وخلى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز، فقال ابن بيض: حاز الخلافة والداك كلاهما ** من بين سخطة ساخط او طائع أبواك ثم أخوك أصبح ثالثًا ** وعلى جبينك نور ملك الرابع وقال علي: قا المضل بن المهلب: دخلت على سليمان بدابق يوم جمعة، فدعا بثياب فلبسها، فلم تعجبه، فدعا، بغيرها بثياب خضر سوسية بعث بها يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم وقال: يا بن المهلب أعجبتك؟ قلت: نعم، فحسر عن ذراعيه ثم قال: أنا الملك الفتى، فصلى الجمعة، ثم لم يجمع بعدها، وكتب وصيته، ودعا ابن أبي نعيم صاحب الخاتم فختمه. قال علي: قال بعض أهل العلم: إن سليمان لبس يومًا حلة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرأة فقال: أنا الملك الفتي، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعًا قال علي: وحدثنا سحيم بن حفص، قال: نظرت إلى سليمان جارية له يوم، فقال: ما تنظرين؟ فقالت: أنت خير المتاع لو كنت تبقى ** غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما علمته فيك عيب ** كان في الناس غير أنك فان فنفض عمامته. قال علي: كان قاضي سليمان سليمان بن حبيب المحاربي، وكان ابن أبي عيينة يقص عنده. وحدثت عن أبي عبيدة، رؤبة بن العجاج، قال: حج سليمان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، وحجت معهم، فلما كان بالمدينة راجعًا تلقوه بنحو من أربعمائة أسير من الروم، فقعد سليمان، وأقربهم منه مجلسًا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، فقدم بطريقهم فقال: يا عبد الله، اضرب عنقه، فقام فما أعطاه أحد سيفًا حتى دفع إليه حرسي سيفه فضربه فأبان الرأس، وأطن الساعد وبعض الغل فقال سليمان: أما والله ما من جودة السيف جادت الضربة، ولكن لحسبه، وجعل يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفًا في قراب أبيض، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسي فلم يجد سيفًا، فدسوا له سيفًا ددانا مثنيًا لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئًا فضحك سليمان والقوم، وشمت بالفرزدق بنو عبس أخوال سليمان، فألقى السيف وأنشأ يقول، ويعتذر إلى سليمان، ويأتسى بنبو سيف ورقاء عن رأس خالد: إن يك سيف خان أو قدر أتى ** بتأخير نفس حتفها غير شاهد فسيف بني عبس وقد ضربوا به ** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ** وتقطع أحيانًا مناط القلائد وورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر بن كلاب، وخالد مكب على أبيه زهير، قد ضربه بالسيف وصرعه، فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدًا، فلم يسمع شيئًا، فقال ورقاء ابن زهير: رأيت زهيرًا تحت كلكل خالد ** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر فشلت يميني يوم أضرب خالدًا ** ويحصنه مني الحديد المظاهر وقال الفرزدق في مقامه ذلك: أيعجب الناي أن أضحكت خيرهم ** خليفة الله يستسقى به المطر فما نبا السيف عن جبن ولا دهش ** عند الإمام ولكن آخر القدر ولو ضربت على عمرو مقلده ** لخر جثمانه ما فوقه شعر وما يعجل نفسًا قبل ميتتها ** جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر وقال جرير في ذلك: بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ** ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم ضربت به عند الإمام فأرعشت ** يداك، وقالوا محدث غير صارم حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي خالد: حدثني سليمان قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عيينة، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد العزيز بن الضحاك بن قيس، قال: شهد سليمان بن عبد الملك جنازة بدابق، فدفنت فيه حقل، فجعل سليمان يأخذ من تلك التربة فيقول: ما أحسن هذه التربة! ما أطيبها! فما أتى عليه جمعة - أو كما قال - حتى دفن إلى جنب ذلك القبر. خلافة عمر بن عبد العزيز وفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم. ذكر الخبر عن سبب استخلاف سليمان إياه حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد ابن عمر، قال: حدثني الهيثم بن واقد، قال: استخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر مضين من صفر سنة تسع وتسعين. قال محمد بن عمر: حدثني داود بن خالد بن دينار، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة، يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثيابًا خضرًا من خز، ونظر في المرأة فقال: أنا والله الملك الشاب. فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة. فلم يرجع حتى وعك. فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام ولم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين! إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر فيه. ولم أعزم عليه؛ قال: فمكث يومًا أو يومين ثم خرقه، فدعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أو ميت! فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك يا أمير المؤمنين، وأنا أريد أنظر من يذكر، قال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله خيرًا فاضل مسلمًا؛ فقال: هو والله على ذلك ثم قال: والله لئن وليته ولم أول أحدًا سواه لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك غائب عن الموسم، قال: فيزيد ابن عبد الملك أجعله بعده. فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به؛ قلت: رأيك. قال: فكتب. بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك؛ فاسمعوا له وأطيعوه، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب شرطه فقال: مر أهل بيتي فليجتمعوا؛ فأرسل كعب إليهم أن يجتمعوا فاجتمعوا، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتمعاعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي، وأمرهم فليبايعوا من وليت فيه؛ ففعل رجاء، فلما قال رجاء ذلك لهم قالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم؛ فدخلوا فقال لهم سليمان في هذا الكتاب - وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إليه في يد رجاء ابن حيوة - عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب، فبايعوه رجلا رجلا، ثم خرج بالكتاب محتومًا في يد رجاء بن حيوة. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئًا من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الأن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة! قال رجاء لا والله ما أنا بمخبرك حرفًا؛ قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: لقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة، وعندي شكر فأعلمني هذا الأمر، فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، فأعلمني فلك الله على ألا أذكر من ذلك شيئًا أبدا قال رجاء: فأبيت فقلت: والله لا أخبرك حرفًا واحدًا مما أسر إلي. قال: فانصرف هشام وهو قد يئس، ويضرب بإحدى يديه على الأخرة وهو يقول: فإلى من إذًا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال: رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة، فجعل يقول حين يفيق: لم يأن لي ذلك بعد يا رجاء ففعلت ذلك مرتين، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئًا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال: فحرفته ومات؛ فلما غمضته سجيته بقطيفة خضراء، وأغلقت الباب. وأرسلت إلى زوجته تقول: كيف أصبح؟ فقلت: نائم، وقد تغطى، فنظر الرسول إليه مغطى بالقطيفة فرجع فأخبرها فقبلت ذلك، وظنت أنه نائم، قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به، وأوصيته ألا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن حامد العبسي فجمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، فقالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا عهد أمير المؤمنين، فبايعوا على ما أمر به ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية؛ رجلا رجلا. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون قرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبدًا، قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبع عمر بن عبد العزيز فأجلسته لما وقع فيه وهشام يسترجع على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! حين صارت إلى لكراهته إياها والآخر يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، حيث نحيت عني. قال: وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز؛ قال رجاء: فلما فرغ من دفنه أتى بمراكب خلافة: البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس. فقال: ما هذا! قالوا: مركب الخلافة، قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته. قال: فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائرًا، فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه بعد؛ قال: رجاء فلما كان المساء من ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادعو لي كاتبًا، فدعوته وقد رأيت منه كل ما سرني، صنع في المراكب ما صنع، وفي منزل سليمان؛ فقلت: كيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيصنع نسخًا أم ماذا؟ فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابًا واحدًا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب أن ينسخ إلى كل بلد. وبلغ عبد العزيز بن الوليد - وكان غائبًا - موت سليمان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعة الناس عمر بن عبد العزيز، وعهد سليمان إلى عمر، فقعد لواء، ودعا إلى نفسه فبلغته بيعة الناس عمر بعهد سليمان، فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: قد بلغني أنك كنت بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذاك، وذلك أنه بلغني أن الخليفة سليمان لم يكن عقد لأحد، فخفت على الأموال أن تنهك، فقال عمر: لو بويعت وقمت بالأمر ما نازعتك ذلك، ولقعدت في بيتي، فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولى هذا الأمر غيرك. وبايع عمر بن عبد العزيز. قال: فكان برجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده. وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا عتاقًا وطعامًا كثيرًا، وحث الناس على معونتهم، وكان الذي وجه إليه الخيل العتاق - فيما قيل - خمسمائة فرس. وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان، فقتلوا من المسلمين جماعة، ونالوا منهم، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة بخمسين أسيرًا. وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق، ووجه على البصرة وأرضها عدي بن أرطاة الفزازي، وبعث على الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن يزيد بن الخطاب الأعرج القرشي، من بني عدي بن كعب، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن عمرو بن خزم، وكان عامل عمر على المدينة. وكان عامل عمر على مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطاة وعلى خراسان الجراح بن عبد الله. وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني، وقد ولى فيما ذكر قبله الحسن بن أبي الحسن، فشكا، فاستقصى إياس بن معاوية. وكان على قضاء الكوفة - في هذه السنة فيما قيل - عامر الشعبي. وكان الواقدي يقول: كان الشعبي على قضاء الكوفة أيام عمر بن عبد العزيز من قبل عبد الحميد بن عبد الرحمن، والحسن بن أبي الحسن البصري على قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطاة، ثم إن الحسن استعفى من القضاء عديًا، فأعفاه وولى إياسًا. ثم دخلت سنة مائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك خروج الخارجة التي خرجت على عمر بن عبد العزيز بالعراق. ذكر محمد بن عمر أن ابن أبي الزناد حدثه، قال: خرجت حرورية بالعراق، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ. فلما أعذر في دعائهم بعث إليهم عبد الحميد جيشًا فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم. فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم. خبر خروج شوذب الخارجي وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب - واسمه بسطام من بني يشكر - فكان مخرجه بجوخي في ثمانين فارسًا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد؛ ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دمًا، أو يفسدوا في الأرض فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلًا صليبًا حازمًا فوجهه إليهم، ووجه معه جندًا، وأوصه بما أمرتك به. فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم عليه محمد بن جرير. فقام بإزائه لا يحركه ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: إنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا. فلم يحرك بسطام شيئًا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك - قال أبو عبيدة: أحد الرجلين اللذين بعثهما شوثب إلى عمر ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر - قال: فيقال: أرسل نفرًا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين؛ فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري؛ قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من اتمنك! قال: فقال: أنظراني ثلاثًا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سمًا، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثًا حتى مات. وفي هذه السنة أغزا عمر بن عبد العزيز الوليد بن هاشم المعيطي وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة. وفيها شخص عمر بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا لعمر عليها. خبر القبض على يزيد بن المهلب وفي هذه السنة حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف وصل إليه حتى استوثق منه اختلف أهل السير في ذلك فأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أن عمر بن عبد العزيز لما جاء يزيد بن المهلب فنزل واسطًا، ثم ركب السفن يريد البصرة، بعث عدي بن أرطاة إلى البصرة أميرًا، فبعث عدي موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، جسر البصرة فأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فقدم به عليه موسى ابن الوجيه، فدعا به عمر بن عبد العزيز - وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم، وكان يزيد بن المهلب يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائيًا، فلما ولى عمر عرف يزيد أن عمر كان من الرياء بعيدًا. ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك، فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبعث إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ولا يمر بكورة إلا أعطاهم فيها أموالا عظامًا. ثم خرج حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ! أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل، فقال عمر: لا. إلا أن تحمل جميع ما نسأله إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينه فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه. فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال. فلما خرج مخلد قال: هذا خير عندي من أبيه، فلم يلبث مخلد إلا قليلا حتى مات، فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئًا ألبسه جبة من صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أخرج فمر به على الناس أخذ يقول: مالي عشيرة، مالي يذهب بي إلى دهلك! إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الخارب سبحان الله! أما لي عشيرة! فدخل على عمر سلامة بن نعيم الخولاني، فقال: يا أمير المؤمنين، أردد يزيد إلى محبسه؛ فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه؛ فإني قد رأيت قومه غضبوا له. فرده إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر. وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي ابن أرطاة يأمره بتوجيه يزيد بن المهلب، ودفعه إلى من بعين التمر من الجند، فوجهه عدي بن أرطاة مع وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدًا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان، عرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع فانتضى سيفه، وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد ابن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضرين عنقه إن لم يتفرقوا فناداهم يزيد بن المهلب، فأعلمهم يمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر، ورجع وكيع إلى عدي بن أرطاة، ومضى الجند الذين بعين التمر بيزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز فحبسه في السجن. عزل جراح بن عبد الله عن خراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله عن خراسان، وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، فكانت ولاية الجراح بخراسان سنة وخمسة أشهر، قدمها سنة تسع وتسعين وخرج منها لأيام لقيت من شهر رمضان من سنة مائة. ذكر سبب عزل عمر إياه وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد عن كليب بن خلف، عن إدريس بن حنظلة، والمفضل عن جده، وعلي بن مجاهد عن خالد ابن عبد العزيز؛ أن يزيد بن المهلب ولى جهم بن زحر جرجان حين شخص عنها، فلما كان من أمر يزيد ما كان وجه عامل العراق من العراق واليًا على جرجان، فقدم الوالي عليها من العراق، فأخذه جهم فقيده وقيد رهطًا قدموا معه، ثم خرج في خمسين من اليمن يريد الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، فقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا، فقال له جهم: ولو لا أنك ابن عمي لم آتك - وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنة حصين بن الحارث وابن عمه، لئن الحكم وجعفي ابن سعد - فقال له الجراح خالفة إمامك، وخرجت عاصيًا، فاغزو لعلك أن تظفر، فيصلح أمرك عند خليفتك. فوجهه إلى الختل، فخرج، فلما قرب منهم سار متنكرًا في ثلاثة، وخلف في عسكره ابن عمه القاسم بن حبيب - وهو ختنه على ابنته أم الأسود - حتى دخل على صاحب الختل فقال له: أخلني، فأخلاه، فاعتزا، فنزل صاحب الختل عن سريره وأعطاه حاجته - ويقولون: الختن موالي النعمان وأصاب مغنمًا؛ فكتب الجراح إلى عمر: وأوفد وفدًا؛ رجلين من العرب، ورجلا من الموالي من بني ضبة، ويكني أبا الصيداء واسمه صالح بن طريف، كان فاضلا في دينه. وقال بعضهم: المولى سعيد أخو خالد أو يزيد النحو. فتكلم العربيان والآخر جالس فقال له عمر: أما أنت من الوفد؟ قال: بلى، فما يمنعك من الكلام! قال: يا أمير المؤمنينعشرون ألفًا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج منه، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا، فيقول آتيتك حفيًا، وأنا اليوم عصبي! والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم. وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد علم بالظلم والعدوان. فقال عمر: إذًا مثلك فيلوفد. وكتب عمر إلى الجراح: إنظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية. فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح إ ن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورًا من الجزية؛ فامتحنهم بالختان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه داعيًا ولم يبعثه خاتنًا. وقال عمر: ابغوني رجلًا صدوقًا، أسأله عن خراسان، فقيل له: قد وجدته، عليك بأبي مجلس. فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلس وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله - أو عبد الله - بن حبيب. فخطب الجراح فقال: يا أهل خراسان، جئتكم في ثيابي هذه التي على وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي - ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه، وبغلة قد شاب وجهها؛ فخرج في شهر رمضان واستخلف عبد الرحمن بن نعيم، فلما قدم قال له عمر: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان، قال: قد صدق من وصفك بالجفاء هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج! وكان الجراح يقول: أنا والله عصبي عقبي - يريد من العصبية. وكان الجراح لما قد خراسان كتب إلى عمر: إني قدمت خراسان فوجدت قومًا قد أبطرتهم الفتنة فهم ينزون فيها نزوًا، أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك. فكتب إليه عمر: يا بن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم؛ لا تضربن مؤمنًا ولا معاهدًا سوطًا إلا في حق، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، وتقرأ كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ولما أراد الجراح الشخوص من خراسان إلى عمر بن عبد العزيز أخذ عشرين ألفًا. وقال بعضهم: عشرة آلاف من بيت المال. وقال: هي على سلفًا حتى أؤديها إلى الخليفة، فقدم على عمر، فقال له عمر: متى خرجت؟ قال: لأيام بقين من شهر رمضان وعلي دين فاقده؛ قال: لو أقمت حتى تفطر ثم خرجت قضيت عنك. فأدى عنه قومه في أعطياتهم. ذكر الخبر عن سبب تولية عمر بن عبد العزيز عبد الرحمن بن نعيم وعبد الرحمن بن عبد الله القشيري خراسان وكان سبب ذلك - فيما ذكر لي - أن الجراح بن عبد الله لما شكى، واستقدمه عمر بن عبد العزيز، فقدم عليه عزله من خراسان لما قد ذكرت قبل. ثم إن عمر لما أراد استعمال عامل على خراسان، قال - فيما ذكر على ابن محمد عن خارجة بن مصعب الضبعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما: ابغوني رجلا صدوقًا أسأله عن خراسان، فقيل له: أبو مجلس لاحق بن حميد. فكتب فيه، فقدم عليه - وكان رجلا لا تأخذه العين - فدخل أبو مجلس على عمر في جفة الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس فسأل عنه فقيل: دخل مع الناس ثم خرج فدعا به عمر ثم قال: يا أبا مجلس، لم أعرفك، قال: فهلا أنكرتني إذ لم تعرفني! قال: أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء وهو أمير يفعل ما يشاء ويقدم إن وجد من يساعده. قال: عبد الرحمن بن نعيم، قال: ضعيف لين يحب العافية، وتأتي له، قال: الذي يحب العافية وتأتي له أحب إ لي، فولاه الصلاة والحرب وولى عبد الرحمن القشيري، ثم أخذ بني الأعور بن قشير الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: إني استعملت عبد الرحمن على حربكم وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم عن غير معرفة مني بهما ولا اختيار، إلا ما أخبرت عنهما؛ فإن كانا على ما تحبون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال علي: وحدثنا أبو السرة الأزدي، عن إبراهيم الصائغ، أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم: أما بعد، فكن عبدًا ناصحًا لله في عباده، ولا يأخذك في الله لومة لائم؛ فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، فلا تولين شيئًا من أمر المسلمين إلا بالمعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعى. وإياك أن يكون ميلك ميلًا إلى غير الحق، فإن والله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبًا؛ فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه. قال علي، عن محمد الباهلي وأبي نهيك بن زياد وغيرهما: إن عمرو بن عبد العزيز بعث بعهد عبد الرحمن بن نعيم على حرب خراسان وسجستان مع عبد الله بن صخر القرشي، فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان وحتى مات عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف، وليها في شهر رمضان من سنة مائة، وعزل سنة اثنتين ومائة، بعد ما قتل يزيد بن المهلب. قال علي: كانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرًا. أول الدعوة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة مائة - وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من أرض الشراة ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج - وهو أبو محمد الصادق - وحيان العطار خال إبراهيم ابن سلمة إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي من قبل عمر بن عبد العزيز، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا، ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى محمد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى محمد بن علي، واختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثنى عشر رجلًا، نقباء، منهم سليمان ابن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي وعمران بن إسماعيل أبو النجم، مولى لآل أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحة ابن زريق الخزاعي وعمرو بن أعين أبو حمزة مولى الخزاعة. وشبل بن طهمان أبو علي الهروي؛ مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة؛ واختار. سبعين رجلًا، فكتب إليهم محمد بن علي كتابًا ليكون لهم مثالًا وسيرة يسيرون بها. وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن مروان بن حزم، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان عمال الأمصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل ما خلا عامل خراسان؛ فإن عاملها كان في آخرها عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج. ثم دخلت سنة إحدى ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر هرب يزيد بن المهلب من سجنه في ذلك ما كان من هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز. ذكر الخبر عن سبب هربه منه وكيف كان هربه منه ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عمر بن عبد العزيز لما كلم في يزيد بن المهلب حين أراد نفيه إلى دهلك، وقيل له: إنا نخشى أن ينتزعه قومه، رده إلى محبسه، فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر، فأخذ يعمل في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك؛ لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل - كانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له الوليد بن يزيد المقتول - فكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقًا فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه، فأعدوا له إبلًا؛ وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر أمر بإبله فأتى بها، فلما تبين له أنه قد ثقل نزل من محبسه، فخرج حتى مضى إلى المكان الذي واعدهم فيه؛ فلم يجدهم جاؤوا، فجزع أصحابه وضجروا، فقال لأصحابه: أترونني أرجع إلى السجن! لا والله لا أرجع إليه أبدًا. ثم إن الإبل جاءت، فاحتمل، فخرج ومعه عاتكة امرأته ابنة الفرات بن معاوية العامرية من بني البكاء في دمشق المحمل، فمضى. فلما جاز كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي؛ ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك. فقال عمر: اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شرًا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره. ومضى يزيد بن المهلب حتى مر بحدث الزقاق، وفيه الهذيل بن زفر معه قيس، فاتبعوا يزيد بن المهلب حيث مر بهم، فأصابوه طرفًا من ثقله وغلمة من وصفائه، فأرسل الهذيل بن زفر في آثارهم، فردهم فقال: ما تطلبون؟ أخبروني، أتطلبون يزيد بن المهلب أو أحدًا من قومه بتبل؟ فقالوا: لا، قال: فما تريدون؟ إنما هو رجل كان في إسار، فخاف على نفسه فهرب. وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر. خبر وفاة عمر بن عبد العزيز وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز، فحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عبيى، عن أبي معشر، قال: توفي عمر بن عبد العزيز لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وكذلك قال محمد بن عمر، حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: اخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمرو بن عثمان، قال: مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وقال هشام عن أبي مخنف: مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لخمس بقين من رجب بدير سمعان في سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر. ومات بدير سمعان. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمي الهيثم بن واقد، قال: ولدت سنة سبع وتسعين، واستخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فأصابني من قسمه ثلاثة دنانير، وتوفي بخناصرة يوم الأربعاء لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان شكوه عشرين يومًا، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، ودفن بدير سمعان. وقد قال بعضهم: كان له يوم توفي تسع وثلاثون سنة، وخمسة أشهر. وقال بعضهم: كان له أربعون سنة. وقال هشام: توفي عمر وهو ابن أربعين سنة وأشهر، وكان يكنى أبا حفص وله يقول عويف القوافي. وقد حضره في جنازة شهدها معه: أحبني أبا حفص لقيت محمدا ** على حوضه مستبشرًا ورآكا فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة ** شمالك خير من يمين سواكا وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان يقال له: أشج بني أمية، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته فقيل له: أشج بني أمية. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرًا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر، في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلا! وحدثت عن منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتيت به أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضمته إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه. ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه، وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادمًا ولا حاضنًا يحفظه من مثل هذا! فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إذ كان أشج بني أمية! ذكر بعض سيره ذكر علي بن محمد أن كليب بن خلف حدثهم عن إدريس بن حنظلة، والمفضل، عن جده، وعلي بن مجاهد عن خالد: أن عمر بن عبد العزيز كتب حين ولى الخلافة إلى يزيد بن المهلب: أما بعد، فإن سليمان كان عبدًا من عبيد الله أنعم الله عليه، ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك وقدر لي ليس على بهيم، ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقاد أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابًا شديدًا، ومسألة غليظة، إلا ما عافى الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك. فلما قدم الكتاب على يزيد بن المهلب، ألقاه إلى أبي عيينة، فلما قرأه قال: لست من عماله، قال: ولم؟ قال: ليس هذا كلام من مضى من أهل بيته، وليس يريد أن يسلك مسلكهم. فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه. قال: ثم كتب إلى عمر إلى يزيد استخلف على خراسان، وأقبل، فاستخلف ابنه مخلدًا. قال علي: وحدثنا علي بن مجاهد، عن عبد الأعلى بن منصور، عن ميمون بن مهران، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم أن العمل والعلم قريبان، فكن عالمًا بالله عاملا له، فإن أقوامًا علموا ولم يعملوا، فكان علمهم عليهم وبالًا. قال وأخبرنا مصعب بن حيان، عن مقاتل بن حيان، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن: أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين. قال علي: أخبرنا كليب بن خلف، عن طفيل بن مرداس، قال: كتب عمر إلى سليمان بن أبي السرة، أن اعمل خانات في بلادك فمن مر بك من المسلمين فقروهم يومًا وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعًا به فقووه بما يصل به إلى بلده. فلما أتاه كتاب عمر قال أهل سمرقند لسليمان: إن قتيبة غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة. فأذن لهم، فوجهوا منهم قومًا، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان ابن أبي السرة: إن أهل سمرقند قد شكوا إلى ظلمًا أصابهم. وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربًا. فتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وآمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر. وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازع. فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا. قال: وكتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم. قال: فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو. فكتب إلي عمر بذلك، فكتب إليه عمر: اللهم إني قد قضيت الذي علي، فلا تغز بالمسلمين. فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم. قال: وكتب إلى عقبة بن زرعة الطائي - وكان قد ولاه الخراج بعد القشيري: إن للسلطان أركانًا لايثبت إلا بها، فا لوالي ركن، والقاضي ركن وصاحب بيت المال ركن والركن الرابع أنا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرز في غير ظلم، فإن يك كفافًا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم. قال: فقدم عقبة فوجد خراجهم يفضل عن أعطياتهم، فكتب إلى عمر فأعلمه، فكتب إليه عمر: أن اقسم الفضل في أهل الحاجة. وحدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: سمعت عبد الله يقول عن محمد بن طلحة، عن داود ابن سليمان الجعفي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد، سلام عليك؛ أما بعد؛ فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة استنهى عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك؛ فإنه لا قليل من الإثم. ولا تحمل خرابًا على عامر. ولا عامرًا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطاق. وأصلحه حتى يعمر. ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض. ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة ليس لها آيين ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان. ولا ثمن الصحف. ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض؛ فاتبع في ذلك أمري؛ فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب؛ حتى تراجعني فيه. وانظر من أراد من الذرية أن يحج، فعجل له مائتى يحج بها، والسلام. حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن شهاب بن شريغة المجاشعي، قال: الحق عمر بن عبد العزيز ذراري الرجال الذين في العطايا أقرع بينهم، فمن أصابته القرعة جعله في المائة، ومن لم تصبه القرعة جعله في الأربعين، وقسم في فقراء أهل البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم؛ فأعطى الزمني خمسين خمسين. قال: وأراه رزق الفطم. حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الفضيل، عن عبد الله قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشام: سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد؛ فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه، ومن علم أن الموت حق رضي باليسير، والسلام. قال علي بن محمد: وقال أبو مجلس لعمر: إنك وضعتنا بمنقطع التراب، فاحمل إلينا الأموال. قال: يا أبا مجلس: قلبت الأمر، قال: يا أمير المؤمنين أهو لنا أم لك؟ قال: بل هو لكم إذا قصر خراجكم عن أعطياتكم، قال: فلا أنت تحمله إلينا، ولا نحمله إليك، وقد وضعت بعضه على بعض قال: أحمله إليكم إن شاء الله. ومرض من ليلته فمات من مرضه. وكانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرًا. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي عمارة بن أكيمة الليثي، ويكني أبا الوليد، وهو ابن تسع وسبعين. زيادة في سيرة عمر بن عبد العزيز ليست من كتاب أبي جعفر إلى أول خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان روى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، قال: حدثنا رجل في مسجد الجنابذ أن عمر بن عبد العزبز خطب الناس بخناصرة، فقال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولن تتركوا سدًا؛ وإن لكم عادًا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ألا واعلموا أنما الأمان غدًا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدًا بباق، وقليلة بكثير وخوفًا بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين! وفي كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب، فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم، غنى عما ترك. فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه. ويم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي؛ فاستغفر الله وأتوب إليه. وما منكم من أحد تبلغن عنه حاجة إلى أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا إلا وددت أنه سداي ولاحمى، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء. وايم الله أن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش؛ لكان اللسان مني به ذلولا عالمًا بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته. ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله. روى خلف بن تميم، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سعد، قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز مات ابن له، فكتب عامل له يعزيه عن ابنه فقال لكاتبه: أجبه عني، قال: فأخذ الكاتب يبري القلم، قال: فقال للكاتب: أدق القلم، فإنه أبقى للقرطاس، وأوجز للحروف، واكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإن هذا الأمر أمر قد كنا وطنا أنفسنا عليه، فلما نزل لم ننكره، والسلام. روى منصور بن مزاحم، قال: حدثنا شعيب - يعني ابن صفوان عن ابن عبد الحميد، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه؛ فاتقوا الله، فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها. الرزق مقسوم فلن يغدر المؤمن ما قسم له، فأجعل في الطلب، فإن في القنوع سعى وبلغى وكفافًا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق؛ وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله! وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه ووجهه مفقود، وذكره منسى، وبابه مهجور، وكأن لم يخالط إخوان الحفاظ، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا تحقر فيه مثقال ذرة في الموازين. روى سهل بن محمود؛ قال: حدثنا حرملة بن عبد العزيز، قال: حدثني أبي، عن ابن العمر بن عبد العزيز، قال: أمرنا عمر أن نشتري موضع قبره، فاشتريناه من الراهب، قال: فقال بعض الشعراء: أقول لما نعى الناعون لي عمرا ** لا يبعدن قوام العدل والدين قد غادر القوم بالحد الذي لحدوه ** بدير سمعان قسطاس الموازين روى عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله عليه عبد نعمت ثم انتزها منه فأعاضه ممن انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرًا ممن انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " وقدم كتابه على عبد الرحمن بن نعيم: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه، ولا تحدثن كنيسة ولا بيت نار، ولا تجر الشاة إلا مذبحها، ولا تحدوا الشفرة على رأس الذبيحة، ولا تجمعوا بين الصلاتين إلا من عذر. روى عفان بن مسلم، عن عثمان بن عبد الحميد، قال: حدثنا أبي، قال: بلغنا أن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: اشتد علزه ليلة، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفًا له يقال له مرثد، فقلت له: يا مرثد، كن عند أمير المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريبًا منه. ثم انطلقنا فضربنا برءوسنا لطول سهرنا، فلما انفتح النهار استيقظت فتوجهت إليه، فوجدت مرثدًا خالجًا من البيت نائمًا، فأيقظته فقلت: يا مرثد، ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، قال: يا مرثد؛ اخرج عني! فوالله إني لا أرى شيئًا ماهو بالإنس ولا جان، فخرجت وسمعته يتلو هذه الآية: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوة في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين "، قال: فدخلت عليه فوجدته قد وجه نفسه، وأغمض عينيه وإنه لميت رحمه الله. خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان وفيها ولى يزيد بن عبد الملك بن مروان، وكنيته أبو خالد وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن محمد؛ ولما ولى الخلافة نزع عن المدينة أبا بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فقدمها - فيما زعم الواقدي - يوم الأربعاء لليال بقين من شهر رمضان فاستقضى عبد الرحمن سلمى بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وذكر محمد بن عمر أن عبد الجبار بن عمارة حدثه عن أبي بكر بن حزم، أنه قال: لما قدم عبد الرحمن بن الضحاك المدينة وعزلني، دخلت عليه، فسلمت فلم يقبل على، فقلت: هذا شيء لا تملكه قريش للأمصار، فرجعت إلى منزلي وخفته - وكان شابًا مقدامًا فإذا هو يبلغني عنه أنه يقول: ما يمنع ابن حزم أن يأتيني إلا الكبر، وإني لعالم بخيانته؛ فجاءني ماكنت أحذر وما استيقن من كلامه، فقلت للذي جاءني بهذا: قل له: ما الخيانة لي بعادة، وما أحب أهلها، والأمير يحدث نفسه بالخلود في سلطانه، كم نزل هذه الدار من أمير وخليفة قبل الأمير فخرجوا منها وبقيت أثارهم أحاديث إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا! فاتق الله ولا تسمع قول ظالم أو حاسد على نعمة. فلم يزل الأمر يترقى بينهما، حتى خاصم إليه رجل من بني فهرو أخر من بني النجار - وكان أبو بكر قضى للنجار على الفهر في أرض كانت بينهما نصفين، فدفع أبو بكر الأرض إلى النجار - فأرسل الفهري إلى النجار وإلى أبي بكر بن حزم، فأحضرهما ابن الضحاك، فتظلم الفهري من أبي بكر بن حزم، وقال: أخرج مالي من يدي، فدفعه إلى هذا النجاري، فقال أبو بكر: اللهم غفرًا! أما رأيتني سألت أيامًا في أمرك وأمر صاحبك، فاجتمع لي علي اخراجها من يدك، وأرسلتك إلى من أفتاني بذلك: سعيد بن المسيب وأبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألتهما؟ فقال الفهري: بلى، وليس يلزمني قولهما. فانكسر ابن الضحاك فقال: قوموا، فقاموا، فقال للفهري: تقر له أنك سألت من أفتاه بهذا، ثم تقول ردها علي! أنت أرعن، إذهب فلاحق لك؛ فكان أبو بكر يتقيه ويخافه، حتى كلم ابن حيان يزيد أن نقيده من أبي بكر؛ فإنه ضربه حدين، فقال يزيد: لا أفعل، رجل اصتنعه أهل بيتي؛ ولكني أوليك المدينة. قال: لا أريد ذلك، لو ضربته بسلطاني لم يكن لي قودًا. فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابًا: أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم بن حيان، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وإن كان ضربه في أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه، فإن كان ضربه في أمر غير ذلك فأقده منه. فقدم بالكتاب على عبد الرحمن بن الضحاك، فقال عبد الرحمن: ما جئت بشيء، أترى ابن حزم ضربك في أمر لا يختلف فيه! فقال عثمان لعبد الرحمن: إن أردت أن تحسن أحسنت، قال: الآن أصبت المطلب، فأرسل عبد الرحمن إلى ابن حزم فضربه حدين في مقام واحد، ولم يسأله عن شيء. فرجع أبو المغراء بن حيان وهو يقول: أنا أبو المغراء بن الحيان، والله ما قربت النساء من يوم صنع بي ابن أبي حزم ما صنع حتى يومي هذا، واليوم أقرب النساء! مقتل شوذب الخارجي قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي. ذكر الخبر عن مقتله قد ذكرنا قبل الخبر عما كان من مراسلة شوذب عمر بن عبد العزيز لمناظرته في خلافه عليه، فلما مات عمر أحب - فيما ذكر معمر بن المثنى - عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلي محمد بن جيرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسول شوذب، ولم يعلم بموت عمر، فلما رأوا أن محمد بن جرير يستعد للحرب، أرسل إليه شوذب: ما أعجلك قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسول شوذب! فأرسل إليهم محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحالة - قال غير أبي عبيدة: فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح. قال معمر بن المثنى: فبرز لهم شوذب، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في أهل القبلة القتل، وتولوا منهزمين، والخوارج في أعقابهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة، ولجئوا إلى عبد الحميد، وجرح محمد بن جرير في أستة، ورجع شوذب إلى موضع فأقام ينتظر صاحبيه، فجاءاه فأخبراه بما صار عليه عمر، وأن قد مات. فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه كم قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فلجأ إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه، وهزموا أصحابه، فوجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين، فراسلهم وراسلوه، فقتلوه، وقتل منهم نفرًا فيهم هدبة اليشكري؛ ابن عم بسطام - وكان عابدًا - وفيهم أبو شبيل مقاتل ابن شيبان - وكان فاضلًا عندهم - فقال أبو ثعلبة أيوب بن خولى يرثيهم: تركنا تميمًا في الغبار ملحبًا ** تبكى عليه عرسه وقراشبه وقد أسلمت قيس تميمًا ومالكًا ** كما أسلم الشحاج أمس أقاربه وأقبل من حران يحمل راية ** يغالب أمر الله والله غالبه فيا هدب للهيجا، ويا هدب للندى ** ويا هدب للخصم الألد يحاربه! ويا هدب كم من ملحم قد أجبته ** وقد أسلمت للرياح جوالبه وكان أبو شيبان خير مقاتل ** يرجى ويخشى بأسه من يحاربه ففاز ولاقى الله بالخير كله ** وخذمه بالسيف في الله اربه تزود من دنياه درعًا ومغفرًا ** وعصبًا حسامًا لم تخنه مضاربه واجرد محبوك السراة كأنه ** إذا انقضوا في الريش حجن مخالبه فلما دخل مسلمة الكوفة شكا إليه مكان شوذب، وخوفهم منه وما قد قتل منهم، فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي - وكان فارسًا - فعقد لع على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة؛ فكسروا أغماد السيوف وحملوا. فكشفوا سعيدًا وأصحابه مرارًا؛ حتى خاف الفضيحة فذمر أصحابه، وقال لهم: أمن هذه الشرذمة لا أبالكم تفرون! يا أهل الشام يومًا كأيامكم! قال: فحملوا عليهم فطحنوهم طحنًا لم يبقوا منهم أحدًا، وقتلوا بسطامًا وهو شوذب وفرسانه، منهم الريان بن عبد الله اليشكري، وكان من المخبتين، فقال أخو شمر بن عبد الله يرثيه: ولقد فجعت بسادة وفوارس ** للحرب سعر من بني شيبان أعتاقهم ريب الزمان فغالهم ** وتركت فردًا غير ذي إخوان كمدا تجلجل في فؤادي حسره ** كالنار من وجد على الريان وفوارس باعوا الإله نفوسهم ** من يشكر عند الوغى فرسان وقال حسان بن جعدة يرثيهم: يا عين أذري دموعًا منك تسجاما ** وأبكي صحابة بسطام وبسطاما فلن ترى أبدًا ماعشت مثلهم ** أتقي وأكمل في الأحلام أحلاما بسيهم قد تأسوا عند شدتهم ** ولم يريدوا من الأعداء إحجاما حتى مضوا للذي كانوا له خرجوا ** فأورثونا منارات وأعلاما إني لأعلم أن قد أنزلوا غرفًا ** من الحنان ونالوا ثم خداما أسقى الإله بلادًا كان مصرعهم ** فيها سحابًا من الوسمى سجاما خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك. ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة قد مضى ذكرى خبر يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة. ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلب ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته. فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال لأصحابه: لا بل امض بنا ودعه. وأقبل يسير حتى ارتفعفوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن محرمة بن عبد العزيز بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب. فمشى هشام قليلًا، ثم رجع إلى عبد الحميد، فقال: أجيئك به أسيرًا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر: وسار ابن المهلب لم يعرج ** وعرس ذو القطيفة من كنانه وياسر والتياسر كان حزمًا ** ولم يقرب قصور القطقطانة ذو القطيفة هو محمد بن عمرو، وهو أبو قطيفة بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أبو قطيفة؛ وإنما سما ذا القطيفة، لنه كان كثير شعر اللحي والوجه والصدر. ومحمد يقال له ذو الشامة. فلما جاء يزيد بن المهلب انصرف هشام بن مساحق إلى عبد الحميد، ومضى يزيد إلى البصرة، وقد جمع عدي بن أرطاة إليه أهل البصرة وخندق عليها، وبعث على خيل البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل الثقفي. وكان عدي بن أرطاة رجلًا من بني فزارة. وقال عبد الملك بن المهلب لعدي بن أرطاة: خذ ابني حميدًا فاحبسه مكاني، وأنا أضمن لك أن أرد يزيد عن البصرة حتى يأتي فارس، ويطلب لنفسه الأمان ولا يقربك فأبى عليه، وجاء يزيد ومعه أصحابه الذين أقبل فيهم، والبصرة محفوفة بالرجال، وقد جمع محمد بن المهلب - ولم يكن ممن حبس - رجالًا وفتية من أهل بيته وناسًا من مواليه، فخرج حتى استقبله، فأقبل في كتيبة تهول من رآها، وقد دعا عدي أهل البصرة، فبعث على كل خمس من أخماسها رجلًا، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو التكي، وبعث على خمس بني تميم محرز بن حمران السعدي من بني منقر، وعلى خمس بكر بن وائل عمران بن عامر ابن مسمع من بني قيس بن ثعلبة. فقال أبو منقر - رجل من قيس بن ثعلبة -: إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي نوح بن شيبان ابن مالك بن مسمع، فعقد له على بكر بن وائل، فدعا مالك بن المنذر بن الجارود، فعقد له على عبد القيس، ودعا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، فعقد له على أهل العالية - والعالية قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس عيلان كلها ومزينة - وأهل العالية بالكوفة يقال لهم ربع أهل المدينة وبالبصرة خمس أهل العالية، وكانوا بالكوفة أخماسًا، فجعلهم زياد بن عبيد أرباعًا. قال هشام عب أبي مخنف: وأقبل يزيد بن المهلب لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيلة من قبائلهم إلا تنحوا له عن السبيل حتى يمضي، واستقبله المغيرة ابن عبد الله الثقفي في الخيل، فحمل عليه محمد بن المهلب في الخيل، فأفرج له عن الطريق هو وأصحابه، وأقبل يزيد حتى نزل داره، واختلف الناس إليه، واخذ يبعث إلى عدي بن أرطاة أن أدفع إلى إخوتي وأنا أصالحك على البصرة، وأخليك إياها حتى آخذ لنفسي ما أحب من يزيد بن عبد الملك، فلم يقبل منه، وخرج إلى يزيد بن عبد الملك حميد بن عبد الملك بن المهلب، فبعث معه يزيد بن عبد الملك خالد بم عبيد الله القسري وعمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد بن المهلب وأهل بيته، وأخذ يزيد بن المهلب يعطي من أتاه من الناس، فكان يقطع لهم الذهب وقطع الفضة، فمال الناس إليه، ولحق به عمران بن عامر بن مسمع ساخطًا على عدي بن أرطاة حين نزع منه رايته، راية بكر بن وائل، وأعطاها ابن عمه، ومالت إلى يزيد ربيعة وبقية تميم وقيس وناس بعد ناس؛ فيهم عبد الملك ومالك ابنا مسمع ومعه ناس من أهل الشام، وكان عدي لا يعطي إلا درهمين درهمين، ويقول: لا يحل لي أن أعطيكم من بيت المال درهمًا إلا بأمر يزيد بن عبد الملك، ولكن تبلغوا بهذا حتى يأتي الأمر في ذلك، فقال الفرزدق في ذلك: أظن رجال الدرهمين يسوقهم ** إلى الموت آجال لهم ومصارع فأحزمهم من كان في قعر بيته ** وأيقن أن الأمر لا شك واقع وخرجت بنو عمرو بن تميم من أصحاب عدي، فنزلوا المربد، فبعث إليهم يزيد بن المهلب مولى له يقال له دارس؛ فحمل عليهم فهزمهم، فقال الفرزدق في ذلك: تفرقت الحمراء إذ صاح دارس ** ولم يصبروا تحت السيوف الصوارم جزى الله قيسًا عن عدى ملامة ** ألا صبروا حتى تكون ملاحم وخرج بزبد بن المهلب حين أجمع الناس له الناس حتى نزل جبانة بني يشكر - وهو المنصف فيما بينه وبين القصر - وجاءته بنو تميم وقيس وأهل الشام، فاقتتلوا هنيهة، فحمل عليهم محمد بن المهلب، فضرب مسور بن عباد الحبطي بالسيف فقطع أنف البيضة، ثم أسرع السيف إلى أنفه، وحمل على هريم بن أبي طلحة من بني نهشل بن دارم، فأخذ بمنطقته، فحذفه عن فرسه فوقع؛ فيما بينه وبين الفرس، وقال: هيهات هيهات! عمك أثقل من ذلك. وانهزموا، وأقبل يزيد بن المهلب إثر القوم يتلوهم حتى دنا من القصر، فقاتلوهم وخرج إليه عدي بنفسه فقتل من أصحابه الحارث نب مصرف الأودي - وكان من أشراف أهل الشام وفرسان الحجاج - وقتل موسى بن الوجيه الحميري ثم الكلاعي، وقتل راشد المؤذن، وانهزم أصحاب عدي، وسمع إخوة يزيد وهم في محبس عدي الأصوات تدنو، والنشاب تقع في القصر، فقال لهم عبد الملك: إني أرى النشاب يقع في القصر، وأرى الأصوات تدنو، ولا أرى يزيد إلا قد ظهر، وإني لا آمن من مع عدي من مضر ومن أهل الشام أن يأتونا فيقتلونا قبل أن يصل إلينا يزيد إلى الدار، فأغلقوا الباب ثم أغلقوا عليه ثيابًا. ففعلوا فلم يلبثوا إلا ساعة حتى جاءهم عبد الله بن دينار مولى ابن عمر، وكان على حرس عدي - فجاء يشتد إلى الباب هو واصحابه، وقد وضع بنو المهلب متاعًا على الباب، ثم اتكوا عليه، فأخذ الآخرون يعالجون الباب، فلم يستطيعوا الدخول، وأعجلهم الناس فخلوا عنهم. وجاء يزيد بن المهلب حتى نزل دار سلم بن زياد بن أبي سفيان إلى جانب القصر، وأتى بالسلاليم، فلم يلبث عثمان أن فتح القصر، وأتى بعدي ابن أرطاة، فهنئ وهو يبتسم، فقال له يزيد: لم تضحك؟ فوالله إنه لينبغي أن يمنعك من الضحك خصلتان: إحداهما الفرار من القتلة الكريمة حتى أعطيت بيدك إعطاء المرأة بيدها، فهذه واحدة، الأخرى أني أتيت بك تتل كما يتل العبد الآبق إلى أربابه، وليس معك مني عهد ولا عقد، فما يؤمنك أن أضرب عنقك! فقال عدي: أما أنت فقد قدرت علي، ولكني أعلم أن بقائي بقائك، وأن هلاكي مطلوب به من جرته يده؛ إنك قد رأيت جنود الله بالمغرب، وعلمت بلاء الله عندهم في كل موطن من مواطن الغدر والنكث، فتدارك فلتتك وزلتك بالتوبة واستقالة العثرة، قبل أن يرمي إليك البحر بأمواجه، فإن طلبت الاستقالة حينئذ لم تقل، وإن أردت الصلح وقد أشخصت القوم إليك وجدتهم لك مباعدين، وما لم يشخص القوم إليك فلم يمنعوك شيئًا طلبت الأمان على نفسك وأهلك ومالك. فقال له يزيد: أما قولك: إن بقاءك بقائي؛ فلا أبقاني الله حسوة طائر مذعور أن كنت لا يبقيني إلا بقاؤك؛ وأما قولك: إن هلاكي مطلوب به من جرته يده؛ فوالله لو كان في يدي من أهل الشام عشرة آلاف إنسان ليس فيهم رجل أعظم منزلة منك فيهم، ثم ضربت أعناقهم في صعيد واحد، لكان فراقي إياهم وخلافي عليهم أهول عندهم في صدورهم من قتل أولئك، ثم لو شئت أن تهدر لي دمائهم، وأن أحكم في بيوت أموالهم، ولن يجوزن لي عظيمًا من سلطانهم، على أن أضع الحرب بيني وبينهم لفعلوا؛ فلا يخفين عليك أن القوم ناسوك لو قد وقعت أخبارنا إليهم. وأن أعمالهم وكيدهم لا يكون إلا لأنفسهم، لا يذكرونك ولا يحلفون بك. وأم قولك: تدارك أمرك واستقله وافعل وافعل؛ فوالله ما استشرتك، ولا أنت عندي بواد ولا نصيح؛ فما كان ذلك منك إلا عجزًا وفضلًا؛ فانطلقوا به، فلما ذهبوا به ساعة قال: ردوه، فلما رد قال: أما حبسي ليس إياك لحبسك بني المهلب ويضييقك عليهم فيما منا نسألك التسهيل فيع عليهم، فلم تكن تألوا ما عسرت وضيقت وخالفت؛ فكأنه لهذا القول حين سمعه امن على نفسه، واخذ عدي يحدث به كل من دخل عليه. وكان رجل يقال له السميدع الكندي من بني مالك بن ربيعة من ساكني عمان يرى رأي الخوارج، وكان خرج وأصحاب يزيد عدى مصطفون فاعتزل ومعه الناس من القراء، فقال طائفة من أصحاب يزيد وطائفة من أصحاب عدي: قد رضينا بحكم السميدع. ثم إن يزيد بعث إلى السميدع فدعاه إلى نفسه، فأجابه، فاستعملوا يزيد على الأبلة، فأقبل على الطيب والتخلق والنعيم، فلما ظهر يزيد بن المهلب هرب رؤوس أهل البصرة من قيس وتميم ومالك بن المنذر، فلحقوا بعبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة، ولحق بعضهم بالشام، فقال الفرزدق: فداء لقوم من تميم تتابعوا ** إلى الشام لم يرضوا بحكم السميدع أحكم حرورى من الدين مارق ** أضل وأغوى من حمار مجدع فأجابه خليفة الأقطع. وما وجوهها نحوه عن وفادة ** ولا نهزة يرجى بها خير مطمع ولكنهم راحوا إليها وأدلجوا ** بأقرع أستاه ترى يوم مقرع وهم من حذار اقوم أن يلحقوا بهم ** لهم نزلة في كل خميس وأربع وخرج الحواري بن زياد بن عمرو العتكي يريد يزيد بن عبد الملك هاربًا من يزيد بن المهلب، فلقي خالد عبد الله القسري وعمرو بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب قد أقبلوا من عند يزيد بن عبد الملك بأمان يزيد بن المهلب، وكل شيء أراده، فاستقبلهما، فسألاه عن الخبر فخلا بهما حين رأى معها حميد بن عبد الملك، فقال: أين تريدان؟ فقالا: يزيد بن المهلب، قد جئناه بكل شيء أراده، فقال: ما تصنعان بيزيد شيئًا، ولا يصنعه بكما؛ قد ظهر على عدوه عدي بن أرطاة، وقتل القتلى وحبس عديًا، فارجعا أيها الرجلان. ويمر رجل من باهلة يقال له مسلم بن عبد الملك، فلم يقف عليهما، فصايحاه وساءلاه، فلم يقف عليهما، فقال القسري: ألا ترده فتجلده مائة جلدة! فقال له صاحبه: غربه عنك، واملا لينصرف. ومضى الحواري إلى بزبد بن عبد الملك، وأقبلا بحميد بن عبد الملك معهما، فقال لهما حميد: أنشدكما الله أن تخالفا أمر يزيد ما بعثما به! فإن يزيد قابل منكما؛ وإن هذا واهل بيته لم يزالوا لنا أعداء، فأنشدكما الله أن تقبلا مقالته؛ فلم يقبلا قوله، وأقبلا به حتى دفعاه إلى عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وقد كان يزيد بن عبد الملك بعثه إلى خراسان عاملًا عليها. فلما بلغه خلع يزيد بن عبد الملك كتب إليه: إن جهاد من خالفك أحب إلي من عملي على خراسان، فلا حاجة لي فيها، فاجعلني ممن يوجهني إلى يزيد بن المهلب، وبعث بحميد بن عبد الملك إلى يزيد، ووثب عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب على خالد بن يزيد بن المهلب وهو بالكوفة وعلى حمال بن زحر الجعفي، وليسا ممن كان ينطق بشيء إلا أنهم عرفوا ما كان بينه وبين بني المهلب، فأوثقهما وسرحهما إلى يزيد بن عبد الملك، فحبسهما جميعًا، فلم يفارقوا السجن حتى هلكوا فيه. وبعث يزيد بن عبد الملك رجالًا من أهل الشام إلى الكوفة يسكنونهم، ويثنون عليهم بطاعتهم، ويمنونهم الزيادات منهم القطامي بن الحصين، وهو أبو الشرقي، واسم الشرقي الوليد، وقد قال القطامي حين بلغه ما كان من يزيد بن المهلب: لعل عيني أن ترى يزيدا ** يقود جيشًا حجفلا شديدا تسمع للأرض به وئيدا ** لا برمًا هدا ولا حسودا ولا جبانًا في الوغى رعديدا ** ترى ذوي التاج له سجودا مكفرين خاشعين قودا ** وآخرين رحبوا وفودا لا ينقض العهد ولا المعهودا ** من نفر كانوا هجانًا صيدا ترى لهم في كل يوم عيدا ** من الأعادي جزرا مقصودا ثم إن القطاني سار بعد ذلك إلى العقر حتى شهد قتال يزيد بن المهلب مع مسلمة بن عبد الملك، فقال يزيد بن المهلب: ما أبعد شعر القطامي من فعله! ثم إن يزيد بن عبد الملك بعث العباس بن الوليد في أربعة آلاف فارس؛ جريدة خيل، حتى وافوا الحيرة يبادر إليها يزيد بن المهلب، ثم أقبل بعد ذلك مسلمة بن عبد الملك وجنود أهل الشام، وأخذ على الجزيرة وعلى شاطئ الفرات فاستوثق أهل البصرة ليزيد بن المهلب، وبعث عماله على الأهواز وفارس وكرمان، عليها الجراح بن عد الله الحكمي حتى انصرف إلى عمر بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن نعيم الأزدي فكان على الصلاة. واستخلف يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن القشيري على الخراج، وجاء مدرك بن المهلب حتى انتهى إلى رأس المفازة فدس عبد الرحمن بن نعيم إلى بني تميم أن هذا مدرك بن المهلب يريد أن يلقي بينكم الحرب، وأنتم في بلاد عافية وطاعة وعلى جماعة، فخرجوا ليلًا يستقبلونه، وبلغ ذلك الأزد، فخرج منهم نحو من ألفي فارس حتى لحقوهم قبل أن ينتهوا إلى رأس المفازة، فقالوا لهم: ما جاء بكم؟ وما أخرجكم إلى هذا المكان؟ فاعتلوا عليهم بأشياء، ولم يقروا لهم أنهم خرجوا ليتلفوا مدرك بن المهلب، فقال لهم الآخرون، بل قد علمنا أن تخرجوا لتلقى صاحبنا، وهاهو ذا قريب؛ فما شئتم. ثم انطلقت الأزد حتى تلقوا مدرك بن المهلب على رأس المفازة، فقالوا له: إنك أحب الناس إلينا، وأعزهم علينا، وقد خرج أخوك ونابذه، فإن يظهره الله فإنما ذلك لنا، ونحن أسرع الناس إليكم أهل البيت وأحقه بذلك؛ وإن تكن الأخرى فوالله مالك في أن يغشانا ما يعيرنا من البلاء راحة. فعزم له رأيه على الانصراف، فقال ثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب، من الأزد من العتيك: أم تر دوسرًا منعت أخاها ** وقد حشدت لتقتله تميم رأوا من دونه الزرق العوالي ** وحيًا ما يباح لهم حريم شنوعتها وعمران بن حزم ** هناك المجد والحسب الصميم فما حملوا ولكن نهنهتهم ** رماح الأزد والعز القديم رددنا مدركًا بمرد صدق ** وليس بوجهه منكم كلوم وخيل كالقداح مسومات ** لدى أرض مغانيها الجميم عليها كل أصيد دوسري ** عزيز لا يفر ولا يريم بهم تستعتب السفهاء حتى ** ترى السفهاء تردعها الحلوم قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني معاذ بن سعد أن يزيد لما استجمع له البصرة، قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أخبرهم أنه يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ، ويحث على الحهاد، ويزعم أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابًا من جهاد الترك والديلم. قال: فدخلت أنا والحسن البصري وهو واضع يده على عاتقي، وهو يقول: انظر هل ترى وجه رجل تعرفه؟ قلت: لا والله ما أرى وجه رجل أعرفه، قال: فهؤلاء والله الغثاء، قال: فمضينا حتى دنونا من المنبر. قال: فسمعته يذكر كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، ثم رفع صوته، فقال: والله لقد رأيناك واليًا ومولى عليك، فما ينبغي لك ذلك. قال: فوثبنا عليه، فأخذنا بيده وفمه وأجلسناه؛ فوالله ما نشك أنه سمعه؛ ولكنه لم يلتفت أليه ومضى في خطبته. قال: ثم إنا خرجنا إلى باب المسجد، فإذا على باب المسجد النضر بن أنس ابن مالك يقول: يا عباد الله، ما تنقمون من أن تجيبوا إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ! فوالله ما رأينا ذلك ولا رأيتموه منذ ولدتم إلا هذه الأيام من إمارة عمر بن عبد العزيز، فقال الحسن: سبحان الله! وهذا النضر بن أنس قد شهد أيضًا. قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني المثنى بن عبد الله أن الحسن البصري مر على الناس وقد اصطفوا صفين، وقد نصبوا الرايات والرماح، وهم ينتظرون خرو يزيد، وهم يقولون: يدعون يزيد إلى سنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بها إلى بني مروان، يريد بهلاك هؤلاء رضاهم. فلما غضب غضبة نصب قصبًا، ثم وضع عليها خرقًا، ثم قال: أني قد خالفتهم فخالفوهم. قال هؤلاء: نعم. وقال: إني أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله، ثم يرد إلى محبس عمر الذي فيه حبسه، فقال له ناس من أصحابه ممن سمع قوله: والله لكأنك يا أبا سعيد راض عن أهل الشام، فقال: أنا راض عن أهل الشام قبحم الله وبرحهم! أليس هم الذين أحلوا حرم رسول الله ﷺ، يقتلون أهله ثلاثة أيام وثلاث ليال! قد أباحوهم لأنباطهم وأقباطهم، يحملون الحرائر ذوات الدين، لا يتناهون عن انتهاك حرمة ثم خرجوا إلى بيت الله الحرام، فهدموا الكعبة، وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها، عليهم لعنة الله وسوء الدار! قال: ثم إن يزيد خرج من البصرة، واستعمل عليها مروان بن المهلب، وخرج معه بالسلاح وبيت المال، وأقبل حتى نزل واسطًا، وقد استشار أصحابه حين توجه نحو واسط، فقال: هاتوا الرأي، فإن أهل الشام قد نهضوا إليكم، فقال له حبيب، وقد أشار عليه غير حبيب أيضًا فقالوا: نرى أن تخرج وتنزل بفارس، فتأخذ بالشعاب وبالعقاب، وتدنوا من خراسان، وتطاول القوم، فإن أهل الجبال ينفضون إليك وفي يديك القلاع والحصون. فقال: ليس هذا برأيي، ليس يوافقني هذا؛ إنما تريدون أن تجعلوني طائرًا على رأس جبل. فقال له حبيب: فإن الرأي الذي كان ينبغي أن يكون في أول الأمر قد فات، قد أمرتك حيث ظهرت على البصرة أن توجه خيلًا عليها أهل بيتك حتى ترد الكوفة، فإنما هو عبد الحميد بن عبد الرحمن، مررت به في سبعين رجلًا فعجز عنك؛ فهو عن خيلك أعجز في العدة، فنسبق إليها أهل الشام وعظماء أهلها يرون رأيك، وأن تلى عليهم أحب إلى جلهم من أن يلي عليهم أهل الشام، فلم تطعني، وأنا أشير الآن برأي؛ سرح مع أهل بيتك خيلًا من خيلك عظيمة فتأتي الجزيرة، وتبادر إليها حتى ينزلوا حصنًا من حصونها، وتسير في أثرهم، فإذا أقبل أهل الشام يريدونك لم يدعوا جندًا من جنودك بالجزيزة؛ ويقبلون إليك فيقيمون عليهم، فكأنهم حابستهم عليك حتى تأتيهم فيأتيك من بالموصل من قومك، وينفض إليك أهل العراق وأهل الثغور، وتقاتلهم في أرض رفيغة السعر، وقد جعلت العراق كله وراء ظهرك، فقال: إني أكره أن أقطع جيشي وجندي، فلما نزل واسطًا أقام بها أيامًا يسيرة. قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك ابن قيس الفهري، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال محمد بن عمر. وكان عبد الرحمن عامل يزيد بن عبد الملك على المدينة، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وكان على الكوفة عبد الحميد ابن عبد الرحمن، وعلى قضائها الشعبي، وكانت البصرة قد غلب عليها يزيد ابن المهلب، وكان على خراسان عبد الرحمن بن نعيم. ثم دخلت سنة اثنتين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان فيها من مسير العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة ابن عبد الملك إلى يزيد بن المهلب بتوجيه يزيد بن عبد الملك إياهما لحربه. وفيها قتل يزيد بن المهلب، في صفر. ذكر الخبر عن مقتل يزيد بن المهلب ذكر هشام، عن أبي مخنف: أن معاذ بن سعيد حدثه أن يزيد بن المهلب استخلف على واسط حين أراد الشخوص عنها للقاء مسلمة بن عبد الملك والعباس ابنه معاوية، وجعل عنده بيت المال والخزائن والأسراء، وقدم بين يديه أخاه عبد الملك، ثم سار حتى مر بفم النيل، ثم سار حتى نزل العقر. وأقبل مسلمة يسير على شاطئ الفرات حتى نزل الأنبار، ثم عقد عليها الجسر. فعبر من قبل قرية يقال لها فارط، ثم أقبل حتى نزل على يزيد بن المهلب، وقد قدم يزيد أخاه نحو الكوفة، فاستقبله العباس بن الوليد بسورا، فاصطفوا، ثم اقتتل القوم، فشد عليهم أهل البصرة شدة كشوفهم فيها، وقد كان معهم ناس من بني تميم وقيس ممن انهزم من يزيد بالبصرة، فكانت لهم جماعة حسنة مع العباس، فيهم هريم بن أبي طحمة المجاشعي. فلما انكشف أهل الشام تلك الإنكشافة، ناداهم هريم بن أبي طحمة: يا أهل الشام، الله الله أن تسلمونا! وقد اضطرهم أصحاب عبد الملك إلى نهر فأخذوا ينادونه: لا بأس عليك؛ إن لأهل الشام جولة في أول القتال، أتاك الغوث. قال: ثم إن أهل الشام كروا عليهم، فكشف أصحاب عبد الملك وهزموا، وقتل المنتوف بن بكر بن وائل، مولى لهم، فقال الفرزدق يحرض بكر بن وائل: تبكي على المنتوف بكر بن وائل ** وتنهى عن ابن مسمع من بكاهما غلامين شبا في الحروب وأدركا ** كرام المساعي قبل وصل لحاهما ولو كان حيًا مالك وابن مالك ** إذًا أوقدوا نارين يعلو سناهما وابنا مسمع: مالك وعبد الملك ابنا مسمع، قتلهم معاوية بن يزيد بن المهلب فأجابه الجعد بن درهم مولى من همدان: نبكي على المنتوف في نصر قومه ** ولسنا نبكي الشائدين أباهما أراد فناء الحي بكر بن وائل ** فعز تميم لو أصيب فناهما فلا لقيا روحًا من الله ساعة ** ولا رقأت عينا شجي بكاهما أفي الغش نبكي إن بكينا عليهما ** وقد لقيا بالغش فينا رداهما وجاء عبد الملك بن المهلب حتى انتهى إلى أخيه بالعقر، وأمر عبد الله ابن حيان العبدي، فعبر إلى جانب الصراة الأقصى - وكان الجسر بينه وبينه - ونزل هو وعسكره وجمع من جموع يزيد، وخندق عليه، وقطع مسلمة إليهم الماء وسعيد بن عمرو الحرشي، ويقال: عبر إ ليهم الوضاح، فكانوا بإزائهم. وسقط إلى يزيد ناس من الكوفة كثير، ومن الجبال، وأقبل إليه ناس من الثغور، فبعث على أرباع أهل الكوفة الذين خرجوا إليه وربع أهل المدينة عبد الله بن سفيان بن يزيد بن المغفل الأزدي وبعث على ربع مذ حج وأسد النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي، وبعث على ربع كندة وربيعة محمد ابن إسحاق بن محمد بن الأشعث، وبعث على ربع تميم وهمدان حنظلة بن عتاب بن ورقاء التميمي، وجمعهم جميعًا مع المفضل بن المهلب. قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف: حدثني العلاء بن زهير، قال: والله إنا لجلوس عند يزيد ذات يوم إذ قال: ترون أن في هذا العسكر ألف سيف يضرب به؟ قال حنظلة بن عتاب: إي والله وأربعة آلاف سيف، قال: إنهم والله ما ضربوا ألف سيف قط، والله لقد أحصى ديواني مائة وعشرين ألفًا. والله لوددت أن مكانهم الساعة معي من بخراسان من قومي قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إنه قام ذات يوم فحرضنا ورغبنا في القتال ثم قال لنا فيما يقوله: إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيهم إلا الطعن في عيونهم، والضرب بالمشرفية على هامهم، ثم قال: إنه قد ذكر لي أن هذه الجراده الصفراء - يعني مسلمة بن عبد الملك - وعاقر ناقة ثمود؛ يعني العباس ابن الوليد، وكان العباس أزرق أحمر، كانت أمه رومية - والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه؛ فبلغني أن ليس همهما إلا التماس في الأرض، والله لو جاء أهل الأرض جميعًا وليس إلا أنا، ما برحت العرصة حتى تكون لي أو لهم. قالوا: نخاف أن تعنينا كما عنانا عبد الرحمن ابن محمد، قال: إن عبد الرحمن فضح الذمار، وفضح حسبه، وهل كان يعدو أجله! ثم نزل. قال: ودخل علينا عامر بن العميشل - رجل من الأزد - قد جمع جموعًا فأتاه فبايعه؛ فكانت بيعة يزيد: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وعلى ألا تطأ الجنود بلادنا ولا بيضتنا، ولا يعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، فمن بايعنا على ذلك قبلنا منه، ومن أبي جاهدناه، وجعلنا الله بيننا وبينه، ثم يقول: تبايعونا؟ فإذا قالوا: نعم، بايعهم وكان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة، وبعث إلى المياه فبثقها فيما بين الكوفة وبين يزيد بن المهلب، لئلا يصل إلى الكوفة، ووضع على الكوفة مناظر وأرصادًا لتجس أهل الكوفة عن الخروج إلى يزيد، وبعث عبد الحميد بعثًا من الكوفة عليهم سيف بن هانئ الهمداني حتى قدموا على مسلمة، فألطفهم مسلمة، وأثنى عليهم بطاعتهم، ثم قال: والله لقل ما جاءنا من أهل الكوفة. فبلغ ذلك عبد الحميد، فبعث بعثًا هم أكثر من ذلك، وبعث عليهم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف الأرذي، فلما قدم أثنى عليه، وقال: هذا رجل لأهل بيته طاعة وبلاء، ضموا إليه من كان ها هنا من أهل الكوفة. وبعث مسلمة إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن فعزله، وبعث محمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة - وهو ذو الشامة - مكانه. فدعا يزيد بن المهلب رءوس أصحابه فقال لهم: قد رأيت أن أجمع اثني عشر ألف رجل، فأبعثهم مع محمد بن المهلب حتى يبيتوا مسلمة ويحملوا معهم البراذع والأكف والزبل لدفن خندقهم، فيقاتلهم على خندقهم وعسكرهم بقية ليلتهم، وأمده بالرجال حتى أصبح، فإذا أصبحت نهضت إليهم أنا بالناس. فنناجزهم. فإني أرجوعند ذلك أن ينصرنا الله عليهم. قال السميدع: إنا قد دعوناهم إلى كتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ. وقد زعموا أنهم قايلوا هذا منا، فليس لنا أن نمكر ولا نغدر، ولا نريدهم بسوء حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. قال أبو رؤبة - وكان رأس طائفة من المرجئة. ومعه أصحاب له: صدق. هكذا ينبغي. قال يزيد: ويحكم! أتصدقون بني أمية! أنهم يعملون بالكتاب والسنة، وقد ضيعوا ذلك منذ كانوا! إنهم يقولون لكم: إنا نقبل منكم، وهم يريدون ألا يعملوا بسلطانهم إلا ما تأمرونهم به، وتدعونهم إليه؛ لكنهم أرادوا أن يكفوكم عنهم؛ حتى يعملوا في المكر، فلا يسبقوكم إلى تلك، إبدءوهم بها، إني قد لقيت بني مروان فوالله ما لقيت رجلا هو أمكر ولا أبعد غورًا من هذه الجرادة الصفراء - يعني مسلمة - قالوا: لا نرى أن نفعل ذلك. حتى يردوا علينا ما زعموا أنهم قابلوه منا. وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشام، ويسرح الناس إلى يزيد، وكان الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد ابن المهلب. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الحميد البصري، أن الحسن البصري كان يقول في تلك الأيام: أيها الناس، الزموا رحالكم، وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضًا على دنيا زائلة، وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق، وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض؛ إنه لم تكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقى، فمن كان منكم خفيًا فليلزم الحق، وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا، فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفًا؛ وكفى له بها من الدنيا خلفًا؛ ومن كان منكم معروفًا شريفًا، فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك، فواهًا لهذا! ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله! فهذا غدًا - يعني يوم القيامة - القرير عينًا، الكريم عند الله مآبًا. فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب قام خطيبًا كما يقوم، فأمر الناس بالجد والاحتشاد، ثم قال لهم: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي - ولم يسمه - يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه؛ أينكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب حقنا، وأن ننكر مظلمتنا! أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سقاط الأبلى وعلوج فرات البصرة - قومًا ليسوا من أنفسنا، ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا - أو لأنحين عليه مبردًا خشنًا. فلما بلغ ذلك الحسن قال: والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه. فقال ناس من أصحابه: لو أرادك ثم شئت لمنعناك، فقال لهم: فقد خالفتكم إذًا إلى ما نهيتكم عنه! آمركم ألا يقتل بعضكم بعضًا مع غير، وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضًا دوني! فبلغ ذلك مروان بن الهلب، فاشتد عليهم وأخافهم وطلبهم حتى تفرقوا. ولم يدع الحسن كلامه ذلك، وكف عنه مروان بن المهلب. وكانت إقامة يزيد بن المهلب منذ أجمع هو ومسلمة ثمانية أيام، حتى إذا كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من صفر، بعث مسلمة إلى الوضاح أن يخرج بالوضاحية والسفن حتى يحرق الجسر، ففعل. وخرج مسلمة فعبى جنود أهل الشام، ثم ازدلف بهم نحو يزيد بن المهلب، وجعل على ميمنته جبلة بن مخرمة الكندي، وجعل على ميسرته الهذيل بن زفر بن الحارث العامري، وجعل عباس على ميمنته سيف بن هاني الهمداني. وعلى ميسرته سويد بن القعقاع التميمي ومسلمة على الناس، وخرج يزيد بن المهلب، وقد جعل على ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى ميسرته المفضل بن المهلب، وكان مع المفضل أهل الكوفة وهو عليهم، ومعه خيل لربيعة معها عدد حسن، وكان مما يلي العباس بن الوليد. قال أبو مخنف: فحدثني الغنوى - قال هشام: وأظن الغنوى العلاء ابن المنهال - أن رجلًا من الشام خرج فدعاه إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد، فبرز له محمد بن المهلب، فحمل عليه، فاتقاه الرجل بيده، وعلى كفه كف من حديد، فضربه محمد فقطع كف الحديد وأسرع السيف في كفه، واعتنق فرسه، وأقبل محمد يضربه، ويقول: المنجل أعود عليك. قال: فذكر لأنه حيان النبطي. قال: فلما دنى الوضاح من الجسر ألهب فيه النار، فسطع دخانه؛ وقد اقتتل الناس ونشبت الحرب، ولم يشتد القتال، فلما رأى الناس الدخان، وقيل هم: أحرق الجسر انهزموا، فقالوا ليزيد: قد انهزم الناس قال: ومم انهزموا؟ هل كان قتال ينهزم من مثله! فقيل له: قالوا: أحرق الجسر فلم يثبت أحد، قال: قبحهم الله! بق دخن عليه فطار فخرج وخرج معه أصحابه ومواليه وناس من قومه، فقال: اضربوا وجوه من ينهزم، ففعلوا ذلك بهم، حتى كثروا عليه فاستقبلهم منهم مثل الجبال، فقال: دعوهم، فوالله إني لأرجو ألا يجمعني الله وإياهم في مكان واحد أبدًا؛ دعوهم يرحمهم الله، غنم عبدا في نواحيها الذئب، وكان يزيد لايحدث نفسه بالفرار، وقد كان يزيد بن الحكم بنأبي العاص - وأمه ابنت الزبرقان السعدي - آتاه وهو بواسط قبل أن يصل إلى العقر، فقال: إن بني مروان قد باد مهلكهم ** فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر قال يزيد: ما شعرت. قال: فقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي: فعش ملكًا أو مت كريمًا وإن تمت ** وسيفك مشهور بكفك تعذر قال: أما هذا فعسى. ولما خرج يزيد إلى أصحابه واستقبلته الهزيمة، فقال: يا سميدع، أرأيي أم رأيك؟ ألم أعلمك ما يريد القوم! قال: بلى والله، والرأي كان رأيك، وأناذا معك لا أزايلك، فمرني بأمرك؛ قال: إما لا فانزل، فنزل في أصحابه، وجاء يزيد بن المهلب جاء فقال: إن حبيبًا قد قتل قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير بن سلمى الأزدي، قال: أشهد أني أسمعه حين قال له ذلك: قال: لا خبر في العيش بعد حبيب! قد كنت والله أبغض الحياة بعد الهزيمة؛ فوالله ما ازددت له إلا بغضًا، امضوا قدمًا. فعلمنا والله أن قد استقتل؛ فأخذ من يكره القتال ينقص، وأخذوا يتسللون، وبقيت معه جماعة حسنة، وهو يزدلف، فكلما مر بخيل كشفها، أو جماعة من أهل الشام عدلوا عنه وعن سنن أصحابه، فجاء أبو رؤبة المرجئ، فقال: ذهب الناس - وهو يشير بذلك إليه وأنا أسمعه - فقال: هل لك أن تنصرف إلى واسط؛ فإنها حصن فتنزلها ويأتيك مدد أهل البصرة، ويأتيك أهل عمان والبحرين في السفن، وتضرب خندقًا؟ فقال له: قبح الله رأيك! ألي تقول هذا! الموت أيسر علي من ذلك، فقال له: فإني أتخوف عليك لما ترى، أما ترى ما حولك من جبال الحديد! وهو يشير إليه، فقال له: أما أنا فما أباليها؛ جبال حديد كانت أم جبال نار، اذهب عنا إن كنت لا تريد قتالًا معنا. قال: وتمثل قول حارثة بن بدر الغداني - قال أبو جعفر أخطأ هذا؛ هو للأعشى -: أبالموت خشتني عباد وإنما ** رأيت منايا الناس يشقى ذليلها فما ميتة إن متها غير عاجز ** بعار إذا ما غالت النفس غولها وكان يزيد بن المهلب على برذون له أشهب، فأقبل نحو مسلمة لا يريد غيره؛ حتى إذا دنا منه أدنى مسلمة فرسه ليركب، فعطف عليه خيول أهل الشام، وعلى أصحابه، فقتل يزيد بن المهلب، وقتل معه السميدع، وقتل معه محمد بن المهلب. وكان رجل من كلب من بني جابر بن زهير بن جناب الكلبي يقال له القحل بن عياش لما نظر إلى يزيد قال: يا أهل الشام، هذا والله يزيد، والله لأقتلنه أو ليقتلني، وإن دونه ناسًا، فمن يحمل معي يكفيني أصحابه حتى أصل إليه؟ فقال له ناس من أصحابه: نحمل نحن معك، ففعلوا، فحملوا بأجمعهم، واضطربوا ساعة، وسطع الغبار، وانفرج الفريقان عن يزيد قتيلا، وعن القحل بن عياش بآخر رمق. فأومى إلى أصحابه يريهم مكان يزيد؛ يقول لهم: أنا قتلته، ويومي إلى نفسه إنه هو قتلني. ومر مسلمة على القحل بن عياش صريعًا إلى جنب يزيد، فقال: أما إني أظن هذا هو الذي قتلني. وجاء برأس يزيد مولى لبني مرة، فقيل له: أنت قتلته؟ فقال: لا، فلما أتى به مسلمة لم يعرف ولم ينكر، فقال له الحواري بن زياد ابن عمرو العتكي: مر برأسه فليغسل ثم ليعمم، ففعل ذلك به، فعرفه، فبعث برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. قال أبو مخنف: فحدثني ثابت مولى زهير، قال: لقد قتل يزيد وهزم الناس، وإن المفضل بن المهلب ليقاتل أهل الشام ما يدري بقتل يزيد ولا بهزيمة الناس؛ وإنه لعلى برذون شديد قريب من الأرض، وإن معه لمجففة أمامه، فكلما حمل عليها نكصت وانكشفت وانكشف، فيحمل في ناس من أصحابه يخالط القوم ثم يرجع حتى يكون من وراء أصحابه، وكان لا يرى منا ملتفتًا إلا أشار إليه بيده ألا يلتفت ليقبل القوم بوجوههم على عدوهم، ولا يكون لهم هم غيرهم. قال: ثم اقتتلنا ساعة؛ فكأني أنظر إلى عامر بن العميشل الأرذي وهو يضرب بسيفه، ويقول: قد علمت أم الصبي المولود ** أني بنصل السيف غير رعديد قال: واضطربنا والله ساعة، فانكشفت خيل ربيعة؛ والله ما رأيت عند أهل الكوفة من كبير صبر ولا قتال، فاستقبل ربيعة بالسيف يناديهم: أي معشر ربيعة، الكرة الكرة! والله ما كنتم بكشف ولا لئام، ولا هذه لكم بعادة، فلا يأتين أهل العراق اليوم من قبلكم. أي ربيعة، فدتكم نفسي، اصبروا ساعة من النهار. قال: فاجتمعوا حوله، وثابوا إليه، وجاءت كويفتك. قال: فاجتمعنا ونحن نريد الكرة عليهم، حتى أتى، فقيل له: ما تصنع ها هنا وقد قتل يزيد وحبيب ومحمد، وانهزم الناس منذ طويل؟ وأخبر الناس بعضهم بعضًا، فتفرقوا ومضى المفضل، فأخذ الطريق إلى واسط، فما رأيت رجلًا من العرب مثل منزلته كان أغشى للناس بنفسه، ولا أضرب بسيفه، ولا أحسن تعبئة لأصحابه منه. قال أبو مخنف: فقال لي ثابت مولى زهير: مررت بالخندق، فإذا عليه حائط، عليه رجال معهم النبل، وأنل مجفف، وهم يقولون: يا صاحب التجفاف، أين تذهب؟ قال: فما كان شئ أثقل علي من تجفافي، قال: فما هو إلا أن جزتهم، فنزلت فألقيته لأخفف عن دابتي. وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد بن المهلب، فقاتلهم أبو رؤبة صاحب المرجئة ساعة من النهار حتى ذهب عظمهم، وأسر أهل الشام نحوًا من ثلثمائة رجل، فسرحهم مسلمة إلى محمد بن عمرو بن الوليد فحبسهم. وكان على شرطه العريان بن الهيثم. وجاء كتاب من يزيد بن عبد الملك إلى محمد بن عمرو: أن اضرب رقاب الأسراء، فقال للعريان بن الهيثم: أخرجهم عشرين عشرين، وثلاثين ثلاثين. قال: فقام نحو من ثلاثين رجلًا من بني تميم، فقالوا: نحن انهزمنا بالناس، فاتقوا الله وابدءوا بنا، أخرجونا قبل الناس، فقال لهم العريان: اخرجوا على اسم الله، فأخرجهم إلى المصطبة، وأرسل إلى محمد بن عمرو يخبره بإخراجهم ومقالتهم، فبعث إليه أن اضرب أعناقهم. قال أبو مخنف: فحدثني نجيج أبو عبد الله مولى زهير، قال: والله إني لأنظر إليهم يقولون: إنا لله! انهزمنا بالناس، وهذا جزاؤنا، فما هو إلا أن فرغ منهم، حتى جاء رسول من عند مسلمة فيه عافية الأسراء والنهي عن قتلهم. فقال حاجب بن ذبيان من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم: لعمري لقد خاضت معيط دماءنا ** بأسيافها حتى انتهى بهم الوحل وما حمل الأقوام أعظم من دم ** حرام ولا ذحل إذا التمس الذحل حقنتم دماء المصلتين عليكم ** وجر على فرسان شيعتك القتل وقى بهم العريان فرسان قومه ** فيا عجبًا أين الأمان والعدل! وكان العريان يقول: والله ما اعتمدتهم ولا أردتهم حتى قالوا: أبعد بنا، أخرجنا، فما تركت حين أخرجتهم أن أعلمت المأمور بقتلهم، فما يقبل حجتهم، وأمر بقتلهم، والله على ذلك ما أحب أن قتل من قومي مكانهم رجل. ولئن لاموني ما أنا بالذي أحفل لا ئمتهم، ولا تكبر عليه. وأقبل مسلمة حتى نزل الحيرة، فأتى بنحو من خمسين أسيرًا، ولم يكونوا فيمن بعث به إلى الكوفة، كان أقبل بهم معه، فلما رأى الناس أنه يريد أن يضرب رقابهم، قام إليه الحصين بن حماد الكلبي فاستوهبه ثلاثة: زياد بن عبد الرحمن القشيري، وعتبة بن مسلم، وإسماعيل مولى آل بني عقيل بن مسعود، فوهبهم له، ثم استوهب بقيتهم أصحابه، فوهبهم لهم، فلما جاءت هزيمة يزيد إلى واسط، أخرج معاوية بن يزيد بن المهلب اثنين وثلاثين أسيرًا كانوا في يده، فضرب أعناقهم: منهم عدي بن أرطاة، ومحمد بن عدي بن أرطاة ومالك وعبد الملك ابنا مسمع وعبد الله بن عذرة البصري، وعبد الله بن وائل وابن أبي حاضر التميمي من بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقد قال له القوم: ويحك! إنا لا نراك إلا تقتلنا؛ إلا أن أباك قد قتل، وإن قتلنا ليس بنافع لك في الدنيا، وهو ضارك في الآخرة؛ فقتل الأسارى كلهم غير ربيع بن زياد بن الربيع ابن أنس بن الريان، تركه، فقال له ناس: نسيته؟ فقال: مانسيته؛ ولكن لم أكن لأقتله؛ وهو شيخ من قومي له شرف ومعروف وبيت عظيم، ولست أتهمه في ود، ولا أخاف بغيه. فقال ثابت قطنة في قتل عدي بن أرطاة: ماسرني قتل الفزاري وابنه ** عديً ولا أحببت قتل ابن مسمع ولكنها معاوي زلة ** وضعت بها أمري على غير موضع ثم أقبل حتى أتى البصرة ومعه المال والخزائن، وجاء المفضل بن المهلب، واجتمع جميع آل المهلب بالبصرة، وقد كانوا يتخوفون الذي كان من يزيد، وقد أعدوا السفن البحرية، وتجهزوا بكل الجهاز، وقد كان يزيد بن المهلب بعث وداع بن حميد الأسدي على قندابيل أميرًا، وقال له: إني سائر إلى هذا العدو، ولوقد لقيتهم لم أبرح العرصة حتى تكون إلي أولهم، فإن ظفرت أكرمتك، وإن كانت الأخرى كنت بقندابيلحتى يقدم عليك أهل بيتي، فيتحصنوا بها حتى يأخذوا لأنفسهم أمانًا، أما إني قد اخترتك لأهل بيتي من بين قومي؛ فكن عند حسن ظني، وأخذ عليه أيمانًا غلاظًا ليناصحن أهل بيته، إن هم احتاجوا ولجئوا إليه، فلما اجتمع آل المهلب بالبصرة بعد الهزيمة حملوا عيالاتهم وأموالهم في السفن البحرية، ثم لججوا في البحر حتى مروا بهرم ابن القرار العبدي - وكان يزيد استعمله على البحرين - فقال لهم: أشير عليكم ألا تفارقوا سفنكم، فإن ذلك هو بقاؤكم، وإني أتخوف عليكم إن خرجتم من هذه السفن أن يتخطفكم الناس، وأن يتقربوا بكم إلى بني مروان. فمضوا حتى إذا كانوا بحيال كرمان خرجوا من سفنهم، وحملوا عيالاتهم وأموالهم على الدواب. وكان معاوية بن يزيد بن المهلب حين قدم البصرة قدمها ومعه الخزائن وبيت المال؛ فكأنه أراد أن يتأمر عليهم، فاجتمع أهل المهلب وقالوا للمفضل: أنت أكبرنا وسيدنا، وأنما أنت غلام حديث السن كبعض فتيلن أهلك، فلم يزل المفضل عليهم حتى خرجوا إلى كرمان، وبكرمان فلول كثيرة، فاجتمعوا إلى المفضل، وبعث مسلمو بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في طلب آل المهلب وفي أثر الفل. فأدرك مدرك المفضل بن المهلب، وقد اجتمعت إليه الفلول بفارس فتبعهم، فأدركهم في عقبة، فعطفوا عليه، فقاتلوه واشتد قتالهم إياه، فقتل مع المفضل بن المهلب النعمان بن إبراهيم بن الأشتر النخعي ومحمد بن إسحاق ابن محمد بن الأشعث، وأخذ ابن صول ملك قهستان أسيرًا، وأخذت سرية المفضل العلية، وجرح عثمان بن إسحاق بن محمد بن الاشعث جراحة شديدة وهرب حتى انتهى إلى حلوان، فدل عليه، فقتل وحمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة، ورجع ناس من أصحاب يزيد بن المهلب، فطلبوا الأمان، فأومنوا؛ منهم مالك بن إبراهيم بن الاشتر، والورد بن عبد الله بن حبيب السعدي من تميم، وكان قد شهد مع عبد الرحمن بن محمد مواطنه وأيامه كلها، فطلب له الامان محمد بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان إلى مسلمة بن عبد الملك عمه وابنة مسلمة تحته - فأمنه، فلما آتاه الورد وقفه مسلمة فشتمه قائمًا، فقال: صاحب خلاف شقاق ونفاق ونفار في كل فتنة، مرة مع حائك كندة، ومرة مع ملاح الأزد؛ ما كنت بأهل أن تؤمن؛ قال: ثم انطلق. وطلب الأمان لمالك بن إبراهيم بن الأشتر الحسن بن عبد الرحمن بن شراحيل - وشراحيل يلقب رستم الحضرمي - فلما جاء ونظر إليه، قال له الحسن بن عبد الرحمن الحضرمي هذا مالك بن إبراهيم بن الأشتر، قال له: انطلق، قال له الحسن: أصلحك الله! لم لم تشتمه كما شتمت صاحبه! قال: أجللتكم عن ذلك، وكنتم أكرم علي من أصحاب الآخر وأحسن طوعا. قال: فإنه أحب إلينا أن تشتمه، فهو والله أشف أبًا وجدًا، وأسوأ أثرًا من أهل الشام من الورد بن عبد الله؛ فكان الحسن يقول بعد أشهر: ما تركه إلا حسدًا من أن يعرف صاحبنا، فأراد أن يرينا أنه قد حقره. ومضى آل المهلب ومن سقط منهم من الفلول حتى انتهوا إلى قندابيل، وبعث مسلمة إلى مدرك بن ضب الكلبي فرده، وسرح في أثرهم هلال بن أحوز التميمي، من بني مازن بن عمرو بن تميم فلحقهم بقندابيل، فأراد آل المهلب دخول قندابيل، فمنعهم وداع بن حميد وكاتبه هلال بن أحوز، ولم يباين آل المهلب فيفارقهم، فتبين لهم فراقه لما التقوا وصفوا، كان وداع بن حميد على الميمنة، وعبد الملك بن هلال على الميسرة وكلاهما أزدى، فرفع لهم راية الأمان، فمال إليهم وداع بن حميد وعبد الملك ابن هلال، وارفض عنهم الناس فخلوهم. فلما رأى ذلك مروان بن المهلب ذهب يريد أن ينصرف إلى النساء فقال له المفضل: أين تريد؟ قال: أدخل إلى نسائنا فأقتلهن، لئلا يصل إليهم هؤلاء الفساق، فقال: ويحك! أتقتل أخواتك ونساء أهل بيتك! إنا والله ما نخاف عليهم منهم. قال: فرده عن ذلك ثم مشوا بأسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم، إلا أبا عيين ابن المهلب، وعثمان بن المفضل فإنهما نجوا، فلحقا بخاقان ورتبيل وبعث بنسائهم وأولادهم إلى مسلمة بالحيرة، وبعث برءوسهم إلى مسلمة، فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك، وهو على حلب، فلما نصبوا خرج لينظر إليهم، فقال لأصحابه: هذا رأس عبد الملك، هذا رأس المفضل، والله لكأنه جالس معي يحدثني. وقال مسلمة: لأبيعن ذريتهم وهو في دار الرزق، فقال الجراح بن عبد الله: فأنا أشتريهم منك لأبر يمينك، فاشتراهم منه بمائة ألف، قال: هاتها، قال: إذا شئت فخذها، فلم يأخذ منه شيئًا وخلا سبيلهم، إلا تسعة فتية منهم أحداث بعث بهم إلى يزيد بن عبد الملك، فقدم بهم عليه، فضرب رقابهم، فقال ثابت قطنة حين بلغه قتل يزيد بن المهلب يرثيه: ألا يا هند طال على ليلي ** وعاد قصيره ليلى تماما كأني حين حلقت الثريا ** سقيت لعاب أسود أو سماما أمر على حلو العيش يوم ** من الأيام شيبني غلامًا مصاب بني أبيك وغبت عنهم ** فلم أشهدهم ومضوا كراما فلا والله لا أنسى يزيدًا ** ولا القتلى التي قتلت حراما فعلي أبو بأخيك يومًا ** يزيدًا أو أبوء به هشاما وعلي أن أقود الخيل شعثًا ** جوازب ضمرًا تقص الإكاما قأصبحهن حمير من قريب ** وعكا أو أرع بهما جذاما ونسقي مذحجًا والحي كلبًا ** من الذيفان أنفاسًا قواما عشائرنا التي تبغي علينا ** تجربنا زكا عامًا فعاما ولولاهم وما جلبوا علينا ** لأصبح وسطنا ملكا هماما وقال أيضًا يرثي يزيد بن المهلب: أبى طول هذا الليل أن يتصرما ** وهاج لك الهم الفؤاد المتيما أرقت ولم تأرق معي أم خالد ** وقد أرقت عيناي حولًا مجرما على هالك هد العشيرة فقده ** دعته المنايا فاستجاب وسلما على ملك يا صاح بالعقر جبنت ** كتائبه واستورد الموت معلما أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدًا ** تسليت إن لم يجمع الحي مأتما وفي غير الأيام يا هند فاعلمي ** لطالب وتر نظرة إن تلوما فعلي إن مالت بي الريح ميلة ** على ابن أبي ذبان أن يتندما أمسلم إن يقدر عليك رماحنا ** نذقك بها قئ الأساود مسلما وإن نلق للعباس في الدهر عثرة ** نكافئه باليوم الذي كان قدما قصاصًا ولا نعدو الذي كان قد أتى ** إلينا وإن كان ابن مروان أظلما ستعلم إن زلت بك النعل زلة ** وأظهر أقوام حياء مجمجا من الظالم الجاني على أهل بيته ** إذا أحصرت أسباب أمر وأبهما وإن لعطافون بالحلم بعد ما ** نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ** به ساكنًا إلا الخميس العرمرما نرى أن للجيران حاجًا وحرمة ** إذا الناس لم يرعوا لذى الجار محرما وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى ** إذا كان رفد الرافدين تجثما وراحت بصراد ملث جليده ** على الطلح أرماكًا من الشهب صيما أبونا أبو الأنصار عمرو بن عامر ** وهم ولدوا عوفًا وكعبًا وأسلما وقد كان في غسان مجد يعده ** وعادية كانت من المجد معظما ولاية مسلمة بن عبد الملك على العراق وخراسان فلما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان في هذه السنة، فلما ولاه يزيد ذلك، ولى مسلمة الكوفة ذا الشامة محمد بم عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وقام بأمر البصرة بعد أن خرج منها آل المهلب - فيما قيل - شبيب بن الحارث التميمي، فضبطها، فلما ضمت إلى مسلمة بعث عاملاه عليها عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمر بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن بن سليم أن يستعرض أهل البصرة، وأفشى ذلك إلى عمر بن يزيد، فقال له عمر: أتريد أن تستعرض أهل البصرة ولم تمن حصنًا بكويفة، وتدخل من تحتاج إليه! فوالله لو رماك أهل البصرة وأصحابك بالحجارة لتخوفت أن يقتلونا؛ ولكن أنظرنا عشرة أيام حتى نأخذ أهبة ذلك. ووجه رسولا إلى مسلمة يخبره بما هم به عبد الرجمن، فوجه مسلمة عبد الملك ابن بشر بن مروان على البصرة، وأقر عمر بن يزيد على الشرطة والأحداث. ذكر استعمال مسلمة سعيد خذينة على خراسان قال أبو حعفر: وفي هذه السنة وجه مسلمة بن عبد الملك سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص وهو الذي يقال له خُذَينة - وإنما لقب بذلك - فيما ذكر - أنه كان رجلًا لينًا يهلًا متنعمًا، قدم خراسان على بختيه معلقًا سكينًا في منطقته، فدخل عليه ملك أبغل، وسعيد متفضل في ثياب مصبغة، حوله مرافق مصبغة فلما خر من عنده قالوا له: كيف رأيت الأمير؟ قال: خذينية، لمته سكينية؛ فلقب خذينة وخذينة هي الدهقانة ربة البيت، وإنما استعمل مسلمة سعيد خذينة على خراسان لأنه كان ختنه على ابنته، كان سعيد متزوجًا بابنة مسلمة. ولما ولى مسلمة سعيد خذينة خراسان، قدم إليها قبل شخوصه سورة ابن الحر من بني دار، فقدمها قبل سعيد - فيما ذكر - بشهر، فاستعمل شعبة بن ظهير النهشلي على سمرقند، فخرج إليها في وخمسة وعشرين رجلًا من أهل بيته، فأخذ على آمل، فأتى بخارى، فصحبه منها مائتا رجل، فقدم السغد، وقد كان أهلها كفروا في ولاية عبد الرحمن بن نعيم الغامدي، ووليها ثمانية عشر شهرًا، ثم عادوا إلى الصلح، فخطب شعبة أهل السغد، ووبخ سكانها من العرب وعيرهم بالجبن، فقال: ما أرى فيكم جريحًا، ولا أسمع فيكم أنة. فاعتذروا إليه بأن جبنوا عاملهم علباء بن حبيب العبدي، وكانت على الحرب. ثم قدم سعيد، فأخذ عمال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري الذين ولوا أيام عمر بن عبد العزيز فحبسهم، فكلمه فيهم عبد الرحمن بن عبد الله القشيري، فقال له سعيد: قد رفع علهم أن عندهم أموالًا من الخوارج. قال: فأنا أضمنه، فضمن عنهم سبعمائة ألف، ثم لم يأخذه بها. ثم إن سعيدًا رفع إليه - فيما ذكر علي بن محمد - أن جهم بن زحر الجعفي وعبد العزيز بن عمرو بن الحجاج الزبيدي والمنتجع بن عبد الرحمن الأزدي والقعقاع الأزدي ولوا ليزيد بن المهلب وهم ثمانية، وعندهم أموال قد أختانوها من فئ المسلمين. فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو، فقيل له: إن هؤلاء لا يؤدون إلا أن تبسط عليهم. فأرسل إلى جهم بن زحر، فحمل على حمار من قهندز مرو، فمرو به على الفيض بن عمران، فقام إليه فوجأ أنفه، فقال له جهم: يا فاسق، هلا فعلت هذا حين أتوني بك سكران قد شربت الخمر، فضربتك حدًا! فغضب سعيد على جهم فضربه مائتى سوط، فكبر أهل السوق حين ضرب جهم بن زحر، وأمر سعيد بجهم والثمانية الذين كانواط في السجن فدفعوا إلى ورقاء بن نصر الباهلي، فاستعفاه فأعفاه. وقال عبد الحميد بن دثار - أو عبد الملك بن دثار - والزبير بن نشيط مولى باهلة، وهو زوج أم سعيد خذينة: ولنا محاسبتهم، فولاهم فقتلوا من العذاب جهمًا، وعبد العزيز بن عمر والمنتجع، وعذبوا القعقاع وقومًا حتى أشرفوا على الموت قال: فلم يزالوا في السجن حتى غزتهم الترك وأهل السغد، فأمر سعيد بإخراج من بقي منهم، فكان سعيد يقول: قبح الله الزبير، فإنه قتل جهما! وفي هذه السنة غزا المسلمون السغد والترك، فكان فيها الوقعة بينهم بقصر الباهلي. وفيها عزل سعيد خذينة شعبة بن ظهير عن سمرقند. ذكر الخبر عن سبب عزل سعيد شعبة وسبب هذه الوقعة وكيف كانت ذكر علي بن محمد عن الذي تقدم ذكرى خبره عنهم، أن سعيد خذينة لما قدم خراسان، دعا قومًا من الدهاقين، فاستشارهم فيمن يوجه إلى الكور، فأشاروا إليه بقوم من العرب، فولاهم، فشكوا إليه، فقال للناس يومًا وقد دخلوا عليه: إني قدمت البلد، وليس لي علم بأهله، فاستشرت فأشاروا علي بقوم، فسألت عنهم فحمدوا، فوليتهم، فأحرج عليكم لما أخبرتموني عن عمالي. فأثنى عليهم القوم خيرًا، فقال عبد الرحمن بن عبد الله القشيري: لو لم تحرج علينا لكففت، فأما إذ حرجت علينا فإنك شاورت المشركين فأشاروا عليك بمن لا يخالفهم وبأشباههم، فهذا علمنا فيهم. قال: فاتكأ سعيد ثم جلس، فقال: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، قوموا. قال: وعزل سعيد شعبة بن ظهير عن السغد، وولى حربها عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير، وولى الخراج سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة، واستعمل على هراة معقل بن عروة القشيري، فسار إليها. وضعف الناس سعيدًا وسموه خذينة، فطمع فيه الترك، فجمع له خاقان الترك، ووجههم إلى السغد، فكان على الترك كورصول، وأقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي. وقال بعضهم: أراد عظيم من عظماء الدهاقين أن يتزوج امرأة من باهلة، وكانت في ذلك القصر، فأرسل إليها يخطبها. فأبت، فاستجاش ورجا أن يسبوا من في القصر، فيأخذ المرأة، فأقبل كورصول حتى حصر أهل القصر، وفيه مائة أهل بيت بذراريهم، وعلى سمرقند عثمان بن عبد الله وخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفًا، وأعطوهم سبعة عشر رجلًا رهينة، وندب عثمان بن عبد الله الناس، فانتدب المسيب بن بشر الرياحي وانتدب أربعة آلاف من جميع القبائل، فقال شعبة بن ظهير: لو كان ها هنا خيول خراسان ما وصلوا إلى غايتهم. قال: وكان فيمن انتدب من بني تميم شعبة بن ظهير النهشلي وبلعاء بن مجاهد العنزي، وعميرة بن ربيعة أحد بني العجيف - وهو عميرة الثريد - وغالب بن المهاجر الطائي - وهو أبي العباس الطوسي - وأبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وثابت قطنة وأبو المهاجر بن دارة من غطفان، وحليس الشيباني، والحجاج بن عمرو الطائي، وحسان بن معدان الطائي، والأشعث أبو حطامة وعمرو بن حسان الطائيان. فقال المسيب بن بشر لما عسكروا: إنكم تقدمون على حلبة الترك، حلبة خاقان وغيرهم، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليقدم. فانصرف عنه ألف وثلثمائة، وسار في الباقين، فلما سار فرسخًا قال للناس مثل مقالته الأولى، فاعتزل ألف، ثم سار فرسخًا آخر فقال لهم مثل ذلك، فاعتزل ألف. ثم سار - وكان دليلهم الأشهب بن عبيد الحنظلي - حتى إذا كان على فرسخين من القوم نزل فآتاهم ترك خاقان ملك قي فقال: إنه لم يبق هاهنا دهقان إلا وقد بايع الترك غيري، وأنا في ثلثمائة مقاتل فهم معك، وعندي الخبر، قد كانوا صالحوهم على أربعين ألفًا؛ فأعطوهم سبعة عشر رجلًا؛ ليكونوا رهنًا في أيديهم حتى يأخذوا صلحهم؛ فلما بلغهم مسيركم إليهم قتل الترك من كان في أيديهم من الرهائن. قال: وكان فيهم نهشًا بن يزيد الباهلي فنجا لم يقتل، والأشهب بن عبيد الله الحنظلي وميعادهم أن يقاتلوهم غدًا أو يفتحوا القصر، فبعث المسيب رجلين: رجلًا من العرب ورجلًا من العجم من ليلته على خيولهم، وقال لهم: إذا قربتم فشدوا دوابكم بالشجر، واعلموا علم القوم. فأقبلا في ليلة مظلمة؛ وقد أجرت الترك الماء في نواحي القصر؛ فليس يصل إليه أحد. ودنوا من القصر؛ فصاح بهما الربيئة، فقلا: لا تصح وادعوا لنا عبد الملك ابن دثار، فدعاه فقالا له: أرسلنا المسيب، وقد آتاكم الغياث، قال: أين هو؟ قال: على فرسخين؛ فهل عندكم امتناع ليلتك وغدًا؟ فقال: قد أجمعنا على تسليم نسائنا وتقديمهم للموت أمامنا؛ حتى نموت جميعًا غدًا فرجعا إلى المسيب، فأخبراه، فقال المسيب للذين معه: إني سائر إلى هذا العدو، فمن أحب أن يذهب فليذهب فلم يفارقه أحد؛ وبايعوه على الموت. فسار وقد زاد الماء الذي أجروه حول المدينة تحصينًا، فلما كان بينهم وبينهم نصف فرسخ نزل، فأجمع على بياتهم؛ فلما أمسى أمر الناس فشدوا على خيولهم، وركب فحثهم على الصبر، ورغبهم فيما يصير إليه أهل الأحتساب والصبر، وما لهم في الدنيا من الشرف والغنيمة إن ظفروا، وقال لهم: أكعموا دوابكم وقودوها، فإذا دنوتم من القوم فاركبوها وشدوا شدة صادقة وكبروا، وليكن شعاركم: يا محمد؛ ولا تتبعوا موليًا، وعيكم بالدواب فاعقروها، فإن الدواب إذا عقرت كانت أشد عليهم منكم، القليل الصابر خير من الكثير الفشل؛ وليست بكم قلة، فإن سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنوه وأن كثر أهله. قال: وعبأهم وجعل على الميمنة كثير بن الدبوسي، وعلى الميسرة رجلًا من ربيعة يقال له ثابت قطنة وساروا حتى إذا كانوا منهم على غلوتين كبروا وذلك في السحر، وثار الترك، وخالط المسلمون العسكر فعقروا الدواب، وصابرهم الترك، فجال المسلمون وانهزموا حتى صاروا إلى المسيب، وتبعهم الترك وضربوا عجز دابة المسيب فترجل رجال من المسلمين، فيهم البختري أبو عبد الله المرائي، ومحمد بن قيس الغنوة - ويقال: محمد بن قيس العنبري - وزياد الأصبهاني، ومهاوية بن الحجاج، وثابت قطنة. فقات البختري فقطعت يمينه، فأخذ السيف بشماله فقطعت، فجعل يذب بيده حتى استشهد. واتشهد أيضًا محمد بن قيس العنبري أو الغنوة وشبيب بن الحجاج الطائي. قال: ثم انهزم المشركون، وضرب ثابت قطنة عظيمًا من عظمائهم، فقتله، ونادى منادي المسيب: لا تتبعوهم؛ فأنهم لا يدرون من الرعب، اتبعتموهم أم لا! واقصدوا القصر، ولا تحملوا شيئًا من المتاع إلا المال، ولا تحملوا من يقدر على المشي. وقال المسيب: من حمل امرأة او صبية أو ضعيفأ حسبة فأجره على الله، ومن أبي فلة أربعون درهمًا، وإن كان في القصر أحد من أهل عهدكم فاحملوه قال: فاقصدوا جميعًا القصر فحملوا من كان فيه، وانتهى رجل من بني فقيم إلى امرأة. فقالت: أغثني أغاثك الله! فوقف وقال: دونك وعجز الفرس، فوثبت فإذا هي على عجز الفرس؛ فإذا هي أفرس من رجل، فتناول فقيمي بيد أبنها، غلامًا صغيرًا، فوضعه بين يديه، وآتوا ترك خاقان، فأنزلهم قصره وآتاهم بطعام، وقال: الحقوا بسمرقند، لا يرجعوا في آثاركم. فخرجوا نحو سمرقند، فقال لهم: هل بقي أحد؟ قالوا: هلال الحريري، قال: لا أسلمه فآتاه وبه بضع وثلاثون جراحة، فاحتمله، فبرأ، ثم أصيب يوم الشغب مع الجنيد. قال: فرجع الترك من الغد، فلم يروا في القصر أحدًا، رأوا قتلاهم، فقالوا: لم يكن الذين جاؤوا من الإنس، فقال ثابت قطنة: فددت نفسي فوارس من تميم ** غداة الروع في ضنك المقام فددت نفسي فوارس أكنفوني ** على الأعداء في رهج القتام بقصر الباهلي وقد رأوني ** أحامي حيث ضمن به المحام بسيفي بعد حطم الرمح قدمًا ** أذودهم بذي شطب جسام أكر عليهم اليحموم كرا ** ككر الشرب آنية المدام أكر به لدى الغمرات حتى ** تجلت لا يضيق بها مقامي فلولا الله ليس له شريك ** وضربى قونس الملك الهمام إذًا لسعت النساء بني دثار ** أما الترك بادية الخدام! فمن مثل المسيب في تميم ** أبى بشر كقدامة الحمام وقال جرير يذكر المسيب: لولا حماية يربوع نساءكم ** كانت لغيركم منهن أطهار حامى المسيب والخيلان في رهج ** إذ مازن ثم لا يحمى لها جار إذ لا عقال يحامى عن ذماركم ** ولا زرارة يحميها ووزار قال: وعور تلك الليلة أبو سعيد معاوية بن الحجاج الطائي، وشلت يده، وقد كان ولي ولاية قبل سعيد، فخرج عليه شيء مما كان بقي عليه فأخذ به، فدفعه سعيد إلى شداد بن خليد الباهلي ليحاسبه ويستأديه فضيق عليه شداد، فقال: يا معشر قيس، سرت إلى قصر الباهلي وأنا شديد البطش، حديد البصر؛ فعورت وشلت يدي، وقاتلت مع من قاتل حتى استنقذناهم بعد أن أشرفوا على القتل والأسر والسبي، وهذا صاحبكم يصنع بي ما يصنع، فكفوه عني، فخلاه. قال: وقال عبد الله بن محمد عن الرجل شهد ليلة قصر الباهلي قال: كنا في القصر، فلما التقوا ظننا أن القيامة قد قامت لما سمعنا من هماهم القوم ووقع الحديد وصهيل الخيل. ذكر الخبر عن غزو سعيد خذينة السغد وفي هذه السنة قطع سعيد خذينة نهر بلخ وعزا السغد، وكانوا نقضوا العهد وأعانوا الترك على المسلمين. ذكر الخبر عما كان من أمر سعيد والمسلمين في هذه الغزوة وكان سبب غزو سعيد هذه الغزوة - فيما ذكر - إن الترك عادوا إلى السغد، فكلم الناس سعيدًا وقالوا: تركت الغزو فقد أغار الترك، وكفر أهل السغد فقطع النهر، وقصد للسغد، فلقي الترك وطائفة من أهل السغد فهزمهم المسلمون، فقال سعيد: لا تتبعوهم؛ فإن السغد بستان أمير المؤمنين وقد هزمتموهم؛ أفتريدون بوارهم! وقد قاتلتم يا أهل العراق الخلفاء غير مرة فهل أباروكم! وسار المسلمون، فانتهوا إلى واد بينهم وبين المرج، فقال عبد الرحمن ابن صبح: لا يقطعن هذا الوادي مجفف ولا راجل، وليعبر من سواهم. فعبروا، ورأيهم الترك فأكمنوا كمينًا، وظهرت لهم خيل المسلمين فقاتلوهم، فانحاز الترك فاتبعوهم حتى جازوا الكمين، فخرجوا عليهم، فانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى الوادي فقال لهم عبد الرحمن بن صبح: سابقوهم، ولا تقطعوا فإن أن قطعتم أبادوكم. فاصبروا لهم حتى انكشفوا عنهم فلم يتبعوهم، فقال قوم: قتل يومئذ شعبة بن زهير وأصحابه، وقال قوم: بل انكشف الترك منهم يومئذ منهزمين، ومعهم من أهل السغد. فلما كان الغد، خرجت مسلحة للمسلمين - والمسلحة يومئذ من بني تميم فما شعروا إلا بالترك معهم خرجوا عليهم من غيضة وعلى خيل بني تميم شعبة بن زهير، فقاتلهم شعبة فقتل؛ أعجلوه عن الركوب. وقتل رجل من العرب، فأخرجت جاريته حناء، وهو تقول: حتى متى أعد لك مثل هذا الخطاب، وأنت مختضب بالدم! مع كلام كثير فأبكت أهل العسكر. وقتل نحو من خمسين رجلًا وانهزم أهل المسلحة، وأتى الناس الصريخ، فقال عبد الرحمن بن المهلب العدوي: كنت أنا أول من آتاهم لما آتانا الخبر، وتحتي فرس جواد، فإذا عبد الله بن زهير إلى جنب شجرة كأنه قنفذ من النشاب؛ وقد قتل وركب الخليل بن أوس العبشري أحد بني ظالم وهو شاب - ونادى: يا بني تميم أنا الخليل؛ إلي! فانضمت إليه جماعة - فحمل بهم على العدو، فكفوهم ووزعوهم عن الناس حتى جاء الأمير والجماعة فانهزم العدو، فصار الخليل على خيل بني تميم يومئذ حتى ولى نصر بن سيار؛ ثم صارت رياسة بني تميم لأخيه الحكم بن أوس. وذكر علي بن محمد، عن شيوخه؛ أنسورة بن الحر قال لحيان: انصرف يا حيان، قال: عقيرة الله أدعها وانصرف قال: يا نبطي قال: أمبط الله وجهك! قال: وكان حيان النبطي يكنف الحرب أبا الهياج، وله يقول الشاعر: أن أبا الهياج أريحي ** للريح في أثوابه دوي قال: وعبر سعيد النهر مرتين، فلم يجاوز سمرقند، نزل في الأولى بإيزاء العدو، فقال له حيان مولى مصقلة بن هبيرة الشيباني: أيها الأمير ناجذ أهل السغد فقال: لا، هذه بلاد أمير المؤمنين، فرأى دخانًا ساطعًا، فسأل عنه فقيل له: السغد قد كفروا ومعهم بعض الترك. قال: فناوشهم، فانهزموا فألحوا في طلبهم، فنادى منادي سعيد: لا تطلبوهم؛ إنما السغد بستان أمير المؤمنين، وقد هزمتموهم، أفتريدون بوارهم! وأنتم يا أهل العراق قد قاتلتم أمير المؤمنين غير مرة فعفا عنكم ولم يستأصلكم ورجع، فلما كان العام المقبل بعث رجالًا من بني تميم إلى ورغسر، فقال: ليتنا نلقى العدو فنطاردهم - وكان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا وغنموا وسبوا ردذراري السبي وعاقب السرية، فقال الهجري وكان شاعرًا: سريت إلى الأعداء تلهو بلعبة ** وأيرك مسلول وسيفك مغمد وأنت لمن عاديت عرس خفية ** وأنت علينا كالحسام المهند فلله در السغد لما تحزبوا ** ويا عجبًا من كيدك المتردد! قال: فقال سورة بن الحر لعيد - وقد كان حفظ عليه، وحقد عليه قوله: أنبط الله وجهك -: إن هذا العبد أعد الناس للعرب والعمال، وهو أفسد خراسان على قتيبة بن مسلم وهو واثب بك، مفسد عليك خراسان؛ ثم يتحصن في بعض هذه القلاع. فقال: يا سورة لا تسمعن هذا أحدًا. قم مكث أيامًا ثم دعا في مجلسه بلبن، وقد أمر بذهب فسحق، والقى في إناء حيان فشربه، وقد خلط بالذهب، ثم ركب، فركب الناس أربعة فراسخ إلى باركث؛ كأنه يطلب عدوًا، ثم رجع فعاش حيان أربعة أيام ومات في اليوم الرابع، فثقل سعيد على الناس وضعفوه، وكان رجل من بني أسد يقال له إسماعيل منقطعًا إلى مروان بن محمد، فذكر إسماعيل عند خذينة ومودته لمروان، فقال سعيد: وما ذاك الملط! فهجاه إسماعيل، فقال: زعمت خزيمة أنني ملط ** لخذينة المرآة والمشط ومجامر ومكاحل جعلت ** ومعازف وبخدها نقط أفذاك أم زغف مضاعفة ** ومهند من شانه القط لمقرس ذكر أخي ثقة ** لم يغذه التأنيث واللقط أغبضت أن بات ابن أمكم ** بهم وأن أباكم سقط إني رأيت نبالهم كسيت ** ريش اللؤام ونبلكم مرط ورأيتهم جعلوا مكاسرهم ** عند الندى وأنتم خلط عزل مسلمة عن العراق وخراسان وفي هذه السنة عزل مسلم بن عبد الملك عن العراق وخراسان وانصرف إلى الشام. ذكر الخبر عن سبب عزله وكيف كان ذلك وكان شبب ذلك - فيما ذكر على بني محمد - أن مسلمة لما ولي ما ولي من أرض العراق وخراسان لم يرفع من الخراج شيئًا، وأن يزيد بن عاتكة أرداد عزله فاستحيا منه، وكتب إليه أن استخلف على عملك وأقبل. وقد قيل إن مسلمة شاور عبد العزيز بن حاتم بن النعمان في الشخوص إلى ابن عاتكة ليزوره، فقال له: أمن شوق بك إليه! أنك لطروب، وإن عهدك به لقريب، قال: لا بد من ذلك، قال: إذًا لا تخرج من عملك حتى تلقى الوالي عليه، فشخص؛ فلما بلغ دورين لقيه عمر بن هبيرة على خمس من دواب البريد، فدخل عليه ابن هبيرة، فقال: إلى أين يا ابن هبيرة؟ فقال: وجهني أمير المؤمنين غي حيازة أموال بني المهلب. فلما خرج من عنده أرسل إلى عبد العزيز فجاءه، فقال: هذا ابن هبيرة قد لقيناه كما ترى، قال: قد أنبأتك، قال: فإنه إنما وجهه لحيازة أموال بني المهلب، قال: هذا أعجب من الأول؛ يصرف عن الجزيرة ويوجه في حيازة أموال بني المهلب، قال: فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عماله والغلظة عليهم فقال الفرزدق: راحت بمسلمة الركاب مودعا ** فارعى فزارة لا هناك المرتع عزل ابن بشر وابن عمرو قبله ** وأخو هراة لمثلها يتوقع ولق دعلمت لئن فزارة أمرت ** أن سوف تطمع في الإمارة أشجع من خلق ربك ما هم ولمثلهم ** في مثل ما نالت فزارة يطمع يعني بابن بشر عبد الملك بن بشر بن مراون، وبابن عمرو محمدًا ذا الشامة بن عمرو بن الوليد، وبأخي هارة سعيد خذينة بن عبد العزيز، كان عامل لمسلمة على خراسان. وفي هذه السنة غزا عمر بن هبيرة الرزم بأرمينية، فهزمهم وأسر منهم بشرًا كثيرًا قيل سبعمائة أسير. بدء ظهور الدعوة وفيها وجه - فيما ذكر ميسرة - رسله من العراق إلى خراسان وظهر أمر الدعوة بها، فجاء رجل من بني تميم يقال له عمرو بن بحير بن ورقاء السعدي إلى سعيد خذينة، فقال له: إن هاهنا قومًا قد ظهر منهم كلام قبيح، فبعث إليهم سعيد فأتى بهم، فقال: من أنتم؟ قالوا: أناس من التجار؟ قال: فما هذا الذي يحكى عنكم؟ قالوا: لا ندري، قال: جئتم دعاة؟ فقالوا: إن لنا في أنفسنا وتجارتنا شغلا عن هذا، فقال: من يعرف هؤلاء؟ فجاء أناس من أهل خراسان جلهم ربيعة واليمن، قالوا: نحن نعرفهم، وهم علينا إن أتاك منهم شيء تكرهه، فاخلي سبيلهم. ذكر خبر قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية وفيها - أعني سنة اثنتين ومائة - قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية وهو وال عليها. ذكر الخبر عن سبب قتله وكان سبب ذلك أنه كان - فيما ذكر - عزم أن يسير بهم بسيرة الحجاج بن يوسف في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق ممن ردهم إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم على نحو ماكانت تؤخذ منهم مهم على كفرهم، فلما عزم على ذلك تآمروا في أمره، فأجمع رأيهم - فيما ذكر - على قتله فقتلوه، وولوا على أنفسهم الذي كان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم؛ وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار وكان في جيش يزيد بن أبي مسلم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة؛ ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى الله والمسلمون فقتلناه وأعدنا عاملك. فكتب ألهم يزيد بن عبد الملك إني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم، وأقر محمد بن زيد على إفريقية. وفي هذه السنة استعمل عمر بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة على العراق وخراسان. وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك؛ كذلك قال أبو معشر والواقدي. وكان العامل على المدينة عبد الرحمن بن الضحاك وعلى مكة عبد العزيز ابن عبد الله بن خالد بن أسيد. وعلى الكوفة محمد بن عمرو ذو الشامة، وعلى قضائها القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، وعلى خراسان سعيد خذينة، وعلى مصر أسامة بن زيد. ثم دخلت سنة ثلاث ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث عزل سعيد خذينة عن خراسان فمما كان فيها من ذلك عزل عمر بن هبيرة سعيد خذينة عن خراسان، وكان سبب عزله عنها - فيما ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن المجشر بن مزاحم السلمى وعبد الله بن عمير الليثي قدما على عمر بن هبيرة، فشكواه فعزله، واستعمل سعيد بن عمرو بن الأسود بن مالك بن كعب بن وقدان بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وخذينة غاز بباب سمرقند، فبلغ الناس عزله، فقفل خذينة، وخلف بسمرقند ألف فارس، فقال نهار بن توسعة: فمن ذاك مبلغ فتيان قومي ** بأن النبل ريشت كل ريش بأن الله أبدل من سعيد ** سعيداص لا المخنث من قريش قال: ولم يعرض سعيد الحرشي لأحد من عمال خذينة، فقرأ رجل عهده فلحن فيه، فقال سعيد: صه مهما سمعتم فهو من الكاتب، والأمير منه بريء، فقال الشاعر يضعف الحرشي في هذا الكلام: تبدلنا سعيدًا من سعيد ** لجد السوء والقدر المتاح قال الطبري: وفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح مدينة يقال لها رسلة. وفيها أغارت الترك عن اللان. وفيها ضمت مكة إلى عبد الرحمن بن الضحاك الفهري، فجمعت له مع المدينة. وفيها ولى عبد الواحد بن عبد الله النضري، الطائف وعزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن مكة وفيها أمر عبد الرحمن بن الضحاك أن يجمع بين أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعثمان بن حيان النوري، وكان من أمره وأمرهما ما قد مضى ذكره. وحج بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري كذلك قال أبو معشر والواقدي. وكان عمل يزيد بن عاتكة في هده السنة على مكة والمدينة عبد الرحمن بن الضحاك، وعلى الطائف عبد الواحد بن عبد الله النضري. وعلى العراق وخراسان عمر بن هبيرة، وعلى خراسان سعيد بن عمرو الحرشي من قبل عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى. استعمال ابن هبيرة سعيدا الحرشي على خراسان وفيها استعمل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي على خراسان. ذكر الخبر عن سبب استعماله الحرشي على خراسان ذكر علي بن محمد عن أصحابه عن ابن هبيرة لما ولي العراق، كتب إلى يزيد بن عبد الملك بأسماء من أبلى يوم العقر، ولم يذكر الحرشي، فقال يزيد بن عبد الملك: لما لم يذكر الحرشي؟ فكتب إلى ابن هبيرة: ول الحرشي خراسان. فولاه، فقدم الحرشي على مقدمته المجشر بن مزاحم السلمى سنة ثلاث ومائة، ثم قدم الحرشي خراسان، والناس بإيزاء العدو، وقد كانوا نكبوا، فخطبهم وحثهم على الجهاد، فقال: أنكم لا تقاتلون عدو الإسلام بكثرة ولا بعدة، ولكن بنصر الله وعز الإسلام فقولوا لاحول ولا قوة إلا بالله. وقال: فلست لعامر إن لم تروني ** أما الخيل أطعن بالعوالي فأضرب هامة الجبار منهم ** بغضب الحد حودث بالصقال فما أنا في الحروب بمستكين ** وأخشى مصاولة الرجال أبى لي والدي من كل ذنب ** وخالي في الحوادث خير خال إذا خطرت أماي حي كعب ** وزافت الجبال بنو هلال ارتحال أهل السغد عن بلادهم إلى فرغانة وفي هذه السنة ارتحل أهل السغد عن بلادهم عند مقدم سعيد بن عمرو الحرشي فلحقوا بفرغانة فسألوا ملكها معونتهم على المسلمين. ذكر الخبر عما كان منهم ومن صاحب فرغانة ذكر علي بن محمد عن أصحابه أن السُّغد كانوا قد أعانوا الترك أيام خذينة، فلما وليهم الحرشي خافوا على أنفسهم، فأجمع عظمائهم على الخروج من بلادهم، فقال لهم ملكهم لا تفعلوا أقيموا واحملوا إليه خراج مامضى، واضمنوا له خراج ما تستقبلون، واضمنوا له عمارة أرضيكم والغزو معه إن أراد ذلك. واعتذروا مما كان منكم، وأعطوه رهائن يكونون في يديه. قالوا: نخاف ألا يرضى ولا يقبل منا، ولكنا نأتي خجنده، فنستجير ملكها، ونرسل إلى الأمير فنسأله الصفح كما كان منا ونوثق له ألا يرى أمرًا يكرهه، فقال: أنا رجل منكم، وما أشرت به عليكم كان خيرًا لكم، فأبوا فخرجوا إلى خجندة، وخرج كارزنج وكشين وبياركث وثابت بأهل إشتيخًا، فأرسلوا إلى ملك فرغانة الطار يسألونه أن يمنعهم وينزلهم مدينته. فهم أن يفعل، فقالت له أمه: لا تدخل هؤلاء الشياطين مدينتك، ولكن فرغ لهم رستاقًا يكونون فبه، فأرسل إليهم: سموا لي رستاقًا أفرغه لكم، وأجلوني أربعين يومًا - ويقال: عشرين يومًا - وإن شئتم فرغت لكم شعب عصام بن عبد الله الباهلي - وكان قتيبة خلفه فيهم - فقبلوا شعب عصام. فأرسلوا إليه: فرغه لنا، قال: نعم، وليس لكم علي عقد ولا جوار حتى تدخلوه؛ وإن أتتكم العرب قبل أن تدخلوه لم أمنعكم، فرضوا؛ ففرغ لهم الشعب. وقد قيل: إن ابن هبيرة بعث إليهم قبل أن يخرجوا من بلادهم يسألهم أن يقيموا، ويستعمل عليهم من أحبوا، فأبوا وخرجوا إلى خجندة وشعب عصام بن رستاق أسفرة - وأسفرة يومئذ ولي عهد ملك فرغانا بلاذا، وبيلاذا أنوجور ملكها. وقيل: قال لهم كارزنج: أخيركم ثلاث خصال، إن تركتموها هلكتم: إن سعيدًا فارس العرب، وقد توجه على مقدمته عبد الرحمن بن عبد الله القشيري في حماة أصحابه، فبيتوه فاقتلوه؛ فإن الحرشي إذا أتاه خبره لم يغزكم، فأبوا عليه، قال: فاقطعوا نهر الشاش، فسلوهم ماذا تريدون؟ فإن أجابوكم وإلا مضيتم إلى سوياب، قالوا: لا قال: فأعطوهم. قال: فارتحل كارزنج وجلنج بأهل قي، وأباربن ماخنون وثابت بأهل إشتيخن، وارتحل أهل بياكرث وأهل سسكث بألف رجل عليهم مناطق الذهب مع دهاقين بزماجن، فارتحل الديواشني بأهل بنجيكث إلى حصن أبغر، ولحق كارزنج وأهل السغد بخجندة. المقدمة ثم دخلت سنة ست وستين ثم دخلت سنة سبع وستين ثم دخلت سنة ثمان وستين ثم دخلت سنة تسع وستين ثم دخلت سنة سبعين ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ثم دخلت سنة أربع وسبعين ثم دخلت سنة خمس وسبعين ثم دخلت سنة ست وسبعين ثم دخلت سنة سبع وسبعين ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ثم دخلت سنة تسع وسبعين ثم دخلت سنة ثمانين ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ثم دخلت سنة أربع وثمانين ثم دخلت سنة خمس وثمانين ثم دخلت سنة ست وثمانين ثم دخلت سنة سبع وثمانين ثم دخلت سنة ثمان ثمانين ثم دخلت سنة تسع وثمانين ثم دخلت سنة تسعين ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ثم دخلت سنة أربع وتسعين ثم دخلت سنة خمس وتسعين ثم دخلت سنة ست وتسعين ثم دخلت سنة سبع وتسعين ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ثم دخلت سنة تسع وتسعين ثم دخلت سنة مائة ثم دخلت سنة إحدى ومائة ثم دخلت سنة اثنتين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث ومائة ========================== ج77777777777777777777 المحتويات تاريخ الطبري/الجزء السابع {ج777777777} < تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك للطبري ثم دخلت سنة أربع ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الوقعة بين الحرشي والسغد ففي هذه السنة كانت وقعة الحرشي بأهل السغد وقتله من قتل من دهاقينها. ذكر الخبر عن أمره وأمرهم في هذه الوقعة ذكر علي عن أصحابه أن الحرشي غزا في سنة أربع ومائة فقطع النهر، وعرض الناس، ثم سار فنزل قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده. قال: فأمر الناس بالرحيل، فقال له هلال بن عليم الحنظلي: يا هناه، إنك وزيرًا خير منك أميرًا الأرض حرب شاغرة برجلها، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل! قال: فكيف لي؟ قال: تأمر بالنزول، ففعل. وخرج النيلان ابن عمّ ملك فرغانة إلى الحرشي، وهو نازل على مغون فقال له: إن أهل السغد بخجندة؛ وأخبره خبرهم وقال: عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشِّعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضي الأجل. فوجّه الحرشي مع النيلان عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم على ما فعل فقال: جاءني علج لا أدري صدق أم كذب، فغرّرت بجند من المسلمين. وارتحل في أثرهم حتى نزل في أشروسنة، فصالحهم بشيء يسير فبينا هو يتعشىّ إذ قيل له: هذا عطاء الدبوسي وكان فيمن وجهه مع القشيري ففزع وسقطت اللُّقمة من يده، ودعا بعطاء، فدخل عليه، فقال: ويلك! قاتلتم أحدًا؟ فقال: لا، قال: الحمد لله، وتعشّى، وأخبره بما قدم له عليه. فسار جوادًا مغذًّا، حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار فلما انتهى إلى خجندة، قال للفضل بن بسام: ما ترى؟ قال: أرى المعالجة، قال: لا أرى ذلك، إن جرح رجلٌ فإلى أين يرجع! أو قتل قتيل فإلى من يحمل! ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل فرفع الأبنية وأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدوّ، فجبَّن الناس الحرشي، وقالوا كان هذا يذكر بأسه بالعراق ورأيه، فلما صار بخرسان ماق. قال: فحمل رجلٌ من العرب، فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقًا، وغطوه بقصب، وعلّوه بالتراب مكيدة، وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق، ويشكل على المسلمين فيسقطوا في الخندق. قال: فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطئوهم الطريق، فسقطوا في الخندق فأخرجوا من الخندق أربعين رجلًا، على الرجل درعان درعان، وحصرهم الحرشي، ونصب عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى ملك فراغانة: غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال لهم: لم أغير ولا أنصركم؛ فانظروا لأنفسكم؛ فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري. فلما أيسوا من نصره طلبوا الصلح، وسألوا الأمان وأن يردّهم إلى السُّغد، فاشترط عليهم أن يردّوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريّهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الحراج، ولا يغتالوا أحدًا، ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثًا حلت دماؤهم. قال: وكان السَّفير فيما بينهم موسى بن مشكان مولى آل بسام، فخرج إليه كارزنج، فقال له: إنّ لي حاجةً أحب أن تشفِّعني فيها، قال: وما هي؟ قال: أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح ألّا تأخذني بما جنى، فقال الحرشي: ولي حاجة فاقضها، قال: وما هي؟ قال: لا يلحقني في شرطي ما أكره. قال: فأخرج الملوك والتجار من الجانب الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم أهلها على حالهم، فقال كارزنج للحرشي: ما تصنع؟ قال: أخاف عليكم معرّة الجند، قال: وعظماؤهم مع الحرشي في العسكر نزلوا على معارفهم من الجند، ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان، فبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساء كنَّ في أيديهم، فقال لهم: بلغني أن ثابتأَ الأشتيخني قتل امرأة ودفنها تحت حائط، فجحدوا فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا فإذا المرأة المقتولة. قال فدعا الحرشي بثابت، فأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالحبر، وسأل الحرشي ثابتًا وغيره عن المرأة، فجحد ثابت وتيقن الحرشي أنه قتلها فقتله، فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل يقبض على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي، فقال لأيوب بن أبي حسان: إني ضيفك وصديقك، فلا يجمل بك أن يقتل صديقك في سراويل خلق، قال: فخذ سروالي. قال: وهذا لا يجمل، أقتل في سرويلاتكم! فسرّح غلامك إلى جلنج ابن أخي يجيئوني بسراويل جديد وكان قد قال لابن أخيه: إذا أرسلت إليك أطلب سراويل فاعلم أنه القتل فلما بعث بسراويل أخرج فرندة خضراء فقطّعها عصائب، وعصبها برءوس شاكريّته، ثم خرج هو وشاكرّيته، فاعترض الناس فقتل ناسًا، ومرّ بيحي بن حضين فنفحه نفحه على رجله، فلم يزل يخمع منها وتضعضع أهل العسكر، ولقي الناس منه شرًا؛ حتى انتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود في طريق ضيق، فقتله ثابت بسيف عثمان بن مسعود. وكان في أيدي السُّغد أسراء من المسلمين فقتلوا منهم خمسين ومائة، ويقال: قتلوا منهم أربعين؛ قال: فألفت منهم غلام فأخبرالحرشي ويقال: بل أتاه رجل فأخبره - فسألهم فجحدوا، فأرسل إليهم من علم علمهم، فوجد الخبر حقًا، فأمر بقتلهم، وعزل التجار عنهم - وكان التجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصين - قال: فامتنع أهل السُّغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم. فلما كان الغد دعا الحراثين - ولم يعلموا ما صنع أصحابهم - فكان يختم في عنق الرجل ويخرج من حائط إلى حائط فيقتل، وكانوا ثلاثة آلاف - ويقال سبعة آلاف - فأرسل جرير بن هميان والحسين بن أبي العمرطة ويزيد بن أبي زينب فأحصوا أموال التجار - وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل - فاصطفى أموال السغد وذراريّهم، فأخذ منها ما أعجبه، ثم دعا مسلم بن بديل العدوي؛ عدي الرباب، فقال: قد وليتك المقسم، قال: بعد ما عمل فيه عمالك ليلة! ولِّه غيري؛ فولاه عبيد الله بن زهير بن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسّم الأموال؛ وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، فكان هذا مما وجد فيه عليه عمر بن هبيرة، فقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم: أقرَّ العين مصرع كارزنج ** وكشَّينٍ وما لاقى بيار وديواشنى وما لاقى جلنجٌ ** بحصن خجند إذ دمروا فباروا ويروى: " أقر العين مصرع كارزنج، وكشكيش "؛ ويقال: إن ديواشني دهقان أهل سمرقند، واسمه ديواشنج فأعربوه ديواشني. ويقال: كان على أقباض خجندة علباء بن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضعٌ يده على عينه كأنه رمد، فردَّ الجونة، وأخذ الدرهمين، فطلب فلم يوجد. قال: وسرّح الحرشي سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة إلى قلعة لا يطيف بها وادي السُّغد إلّا من وجه واحد. ومعه شوكر بن حميك وخوارزم شاه وعورم صاحب أخرون وشومان؛ فوجّه سليمان بن أبي السري على مقدّمته المسيّب بن بشر الرياحي، فتلقوه من القلعة على فرسخ في قرية يقال لها كوم، فهزمهم المسيّب حتى ردهم إلى القلعة فحصرهم سليمان، ودهقانها يقال له ديواشني. قال: فكتب إليه الحرشي فعرض عليه أن يمدّه، فأرسل إليه: ملتقانا ضيق فسر إلى كسّ؛ فإنا في كفاية الله إن شاء الله فطلب الديواشني أن ينزل على حكم الحرشي، وأن يوجّهه مع المسيّب بن بشر إلى الحرشي، فوفى له سليمان ووجّهه إلى سعيد الحرشي، فألطفه وأكرمه مكيدةً، فطلب أهل القلعة الصُّلح بعد مسيره على ألا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلمون القلعة. فكتب سليمان إلى الحرشي أن يبعث الأمناء في قبض ما في القلعة. قال: فبعث محمد بن عزيز الكندي وعلباء بن أحمر اليشكري، فباعوا ما في القلعة مزايدةً، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم. وخرج الحرشي إلى كسّ فصالحوه على عشرة آلاف رأس. ويقال: صال دهقان كسّ، واسمه ويك - على ستة آلاف رأس، يوفيه في أربعين يومًا على ألا يأتيه فلما فرغ من كسّ خرج إلى ربنجن، فقتل الديواشني، وصلبه على ناووس وكتب على أهل ربنجن كتابًا بمائة إن فقد من موضعه؛ وولّى نصر بن يسار قبض صلح كسّ، ثم عزل سورة بن الحرّ وولّى نصر بن يسار، واستعمل سليمان بن أبي السري على كسّ، ونسف حربها وخراجها، وبعث برأس الديواشني إلى العراق، ويده اليسرى إلى سليمان بن أبي السري إلى طخارستان. قال: وكانت خزار منيعة، فقال المجشّر بن مزاحم لسعيد بن عمر الحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قال: بلى قال: المسربل بن الخرّيت بن راشد الناجي، فوجهه إليها - وكان المسربل صديقًا لملكها، واسم الملك سبقري. وكانوا يحبّون المسربل - فأخبر الملك ما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوّفه، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تنزل بأمان، قال: فما أصنع بمن لحق بي من عوامّ الناس؟ قال: نصيّرهم معك في أمانك، فصالحهم فأمنوه وبلاده. قال: ورجع الحرشي إلى مرو ومعه سبقري، فلما نزل أسنان وقدم مهاجر بن زيد الحرشي، وأمره أن يوافيه ببرذون بن كشانيشاه قتل سبقري وصلبه ومعه أمانه - ويقال: كان هذا دهقان ابن ماجر قدم على ابن هبيرة فأخذ أمانًا لأهل السُّغد، فحبسه الحرشي في قهندر مرو، فلما قدم مرو دعا به، وقتله وصلبه في الميدان، فقال الراجز: إذا سعيدٌ سار في الأخماس ** في رهج يأخذ بالأنفاس دارت على الترك أمرُّ الكاس ** وطارت الترك على الأحلاس ولو فرارًا عطل القياس وفي هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عن المدينة ومكة، وذلك للنصف من شهر ربيع الأول، وكان عامله على المدينة ثلاث سنين. وفيها ولّي يزيد بن عبد الملك المدينه عبد الواحد النضري. ذكر الخبر عن سبب عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضاحك عن المدينة وما كان ولاه من الأعمال وكان سبب ذلك - فيما ذكر محمد بمن عمر، عن عبد الله بن محمد بن أبي يحيى - قال: خطب عبد الرحمن بن الضحّاك بن قيس الفهري فاطمة ابنة الحسين، فقالت: والله ما أريد النكاح، ولقد قعدت على بني هؤلاء؛ وجعلت تحاجزه وتكره أن تنابذه لما تخاف منه. قال: وألح عليها وقال: والله لئن لم تفعلي لأجلدنّ أكبر بنيك في الخمر - يعني عبد الله بن الحسن - فبينا هو كذلك؛ وكان على ديوان المدينة ابن هرمز رجل من أهل الشام، فكتب إليه يزيد أن يرفع حسابه، ويدفع الديوان، فدخل على فاطمة بنت الحسين يودّعها، فقال: هل من حاجة؟ فقالت: تخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحّاك، وما يتعرّض منّي. قال: وبعثت رسولًا بكتاب إلى يزيد تخبره وتذكر قرابتها ورحمها، وتذكر ما ينال ابن الضحاك منه، وما يتوعدها به. فقال: فقدم ابن هرمز والرّسول معًا. قال: فدخل ابن هرمز على يزيد، فاستخبره عن المدينة، وقال: هل كان من مغرّبة خبر؟ فلم يذكر ابن هرمز من شأن ابنة الحسين، فقال الحاجب: أصلح الله الأمير! بالباب رسول فاطمة بنت الحسين، فقال ابن هرمز: أصلح الله الأمير! إن فاطمة بنت الحسين يوم خرجت حمَّلتني رسالة إليك فأخبره الخبر. قال: فنزل من أعلى فراشه، وقال: لا أم لك! ألم أسألك هل من مغرّبة خبر، وهذا عندك لا تخبرينه! قال: فاعتذر بالنسيان. قال: فأذن للرسول فأدخله، فأخذ الكتاب، فاقترأه. قال: وجعل يضرب بخيزران في يديه وهو يقول: لقد اجترأ ابن الضحاك! هل من رجل يسمعني صوته في العذاب وأنا على فراشي؟ قيل له: عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النَّضري. قال: فدعا بقرطاس، فكتب بيده: إلى عبد الواحد بن عبد الله بن بشر النَّضري وهو بالطائف: سلام عليك؛ أما بعد فإني قد وليّتك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فاهبط واعزل عنها ابن الضحاك، وأغرمه أربعين ألف دينار، وعذّبه حتى أسمع صوته وأنا على فراشي. قال: وأخذ البريد الكتاب، وقدم به المدينة، ولم يدخل على ابن الضحاك وقد أوجست نفس ابن الضحاك، فأرسل إلى البريد، فكشف له عن طرف المفرش، فإذا ألف دينار، فقال: هذه ألف دبنار لك ولك العهد والميثاق؛ لئن أنت أخبرتني خبر وجهك هذا دفعتها إليك، فأخبره، فاستنظر البريد ثلاثًا حتى يسير، ففعل. ثم خرج ابن الضحاك، فأغذّ السُّير حتى نزل على مسلمة بن عبد الملك، فقال: أنا في جوارك، فغدا مسلمة على يزيد فرققه وذكر حاجة جاء لها، فقال: كل حاجة تكلمت فيها فهي يدك مالم يكن ابن الضحاك، فقال هو والله ابن الضحاك! فقال: والله لا أعفيه أبدًا وقد فعل ما فعل، قال: فردّه إلى المدينة إلى النَّضري. قال عبد الله بن محمد: فرأيته في المدينة عليه جبة من صوف يسأل الناس، وقد عذِّب ولقي شرًّا، وقدم النَّضري يوم السبت للنصف من شوال سنة أربع ومائة. قال محمد بن عمر: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن أبي فروة، عن الزهري، قال: قلت لعبد الرحمن بن الضحاك: إنك تقدم على قومك وهم ينكرون كل شيء خالف فعلهم، فلزم ما أجمعوا عليه، وشاور القاسم ابن محمد وسالم بن عبد الله؛ فإنهما لا يألوانك رشدًا. قال الزهري: فلم يأخذ بشيء من ذلك، وعادى الأنصار طرًا، وضرب أبا بكر بن حزم ظلمًا وعدوانًا في باطل، فما بقي منهم شاعر إلا هجاه، ولا صالح إلا عابه وأتاه بالقبيح، فلما ولي هشام رأيته ذليلًا. وولي المدينة عبد الواحد بن عبد الله بن بشر فأقام بالمدينة لم يقدم عليهم والٍ أحب عليهم منه، وكان يذهب مذاهب الخير، لا يقطع أمرًا إلا استشار فيه القاسم وسالمًا. وفي هذه السنة غزا الجرّاح بن عبد الله الحكمي - وهو أمير على أرمينية وأذربيجان - أرض الترك ففتح على يديه بلنجر، وهزم الترك وغرقهم وعامة ذراريهم في الماء، وسبوا ما شاءوا، وفتح الحصون التي تلي بلنجر وجلا عامة أهلها. وفيها ولد - فيما ذكر - أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي في شهر ربيع الآخر. وفيها دخل أبو محمد الصادق وعدة من أصحابه من خرسان إلى محمد ابن علي، وقد ولد أبو العباس قبل ذلك بخمس عشرة ليلة، فأخرجه إليهم في خرقة، وقال لهم: والله ليتمنّ هذا الأمر حتى تدركوا ثأركم من عدّوكم. وفي هذه السنة عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي. ذكر الخبر عن سبب عزل عمر بن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان ذكر أنّ سبب ذلك كان من موجدة وجدها عمر على الحرشي في أمر الديواشني، وذلك أنه كان كتب إليه يأمره بتخليته وقتله، وكان يستخفّ بأمر ابن هبيرة، وكان البريد والرسول إذا ورد من العراق قال له: كيف أبو المثنى؟ ويقول لكاتبه: اكتب إلى أبي المثنّى ولا يقول: " الأمير "، ويكثر أن يقول: قال أبو المثنى وفعل أبو المثنى، فبلغ ذلك ابن هبيرة فدعا جميل بن عمران، فقال له: بلغني أشياء عن الحرشي، فأخرج إلى خراسان، وأظهر أنك قدمت تنظر في الدواوين، واعلم لي علمه. فقدم جميل، فقال له الحرشي: كيف تركت أبا المثنى؟ فجعل ينظر في الدواوين. فقيل للحرشي ما قدم جميل لينظر في الدواوين، وما قدم إلا ليعلم علمك، فسم بطيخة، وبعث بها إلى جميل، فأكلها فمرض، وتساقط شعره، ورجع إلى ابن هبيرة، فعولج واستبلّ وصحّ، فقال لابن هبيرة: الأمر أعظم مما بلغك؛ ما يرى سعيد إلا أنك عامل من عماله. فغضب عليه وعزله وعذبه، ونفخ في بطنه النمل، وكان يقول حين عزله: لو سألني عمر درهمًا يضعه في عينه ما أعطيته؛ فلما عذب أدّى، فقال له رجل: ألم تزعم أنك لا تعطيه درهمًا! قال: لا تعنّفني؛ إنه لما أصابني الحديد جزعت، فقال أذينة بن كليب - أو كليب بن أذينة: تصبر أبا يحيى فقد كنت علمنا ** صبورًا ونهاضًا بثقل المغارم وقال علي بن محمد: إنّما غضب عليه ابن هبيرة أنه وجه معقل بن عروة إلى هراة؛ إما عاملًا وإما في غير ذلك من أموره، فنزل قبل أن يمرّ علي الحرشي، وأتى هراة، فلم ينفذ له ما قدم فيه، وكتب إلى الحرشي، فكتب الحرشي إلى عامله: أن احمل إلي معقلًا، فحمله، فقال له الحرشي: ما منعك من إتياني قبل أن تأتي هراة؟ قال: أنا عامل لابن هبيرة ولاني كما ولاك، فضربه مائتين وحلّقه. فعزله ابن هبيرة، واستعمل على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة، فكتب إلى الحرشي يلخنه، فقال سعيد: بل هو ابن اللخناء. وكتب إلى مسلم أن احمل إلي الحرشي مع معقل بن عروة، فدفعه إليه، فأساء به وضيّق عليه، ثم أمره يومًا فعذبه، وقال: اقتله بالعذاب. فلما أمسى ابن هبيرة سمر فقال: من سيد قيس؟ قالوا: الأمير، قال: دعوا هذا، سيد قيس الكوثر بن زفر، لو بوّق بليل لوافاه عشرون ألفًا، لا يقولون: لم دعوتنا ولا يسألونه، وهذا الحمار الذي في الحبس - قد أمرت بقتله - فارسها؛ وأما خير قيس لها فعسى أن أكونه؛ إنه لم يعرض إلي أمرٌ أرى أني أقدر فيه على منفعة وخير إلا جررته إليهم، فقال له أعرابي من بني فزارة: ما أنت كما تقول، لو كنت كذلك ما أمرت بقتل فارسها. فأرسل إلى معقل أن كف عما كنت أمرتك به. قال علي: قال مسلم بن المغيرة: لمّا هرب ابنُ هبيرة أرسل خالد في طلبه سعيد بن عمرو الحرشي، فلحقه بموضع من الفرات يقطعه إلى الجانب الآخر في سفينة، وفي صدر السفينة غلام لابن هبيرة يقال له قبيض، فعرفه الحرشي فقال له: قبيض؟ قال: نعم، قال: أفي السفينة أبو المثنى؟ قال: نعم. قال: فخرج إليه ابنُ هبيرة، فقال له الحرشي: أبا المثنى، ما ظنك بي؟ قال: ظني بك أنك لا تدفع رجلًا من قومك إلى رجل من قريش، قال: هو ذاك، قال: فالنّجاء. قال علي: قال أبو إسحاق بن ربيعة: لما حبس ابن هبيرة الحرشي دخل عليه معقل بن عروة القشيري، فقال: أصلح الله الأمير! قيّدت فارس قيس وفضحته، وما أنا براض عنه؛ غير أني لم أحبّ أن تبلغ منه ما بلغت، قال: أنت بيني وبينه، قدمت العراق فوليته البصرة، ثم وليته خراسان، فبعث إلي ببرذون حطم واستخف بأمري، وخان فعزلته، وقلت له: يا بن نَسْعة، فقال لي: يا بن بُسرة. فقال معقل: وفعل ابن الفاعلة! ودخل على الحرشي السجن، فقال: يا بن نسعة أمك دخلت واشتريت بثمانين عنزًا جربًا، كانت مع الرعاء ترادفها الرجال مطية الصادر والوارد، تجعلها ندًا لبنت الحارث بن عمرو بن حرجدة! وافترى عليه، فلما عزل ابن هبيرة، وقدم خالد العراق استعدى الحرشي على معقل ابن عروة، وأقام البينة أنه قذفه، فقال للحرشي: اجلده، فحده، وقال: لولا أنّ ابن هبيرة وهّن في عضدي لنقبت عن قلبك، فقال رجل من بني كلاب لمعقل: أسأت إلى ابن عمك وقذفته، فأداله الله منك، فصرت لا شهادة لك في المسلمين، وكان معقل حين ضرب الحدّ قذف الحرشي أيضًا، فأمر خالد بإعادة الحدّ، فقال القاضي: لا يُحدّ. قال: وأم عمر ابن هبيرة بُسرة بنت حسان، عدويّة من عدي الرباب. ولاية مسلم بن سعيد على خراسان وفي هذه السنة ولّى عمرُ بن هبيرة مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة بن عمرو بن خويلد الصعق خراسان بعد ما عزل سعيد بن عمرو الحرشي عنها. ذكر الخبر عن سبب توليته إياها ذكر علي بن محمد أنّ أبا الذيّال وعلي بن مجاهد وغيرهما حدثوه، قالوا: لما قتل سعيد بن أسلم ضمّ الحجاج ابنه مسلم بن سعيد مع ولده، فتأدّب ونبل، فلما قدم عدي بن أرطاة أراد أن يوليه، فشاور كاتبه، فقال: وله ولايةً خفيفة ثم ترفعه، فولاه ولاية، فقام بها وضبطها وأحسن؛ فلما وقعت فتنة يزيد بن المهلب حمل تلك الأموال إلى الشام، فلما قدم عمر بن هبيرة أجمع على أن يولّيَه ولاية، فدعاه ولم يكن شاب بعد، فنظر فرأى شيبةً في لحيته، فكبّر. قال: ثم سمر ليلة ومسلم في سَمَرِه، فتخلف مسلم بعد السمار، وفي يد ابن هبيرة سفرجلة، فرمى بها، وقال: أيسرك أن أوليك خراسان؟ قال: نعم، قال: غدوة إن شاء الله. قال: فلما أصبح جلس، ودخل الناس؛ فعقد لمسلم على خراسان وكتب عهده، وأمره بالسير، وكتب إلى عمال الخراج أن يكاتبوا مسلم بن سعيد، ودعا بجبلة بن عبد الرحمن مولى باهلة فولّاه كرمان، فقال جبلة: ما صنعت بي المولوية! كان مسلم يطمع أن ألي ولاية عظيمة فأوليه كورة، فعقد له على خراسان وعقد لي على كرمان! قال: فسار مسلم فقدم خراسان في آخر سنة أربع ومائة - أو ثلاث ومائة - نصف النهار، فوافق باب دار الإمارة مغلقًا، فأتى دار الدوابّ فوجد الباب مغلقًا فدخل المسجد، فوجد باب المقصورة مغلقًا، فصلى. وخرج وصيفٌ من باب المقصورة فقيل له: الأمير، فمشى بين يديه حتى أدخله مجلس الوالي في دار الإمارة، وأعلم الحرشي، وقيل له: قدم مسلم بن سعيد بن أسلم، فأرسل إليه: أقدمت أميرًا أو وزيرًا أو زائرًا؟ فأرسل إليه: مثلي لا يقدم خراسان زائرًا ولا وزيرًا، فأتاه الحرشي فشتمه وأمر بحبسه، فقيل له: إن أخرجته نهارًا قتل، فأمر بحبسه عنده حتى أمسى، ثم حبسه ليلًا وقيّده، ثم أمر صاحب السجن أن يزيده قيدًا. فأتاه حزينًا، فقال: مالك؟ فقال: أمرت أن أزيدك قيدًا، فقال لكاتبه: اكتب إليه: إن صاحب سجنك ذكر أنك أمرته أن يزيدني قيدًا، فإن كان أمرًا ممنّ فوقك فسمعًا وطاعةً، وإن كان رأيًا رأيته فسيرك الحقحقة، وتمثل: هم إن يثقفوني يقتلوني ** ومن أثقف فليس إلى خلود ويروى: فإما تثقفوني فاقتلوني ** فمن أثقف فليس إلى خلود هم الأعداء إن شهدوا وغابوا ** أولوا الأحقاد والأكباد سود أريغوني إراغتكم فإني وحذقة كالشجا تحت الوريد ويروى: " أريدوني إرادتكم ". قال: وبعث مسلم على كوره رجلًا من قبله على حربها. قال: وكان ابن هبيرة حريصًا، أخذ قهرمانًا ليزيد بن المهلب، له علم بخراسان وبأشرافهم، فحبسه فلم يدع منهم شريفًا إلا قرفه، فبعث أبا عبيدة العنبري ورجلًا يقال له خالد، وكتب إلى الحرشي وأمره أن يدفع الذين سمّاهم إليه يستأديهم فلم يفعل، فردّ رسول ابن هبيرة، فلما استعمل ابن هبيرة مسلم بن سعيد أمره بجباية تلك الأموال، فلمّا قدم مسلم أراد أخذ الناس بتلك الأموال التي قرفت عليهم، فقيل له: إن فعلت هذا بهؤلاء لم يكن لك بخراسان قرار، وإن لم تعمل في هذا حتى توضع عنهم فسدت عليك وعليهم خراسان؛ لأنّ هؤلاء الذين تريد أن تأخذهم بهذه الأموال أعيان البلد قرفوا بالباطل؛ إنما كان على مهزم بن جابر ثلثمائة ألف فزادوا مائة ألف فصارت أربعمائة ألف، وعامة من سموا لك ممن كثر عليه بمنزله. فكتب مسلم بذلك إلى ابن هبيرة، وأوفد وفدًا فيهم مهزم بن جابر، فقال له مهزم بن جابر: أيها الأمير؛ إن الذي رفع إليك الظلم والباطل، ما علينا من هذا كله لو صدق إلا القليل الذي لو أخذنا به أديناه، فقال ابن هبيرة: " إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "، فقال: اقرأ ما بعدها: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ". فقال ابن هبيرة لا بد من هذا المال، قال: أما والله لئن أخذته لتأخذنه من قوم شديدة شوكتهم ونكايتهم في عدوّك، وليضرّنّ ذلك بأهل خراسان في عدّتهم وكراعهم وحلقتهم؛ ونحن في ثغر نكابد فيه عدوًا لا ينقضي حربهم؛ إنّ أحدنا ليلبس الحديد حتى يخلص صدؤه إلى جلده، حتى إن الخادم التي تخدم الرجل لتصرف وجهها عن مولاها وعن الرجل الذي تخدمه لريح الحديد؛ وأنتم في بلادكم متفضلون في الرقاق وفي المعصفرة؛ والذين قرفوا بهذا المال وجوه أهل خراسان وأهل الولايات والكلف العظام في المغازي: وقبلنا قوم قدموا علينا من كلّ فجّ عميق، فجاءوا على الحرمات، فولوا الولايات، فاقتطعوا الأموال؛ فهي عندهم موقرة جمة. فكتب ابن هبيرة إلى مسلم بن سعيد بما قال الوفد، وكتب إليه أن استخرج هذه الأموال ممن ذكر الوفد أنها عندهم. فلما أتى مسلمًا كتابُ ابن هبيرة أخذ أهل العهد بتلك الأموال، وأمر حاجب بن عمروا الحارثي أن يعذّبهم، ففعل وأخذ منهم ما فرّق عليهم. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وكان العامل على مكة والمدينة والطائف في هذه السنة عبد الواحد بن عبد الله النضري، وعلى العراق والمشرق عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة حسين بن الحسن الكندي، وعلى قضاء البصرة عبد الملك بن يعلى. ثم دخلت سنة خمس ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك غزوة الجرّاح بن عبد الله الحكمي اللان؛ حتى جاز ذلك إلى مدائن وحصون من وراء بلَنجر، ففتح بعض ذلك، وجلى عنه بعض أهله، وأصاب غنائم كثيرة. وفيها كانت غزوة سعيد بن عبد الملك أرض الروم، فبعث سرية في نحو من ألف مقاتل، فأصيبوا - فيما ذكر - جميعًا. وفيها غزا مسلم بن سعيد الترك، فلم يفتح شيئًا، فقفل ثم غزا أفشينة مدينة من مدائن السغد بعد في هذه السنة، فصالح ملكها وأهلها. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد عن أصحابه، أنّ مسلم بن سعيد مرزب بهرام سيس فجعله المرزبان. وأنّ مسلمًا غزا في آخر الصيف من سنة خمس ومائة، فلم يفتح شيئًا وقفل، فاتّبعه الترك فلحقوه، والنّاس يعبرون نهر بلْخ وتميم على الساقة، وعبيد الله بن زهير بن حيّان على خيل تميم، فحاموا عن الناس حتى عبروا. ومات يزيد بن عبد الملك، وقام هشام، وغزا مسلم أفشين فصالح ملكهاعلى ستة آلاف رأس، ودفع إليه القلعة، فانصرف لتمام سنة خمس ومائة. ذكر موت يزيد بن عبد الملك وفي هذه السنة مات الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان، لخمس ليال بقين من شعبان منها؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي. وقال الواقدي: كانت وفاته ببلقاء من أرض دمشق، وهو يوم مات ابن ثمان وثلاثين سنة. وقال بعضهم: كان ابن أربعين سنة. وقال بعضهم: ابن ست وثلاثين سنة؛ فكانت خلافته في قول أبي معشر وهشام بن محمد وعلي بن محمد أربعَ سنين وشهرًا، وفي قول الواقدي أربع سنين. وكان يزيد بن عبد الملك يكنى أبا خالد؛ كذلك قال أبو معشر وهشام بن محمد والواقدي وغيرهم. وقال علي بن محمد: توفّي يزيد بن عبد الملك وهو ابن خمس وثلاثين سنة أو أربع وثلاثين سنة في شعبان يوم الجمعة لخمس بقين منه سنة خمس ومائة. وقال: ومات بأربد من أرض البلقاء، وصلّى عليه ابنه الوليد وهو ابن خمس عشرة سنة، وهشام بن عبد الملك يومئذ بحمص؛ حدثني بذلك عمر ابن شبّة، عن علي. وقال هشام بن محمد: توفّي يزيد بن عبد الملك، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال علي: قال أبو ماوية أو غيره من اليهود ليزيد بن عبد الملك: إنك تملك أربعين سنة، فقال رجل من اليهود: كذب لعنه الله، إنما رأى أنه يملك أربعين قصبة، والقصبة شهر، فجعل الشهر سنة. ذكر بعض سيره وأموره حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي، قال: كان يزيد بن عاتكة من فتيانهم، فقال يومًا وقد طرب، وعنده حبابة وسلّامة: دعوني أطير، فقالت حبابة: إلى من تدع الأمّة! فلما مات قالت سلّامة القس: لا تلمنا إن خشعنا ** أو هممنا بالخشوعِ قد لعمري بت ليلى ** كأخي الداء الوجيع ثم بات الهم مني ** دون من لي من ضجيع للذي حل بنا اليو ** م من الأمر الفظيع كلما أبصرت ربعًا ** خاليًا فاضت دموعي قد خلا من سيد كا ** ن لنا غير مضيع ثم نادت: وا أمير المؤمنيناه! والشعر لبعض الأنصار. قال علي: حجّ يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان بن عبد الملك فاشترى حبابة - وكان اسمها العالية - بأربعة آلاف دينار من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال سليمان: هممت أن أحجر على يزيد؛ فردّ يزيد حبابة فاشتراها رجل من أهل مصر، فقالت سعدة ليزيد: يا أمير المؤمنين، هل بقي من الدنيا شيء تتمناه بعد؟ قال: نعم حبابة، فأرسلت سعدة رجلًا فاشتراها بأربعة آلاف دينار، وصنّعتها حتى ذهب عنها كلال السفر، فأتت بها يزيد، فأجلستها من وراء الستر، فقالت: يا أمير المؤمنين، أبقي شيء من الدنيا تتمناه؟ قال: ألم تسأليني عن هذا مرّة فأعلمتُك! فرفعت الستر، وقالت: هذه حبابة، وقامت وخلتها عنده، فحظيت سعدة عند يزيد وأكرمها وحباها. وسعدة امرأة يزيد، وهي من آل عثمان بن عفان. قال علي عن يونس بن حبيب: إن حبابة جارية يزيد بن عبد الملك غنت يومًا: بين التراقي واللهاة حرارة ** ما تطمئنّ وما تسوغ فتبرد فأهوى ليطير فقالت: يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة، فمرضت وثقلت، فقال: كيف أنت يا حبابة؟ فلم تجبه، فبكى وقال: لئن تسل عنك النفس أو تذهل الهوى ** فباليأس يسلو القلب لا بالتجلد وسمع جارية لها تتمثل: كفى حزنًا بالهائم الصب أن يرى ** منازل من يهوي معطلة قفرا فكان يتمثل بهذا. قال عمر: قال علي: مكث يزيد بن عبد الملك بعد موت حبابة سبعة أيام لا يخرج إلى الناس؛ أشار عليه بذلك مسلمة، وخاف أن يظهر منه شيء يسفهه عند الناسِ. خلافة هشام بن عبد الملك وفي هذه السنة استخلف هشام بن عبد الملك لليالٍ بقين من شعبان منها، وهو يوم استخلف ابن أربع وثلاثين سنة وأشهر. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي، قال: حدثنا أبو محمد القرشي وأبو محمد الزيادي والمنهال بن عبد الملك وسحيم بن حفص العجيفي، قالوا: ولد هشام بن عبد الملك عام قتل مصعب بن الزبير سنة اثنتين وسبعين. وأمّه عائشة بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت حمقاء، أمرها أهلها ألّا تكلم عبد الملك حتى تلد، وكانت تثني الوسائد وتركب الوسادة وتزجرها كأنها دابّة، وتشتري الكندر فتمضغه وتعمل منه تماثيل، وتضع التماثيل على الوسائد، وقد سمت كل تمثال باسم جارية، وتنادي: يا فلانة ويا فلانة؛ فطلقها عبد الملك لحمقها. وسار عبد الملك إلى مصعب فقتله، فلما قتله بلغه مولد هشام، فسمّاه منصورًا، يتفاءل بذلك، وسمّته أمه باسم أبيها هشام، فلم ينكر ذلك عبد الملك، وكان هشام يكنى أبا الوليد. وذكر محمد بن عمر عمّن حدثه أنّ الخلافة أتت هشامًا وهو بالزيّتونة في منزله في دُويرة له هناك. قال محمد بن عمر: وقد رأيتها صغيرة، فجاءه البريد بالعصا والخاتم، وسلّم عليه بالخلافة، فركب هشام من الرصافة حتى أتى دمشق. وفي هذه السنة قدم بكير بن ماهان من السند - وكان بها مع الجنيد بن عبد الرحمن ترجمانًا له - فلما عزل الجنيد بن عبد الرحمن، قدم الكوفة ومعه أربع لبنات من فضة ولبنة من ذهب، فلقي أبا عكرمة الصادق وميسرة ومحمد بن خنيس وسالمًا الأعين وأبا يحيى مولى بني سلمة؛ فذكروا له أمر دعوة بني هاشم، فقبل ذلك ورضيه، وأنفق ما معه عليهم، ودخل إلى محمد بن علي. ومات ميسرة فوجه محمد بن علي بكير بن ماهان إلى العراق مكان ميسرة، فأقامه مقامه. وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام بن إسماعيل، والنضري على المدينة. قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه، قال: كان إبراهيم بن هشام بن إسماعيل حجّ، فأرسل إلى عطاء بن أبي رباح: متى أخطب بمكة؟ قال: بعد الظهر، قبل التروية بيوم، فخطب قبل الظهر، وقال: أمرني رسولي بهذا عن عطاء، فقال عطاء: ما أمرته إلّا بعد الظهر، قال: فاستحيا إبراهيم بن هشام يومئذ، وعدّوه منه جهلًا. ذكر ولاية خالد القسري على العراق وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عمر بن هبيرة عن العراق وما كان إليه من عمل المشرق، وولّى ذلك كلّه خالد بن عبد الله القسري في شوال. ذكر محمد بن سلام الجمحي، عن عبد القاهر بن السري، عن عمر بن يزيد بن عمير الأسيدي قال: دخلت على هشام بن عبد الملك، وعنده خالد بن عبد الله القمري، وهو يذكر طاعة أهل اليمن، قال: فصفّقت تصفيقةً بيدي دقّ الهواء منها، فقلت: تالله ما رأيتُ هكذا خطأ ولا مثله خطلًا! والله ما فتحت فتنة في الإسلام إلا بأهل اليمن، هم قتلوا أمير المؤمنين عثمان، وهم خلعوا أمير المؤمنين عبد الملك، وإنّ سيوفنا لتقطر من دماء آل المهلب، قال: فلما قمت تبعني رجلٌ من آل مروان كان حاضرًا، فقال: يا أخا بني تميم، ورتْ بك زنادي، قد سمعت مقالتك، وأمير المؤمنين مولٍّ خالدًا العراق، وليست لك بدار. ذكر عبد الرزاق أنّ حماد بن سعيد الصنعاني أخبره قال: أخبرني زياد بن عبيد الله، قال: أتيت الشأم، فاقترضت؛ فبينا أنا يومًا على الباب باب هشام، إذ خرج علي رجل من عند هشام، فقال لي: ممن أنت يا فتى؟ قلت: يمان، قال: فمن أنت؟ قلت: زياد بن عبيد الله بن عبد المدان، قال: فتبسم، وقال: قم إلى ناحية العسكر فقل لأصحابي: ارتحلوا فإنّ أمير المؤمنين قد رضي عني، وأمرني بالمسير، ووكّل بي من يخرجني قال: قلت: مَنْ أنت يرحمك الله؟ قال: خالد بن عبد الله القسري، قال: ومرهم يا فتى أن يعطوك منديل ثيابي وبرذوني الأصفر. فلما جزت قليلًا ناداني، فقال: يا فتى، وإن سمعت بي قد وليت العراق يومًا فالحق بي. قال: فذهبت إليهم، فقلت: إنّ الأمير قد أرسلني إليكم بأنّ أمير المؤمنين قد رضي عنه؛ وأمره بالمسير. فجعل هذا يحتضنني وهذا يقبل رأسي، فلما رأيت ذلك منهم، قلت: وقد أمرني أن تعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، قالوا: إي والله وكرامة، قال: فأعطوني منديل ثيابه وبرذونه الأصفر، فما أمسى بالعسكر أحد أجود ثيابًا منّي، ولا أجود مركبًا منّي، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى قيل: قد وليَ خالد العراق، فركبني من ذلك همّ، فقال لي عريف لنا: ما لي أراك مهمومًا! قلت: أجل قد ولي خالد كذا وكذا، وقد أصبت ها هنا رزيقا عشت به، وأخشى أن أذهب إليه فيتغير علي فيفوتني ها هنا وها هنا، فلست أدري كيف أصنع! فقال لي: هل لك في خصلة؟ قلت: وما هي؟ قال: توكلني بأرزاقك وتخرج، فإن أصبت ما تحبّ فلي أرزاقك، وإلّا رجعت فدفعتها إليك، فقلت نعم. وخرجت، فلما قدمت الكوفة ليست من صالح ثيابي. وأذن للناس، فتركتهم حتى أخذوا مجالسهم، ثم دخلت فقمت بالباب، فسلمت ودعوت وأثنيت، فرفع رأسه، فقال: أحسنت بالرّحب والسعة، فما رجعت إلى منزلي حتى أصبت ستمائة دينار بين نقد وعرض. ثم كنت أختلف إليه، فقال لي يومًا: هل تكتب يا زياد؟ فقلت: أقرأ ولا أكتب، أصلح الله الأمير! فضرب بيده على جبينه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! سقط منك تسعة أعشار ما كنت أريده منك، وبقي لك واحدة فيها غنى الدهر قال: قلت: أيها الأمير، هل في تلك الواحدة ثمن غلام؟ قال: وماذا حينئذ! قلت: تشتري غلامًا كاتبًا تبعث به إلي فيعلّمني، قال: هيهات! كبرت عن ذلك، قال: قلت: كلّا، فاشترى غلامًا كاتبًا حاسبًا بستين دينارًا، فبعث به إلي، فأكببتُ على الكتاب، وجعلت لا آتيه إلا ليلًا، فما مضت إلا خمس عشرة ليلة حتى كتبت ما شئت وقرأت ما شئت. قال: فإني عنده ليلة، إذ قال: ما أدري هل أنجحت من ذلك الأمر شيئًا؟ قلت: نعم، أكتب ما شئت، وأقرأ ما شئت، قال: إني أراك ظفرت منه بشيء يسير فأعجبك، قلت: كلا، فرفع شاذكونه، فإذا طومار، فقال: اقرأ هذا الطومار، فقرأت ما بين طرفيه، فإذا هو من عامله على الري، فقال: اخرج فقد ولّيتك عمله، فخرجت حتى قدمت الري، فأخذت عامل الخراج، فأرسل إلي: إن هذا أعرابي مجنون، فإنّ الأمير لم يولّ على الخراج عربيًا قطّ، وإنما هو عامل المعونة، فقل له: فليرّني على عملي وله ثلثمائة ألف، قال: فنظرتُ في عهدي، فإذا أنا على المعونة، فقلت: والله لا انكسرت، ثم كتبت إلى خالد: إنك بعثتني على الري، فظننت أنك جمعتها لي. فأرسل إلي صاحب الخراج أن أقرّه على عمله ويعطيني ثلثمائة ألف درهم. فكتب إلي أن اقبل ما أعطاك، واعلم أنّك مغبون. فأقمت بها ما أقمت، ثم كتبت: إني قد اشتقت إليك فارفعني إليك، ففعل، فلما قدمت عليه ولّاني الشرطة. وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف عبد الواحد بن عبد الله النضْري وعلى قضاء الكوفة حسين بن حسن الكندي، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس. وقد قيل إن هشامًا إنما استعمل خالد بن عبد الله القسري على العراق وخراسان في سنة ست ومائة، وإن عامله على العراق وخراسان في سنة خمس ومائة كان عمر بن هبيرة. ثم دخلت سنة ست ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك عن المدينة عبد الواحد بن عبد الله النضري وعن مكة والطائف، وولّى ذلك كله خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادى الآخرة سنة ست ومائة، فكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر. وفيها غزا سعيد بن عبد الملك الصائفة. وفيها غزا الحجاج بن عبد الملك اللان، فصالح أهلها، وأدوا الجزية. وفيها ولد عبد الصمد بن علي في رجب. وفيها مات الإمام طاوس مولى بخير بن ريسان الحميري بمكة وسالم بن عبد الله بن عمر، فصلى عليهما هشام. وكان موت طاوس بمكة وموت سالم بالمدينة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة، قال: مات سالم بن عبد الله سنة خمس ومائة في عقب ذي الحجة، فصلى عليه هشام بن عبد الملك بالبقيع، فرأيت القاسم بن محمد بن أبي بكر جالسًا عند القبر وقد أقبل هشام ما عليه إلا درّاعة، فوقف على القاسم فسلم عليه، فقام إليه القاسم فسأله هشام: كيف أنت يا أبا محمد؟ كيف حالك؟ قال: بخير، قال: إني أحب والله أن يجعلكم بخير. ورأى في الناس كثرة، فضرب عليهم بعث أربعة آلاف؛ فسمّي عام الأربعة الآلاف. وفيها استقضى إبراهيم بن هشام محمد بن صفوان الجمحي ثم عزله، واستقضى الصلت الكندي. ذكر الخبر عن الحرب بين اليمانية والمضرية وربيعة وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بين المضرية واليمانية وربيعة بالبروقان من أرض بلخ. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وكان سبب ذلك - فيما قيل - أنّ مسلم بن سعيد غزا، فقطع النهر، وتباطأ الناس عنه؛ وكان ممن تباطأ عنه البختري بن درهم، فلما أتى النهر رد نصر بن سيار وسليم بن سليمان بن عبد الله بن خازم وبلعاء بن مجاهد بن بلعاء العنبري وأبا حفص بن وائل الحنظلي وعقبة بن شهاب المازني وسالم بن ذرابة إلى بلخ، وعليهم جميعًا نصر بن سيار، وأمرهم أن يخرجوا الناس إليه. فأحرق نصر باب البختري وزياد بن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بن مسلم من دخول بلخ - وكان عليها - وقطع مسلم بن سعيد النهر فنزل نصر البروقان، فأتاه أهل صغانيان، وأتاه مسلمة العقفاني من بني تميم، وحسان بن خالد الأسدي؛ كلّ واحد منهما في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابي وزرعة بن علقمة وسلمة بن أوس والحجاج بن هارون النميري في أهل بيته، وتجمّعت بكر والأزد بالبروقان، رأسهم البختري، وعسكر بالروقان على نصف فرسخ منهم، فأرسل نصر إلى أهل بلخ: قد أخذتم أعطياتكم فألحقوا بأميركم، فقد قطع النهر. فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو بن مسلم، وقال قوم من ربيعة: إن مسلم بن سعيد يريد أن يخلع؛ فهو يكرهنا على الخروج. فأرسلت تغلب إلى عمرو بن مسلم: إنك منا، وأنشدوه شعرًا قاله رجل عزا باهلة إلى تغلب - وكان بنو قتيبة من باهلة - فقالوا: إنّا من تغلب، فكرهت بكر أن يكونوا في تغلب فتكثر تغلب، فقال رجل منهم: زعمت قتيبة أنها من وائل ** نسب بعيد يا قتيبة فاصعدي وذكر أن بني معن من الأزد يدعون باهلة، وذكر عن شريك بن أبي قيلة المعني أن عمرو بن مسلم كان يقف على مجالس بني معن، فيقول: لئن لمم نكن منكم ما نحن بعرب؛ وقال عمرو بن مسلم حين عزاه التغلبي إلى بني تغلب: أما القرابة فلا أعرفها، وأما المنع فإني سأمنعكم؛ فسفر الضحاك بن مزاحم ويزيد بن المفضل الحداني، وكلما نصرًا وناشداه فانصرف. فحمل أصحاب عمرو بن مسلم والبختري على نصر، ونادوا: يا لَ بكر! وجالوا، وكر نصر عليهم؛ عليهم؛ فكان أوّل قتيل رجلٌ من باهلة، ومع عمرو بن مسلم البحتري وزياد بن طريف الباهلي، فقتل من أصحاب عمرو بن مسلم في المعركة ثمانية عشر رجلًا، وقتل كردان أخو الفرافصة ومسعدة ورجل من بكر بن وائل يقال له إسحاق، سوى من قتل في السكك، وانهزم عمرو بن مسلم إلى القصر وأرسل إلى نصر: ابعث إلى بلعاء بن مجاهد، فأتاه بلعاء، فقال: خذْ لي أمانًا منه، فآمنه نصر، وقال: لولا أني أشمت بك بكر بن وائل لقتلتك. وقيل: أصابوا عمرو بن مسلم في طاحونة، فأتوا به نصرًا في عنقه حبل، فآمنه نصر، وقال له ولزياد بن طريف والبختري بن درهم: الحقوا بأميركم. وقيل: بل التقى نصر وعمرو بالبروقان، فقتل من بكر بن وائل واليمن ثلاثون، فقالت بكر: علام نقاتل إخواننا وأميرنا، وقد تقرّبنا إلى هذا الرجل فأنكر قرابتنا! فاعتزلوا. وقاتلت الأزد، ثم انهموا ودخلوا حصنًا فحصرهم نصر، ثم أخذ عمرو بن مسلم والبختري أحد بني عباد وزياد بن طريف الباهلي، فضربهم نصر مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح. وقيل: أخذ البختري في غيضة كان دخلها، فقال نصر في يوم البروقان: أرى العين لجت في ابتدارٍ وما الذي ** يرد عليها بالدموع ابتدارها! فما أنا بالواني إذا الحرب شمرت ** تحرق في شطر الخميسين نارها ولكنّني أدعو لها خندف التي ** تطلع بالعبء الثقيل فقارها وما حفظت بكر هنالك حلفها ** فصار عليها عار قيس وعارها فإن تك بكر بالعراق تنزرت ** ففي أرض مرو علها وازورارها وقد جربت يوم البروقان وقعة ** لخندف إذ حانت وآن بوارها أتتني لقيس في بجيلة وقعة ** وقد كان قبل اليوم طال انتظارها يعني حين أخذ يوسف بن عمر خالدًا وعياله. وذكر علي بن محمد أن الوليد بن مسلم قال: قاتل عمرو بن مسلم نصر بن سيار فهزمه عمرو، فقال لرجل من بني تميم كان معه: كيف ترى أستاه قومك يا أخا بني تميم؟ يعيره بهزيمتهم، ثم كرت تميم فهموا أصحاب عمرو، فانجلى الرهج وبلعاء بن مجاهد في جمع من بني تميم يشلهم، فقال التميمي لعمرو: هذه أستاه قومي. قال: وانهزم عمرو، فقال بلعاء لأصحابه: لا تقتلوا الأسرى ولكن جردوهم، وجوبوا سراويلاتهم عن أدبارهم، ففعلوا، فقال بيان العنبري يذكر حربهم بالبروقان: أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ** لآل تميم أرجفت كل مرجف تظل عيون البرش بكر بن وائل ** إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف هم أسلموا للموت عمرو بن مسلم ** وولوا شلالًا والأسنة ترعف وكانت من الفتيان في الحرب عادة ** ولم يصبروا عند القنا المتقصف خبر غزو مسلم بن سعيد الترك وفي هذه السنة غزا مسلم بن سعيد الترك؛ فورد عليه عزله من خراسان من خالد بن عبد الله، وقد قطع النهر لحربهم وولاية أسد بن عبد الله عليها. ذكر الخبر عن غزوة مسلم بن سعيد هذه الغزوة ذكر علي بن محمد عن أشياخه أنّ مسلمًا غزا في هذه السنة، فخطب الناس في ميدان يزيد، وقال: ما أخلف بعدي شيئًا أهمّ عندي من قوم يتخلفون بعدي مخلّقي الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين؛ اللهم افعل بهم وافعل! وقد أمرت نصرًا ألّا يجد متخلّفًا إلا قتله، وما أرثى لهم من عذاب ينزله الله بهم - يعني عمر بن مسلم وأصحابه - فلما صار ببخارى أتاه كتاب من خالد بن عبد الله القسري بولايته على العراق، وكتب إليه: أتمم غزاتك. فسار إلى فرغانة، فقال أبو الضحاك الرَّواحي - أحد بني رواحة من بني عبس، وعداده في الأزد، وكان ينظر في الحساب: ليس على متخلف العم معصية، فتخلف أربعة آلاف. وسار مسلم بن سعيد، فلما صار بفرغانة بلغه أن خاقان قد أقبل إليه، وأتاه شميل - أو شبيل - بن عبد الرحمن المازني، فقال: عاينت عسكر خاقان في موضع كذا وكذا، فأرسل إلى عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني مولى بني سليم، فأمره بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في اليوم؛ ثم سار من غد حتى قطع وادي السبّوح، فأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل؛ فأنزل عبد الله بن أبي عبد الله قومًا من العفراء والموالي، فأغار الترك على الذين أنزلهم عبد الله ذلك الموضع فقتلوهم، وأصابوا دوابّ لمسلم وقتل المسّيب بن بسر الريّاحي، وقتل البراء - وكان من فرسان المهلّب - وقتل أخو غوزك، وثار الناس في وجوههم، فاخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن مالك الحمَّاني، ورحل بالناس فساروا ثمانية أيام، وهم مطيفون بهم؛ فلما كانت الليلة التاسعة أراد النزول، فشاور الناس فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد؛ وإنك إن نزلت المرج تفرّق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك، فقال لسورة بن الحرّ: يا أبا العلاء، ما ترى؟ قال: أرى ما رأى الناس ونزلوا. قال: ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحّرقوا قيمة ألف ألف، وأصبح الناس فساروا، فوردوا الماء فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بن سعيد: أعزم على كلّ رجل إلا اخترط سيفه؛ ففعلوا فصارت الدنيا كلها سيوفًا، فتركوا الماء وعبروا، فأقام يومًا، ثم قطع من غدٍ، وأتبعهم ابن الخاقان. قال: فأرسل حميد بن عبد الله وهو على الساقة إلى مسلم: قف ساعةً فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم - وهو مثقلٌ جراحةً - فوقف الناس، فعطف على الترك، فأرسل أهل السُّغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة، وانصرف البقيّة، ومضى حميد ورمى بنشّابه في ركبته، فمات. وعطش الناس، وقد كان عبد الرحمن بن نعيم العامري حمل عشرين قربة على إبله، فلما رأى جهد الناس أخرجها، فشربوا جرعًا، واستسقى يوم العطش مسلم بن سعيد فأتوه بإناء، فأخذ جابر - أو حارثة - بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه، فما نازعني شربتي إلا من حرّ دخله، فأتوا خجندة، وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بن نعيم، فأتياه بعهد على خراسان من أسد بن عبد الله، فأقرأه عبد الرحمن مسلمًا، فقال: سمعًا وطاعة، قال: وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل. قال: وكان أعظم الناس غنى يوم العطش إسحاق بن محمد الغداني، فقال حاجب الفيل لثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب: نقضي الأمور وبكر غير شاهدها ** بين المجاذيف والسُّكان مشغول ما يعرف الناس منه غير قطنته ** وما سواها من الآباء مجهول وكان لعبد الرحمن بن نعيم من الولد نعيم وشديد وعبد السلام وإبراهيم والمقداد، وكان أشدهم نعيم وشديد، فما عزل مسلم بن سعيد، قال الخرزج التغلبي: قاتلنا الترك، فأحاطوا بالمسلمين حتى أيقنوا بالهلاك؛ فنظرت إليهم وقد اصفرت وجوههم، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحرّ بن الحنيف بن نصر بن يزيد بن جعونة على الترك في أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بن يسار في ثلاثين فارسًا، فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم، وحمل الناس عليهم؛ فانهزم الترك. قال: وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بن الحرّ. قال: وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولّاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وحثّ صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر. قال: وما عمال العذر؟ قال مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلً فولّه، فإن كان خيرًا لك، وإن كان شرًا كان لهم دونك؛ وكنت معذورًا. قال: كان مسلم بن سعيد كتب إلى عامله بالبصرة: احمل إلى توبة بن أبي أسيد، مولى بني العنبير فكتب ابن هبيرة إلى عامله في البصرة: احمل إلى توبة بن أسيد، فحمله فقدم - وكان رجلًا جميلًا جهيرًا له سمتٌ - فلما دخل على ابن هبيرة، قال ابن هبيرة: مثل هذا فليولّ، ووجه به إلى مسلم، فقال له مسلم: هذا خاتمي فاعمل برأيك؛ فلم يزل معه حتى قدم أسد بن عبد الله، فأراد توبه أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد: أقم معي فأنا أحوج إليك من مسلم. فأقام معه، فأحسن الناس وألان جانبه، وأحسن إلى الجند وأعطاهم أرزاقهم، فقال له أسد: حلفّهم بالطلاق فلا يختلف أحد عن مغزاه، ولا يدخل بديلًا، فأبى ذلك توبة فلم يحلفهم بالطلاق. قال: وكان الناس بعد توبة يحلفون الجند بتلك الأيمان، فلما قدم عاصم ابن عبد الله أراد أن يحلّف الناس بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف بأيمان توبة. قال: فهم يعرفون ذلك، يقولون: أيمان توبة. حج هشام بن عبد الملك وحجّ بالناس في هذه السنه هشام بن عبد الملك؛ حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيرة، لا خلاف بينهم في ذلك. قال الواقدي: حدثني ابن أبي الزنّاد، عن أبيه، قال: كتب إلي هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن اكتب لي سنن الحج، فكتبتها له، وتلقاه أبو الزنّاد. قال أبو الزنّاد: فإني يومئذ في الموكب خلفه، وقد لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، وهشام يسير، فنزل له، فسلم عليه، ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام: أبو الزناد! فتقدّمت، فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيدًا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة؛ قال: فشق على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجًا. ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال: يا عبد الله بن ذكوان، فرغت مما كتبت إليك؟ فقلت: نعم، فقال أبو الزنّاد: وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام، فرأيته منكسرًا كلما رآني. وفي هذه السنة كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك - وهشام واقف قد صلى في الحجر - فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظمًا لحقه، إلا رددت على ظلامتي! قال: أي ظلامة؟ قال: داري، قال: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن الوليد بن عبد الملك؟ قال: ظلمني والله قال: فعن سليمان؟ قال: فعن عمر بن عبد العزيز؟ قال يرحمه الله، ردّها والله علي، قال: فعن يزيد بن عبد الملك؟ قال ظلمني والله، هو قبضها مني بعد قبضي له، وهي في يديك. قال هشام: أما والله لو كان فيك ضربٌ لضربتك، فقال إبراهيم: في والله ضرب بالسيف والسوط. فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع، كيف سمعت هذا اللسان؟ قال: ما أجود هذا اللسان! قال: هذه قريش وألسنتها، ولايزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا. وفي هذه السنة قدم خالد بن عبد الله القسري أميرًا على العراق. ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان وفيها استعمل خالد أخاه أسد بن عبد الله أميرًا على خراسان، فقدمها ومسلم بن سعيد غازٍ بفرغانة، فذكر عن أسد أنه لما أتى النهر ليقطع، منعه الأشهب بن عبيد التميمي أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل، فقال له أسد: أقطعني، فقال: لا سبيل إلى إقطاعك؛ لأني نهيت عن ذلك، قال: لاطفوه وأطمعوه فأبى؛ قال فإني الأمير، ففعل، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا، فقطع النهر، فأتى السُّغد، فنزل مرجها، وعلى خراج سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسدًا، فأتوه بالمرج، وهو جالس على حجر، فتفائل الناس، فقالوا أسد على حجر! ما عند هذا خير. فقال له هانئ: أقدمت أميرًا فنفعل بك ما نفعل بالأمراء؟ قال: نعم ثم دعا بالغداء فتغدى بالمرج، وقال: من ينشط بالمسير وله أربعة عشر درهمًا - ويقال: قال ثلاثة عشر درهمًا - وها هي ذي في كمي؟ وإنه لبيكي ويقول: إنما أنا رجل مثلكم وركب فدخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بن نعيم على الجند، فقدم الرجلان على عبد الرحمن بن نعيم، وهو في وادي أفشين على الساقة - وكانت الساقة على أهل سمرقند الموالى وأهل الكوفة - فسألا عن عبد الرحمن فقالوا: هو في الساقة، فأتياة بعهد وكتاب بالقفل والإذن لهم فيه، فقرأ الكتاب. ثم أتى به مسلمًا وبعهده، فقال مسلم: سمعًا وطاعة، فقام عمر بن هلال السدوسي - ويقال التميمي - فقنّعه سوطين لما كان منه بالروقان إلى بكر بن وائل، وشتمه حسين بن عثمان بن بشر بن المحتفز، فغضب عبد الرحمن بن نعيم، فزجوهما ثم أغلظ لهما، وأمر بهما فدفعا، وقفل بالناس وشخص معه مسلم. فذكر علي بن محمد على أصحابه، أنهم قدموا على أسد، وهو بسمرقند، فشخص أسد إلى مرو، وعزل هانئًا، واستعمل على سمرقند الحسن بن أبي العمرّطة الكندي من ولد آكل المرار. قال: فقدمت على الحسن امرأته الجنوب ابنة القعقاع بن الأعلم رأس الأزد، ويعقوب بن القعقاع قاضي خراسان؛ فخرج يتلقاها، وغزاهم الترك، فقيل له: هؤلاء الترك قد أتوك - وكانوا سبعة آلاف - فقال: ما أتونا بل أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وايم الله مع هذا لأدنينّكم منهم، ولأقرننّ نواصي خيلكم بنواصي خيلهم. قال ثم خرج فتباطأ حتى أغاروا وانصرفوا، فقال الناس: خرج إلى امرأته يتلقاها مسرعًا وخرج إلى العدّو متباطئًا. فبلغه خطبهم، فقال: تقولون وتعيبون! اللهمَّ اقطع آثارهم وعجّل أقدارهم، وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء! فشتمه الناس في أنفسهم. وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحصر فقال: من يطع الله ورسوله فقد ضلّ، وأرتج عليه، فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قال: إن لم أكن فيكم خطبيًا فإنني ** بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيب فقيل له: لو قلت هذا على المنبر، لكنت خطبيًا، فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره حصره: أبا العلاء للقد لاقيت معضلةً ** يوم العروبة من كرب وتخنيق تلوى اللسان إذا رمت الكلام به ** كما هوى زلق من شاهق النِّيق لما رمتك عيون الناس ضاحيةً ** أنشأت تجرض لما قمت بالرِّيق أمَّا القران فلا تهدى لمحكمةٍ ** من القران ولا تهدى لتوفيق وفي هذه السنة ولد عبد الصمد بن علي في رجب. وكان العمل على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي. وعلى العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسري، وعامل خالد على صلاة البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بن المنذربن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس، وعلى خراسان أسد بن عبد الله. ثم دخلت سنة سبع ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من عباد الرُّعيني باليمن محكِّمًا، فقتله يوسف ابن عمر، وقتل معه أصحابه كلهم وكانوا ثلثمائة. وفيها غزا الصائفة معاوية بن هشام، وعلى جيش الشام ميمون بن مهران، فقطع البحر حتى عبر إلى قبرس، وخرج معهم البعث الذي هشام كان أمر به في حجته سنة سبع على الجعائل، غزا منهم نصفهم وقام النصف. وغزا البر مسلمة بن عبد الملك. وفيها وقع بالشأم طاعون شديد. وفيها وجّه بكير بن ماهان أبا عكرمة وأبا محمد الصادق ومحمد بن خنيس وعمار العبادي في عدة من شيعتهم، معهم زياد خال الوليد الأزرق دعاة إلى خراسان، فجاء رجل من كندة إلى أسد بن عبد الله، فوشى بهم إليه، فأتى بأبي عكرمة ومحمد بن خنيس وعامت أصحابه، ونجا عمار، فقطع أسد أيدي من ظفر به منهم وأرجلهم، وصلبهم. فأقبل عمار إلى بكير بن ماهان، فأخبره الخبر، فكتب به إلى محمد بن علي، فأجابه: الحمد لله الذي صدق مقالتكم ودعوتكم، وقد بقيت منكم قتلى ستقتل. وفي هذه السنة حمل مسلم بن سعيد إلى خالد بن عبد الله، وكان أسد ابن عبد الله له مكرمًا بخراسان لم يعرض له ولم يحبسه، فقدم مسلم وابن هبيرة مجمع على الهرب، فنهاه عن ذلك مسلم، وقال له: إن القوم فينا أحسن رأيًا منكم فيهم. وفي هذه السنة غزا أسد جبال نمرون ملك الغرشستان ممايلي جبال الطالقان، فصالحه نمرون وأسلم على يديه، فهم اليوم يتولون اليمن. غزوة الغور وفيها غزا أسد الغور وهي جبال هراة. ذكر الخبر عن غزوة أسد هذه الغزوة ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن أسدًا غزا الغور، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق، فأمر أسد باتّخاذ توابيت ووضع فيها الرجال، ودلّاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه، فقال ثابت قطنة: أرى أسدًا تضمن مفظعاتٍ ** تهيبها الملوك ذوو الحجاب سما بالخيل في أكناف مرو ** وتوفزهن بين هلا وهاب إلى غورين حيث حوى أزبٌّ ** وصكٌّ بالسيوف وبالحراب هدانا الله بالقتلى تراها ** مصلبةًبأفواه الِّشعاب ملاحم لم تدع لسراة كلبٍ ** مهترةً ولا لبنى كلاب فأوردها النِّهاب وآب منها ** بأفضل ما يصاب من النهاب وكان إذا أناخ بدارقوم ** أراها المخزيات من العذاب ألم يزر الجبال جبال ملغ ** ترى من دونها قطع السَّحاب بأرعن لم يدع لهم شريدًا ** وعاقبها الممض من العقاب وملع من جبال خوط فيها تعمل الحزم الملعيّة. وفي هذه اللسنة نقل أسد من كان بالبروقان من الجند إلى بلخ، فأقطع كل من كان له بالبروقان مسكنٌ مسكنًا بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن أقطعه مسكنًا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له: إنهم يتعصبون، فخلط بينهم، وكان قسم لعمارة مدينة بلخ الفعله على كل كورة على قدر خراجها، وولِّى بناء مدينة بلخ برمك أبا خالد بن برمك، - وكان البروقان منزل الأمراء ويبن البروقان ويبن بلخ فرسخان وبين المدينة والنوبهار قدر غلوتين - فقال أبو البريد في بنيان أسد مدينة بلخ: شفعت فؤادك فالهوى لك شاعف ** رئم على طفل بحوامل عاطف ترعى البرير بجانبي متهدِّلٍ ** ريَّن لا يعشو إليه آلف بمحاضرٍ من منحني عطفت له ** بقرٌ ترجح زانهنَّ روادف إن المباركة التي أحصنتها ** عصم الذلِّيل بها وقرَّ الخائف فأراك فيها ما أرى من صالح ** فتحًا وأبواب السماء رواعف فمضى لك الاسم الذي يرضى به ** عنك البصير بما نويت اللَّاطف يا خير ملك ساس أمر رعيَّة ** إني على صدق اليمين لحالف الله آمنها بصنعك بعدما ** كانت قلوب خوفهنّ رواجف وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وهشام وغيرهما. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها الذين ذكرناهم قبل في سنة ست ومائة. ثم دخلت سنة ثمان ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها كانت غزوة مسلمة بن عبد الملك حتى بلغ قيساريّة، مدينة الروم ممايلي الجزيرة، ففتحها الله على يديه. وفيها أيضًا غزا إبراهيم بن هشام ففتح أيضًا حصنًا من حصون الروم. وفيها وجّه بكير بن ماهان إلى خراسان عدّة؛ فيهم عمّار العبادي؛ فوشى بهم رجل إلى أسد بن عبد الله، فأخذ عمارًا فقطع يديه ورجليه ونجا أصحابه، فقدموا على بكير بن ماهان فأخبروه الخبر، فكتب بذلك إلى محمد بن علي، فكتب إليه في جواب الكتاب: الحمد لله الذي صدّق دعوتكم ونجّى شيعتكم. وفيها كان الحريق بدابق؛ فذكر محمد بن عمر أنّ عبد الله بن نافع حدثه عن أبيه، قال: احترق المرعى حتى احترق الدواب والرجال. غزو الختل وفيها غزا أسد بن عبد الله الختّل؛ فذكر عن علي بن محمد أن خاقان أتى أسدًا وقد انصرف إلى القواديان، وقطع النهر، ولم يكن بينهم قتال في تلك الغزاة. وذكر عن أبي عبيدة، أنه قال: بل هزموا أسدًا وفضحوه؛ فتغنى عليه الصبيان: أز ختلان آمذي ** برو تباه آمذي قال: وكان السبل محاربًا له، فاستجلب خاقان، وكان أسد قد أظهر أنه يشتو بسرخ دره، فأمر أسد الناس فارتحلوا، ووجه راياته، وسار في ليلة مظلمة إلى سرخ دره، فكبر الناس، فقال أسد: ما للناس؟ قالوا: هذه علامتهم إذا قفلوا، فقال لعروة المنادي: ناد إن الأمير يريد غورين؛ ومضى وأقبل خاقان حين انصرفوا إلى غورين النهر فقطع النهر، فلم يلتق هو ولا هم، ورجع إلى بلخ، فقال الشاعر في ذلك يمدح أسد بن عبد الله: ندبت لي من كل خمس ألفين ** من كل لحاف عريض الدفين قال: ومضى المسلمون إلى الغوريان فقاتلوهم يومًا، وصبروا لهم، وبرز رجل من المشركين، فوقف أمام أصحابه وركز رمحه، وقد أعلم بعصابة خضراء - وسلم بن أحوز واقف مع نصر بن سيّار - فقال سلم لنصر: قد عرفت رأى أسد، وأنا حامل على هذا العلج؛ فلعلي أن أقتله فيرضى. فقال: شأنك، فحمل عليه، فما اختلج رمحه حتى غشيه سلم فطعنه، فإذا هو بين يدي فرسه، ففحص برجله، فرجع سلم فوقف، فقال لنصر: أنا حامل حملة أخرى؛ فحمل حتى إذا دنا منهم اعترضه رجل من العدوّ، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، فرجع سلم جريحًا، فقال نصر لسلم: قف لي حتى أحمل عليهم، فحمل حتى إذا دنا منهم اعترضه رجل من العدوّ، فاختلفا ضربتين، فقتله سلم، فرجع سلم جريحًا، فقال نصر لسلم: قف لي حتى أحمل عليهم، فحمل حتى خالط العدو، فصرع رجلين ورجع جريحًا، فوقف فقال: أترى ما صنعنا يرضيه؟ لا أرضاه الله! فقال: لا والله فيما أظنّ. وأتاهما رسول أسد فقال: يقول لكما الأمير: قد رأيت موقفكما منذ اليوم وقلة غنائكما عن المسلمين لعنكما الله! فقالا: آمين إن عدنا لمثل هذا. وتحاجزوا يومئذ، ثم عادوا من الغد فلم يلبث المشركون أن انهزموا، وحوى المسلمون عسكرهم، وظهروا على البلاد فأسروا وسبوا وغنموا، وقال بعضهم رجع أسد في سنة ثمان ومائة مفلولا من الختل، فقال أهل خراسان: أز ختّلان آمذي برو تباه آمذي ** بيدل فراز آمذي قال: وكان أصاب الجند في غزاة الختل جوع شديد، فبعث أسد بكبشين مع غلام له، وقال: لا تبعهما بأقل من خمسمائة، فلما مضى الغلام، قال أسد: لا يشتريهما إلا ابن الشخير، وكان في المسلحة، فدخل ابن الشخير حين أمسى، فوجد الشاتين في السوق، فاشتراهما بخمسمائة، فذبح إحداهما وبعث بالأخرى إلى بعض إخوانه، فلما رجع الغلام إلى أسد أخبره بالقصة، فبعث إليه أسد بألف درهم. قال: وابن الشخير هو عثمان بن عبد الله بن الشخير، أخو مطرّف بن عبد الله بن الشخير الحرشي. وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام وهو على المدينة ومكة والطائف. حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي. وكان العمال في هذه السنة على الأمصار في اللاة والحروب والقضاء هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل. ثم دخلت سنة تسع ومائة ذكر الأحداث التي كانت فيها فممّا كان فيها من ذلك غزوة عبد الله بن عقبة بن نافع الفهري على جيش في البحر وغزوة معاوية بن هشام أرض الروم، ففتح حصنًا بها يقال له طيبة، وأصيب معه قوم من أهل أنطاكية. خبر مقتل عمر بن يزيد الأسيدي وفيها قتل عمر بن يزيد الأسيدي؛ قتله مالك بن المنذر بن الجارود. ذكر الخبر عن ذلك وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن خالد بن عبد الله شهد عمر بن يزيد أيام حرب يزيد بن المهلب، فأعجب به يزيد بن عبد الملك، وقال: هذا رجل العراق، فغاظ ذلك خالدًا، فأمر مالك بن المنذر وهو على شرطة البصرة أن يعظّم عمر بن يزيد، ولا يعصى له أمرًا حتى يعرّفه الناس، ثم أقبل يعتلّ عليه حتى يقتله، ففعل ذلك، فذكر يومًا عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، فافترى عليه مالك، فقال له عمر بن يزيد: تفتري على مثل عبد الأعلى! فأغلظ له مالك، فضربه بالسياط حتى قتله. غزو غورين وفيها غزا أسد بن عبد الله غورين، وقال ثابت قطنة: أرى أسدًا في الحرب إذ نزلت به ** وقارع أهل الحرب فاز وأوجبا تناول أرض السبل، خاقان ردؤه ** فحرق ما استعصى عليه وخربا أتتك وفود الترك ما بين كابل ** وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا فما يغمر الأعداء من ليث غابة ** أبي ضاريات حرشوه فعقبا أزبّ كأنّ الورس فوق ذراعه ** كريه المحيا قد أسن وجربا ألم يك في الحصن المبارك عصمة ** لجندك إذ هاب الجبان وأرهبا! بنى لك عبد الله حسنًا ورثته ** قديمًا إذا عد القديم وأنجبا وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن خراسان وصرف أخاه أسدًا عنها. ذكر الخبر عن عزل هشام خالدا وأخاه عن خراسان وكان سبب ذلك أن أسدًا أخا خالد تعصب حتى أفسد الناس، فقال أبو البريد - فيما ذكر علي بن محمد لبعض الأزد: أدخلني علي ابن عمك عبد الرحمن ابن صبح، وأوصه بي، وأخبره عني، فأدخله عليه - وهو عامل لأسد على بلخ - فقال: أصلح الله الأمير! هذا أبو البريد البكري أخونا وناصرنا، وهو شاعر أهل المشرق، وهو الذي يقول: إن تنقض الأزد حلفًا كان أكده ** في سالف الدهر عباد ومسعود ومالك وسويد أكداه معًا ** لما تجرد فيها أي تجريد حتى تنادوا أتاك الله ضاحية ** وفي الجلود من الإيقاع نقصيد قال: فجذب أبو البريد يده، وقال: لعنك الله من شفيع كذب! أصلحك الله! ولكني الذي أقول: الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا ** ما بيننا نكث ولا تبديل قال: صدقت، وضحك. وأبو البريد من بني علباء بن شيبان بن ذهل ابن ثعلبة. قال: وتعصب على نصر بن سيار ونفر معه من مضر، فضربهم بالسياط، وخطب في يوم جمعة فقال في خطبته: قبح الله هذه الوجوه! وجوه أهل الشقاق والنفاق، والغب والفساد. اللهم فرّق بيني وبينهم، وأخرجني إلى مهاجري ووطني، وقلّ من يروم ما قبلي أو يترمرم، وأمير المؤمنين خالي، وخالد بن عبد الله أخي، ومعي اثنا عشر ألف سيف يمان. ثم نزل عن منبره، فلما صلى ودخل عليه الناس، وأخذوا مجالسهم، أخرج كتابًا من تحت فراشه، فقرأه على الناس، فيه ذكر نصر بن سيار وعبد الرحمن بن نعيم الغامدي وسورة بن الحرّ الأباني - أبان بن دارم - والبختري بن أبي درهم من بني الحارث بن عبّاد، فدعاهم فأنّبهم، فأزم القوم، فلم يتكلم منهم أحد، فتكلم سورة، فذكر حاله وطاعته ومناصحته، وأنه ليس ينبغي له أن يقبل قول عدوّ مبطل، وأن يجمع بينهم وبين من قرفهم بالباطل. فلم يقبل قوله، وأمر بهم فجردوا، فضرب عبد الرحمن بن نعيم، فإذا رجل عظيم البطن، أرسح؛ فلما ضرب التوى، وجعل سراويله يزلّ عن موضعه، فقام رجل من أهل بيته، فأخذ رداءًا له فيؤززره. فأومى إليه أن افعل، فدنا منه فأزّره - ويقال بل أزّره أبو نميلة - وقال له: اتزر أبا زهير، فإن الأمير والٍ مؤدب. ويقال: بل ضربهم في نواحي مجلسه. فلما فرغ قال: أين تيس بني حمان؟ - وهو يريد ضربه؛ وقد كان ضربه قبل - فقال: هذا تيس بني حمان؛ وهو قريب العهد بعقوبة الأمير، وهو عامر بن مالك بن مسلمة بن يزيد بن حجر بن خيسق بن حمسان بن كعب بن سعد. وقيل إنه خلفهم بعد الضرب، ودفعهم إلى عبد ربه بن أبي صالح مولى بني سليم - وكان من الحرس - وعيسى بن أبي يريق، ووجههم إلى خالد، وكتب إليه: إنهم أرادوا الوثوب عليه؛ فكان ابن أبي بريق كلما نبت شعر أحدههم حلقه، وكان البختري بن أبي درهم، يقول: لوددت أنه ضربني وهذا شهرًا - يعني نصر بن سيار لما كان بينهما بالبروقان - فأرسل بنو تميم إلى نصر: إن شئتم انتزعناكم من أيديهم، فكفهم نصر، فلما قدم بهم على خالد لام أسدًا وعنفه، وقال: ألا بعثت برءوسهم! فقال عرفجة التميمي: فكيف وأنصار الخليفة كلهم ** عناة وأعداء الخليفة تطلق! بكيت ولم أملك دموعي وحق لي ** ونصر شهاب الحرب في الغل موثق وقال نصر: بعثت بالعتاب في غير ذنب ** في كتاب تلوم أم تميم إن أكن موثقًا أسيرًا لديهم ** في هموم وكربة وسهوم رهن قسر فما وجدت بلاء ** كإسار الكرام عند اللئيم أبلغ المدعين قسرًا وقسر ** أهل عود القناة ذات الوصوم هل فطمتم عن الخيانة والغد ** ر أم أنتم كالحاكر المستديم؟ وقال الفرزدق: أخالد لولا الله لم تعط طاعة ** ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا إذًا للقيتم دون شد وثاقه ** بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا وخطب أسد بن عبد الله على منبر بلخ، فقال في خطبته: يا أهل بلخ، لقيتموني الزاغ والله لأزيغن قلوبكم. فلما تعصب أسد وأفسد الناس بالعصبية، كتب هشام إلى خالد بن عبد الله: اعزل أخاك، فعزله فاستأذن له في الحجّ، فقفل أسد إلى العراق ومعه دهاقين خراسان، في شهر رمضان سنة تسع ومائة، واستخلف أسد على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، فأقام الحكم صيفية، فلم يغز. ذكر الخبر عن دعاة بني العباس وذكر علي بن محمد أنّ أوّل من قدم خراسان من دعاة بني العباس زياد أبو محمد مولى همدان في ولاية أسد بن عبد الله الأولى، بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وقال له: ادع الناس إلينا وانزل في اليمن، والطف بمضر. ونهاه عن رجل من أبرشهر، يقال له غالب؛ لأنه كان مفرطًا في حب بني فاطمة. ويقال: أوّل من جاء أهل خراسان بكتاب محمد بن علي حرب بن عثمان، مولى بني قيس بن ثعلبة من أهل بلخ. قال: فلما قدم زياد أبو محمد، ودعا إلى بني العباس، ذكر سيرة بني مروان وظلمهم، وجعل يطعم الناس الطعام، فقدم عليه غالب من أبرشهر؛ فكانت بينهم منازعة؛ غالب يفضّل آل أبي طالب وزياد يفضّل بني العباس. ففارقه غالب، وأقام زياد بمرو شتوة، وكان يختلف إليه من أهل مرو يحيى بن عقيل الخزاعي وإبراهيم بن الخطاب العدوي. قال: وكان ينزل برزن سويد الكاتب في دور آل الرقاد، وكان على خراج مرو الحسن بن شيخ، فبلغه أمره، فأخبر به أسد بن عبد الله، فدعا به - وكان معه رجل يكنى أبا موسى - فلما نظر إليه أسد، قال له: أعرّفك؟ قال: نعم، قال له أسد: رأيتك في حانوت بدمشق، قال: نعم، قال لزياد: فما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: رفع إليك الباطل، إنما قدمت خراسان في تجارة، وقد فرّقت مالي على الناس، فإذا صار إلي خرجت. قال له أسد: اخرج عن بلادي، فانصرف، فعاد إلى أمره، فعاود الحسن أسدًا، وعظم عليه أمره، فأرسل إليه، فلما نظر إليه، قال: ألم أنهك عن المقام بخراسان! قال: ليس عليك أيها الأمير مني بأس، فأحفظه وأمر بقتلهم، فقال له أبو موسى: فاقض ما أنت قاض. فازداد غضبًا، وقال له: أنزلتني منزلة فرعون! فقال له: ما أنزلتك ولكن الله أنزلك. فقتلوا، وكانوا عشرة من أهل بيت الكوفة، فلم ينجُ منهم يومئذ إلا غلامان استصغرهما، وأمر بالباقين فقتلوا بكشانشاه. وقال قوم: أمر أسد بزياد أن يحط وسطه، فمد بين اثنين، فضرب فنبا السيف عنه، فكبّر أهل السوق، فقال أسد: ما هذا؟ فقيل له، لم يحك السيف فيه، فأعطى أبا يعقوب سيفًا، فخرج في سراويل، والناس قد اجتمعوا عليه، فضربه، فنبا السيف، فضربه ضربة أخرى، فقطعه باثنتين. وقال آخرون: عرض عليهم البراءة، فمن تبرّأ منهم مما رفع عليه خلى سبيله، فأبى البراءة ثمانية منهم، وتبرأ اثنان. فلما كان الغد أقبل أحدههما وأسد في مجلسه المشرف على السوق بالمدينة العتيقة، فقال: أليس هذا أسيرنا بالأمس! فأتاه، فقال له: أسألك أن تلحقني بأصحابي، فأشرفوا به على السوق، وهو يقول: رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ نبيًا؛ فدعا أسد بسيف بخاراخداه، فضرب عنقه بيده قبل الأضحى بأربعة أيام، ثم قدم بعدهم رجل من أهل الكوفة يسمى كثيرًا، فنزل على أبي النجم، فكان يأتيه الذين لقوا زيادًا فيحدثهم ويدعوهم، فكان على ذلك سنة أو سنتين، وكان كثير أميًا، فقدم عليه خدّاش، وهو في قرية تدعى مرعم، فغلب كثيرًا على أمره. ويقال: كان اسمه عمار فسمّى خدّاشًا، لأنه خَدش الدين. وكان أسد استعمل عيسى بن شداد البرجمي إمرته الأولى في وجه وجّهه على ثابت قطنة، فغضب، فهجا أسدًا، فقال: أرى كل قوم يعرفون أباهم ** وأبو بجيلة بينهم يتذبذب إني وجدت أبي أباك فلا تكن ** إلبًا علي مع العدوّ تجلب أرمي بسهمي من رماك بسهمه ** وعدو من عاديت غير مكذب أسد بن عبد الله جلل عفوه ** أهل الذنوب فكيف من لم يذنب! أجعلتني للبرجمي حقيبة ** والبرجمي هو اللئيم المحقب عبد إذا استبق الكرام رأيته ** يأتي سكينًا حاملًا في الموكب إني أعوذ بقبر كرز أن أرى ** تبعًا لعبد من تميم محقب ولاية أشرس بن عبد الله على خراسان وفي هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك على خراسان أشرس ابن عبد الله السلمي، فذكر علي بن محمد، عن أبي الذيّال العدوي ومحمد بن حمزة، عن طرخان ومحمد بن الصلت الثقفي أن هشام بن عبد الملك عزل أسد بن عبد الله عن خراسان، واستعمل اشرس بن عبد الله السلمي عليها، وأمره أن يكاتب خالد بن عبد الله القسري - وكان أشرس فاضلًا خيّرًا، وكانوا يسمونه الكامل لفضله عندهم - فسار إلى خراسان، فلما قدمها فرحوا بقدومه، فاستعمل على شرطته عميرة أبا أمية اليشكري ثم عزله وولّى السمط، واستقضى على مرو أبا المبارك الكندي، فلم يكن له علم بالقضاء، فاستشار مقاتل بن حيان، فأشار عليه مقاتل بمحمد بن زيد فاستقضاه، فلم يزل قاضيًا حتى عزل أشرس. وكان أول من اتخذ الرابطة بخراسان واستعمل على الرابطة عبد الملك بن دثار الباهلي، وتولى أشرس صغير الأمور وكبيرها بنفسه. قال: وكان أشرس لما قدم خراسان كبّر الناس فرحًا به، فقال رجل: لقد سمع الرحمن تكبير أمة ** غداة أتاها من سليم إمامها إمام هدى وقوى لهم أمرهم به ** وكانت عجافًا ما تمخ عظامها وركب حين قدم حمارًا، فقال له حيان النبيطّ: أيها الأمير، إن كنت تريد أن تكون والي خراسان فاركب الخيل، وشدّ حزام فرسك، وألزم السوط خاصرته حتى تقدم النار، وإلّا فارجع. قال: أرجع إذن، ولا أقتحم النار يا حيّان. ثم أقام وركب الخيل. قال علي: وقال يحيى بن حضين: رأيت في المنام قبل قدوم أشرس قائلًا يقول: أتاكم الوعر الصدر، العضيف الناهضة، المشئوم الطائر، فانتبهت فزعًا ورأيت في الليلة الثانية: أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر، الخائن قومه؛ غر، ثم قال: لقد ضاع جيش كان جغر أميرهم ** فهل من تلاف قبل دوس القبائل! فإن صرفت عنهم به فلعله ** وإلا يكونوا من أحاديث قائل وكان أشرس يلقب جغرًا بخراسان. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وقال الواقدي: خطب الناس إبراهيم بن هشام بمنىً في هذه السنة الغد من يوم النحر بعد الظهر. فقال سلوني، فأنا ابن الوحيد، لا تسألون أحدًا أعلم مني. فقام إليه رجل من أهل العراق فسأله عن الأضحية؛ أواجبة هي أم لا؟ فما درى أي شيء يقول له! فنزل. وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف إبراهيم بن هسام، وعلى البصرة والكوفة خالد بن عبد الله، وعلى الصلاة بالبصرة أبان بن ضبارة اليزني، وعلى شرطتها بلال بن أبي بردة، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله الأنصاري؛ من قبل خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله. ثم دخلت سنة عشر ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك غزوة مسلمة بن عبد الملك الترك؛ سار إليهم نحو باب اللان حتى لقي خاقان في جموعه، فاقتتلوا قريبًا من شهر، وأصابهم مطر شديد، فهزم الله خاقان، فانصرف، فرجع مسلمة فسلك على مسجد ذي القرنين. وفيها غزا - فيما ذكر - معاوية بن هشام أرض الروم، ففتح صماله وفيها غزا الصائفة عبدالله بن عقبة الفهري. وكان على جيش البحر - فيما ذكر الواقدي - عبد الرحمن بن معاوية بن حديج. وفي هذه السنة دعا الأشرس أهل الذمة من أهل سمرقند ومن وراء النهر إلى الإسلام، على أن موضع عنهم الجزية، فأجابوا إلى ذلك، فلما أسلموا وضع عليهم الجزية، وطالبهم بها، فنصبوا له الحرب. ذكر الخبر عما كان من أمر أشرس وأمر أهل سمرقند ومن وليهم في ذلك ذكر أن الأشرس قال في عمله بخرسان: ابغوني رجلًا له ورع وفضل أوجهّه إلى من وراء النهر، فيدعوهم إلى الإسلام. فأشاروا عليه بأبي الصيداء صالح بن طريف، مولى بني ضبّة، فقال: لست بالماهر بالفارسية، فضموا معه الربيع بن عمران التميمي، فقال أبو الصيداء: أخرج على شريطة أن من أسلم لم يؤخذ منه الجزية، فإنما خراج خراسان على رؤوس الرجال، فقال أشرس: نعم قال أبو الصيداء لأصحابه: فإني أخرج فإن لم يف العمال أعنتموني عليهم، قالوا: نعم. فشخص إلى سمرقند، وعليها الحسن بن أبي العمرّطة الكندي على حربها وخراجها، فدعا أبو الصيداء أهل سمرقند ومن حولها إلى الإسلام، على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس، فكتب غوزك إلى أشرس: إن الخراج قد انكسر؛ فكتب أشرس إلى ابن أبي العمرطة: إن في الخراج قوة للمسلمين؛ وقد بلغني أن أهل السُّغد وأشباههم لم يسلموا رغبة، وإنما دخلوا في الإسلام بعوّذًا من الجزية؛ فانظر من اختتن وأقام الفرائض وحسن إسلامه، وقرأ سورة من القرآن، فارفع عنه خراجه. ثم عزل أشرس ابن أبي العمرّطة عن الخراج، وصيره إلى هانئ بن هانئ، وضم إليه الأشحيذ، فقال ابن أبي العمرطة لأبي الصيداء: لست من الخراج الآن في شيء، فدونك هانئًا ولأشحيذ؛ فقام أبوا الصيداء يمنعهم من أخذ الجزية ممن أسلم، فكتب هانئ: إن الناس قد أسلموا وبنوا المساجد. فجاء دهاقين بخارى إلى أشرس فقالوا: ممن تأخذ الخراج، وقد صار الناس كلهم عربًا؟ فكتب أشرس إلى هانئ وإلى العمال: خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه، فأعادوا الجزية على من أسلم، فامتنعوا؛ واعتزل من أهل السُّغد سبعة آلاف، فنزلوا على سبعة فراسخ من سمرقند، وخرج إليهم أبو الصيداء وربيع بن عمران التميمي والقاسم الشيباني وأبو فاطمة الأزدي وبشر بن جرموز الضِّبي وخالد بن عبد الله النحوي وبشر بن زنبور الأزدي وعامر بن قشير - أو بشير الخجندي وبيان العنبري وإسماعيل بن عقبة، لينصروهم. قال: فعزل أشرس ابن أبي العمرطة عن الحرب، واستعمل مكانه المجشرّ بن مزاحم السلمي، وضم إليه عميرة بن سعد الشيباني. قال: فلما قدم المجشَّر كتب إلى أبي الصيداء يسأله أن يقدم عليه هو وأصحابه، فقدم أبو الصيداء وثابت قطنة، فحبسهما، فقال أبو الصيداء: غدرتم ورجعتم عما قلتم! فقال له هانئ: ليس بغدر ما كان فبه حقن الدماء. وحمل أبا الصيداء إلى الأشرس، وحبس ثابت قطنة عنده؛ فلما أبو الصيداء اجتمع أصحابه وولوا أمرهم أبا فاطمة، ليقتاوا هانئًا، فقال لهم: كفوا حتى أكتب إلى أشرس فيأتينا رأيه فنعمل بأمره. فكتبوا إلى أشرس، فكتب أشرس: ضعوا عليهم الخراج، فرجع أصحاب أبي الصيداء، فضعف أمرهم، فتتبِّع الرؤساء منهم فأخذوا، وحملوا إلى مرو، وبقي ثابت محبوسًا، وأشرك أشرس مع هانئ بن هانئ سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة في الخراج، فألحّ هانئ والعمال في جباية الخراج، واستخفّوا بعظماء العجم، وسلّط المجشر عميررة بن سعد على الدهاقين، فأقيموا وخرقت ثيابهم، وألقيت مناطقهم في أعناقهم، وأخذوا الجزية ممن أسلم من الضعفاء، فكفرت السُّغد وبخارى، واستجاشوا الترك، فلم يزل ثابت قطنة فيحبس المجشر، حتى قدم نصر بن سيّار واليًا على المجسر، فحمل ثابتًا إلى أشرس مع إبراهيم بن عبد الله الليثي فحبسه. وكان نصر بن سيّار ألطفه، وأحسن إليه، فمدحه ثابت قطنة، وهو محبوس عند أشرس فقال: ما هاج شوقك من نؤي وأحجار ** ومن رسوم عفاها صوب أمطار! لم يبق منها ألام عرصتها ** ألا شجيج وإلا موقد النار ومائل في ديار الحي بعدهم ** مثل الربيئة في أهدامه العارى ديار ليلى قفار لا أنيس بها ** دون الحجون وأين الحجن من دارى! بدلت منها وقد شطّ المزار بها ** وادى المخافة لا يسرى بها السارى بين السماوة في حزم مشرقة ** ومعنق دوننا آذيه جار نقارع الترك ما تنفك نائحةٌ ** منا ومنهم على ذي نجدة شار إن كان ظني بنصر صادقًا أبدًا ** فيما أدبّر من نقضي وإمراري يصرف الجند حتى يستفئ بهم ** نبهًا عظيمًا ويحوي ملك جبّار وتعثر الخيل في الأقياد آونةً ** تحوي النهاب إلى طلّاب أوتار حتى يروها دوين السرح بارقة ** فيها لواء كظل الأجدل الضاري لا يمنع الثغر إلا ذو محافظة ** من الخضارم سبّاق بأوتار إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ** منه الفروع وزندي الثاقب الوارى لذاكر منك أمرًا قد سبقت به ** من كان قبلك يا نصر بن سيّار ناضلت عني نضال الحرِّ إذ قصرت ** دوني العشيرة واستبطأت أنصاري وصار كل صديق كنت آمله ** ألبًا على ورثَّ الحبل من جاري وما تلَّبست بالأمر الذي وقعوا ** به علىّ ولا دنست أطماري ولاعصيت إمامًا كان طاعته ** حقًّا عليَّ ولا قارفت من عار قال علي: وخرج أشرس غازيًا فنزل آمل، فأقام ثلاثة أشهر، وقّدم قطن بن قتيبة بن مسلم فعبر النهر في عشرة آلاف، فأقبل أهل السُّغد وأهل بخارى؛ معهم خاقان والترك، فحصروا قطن بن قتيبة في خندقه، وجعل خاقان ينتخب كل يوم فارسًا، فيعبر في قطعة من الترك النهر. وقال قوم: أقحموا دوابّهم عريًا، فعبروا وأغاروا على سرح الناس، فأخرج أشرس ثابت قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمر فوجّهه مع عبد الله بن بسطام في الخيل فاتبعوا الترك، فقاتلوهم بآمل حتى استنفذوا ما بأيديهم؛ ثم قطع الترك النهر إليهم راجعين، ثم عبر أشرس بالناس إلى قطن بن قتيبة، ووجّه أشرس رجلًا يقال له مسعود - أحد بني حيّان - في سريّة، فلقيهم العدو، فقاتلوهم، فأصيب رجال من المسلمين وهزم مسعود؛ حتى رجع إلى أشرس، فقال بعض شعرائهم: خابت سريّة مسعود وما غنمت ** إلا أفانين من شدٍّ وتقريب حلُّوا بأرض قفار لا أنيس بها ** وهن بالسًّفح أمثال اليعاسيب وأقبل العدو، فلما كانوا بالقرب لقيهم المسلمون فقاتلوهم، فجالوا جولة، فقتل في تلك الجولة رجال من المسلمين، ثم كرّ المسلمون وصبروا لهم، فانهزم المشركون. ومضى أشرس بالناس؛ حتى نزل بيكند، فقطع العدوّ عنهم الماء، فأقام أشرس والمسلمون في عسكرهم يومهم ذلك وليلتهم، فأصبحوا وقد نفد ماؤهم، فاحتفروا فلم ينبطوا، وعطشوا فارتحلوا إلى المدينة التي قطعواعنهم المياه منها، وعلى مقدمة المسلمين قطن بن قتيبة، فلقيهم العدو فقاتلوهم، فجهدوا من العطش، فمات منهم سبعمائة، وعجز الناس عن القتال، ولم يبق في صف الرباب إلا سبعة فكاد ضرار بن حصين يؤسر من الجهد الذي كان به، فحضّ الحارث بن سريج الناس فقال: أيها الناس، القتل بالسيف أكرم في الدنيا وأعظم أجرًا عند الله من الموت عطشًا. فتقدّم الحارث بن سريج وقطن بن قتيبة وإسحاق بن محمد، ابن أخي وكيع، في فوارس من بني تميم وقيس، فقالوا حتى أزالوا الترك عن الماء، فابتدره الناس فشربوا وارتووا. قال: فمر ثابت قطنة بعبد الملك بن دثار الباهلي، فقال له: يا عبد الملك، هل لك في أثار الجهاد؟ فقال: أنظرني ريثما أغتسل وأتحنّط، فوقف له حتى خرج ومضيا، فقال ثابت لأصحابه: أنا أعلم بقتال هؤلاء منكم، وحضّهم، فحملوا على العدوّ، واشتدّ القتال، فقتل ثابت في عدّة من المسلمين؛ منهم صخر بن مسلم بن النعمان العبدي وعبد الملك بن دثار الباهلي والوجيه الخراساني والعقار بن عقبة العودي. فضم قطن بن قتيبه وإسحاق بن محمد بن حسان خيلًا من بني تميم وقيس؛ تبايعوا على الموت، فأقدموا على العدوّ، فقاتلوهم فكشفوهم؛ وركبهم المسلمون يقاتلونهم؛ حتى حجزهم الليل، وتفرق العدوّ. فأتى أشرس بخارى فحصر أهلها. قال علي بن محمد، عن عبد الله بن المبارك: حدثني هشام بن عمارة ابن القعقاع الضبي عن فضيل بن غزوان، قال: حدثني وجيه البناني ونحن نطوف بالبيت، قال: لقينا الترك، فقتلوا منّا قومًا، وصرعت وأنا أنظر إليهم، يجلسون فيستقون حتى انتهوا إلىّ، فقال رجل منهم: دعوه فإن له أثرًا هو واطئه، وأجلًا هو بالغه؛ فهذا أثر قد وطئته، وأنا أرجو الشهادة. فرجع إلى خرسان؛ فاستشهد مع ثابت. قال: فقال الوزاع بن مائق: مرّ بي الوجيه في بلغين يوم أشرس، فقلت: كيف أصبحت يا أبا أسماء؟ قال: أصبحت بين حائر وحائز؛ اللهم لف بين الصفين؛ فخالطا القوم وهو منتكب قوسه وسيفه، مشتمل في طيلسان واستشهد واستشهد الهيثم بن المنخل العبدي. قال علي عن عبد الله بن المبارك، قال: لما التقى أشرس والترك، قال ثابت قطنة: اللهم إنّي كنت ضيف ابن بسطام البارحة، فاجعلني ضيفك الليلة؛ والله لا ينظر إلى بنو أمية مشدودًا في الحديد؛ فحمل وحمل أصحابه؛ فكذب أصحابه ثبت؛ فرمى برذونه فشبّ، وضربه فأقدم، وضرب فارتثّ؛ فقال وهو صريع: اللهم إني أصبحتُ ضيفًا لابن بسطام؛ وأمسيت ضيفك؛ فاجعل قراي من ثوابك الجنة. قال علي: ويقال إن أشرس قطع النهر، ونزل بيكند؛ فلم يجد بها ماء؛ فلما أصبحوا ارتحلوا، فلما دنوا من قصر بخاراخداه - وكان منزله منهم على ميل - تلقّاهم ألف فارس، فأحاطوا بالعسكر وسطع رهج الغبار، فلم يكن الرجل يقدر أن ينظر إلى صاحبه. قال فانقطع منهم ستة آلاف، فيهم قطن بن قتيبة وغوزك من الدهاقين، فانتهوا إلى قصر من قصور بخارى، وهم يرون أن أشرس قد هلك، وأشرس في قصور بخارى؛ فلم يلتقواإلا بعد يومين، ولحق غزوك في تلك الواقعة بالترك، وكان قد دخل القصر مع قطن، فأرسل إليه قطن رجلًا، فصاحوا برسول قطن؛ ولحق بالترك. قال: ويقال إن غوزك وقع يومئذ وسط خيل، فلم يجد بدًا من اللحاق بهم. ويقال إن أشرس أرسل إلى غوزك يطلب منه طاسًا، فقال لرسول أشرس: إنه لم يبق معي شيء أتدهن به غير الطاس، فاصفح عنه. فأرسل إليه: اشرب في قرعة، وابعث إلى بالطاس، ففارقه. قال: وكان على سمرقند نصر بن سيار، وعلى خراجها عميرة بن سعيد الشيباني، وهم محصورون وكان عميرة ممن قدم مع أشرس وأقبل قريش لبن أبي كهمس على فرس، فقال لقطن: قد نزل الأمير والناس؛ فام يفقد أحد من الجند غيرك، فمضى قطن والناس إلى العسكر؛ وكان بينهم ميل. ذكر وقعة كمرجة قال: ويقال إن أشرس نزل قريبًا من مدينة بخارى على قدر فرسخ؛ وذلك المنزل يقال له المسجد؛ ثم تحول منه إلى مرج يقال له بوادرة، فأتاهم سبابة - أو شبابة - مولى قيس بن عبد الله الباهلي، وهم نزول بكمرجة - وكانت كمرجة من أشرف مدن خراسان وأعظمها أيام أشرس في ولايته - فقال لهم: إن خاقان مار بكم غدًا، فأرى لكم أن تظهروا عدتكم، فيرى جدًا واحتشادًا، فينقطع طعمه منكم. فقال له رجل منهم: استوثقوا من هذا فإنه جاء ليفتّ في أعضادكم، قالوا: لا نفعل، هذا مولانا وقد عرفناه بالنصيحة، فلم يقبلوا منه وفعلوا ما أمرهم به المولى، وصبّحهم خاقان، فلما حاذى بهم ارتفع إلى طريق بخارى كأنه يريدها، فتحدر بجنوده من وراء تل بينهم وبينه، فنزلوا وتأهبوا وهم لا يشعرون بهم، فلما كان ذلك ما فاجأهم أن طلعوا على التلّ، فإذا جبل حديد: أهل فرغانة والطار بند وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى. قال فأسقط في أيدي القوم، فقال لهم كليب بن قنان الذهلي: هم يريدون مزاحفتكم فسربوا دوابكم المجففة في طريق النهر، كأنكم تريدون أن تسقوها، فإذا جردتموها فخذوا طريق الباب، وتسربوا الأول فالأول؛ فلما رآهم الترك يتسربون شدٌّوا عليهم في مضايق؛ وكانوا هم أعلم بالطريق من الترك، وسبقوهم إلى الباب فلحقوهم عنده، فقتلوا رجلًا كان يقال له المهلب، كان حاميتهم، وهو رجل من العرب، فقاتلوهم فغلبوهم عل الباب الخارج من الخندق فدخلوه، فاقتتلوا، وجاء رجلٌ من العرب بحزمة قصب قد أشعلها فرمى بها وجوههم قال: فتنحوا، وأخلوا عن قتلى وجرحى، فلما أمسوا انصرف الترك وأحرق العرب القنطرة، فأتاهم خسرو بن يزد جرد في ثلاثين رجلًا، فقال: يا معشر العرب، لم تقتلون أنفسكم وأنا الذي جئت بخاقان ليرد على مملكتي، وأنا آخذ لكم الأمان! فشتموه، فانصرف. قال: وجاءهم بازغرى في مائتين - وكان داهية - من وراء النهر، وكان خاقان لا يخالفه، ومعه رجلان من قرابة خاقان، ومعه أفراس من رابطة أشرس، فقال: آمنونا حتى ندنو منكم، وأشرفوا عليه ومعه أسراء من العرب، فقال بازغرى: يا معشر العرب، أحدروا إلي رجلًا منكم أكلمه برسالة خاقان، فأحدروا حبيبًا مولى مهرة من أهل درقين، فكلموه فلم يفهم فقال: أحدروا إلي رجلًا يعقل عني، فأحدروا يزيد بن سعيد الباهلي، وكان يشدو شدوًا من التركية، فقال: هذه خيل الرابطة ووجوه العرب معه أسراء. وقال: إن خاقان أرسلني إليكم؛ وهو يقول لكم: إني أجعل من كان عطاؤه منكم ستمائة ألفًا، ومَن كان عطاؤه ثلثمائة ستمائة؛ وهو مجمع بعد هذا على الإحسان إليكم، فقال له يزيد: هذا أمر لا يلتئم؛ كيف يكون العرب وهم ذئاب مع الترك وهم شاء! لا يكون بيننا وبينكم صلح. فغضب بازغرى، فقال التركيان اللذان معه: ألا نضرب عنقه؟ قال: لا، نزل إلينا بأمان. وفهم ما قالا له يزيد، فخاف فقال: بلى يا بازغرى إلّا أن تجعلونا نصفين، فيكون نصف في أثقالنا ويسير النصف معه؛ فإن ظفر خاقان فنحن معه؛ وإن كان غير ذلك كنا كسائر مدائن أهل السغد، فرضي بازغري والتركيان بما قال، فقال له: أعرض على القوم ما تراضينا به، وأقبل فأخذ بطرف الحبل فجذبوه حتى صار على سور المدينة، فنادى: يا أهل كمرجة، اجتمعوا، فقد جاءكم قوم يدعونكم إلى الكفر بعد الإيمان، فما ترون؟ قالوا: لا نجيب ولا نرضى، قال: يدعونكم إلى قتال المسلمين مع المشركين، قالوا: نموت جميعًا قبل ذلك. قال: فأعلموهم. قال: فأشرفوا عليهم، وقالوا: يا بازغري، أتبيع الأسرى في أيديكم فنفادي بهم؟ فأما ما دعوتنا إليه فلا نجيبكم إليه، قال لهم: أفلا تشترون أنفسكم منا؟ فما أنتم عندنا إلّا بمنزلة مَن في أيدينا منكم - وكان في أيديهم الحجاج بن حميد النضري - فقالوا له: يا حجاج، ألا تكلَّم؟ قال: علي رقباء، وأمر خاقان بقطع الشجر، فجعلوا يلقون الحطب الرطب، ويلقى أهل كمرجة الحطب اليابس، حتى سوّى الخندق، ليقطعوا إليهم، فأشعلوا فيه النيران، فهاجت ريح شديدة - صنعًا من الله عز وجل - قال: فاشتعلت النار في الحطب، فاحترق ما عملوا في ستة أيام في ساعة من نهار، ورميناهم فأوجعناهم وشغلناهم بالجراحات. قال: وأصابت بازغرى نشابة في سرّته، فاحتقن بوله، فمات من ليلته، فقطع أتراكه آذانهم، وأصبحوا بشرّ، منكّسين رءوسهم يبكونه، ودخل عليهم أمر عظيم. فلما امتدّ النهار جاءوا بالأسرى وهم مائة؛ فيهم أبو العوجاء العتكي وأصحابه، فقتلوهم، ورموا إليهم برأس الحجاج ابن حميد النضري. وكان مع المسلمين مائتان من أولاد المشركين كانوا رهائن في أيديهم، فقتلوهم واستماتوا، واشتدّ القتال، وقاموا على باب الخندق فسار على السور خمسة أعلام، فقال كليب: من لي بهؤلاء؟ فقال ظهير بن مقاتل الطفاوي: أنا لك بهم؛ فذهب يسعى. وقال لفتيان: امشوا خلفي، وهو جريح، قال: فقتل يومئذ من الأعلام اثنان، ونجا ثلاثة. قال: فقال ملك من الملوك لمحمد بن وساج: العجب أنه لم يبق ملك فيما وراء النهر إلّا قاتل بكمرجة غيري، وعزّ علي ألا أقاتل مع أكفائي ولم ير مكاني. فلم يزل أهل كمرجة بذلك؛ حتى أقبلت جنود العرب، فنزلت فرغانة. فعير خاقان أهل السغد وفرغانة والشاش والدهاقين، وقال لهم: زعمتم أن في هذه خمسين حمارًا، وأنّا نفتحها في خمسة أيام؛ فصارت الخمسة الأيام شهرين. وشتمهم وأمرهم بالرحلة، فقالوا: ما ندع جهدًا، ولكن أحضرنا غدًا فانظر؛ فلما كان من الغد جاء خاقان فوقف، فقام إليه ملك الطاربند؛ فاستأذنه في القتال والدّحول عليهم، قال: لا أرى أن تقاتل في هذا الموضع - وكان خاقان يعظّمه - فقال: اجعل لي جاريتين من جواري العرب، وأنا أخرج عليهم؛ فأذن له، فقاتل فقتل منهم ثمانية، وجاء حتى وقف على ثلمة وإلى جنب الثلمة بيت فيه خرق يفضي إلى الثلمة، وفي البيت رجل من بني تميم مريض، فرماه بكلوب فتعلق بدرعه، ثم نادى النساء والصبيان، فجذبوه فسقط لوجهه وركبته؛ ورماه رجل يحجر؛ فأصاب أصل أذنه فصرع، وطعنه رجل فقتله. وجاء شاب أمرد من الترك، فقتله وأخذ سلبه وسيفه، فغلبناهم على جسده - قال: ويقال: إنّ الذي انتدب لهذا فارس أهل الشاش - فكانوا قد اتخذوا صناعًا، وألصقوها بحائط الخندق، فنصبوا قبالة ما اتخذوا أبوابًا له؛ فأقعدوا الرماة وراءها؛ وفيهم غالب بن المهاجر الطائي عمّ أبي العباس الطوسي ورجلان، أحدهما شيباني والآخر ناجي، فجاء فاطلع في الخندق، فرماه الناجي فلم يخطىء قصبة أنفه، وعليه كاشخودة تبتية، فلم تضرّه الرمية، ورماه الشيباني وليس يرى منه غير عينيه؛ فرماه غالب ابن المهاجر، فدخلت النشابة في صدره، فنكس فلم يدخل خاقان شيء أشد منه. قال: فيقال: إنه إنما قتل الحجاج وأصحابه يومئذ لما دخله من الجزع، وأرسل إلى المسلمين أنه ليس من رأينا أن نرتحل عن مدينة ننزلها دون افتتاحها، أو ترحلهم عنها. فقال له كليب بن قنان: وليس من ديننا أن نعطي بأيدينا حتى نقتل، فاصنعوا ما بدا لكم؛ فرأى الترك أن مقامهم عليهم ضرر، فأعطوهم الأمان على أن يرحل هو وهم عنهم بأهاليهم وأموالهم إلى سمرقند أو الدبوسية، فقال لهم: اختاروا لأنفسكم في خروجكم من هذه المدينة. قال: ورأى أهل كمرجة ما هم فيه من الحصار والشدّة، فقالوا: نشاور أهل سمرقند، فبعثوا غالب بن المهاجر الطائي، فانحدر في موضع من الوادي، فمضى إلى قصر يسمى فرزاونة، والدّهقان الذي بها صديق له، فقال له: إنّي بعثت إلى سمرقند؛ فاحملني، فقال: ما أجد دابة إلا بعض دواب خاقان، فإن له في روضة خمسين دابة؛ فخرجا جميعًا إلى تلك الروضة، فأخذ برذونًا فركبه، وكان إلفه برذون آخر، فتبعه فأتى سمرقند من ليلته، فأخبرهم بأمرهم، فأشاروا عليه بالدبوسية، وقالوا: هي أقرب، فرجع إلى أصحابه، فأخذوا من الترك رهائن ألّا يعرضوا لهم، وسألوهم رجلًا من الترك يتقوّون به مع رجال منهم، فقال لهم الترك: اختاروا من شئتم، فاختاروا كورصول يكون معهم، فكان معهم حتى وصلوا إلى حيث أرادوا. ويقال: إن خاقان لما رأى أنه لا يصل إليهم شتم أصحابه، وأمرهم بالارتحال عنهم؛ وكلمه المختار بن غوزك وملوك السغد وقالوا: لا تفعل أيها الملك؛ ولكن أعطهم أمانًا يخرجون عنها، ويرون أنك إنما فعلت ذلك بهم من أجل غوزك أنه مع العرب في طاعتها، وأن ابنه المختار طلب إليك في ذلك مخافة على أبيه؛ فأجابهم إلى ذلك، فسرّح إليهم كورصول يكون معهم، يمنعهم ممن أرادهم. قال: فصار الرهن من الترك في أيديهم، وارتحل خاقان، وأظهر أنه يريد سمرقند - وكان الرهن الذي في أيديهم من ملوكهم - فلما ارتحل خاقان - قال كورصول للعرب: ارتحلوا، قالوا: نكره أن نرتحل والترك لم يمضوا، ولا نأمنهم أن يعرضوا لبعض النساء فتحمى العرب فنصير إلى مثل ما كنا فيه من الحرب. قال: فكفّ عنهم؛ حتى مضى خاقان والترك، فلما صلوا الظهر أمرهم كورصول بالرحلة، وقال: إنما الشدة والموت والخوف حتى تسيروا فرسخين، ثم تصيروا إلى قرى متصلة؛ فارتحلوا وفي يد الترك من الرهن من العرب نفر، منهم شعيب البكري أو النصري، وسباع بن النعمان وسعيد بن عطية، وفي أيدي العرب من الترك خمسة، قد أردفوا خلف كل رجل من الترك رجلًا من العرب معه خنجر، وليس على التركي غير قباء، فساروا بهم. ثم قال العجم لكورصول: إنّ الدبوسية فيها عشرة آلاف مقاتل؛ فلا نأمن أن يخرجوا علينا، فقال لهم العرب: إن قاتلوكم قاتلناهم معكم. فساروا، فلما صار بينهم وبين الدبوّسية قدر فرسخ أو أقلّ نظر أهلها إلى فرسان وبياذقة وجمع. فظنوا أن كمرجة قد فتحت. وأن خاقان قصد لهم. قال: وقرينا منهم وقد تأهبوا للحرب؛ فوجه كليب بن قنان رجلًا من بني ناجية يقال له الضحاك على برذون يركض، وعلى الدبوسية عقيل بن ورّاد السغذي، فأتاهم الضحاك وهم صفوف؛ فرسان ورجّالة، فأخبرهم الخبر، فأقبل أهل الدبوسية يركضون، فحمل من كان يضعف عن المشي ومن كان مجروحًا. ثم إن كليبًا أرسل إلى محمد بن كرّاز ومحمد بن درهم ليعلما سباع ابن النعمان وسعيد بن عطية أنهم قد بلغوا مأمنهم، ثم خلّوا عن الرهن؛ فجعلت العرب ترسل رجلًا من الرهن الذين في أيديهم من الترك، وترسل الترك رجلًا من الرهن الذين في أيديهم من العرب؛ حتى بقي سباع بن النعمان في أيدي الترك، ورجل من الترك في أيدي العرب، وجعل كلّ فريق منهم يخاف على صاحبه الغدر، فقال سباع: خلوا رهينة الترك، فخلّوه وبقي سباع في أيديهم، فقال له كورصول: لمَ فعلت هذا؟ قال: وثقت برأيك في، وقلت: ترفع نفسك عن الغدر في مثل هذا؛ فوصله وسلّحه وحمله على برذون، وردوه إلى أصحابه. قال: وكان حصار كمرجة ثمانية وخمسين يومًا، فيقال إنهم لم يسقوا إبلهم خمسة وثلاثين يومًا. قال: وكان خاقان قسم في أصحابه الغنم، فقال: كلوا لحومها واملئوا جلودها ترابًا، واكبسوا خندقكم؛ ففعلوا فكبسوه، فبعث الله عليهم سحابة فمطرت، فاحتمل المطر ما ألقوا، فألقاه في النهر الأعظم. وكان مع أهل كمرجة قوم من الخوارج، فيهم ابن شنجٍ مولى بني ناجية. ذكر ردة أهل كردر وفي هذه السنة ارتدّ أهل كردر، فقاتلهم المسلمون وظفروا بهم؛ وقد كان الترك أعانوا أهل كردر؛ فوجّه أشرس إلى من قرب من كردر من المسلمين ألف رجل ردءًا لهم؛ فصاروا إليهم، وقد هزم المسلمون الترك، فظفروا بأهل كردر. وقال عرفجة الدارمي: نحن كفينا أهل مرو وغيرهم ** ونحن نفينا الترك عن أهل كردر فإن تجعلوا ما قد غنمنا لغيرنا ** فقد يظلم المرء الكريم فيصبر وفي هذه السنة جعل خالد بن عبد الله الصلاة بالبصرة مع الشرطة؛ والأحداث والقضاء إلى بلال بن أبي بردة؛ فجمع ذلك كله له، وعزل به ثمامة بن عبد الله بن أنس عن القضاء. وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام بن إسماعيل؛ كذلك قال أبو معشر والواقدي وغيرهما؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف إبراهيم بن هشام، وعلى الكوفة والبصرة والعراق كلها خالد بن عبد الله، وعلى خراسان أشرس بن عبد الله. ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فممّا كان فيها من ذلك غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزوة سعيد بن هشام الصائفة اليمنى حتى أتى قيساريّة. قال الواقدي: غزا سنة إحدى عشرة ومائة على جيش البحر عبد الله بن أبي مريم، وأمّر هشام على عامّة الناس من أهل الشام ومصر الحكم بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وفيها سارت الترك إلى أذربيجان، فلقيهم الحارث بن عمرو فهزمهم. وفيها ولّى هشام الجرّاح بن عبد الله الحكمي على أرمينية. وفيها عزل هشام أشرس بن عبد الله السلمي عن خراسان، وولاها الجنيد بن عبد الرحمن المرّي. ذكر السبب الذي من أجله عزل هشام أشرس عن خراسان واستعماله الجنيد ذكر علي بن محمد، عن أبي الذيال، قال: كان سبب عزل أشرس أنّ شدّاد بن خالد الباهلي شخص إلى هشام فشكاه، فعزله واستعمل الجنيد بن عبد الرحمن على خراسان سنة إحدى عشرة ومائة. قال: وكان سبب استعماله إيّاه أنه أهدى لأمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جوهر، فأعجبت هشامًا، فأهدى لهشام قلادة أخرى، فاستعمله على خراسان، وحمله على ثمانية من البريد؛ فسأله أكثر من تلك الدوابّ فلم يفعل؛ فقدم خراسان في خمسمائة - وأشرس بن عبد الله يقاتل أهل بخارى والسغد - فسأل عن رجل يسير معه إلى ما وراء النهر، فدل على الخطاب بن محرز السلمي خليفة أشرس، فلما قدم آمل أشار عليه الخطاب أن يقيم ويكتب إلى من يزم ومن حوله؛ فيقدموا عليه، فأبى وقطع النهر، وأرسل إلى أشرس أن أمدني بخيل، وخاف أن يقتطع قبل أن يصل إليه، فوجّه إليه أشرس عامر بن مالك الحمّاني، فلما كان في بعض الطريق عرض له الترك والسغد ليقطعوه قبل أن يصل إلى الجنيد، فدخل عامر حائطًا حصينًا، فقاتلهم على ثلمة الحائط، ومعه ورد بن زياد بن أدهم بن كلثوم؛ ابن أخي الأسود بن كلثوم؛ فرماه رجل من العدوّ بنشابة، فأصاب عرض منخره، فأنفذ المنخرين، فقال له عامر بن مالك: يا أبا الزاهرية؛ كأنك دجاجة مقرّق. وقتل عظيم من عظماء الترك عند الثلمة، وخاقان على تلّ خلفه أجمةٌ، فخرج عاصم بن عمير السمرقندي وواصل بن عمرو القيسي في شاكريّة، فاستدارا حتى صارا من وراء ذلك الماء، فضمّوا خشبًا وقصبًا وما قدروا عليه، حتى اتخذوا رصفًا، فعبروا عليه فلم يشعر خاقان إلا بالتكبير، وحمل واصل والشاكرية على العدو فقاتلوهم؛ فقتل تحت واصل برذون، وهزم خاقان وأصحابه. وخرج عامر بن مالك من الحائط، ومضى إلى الجنيد وهو في سبعة آلاف؛ فتلقى الجنيد وأقبل معه، وعلي مقدّمة الجنيد عمارة بن حريم. فلما انتهى إلى فرسخين من بيكند، تلقته خيل الترك فقاتلهم؛ فكاد الجنيد أن يهلك ومن معه، ثم أظهره الله؛ فسار حتى قدم العسكر. وظفر الجنيد، وقتل الترك، وزحف إليه خاقان فالتقوا دون زرمان من بلاد سمرقند؛ وقطن ابن قتيبة على ساقة الجنيد، وواصل في أهل بخارى - وكان ينزلها - فأسر ملك الشاش، وأسر الجنيد من الترك ابن أخي خاقان في هذه الغزاة؛ فبعث به إلى الخليفة، وكان الجنيد استخلف في غزاته هذه مجشّر بن مزاحم على مرو، وولّى سورة بن الحر من بني أبان بن دارم بلخ، وأوفد لما أصاب في وجهه ذلك عمارة بن معاوية العدوي ومحمد بن الجرّاح العبدي وعبد ربه بن أبي صالح السلمي إلى هشام بن عبد الملك ثم انصرفوا؛ فتواقفوا بالترمذ، فأقاموا بها شهرين. ثم أتى الجنيد مرو وقد ظفر، فقال خاقان: هذا غلام مترف، هزمني العام وأنا مهلكه في قابل؛ فاستعمل الجنيد عمّاله، ولم يستعمل إلا مضريًا؛ استعمل قطن بن قتيبة على بُخارى، والوليد بن القعقاع العبسي على هراة، وحبيب بن مرّة العبسي على شرطه، وعلى بلخ مسلم بن عبد الرحمن الباهلي. وكان نصر بن سيار على بلخ؛ والذي بينه وبين الباهليين متباعد لما كان بينهم بالبروقان، فأرسل مسلم إلى نصر فصادفوه نائمًا، فجاءوا به في قميص ليس عليه سراويل، ملبيًا، فجعل يضمّ عليه قميصيه، فاستحيا مسلم، وقال: شيخ من مضر جئتم به على هذه الحال! ثم عزل الجنيد مسلمًا عن بلخ، وولاها يحيى بن ضبيعة، واستعمل على خراج سمرقند شداد بن خالد الباهلي، وكان مع الجنيد السمهري بن قعنب. وحجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي؛ وكان إليه من العمل في هذه السنة التي قبلها؛ وقد ذكرت ذلك قبل. وكان العامل على العراق خالد بن عبد الله، وعلى خراسان الجنيد بن عبد الرحمن. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك غزوة معاوية بن هشام الصائفة فافتتح خرشنة، وحرق فرنديّة من ناحية ملطية. ذكر خبر قتل الجراح الحكمي وفيها سار الترك من الّلّان فلقيهم الجرّاح بن عبد الله الحكمي فيمن معه من أهل الشام وأذربيجان، فلم يتتامّ إليه جيشه؛ فاستشهد الجرّاح ومن كان معه بمرج أردبيل؛ وافتتحت الترك أردبيل؛ وقد كان استخلف أخاه الحجاج بن عبد الله على أرمينية. ذكر محمد بن عمر أنّ الترك قتلت الجراح بن عبد الله ببلنجر، وأن هشامًا لما بلغه خبره دعا سعيد بن عمرو الحرشي، فقال له: إنه بلغني أن الجرّاح قد انحاز عن المشركين، قال: كلّا يا أمير المؤمنين، الجرّاح أعرف بالله من أن ينحاز عن العدوّ، ولكنه قتل، قال: فما الرأي؟ قال: تبعثني على أربعين دابة من دوابّ البريد؛ ثم تبعث إلي كلّ يوم أربعين دابّة عليها أربعون رجلًا، ثم اكتب إلى أمراء الأجناد يوافونني. ففعل ذلك هشام. فذُكر أن سعيد بن عمرو أصاب للترك ثلاثة جموع وفودًا إلى خاقان بمن أسروا من المسلمين وأهل الذمّة، فاستنقذ الحرشي ما أصابوا وأكثروا القتل فيهم. وذكر علي بن محمد أنّ الجنيد بن عبد الرحمن قال في بعض ليالي حربه الترك بالشعب: ليلة كليلة الجراح ويوم كيومه؛ فقيل له: أصلحك الله! إن الجرّاح سير إليه فقتل أهل الحجى والحفاظ، فجنّ عليه الليل، فانسل الناس من تحت الليل إلى مدائن لهم بأذربيجان، وأصبح الجرّاح في قلة فقتل. وفي هذه السنة وجه هشام أخاه مسلمة بن عبد الملك في أثر الترك فسار في شتاء شديد البرد والمطر والثلوج فطلبهم - فيما ذكر - حتى جاز الباب في آثارهم، وخلّف الحارث بن عمرو الطائي بالباب. ذكر وقعة الجنيد مع الترك وفي هذه السنة كانت وقعة الجنيد مع الترك ورئيسهم خاقان بالشعب. وفيها قتل سورة بن الحر؛ وقد قيل إن هذه الوقعة كانت في سنة ثلاث عشرة ومائة. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كانت ذكر علي بن محمد عن أشياخه أن الجنيد بن عبد الرحمن خرج غازيًا في سنة اثنتي عشرة ومائة يريد طخارستان، فنزل على نهر بلخ، ووجّه عمارة ابن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفًا وإبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر، وجاشت الترك فأتوا سمرقند، وعليها سورة بن الحر؛ أحد بني أبان بن دارم، فكتب سورة إلى الجنيد: إن خاقان جاش بالترك، فخرجت إليهم فما قدرتُ أن أمنع حائط سمرقند؛ فالغوث! فأمر الجنيد الناس بالعبور، فقام إليه المجشر بن مزاحم السلمي وابن بسطام الأزدي وابن صبح الخرقي، فقالوا: إن الترك ليسوا كغيرهم، لا يلقونك صفًا ولا زحفًا، وقد فرقت جندك، فمسلم بن عبد الرحمن بالنيروذ والبختري بهراة، ولم يحضرك أهل الطالقان، وعمارة بن حريم غائب. وقال له المجشّر: إن صاحب خراسان لا يعبر النهر في أقلّ من خمسين ألفًا؛ فاكتب إلى عمارة فليأتك، وأمهل ولا تعجل، قال: فكيف بسورة ومن معه من المسلمين! لو لم أكن إلّا في بني مرة، أو من طلع معي من أهل الشام لعبرت. وقال: أليس أحقّ الناس أن يشهد الوغى ** وأن يقتل الأبطال ضخم على ضخم. وقال: ما علّتي ما علّتي ما علّتي! ** إنْ لم أقاتلهم فجزوا لمتي قال: وعبر فنزل كسّ؛ وقد بعث الأشهب بن عبيد الحنظلي ليعلم علم القوم، فرجع إليه وقال: قد أتوك فتأهب للمسير. وبلغ الترك فعوروا الآبار التي في طريق كسّ وما فيه من الركايا فقال الجنيد: أي الطريقين إلى سمرقند أمثل؟ قالوا: طريق المحترقة. قال المجشر بن مزاحم السلمي: القتل بالسيف أمثل من القتل بالنار؛ إن طريق المحترقة فيه الشجر والحشيش ولم يزرع منذ سنين، فقد تراكم بعضه على بعض، فإن لقيت خاقان أحرق ذلك كله، فقتلنا بالنار والدخان؛ ولكن خذ طريق العقبة، فهو بيننا وبينهم سواء. فأخذ الجنيد طريق العقبة، فارتقى في الجبل، فأخذ المجشر بعنان دابته، وقال: إنه كان يقال: إنّ رجلًا من قيس مترفًا يهلك على يديه جند من جنود خراسان؛ وقد خفنا أن تكونه. قال: أفرخ روعك، فقال المجشر: أمّا إذا كان بيننا مثلك فلا يفرخ. فبات في أصل العقبة، ثم ارتحل حين أصبح؛ فصار الجنيد بين مرتحل ومقيم؛ فتلقى فارسًا، فقال: ما اسمك؟ فقال: حرب؛ قال: ابن من؟ قال: ابن محربة، قال: من بني من؟ قال: من بني حنظلة، قال: سلط الله عليك الحرب والحرَب والكلَب. ومضى بالناس حتى دخل الشعب وبينه وبين مدينة سمرقند أربعة فراسخ، فصبّحه خاقان في جمع عظيم، وزحف إليه أهل السغد والشاش وفرغانة وطائفة من الترك. قال: فحمل خاقان على المقدّمة وعليها عثمان ابن عبد الله بن الشخير، فرجعوا إلى العسكر والترك تتبعهم؛ وجاءوهم من كلّ وجه؛ وقد كان الإخريد قال للجنيد: ردّ الناس إلى العسكر؛ فقد جاءك جمع كثير؛ فطلع أوائل العدوّ والناس يتغدون، فرآهم عبيد الله بن زهير بن حيان، فكره أن يعلم الناس حتى يفرغوا من غدائهم؛ والتفت أبو الذيّال، فرآهم، فقال: العدوّ! فركب الناس إلى الجنيد، فصبّر تميمًا والأزد في الميمنة وربيعة في الميسرة ممايلي الجبل؛ وعلى مجففة خيل بني تميم عبيد الله بن زهير بن حبان، وعلى المجرّدة عمر - أو عمرو - بن جرفاس بن عبد الرحمن بن شقران المنقري، وعلى جماعة بني تميم عامر بن مالك الحماني، وعلى الأزد عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو المعني؛ وعلى خيلهم: المجففة والمجردة فضيل بن هناد وعبد الله بن حوذان؛ أحدهما على المجفّفة، والآخر على المجرّدة - ويقال: بل كان بشر بن حوذان أخو عبد الله بن حوذان الجهضمي - فالتقوا وربيعة ممّايلي الجبل في مكان ضيق؛ فلم يقدم عليهم أحد؛ وقصد العدوّ للميمنة وفيها تتميم والأزد في موضع واسع فيه مجال للخيل. فترجّل حيان بن عبيد الله بن زهير بين يدي أبيه، ودفع برذونه إلى أخيه عبد الملك، فقال له أبوه: يا حيان، انطلق إلى أخيك فإنه حدث وأخاف عليه. فأبى، فقال: يا بني، إنك إن قتلت على حالك هذه قتلت عاصيًا. فرجع إلى الموضع الذي خلّف فيه أخاه والبرذون؛ فإذا أخوه قد لحق بالعسكر، وقد شدّ البرذون، فقطع حيان مقوده وركبه؛ فأتى العدوّ؛ فإذا العدوّ قد أحاط بالموضع الذي خلف فيه أباه وأصحابه، فأمدّهم الجنيد بنصر بن سيار في سبعة معه؛ فيهم جميل بن غزوان العدوي، فدخل عبيد الله بن زهير معهم، وشدّوا على العدوّ فكشفوهم ثم كرّوا عليهم؛ فقتلوا جميعًا، فلم يفلت منهم أحد ممن كان في ذلك الموضع، وقتل عبيد الله بن زهير وابن حوذان وابن جرفاس والفضيل بن هناد. وجالت الميمنة والجنيد واقف في القلب، فأقبل إلى الميمنة، فوقف تحت راية الأزد - وقد كان جفاهم - فقال له صاحب راية الأزد: ما جئتنا لتحبونا ولا لتكرمنا؛ ولكنك قد علمت أنه لا يوصل إليك ومنّا رجل حي؛ فإن ظفرنا كان لك؛ وإن هلكنا لم تبك علينا. ولعمري لئن ظفرنا وبقيت لا أكلمك كلمة أبدًا. وتقدّم فقتل. وأخذ الراية ابن مجاعة فقتل، فتداول الراية ثمانية عشر رجلًا منهم فقتلوا، فقتل يومئذ ثمانون رجلًا من الأزد. قال: وصبر الناس يقاتلون حتى أعيوا؛ فكانت السيوف لا تحيك ولا تقطع شيئًا، فقطع عبيدهم الخشب يقاتلون به، حتى مل الفريقان فكانت المعانقة، فتحاجزوا، فقتل من الأزد حمزة بن مجاعة العتكي ومحمد بن عبد الله بن حوذان الجهضمي، وعبد الله بن بسطام المعني وأخوه زنيم والحسن بن شيخ والفضيل الحارثي - وهو صاحب الخيل - ويزيد بن المفضّل الحداني؛ وكان حجّ فأنفق في حجه ثمانين ومائة ألف؛ فقال لأمه وحشيّة: ادعى الله أن يرزقني الشهادة، فدعت له، وغشي عليه؛ فاستشهد بعد مقدمه من الحج بثلاثة عشر يومًا، وقاتل معه عبدان له؛ وقد كان أمرهما بالانصراف فقتلا؛ فاستشهدا. قال: وكان يزيد بن المفضل حمل يوم الشعب على مائة بعير سويقًا للمسلمين؛ فجعل يسأل عن الناس، ولا يسأل عن أحد إلا قيل له: قد قتل؛ فاستقدم وهو يقول: لا إله إلا الله؛ فقاتل حتى قتل. وقاتل يومئذ محمد بن عبد الله بن حوذان وهو على فرس أشقر، عليه تجفاف مذهب، فحمل سبع مرات يقتل في كلّ حملة رجلًا، ثم رجع إلى موقفه، فهابه من كان في ناحيته، فناداه ترجمان للعدوّ: يقول لك الملك: لا تقبل وتحوّل إلينا؛ فنرفض صنمنا الذي نعبده ونعبدك؛ فقال محمد: أنا أقاتلكم لتتركوا عبادة الأصنام وتعبدوا الله وحده. فقاتل واستشهد. وقتل جشم بن قرط الهلالي من بني الحارث، وقتل النضر بن راشد العبدي؛ وكان دخل على امرأته والناس يقتتلون، فقال لها: كيف أنت إذا أتيت بأبي ضمرة في لبد مضرّجًا بالدماء؟ فشقّت جيبها ودعت بالويل؛ فقال: حسبك، لو أعولت علي كلّ أنثى لعصيتها شوقًا إلى الحور العين؛ ورجع فقاتل حتى استشهد رحمه الله. قال: فبينا الناس كذلك إذ أقبل رهج، فطلعت فرسان؛ فنادى منادي الجنيد: الأرض، الأرض! فترجّل وترجّل الناس، ثم نادى منادي الجنيد: ليخندق كلّ قائد على حياله؛ فخندق الناس. قال: ونظر الجنيد إلى عبد الرحمن بن مكية يحمل على العدوّ، فقال: ما هذا الخرطوم السائل؟ قيل له: هذا ابن مكية، قال: ألسان البقرة! لله درّه أي رجل هو! وتحاجزوا، وأصيب من الأزد مائة وتسعون. وكانوا لقوا خاقان يوم الجمعة، فأرسل الجنيد إلى عبد الله بن معمر بن سمير اليشكري أن يقف في الناحية التي تلي كس ويحبس من مرّ به، ويحوز الأثقال والرّجالة؛ وجاءت الموالي رجّالة، ليس فيهم غير فارس واحد والعدوّ يتبعونهم؛ فثبت عبد الله بن معمر للعدوّ، فاستشهد في رجال من بكر، وأصبحوا يوم السبت، فأقبل خاقان نصف النهار؛ فلم ير موضعًا للقتال فيه أيسر من موضع بكر بن وائل، وعليهم زياد بن الحارث، فقصد لهم، فقالت بكر لزياد: القوم قد كثرونا، فخلّ عنا نحمل عليهم قبل أن يحملوا علينا، فقال لهم: قد مارست سبعين سنة، إنكم إن حملتم عليهم فصعدتم انهزمتم؛ ولكن دعوهم حتى يقبوا. ففعلوا، فلما قربوا منهم حملوا عليهم فأفرجوا لهم، فسجد الجنيد، وقال خاقان يومئذ: إنّ العرب إذا أحرجوا استقتلوا؛ فخلوهم حتى يخرجوا؛ ولا تعرضوا لهم؛ فإنكم لا تقومون لهم. وخرج جوار للجنيد يولولن؛ فانتدب رجال من أهل الشام، فقالوا: الله الله يأهل خراسان! إلى أين؟ وقال الجنيد: ليلة كليلة الجراح، ويوم كيومه. ذكر الخبر عن مقتل سورة بن الحر وفي هذه السنة قتل سورة بن الحر التميمي. ذكر الخبر عن مقتله ذكر علي عن شيوخه، أن عبيد الله بن حبيب قال للجنيد: اختر بين أن تهلك أنت أو سورة، فقال: هلاك سورة أهون علي، قال: فاكتب إليه فليأتك في أهل سمرقند؛ فإن الترك إن بلغهم أن سورة قد توجه إليك انصفروا إليه فقاتلوه. فكتب إلى سورة يأمره بالقدوم - وقيل: كتب أغثني - فقال عبادة بن السليل المحاربي أبو الحكم بن عبادة لسورة: انظر أبرد بيت بسمرقند فنم فيه، فإنك إن خرجت لا تبالي أسخط عليك الأمير أم رضي. وقال له حليس بن غالب الشيباني: إن الترك بينك وبين الجنيد؛ فإن خرجت كروا عليك فاختطفوك. فكتب إلى الجنيد: إني لا أقدر على الخروج؛ فكتب إليه الجنيد: يا بن اللخناء، تخرج وإلا وجهت إليك شدّاد بن خالد الباهلي - وكان له عدوًا - فاقدم وضع فلانًا بفرخشاذ في خمسمائة ناشب، والزم الماء فلا تفارقه. فأجمع على المسير، فقال الوجف بن خالد العبدي: إنك لمهلك نفسك والعرب بمسيرك؛ ومهلك من معك، قال: لا يخرج حملي من التنور حتى أسير؛ فقال له عبادة وحليس: أما إذ أبيت إلا المسير فخذ على النهر، فقال: أنا لا أصل إليه على النهر في يومين، وبيني وبينه من هذا الوجه ليلة فأصبّحه؛ فإذا سكنت الزجل سرت فأعبره. فجاءت عيون الأتراك فأخبروهم، وأمر سورة بالرحيل؛ واستخلف على سمرقند موسى بن أسود؛ أحد بني ربيعة بن حنظلة، وخرج في اثني عشر ألفًا، فأصبح على رأس جبل؛ وإنما دلّه على ذلك الطريق علج يسمى كارتقبد؛ فتلقّاه خاقان حين أصبح وقد سار ثلاثة فراسخ، وبينه وبين الجنيد فرسخ: فقال أبو الذيّال: قاتلهم في أرض خوارة، فصبر وصبروا حتى اشتدّ الحرّ. وقال بعضهم: قال له غوزك: يومك يوم حار فلا تقاتلهم حتى تحمى عليهم الشمس وعليهم السلاح تثقلهم. فلم يقاتلهم خاقان؛ وأخذ برأي غوزك، وأشعل النار في الحشيش، وواقفهم وحال بينهم وبين الماء، فقال سورة لعبادة: ما ترى يا أبا السليل؟ قال: أرى والله أنه ليس من الترك أحد إلا وهو يريد الغنيمة؛ فاعقر هذه الدوابّ وأحرق هذا المتاع، وجرّد السيف؛ فإنهم يخلّون لنا الطريق. قال أبو الذيّال: فقال سورة لعبادة: ما الرأي؟ قال: تركت الرأي، قال: فما ترى الآن؟ قال: أن ننزل فنشرع الرماح، ونزحف زحفًا، فإنما هو فرسخ حتى نصل إلى العسكر، قال: لا أقوى على هذا؛ ولا يقوى فلان وفلان.. وعدّد رجالًا؛ ولكن أرى أن أجمع الخيل ومن أرى أنه يقاتل فأصكّهم؛ سلمت أم عطيت؛ فجمع الناس وحملوا فانكشفت الترك، وثار الغبار فلم يبصروا، ومن وراء الترك اللهب؛ فسقطوا فيه، وسقط فيه العدوّ والمسلمون، وسقط سورة فاندقت فخذه، وتفرّق الناس، وانكشفت الغمة والناس متفرقون، فقطعتهم الترك، فقتلوهم فلم ينج منهم غير ألفين - ويقال: ألف - وكان ممن نجا عاصم بن عمير السمرقندي، عرفه رجل من الترك فأجاره؛ واستشهد حليس بن غالب الشيباني، فقال رجل من العرب: الحمد لله؛ استشهد حليس، ولقد رأيته يرمي البيت أيام الحجاج ويقول: درّي عقاب، بلبن وأخشاب؛ وامرأة قائمة، فكلما رمى بحجر قالت المرأة: يا رب بي ولا ببيتك! ثم رزق الشهادة. وانحاز المهلب بن زياد العجلي في سبعمائة ومعه قريش بن عبد الله العبدي إلى رستاق يسمى المرغاب؛ فقاتلوا أهل قصر من قصورهم؛ فأصيب المهلّب بن زياد، وولّوْا أمرهم الوجف بن خالد، ثم أتاهم الأشكند صاحب نسف في خيل ومعه غوزك، فقال غوزك: يا وجف، لكم الأمان، فقال قريش: لا تثقوا بهم؛ ولكن إذا جنّنا الليل خرجنا عليهم حتى نأتي سمرقند؛ فإنا إن أصبحنا معهم قتلونا. قال: فعصوه وأقاموا، فساقوهم إلى خاقان؛ فقال: لا أجيز أمان غوزك، فقال غوزك للوجف: أنا عبد لخاقان من شاكريته، قالوا: فلم غرزتنا؟ فقاتلهم الوجف وأصحابه، فقتلوا غير سبعة عشر رجلًا دخلوا الحائط. وأمسوا، فقطع المشركون شجرة فألقوها على ثلمة الحائط؛ فجاء قريش بن عبد الله العبدي إلى الشجرة فرمى بها؛ وخرج في ثلاثة فباتوا في ناووس فكمنوا فيه وجبن الآخرون فلم يخرجوا، فقتلوا حين أصبحوا. وقتل سورة، فلما قتل خرج الجنيد من الشعب يريد سمرقند مبادرًا، فقال له خالد بن عبيد الله بن حبيب: سر سر، ومجشر بن مزاحم السلمي يقول: أذكرك الله أقم؛ والجنيد يتقدّم، فلما رأى المجشر ذلك نزل فأخذ بلجام الجنيد، فقال: والله لا تسير ولتنزلن طائعًا أو كارهًا، ولا ندعك تهلكنا بقول هذا الهجري، انزل، فنزل ونزل الناس فلم يتتامّ نزولهم حتى طلع الترك، فقال المجشّر: لو لقونا ونحن نسير، ألم يستأصلونا! فلما أصبحوا تناهضوا، فانكشفت طائفة، وجال الناس، فقال الجنيد: أيّها الناس؛ إنها النار؛ فتراجعوا. وأمر الجنيد رجلًا فنادى: أي عبد قاتل فهو حر؛ فقاتل العبيد قتالًا شديدًا عجب الناس منه؛ جعل أحدهم يأخذ اللبد فيجوبه ويجعله عفي عنقه، يتوقى به. فسر الناس بما رأوا من صبرهم، فكرّ العدوّ، وصبر الناس حتى انهزم العدوّ. فمضوا، فقال موسى بن النعر للناس: أتفرحون بما رأيتم من العبيد! والله إنّ لكم منهم ليومًا أرونان. ومضى الجنيد فأخذ العدوّ رجلًا من عبد لاقيس فكتفوه، وعلقوا في عنقه رأس بلعاء العنبري بن مجاهد بن بلعاء؛ فلقيه الناس فأخذ بنو تميم الرأس فدفنوه، ومضى الجنيد إلى سمرقند؛ فحمل عيال من كان مع سورة إلى مرو، وأقام بالسغد أربعة أشهر؛ وكان صاحب رأي خراسان في الحرب المجشر بن مزاحم السلمي وعبد الرحمن بن صبح الخرقي وعبيد الله بن حبيب الهجري، وكان المجشر ينزل الناس على راياتهم، ويضع المسالح ليس لأحد مثل رأيه في ذلك، وكان عبد الرحمن ابن صبح إذا نزل الأمر العظيم في الحرب لم يكن لأحد مثل رأيه؛ وكان عبيد الله بن حبيب على تعبئة القتال، وكان رجال من الموالي مثل هؤلاء في الرأي والمشورة والعلم بالحرب؛ فمنهم الفضل بن بسام مولى بني ليث وعبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم والبختري بن مجاهد مولى بني شيبان. قال: فلما انصرف الترك إلى بلادهم بعث الجنيد سيف بن وصّاف العجلي من سمرقند إلى هشام، فجبن عن السير وخاف الطريق، فاستعفاه فأعفاه؛ وبعث نهار بن توسعة أحد بني تيم اللات وزميل بن سويد المري؛ مرة غطفان، وكتب إلى هشام: إن سورة عصاني، أمرته بلزوم الماء فلم يفعل، فتفرّق عنه أصحابه، فأتتني طائفة إلى كسّ، وطائفة إلى نسف، وطائفة إلى سمرقند، وأصيب سورة في بقية أصحابه. قال: فدعا هشام نهار بن توسعة، فسأله عن الخبر فأخبره بما شهد، فقال نهار بن توسعة: لعمرك ما حاببتني إذ بعثتني ** ولكنما عرضتني للمتالف دعوت لها قومًا فهابوا ركوبها ** وكنت امرأ ركابة للمخاوف فأيقنت إن لم يدفع الله أنني ** طعام سباع أو لطير عوائف قرين عراك وهو أيسر هالك ** عليك وقد زملته بصحائف فإني وإن آثرت منه قرابة ** لأعظم حظًا في حباء الخلائف على عهد عثمان وفدنا وقبله ** وكنا أولي مجد تليد وطارف قال: وكان عراك معهم في الوفد، وهو ابن عمّ الجنيد، فكتب إلى الجنيد: قد وجهت إليك عشرين ألفًا مددًا؛ عشرة آلاف من أهل البصرة عليهم عمرو بن مسلم، ومن أهل الكوفة عشرة آلاف عليهم عبد الرحمن بن نعيم، ومن السلاح ثلاثين ألف رمح ومثلها ترسة، فافرض فلا غاية لك في الفريضة لخمسة عشر ألفًا. قال: ويقال إن الجنيد أوفد الوفد إلى خالد بن عبد الله، فأوفد خالد إلى هشام: إنّ سورة بن الحرّ خرج يتصيد مع أصحاب له فهجم عليهم الترك، فأصيبوا. فقال هشام حين أتاه مصاب سورة: إنا لله وإنا إليه راجعون! مصاب سورة بن الحرّ بخراسان والجرّاح بالباب! وأبلى نصر بن سيّار يومئذ بلاء حسنًا، فانقطع سيفه، وانقطع سيور ركابه؛ فأخذ سيور ركابه؛ فضرب بها رجلًا حتى أثخنه، وسقط في اللهب مع سورة يومئذ عبد الكريم بن عبد الرحمن الحنفي وأحد عشر رجلًا معه. وكان ممن سلم من أصحاب سورة ألف رجل، فقال عبد الله بن حاتم بن النعمان: رأيت فساطيط مبنية بين السماء والأرض؛ فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لعبد الله بن بسطام وأصحابه، فقتلوا من غدٍ؛ فقال رجل: مررت في ذلك الموضع بعد ذلك بحين فوجدت رائحة المسك ساطعة. قال: ولم يشكر الجنيد لنصر ما كان من بلائه، فقال نصر: إن تحسدوني على حسن البلاء لكم ** يومًا، فمثل بلائي جر لي الحسدا يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ** كعبي عليكم وأعطى فوقكم عضدا وضربي الترك عنكم يوم فرقكم ** بالسيف في الشعب حتى جاوز السندا قال: وكان الجنيد يوم الشعب أخذ في الشعب، وهو لا يرى أن أحدًا يأتيه من الجبال، وبعث ابن الشخير في مقدمته، واتخذ ساقةً؛ ولم يتخذ مجنبتين. وأقبل خاقان فهزم المقدّمة، وقتل من قتل منهم، وجاءه خاقان من قبل ميسرته وجبغويه من قبل الميمنة، فأصيب رجال من الأزد وتميم، وأصابوا له سرادقات وأبنية، فأمر الجنيد حين أمسى رجلًا من أهل بيته، فقال له: امش في الصفوف والدرّاجة، وتسمّع ما يقول الناس؛ وكيف حالهم؛ ففعل ثم رجع إليه، فقال: رأيتهم طيبة أنفسهم، يتناشدون الأشعار، ويقرءون القرآن؛ فسرّه ذلك، وحمد الله. قال: ويقال نهضت العبيد يوم الشعب من جانب العسكر وقد أقبلت الترك والسغد ينحدرون؛ فاستقبلهم العبيد وشدّوا عليهم بالعمد، فقتلوا منهم تسعة، فأعطاهم الجنيد أسلابهم. وقال ابن السجف في يوم الشعب، ويعني هشامًا: اذكر يتامى بأرض الترك ضائعة ** هزلى كأنهم في الحائط الحجل وارحم، وإلا فهبها أمة دمرت ** لا أنفس بقيت فيها ولا ثقل ولا تأملن بقاء الدهر بعدهم ** والمرء ما عاش ممدود له الأمل لاقوا كتائب من خاقان معلمة ** عنهم يضيق فضاء السهل والجبل لما رأوهم قليلًا لا صريخ لهم ** مدوا بأيديهم لله وابتهلوا وبايعوا رب موسى بيعة صدقت ** ما في قلوبهم شك ولا دغل قال: فأقام الجنيد بسمرقند ذلك العام، وانصرف خاقان إلى بخارى وعليها قطن بن قتيبة، فخاف الناس الترك على قطن، فشاورهم الجنيد، فقال قوم: الزم سمرقند، واكتب إلى أمير المؤمنين يمدّك بالجنود. وقال قوم: تسير فتأتي ربنجن، ثم تسير منها إلى كس، ثم تسير منها إلى نسف، فتصل منها إلى أرض زم؛ وتقطع النهر وتنزل آمُل، فتأخذ عليها بالطريق. فبعث إلى عبد الله بن أبي عبد الله، فقال: قد اختلف الناس علي - وأخبره بما قالوا - فما الرأي؟ فاشترط عليه ألّا يخالفه فيما يشير به عليه من ارتحال أو نزول أو قتال، قال: نعم؛ قال: فإني أطلب إليك خصالًا، قال: وما هي؟ قال: تخندق حيثما نزلت؛ ولا يفوتنك حمل الماء ولو كنت على شاطىء نهر، وأن تطيعني في نزولك وارتحالك. فأعطاه ما أراد. قال: أما ما أشار به عليه في مقامك بسمرقند حتى يأتيك الغياث، فالغياث يبطىء عنك، وإن سرت فأخذت بالناس غير الطريق فتتّ في أعضادهم؛ فانكسروا عن عدوّهم، فاجترأ عليك خاقان؛ وهو اليوم قد استفتح بخارى فلم يفتحوا له، فإن أخذت بهم غير الطريق تفرّق الناس عنك مبادرين إلى منازلهم، ويبلغ أهل بخارى فيستسلموا لعدوّهم؛ وإن أخذت الطريق الأعظم هابك العدوّ؛ والرأي لك أن تعمد إلى عيالات من شهد الشعب من أصحاب سورة فتقسمهم على عشائرهم وتحملهم معك؛ فإني أرجو بذلك أن ينصرك الله على عدوّك، وتعطي كل رجل تخلف بسمرقند ألف درهم وفرسًا. قال: فأخذ برأيه فخلّف في سمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في ثمانمائة: أربعمائة فارس وأربعمائة راجل، وأعطاهم سلاحًا. فشتم الناس عبد الله بن أبي عبد الله مولى بني سليم، وقالوا: عرّضنا لخاقان والترك، ما أراد إلا هلاكنا! فقال عبيد الله بن حبيب لحرب بن صبح: كم كانت لكم الساقة اليوم؟ قال: ألف وستمائة، قال: لقد عرضنا للهلاك. قال: فأمر الجنيد بحمل العيال. قال: وخرج والناس معه، وعلى طلائعه الوليد بن القعقاع العبسي وزياد ابن خبران الطائي، فسرح الجنيد الأشهب بن عبيد الحنظلي، ومعه عشرة من طلائع الجند، وقال له: كلما مضيت مرحلة فسرح إلى رجلًا يعلمني الخبر. قال: وسار الجنيد؛ فلما صار بقصر الريح أخذ عطاء الدبوسي بلجام الجنيد وكبحه، فقرع رأسه هارون الشاشي مولى بني حازم بالرمح حتى كسره على رأسه، فقال الجنيد لهارون: خلّ عن الدبوسي، وقال له: مالك يا دبوسي؟ فقال: انظر أضعف شيخ في عسكرك فسلحه سلاحًا تامًا، وقلده سيفًا وجعبة وترسًا، وأعطه رمحًا، ثم سر بنا على قدر مشيه؛ فإنا لا نقدر على السوق والقتال وسرعة السير ونحن رجّالة. ففعل ذلك الجنيد؛ فلم يعرض للناس عارض حتى خرجوا من الأماكن المخوفة، ودنا من الطواويس، فجاءتنا الطلائع بإقبال خاقان، فعرضوا له بكرمينية، أوّل يوم من رمضان. فلما ارتحل الجنيد من كرمينية قدم محمد بن الرندي في الأساورة آخر الليل؛ فلما كان في طرف مفازة كرمينية رأى ضعف العدوّ؛ فرجع إلى الجنيد فأخبره؛ فنادى منادي الجنيد: ألا يخرج المكتبون إلى عدوّهم؟ فخرج الناس، ونشبت الحرب، فنادى رجل: أيها الناس، صرتم حرورية فاستقتلتم. وجاء عبد الله بن أبي عبد الله إلى الجنيد يضحك، فقال له الجنيد: ما هذا بيوم ضحك! فقيل له: إنه ضحك تعجبًا، فالحمد لله الذي لم يلقك هؤلاء إلا في جبال معطّشة؛ فهم على ظهر وأنت مخندق آخر النهار، كالتين وأنت معك الزاد؛ فقاتلوا قليلًا ثم رجعوا. وكان عبد الله بن أبي عبد الله قال للجنيد وهم يقاتلون: ارتحل، فقال الجنيد: وهل من حيلة؟ قال: نعم، تمضي برايتك قدر ثلاث غلاء، فإنّ خاقان ودّ أنك أقمت فينطوي عليك إذا شاء. فأمر بالرحيل وعبد الله بن أبي عبد الله على الساقة. فأرسل إليه: انزل، قال: أنزل على غير ماء! فأرسل إليه: إن لم تنزل ذهبت خراسان من يدك؛ فنزل وأمر الناس أن يسقوا، فذهب الناس الرجّالة والناشبة؛ وهم صفّان؛ فاستقوا وباتوا، فلما أصبحوا ارتحلوا، فقال عبد الله بن أبي عبد الله: إنكم معشر العرب أربعة جوانب؛ فليس يعيب بعضهم بعضًا؛ كلّ ربع لا يقدر أن يزول عن مكانه: مقدّمة - وهم القلب - ومجنبتان وساقة؛ فإن جمع خاقان خيله ورجاله ثم صدم جانبًا منكم - وهم الساقة - كان بواركم، وبالحري أن يفعل؛ وأنا أتوقع ذلك في يومي، فشدوا الساقة بخيل. فوجه الجنيد خيل بني تميم والمجفّفة، وجاءت الترك فمالت على الساقة؛ وقد دنا المسلمون من الطواويس فاقتتلوا، فاشتدّ الأمر بينهم، فحمل سلم بن أحوز على رجل من عظماء الترك فقتله. قال: فتطيّر الترك، وانصرفوا من الطواويس؛ ومضى المسلمون؛ فأتوا بخارى يوم المهرجان. قال: فتلقونا بدراهم بخارية، فأعطاهم عشرة عشرة، فقال عبد المؤمن بن خالد: رأيت عبد الله بن أبي عبد الله بعد وفاته في المنام، فقال: حدث الناس عني برأيي يوم الشعب. قال: وكان الجنيد يذكر خالد بن عبد الله، ويقول: ربذة من الربذ، صنبور ابن صنبور، قل ابن قلّ، هيفة من الهيف - وزعم أن الهيفة الضبع، والعجرة الخنزيرة، والقلّ: الفرد - قال: وقدمت الجنود مع عمرو بن مسلم الباهلي في أهل البصرة وعبد الرحمن بن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وهو بالصغانيان، فسرح معهم الحوثرة بن يزيد العنبري فيمن انتدب معه من التجار وغيرهم، وأمرهم أن يحملوا ذراري أهل سمرقند، ويدعوا فيها المقاتلة. ففعلوا. قال أبو جعفر: وقد قيل: إنّ وقعة الشعب بين الجنيد وخاقان كانت في سنة ثلاث عشرة ومائة. وقال نصر بن سيّار يذكر يوم الشعب وقتال العبيد: إني نشأت وحسادي ذوو عدد ** يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا إن تحسدوني على مثل البلاء لكم ** يومًا فمثل بلائي جرّ لي الحسدا يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ** كعبي عليكم وأعطى فوقكم عددا أرمي العدو بأفراس مكلمة ** حتى اتخذن على حسادهن يدا من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا ** لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا! فما حفظتم من الله الوصاة ولا ** أنتم بصبر طلبتم حسن ما وعدا ولا نهاكم عن التوثاب في عتب ** إلا العبيد بضرب يكسر العمدا هلا شكرتم دفاعي عن جنيدكم ** وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا! وقال ابن عرس العبدي، يمدح نصرًا يوم الشعب ويذم الجنيد؛ لأن نصرًا أبلى يومئذ: يا نصر أنت فتى نزار كلها ** فلك المآثر والفعال الأرفع فرجت عن كل القبائل كربة ** بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا يوم الجنيد إذ القنا متشاجر ** والنحر دام والخوافق تلمع ما زلت ترميهم بنفس حرة ** حتى تفرج جمعهم وتصدعوا فالناس كل بعدها عتقاؤكم ** ولك المكارم والمعالي أجمع وقال الشرعبي الطائي: تذكرت هندًا في بلاد غريبة ** فيا لك شوقًا، هل لشملك مجمع! تذكرتها والشاش بيني وبينها ** وشعب عصام والمنايا تطلع بلاد بها خاقان جم زحوفه ** ونيلان في سبعين ألفًا مقنع إذا دب خاقان وسارت جنوده ** أتتنا المنايا عند ذلك شرع هنالك هند مالنا النصف منهموما إن لنا يا هند في القوم مطمع ألا رب خود خدلة قد رأيتها ** يسوق بها جهم من السغد أصمع أحامي عليها حين ولى خليلها ** تنادي إليها المسلمين فتسمع تنادي بأعلى صوتها صف قومها ** ألا رجل منكم يغار فيرجع! ألا رجل منكم كريم يردني ** يرى الموت في بعض المواطن ينفع! فما جاوبوها غير أن نصيفها ** بكف الفتى بين البرازيق أشنع إلى الله أشكو نبوة في قلوبها ** ورعبًا ملا أجوافها يتوسع فمن مبلغ عني ألوكًا صحيفة ** إلى خالد من قبل أن نتوزع بأن بقايانا وأن أميرنا ** إذا ما عددناه الذليل الموقع هم أطمعوا خاقان فينا وجنده ** ألا ليتنا كنا هشيمًا يزعزع وقال ابن عرس - واسمه خالد بن المعارك من بني غنم بن وديعة بن لكيز بن أفصى. وذكر علي بن محمد عن شيخ من عبد القيس أنّ أمه كانت أمة، فباعه أخوه تميم بن معارك من عمرو بن لقيط أحد بني عامر بن الحارث؛ فأعتقه عمرو لما حضرته الوفاة، فقال: يا أبا يعقوب؛ كم لي عندك من المال؟ قال: ثمانون ألفًا، قال: أنت حر وما في يديك لك. قال: فكان عمرو ينزل مرو الروذ؛ وقد اقتتلت عبد القيس في ابن عرس؛ فردوّه إلى قومه، فقال ابن عرس للجنيد: أين حماة الحرب من معشر ** كانوا جمال المنسر الحارد! بادوا بآجال توافوا لها ** والعائر الممهل كالبائد فالعين تجري دمعها مسبلًا ** ما لدموع العين من ذائد انظر ترى للميت من رجعة ** أم هل ترى في الدهر من خالد! كنا قديمًا يتقى بأسنا ** وندرأ الصادر بالوارد حتى منينا بالذي شامنا ** من بعد عز ناصر آئد كعاقر الناقة لا ينثني ** مبتدئًا ذي حنق جاهد فتقت ما لم يلتئم صدعه ** بالجحفل المحتشد الزائد تبكي لها إن كشفت ساقها ** جدعًا وعقرًا لك من قائد! تركتنا أجزاء معبوطة ** يقسمها الجازر للناهد ترقت الأسياف مسلولة ** تزيل بين العضد والساعد تساقط الهامات من وقعها ** بين جناحي مبرق راعد إذ أنت كالطفلة في خدرها ** لم تدر يومًا كيدة الكائد إنا أناس حربنا صعبة ** تعصف بالقائم والقاعد أصحت سمرقند وأشياعها ** أحدوثة الغائب والشاهد وكم ثوى في الشعب من حازم ** جلد القوى ذي مرة ماجد يستنجد الخطب ويغشى الوغى ** لا هائب غس ولا ناكد ليتك يوم الشعب في حفرة ** مرموسة بالمدر الجامد تلعب بك الحرب وأبناؤها ** لعب صقور بقطًا وارد طار لها قلبك من خيفة ** ما قلبك الطائر بالعائد لا تحسبن الحرب يوم الضحى ** كشربك المزاء بالبارد أبغضت من عينك تبريجها ** وصورة في جسد فاسد جنيد ما عيصك منسوبة ** نبعًا ولا جدك بالصاعد خمسون ألفًا قتلوا ضيعة ** وأنت منهم دعوة الناشد لا تمرين الحرب من قابل ** ما أنت في العدوة بالحامد قلدته طوقًا على نحره ** طوق الحمام الفرد الفارد قصيدة حيزها شاعر ** تسعى بها البرد إلى خالد وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وقد قيل: إن الذي حجّ بالناس في هذه السنة سليمان بن هشام. وكانت عمّال الأمصار في هذه السنة عمّالها الذين كانوا في سنة إحدى عشرة ومائة، وقد ذكرناهم قبل. ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث قتل عبد الوهاب بن بخت فمما كان فيها من ذلك هلاك عبد الوهاب بن بخت، وهو مع البطال عبد الله بأرض الروم؛ فذكر محمد بن عمر، عن عبد العزيز بن عمر؛ أن عبد الوهاب بن بخت غزا مع البطّال سنة ثلاث عشرة ومائة، فانهزم الناس عن البطّال وانكشفوا، فجعل عبد الوهاب يكرّ فرسه وهو يقول: ما رأيت فرسًا أجبن منه، وسفك الله دمي إن لم أسفك دمك. ثم ألقى بيضته عن رأسه وصاح: أنا عبد الوهاب بن بخت؛ أمن الجنة تفرّون! ثم تقدّم في نحور العدوّ؛ فمرّ برجل وهو يقول: واعطشاه! فقال: تقدّم؛ الري أمامك؛ فخالط القوم فقتل وقتل فرسه. ومن ذلك ما كان من تفريق مسلمة بن عبد الملك الجيوش في بلاد خاقان ففتحت مدائن وحصون على يديه، وقتل منهم، وأسر وسبى، وحرّق خلق كثير من الترك أنفسهم بالنار؛ ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر وقتل ابن خاقان. ومن ذلك غزوة معاوية بن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع. وفي هذه السنة صار من دعاة بني العباس جماعة إلى خراسان، فأخذ الجنيد بن عبد الرحمن رجلًا منهم فقتله، وقال: من أصيب منهم فدمه هدر. وحجّ بالناس في هذه السنة - في قول أبي معشر - سليمان بن هشام بن عبد الملك؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي. وقال بعضهم: الذي حجّ بالناس في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي. وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم الذيّن كانوا عمّالها في سنة إحدى عشرة واثنتي عشرة؛ وقد مضى ذكرنا لهم. ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة ذكر الأخبار عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وسليمان بن هشام على الصائفة اليمنى؛ فذكر أنّ معاوية بن هشام أصاب ربض أقرن، وأن عبد الله البطال التبقى وقسطنطين في جمع فهزمهم؛ وأسر قسطنطين؛ وبلغ سليمان ابن هشام قيساريّة. وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك إبراهيم بن هشام عن المدينة، وأمّر عليها خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم. قال الواقدي: قدم خالد بن عبد الملك المدينة للنصف من شهر ربيع الأول؛ وكان إمرة إبراهيم ابن هشام على المدينة ثماني سنين. وقال الواقدي: في هذه السنة ولي محمد بن هشام المخزومي مكة. وقال بعضهم: بل وليَ محمد بن هشام مكة سنة ثلاث عشرة ومائة، فما عزل إبراهيم أقرّ محمد بن هشام على مكة. وفي هذه السنة وقع الطاعون - فيما قيل - بواسط. وفيها قفل مسلمة بن عبد الملك عن الباب بعد ما هزم خاقان وبني الباب فأحكم ما هنالك. وفي هذه السنة ولي هشام مروان بن محمد أرمينية وأذربيجان. واختلف فيمن حجّ بالناس في هذه السنة، فقال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه: حج بالناس سنة أربع عشرة ومائة خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم؛ وهو على المدينة. وقال بعضهم: حج بالناس في هذه السنة محمد بن هشام؛ وهو أمير مكة، فأقام خالد بن عبد الملك تلك السنة، لم يشهد الحجّ. قال الواقدي: حدثني بهذا الحديث عبد الله بن جعفر، عن صالح بن كيسان. قال الواقدي: وقال لي أبو معشر: حجّ بالناس سنة أربع عشرة ومائة خالد بن عبد الملك، ومحمد بن هشام على مكة. قال الواقدي: وهو الثبت عندنا. وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم العمّال الذين كانوا في السنة التي قبلها؛ غير أنّ عامل المدينة في هذه السنة كان خالد بن عبد الملك، وعامل مكة والطائف محمد بن هشام، وعامل أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد. ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة ذكر الأخبار عما كان فيها من الأحداث فممّا كان فيها من ذلك غزوة معاوية بن هشام أرضَ الروم. وفيها وقع الطاعون بالشام. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل؛ وهو أمير مكة والطائف، كذلك قال أبو معشر، فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكان عمّال الأمصار في هذه السنة، فقال المدائني: كان عاملها الجنيد بن عبد الرحمن، وقال بعضهم. كان عاملها عمارة بن حريم المري. وزعم الذي قال ذلك أنّ الجنيد مات في هذه السنة، واستخلف عمارة بن حريم. وأما المدائني فإنه ذكر أنه وفاة الجنيد كانت في سنة ست عشرة ومائة. وفي هذه السنة أصاب الناس بخراسان قحط شديد ومجاعة، فكتب الجنيد إلى الكور: إنّ مرو كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكان، فكفرت بأنعم الله، فاحملوا إليها الطعام. قال علي بن محمد: أعطى الجنيد في هذه السنة رجلًا درهمًا، فاشترى به رغيفًا، فقال لهم: تشكون الجوع ورغيف بدرهم! لقد رأيتُني بالهند وإن الحبة من الحبوب لتباع عددًا بالدرهم؛ وقال: إنّ مرو كما قال الله عز وجل: " وضرب الله مثلًا قرية كانت آمنة مطمئنة ". ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من غزوة معاوية بن هشام أرض الروّم الصائفة. وفيها كان طاعون شديد بالعراق والشام؛ وكان أشدّ ذلك - فيما ذكر - بواسط. وفاة الجنيد بن عبد الرحمن وولاية عاصم بن عبد الله خراسان وفيها كانت وفاة الجنيد بن عبد الرحمن وولاية عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي خراسان. ذكر الخبر عن أمرهما ذكر علي بن محمد، عن أشياخه، أنّ الجنيد بن عبد الرحمن تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام على الجنيد، وولّى عاصم بن عبد الله خراسان؛ وكان الجنيد سقى بطنه، فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه، فقدم عاصم وقد مات الجنيد. قال: وذكروا أن جبلة بن أبي روّاد دخل على الجنيد عائدًا، فقال: يا جبلة، ما يقول الناس؟ قال: قلت يتوجّعون للأمير؛ قال: ليس عن هذا سألتك، ما يقولون؟ وأشار نحو الشام بيده. قال: قلت: يقدم على خراسان يزيد بن شجرة الرهاوي، قال: ذلك سيّد أهل الشام، قال: ومن؟ قلت: عصمة أو عصام، وكنّيت عن عاصم، فقال: إن قدم عاصم فعدوّ جاهد؛ لا مرحبًا به ولا أهلًا. قال: فمات في مرضه ذلك في المحرّم سنة ست عشرة ومائة، واستخلف عمارة بن حريم. وقدم عاصم بن عبد الله، فحبس عمارة بن حريم وعمال الجنيد وعذّبهم. وكانت وفاته بمرو، فقال أبو الجويرية عيسى ابن عصمة يرثيه: هلك الجود والجنيد جميعًا ** فعلى الجود والجنيد السلام أصبحا ثاويين في أرض مرو ** ما تغنت على الغصون الحمام كنتما نزهة الكرام فلما ** متّ مات الندى ومات الكرام ثم إن أبا الجويرية أتى خالد بن عبد الله القسري وامتدحه، فقال له خالد: ألست القائل: هلط الجود والجنيد جميعًا مالك عندنا شيء، فخرج فقال: تظل لامعة الآفاق تحملنا ** إلى عمارة والقود السراهيد قصيدة امتدح بها عمارة بن حريم، ابن عم الجنيد؛ وعمارة هو جدّ أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام. قال: وقدم عاصم بن عبد الله فحبس عمارة بن حريم وعمال الجنيد وعذّبهم. ذكر خلع الحارث بن سريج وفي هذه السنة خلع الحارث بن سريج، وكانت الحرب بينه وبين عاصم بن عبد الله. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي عن أشياخه، قال: لما قدم عاصم خراسان واليًا، أقبل الحارث ابن سريج من النخذ حتى وصل إلى الفارياب، وقدم أمامه بشر بن جرموز. قال: فوجه عاصم الخطّاب بن محرز السلمي ومنصور بن عمر بن أبي الخرفاء السلمي وهلال بن عليم التميمي والأشهب الحنظلي وجرير بن هميان السدوسي ومقاتل بن حيّان النبطي مولى مصقلة إلى الحارث؛ وكان خطّاب ومقاتل بن حيّان قالا: لا تلقوه إلا بأمان، فأبى عليهما القوم؛ فلما انتهوا إليه بالفارياب قيّدهم وحبسهم، ووكل بهم رجلًا يحفظهم. قال: فأوثقوه وخرجوا من السجن، فركبوا دوابّهم، وساقوا دواب البريد، فمروا بالطالقان فهمّ سهرب صاحب الطالقان بهم، ثم أمسك وتركهم. فلما قدموا مرو أمرهم عاصم فخطبوا وتناولوا الحارث، وذكروا خبث سيرته وغدوه. ثم مضى الحارث إلى بلخ وعليها نصر، فقاتلوه؛ فهزم أهل بلخ ومضى نصر إلى مرو. وذكر بعضهم: لما أقبل الحارث إلى بلخ وكان عليها التجيني بن ضبيعة المرّي ونصر بن سيار، وولّاهما الجنيد. قال: فانتهى إلى قنطرة عطاء وهي على نهر بلخ على فرسخين من المدينة، فتلقّى نصر بن سيار في عشرة آلاف والحارث بن سريج في أربعة آلاف، فدعاهم الحارث إلى الكتاب والسنّة والبيعة للرضا؛ فقال قطن بن عبد الرحمن بن جزي الباهلي: يا حارث؛ أنت تدعو إلى كتاب الله والسنّة؛ والله لو أنّ جبريل عن يمينك وميكائيل عن يسارك ما أجبتك؛ فقاتلهم فأصابته رمية في عينه؛ فكان أوّل قتيل. فانهزم أهل بلخ إلى المدينة، وأتبعهم الحارث حتى دخلها؛ وخرج نصر من باب آخر، فأمر الحارث بالكفّ عنهم، فقال رجل من أصحاب الحارث: إني لأمشي في بعض طرق بلخ إذ مررت بنساء يبكين وامرأة تقول: يا أبتاه! ليت شعري من دهاك! وأعرابي إلى جنبي يسير؛ فقال: من هذه الباكية؟ فقيل له: ابنة قطن بن عبد الرحمن بن جزي، فقال الأعرابي: أنا وأبيك دهيتك، فقلت: أنت قتلته؟ قال: نعم. قال: ويقال: قدم نصر والتجيبي على بلخ، فحبسه نصر، فلم يزل محبوسًا حتى هزم الحارث نصرًا؛ وكان التجيبي ضرب الحارث أربعين سوطًا في إمْرة الجنيد، فحوّله الحارث إلى قلعة باذكر بزم، فجاء رجل من بني حنيفة فادّعى عليه أنه قتل أخاه أيام كان على هراة، فدفعه الحارث إلى الحنفي، فقال له التجيبي: أفتدي منك بمائة ألف، فلم يقبل منه وقتله. وقوم يقولون: قتل التجيبي في ولاية نصر قبل أن يأتيه الحارث. قال: ولما غلب الحارث على بلخ استعمل عليها رجلًا من ولد عبد الله ابن خازم، وسار، فلما كان بالجوزجان دعا وابصة بن زرارة العبدي، ودعا دجاجة ووحشًا العجليين وبشر بن جرموز وأبا فاطمة، فقال: ما ترون؟ فقال أبو فاطمة: مرو بيضة خراسان؛ وفرسانهم كثير؛ لو لم يلقوك إلّا بعبيدهم لانتصفوا منك، فأقم فإنْ أتوْك قاتلتهم وإن أقاموا قطعت المادة عنهم، قال: لا أرى ذلك، ولكن أسير إليهم. فأقبل الحارث إلى مرو، وقد غلب على بلخ والجوزجان والفارياب والطالقان ومرو الروذ، فقال أهل الدين من أهل مرو: إن مضى إلى أبرشهر ولم يأتنا فرق جماعتنا، وإن أتانا نكب. قال: وبلغ عاصمًا أن أهل مرو يكاتبون الحارث، قال: فأجمع على الخروج وقال: يا أهل خراسان، قد بايعتم الحارث بن سريج، لا يقصد مدينة إلا خليتموها له، إني لاحق بأرض قومي أبرشهر، وكاتب منها إلى أمير المؤمنين حتى يمدّني بعشرة آلاف من أهل الشام. فقال له الكجشّر بن مزاحم: إن أعطوك بيعتهم بالطلاق والعتاق فأقم، وإن أبوا فسرحتي تنزل أبرشهر، وتكتب إلى أمير المؤمنين فيمدّك بأهل الشام. فقال خالد بن هريم أحد بني ثعلبة بن يربوع وأبو محارب هلال بن عليم: والله لا نخليك والذهاب، فيلزمنا دينك عند أمير المؤمنين، ونحن معك حتى نموت إن بذلت الأموال. قال: أفعل، قال يزيد بن قرّان الريّاحي: إن لم أقاتل معك ما قاتلت فابنة الأبرد بن قرة الرياحي طالق ثلاثًا - وكانت عنده - فقال عاصم: أكلّكم على هذا؟ قالوا: نعم. وكان سلمة بن أبي عبد الله صاحب حرّسه يحلفهم بالطلاق. قال: وأقبل الحارث بن سريج إلى مرو في جمع كثير - يقال في ستين ألفًا - ومعه فرسان الأزد وتميم؛ منهم محمد بن المثنّى وحمّاد بن عامر بن مالك الحماني وداود الأعسر وبشر بن أنيف الرياحي وعطاء الدبوسي. ومن الدهاقين الجوزجان وترسل دهقان الفارياب وسهرب ملك الطالقان، وقرياقس دهقان مرو، في أشباههم. قال: وخرج عاصم في أهل مرو وفي غيرهم؛ فعسكر بجياسر عند البيعة، وأعطى الجند دينارًا دينارًا، فخفّ عنه الناس، فأعطاهم ثلاثة دنانير ثلاثة دنانير، وأعطى الجند وغيرهم؛ فلما قرب بعضهم من بعض أمر بالقناطر فكسرت، وجاء أصحاب الحارث فقالوا: تحصروننا في البرّيّة! دعونا نقطع إليكم فنناظركم فيما خرجنا له، فأبوا وذهب رجّالتهم يصلحون القناطر، فأتاهم رجّالة أهل مرو فقاتلوهم؛ فمال محمد بن المثنّى الفراهيدي برايته إلى عاصم فأمالها في ألفين فأتى الأزْد؛ ومال حماد بن عامر بن مالك الحمّاني إلى عاصم، وأتى بني تميم. قال سلمة الأزدي: كان الحارث بعث إلى عاصم رسلًا - منهم محمد ابن مسلم العنبري - يسألونه العمل بكتاب الله وسنة نبيّه ﷺ. قال: والحارث بن سريج يومئذ على السواد. قال: فلمّا مال محمد بن المثنى بدأ أصحاب الحارث بالحملة، والتقى الناس؛ فكان أوّل قتيل غياث بن كلثوم من أهل الجارود، فانهزم أصحاب الحارث، فغرق بشر كثير من أصحاب الحارث في أنهار مرو والنهر الأعظم، ومضت الدهاقين إلى بلادهم؛ فضرب يومئذ خالد بن علباء بن حبيب بن الجارود على وجهه، وأرسل عاصم بن عبد الله المؤمن بن خالد الحنفي وعلباء بن أحمر اليشكري ويحيى بن عقيل الخزاعي ومقاتل بن حيّان النبطي إلى الحارث يسأله ما يريد؟ فبعث الحارث محمد بن مسلم العنبري وحده، فقال لهم: إنّ الحارث وإخوانكم يقرءونكم السلام، ويقولون لكم: قد عطشنا وعطشت دوابّنا، فدعونا ننزل الليلة، وتختلف الرسل فيما بيننا ونتناظر؛ فإن وافقناكم على الذي تريدون وإلّا كنتم من وراء أمركم؛ فأبوا عليه وقالوا مقالًا غليظًا؛ فقال مقاتل ابن حيّان النبطي: يا أهل خراسان؛ إنا كنا بمنزلة بيت واحد وثغرنا واحد؛ ويدنا على عدوّنا واحدة؛ وقد أنكرنا ما صنع صاحبكم؛ وجّه إليه أميرنا بالفقهاء والقرّاء من أصحابه، فوجّه رجلًا واحدًا. قال محمد: إنما أتيتكم مبلغًا، نطلب كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وسيأتيكم الذي تطلبون من غد إن شاء الله تعالى. وانصرف محمّد بن مسلم إلى الحارث، فلما انتصف الليل سار الحارث فبلغ عاصمًا، فلما أصبح سار إليه فالتقوا، وعلى ميمنة الحارث رابض بن عبد الله بن زرارة التغلبي، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فحمل يحيى بن حضين - وهو رأس بكر بن وائل، وعلى بكر بن وائل زياد بن الحارث بن سريج - فقتلوا قتلًا ذريعًا، فقطع الحارث وادي مرو؛ فضرب رواقًا عند منازل الرهبان، وكفّ عنه عاصم. قال: وكانت القتلى مائة، وقتل سعيد بن سعد بن جزء الأزدي، وغرق خازم بن موسى بن عبد الله بن خازم - وكان مع الحارث بن سريج - واجتمع إلى الحارث زهاء ثلاثة آلاف، فقال القاسم بن مسلم: لما هزم الحارث كفّ عنه عاصم، ولو ألحّ عليه لأهلكه. وأرسل إلى الحارث: إني رادّ عليك ما ضمنت لك ولأصحابك؛ على أن ترتحل؛ ففعل. قال: وكان خالد بن عبيد الله بن حبيب أتى الحارث ليلة هزم، وكان أصحابه أجمعوا على مفارقة الحارث، وقالوا: ألم تزعم أنه لا يردّ لك راية! فأتاهم فسكّنهم. وكان عطاء الدبوسي من الفرسان، فقال لغلامه يوم زرق: أسرج لي برذوني لعلي ألاعب هذه الحمارة، فركب ودعا إلى البراز، فبرز له رجل من أهل الطالقان، فقال بلغته: إي كيرخر. قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: وحجّ بالناس في هذه السنة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو ولي العهد؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة عمالها في التي قبلها إلّا ما كان من خراسان فإن عاملها في هذه السنة عاصم بن عبد الله الهلالي. ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فممّا كان فيها غزوة معاوية بن هشام الصائفة اليسرى وغزوة سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة اليمنى من نحو الجزيرة، وفرّق سراياه في أرض الروم. وفيها بعث مروان بن محمد - وهو على أرمينية - بعثين، فافتتح أحدهما حصونًا ثلاثة من اللان ونزل الآخر على تومانشاه، فنزل أهلها على الصلح. وفيها عزل هشام بن عبد الملك عاصم بن عبد الله عن خراسان، وضمها إلى خالد بن عبد الله، فولاها خالد أخاه أسد بن عبد الله. وقال المدائني: كان عزل هشام عاصمًا عن خراسان وضمّ خراسان إلى خالد بن عبد الله في سنة ستّ عشرة ومائة. ذكر الخبر عن سبب عزل هشام عاصما وتوليته خالدا خراسان وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي عن أشياخه - أنّ عاصم بن عبد الله كتب إلى هشام بن عبد الملك: أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فإنّ الرائد لا يكذب أهله؛ وقد كان من أمر أمير المؤمنين إلي ما يحقّ به علي نصيحته؛ وإنّ خراسان لا تصلح إلّا أن تضمّ إلى صاحب العراق؛ فتكون موادها ومنافعها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب؛ لتباعد أمير المؤمنين عنها وتباطؤ غياثه عنها. فلما مضى كتابه خرج إلى أصحابه يحيى بن حضين والمجشّر بن مزاحم وأصحابهم، فأخبرهم، فقال له المجشّر بعد ما مضى الكتاب: كأنك بأسد قد طلع عليك. فقدم أشد بن عبد الله؛ بعث به هشام بعد كتاب عاصم بشهر، فبعث الكميت بن زيد الأسدي إلى أهل مرو بهذا الشعر: ألا أبلغ جماعة أهل مرو ** على ما كان من نأى وبعد رسالة ناصح يهدى سلامًا ** ويأمر في الذي ركبوا بجد وأبلغ حارثًا عنا اعتذارًا ** إليه بأن من قبلي بجهد ولولا ذاك قد زارتك خيل ** من المصرين بالفرسان تردي فلا تهنوا ولا ترضوا بخسف ** ولا يغرركم أسد بعهد وكونوا كالبغايا إن خدعتم ** وإن أقررتم ضيمًا لوغد وإلا فارفعوا الرايات سودًا ** على أهل الضلالة والتعدي فكيف وأنتم سبعون ألفًا ** رماكم خالد بشبيه قرد ومن ولى بذمته رزينًا ** وشيعته ولم يوف بعهد ومن غشي قضاعة ثوب خزيٍ ** بقتل أبي سلامان بن سعد فمهلًا يا قضاع فلا تكوني ** توابع لا أصول لها بنجد وكنت إذا دعوت بني نزار ** أتاك الدهم من سبط وجعد فجدع من قضاعة كل أنف ** ولا فازت على يوم بمجد قال: ورزين الذي ذكر كان خرج على خالد بن عبد الله بالكوفة، فأعطاه الأمان ثم لم يف به. وقال فيه نصر بن سيّار حين أقبل الحارث إلى مرو وسوّد راياته - وكان الحارث يرى رأي المرجئة: دع عنك دنيا وأهلًا أنت تاركهم ** ما خير دنيا وأهل لا يدومونا! إلا بقية أيام إلى أجل ** فاطلب من الله أهلًا لا يموتونا أكثر تقى الله في الإسرار مجتهدًا ** إن التقى خيره ما كان مكنونا واعلم بأنك بالأعمال مرتهن ** فكن لذاك كثير الهم محزونا إني أرى الغبن المردي بصاحبه ** من كان في هذه الأيام مغبونا تكون للمرء أطوارًا فتمنحه ** يومًا عثارًا وطورًا تمنح اللينا بينا الفتى في نعيم العيش حوله ** دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا تحلو له مرة حتى يسر بها ** حينًا وتمقره طعمًا أحايينا هل غابر من بقايا الدهر تنظره ** إلا كما قد مضى فيما تقضونا فامنح جهادك من لم يرج آخرةً ** وكن عدوًا لقوم لا يصلونا واقتل مواليهم منا وناصرهم ** حينًا تكفرهم والعنهم حينا والعائبين علينا ديننا وهم ** شر العباد إذا خابرتهم دينا والقائلين سبيل الله بغيتنا ** لبعد ما نكبوا عما يقولونا فاقتلهم غضبًا لله منتصرًا ** منهم به ودع المرتاب مفتونا إرجاؤكم لزكم والشرك في قرن ** فأنتم أهل إشراك ومرجونا لا يبعد الله في الأجداث غيركم ** إذ كان دينكم بالشرك مقرونا ألقى به الله رعبًا في نحوركم ** والله يقضي لنا الحسنى ويعلينا كيما نكون الموالي عند خائفة ** عما تروم به الإسلام والدينا وهل تعيبون منا كاذبين به ** غال ومهتضم، حسبي الذي فينا يأبى الذي كان يبلي الله أولكم ** على النفاق وما قد كان يبلينا قال: ثم عاد الحارث لمحاربة عاصم، فلمّا بلغ عاصمًا أن أسد بن عبد الله قد أقبل، وأنّه قد سيّر على مقدمته محمد بن مالك الهمداني، وأنه قد نزل الدندانقان، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابًا على أن ينزل الحارث أي كورخراسان شاء، وعلى أن يكتبا جميعًا إلى هشام؛ يسألانه كتاب الله وسنة نبيه؛ فإن أبى اجتمعا جميعًا عليه. فختم على الكتاب بعض الرؤساء، وأبى يحيى ابن حضين أن يختم، وقال: هذا خلع لأمير المؤمنين؛ فقال خلف بن خليفة ليحيى: أبى هم قلبك إلا اجتماعا ** ويأبى رقادك إلا امتناعًا بغير سماع ولم تلقني ** أحاول من ذات لهو سماعا حفظنا أمية في ملكها ** ونخطر من دونها أن تراعى ندافع عنها وعن ملكها ** إذا لم نجد بيديها امتناعا أبى شعب ما بيننا في القديم ** وبين أمية إلا انصداعا ألم نختطف هامة ابن الزبير ** وننتزع الملك منه انتزاعا جعلنا الخلافة في أهلها ** إذا اصطرع الناس فيها اصطراعا نصرنا أمية بالمشرفي ** إذا انخلع الملك عنها انخلاعا ومنا الذي شد أهل العراق ** ولو غاب يحيى عن الثغر ضاعا على ابن سريج نقضنا الأمور ** وقد كان أحكمها ما استطاعا حكيم مقالته حكمة ** إذا شتت القوم كانت جماعا عشية زرق وقد أزمعوا ** قمعنا من الناكثين الزماعا ولولا فتى وائل لم يكن ** لينضج فيها رئيس كراعا فقل لأمية ترعى لنا ** أيادي لم نجزها واصطناعا أتلهين عن قتل ساداتنا ** ونأبى لحقك إلا اتباعا أمن لم يبعك من المشترين ** كآخر صادف سوقًا فباعا! أبى ابنُ حضين لما تصنع ** ين إلا اضطلاعا وإلّا اتّباعا ولو يأمن الحارث الوائلين ** لراعك في بعض من كان راعا وقد كان أصعر ذا نيرب ** أشاع الضلالة فيما أشاعا كفينا أمية مختومة ** أطاع بها عاصم من أطاعا فلولا مراكز راياتنا ** من الجند خاف الجنود الضياعا وصلنا القديم لها بالحديث ** وتأبى أمية إلا انقطاعا ذخائر في غيرنا نفعها ** وما إن عرفنا لهن انتفاعا ولو قدمتها وبان الحجا ** ب لارتعت بين حشاك ارتياعا فأين الوفاء لأهل الوفاء ** والشكر أحسن من أن يضاعا! وأين ادخار بني وائل ** إذا الذخر في الناس كان ارتجاعا! ألم تعلمي أن أسيافنا ** تداوي العليل وتشفي الصداعا! إذا ابن حضين غدا باللواء ** أسلم أهل القلاع القلاعا إذا ابن حضين غدا باللواء ** أشار النسور به والضباعا إذا ابن حضين غدا باللواء ذكى وكانت معد جداعا قال: وكان عاصم بن سليمان بن عبد الله بن شراحيل اليشكري من أهل الرأي، فأشار على يحيى بنقض الصحيفة؛ وقال له: " غمراتٌ ثم ينجلين "، وهي المغمضات، فغمّض. قال: وكان عاصم بن عبد الله في قرية بأعلى مرو لكندة، ونزل الحارث قرية لبني العنبر؛ فالتقوا بالخيل والرّجال، ومع عاصم رجل من بني عبس في خمسمائة من أهل الشام وإبراهيم بن عاصم العقيلي في مثل ذلك؛ فنادى منادي عاصم: من جاء برأس فله ثلمائة درهم؛ فجاء رجل من عماله برأس وهو عاض على أنفه، ثم جاءه رجل من بني ليث - يقال له ليث بن عبد الله - برأس، ثم جاء آخر برأس، فقيل لعاصم: إن طمع الناس في هذا لم يدعوا ملّاحًا ولا علجًا إلا أتوك برأسه؛ فنادى مناديه: لا يأتنا أحد برأس؛ فمن أتانا به فليس له عندنا شيء؛ وانهزم أصحاب الحارث فأسروا منهم أسارى، وأسروا عبد الله بن عمرو المازني رأس أهل مرو الروذ، وكان الأسراء ثمانين؛ أكثرهم من بني تميم، فقتلهم عاصم بن عبد الله على نهر الداندانقان. وكانت اليمانية بعثت من الشام رجلًا يعدل بألف يكنى أبا داود، أيّام العصبية في خمسمائة؛ فكان لا يمرّ بقرية من قرى خراسان إلا قال: كأنكم بي قد مررت راجعًا حاملًا رأس الحارث بن سريج؛ فلما التقوا دعا إلى البراز، فبرز له الحارث بن سريج؛ فضربه فوق منكبه الأيسر فصرعه، وحامى عليه أصحابه فحملوه فخولط؛ فكان يقول: يا أبرشهر الحارث بن سريجاه! يا أصحاب المعموراه! ورمي فرس الحارس بن سريج في لبانه، فنزع النشابة؛ واستحضره وألحّ عليه بالضّرب حتى نزّقه وعرّقه، وشغله عن ألم الجراحة. قال: وحمل عليه رجل من أهل الشام؛ فلما ظنّ أن الرمح مخالطه؛ مال عن فرسه واتّبع الشأمي، فقال له: أسألك بحرمة الإسلام في دمي! قال: انزل عن فرسك؛ فنزل وركبه الحارث، فقال الشأمي: خذ السرج؛ فوالله إنه خير من الفرس، فقال رجل من عبد القيس: تولت قريش لذة العيش واتقت ** بنا كل فج من خراسان أغبرا فليت قريشًا أصبحوا ذات ليلة ** يعومون في لج من البحر أخضرا قال: وعظم أهل الشام يحيى بن حضين لما صنع في أمر الكتاب الذي كتبه عاصم، وكتبوا كتابًا، وبعثوا مع محمد بن مسلم العنبري ورجل من أهل الشام، فلقوا أسد بن عبد الله بالرّي - ويقال: لقوه بيهق - فقال: ارجعوا فإني أصلح هذا الأمر، فقال له محمد بن مسلم: هدمت داري، فقال: أبنيها لك، وأردّ عليكم كل مظلمة. قال: وكتب أسد إلى خالد ينتحل أنه هزم الحارث، ويخبره بأمر يحيى. قال: فأجاز خالد يحيى بن حضين بعشرة آلاف دينار وكساه مائة حلة. قال: وكانت ولاية عاصم أقل من سنة - قيل كانت سبعة أشهر - وقدم أسد بن عبد الله وقد انصرف الحارث، فحبس عاصمًا وسأله عمّا أنفق، وحاسبه فأخذه بمائة ألف درهم، وقال: إنك لم تغز ولم تخرج من مرو، ووافق عمارة بن حريم وعمّال الجنيد محبوسين عنده؛ فقال لهم: أسير فيكم بسيرتنا أم بسيرة قومكم؟ قالوا: بسيرتك، فخلى سبيلهم. قال علي عن شيوخه: قالوا: لما بلغ هشام بن عبد الملك أمر الحارث ابن سريج، كتب إلى خالد بن عبد الله: ابعث أخاك يصلح ما أفسد؛ فإن كانت رجية فلتكن به. قال: فوجّه أخاه أسدًا إلى خراسان، فقدم أسد وما يملك عاصم من خراسان إلا مرو وناحية أبرشهر، والحارث بن سريح بمرو الروذ وخالد بن عبيد الله الهجري بآمل، ويخاف إن قصد للحارث بمرو الروذ دخل خالد بن عبيد الله مرو من قبل آمل، وإن قصد لخالد دخلها الحارث من قبل مرو الروذ، فأجمع على أن يوجه عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في أهل الكوفة وأهل الشام في طلب الحارث إلى ناحية مرو الروذ. وسار أسد بالناس إلى آمل، عليهم زياد القرشي مولى حيان النبطي عند ركايا عثمان، فهزمهم حتى انتهوا إلى باب المدينة، ثم كروا على الناس، فقتل غلام لأسد بن عبد الله يقال له جبلة؛ وهو صاحب علمه، وتحصنوا في ثلاث مدائن لهم. قال: فنزل عليهم أسد وحصرهم، ونصب عليهم المجانيق، وعليهم خالد ابن عبيد الله الهجري من أصحاب الحارث، فطلبوا الأمان، فخرج إليهم رويد ابن طارق القطعي ومولى لهم، فقال: ما تطلبون؟ قالوا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: فلكم ذلك، قالوا: على ألّا تأخذ أهل هذه المدن بجنايتنا. فأعطاهم ذلك، واستعمل عليهم يحيى ين نعيم الشيباني أحد بني ثعلبة بن شيبان، ابن أخي مصقلة بن هبيرة. ثم أقبل أسد في طريق زمّ يريد مدينة بلخ؛ فتلقاه مولى لمسلم بن عبد الرحمن، فأخبره أنّ أهل بلخ قد بايعوا سليمان بن عبد الله بن خازم. فقدم بلخ، واتّخذ سفنًا وسار منها إلى الترمذ، فوجد الحارث محاصرًا سنانًا الأعرابي السُّلمي، ومعه بنو الحجّاج بن هارون النميري، وبنو زرعة وآل عطية الأعور النضري في أهل الترمذ، والسل مع الحارث، فنزل أسد دون النهر، ولم يطق القطوع إليهم ولا أن يمدّهم، وخرج أهل الترمذ من المدينة، فقاتلوا الحارث قتالًا شديدًا، وكان الحارث استطرد لهم، ثم كرّ عليهم، فانهزموا فقتل يزيد بن الهيثم بن المنخّل وعاصم بن معوّل النجلي في خمسين ومائة من أهل الشام وغيرهم؛ وكان بشر بن جرموز وأبو فاطمة الأيادي ومن كان مع الحارث من القرى يأتون أبواب الترمذ، فيبكون ويشكون بني مروان وجورهم؛ ويسألونهم النزول إليهم على أن يمالئوهم على حرب بني مروان فيأبون عليهم؛ فقال السبل وأتى بلاده. قال: وكان أسد حين مرّ بأرض زمّ تعرض للقاسم الشيباني وهو في حصن بزم يقال له باذكر؛ ومضى حتى أتى الترمذ، فنزل دون النهر، ووضع سريره على شاطىء النهر؛ وجعل الناس يعبرون؛ فمن سفلت سفينته عن سفن المدينة قاتلهم الحارث في سفينة؛ فالتقوا في سفينة فيها أصحاب أسد، فيهم أصغر بن عيناء الحميري، وسفينة أصحاب الحارث فيها داود الأعسر، فرمى أصغر فصكّ السفينة، وقال: أنا الغلام الأحمري، فقال داود الأعسر: لأمرٍ ما انتميت إليه، لا أرض لك! وألزق سفينته بسفينة أصغر فاقتتلوا؛ وأقبل الأشكند - وقد أراد الحارث الانصراف - فقال له: إنما جئتك ناصرًا لك؛ وكمن الأشكند وراء دير؛ وأقبل الحارث بأصحابه؛ وخرج إليه أهل الترمذ، فاستطرد لهم فاتّبعوه، ونصر مع أسد جالس ينظر؛ فأظهر الكراهية، وعرف أنّ الحارث قد كادهم، فظنّ أسد أنه إنما فعل ذلك شفقة على الحارث حين ولّى؛ وفأراد أسد معاتبة نصر؛ فإذا الأشكند قد خرج عليهم؛ فحمل على أهل الترمذ فهربوا. وقتل في المعركة يزيد بن الهيثم بن المنخّل الجرموزي من الأزد وعاصم بن معوّل - وكان من فرسان أهل الشأم - ثم ارتحل أسد إلى بلخ، وخرج أهل الترمذ إلى الحارث فهزموه؛ وقتلوا أبا فاطمة وعكرمة وقومًا من أهل البصائر، ثم سار أسد إلى سمرقند في طريق زم؛ فلما قدم زم بعث إلى الهيثم الشيباني - وهو في باذكر؛ وهو من أصحاب الحارث - فقال: إنكم إنما أنكرتم على قومكم ما كان من سوء سيرتهم؛ ولم يبلغ ذلك النساء ولا استحلال الفروج ولا غلبة المشركين على مثل سمرقند؛ وأنا أريد سمرقند، وعلي عهد الله وذمته ألّا يبدأك مني شر؛ ولك المؤاساة واللطف والكرامة والأمان ولمن معك؛ وأنت إن غمصت ما دعوتك إليه فعلي عهد الله وذمة أمير المؤمنين وذمّة الأمير خالد إن أنت رميت بسهم ألّا أؤمنك بعده؛ وإن جعلت لك ألف أمان لا أفي لك به. فخرج إليه على ما أعطاه من الأمان فآمنه، وسار معه إلى سمرقند فأعطاهم عطاءين، وحملهم على ما كان من دواب ساقها معه، وحمل معه طعامًا من بخارى، وساق معه شاء كثيرة من شاء الأكراد قسمها فيهم؛ ثم ارتفع إلى ورغسر وماء سمرقند منها، فسكر الوادي وصرفه عن سمرقند؛ وكان يحمل الحجارة بيديه حتى يطرحها في السكر، ثم قفل من سمرقند حتى نزل بلخ. وقد زعم بعضهم أن الذي ذكرت من أمر أسد وأمر أصحاب الحارث كان في سنة ثمان عشرة. وحجّ بالناس في هذه السنة خالد بن عبد الملك. وكان العامل فيها على المدينة، وعلى مكة والطائف محمد بن هشام بن إسماعيل، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد. وفيها توفّيت فاطمة بنت علي وسكينة ابنة الحسين بن علي. أمر أسد بن عبد الله مع دعاة بني العباس وفي هذه السنة أخذ أسد بن عبد الله جماعة من دعاة بني العباس بخراسان، فقتل بعضهم، ومثّل ببعضهم، وحبس بعضهم؛ وكان فيمن أخذ سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وموسى بن كعب ولاهز بن قريظ وخالد بن إبراهيم وطلحة بن رزيق؛ فأتى بهم، فقال لهم: يا فسقة، ألم يقل الله تعالى: " عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام "! فذكر أن سليمان بن كثير قال: أتكلم أم أسكت؟ قال: بل تكلم، قال: نحن والله كما قال الشاعر: لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان؛ بالماء اعتصاري تدري ما قصتنا؟ صيدت والله العقارب بيدك أيّها الأمير؛ إنا أناس من قومك، وإن هذه المضرية إنما رفعوا إليك هذا لأنا كنا أشدّ الناس على قتيبة بن مسلم؛ وإنما طلبوا بثأرهم. فتكلم ابن شريك بن الصامت الباهلي، وقال: إنّ هؤلاء القوم قد أخذوا مرة بعد مرة، فقال مالك بن الهيثم: أصلح الله الأمير! ينبغي لك أن تعتبر كلام هذا بغيره؛ فقالوا: كأنك يا أخا باهلة تطلبنا بثأر قتيبة! نحن والله كنا أشدّ الناس عليه؛ فبعث بهم أسد إلى الحبس، ثم دعا عبد الرحمن بن نعيم فقال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تمنّ بهم على عشائرهم؛ قال: فالتميميان اللذان معهم؟ قال: تخلّي سبيلهما، قال: أنا إذًا من عبد الله بن يزيد نفي، قال: فكيف تصنع بالرّبعي؟ قال: أخلّي والله سبيله. ثم دعا بموسى بن كعب وأمر به فألجم بلجام حمار، وأمر باللجام أن يجذب فجذب حتى تحطمت أسنانه، ثم قال: اكسروا وجهه، فدق أنفه، ووجأ لحيته، فندر ضرس له. ثم دعا بلاهز بن قريط، فقال لاهز: والله ما في هذا الحق أن تصنع بنا هذا، وتترك اليمانيين والربعيين، فضربه ثلثمائة سوط، ثم قال: اصلبوه، فقال الحسن بن زيد الأزدي: هو لي جار وهو برىء مما قذف به؛ قال: فالآخرون؟ قال: أعرفهم بالبراءة، فخلى سبيلهم. ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائة ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث فمن ذلك غزوة معاوية وسليمان ابني هشام بن عبد الملك أرض الروم. ولاية عمار بن يزيد على شيعة بني العباس بخراسان وفيها وجّه بكير بن ماهان عمار بن يزيد إلى خراسان واليًا على شيعة بني العباس؛ فنزل - فيما ذكر - مرو، وغيّر اسمه وتسمى بخداش ودعا إلى محمد بن علي؛ فسارع إليه الناس، وقبلوا ما جاءهم به؛ وسمعوا إليه وأطاعوا، ثم غيّر ما دعاهم إليه، وتكذّب وأظهر دين الخرمية؛ ودعا إليه ورخّص لبعضهم في نساء بعض؛ وأخبرهم أن ذلك عن أمر محمد بن علي؛ فبلغ أسد بن عبد الله خبره، فوضع عليه العيون حتى ظفر به، فأتى به؛ وقد تجهز لغزو بلخ؛ فسأله عن حاله، فأغلظ خداش له القول، فأمر به فقطعت يده، وقلع لسانه وسملت عينه. ذكر ما كان من الحارث بن سريج مع أصحابه فذكر علي بن محمد عن أشياخه، قال: لما قدم أسد آمل في مبدئه، أتوه بخداش صاحب الهاشمية، فأمر به قرعة الطبيب، فقطع لسانه، وسمل عينه، فقال: الحمد لله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك! ثم دفعه إلى يحيى بن نعيم الشيباني عامل آمل. فلما قفل من سمرقند كتب إلى يحيى فقتله وصلبه بآمل، وأتى أسد بحزور ملوى المهاجر بن دارة الضبي، فضرب عنقه بشاطىء النهر. ثم نزل أسد منصرفه من سمرقند بلخ، فسرح جديعًا الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحارث وثقل أصحابه - واسم القلعة التبوشكان من طخارستان العليا، وفيها بنو برزى التغلبيون، وهم أصهار الحارث - فحصرهم الكرماني حتى فتحها، فقتل مقاتلتهم وقتل بني برزى، وسبى عامّة أهلها من العرب والموالي والذراري، وباعهم فيمن يزيد في سوق بلخ، فقال علي بن يعلى - وكان شهد ذلك: نقم على الحارث أربعمائة وخمسون رجلًا من أصحابه؛ وكان رئيسهم جرير بن ميمون القاضي؛ وفيهم بشر بن أنيف الحنظلي وداود الأعسر الخوارزمي. فقال الحارث: إن كنتم لابد مفارقي وطلبتم الأمان، فاطلبوه وأنا شاهد؛ فإنه أجدر أن يجيبوكم، وإن ارتحلت قبل ذلك لم يعطوا الأمان، فقالوا: ارتحل أنت وخلّنا. ثم بعثوا بشر بن أنيف ورجلًا آخر، فطلبوا الأمان فأمّنهما أسد ووصلهما، فغدروا بأهل القلعة، وأخبراه أنّ القوم ليس لهم طعامٌ ولا ماءٌ، فسرح أسد الكرماني في ستة آلاف؛ منهم سالم بن منصور البجلي، على ألفين، والأزهر بن جرموز النميري في أصحابه، وجند بلخ وهم ألفان وخمسمائة من أهل الشأم؛ وعليهم صالح بن القعقاع الأزدي؛ فوجّه الكرماني منصور بن سالم في أصحابه، فقطع نهر ضرغام؛ وبات ليله وأصبح، فأقام حتى متع النهار؛ ثم سار يومه قريبًا من سبعة عشر فرسخًا، فأتعب خيله، ثم انتهى إلى كشتم من أرض جبغويه؛ فانتهى إلى حائط فيه زرع قد قصّب، فأرسل أهل العسكر دوابهم فيه، وبينهم وبين القلعة أربعة فراسخ. ثم ارتحل فلما صار إلى الوادي جاءته الطلائع فأخبرته بمجىء القوم ورأسهم المهاجر بن ميمون؛ فلما صاروا إلى الكرماني كابدهم فانصرفوا، وسار حتى نزل جانبًا من القلعة؛ وكان أول ما نزل في زهاء خمسمائة في مسجد كان الحارث بناه؛ فلما أصبح تتامت إليه الخيل، وتلاحقت من أصحاب الأزهر وأهل بلخ. فلما اجتمعوا خطبهم الكرماني، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل بلخ؛ لا أجد لكم مثلًا غير الزانية؛ من أتاها أمكنته من رجلها؛ أتاكم الحارث في ألف رجل من العجم فأمكنتموه من مدينتكم، فقتل أشرافكم، وطرد أميركم. ثم سرتم معه من مكانفيه إلى مرو فخذلتموه، ثم انصرف إليكم منهزمًا فأمكنتموه من المدينة؛ والذي نفسي بيده لا يبلغني عن رجل منكم كتب كتابًا إليهم في سهم إلا قطعت يده ورجله وصلبته؛ فأما من كان معي من أهل مرو فهم خاصتي، ولست أخاف غدرهم، ثم نهد إلى القلعة فأقام بها يومًا وليلة من غير قتال؛ فلما كان من الغد نادى مناد: إنا قد نبذنا إليكم بالعهد؛ فقاتلوهم؛ وقد عطش القوم وجاعوا؛ فسألوا أن ينزلوا على الحكم ويترك لهم نساؤهم وأولادهم، فنزلوا على حكم أسد، فأقام أيامًا. وقدم المهلب بن عبد العزيز العتكي بكتاب أسد، أن احملوا إلي خمسين رجلًا منهم؛ فيهم المهاجر بن ميمون ونظراؤه من وجوههم؛ فحملوا إليهم فقتلهم؛ وكتب إلى الكرماني أن يصيّر الذين بقوا عنده أثلاثًا، فثلث يصلبهم، وثلث يقطع أيديهم وأرجلهم، وثلث يقطع أيديهم؛ ففعل ذلك الكرماني، وأخرج أثقالهم فباعها فيمن يزيد، وكان الذين قتلهم وصلبهم أربعمائة. واتّخذ أسد مدينة بلخ دارًا في سنة ثمان عشرة ومائة، ونقل إليها الدواوين واتخذ المصانع، ثم غزا طخارستان ثم أرض جبغويه، ففتح وأصاب سبيًا. وفي هذه السنة عزل هشام خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم عن المدينة، واستعمل عليها محمد بن هشام بن إسماعيل. ذكر الواقدي أن أبا بكر بن عمرو بن حزم يوم عزل خالد عن المدينة جاءه كتاب بإمرته على المدينة؛ فصعد المنبر، وصلى بالنّاس ستة أيام، ثم قدم محمد بن هشام من مكة عاملًا على المدينة. وفي هذه السنة مات علي بن عبد الله بن العباس؛ وكان يكنى أبا محمد، وكانت وفاته بالحميمة من أرض الشأم؛ وهو ابن ثمان - أو سبع - وسبعين سنة. وقيل إنه ولد في اللية التي ضرب فيها علي بن أبي طالب وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان من سنة أربعين، فسمّاه أبوه عليًا، وقال: سميته باسم أحب الخلق إلي، وكناه أبا الحسن، فلما قدم على عبد الملك بن مروان أكرمه وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته فأخبره، فقال: لا يجتمع في عسكري هذا الاسم والكنية لأحد؛ وسأله: هل وليد له من ولد؟ وكان قد ولد له يومئذ محمد بن علي، فأخبره بذلك، فكناه أبا محمد. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام وهو أمير مكة والمدينة والطائف. وقد قيل إنما كان عامل المدينة في هذه السنة خالد بن عبد الملك، وكان إلى محمد بن هشام فيها مكة والطائف؛ والقول الأول قول الواقدي. وكان على العراق خالد بن عبد الله، وإليه المشرق كله، وعامله على خراسان أخوه أسد بن عبد الله، وعامله على البصرة وأحداثها وقضائها والصّلاة بأهلها بلال بن أبي بردة، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد بن مروان. ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة الوليد بن القعقاع العبسي أرض الروم. وفيها غزا أسد بن عبد الله الختل. فافتتح قلعة زغرزك؛ وسار منها إلى خداش، وملأ يديه من السبتي والشاء؛ وكان الجيش قد هرب إلى الصين. ذكر غزو الترك ومقتل خاقان وفيها لقي أسد خاقان صاحب الترك فقتله، وقتل بشرًا كثيرًا من أصحابه، وسلم أسد والمسلمون، وانصرفوا بغنائم كثيرة وسبي. ذكر الخبر عن هذه الغزوة ذكر علي بن محمد عن شيوخه؛ أنهم قالوا: كتب ابن السائجي إلى خاقان أبي مزاحم - وإنما كنى أبا مزاحم لأنه كان يزاحم العرب - وهو موالث، يعلمه دخول أسد الختل وتفرق جنوده فيها؛ وأنه بحال مضيعة. فلما أتاه كتابه أمر أصحابه بالجهاز - وكان الخاقان مرج وجبل حمىً لا يقربهما أحد، ولا يتصيد فيهما، يتركان للجهاد فضاء، ما كان في المرج ثلاثة أيام، وما في الجبل ثلاثة أيام - فتجهزوا وارتعوا ودبغوا مسوك الصيد؛ واتخذوا منها أوعية؛ واتخذوا القسي والنشاب، ودعا خاقان ببرذون مسرج ملجم، وأمر بشاة فقطعت ثم علقت في المعاليق، ثم أخذ شيئًا من ملح فصيره في كيس، وجعله في منطقته؛ وأمر كلّ تركي أن يفعل مثل ذلك، وقال: هذا زادكم حتى تلقوا العرب بالختل. وأخذ طريق خشوراغ؛ فلما أحسّ ابن السائجي أنّ خاقان قد أقبل بعث إلى أسد: اخرج عن الختل فإن خاقان قد أظلتك. فشتم رسوله، ولم يصدّقه؛ فبعث صاحب الختل: إني لم أكذبك؛ وأنا الذي أعلمته دخولك؛ وتفرّق جندك، وأعلمته أنها فرصة له، وسألته المدد، غير أنك أمعرت البلاد، وأصبت الغنائم؛ فإن لقيك على هذه الحال ظفر بك؛ وعادتني العرب أبدًا ما بقيت. واستطال علي خاقان واشتدّت مؤونته؛ وامتنّ علي بقوله: أخرجتُ العرب من بلادك، ورددت عليك ملكك؛ فعرف أسد أنه قد صدقه، فأمر بالأثقال أن تقدّم، وولّى عليها إبراهيم بن عاصم العقيلي الجزري، الذي كان ولي سجستان بعد، وأخرج معه المشيخة، فيهم كثير ابن أمية وأبو سليمان بن كثير الخزاعي وفضيل بن حيّان المهري وسنان بن داود القطعي، وكان على أهل العالية سنان الأعرابي السلمي، وعلى الأقباض عثمان بن شباب الهمذاني، جدّ قاضي مرو، فسارت الأثقال؛ فكتب أسد إلى داود بن شعيب والأصبغ بن ذؤالة الكلبي - وقد كان وجّههما في وجه: إنّ خاقان قد أقبل، فانضمّا إلى الأثقال؛ إلى إبراهيم بن عاصم. قال: ووقع إلى داود والأصبغ رجل دبوسي، فأشاع أنّ خاقان قد كسر المسلمين، وقتل أسدًا. وقال الأصبغ: إن كان أسد ومن معه أصيبوا فإنّ فينا هشامًا ننحاز إليه؛ فقال داود بن شعيب: قبح الله الحياة بعد أهل خراسان! فقال الأصبغ: حبذا الحياة بعد أهل خراسان! قتل الجرّاح ومن معه فما ضرّ المسلمين كثير ضرّ، فإن هلك أسد وأهل خراسان فلن يخذل الله دينه، وإن الله حي قيوم؛ وأمير المؤمنين حي وجنود المسلمين كثير. فقال داود: أفلا ننظر ما فعل أسد فنخرج على علم! فسارا حتى شارفا عسكر إبراهيم فإذا هما بالنيران، فقال داود: هذه نيران المسلمين أراها متقاربة ونيران الأتراك متفرّقة؛ فقال الأصبغ: هم في مضيق. ودنوا فسمعوا نهيق الحمير، فقال داود: أما علمت أنّ الترك ليس لهم حمير! فقال الأصبغ: أصابوها بالأمس؛ ولم يستطيعوا أكلها في يوم ولا اثنين؛ فقال داود: نسرّح فارسين فيكبّران؛ فبعثا فارسين؛ فلما دنوا من العسكر كبّرا، فأجابهما العسكر بالتكبير، فأقبلوا إلى العسكر الذي فيه الأثقال؛ ومع إبراهيم أهل الصغانيان وصغان خذاه؛ فقام إبراهيم بن عاصم مبادرًا. قال: وأقبل أسد من الختّل نحو جبل الملح يريد أن يخوض نهر بلخ، وقد قطع إبراهيم بن عاصم بالسبي وما أصاب. فأشرف أسد على النهر وقد أتاه أن خاقان قد سار من سوياب سبع عشرة ليلة، فقام إليه أبو تمام بن زحر وعبد الرحمن بن خنفر الأزديّان، فقالا: أصلح الله الأمير! إن الله قد أحسن بلاءك في هذه الغزوة فغنمت وسلمت فاقطع هذه النطفة، واجعلها وراء ظهرك. فأمر بهما فوجئت رقابهما، وأخرجا من العسكر وأقام يومه. فلما كان من الغد ارتحل وفي النهر ثلاثة وعشرون موضعًا يخوضه الناس، وفي موضع مجتمع ماء يبلغ دفتي السرج، فخاضه الناس، وأمر أن يحمل كلّ رجل شاة، وحمل هو بنفسه شاة؛ فقال له عثمان بن عبد الله بن مطرف ابن الشخير: إن الذي أنت فيه من حمل الشاة ليس بأخرط مما تخاف؛ وقد فرّقت الناس وشغلتهم، وقد أظلك عدوّك، فدع هذا الشاء لعنة الله عليه، وأمر الناس بالاستعداد. فقال أسد: والله لا يعبر رجل ليست معه شاة حتى تفنى هذه الغنم إلا قطعت يده، فجعل الناس يحملون الشاء؛ الفارس يحملها بين يديه والراجل على عنقه؛ وخاض الناس. ويقال: لما حفرت سنابك الخيل النهر صار بعض المواضع سباخة فكان بعضهم يميل فيقع عن دابته، فأمر أسد بالشاء أن تقذف، وخاض الناس، فما استكملوا العبور حتى طلعت عليهم الترك بالدّهم، فقتلوا من لم يقطع، وجعل الناس يقتحمون النهر - ويقال كانت المسلحة على الأزد وبني تميم فانكشفوا، وكض أشد حتى انصرف إلى معسكره، وبعث إلى أصحاب الأثقال الذين كان سرح أمامه. أن انزلوا وخندقوا مكانكم في بطن الوادي. قال: وأقبل خاقان، فظنّ المسلمون أنه لا يقطع إليهم وبينهم وبينه النهر؛ فلما نظر خاقان إلى النهر أمر الأشكند - وهو يومئذ أصبهبذ نسف - أن يسير في الصفّ حتى يبلغ أقصاه، ويسأل الفرسان وأهل البصر بالحرب والماء: هل يطاق قطوع النهر والحمل على أسد؟ فكلهم يقول: لا يطاق؛ حتى انتهى إلى الأشتيخن، فقال: بلى يطاق، لأنّا خمسون ألف فارس؛ فإذا نحن اقتحمنا دفعة واحدة ردّ بعضنا عن بعض الماء فذهب جريته. قال: فضربوا بكوساتهم فظنّ أسد ومن معه أنه منهم وعيد، فأقحموا دوابّهم، فجعلت تنخر أشدّ النخير؛ فلما رأى المسلمون اقتحام الترك ولّوا إلى العسكر، وعبرت الترك فسطع رهج عظيم لا يبصر الرجل دابّته، ولا يعرف بعضهم بعضًا؛ فدخل المسلمون عسكرهم وحووا ما كان خارجًا، وخرج الغلمان بالبراذع والعمد، فضربوا وجوه الترك؛ فأدبروا، وبات أسد؛ فلما أصبح - وقد كان عبّأ أصحابه من الليل تخوّفًا من غدر خاقان وغدوّه عليه، ولم ير شيئًا - دعا وجوه الناس فاستشارهم، فقالوا له: اقبل العافية، قال: ما هذه عافية، بل هي بليّة، لقينا خاقان أمس فظفر بنا وأصاب من الجند والسلاح؛ فما منعه منّا اليوم إلا أنه قد وقع في يديه أسراء فأخبروه بموضع الأثقال أمامنا، فترك لقاءنا طمعًا فيها. فارتحل فبعث أمامه الطلائع، فرجع بعضهم فأخبره أنه عاين طوقات الترك وأعلامًا من أعلام الإشكند، في بشر قليل. فسار والدوابّ مثقلة، فقيل له: انزل أيها الأمير واقبل العافية، قال: وأين العافية فأقبلها! إنما هي بليّة وذهاب الأنفس والأموال. فلما أمسى أسد صار إلى منزل، فاستشار الناس: أينزلون أم يسيرون؟ فقال الناس: اقبل العافية؛ وما عسى أن يكون ذهاب المال بعافيتنا وعافية أهل خراسان! ونصر بن سيار مطرق، فقال أسد: مالك يا بن سيار مطرقًا لا تتكلم! قال: أصلح الله الأمير! خلتان كلتاهما لك، إن تسر تغث من مع الأثقال وتخلصهم، وإن أنت انتهيت إليهم وقد هلكوا فقد قطعت قحمة لا بدّ من قطوعها. فقبل رأيه وسار يومه كلّه. قال: ودعا أسد سعيدًا الصغير - وكان فارسًا مولى باهلة. وكان عالمًا بأرض الختل - فكتب كتابًا إلى إبراهيم يأمره بالاستعداد؛ فإنّ خاقان قد توجّه إلى ما قبلك، وقال: سر بالكتاب إلى إبراهيم حيث كان قبل الليل؛ فإن لم تفعل فأسد بريء من الإسلام إن لم يقتلك؛ وإن أنت لحقت بالحارث فعلى أسد مثل الذي حلف، إن لم يبع امرأتك الدلّال في سوق بلخ وجميع أهل بيتك. قال سعيد: فادفع إلي فرسك الكميت الذنوب قال: لعمري لئن جدت بدمك، وبخلت عليك بالفرس إني للئيم. فدفعه إليه. فسار على دابة من جنائبه، وغلامه على فرس له، ومعه فرس أسد يجنبه فلما حاذى الترك وقد قصدوا الأثقال طلبته طلائعهم؛ فتحوّل على فرس أسد، فلم يلحقوه، فأتى إبراهيم بالكتاب، وتبعه بعض الطلائع - يقال عشرون رجلًا - حتى رأوا عسكر إبراهيم، فرجعوا إلى خاقان فأخبروه. فغدا خاقان على الأثقال، وقد خندق إبراهيم خندقًا؛ فأتاهم وهم قيام عليه؛ فأمر أهل السغد بقتالهم؛ فلما دنوا من مسلحة المسلمين ثاروا في وجوههم فهزموهم، وقتلوا منهم رجلًا، فقال خاقان: اركبوا، وصعد خاقان تلًا فجعل ينظر العورة، ووجّه القتال، قال: وهكذا كان يفعل؛ ينفرد في رجلين أو ثلاثة، فإذا رأى عورة أمر جنوده فحملت من ناحية العورة. فلما صعد التلّ رأى خلف العسكر جزيرة دونها مخاضة. فدعا بعض قوّاد الترك، فأمرهم أن يقطعوا فوق العسكر في مقطع وصفه حتى يصيروا إلى الجزيرة، ثم ينحدروا في الجزيرة حتى يأتوا عسكر المسلمين من دبر، وأمرهم أن يبدءوا بالأعاجم وأهل الصغانيان، وأن يدعوا غيرهم؛ فإنهم من العرب، وقد عرفهم بأبنيتهم وأعلامهم، وقال لهم: إن أقام القوم في خندقهم فأقبلوا إليكم دخلنا نحن خندقهم؛ وإن ثبتوا على خندقهم فادخلوا من دبره عليهم. ففعلوا ودخلوا عليهم من ناحية الأعاجم، فقتلوا صغان خذاه وعامّة أصحابه، واحتووا على أموالهم، ودخلوا عسكر إبراهيم فأخذوا عامة ما فيه، وترك المسلمون التعبئة واجتمعوا في موضع، وأحسوا بالهلاك، فإذا رهج قد ارتفع وتربة سوداء؛ فإذا أسد في جنده قد أتاهم، فجعلت الترك ترتفع عنهم إلى الموضع الذي كان فيه خاقان، وإبراهيم يتعجّب من كفتهم وقد ظفروا وقتلوا من قتلوا وأصابوا ما أصابوا، وهو لا يطمع في أسد. قال: وكان أسد قد أغذّ السير، فأقبل حتى وقف على التلّ الذي كان عليه خاقان، وتنحى خاقان إلى ناحية الجبل، فخرج إليه من بقي ممن كان مع الأثقال، وقد قتل منهم بشر كثير؛ قتل يومئذ بركة بن خولي الراسبي وكثير بن أمية ومشيخة من خزاعة. وخرجت امرأة صغان خذاه إلى أسد، فبكت زوجها، فبكى اسد معها حتى علا صوتهن ومضى خاقان يقود الأسراء من الجند في الأوهاق ويسوق الإبل موقرة والجواري. قال: وكان مصعب بن عمرو الخزاعي ونفر من أهل خراسان قد أجمعوا على مواقفتهم، فكفهم أسد، وقال: هؤلاء قوم قد طابت لهم الريح واستكلبوا، فلا تعرّضوا لهم. وكان مع خاقان رجل من أصحاب الحارث بن سريج فأمره فنادى: يا أسد؛ أما كان لك فيما وراء النهر مغزى! إنك لشديد الحرص، قد كان لك عن الختل مندوحة؛ وهي أرض آبائي وأجدادي. فقال أسد: كان ما رأيت؛ ولعلّ الله أن ينتقم منك. قال كورمغانون - وكان من عظماء الترك: لم أر يومًا كان أحسن من يوم الأثقال، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: أصبت أموالًا عظيمة، ولم أر عدوًا أسمج من أسراء العرب؛ يعدو أحدهم فلا يكاد يبرح مكانه. وقال بعضهم: سار خاقان إلى الأثقال، فارتحل أسد؛ فلما أشرف على الظهر، ورأى المسلمين الترك امتنعوا، وقد كانوا قاتلوا المسلمين فامتنعوا، فأتوا الأعاجم الذين كانوا مع المسلمين فقاتلوهم، فأسروا أولادهم. قال: فأردف كلّ رجل منهم وصيفًا أو وصيفة، ثم اقبلوا إلى عسكر أسد عند مغيب الشمس. قال: وسار أسد بالنّاس، حتى نزل مع الثقل. وصبحوا أسدًا من الغد؛ وذلك يوم الفطر، فكادوا يمنعونهم من الصلاة. ثم انصرفوا ومضى أسد إلى بلخ؛ فعسكر في مرجها حتى أتى الشتاء، ثم تفرّق الناس في الدور، ودخل المدينة، ففي هذه الغزاة قيل له بالفارسية: أز ختلان آمديه ** بروتباه آمديه آبار باز آمديه ** خشك نزار آمديه قال: وكان الحارث بن سريج بناحية طخارستان؛ فانضمّ إلى خاقان؛ فلمّا كان ليلة الأضحى قيل لأسد: غنّ خاقان نزل جزّة، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة بلخ، فأصبح أسد فصلى وخطب الناس، وقال: إن عدوّ الله الحارث بن سريج استجلب طاغيته ليطفىء نور الله، ويبدّل دينه، والله مذلّه إن شاء الله. وإن عدوّكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله. وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله؛ وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربّكم، وأخلصوا له الدعاء. ففعلوا ثم رفعوا رءوسهم، وهم لا يشكّون في الفتح، ثم نزل عن المنبر. وضحّى وشاور الناس في المسير إلى خاقان، فقال قوم: أنت شاب، ولست ممن تخوف من غارة، على شاة ودابة تخاطر بخروجك. قال: والله لأخرجنّ؛ فإما ظفر وإما شهادة. ويقال: أقبل خاقان، وقد استمدّ من وراء النهر وأهل طخارستان وجيغويه الطخاري بملوكهم وشاكريتهم بثلاثين ألفًا، فنزلوا خلم، وفيها مسلحة؛ عليها أبو العوجاء بن سعيد العبدي، فناوشهم فلم يظفروا منه بشيء، فساروا على حاميتهم في طريق فيروز بخشين من طخارستان. فكتب أبو العوجاء إلى أسد بمسيرهم. قال: فجمع الناس، فأقرأهم كتاب أبي العوجاء وكتاب الفرافصة صاحب مسلحة جزة بعد مرور خاقان به، فشاور أسد الناس، فقال قوم: تأخذ بأبواب مدينة بلخ، وتكتب إلى خالد والخليفة تستمده. وقال آخرون: تأخذ في طريق زمّ، وتسبق خاقان إلى مرو. وقال قوم: بل تخرج إليهم وتستنصر الله عليهم؛ فوافق قولهم رأي أسد وما كان عزم عليه من لقائهم. ويقال: إن خاقان حين فارق أسدًا، ارتفع حتى صار بأرص طخارستان عند جبغويه، فلمّا كان وسط الشتاء أقبل فمر بجزة، وصار إلى الجوزجان وبثّ الغارات؛ وذلك أن الحارث بن سريج أخبره أنه لا نهوض بأسد، وأنه لم يبق معه كبير جند؛ فقال البختري ابن مجاهد مولى بني شيبان: بل بثّ الخيول حتى تنزل الجوزجان. فلما بثّ الخيل، قال له البحتري: كيف رأيت رأيي؟ قال: وكيف رأيت صنع الله عز وجل حين أخذ برأيك! فأخذ أسد من جبلة بن أبي روّاد عشرين ومائة ألف درهم، وأمر للناس بعشرين عشرين، ومعه من الجنود من أهل خراسان وأهل الشأم سبعة آلاف رجل، واستخلف على بلخ الكرماني بن علي، وأمره ألّا يدع أحدًا يخرج من مدينتها، وإن ضرب الترك باب المدينة. فقال له نصر بن سيار الليثي والقاسم بن بخيت المراغي من الأزد وسليم بن سليمان السلمي وعمرو بن مسلم بن عمرو ومحمد بن عبد العزيز العتكي وعيسى الأعرج الحنظلي والبختري بن أبي درهم البكري وسعيد الأحمر وسعيد الصغير مولى باهلة: أصلح الله الأمير؛ ائذن لنا في الخروج، ولا تهجّن طاعتنا. فأذن لهم ثم خرج فنزل بابًا من أبواب بلخ وضربت له قبة؛ فازتان، وألصق إحداهما بالأخرى، وصلى بالناس ركعتين طوّلهما، ثم استقبل القبلة ونادى في الناس: ادعوا الله؛ وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمّن الناس على دعائه؛ فقال: نصرتم ورب الكعبة! ثم انفتل من دعائه فقال: نصرتم ورب الكعبة إن شاء الله، ثلاث مرات. ثم نادى مناديه: برئت ذمّة الله من رجل حمل امرأة ممّن كان من الجند، قالوا: إنّ أسدًا إنما خرج هاربًا، فخلف أم بكر أم ولده وولده؛ فنظر فإذا جارية على بعير، فقال: سلوا لمن هذه الجارية؟ فذهب بعض الأساورة فسأل ثم رجع، فقال: لزياد بن الحارث البكري - وزياد جالس - فقطّب أسد، وقال: لا تنتهون حتى أسطو بالرجل منكم يكرم علي. فأضرب ظهره وبطنه. فقال زياد: إن كانت لي فهي حرة، لا والله أيّها الأمير ما معي امرأة، فإنّ هذا عدوّ حاسد. وسار أسد، فلما كان عند قنطرة عطاء، قال لمسعود بن عمرو الكرماني، وهو يومئذ خليفة الكرماني على الأزد: ابغني خمسين رجلًا ودابّة أخلفهم على هذه القنطرة، فلا تدع أحدًا ممن جازها أن يرجع إليها، فقال مسعود: ومن أين أقدر على خمسين رجلًا! فأمر به فصرع عن دابته، وأمر بضرب عنقه، فقام إليه قوم فكلموه فكفّ عنه؛ فلما جاز القنطرة نزل منزلًا، فأقام فيه حتى أصبح؛ وأراد المقام يومه، فقال له العذافر بن زيد: ليأتمر الأمير على المقام يومه حتى يتلاحق الناس. قال: فأمر بالرحيل وقال: لا حاجة لنا إلى المتخلّفين، ثم ارتحل، وعلى مقدّمته سالم بن منصور البجلي في ثلثمائة، فلقي ثلثمائة من الترك طليعة لخاقان، فأسر قائدهم وسبعة منهم معه، وهرب بقيّتهم، فأتى به أسد. قال: فبكى التركي، قال: ما يبكيك؟ قال: لست أبكي لنفسي، ولكني أبكي لهلاك خاقان، قال: كيف؟ قال: لأنه قد فرّق جنوده فيما بينه وبين مرو. قال: وسار أسد؛ حتى نزل السدة - قرية ببلخ - وعلى خيل أهل العالية ريحان بن زياد العامري العبدلي من بني عبد الله بن كعب. قال: فعزله، وصيّر على أهل العالية منصور بن سالم، ثم ارتحل من السدة، فنزل خريستان، فسمع أسد صهيل فرس، فقال: لمن هذا؟ فقيل: للعقّار بن ذعير، فتطيّر من اسمه واسم أبيه، فقال: ردّوه، قال: إني مقتول بجرأتي على الترك، قال: أسد: قتلك الله! ثم سار حتى إذا شارف العين الحارّة استقبله بشر بن رزين - أو رزين بن بشر - فقال بشارة ورزانة؛ ما وراءك يا رزين؟ قال: إن لم تغثنا غلبنا على مدينتنا، قال: قل للمقدام بن عبد الرحمن يطاول رمحي، فسار فنزل من مدينة الجوزجان بفرسخين، ثم أصبحنا وقد تراءت الخيلان، فقال خاقان للحارث: من هذا؟ فقال: هذا محمد ابن المثنى واريته؛ ويقال: إن طلائع لخاقان انصرفت إليه فأخبرته. أنّ رهجًا ساطعًا طلع من قبل بلخ، فدعا خاقان الحارث، فقال: ألم تزعم أن أسدًا ليس به نهوض! وهذا رهج قد أقبل من ناحية بلخ، قال الحارث: هذا اللصّ الذي كنت قد أخبرتك أنه من أصحابي. فبعث خاقان طلائع، فقال: انظروا هل ترون على الإبل سريرًا وكراسي؟ فجاءته الطلائع، فأخبروه أنّهم عاينوها، فقال خاقان: اللصوص لا يحملون الأسرّة والكراسي، وهذا أسد قد أتاك. فسار أسد غلوة فلقيه سالم بن جناح، فقال: أبشر أيها الأمير، قد حزرتهم ولا يبلغون أربعة آلاف، وأرجو أن يكون عقيرة الله. فقال المجشّر بن مزاحم، وهو يسايره: أنزل أيها الأمير رجالك؛ فضرب وجه دابته، وقال: لو أطعت يا مجشر ما كنا قدمنا هاهنا، وسار غير بعيد، وقال: يأهل الصباح، انزلوا، فنزلوا وقرّبوا دوابّهم، وأخذوا النبل والقسي. قال: وخاقان في مرج قد بات فيه تلك الليلة. قال: وقال عمرو بن أبي موسى: ارتحل أسد حين صلّى الغداة، فمرّ بالجوزجان وقد استباحها خاقان حتى بلغت خيله الشبورقان. قال: وقصور الجوزجان إذ ذاك ذليلة. قال: وأتاه المقدام بن عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في مقاتلته وأهل الجوزجان - وكان عاملها - فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: أقيموا في مدينتكم، وقال للجوزجان بن الجوزجان: سر معي؛ وكان على التعبئة القاسم بن بخيت المراغي؛ فجعل الأزد وبني تميم والجوجان بن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بن عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين عليهم صغراء بن أحمر، وجعل ربيعة ميسرة، عليهم يحيى بن حضين، وضم إليهم أهل حمص عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، وأهل الأزد وعليهم سليمان بن عمرو المقرىء من حمير؛ وعلى المقدّمة منصور بن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق عليهم حملة بن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد. قال: وعبّى خاقان الحارث بن سريج وأصحابه وملك السغد وصاحب الشاش وخرا بغرة أبا خانا خرّة، جد كاوس وصاحب الختل وجبغويه، والترك كلهم ميمنة. فلمّا التقوا حمل الحارث ومن معه من أهل السغد والبابية وغيرهم على الميسرة، وفيها ربيعة وجندان من أهل الشأم؛ فهزمهم فلم يردهم شيء دون رواق أسد؛ فشدت عليهم الميمنة - وهم الأزد وبنو تميم والجوزجان - فما وصلوا إليهم حتى انهزم الحارث والأتراك، وحمل الناس جمعيًا، فقال أسد: اللهمّ إنهم عصوني فانصرهم؛ وذهب الترك في الأرض عباديد لا يلوون على أحد، فتبعهم الناس مقدار ثلاثة فراسخ يقتلون من يقدرون عليه، حتى انتهوا إلى أغنامهم؛ فاستاقوا أكثر من خمس وخمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة. وأخذ خاقان طريقًا غير الجادّة في الجبل، والحارث بن سريج يحميه، ولحقهم أسد عند الظهر. ويقال: لما واقف أسد خاقان يوم خريستان كان بينهم نهر عميق، فأمر أسد برواقه فرفع، فقال رجل من بني قيس بن ثعلبة: يأهل الشأم؛ أهكذا رأيكم، إذا حضر الناس رفعتم الأبنية! فأمر به فحط، وهاجت ريح الحرب التي تسمى الهفافة، فهزمهم الله، واستقبلوا القبلة يدعون الله ويكبرون. وأقبل خاقان في قريب من أربعمائة فارس عليهم الحمرة، وقال لرجل يقال له سوى: إنما أنت ملك الجوزجان إن أسلمت العرب، فمن رأيت من أهل الجوزجان موليًا فاقتله. وقال الجوزجان لعثمان بن عبد الله الشخير: إني لأعلم ببلادي وطرقها؛ فهل لك في أمر فيه هلاك خاقان ولك فيه ذكر ما بقيت؟ قال: ما هو؟ قال: تتبعني؛ قال: نعم؛ فأخذ طريقًا يسمّى ورادك، فأشرفوا على طوقات خاقان وهم آمنون، فأمر خاقان بالكوسات فضربت ضربة الانصراف. وقد شبت الحرب، فلم يقدر الترك على الانصارف، ثم ضربت الثانية فلم يقدروا، ثم ضربت الثالثة فلم يقدروا لاشتغالهم، فحمل ابن الشخير والجوزجان على الطوقات، وولّى خاقان مدبرًا منهزمًا، فحوى المسلمون عسكرهم وتركوا قدورهم تغلي ونساء من نساء العرب والمواليات ومن نساء الترك، ووحل بخاقان برذونه فحماه الحارث بن سريج. قال: ولم يعلم الناس أنه خاقان، ووجد عسكر الترك مشحونًا من كلّ شيء من آنية الفضة وصنّاجات الترك. وأراد الخصي أن يحمل امرأة خاقان، فأعجلوه عن ذلك، فطعنها بخنجر فوجدوها تتحرّك، فأخذوا خفّها وهو من لبود مضرب. قال: فبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان، واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين. قال: وأقام أسد خمسة أيام. قال: فكانت الخيول التي فرّق تقبل فيصيبهم أسد، فاغتنم الظفر وانصرف إلى بلخ يوم التاسع من خروجه، فقال ابن السجف المجاشعي: لو سرت في الأرض تقيس الأرضا ** تقيس منها طولها والعرضا لم تلق خيرًا مرة ونقضا ** من الأمير أسد وأمضى أفضى إلينا، الخير حين أفضى ** وجمع الشمل وكان رفضا ما فاته خاقان إلا ركضا ** قد فض من جموعه ما فضا يا بن سريج قد لقيت حمضًا ** حمضًا به يشفى صداع المرضى قال: وارتحل أسد، فنزل جزّة الجوجان من غد، وخاقان بها، فارتحل هاربًا منه. وندب أسد الناس، فانتدب ناس كثير من أهل الشأم وأهل العراق، فاستعمل عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، فساروا ونزلوا مدينة تسمّى ورد من أرض جزّة، فباتوا بها فأصابهم ريح ومطر - ويقال: أصابهم الثلج - فرجعوا. ومضى خاقان فنزل على جبغويه الطخاري، وانصرف البهراني إلى أسد، ورجع أسد إلى بلخ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو الروذ منصرفة لتغير على بلخ، فقتلوا من قدروا عليه منهم؛ وكان الترك قد بلغوا بيعة مرو الروذ، وأصاب أسد يومئذ أربعة آلاف درع؛ فلما صار ببلخ أمر الناس بالصّوم لافتتاح الله عليهم. قال: وكان أسد يوجّه الكرماني في السرايا، فكانوا لا يزالون يصيبون الرجل والرجلين والثلاثة وأكثر من الترك؛ ومضى خاقان إلى طخارستان العليا، فأقام عند جبغويه الخزلخي تعززًا به، وأمر بصنيعة الكوسات، فلما جفّت وصلحت أصواتها ارتحل إلى بلاده؛ فلما ورد شروسنة، تلقّاه خرابغره أبو خاناخره، جدّ كاوس أبي أفشين باللعانين، وأعدّ له هدايا ودوابّ له ولجنده - وكان الذي بينهما متباعدًا - فلما رجع منهزمًا أحب أن يتخذ عنده يدًا، فأتاه بكلّ ما قدر عليه. ثم أتى خاقان بلاده، وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند، وحمل الحارث بن سريج وأصحابه على خمسة آلاف برذون، وفرّق براذين في قوّاد الترك، فلاعب خاقان يومًا كورصول بالنّرد على خطر تدرجة، فقمر كورصول الترقشي، فطلب منه التدرجة، فقال: أنثى، فقال: الآخر ذكر؛ فتنازعا، فكسر كورصول يد خاقان، فحلف خاقان ليكسرنّ يد كورصول؛ وبلغ كورصول، فتنحّى وجمع جمعًا من أصحابه، فبيت خاقان فقتله؛ فأصبحت الترك فتفرقوا عنه وتركوه مجرّدًا، فأتاه زريق بن طفيل الكشاني وأهل بيت الحموكيين - وهم من عظماء الترك - فحمله ودفنه، وصنع به ما يصنع بمثله إذا قتل. فتفرّقت الترك في الغارات بعضها على بعض، وانحاز بعضهم إلى الشاش؛ فعند ذلك طمع أهل السغد في الرجعة إليها. قال: فلم يسلم من خيل الترك التي تفرّقت في الغارات إلا زرّ بن الكسي، فإنه سلم حتى صار إلى طخارستان، وكان أسد بعث من مدينة بلخ سيف بن وصّاف العجلي على فرس، فسار حتى نزل الشبورقان. قال: وفيها إبراهيم بن هشام مسلحة، فحمله منها على البريد حتى قدم على خالد بن عبد الله، فأخبره، ففظع به هشام فلم يصدّقه، وقال للربيع حاجبه: ويحك! إن هذا الشيخ قد أتانا بالطامّة الكبرى إذا كان صادقًا؛ ولا أراه صادقًا، اذهب فعده ثم سله عمّا يقوله وأتني بما يقول. فانطلق إليه ففعل الذي أمره به، فأخبره بالذي أخبر به هشامًا. قال: فدخل عليه أمر عظيم؛ فدعا به بعد، فقال: من القاسم بن بخيت منكم؟ قال: ذلك صاحب العسكر، قال: فإنه قد أقبل، قال: فإن كان قد أقبل فقد فتح الله على أمير المؤمنين - وكان أسد وجّهه حين فتح الله عليه - فأقبل القاسم بن بخيت، فكبّر على الباب، ثم دخل يكبر وهشام يكبّر لتكبيره، حتى انتهى إليه، فقال: الفتح يا أمير المؤمنين؛ وأخبره الخبر، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر؛ وهي واحدة عندهم. قال: فحسدت القيسيّة أسدًا وخالدًا؛ وأشاروا على هشام أن يكتب إلى خالد بن عبد الله، فيأمر أخاه أن يوجه مقاتل بن حيّان، فكتب إليه، فدعا أسد مقاتل بن حيّان على رءوس الناس، فقال: سر إلى أمير المؤمنين فأخبره بالذي عاينت وقل الحق؛ فإنك لا تقول غير الحقّ إن شاء الله، وخذ من بيت المال حاجتك. قالوا: إذًا لا يأخذ شيئًا، قال: أعطه من المال كذا وكذا، ومن الكسوة كذا وكذا، وجهزه. فسار فقدم على هشام بن عبد الملك وهو والأبرش جالسان، فسأله فقال: غزونا الختل، فأصبنا أمرًا عظيمًا، وأنذر أسد بالترك فلم نحفل بهم حتى لحقوا واستنقذوا من غنائمنا، واستباحوا بعض عسكرنا، ثم دفعونا دفعة قريبًا من خلم، فانتهى الناس إلى مشاتيهم، ثم جاءنا مسير خاقان إلى الجوزجان، ونحن قريبو العهد بالعدوّ؛ فسار بنا حتى التقينا برستاق بيننا وبين أرض الجوزجان، فقاتلناهم وقد حازوا ذراري من ذراري المسلمين، فحملوا على ميسرتنا فكشفوهم. ثم حملت ميمنتنا عليهم، فأعطانا الله عليهم الظفر، وتبعناهم فراسخ حتى استبحنا عسكر خاقان؛ فأجلي عنه - وهشام متكىء فاستوى جالسًا عند ذكره عسرك خاقان - فقال ثلاثًا: أنتم استبحتم عسكر خاقان! قال: نعم، قال: ثمّ ماذا؟ قال: دخلوا الختل وانصرفوا. قال هشام: إن أسدًا لعضيف، قال: مهلًا يا أمير المؤمنين؛ ما أسدٌ بضعيف وما أطاق فوق ما صنع، فقال له هشام: حاجتك؟ قال: إن يزيد بن المهلب أخذ من أبي حيّان مائة ألف درهم بغير حقّ؛ فقال له هشام: لا أكلفك شاهدًا، احلف بالله إنه كما قلت، فحلف، فردّها عليه من بيت مال خراسان؛ وكتب إلى خالد أن يكتب إلى أسد فيها؛ فكتب إليه، فأعطاه أسد مائة ألف درهم، فقسمها بين ورثة حيّان على كتاب الله وفرائضه. ويقال: بل كتب إلى أسد أن يستخبر عن ذلك، فإن كان ما ذكر حقًا أعطى مائة ألف درهم. وكان الذي جاء بفتح خراسان إلى مرو عبد السلام بن الأشهب بن عتبة الحنظلي. قال: فأوفد أسد إلى خالد بن عبد الله وفدًا في هزيمته يوم سان، ومعهم طوقات خاقان ورءوس من قتلوا منهم، فأوفدهم خالد إلى هشام، فأحلفهم أنهم صدقوا، فحلفوا، فوصلهم، فقال أبو الهندي الأسدي لأسد يذكر وقعة سان: أبا منذر رمت الأمور فقستها ** وساءلت عنها كالحريص المساوم فما كان ذو رأي من الناس قسته ** برأيك إلا مثل رأي البهائم أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ** عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم ولا حج بيت الله مذ حج راكبولا عمر البطحاء بعد المواسم فكم من قتيل بين سان وجزة ** كثير الأيادي من ملوك قماقم تركت بأرض الجوزجان تزوره ** سباع وعقبان لحز الغلاصم وذي سوقة فيه من السيف خطة ** به رمق حامت عليه الحوائم فمن هارب منا ومن دائن لنا ** أسير يقاسي مبهمات الأداهم فدتك نفوس من تميم وعامر ** ومن مضر الحمراء عند المآزم هم أطمعوا خاقان فينا فأصبحت ** جلائبه ترجو احتواء المغانم قال: وكان السبل أوصى عند موته ابنّ السائجي حين استخلفه بثلاث خصال، فقال: لا تستطل على أهل الختل استطالتي التي كانت عليهم؛ فإني ملك ولست بملك؛ إنما أنت رجل منهم، فلا يحتملون لك ما يحتلمون للملوك، ولا تدع أن تطلب الجيش حتى تردّه إلى بلادكم، فإنه الملك بعدي والملوك هم النظام، والناس ما لم يكن لهم نظام طغام، ولا تحاربوا العرب واحتالوا لهم كلّ حيلة تدفعونهم بها عن أنفسكم ما قدرتم. فقال له ابن السائجي: أما ما ذكرت من تركي الاستطالة على أهل الختل فإني قد عرفت ذلك، وأما ما أوصيت من ردّ الجيش فقد صدق الملك، وأما قولك: لا تحاربوا العرب، فكيف تنهى عن حربهم، وقد كنت أكثر الملوك لهم محاربة! قال: قد أحسنت إذ سألت عما لا تعلم؛ إني قد جرّبت قوّتكم بقوّتي، فلم أجدكم تقعون مني موقعًا، فكنت إذا حاربتهم لم أفلت منهم إلا جريضًا، وإنكم إن حاربتموهم هلكتم في أول محاربتكم إياهم. قال وكان الجيش، قد هرب إلى الصين، وابن السائجي الذي أخبر أسد بن عبد الله بمسير خاقان إليه، فكره محاربة أسد. ذكر الخبر عن مقتل المغيرة بن سعيد ونفر معه وفي هذه السنة خرج المغيرة بن سعيد وبيان في نفر، فأخذهم خالد فقتلهم. ذكر الخبر عن مقتلهم أما المغيرة بن سعيد، فإنه كان - فيما ذكر - ساحرًا. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، قال: سمعت المغيرة بن سعيد، يقول: لو أردت أن أحيي عادًا أو ثمودًا وقرونًا بين ذلك كثيرًا لأحييتهم. قال الأعمش: وكان المغيرة يخرج إلى المقبرة فيتكلم، فيرى مثل الجراد على القبور؛ أو نحو هذا من الكلام. وذكر أبو نعيم، عن النضر بن محمد، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: قدم علينا رجل من أهل البصرة يطلب العلم؛ فكان عندنا، فأمرتُ جاريتي يومًا أن تشتري لي سمكًا بدرههمين، ثم انطلقت أنا والبصري إلى المغيرة بن سعيد، فقال لي: يا محمد، أتحب أن أخبرك، لم افترق حاجباك؟ قلت: لا، قال أفتحبّ أن أخبرك لم سماك أهلك محمدًا؟ قلت: لا، قال: أما إنك قد بعثت خادمك يشتري لك سمكًا بدرهمين. قال: فنهضنا عنه. قال أبو نعيم: وكان المغيرة قد نظر في السحر، فأخذه خالد القسري فقتله وصلبه. وذكر أبو زيد أن أبا بكر بن حفص الزهري، قال: أخبرني محمد بن عقيل، عن سعيد بن مرادابند، مولى عمرو بن حريث، قال: رأيت خالدًا حين أتى بالمغيرة وبيان في ستة رهط أو سبعة، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع، وأمر بأطنان قصب ونفط فأحضرا، ثم أمر المغيرة أن يتناول طنًا فكع عنه وتأنّى، فصبت السياط على رأسه، فتناول طنًا فاحتضنه، فشد عليه، ثم صب عليه وعلى الطن نفط، ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا، ثم أمر الرهط ففعلوا، ثم أمر بيانًا آخرهم فقدم إلى الطنّ مبادرًا فاحتضنه، فقال خالد: ويلكم! في كل أمر تحمقون، هلا رأيتم هذا المغيرة! ثم أحرقه. قال أبو زيد: لما قتل خالد المغيرة وبيانًا أرسل إلى مالك بن أعين الجهني فسأله فصدّقه عن نفسه، فأطلقه، فلما خلا مالك بمن يثق به - وكان فيهم أبو مسلم صاحب خراسان - قال: ضربت له بين الطريقين لا حبًا ** وطنت عليه الشمس فيمن يطينها وألقيته في شبهة حين سالني ** كما اشتبها في الخط سين وشينها فقال أبو مسلم حين ظهر أمره: لو وجدته لقتلته بإقراره على نفسه. قال أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: خرج المغبرة بن سعيد في سبعة نفر، وكانوا يدعون الوصفاء، وكان خروجهم بظهر الكوفة، فأخبر خالد القسري بخروجهم وهو على المنبر، فقال: أطعموني ماء، فنعى ذلك عليه ابن نوفل، فقال: أخالد لا جزاك الله خيرًا ** وأير في حرامك من أمير تمنى الفخر في قيس وقسر ** كأنك من سراة بني جرير وأمك علجة وأبوك وغد ** وما الأذناب عدلًا للصدور جرير من ذوي يمن أصيل ** كريم الأصل ذو خطر كبير وأنت زعمت أنك من يزيد ** وقد أدحقتم دحق العبور وكنت لدى المغيرة عبد سوء ** تبول من المخافة للزئير وقلت لما أصابك: أطعموني ** شرابًا ثم بلت على السرير لأعلاج ثمانية وشيخ ** كبير السن ليس بذي نصير خبر مقتل بهلول بن بشر وفي هذه السنة حكّم بهلول بن بشر الملقب كثارة فقتل ذكر الخبر عن مخرجه ومقتله ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن بهلولًا كان يتألّه، وكان له قوت دانق، وكان مشهورًا بالبأس عند هشام بن عبد الملك، فخرج يريد الحج، فأمر غلامه أن يبتاع له خلًا بدرهم، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاءه غلامه بخمر، فأمر بردّها وأخذ الدراهم، فلم يجب إلى ذلك، فجاء بهلول إلى عامل القرية - وهي من السواد - فكلّمه، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك؛ فمضى بهلول في حجّه حتى فرغ منه، وعزم على الخروج على السلطان، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه، فاتعدعوا قرية من قرى الموصل، فاجتمع بها أربعون رجلًا، وأمّروا عليهم البهلول، وأجمعوا على ألّا يمرّوا بأحد إلا أخبروه أنّهم أقبلوا من عند هشام على بعض الأعمال، ووجّههم إلى خالد لينفذهم في أعمالهم، فجعلوا لا يمرّون بعامل إلا أخبروه بذلك. وأخذوا دوابّ من دوابّ البريد، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع فيها الغلام الخلّ فأعطى خمرًا، قال بهلول: نبدأ بهذا العامل الذي قال ما قال؛ فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد؛ فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره؛ فننشدك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد؛ ويبني البيع والكنائس، ويولى المجوس على المسلمين، وينكح أهل الذمة المسلمات؛ لعلنا نقتله فيريح الله منه. قال: والله لا أدع ما يلزمني لما بعده؛ وأرجو أن أقتل هذا الذي قال لي ما قال وأدرك خالدًا فأقتله؛ وإن تركت هذا وأتيت خالدًا شهر أمرنا فأفلت هذا، وقد قال الله عز وجل: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة "، قالوا: أنت ورأيك. فأتاه فقتله، فنذر بهم الناس وعلموا أنهم خوارج، وابتدروا إلى الطريق هرابًا، وخرجت البرد إلى خالد فأخبروه أن خارجة قد خرجت؛ وهم لا يدرون حينئذ من رئيسهم. فخرج خالد من واسط حتى أتى الحيرة وهو حينئذ في الحلق، وقد قدم في تلك الأيام قائد من أهل الشأم من بني القين في جيش قد وجهوا مددًا لعامل خالد على الهند، فنزلوا الحيرة، فلذلك قصدها خالد، فدعا رئيسهم فقال: قاتل هؤلاء المارقة؛ فإنّ من قتل منهم رجلًا أعطيته عطاء سوى ما قبض بالشأم، وأعفيته من الخروج إلى أرض الهند - وكان الخروج إلى أرض الهند شاقًا عليهم - فسارعوا إلى ذلك، فقالوا: نقتل هؤلاء النفر ونرجع إلى بلادنا. فتوجه القيني إليهم في ستمائة، وضمّ إليهم خالد مائتين من شرط الكوفة، فالتقوا على الفرات، فعبّأ القيني أصحابه، وعزل شرط الكوفة، فقال: لا تكونوا معنا - وإنما يريد في نفسه أن يخلو هو وأصحابه بالقوم فيكون الظفر لهم دون غيرهم لما وعدهم خالد - وخرج إليهم بهلول، فسأل عن رئيسهم حتى عرف مكانه، ثم تنكر له، ومعه لواء أسود، فحمل عليه فطعنه في فرج درعه؛ فأنفذه. فقال: قتلتني قتلك الله! فقال بهلول: إلى النار أبعدك الله. وولّى أهل الشأم مع شرط أهل الكوفة منهزمين حتى بلغوا باب الكوفة، وبهلول وأصحابه يقتلونهم. فأما الشاميون فإنهم كانوا على خيل جياد ففاتوه؛ وأما شرط الكوفة فإنه لحقهم، فقالوا: اتق الله فينا فإنا مكرهون مقهورون؛ فجعل يقرع رءوسهم بالرمح، ويقول: الحقوا! النجاء النجاء! ووجد البهلول مع القيني بدرة فأخذها. وكان بالكوفة ستة نفر يرون رأي البهلول، فخرجوا إليه يريدون اللحاق به فقتلوا، وخرج إليهم البهلول وحمل البدرة بين يديه، فقال: من قتل هؤلاء النفر حتى أعطيه هذه الدراهم؟ فجعل هذا يقول: أنا، وهذا يقول: أنا؛ حتى عرفهم؛ وهم يرون أنه من قبل خالد جاء ليعطيهم مالًا لقتلهم من قتلوا. فقال بهلول لأهل القرية: أصدق هؤلاء، هم قتلوا النفر؟ قالوا: نعم؛ وخشي بهلول أنهم ادّعوا ذلك طمعًا في المال، فقال لأهل القرية: انصرفوا أنتم؛ وأمر بأولئك فقتلوا، وعاب عليه أصحابه فحاجّهم، فأقرّوا له بالحجّة. وبلغت هزيمة القوم خالدًا وخبر من قتل من أهل صريفين، فوجّه قائدًا من بني شيبان أحد بني حوشب بن يزيد بن رويم؛ فلقيهم فيما بين الموصل والكوفة، فشدّ عليهم البهلول، فقال: نشدتك بالرحم! فإني جانح مستجير! فكفّ عنه؛ وانهزم أصحابه، فأتوا خالدًا وهو مقيم بالحيرة ينتظر، فلم يرعه إلا الفلّ قد هجم عليه؛ فارتحل البهلول من يومه يريد الموصل؛ فخافه عامل الموصل، فكتب إلى هشام: إنّ خارجة خرجت فعاثت وأفسدت؛ وأنه لا يأمن على ناحيته، ويسأله جندًا يقاتلهم به؛ فكتب إليه هشام: وجّه إليهم كثارة بن بشر - وكان هشام لا يعرف البهلول إلا بلقبه - فكتب إليه العامل: إن الخارج هو كثارة. قال: ثم قال البهلول لأصحابه: إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئًا - يعني خالدًا - وما خرجت إلا لله، فلم لا نطلب الرأس الذي يسلط خالدًا وذوي خالد! فتوجّه يريد هشامًا بالشام، فخاف عمال هشام موجدته إن تركوه يجوز بلادهم حتى ينتهي إلى الشأم، فجند له خالد جندًا من أهل العراق، وجنّد له عامل الجزيرة جندًا من أهل الجزيرة، ووجه إليه هشام جندًا من أهل الشأم؛ فاجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل، وأقبل بهلول حتى انتهى إليهم - ويقال: التقوا بالكحيل دون الموصل - فأقبل بهلول، فنزل على باب الدير، فقالوا له: تزحزح عن باب الدير حتى نخرج إليك، فتنحّى وخرجوا؛ فلما رأى كثرتهم وهو في سبعين جعل من أصحابه ميمنة وميسرة، ثم أقبل عليهم فقال: أكلّكم يرجو أن يقتلنا ثم يأتي بلده وأهله سالمًا؟ قالوا: إنا نرجو ذلك إن شاء الله، فشدّ على رجل منهم فقتله، فقال: أما هذا فلا يأتي أهله أبدًا؛ فلم يزل ذلك ديدنه حتى قتل منهم ستة نفر؛ فانهزموا، فدخلوا الديّر فحاصرهم، وجاءتهم الأمداد فكانوا عشرين ألفًا، فقال له أصحابه: ألا نعقر دوابّنا، ثم نشدّ عليهم شدة واحدة؟ فقال: لا تفعلوا حتى نبلي الله عذرًا ما استمسكنا على دوابّنا، فقاتلوهم يومهم ذلك كله إلى جنح العصر حتى أكثروا فيهم القتل والجراح. ثم إن بهلولا وأصحابه عقروا دوابّهم وترجّلوا، وأصلتوا لهم السيوف، فأوجعوا فيهم؛ فقتل عامة أصحاب بُهلول وهو يقاتل ويذود عن أصحابه، وحمل عليه رجل من جديلة قيس يكنى أبا الموت، فطعنه فصرعه، فوافاه من بقي من أصحابه، فقالوا له: ولّ أمرنا من بعدك من يقوم به، فقال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني، فإن هلك دعامة فأمير المؤمنين عمرو اليشكري، وكان أبو الموت إنما ختل البهلول. ومات بهلول من ليلته، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلّاهم، فقال رجل من شعرائهم: لبئس أمير المؤمنين دعامة ** دعامة في الهيجاء شر الدعائم وقال الضحاك بن قيس يرثي بهلولًا، ويذكر أصحابه: بدلت بعد أبي بشر وصحبته ** قومًا علي مع الأحزاب أعوانًا كأنهم لم يكونوا من صحابتنا ** ولم يكونوا لنا بالأمس خلانًا يا عين أذري دموعًا منك تهتانا ** وابكى لنا صحبةً بانوا وإخوانا خلّوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ** وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا قال أبو عبيدة: لما قتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل. ثم خرج العنزي صاحب الأشهب - وبهذا كان يعرف - على خالد في ستّين، فوجّه إليه خالد السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف، فالتقوا بناحية الفرات. فشدّ العنزي على السمط، فضربه بين أصابعه فألقى سيفه، وشلّت يده. وحمل عليهم فانهزمت الحروريّة فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم، فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم. قال أبو عبيدة: ثم خرج وزير السختياني على خالد في نفر؛ وكان مخرجه بالحيرة، فجعل لا يمرّ بقرية إلا أحرقها، ولا أحد إلا قتله؛ وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال، فوجّه إليه خالد قائدًا من أصحابه وشرطًا من شرط الكوفة، فقاتلوه وهو في نفير؛ فقاتل حتى قتل عامة أصحابه، وأثخن بالجراح؛ فأخذ مؤتثًا، فأتى به خالد، فأقبل على خالد فوعظه، وتلا عليه آيات من القرآن. فأعجب خالدًا ما سمع منه، فأمسك عن قتله وحبسه عنده، وكان لا يزال يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه ويسائله، فبلغ ذلك هشامًا وسعي به إليه، وقيل: أخذ حروريًا قد قتل وحرق وأباح الأموال، فاستبقاه فاتّخذه سميرًا. فغضب هشام، وكتب إلى خالد يشتمه، ويقول: لا تستبق فاسقًا قتل وحرق، وأباح الأموال؛ فكان خالد يقول: إني أنفس به عن الموت لما كان يسمع من بيانه وفصاحته. فكتب فيه إلى هشام يرقق من أمره - ويقال: بل لم يكتب ولكنه كان يؤخّر أمره ويدفع عنه - حتى كتب إليه هشام يؤنبه ويأمره بقتله وإحراقه؛ فلما جاءه أمر عزيمة لا يستطيع دفعه بعث إليه وإلى نفر من أصحابه كانوا أخذوا معه؛ فأمر بهم فأدخلوا المسجد، وأدخلت أطنان القصب فشدّوا فيها، ثم صبّ عليهم النفط، ثم أخرجوا فنصبوا في الرحبة. ورموا بالنّيران؛ فما منهم أحد إلا من اضطرب وأظهر جزعًا، إلا وزيرًا فإنه لم يتحرك، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات. وفي هذه السنة غزا أسد بن عبد الله الختل. وفيها قتل أسد بدرطرخان ملك الختل. ذكر الخبر عن غزوة أسد الختل هذه الغزوة وسبب قتله بدرطرخان ذكر علي بن محمد عن أشياخه الذين ذكرناهم قبل أنهم قالوا: غزا أسد ابن عبد الله الختل وهي غزوة بدرطرخان، فوجه مصعب بن عمرو الخزاعي إليها، فلم يزل مصعب يسير حتى نزل بقرب بدرطرخان؛ فطلب الأمان على أن يخرج إلى أسد. فأجابه مصعب، فخرج إلى أسد فطلب منه أشياء فامتنع، ثم سأله بدرطرخان أن يقبل منه ألف ألف درهم، فقال له أسد: إنك رجل غريب من أهل الباميان، اخرج من الختل كما دخلتها. فقال له بدرطرخان: دخلت أنت خراسان على عشرة من المحذفة، ولو خرجت منها اليوم لم تستقلّ على خمسمائة بعير؛ وغير ذلك أني دخلت الختل بشيء فاردده علي حتى أخرج منها كما دخلتها. قال: وما ذاك؟ قال: دخلتها شابًا فكسبت المال بالسيف، ورزق الله أهلًا وولدًا، فاردد علي شبابي حتى أخرج منها؛ هل ترى أن أخرج من أهلي وولدي! فما بقائي بعد أهلي وولدي! فغضب أسد. قال: وكان بدرطرخان يثق بالأمان، فقال له أسد: أختم في عنقك؛ فإني أخاف عليك معرّة الجند، قال: لست أريد ذلك؛ وأنا أكتفي من قبلك برجل يبلغ بي مصعبًا. فأبى أسد إلّا أن يختم في عنقه، فختم في رقبته ودفعه إلى أبي الأسد مولاه، فسار به أبو الأسد، فانتهى إلى عسكر المصعب عند المساء. وكان سلمة بن أبي عبد الله في الموالي مع مصعب، فوافى أبو الأسد سلمة، وهو يضع الدرّاجة في موضعها، فقال سلمة لأبي الأسد: ما صنع الأمير في أمر بدرطرخان؟ فقصّ الذي عرض عليه بدرطرخان وإباء أسد ذلك، وسرحه معه إلى المصعب ليدخله الحصن. فقال سلمة: إن الأمير لم يصب فيما صنع، وسينظر في ذلك ويندم؛ إنما كان ينبغي له أن يقبض ما عرض عليه أو يحبسه فلا يدخله حصنه؛ فإنا إنما دخلناه بقناطر اتّخذناها، ومضايق أصلحناها؛ وكان يمنعه أن يغير علينا رجاء الصلح؛ فأما إذ يئس من الصلح فإنه لا يدع الجهد. فدعه الليلة في قبّتي؛ ولا تنطلق به إلى مصعب؛ فإنه ساعة ينظر إليه يدخله حصنه. قال: فأقام أبو الأسد وبدرطرخان معه في قبّة سلمة، وأقبل أسد بالناس في طريق ضيّق، فتقطّع الجند، ومضى أسد حتى انتهى إلى نهر وقد عطش - ولم يكن أحد من خدمه - فاستسقى؛ وكان السغدي بن عبد الرحمن أبو طعمة الجرمي معه شاكري له، ومع الشاكري قرن تبتي؛ فأخذ السغدي القرن؛ فجعل فيه سويقًا، وصبّ عليه ماء من النهر، وحركه وسقى أسدًا وقومًا من رؤساء الجند، فنزل أسد في ظلّ شجرة، ودعا برجل من الحرس، فوضع رأسه في فخذه، وجاء المجشّر بن مزاحم السلمي يقود فرسه حتى قعد تجاهه حيث ينظر أسدًا، فقال أسد: كيف أنت يا أبا العدبسّ؟ قال: كنت أمس أحسن حالًا منّي اليوم، قال: وكيف ذاك؟ قال: كان بدرطرخان في أيدينا وعرض ما عرض؛ فلا الأمير قبل منه ما عرض عليه ولا هو شدّ يده عليه؛ لكنه خلّى سبيله؛ وأمر بإدخاله حصنه لما عنده - زعم - من الوفاء. فندم أسد عند ذلك، ودعا بدليل من أهل الختّل ورجل من أهل الشأم نافذ، فاره الفرس فأتى بهما، فقال للشامي: إن أنت أدركت بدرطرخان قبل أن يدخل حصنه فلك ألف درهم، فتوجّها حتى انتهيا إلى عسكر مصعب؛ فنادى الشأمي: ما فعل العلج؟ قيل: عند سلمة، وانصرف الدليل إلى أسد بالخبر، وأقام الشامي مع بدرطرخان في قبة سلمة، وبعث أسد إلى بدرطرخان فحوّله إليه فشتمه، فعرف بدرطرخان أنه قد نقض عهده، فرفع حصاة فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد الله؛ وأخذ أخرى فرمى بها إلى السماء، وقال: هذا عهد محمد صلى الله عليه، وأخذ يصنع كذلك بعهد أمير المؤمنين وعهد المسلمين؛ فأمر أسد بقطع يده، وقال أسد: من هاهنا من أولياء أبي فديك؟ رجل من الأزد قتله بدرطرخان، فقام رجل من الأزد فقال: أنا، قال: اضرب عنقه؛ ففعل. وغلب أسد على القلعة العظمى، وبقيت قلعة فوقها صغيرة فيها ولده وأمواله، فلم يوصل إليهم، وفرق أسد الخيل في أودية الختل. قال: وقدم أسد مرو، وعليها أيوب بن أبي حسان التميمي. فعزله واستعمل خالد بن شديد، ابن عمه. فلما شخص إلى بلخ بلغه أنّ عمارة بن حريم تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فكتب إلى خالد بن شديد احمل عمارة على طلاق ابنة يزيد؛ فإن أبي فاضربه مائة سوط؛ فبعث إليه فأتاه وعنده العذافر بن زيد التميمي، فأمره بطلاقها، ففعل بعد إباء منه؛ وقال عذافر: عمارة والله فتى قيس وسيّدها، وما بهاعليه أبّهة؛ أي ليست بأشراف منه. فتوفّي خالد بن شديد، واستخلف الأشعث بن جعفر البجلي. ظهور الصحاري بن شبيب الخارجي وفيها شرى الصحاري بن شبيب، وحكم بجبل. ذكر خبره ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أن الصحاري بن شبيب أتى خالدًا يسأله الفريضة، فقال: وما يصنع ابن شبيب بالفريضة! فودّعه ابن شبيب، ومضى، وندم خالد وخالف أن يفتق عليه فتقًا، فأرسل إليه يدعوه، فقال: أنا كنت عنده آنفًا؛ فأبوا أن يدعوه، فشدّ عليهم بسيفه، فتركوه فركب وسار حتى جاوز واسطًا، ثم عقر فرسه وركب زورقًا ليخفي مكانه، ثم قصد إلى نفر من بني تيم اللات بن ثعلبة، كانوا بجبل، فأتاهم متقلدًا سيفًا فأخبرهم خبره وخبر خالد، فقالوا له: وما كنت ترجو بالفريضة! كنت لأن تخرج إلى ابن النصرانية فتضربه بسيفك أحرى. فقال: إني والله ما أردت الفريضة، وما أردت إلا التوصّل إليه لئلا ينكرني، ثم أقتل ابن النصرانيّة غيلة بقتله فلانًا - وكان خالد قبل ذلك قد قتل رجلًا من قعدة الصفرية صبرًا - ثم دعاهم الصحاري إلى الوثوب معه فأجابه بعضهم، وقال بعضهم: ننتظر؛ وأبى بعضهم وقالوا: نحن في عافية، فلما رأى ذلك قال: لم أرد منه الفريضة إلا ** طمعًا في قتله أن أنالا فأريح الأرض منه وممن ** عاث فيها وعن الحق مالا كل جبار عنيد أراه ** ترك الحق وسن الضلالا إنني شارٍ بنفسي لربي ** تارك قيلا لديهم وقالا بائع أهلي ومالي أرجو في جنان الخلد أهلًا ومالا قال: فبايعه نحو من ثلاثين، فشرى بجبل، ثم سار حتى أتى المبارك. فبلغ ذلك خالدًا، فقال. قد كنت خفتها منه. ثم وجه إليه خالد جندًا، فلقوه بناحية المناذر، فقاتلهم قتالًا شديدًا، ثم انطووا عليه فقتلوه وقتلوا جميع أصحابه. قال أبو جعفر: وحجّ بالناس في هذه السنة أبو شاكر مسلمة بن هشام بن عبد الملك، وحجّ معه ابن شهاب الزهري في هذه السنة. وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله القسري، وعامل خالد على خراسان أخوه أسد بن عبد الله. وقد قيل: إن أخا خالد أسدًا هلك في هذه السنة، واستخلف عليها جعفر بن حنظلة البهراني. وقيل: إن أسدًا أخا خالد بن عبد الله إنّما هلك في سنة عشرين ومائة. وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد. ثم دخلت سنة عشرين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة سليمان بن هشام بن عبد الملك الصائفة وافتتاحه - فيما ذكر - سندرة، وغزوة إسحاق بن مسلم العقيلي وافتتاحه قلاع تومانشاه وتخريبه أرضه، وغزوة مروان بن محمد أرض الترك. خبر وفاة أسد بن عبد الله القسري وفيها كانت وفاة أسد بن عبد الله في قول المدائني. ذكر الخبر عن سبب وفاته وكان سبب ذلك أنه كانت به - فيما ذكر - دبيلة في جوفه؛ فحضر المهرجان وهو ببلخ، فقدم عليه الأمراء والدهاقين؛ فكان ممن قدم عليه إبراهيم بن عبد الرحمن الحنفي عامله على هراة وخراسان، ودهقان هراة؛ فقدما بهدية قومت بألف ألف؛ فكان فيما قدما به قصران: قصر منفضة وقصرمن ذهب، وأباريق من ذهب وأباريق من فضة وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على السرير، وأشاراف خراسان على الكراسي، فوضعا القصرين؛ ثم وضعا خلفهما الأباريق والصحاف والديباج المروي والقوهي والهروي وغير ذلك؛ حتى امتلأ السماط؛ وكان فيما جاء به الدهقان أسدًا كرة من ذهب؛ ثم قام الدهقان خطيبًا، فقال: أصلح الله الأمير! إنا معشر العجم؛ أكلنا الدنيا أربعمائة سنة؛ أكلناها بالحلم والعقل والوقار؛ ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبي مرسل؛ وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يده، والذي يليه رجل تمت مروته في بيته فإن كان كذلك رجيَ وعظم، وقود وقدم؛ ورجل رحب صدره، وبسط يده فرجي؛ فإذا كان كذلك قود وقدم؛ وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة الذين أكلنا الدنيا بهم أربعمائة سنة فيك أيها الأمير؛ وما نعلم أحدًا هو أتم كتخدانية منك؛ إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك؛ فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدّى على صغير ولا كبير، ولا غني ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز؛ فيجيء الجائي من المشرق والآخر من المغرب؛ فلا يجدان عيبًا إلا أن يقولا: سبحان الله ما أحسن ما بني! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف، معه الحارث ابن سريج فهزمته وفللته، وقتلت أصحابه، وأبحت عسكره. وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنّا ما ندري أي المالين أقرّ لعينك؟ أمالٌ قدم عليك، أم مال خرج من عندك! بل أنت بما خرج أقرّ عينًا. فضحك أسد، وقال: أنت خير دهاقين خراسان وأحسنهم هديّة. وناوله تفاحة كانت في يده؛ وسجد له دهقات هراة، وأطرق أسد ينظر إلى تلك الهدايا؛ فنظر عن يمينه، فقال: يا عذافر بن يزيد، مر من يحمل هذا القصر الذهب، ثم قال: يا معن بن أحمر رأس قيس - أو قال قنسرين - مر بهذا القصر يحمل، ثم قال: يا فلان خذ إبريقًا، ويا فلان خذ إبريقًا، وأعطى الصحاف حتى بقيت صحفتان، فقال: قم يا بن الصيداء، فخذ صحيفة، قال: فأخذ واحدة فرزنها فوضعها، ثم أخذ الأخرى فرزنها، فقال له أسد: مالك؟ قال: آخذ أرزنهما، قال: خذهما جميعًا؛ وأعطى العرفاء وأصحاب البلاء؛ فقام أبو اليعفور - وكان يسير أمام صاحب خراسان في المغازي - فنادى: هلم إلى الطريق، فقال أسد: ما أحسن ما ذكرت بنفسك! خذ ديباجتين، وقام ميمون العذاب فقال: إلي، إلى يساركم، إلى الجادة؛ فقال: ما أحسن ما ذكرت نفسك! خذ ديباجة، قال: فأعطى ما كان في السمّاط كلّه، فقال نهر بن توسعة: تقلون إن نادي لروعٍ مثوب ** وأنتم غداة المهرجان كثير ثم مرض أسد، فأفاق إفاقة فخرج يومًا، فأتى بكمثرى أول ما جاء، فأطعم الناس منه واحدة واحدة؛ وأخذ كمثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة، فانقطعت الدبيلة، فهلك. واستخلف جعفرًا البهراني، وهو جعفر بن حنظلة سنة عشرين ومائة فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بن سيّار في رجب سنة إحدى وعشرين ومائة، فقال ابن عرس العبدي: نعى أسد بن عبد الله ناع ** فريع القلب للملك المطاع ببلخ وافق المقدار يسرى ** وما لقضاء ربك من دفاع فجودي عين بالعبرات سحًا ** ألم يحزنك تفريق الجماع! أتاه حمامه في جوف صيغ ** وكم بالصيغ من بطل شجاع! كتائب قد يجيبون المنادي ** على جرد مسومة سراع سقيت الغيث إنك كنت غيثًا ** مريعًا عند مرتاد النجاع وقال سليمان بن قتة مولى بني تيم بن مرة - وكان صديقًا لأسد: سقى الله بلخًا، سهل بلخ وحزنها ** ومروى خراسان السحاب المجمعا وما بي لتسقاه ولكن حرفة ** بها غيبوا شلوًا كريمًا وأعظما مراجم أقوام ومردى عظيمة ** وطلاب أوتار عفرنًا عثمثما لقد كان يعطى السيف في الروع حقه ** ويروى السنان الزاغبي المقوما أمر شيعة بنى العباس بخراسان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجّهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بن علي بن العباس سليمان بن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه. ذكر الخبر عن سبب توجيههم سليمان إلى محمد وكان السبب في ذلك موجدة كانت من محمد بن علي على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم، كانت لخداش الذي ذكرنا خبره قبل وقبولهم منه ما روى عليه من الكذب؛ فترك مكاتبتهم؛ فلما أبطأ عليهم كتابه، اجتمعوا فذكروا ذلك بينهم؛ فأجمعوا على الرِّضا بسليمان بن كثير ليلقاه بأمرهم، ويخبره عنهم، ويرجع إليهم بما يردّ عليه؛ فقدم - فيما ذكر - سليمان بن كثير على محمد بن علي وهو متنكر لمن بخرسان من شيعته، فأخبره عنهم، فعنفهم في إتّباعهم خداشًا وما كان دعا إليه، وقال: لعن الله خداشًا ومن كان على دينه! ثم صرف سليمان إلى خراسان، وكتب إليهم معه كتابًا، فقدم عليهم، ومعه الكتاب مختومًا، ففضوا خاتمه فلم يجدوا فيه شيئًا، إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فلفظ ذلك عليهم وعلموا أن ما كان خداش أتاهم به لأمره مخالف. وفي هذه السنة وجّه محمد بن علي بكير بن ماهان إلى شيعته بخراسان بعد منصرف سليمان بن كثير من عنده إليهم، وكتب معه إليهم كتابًا يعلمهم أن خداشًا حمل شيعته على غير منهاجه. فقدم عليهم بكير بكتابه فلم يصدقوه واستخفوا به؛ فانصرف بكير إلى محمد بن علي؛ فبعث معه بعصى مضببة بعضها بالحديد وبعضها بالشّبه؛ فقدم بها بكير وجمع النقباء والشيّعة، ودفع إلى كلّ رجل منهم عصًا، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته، فرجعوا وتابوا. وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن أعماله التي كان ولاه إياها كلَّها. ذكر سبب عزل هشام خالدا قد قيل في ذلك أقوال، نذكر ما حضرنا من ذلك ذكره؛ فمما قيل في ذلك: إن فروخ أبا المثنى كان قد تقبّل من ضياع هشام بن عبد الملك بموضوع يقال له رستاق الرمان أو نهر الرمان - وكان يدعي بذلك فروخ الرماني - فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحسان النبطي: ويحك! اخرج إلى أمير المؤمنين فزد على فرّوخ، فخرج فزاد عليه ألف ألف درهم؛ فبعث هشام رجلين من صلحاء أهل الشأم، فحازا الضياع، فصار حسان أثقل على خالد من فرّوخ؛ فجعل يضربه، فيقول له حسان: لا تفسدني وأنا صنيعتك! فأبى إلّا الإضرار به، فلما قدم عليه بثق البثوق على الضياع. ثم خرج إلى هشام، فقال: إن خالدًا بثق البثوق على ضياعك. فوجّه هشام رجلًا، فنظر إليها ثم رجع إلى هشام فأخبره، فقال حسان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار، قال: فجعّل لي الألف وأقول ما شئت، قال: فعجّلها له وقال له: بك صيبًّا من صبيان هشام؛ فإذا بكى فقل له: اسكت؛ والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلّته ثلاثة عشر ألف ألف. فسمعها هشام فأغضى عليها. ثم دخل عليه حسان بعد ذلك، فقال له هشام إدن مني فدنا منه، فقال: كم غلة خالد؟ ثلاثة عشر ألف ألف، قال: فكيف لم تخبرني بهذا! قال: وهل سألتني؟ فوقرت في نفس هشام، فأزمع على عزله. وقيل: كان خالد يقول لابنه يزيد: ما أنت بدون مسلمة بن هشام؛ فإنّك لتفخر على النناس بثلاث لا يفخر بمثلها أحدٌ: سكرت دجلة ولم يتكلف ذلك أحد، ولى سقايةٌ بمكة، ولي ولاية العراق. وقيل: إنما أغضب هشامًا على خالد أن رجلًا من قريش دخل على خالد فاستخف به وعضه بلسانه، فكتب إلى هشام يشكوه، فكتب هشام إلى خالد: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين - وإن كان أطلق لك يدك ورأيك فيمن استرعاك أمره، واستحفظك عليه، للّذي رجا من كفايتك، ووثق به من حسن تدبيرك - لم يفرشك غرة أهل بيته لتطأه بقدمك، ولا تحد إليه بصرك؛ فكيف بك وقد بسطت على غرتهم بالعراق لسانك بالتوبيخ؛ تريد بذلك تصغير خطره، واحتقار قدره؛ زعمت بالنصفة منه حتى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ في اللفظ عليه في مجلس العامة، غير متحلحل له حين رأيته مقبلًا من صدر مهادك الذي مهد له الله، وفي قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصةً، مساوين بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين؛ حتى حللت هضبةً أصبحت تنحو بها عليهم متفخرًا. هذا إن لم يدهده بك قلة شكرك متحطّمًا وقيذًا. فهلّا - يابن مجرشة قومك - أعظمت رجلهم عليك داخلًا، ووسعت مجلسه إذ رأيته إليك مقبلًا، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرمًا، ثم فاوضته مقبلًا ببشرك، إكرامًا لأمير المؤمنين، فإذا اطمأن به مجلسه نازعته بحيي السرار، معظمًا لقرابته، عارفًا لحقّه؛ فهو سن البيتين ونابهم، وابن شيخ آل أبي العاص وحرب وغرتهم. وبالله يقسم أمير المؤمنين لك لولا ما تقدم من حرمتك وما يكره من شماتة عدوك بك لوضع منك ما رفع؛ حتى يردّك إلى حال تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك. وما أقربني من أن أجعلك تابعًا لمن كان لك تبعًا؛ فانهض على أي حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه، من ليل أو نهار، ماشيًا على قدمك بمن معك من خولك حتى تقف على باب ابن عمرو صاغرًا، مستأذنًا عليه، متنصّلا إليه؛ أذن لك أو منعك؛ فإن حركته عواطف رحمة احتملك، وإن احتملته أنفة وحمية من دخولك عليك فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل؛ ثم أمرك بعد إليه؛ عزل أو ولىّ، انتصر أو عفا؛ فلعنك الله من متكل عليه بالثقة؛ ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشرف ألفاظك؛ التي لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصري العراق، وأقدم وأقوم. وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمّه بما كتب به إليك من إنكاره عليك، ليرى في العفو عنك والسخط عليك رأيه، مفوضًا ذلك إليه مبسوطة فيه يده، محمودًا عند أمير المؤمنين على أيّهما آتى إليك موفقًا إن شاء الله تعالى. وكتب إلى ابن عمرو: أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفيهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامة محتقرًا لقدرك، مستصغرًا لقرابتك من أمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك وإمساكك عنه، تعظيمًا لأمير المؤمنين وسلطانه، وتمسكًا بوثائق عصم طاعته، مع مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه وشرارة منطقه، وإكثابه عليك عند إطراقك عنه، مرويًّا فيما أطلق أمير المؤمنين من لسانه وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوّه من خموله؛ وكذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الذنّابي وطائشة أحلامها، صمت من غير إفحام، بل بأحلام تخف بالجبال وزنًا. وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه، وتوقيرك سلطانه وشكره؛ وقد جعل أمر خالد إليك في عزلك إياه أو إقراره؛ فإن عزلته أمضى علك إياه. وإن أقررته فتلك منَّه لك عليه لا يشكرك أمير المؤمنين فيها. وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله إليه، يأمره بإتيانك راجلًا على أيّة حال صادفه كتاب أمير المؤمنين فيها، وألفاه رسوله الموجّه إليه من ليله أو نهاره حتى يقف ببابك؛ أذنت له أو حجته، أقررته أو عزلته، وتقدم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك على رأسه عشرين سوطًا إلا أن تكره أن يناله ذلك بسببك لحرمة خدمته؛ فأيّهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين في برّك وعظم حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقًا، وإليه حبيبًا، فيما ينوي من قضاء حق آل أبي العاص وسعيد. فكاتب أمير المؤمنين فيما بدا لك مبتدئًا ومجيبًا ومحادثًا وطالبًا؛ ما عسى أن ينزل بك أهلك من أهل بيت أمير المؤمنين، من حوائجهم التي تعقد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلة إمكان الخروج لإنزالها به؛ غير متحشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه، على قدر قرابتهم وأديانهم وأنسابهم، مستمنحًا ومسترفدًا، وطالبًا مستزيدًا تجد أمير المؤمنين إليك سريعًا بالبرّ لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب في العون على قضاء حقّ قرابته، وعليه يتوكل، وبه بثق. والله وليّه ومولاه. والسلام. وقيل: إنّ خالدًا كان كثيرًا ما يذكرهشامًا، فيقول: ابن الحمقاء. وكانت أم هشام تستحمق، وقد ذكرنا خبرها قبل. وذكرنا أنه كتب إلى هشام كاتبًا غاظه، فكتب إليه هشام: يابن أمّ خالد؛ قد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف؛ فيابن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفًا، وأنت من بجلية القليلة الذليلة! أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صغير من قريش؛ يشد يديك إلى عنقك. وذكر أن هشامًا كتب إليه: قد بلغني قولك: أنا خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز؛ ما أنا بأشرف الخمسة. أما والله لأردّنك إلى بغلتك وطيلسانك الفيروزي. وذكر أن هشامًا بلغه أنه يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين! فظهر الغضب في وجهه. وقيل: إن هشامًا قدم عليه رجل من أهل الشأم، فقال: إني سمعت خالدًا ذكر أمير المؤمنين بما لا نتطلق به الشفتان؛ قال: قال: الأحول؟ قال: لا، بل قال أشدّ من ذلك، قال: فما هو؟ قال: لا أقوله أبدًا، فلم يزل يبلغه عنه ما يكره حتى تغير له. وذكر أن دهقانًا دخل على خالد، فقال: أيّها الأمير، إن غلة ابنك قد زادت على عشرة آلاف ألف؛ ولا آمن أن بيلغ هذا أمير المؤمنين فيستكثره. وإن الناس يحبون جسدك، وأنا أحب جسدك وروحك؛ قال: إن أسد بن عبد الله قد كلمني بمثل هذا، فأنت أمرته؟ قال: نعم، قال: ويحك! دع ابني، فلربما طلب الدرهم فلم يقدر عليه. ثم عزل هشام - لما كثر عليه ما يتصل به عن خالد من الأمور التي كان يكرهها - على عزله؛ فلما عزم على ذلك أخفى ما قد عزم له عليه من أمره. ذكر الخبر عن عمل هشام في عزل خالد حين صح عزمه على عزله ذكر عمر أن عبيد بن جنّاد حدثّه أنه سمع أباه وبعض الكتبة يذكر أن هشامًا أخفى عزل خالد، وكتب إلى يوسف بخطّه - وهو على اليمن - أن يقبل في ثلاثين من أصحابه. فخرج يوسف حتى صار إلى الكوفة، فعرّس قريبًا منها، وقد ختن طارق - خليفة خالد على الخراج - ولده؛ فأهدى له ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة؛ سوى الأموال والثياب وغير ذلك؛ فمرّ العاس بيوسف وأصحابه، ويوسف يصلي ورائحة الطيب تنفح من ثيابه، فقال: ماأنتم؟ قالوا: سفار؛ قال فأين تريدون؟ قالوا بعض المواضع، فأتوا طارق وأصحابه، فقالوا: إنا رأينا قومًا أنكرناهم، والرأي أن نقتلهمم، فإن كانوا خوارج استرحنا منهم؛ وإن كانوا يريدونكم عرفتم ذلك فاستعددتم على أمرهم. فنهوهم عن قتلهم؛ فطافوا؛ فلما كان في السَّحر وقد انتقل يوسف وصار إلى دور ثقيف، فمرّ بهم العاسّ، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: سفّار قال فأين تريدون؟ قالوا بعض المواضع، فأتوا طارقًا وأصحابه، فقالوا: قد صاروا إلى دور ثقيف والرأي أن نقتلهم، فمنعوهم وأمر يوسف بعض الثقفييّن، فقال: اجمع لي من بها من مضر ففعل، فدخل المسجدمع الفجر، فأمر المؤذّن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الإمام؛ فانتهره فأقام، وتقدّم يوسف فقرأ: " إذا وقعت الواقعة "، و " سأل سائل "، ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما، فأخذوا وإنّ القدور لتغلي. قال عمر: قال علي بن محمد، قال: قال الربيع بن سابور مولى بني الحريش - وكان هشام جعل إليه الخاتم مع الحرس: أتى هشامًا كتاب خالد فغاظه، وقدم عليه في ذلك اليوم جندب مولى يوسف بن عمر بكتاب يوسف، فقرأه ثم قال لسالم مولى عنبسة بن عبد الملك: أجبه عن لسانك، وكتب هو بخطّه كتابًا صغيرًا، ثم قال لي: ائتني بكتاب سالم - وكان سالم على الديوان - فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصغّير، ثم قال لي: اختمه ففعلت، ثم دعا برسول يوسف، فقال: إن صاحبك لمتعدٍّ طوره، ويسأل فوق قدره؛ ثم قال لي مزق ثيابه. ثم أمر به فضرب أسواطًا، فقال: أخرجه عني وادفع إليه كتابه. فدفعت إليه الكتاب، وقلت له: ويلك! النجاء! فارتاب بشير بن أبي ثلجة من أهل الأردنّ، وكان خليفة سالم وقال: هذه حيلة؛ وقد ولّى يوسف العراق؛ فكتب إلى عامل لسالم على أجمة سالم، يقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوّب اليماني؛ فإذا أتاك فالبسه واحمد الله، وأعلم ذلك طارقًا. فبعث عياض إلى طارق بن أبي زياد بالكتاب، وندم بشير على كتابه، وكتب إلى عياض: إن أهلك قد بادا لهم في إمساك الثوب فلا تتكل عليه؛ فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول؛ ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الخبر فكتب بهذا. وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط؛ فسار يومًا وليلة، فصبحهم، فرآه داود البربري - وكان على حاجة خالد وحرسه وعلى ديوان الرسائل - فأعلم خالدًا، فغضب، وقال: قدم بغغير إذن؛ فأذن له، فلمّا رآه قال: ما أقدمك؟ قال: أمرٌ كنت أخطأت فيه؛ قال: وما هو؟ قال: وفاة أسد رحمه الله، كتبت إلى الأمير أعزّيه عنه، وإنما كان ينبغي لي أن آتيه ماشيًا. فرق خالد ودمعت عيناه، وقال: ارجع إلى عملك، قال: أردت أن أذكر للأميرأمرًا أسرُّه، قال: ما دون داود سرّ قال: أمر من أمري، فغضب داود وخرج، وأخبر طارق خالدًا، قال: فما الرأي؟ قال تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه من شيء إن كان بلغه عنك. قال: فبئس الرجل أنا إذًا إن ركبت إليه بغير إذنه، قال: فشيء آخر، قال: وما هو؟ قال: تسير في عملك، وأتقدمك إلى الشأم، فأستأذنه لك؛ فإنك لا تبلغ أقصى عملك حتى يأتيك إذنه، قال: ولا هذا، قال: فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهدك مستقبلا، قال: وما يبلغ ذاك؟ قال: مائة ألف ألف، قال: ومن أين آخذ هذا! والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قال: أتحمل أنا وسعيد بن راشد أربعين ألف ألف درهم، والزيني وأبان بن الوليدعشرين ألف ألف؛ وتفّرق الباقي على العمال، قال: إني إذًا للئيم، أن كنت سوغت قومًا شيئًا ثم أرجع فيه، فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستأنف الدنيا، وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال؛ وهي عند تجار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربصون بنا فنقتل، ويأكلون تلك الأموال. فأبى خالد فودعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا؛ ومضى. ودخل داود، فأخبه خالد بقول طارق، فقال: قد علم أنك لا تخرج بغير إذن؛ فأراد أن يختلك ويأتي الشأم، فيتقبل بالعراق هو وابن أخيه سعيد بن راشد. فرجع طارق إلى الكوفة، وخرج خالد إلى الحمة. قال: وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال له: ما وراءك؟ قال: الشرّ، أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان. ففضّ الكتاب فقرأه، فلما اتنهى إلىآخره قرأ كتاب هشام بخطه: أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بذاك أحد؛ وخذ ابن النصرانيّة وعمّاله فافشنى منهم؛ فقال يوسف: انظروا دليلًا عالمًا بالطريق، فأتى بعدةّ، فاختار منهم رجلًا وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصلت فشيَّعه؛ فلما أراد أن ينصرف سأله: أين تريد؟ فضربه مائة سوط، وقال: يابن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقرّ بي منزل، فسار، فكان إذا أتى إلى طريقين سأل، فإذا قيل: هذا إلى العراق، قال: أعرق، حتى أتي الكوفة. قال عمر: قال علي عن بشر بن عيسى، عن أبيه، قال: قال حسان النبطي: هيأت لهشام طيبًا، فإني لبين يديه وهو ينظر إلى ذلك الطِّيب إذ قال لي: يا حسان، في كم يقدم القادم من العراق إلى اليمن؟ قال: قلت: لا أدري، فقال: أمرتك أمرًا حازمًا فعصيتني ** فأصبحت مسلوب الإمارة نادمًا قال: فلم يلبث إلا قليلًا حتى جاء كتاب يوسف من العراق قد قدمها؛ وذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة. قال عمر: قال علي: قال سالم زنبيل: لما صرنا إلى النجَّف قال لي يوسف: انطلق فأتني بطارق؛ فلم أستطيع أن آبى عليه، وقلت في نفسي: من لي بطارق في سلطانه! ثم أتيت الكوفة، فقلت لغلمان طارق: استأذنوا لي على طارق، فضربوني فصحت له: ويلك يا طارق! أنا سالم رسول يوسف، وقد قدم على العراق. فخرج فصاح بالغلمان، وقال: أنا آتيه. قال: وروى أن يوسف قال لكيسان: انطلق فأتني بطارق؛ فإن كان قد أقبل فاحمله على إكاف، وإن لم يكن أقبل فأت به سحبًا. قال: فأتيته بالحيرة دار عبد المسيح - وهو سيد أهل الحيرة - فقلت له: إن يوسف قد قدم على العراق؛ وهو يأمرك أن تشد طارقًا وتأتيه به؛ فخرج هو وولده غلمانه حتى أتوا منزل طارق - وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعاء لهم سلاح وعدة - فقال لطارق: إن أذنت لي خرجت إلى هؤلاء فيمن معي فقتلتهم، ثم طرت على وجهك. فذهب حيث شئت. قال: فأذن لكسان، فقال أخبرني عن الأمير، يريد المال؟ قال: نعم قال: فأنا أعطيه ما سأل؛ وأقبلوا إلى يوسف فتوافوا بالحيرة، فلما عاينه ضربه ضربًا مبرحًا - يقال خمسمائة سوط - ودخل الكوفة، وأرسل عطاء بن مقدّم إلى خالد بالحمّة. قال عطاء: فأتيت الحاجب فقلت: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل وهو متغير الوجه فقال له خالد: مالك؟ قال: خير قال: ما عندك خير، قال: عطاء بن مقدّم، استأذن لي على أبي الهيثم، فقال: ائذن له فدخلت: فقال: ويل أمها سخطة؟ قال: فلم أستقرّ حتى دخل الحكم بن الصلت، فقعد معه، فقال له خالد: ما كان ليلى على أحد هو أحب إلي منكم. وخطب يوسف بالكوفة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني بأخذ عمال ابن النصرانّية وأن أشفيه منهم وسأفعل وأزيد والله يا أهل العراق؛ ولأقتلن منافقيكم بالسيف وجناتكم بالعذاب وفسّاقكم. ثم نزل ومضى إلى واسط وأتى بخالد وهو بواسط. قال عمر: حدثني الحكم بن النضّر: قال سمعت أبا عبيدة يقول: لما حبس يوسف خالدًا صالحه عنه أبان بن الوليد وأصحابه على تسعة آلف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم قال: ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء. وأخبر أصحاب خالد خالدًا، فقال: قد أسأتم حين أعطيتموه عند أول وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثم يعود عليكم، فارجعوا. فجاءوا فقالوا: إنا أخبرنا خالدًا فلم يرض بما ضمنا، وأخبرنا أن المال لا يمكنه، فقال: أنتم أعلموصاحبكم؛ فأما أنا فلا أرجع عليكم؛ فإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: قإنا قد رجعنا، قال: وقد فعلتم؟ قالوا: نعم، قال: فمنكم أتى النقض؛ فوالله لا أرضى بتسعة آلاف ألف ولامثليها ولا مثلها، فأخذ أكثر من ذلك. وقد قيل: إنه أخذ مائة ألف ألف. وذكر الهيثم بن عدي، عن ابن عياش، أن هشامًا أزمع على عزل خالد، وكان سبس ذلك أنه اعتقد بالعراق أموالًا وحفر أنهارًا؛ حتى بلغت غلته عشرين ألف ألف؛ منها نهر خالد، وكان يغلّ خمسة آلاف ألف وباجوّى وبارمان والمبارك والجامع وكورة سابور والصّلح، وكان كثيرًا ما يقول: إنني والله مظلوم؛ ما تحت قدمي من شيء إلا وهو لي - يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد. قال الهيثم بن عدي: أخبرني الحسن بن عمارة، عن العريان بن الهيثم، قال: كنت كثيرًا ما أقول لأصحابي: إنّي أحسب هذا الرجل قد تخلّى منه؛ إن قريشًا لا تحتمل هذا ونحوه؛ وهم أهل حسد، وهذا يظهر ما يظهر، فقلت له يومًا: أيها الأمير؛ إنّ الناس قد رموك بأبصارهم، وهي قريش وليس بينك وبينها إلّ، وهم يجدون منك بدًا؛ وأنت لا تجد منهم بدًا؛ فأنشدك الله إلا ما كتبت إلى هشام تخبره عن أموالك، وتعرض عليه منها ما أحبّ؛ فما أقدرك على أن تتخذ مثلها؛ وهو لا يستفسدك؛ وإن كان حريصًا على ذلك فلعمري لأن يذهب بعض ويبقى بعض خير من أن تذهب كلها؛ وما كان يستحسن فيما بينك وبينه أن يأخذها كلها، ولا آمن أن يأتيه باغ أو حاسد فيقبل منه؛ فلأن تعطيه طائعًا خير من أن تعطيه كارهًا. فقال: ما أنت بمتهم؛ ولا يكون ذلك أبدًا. قال: فقلت أطعني واجعلني رسولك، فوالله لا يحلّ عقدة إلا شددتها، ولا يشدّ عقدة إلا حللتها. قال: إنّا والله لا نعطي على الذلّ، قال: قلتُ: هل كانت لك هذه الضياع إلا في سلطانه؟ وهل تستطيع الامتناع منه إن أخذها؟! قال: لا، قلت: فبادره، فإنه يحفظها لك ويشكرك عليها؛ ولو لم تكن له عندك يد إلّا ما ابتدأك به كنت جديرًا أن تحفظه، قال: لا والله لا يكون ذلك أبدًا، قال: قلت فما كنت صانعًا إذا عزلك وأخذ ضياعك فاصنعه، فإنّ إخوته وولده وأهل بيته قد سبقوا لك، وأكثروا عليه فيك، ولك صنائع تعود عليهم بما بدا لك، ثم استدرك استتمام ما كان منك إلى صنائعك من هشام. قال: قد أبصرت ما تقول وليس إلى ذلك سبيل. وكان العريان يقول: كأنكم به قد عزل، وأخذ ما له وتجنى عليه ثم لا ينتفع بشيء. قال: فكان كذلك. قال الهيثم: وحدثني ابن عيّاش، أنّ بلال بن أبي بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتّب هشام عليه: إنّه حدث أمر لا أجد بدًا من مشافهتك فيه؛ فإن رأيت أن تأذن لي؛ فإنما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفًا. فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت. فركب هو وموليان له الجمّازات؛ فسار يومًا وليلة، ثم صلى المغرب بالكوفة؛ وهي ثمانون فرسخًا، فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصّب، فقال: أبا عمرو، أتعبت نفسك، قال: أجل، قال: متى عهدك بالبصرة؟ قال: أمس، قال: أحق ما تقول! قال: هو والله ما قلت، قال: فما أنصبك؟ قال: ما بلغني من تعتّب أمير المؤمنين وقوله، وما بغاك به ولده وأهل بيته؛ فإن رأيت أن أتعرّض له وأعرض عليه بعض أموالنا، ثم ندعوه منها إلى ما أحبّ وأنفسنا به طيّبة، ثم أعرض عليه مالك، فما أخذ منه فعلينا العوض منه بعد. قال: ما أتّهمك وحتى أنظر؛ قال: إني أخاف أن تعاجل، قال: كلا، قال: إن قريشًا من قد عرفت، ولا سيما سرعتهم إليك قال: يا بلال؛ إني والله ما أعطي شيئًا قسرًا أبدًا. قال أيها الأمير، أتكلم؟ قال: نعم، قال: إن هشامًا أعذر منك، يقول: استعملتك. وليس لك شيء، فلم تر من الحق عليك أن تعرض علي بعض ما صار إليك؛ وأخاف أن يزيّن له حسان النبطي ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة. قال: أنا ناظر في ذلك فانصرف راشدًا. فانصرف بلال وهو يقول: كأنكم بهذا الرجل قد بعث إليه رجل بعيد أتي، به حمز، بغيض النفس سخيف الدين، قليل الحياء، يأخذه بالإحن والترات. فكان كما قال. قال ابن عياش: وكان بلال قد اتخذ دارًا بالكوفة، وإنما استأذن خالدًا لينظر إلى داره، فما نزلها إلّا مقيّدًا، ثم جعلت سجنًا إلى اليوم. قال ابن عيّاش: كان خالد يخطب فيقول: إنكم زعمتم أنّي أغلي أسعاركم؛ فعلى من يغليها لعنة الله! وكان هشام كتب إلى خالد لا تبيعنّ من الغلّات شيئًا حتى تباع غلّات أمير المؤمنين حتى بلغت كيلجة درهمًا. قال الهيثم، عن ابن عياش: كانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة ثم عزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة. وفي هذه السنة قدم يوسف بن عمر العراق واليًا عليها، وقد ذكرت قبل سبب ولايته عليها. وفي هذه السنة ولّى خراسان يوسف بن عمر جديع بن علي الكرماني وعزل جعفر بن حنظلة. وقيل: إنّ يوسف لما قدم العراق أراد أن يولّي خراسان سلم بن قتيبة، فكتب بذلك إلى هشام، ويستأذنه فيه، فكتب إليه هشام: إنّ سلم بن قتيبة رجل ليس له بخراسان عشيرة؛ ولو كان له بها عشيرة لم يقتل بها أبوه. وقيل إن يوسف كتب إلى الكرماني بولاية خراسان مع رجل من بني سليم وهو بمرو؛ فخرج إلى الناس يخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسدًا وقدومه خراسان، وما كانوا فيه من الجهد والفتنة، وما صنع لهم على يديه. ثم ذكر أخاه خالدًا بالجميل، وأثنى عليه؛ وذكر قدوم يوسف العراق، وحثّ الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، ثم قال: غفر الله للميت - يعني أسدًا - وعافى الله المعزول، وبارك للقادم. ثم نزل. وفي هذه السنة عزل الكرماني عن خراسان، ووليها نصر بن سيار بن ليث بن رافع بن ربيعة بن جري بن عوف بن عامر بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وأمّه زينب بنت حسان من بني تغلب. ذكر الخبر عن سبب ولاية نصر بن سيار خراسان ذكر علي بن محمد عن شيوخه أن وفاة أسد بن عبد الله لما انتهت إلى هشام بن عبد الملك استشار أصحابه في رجل يصلح لخراسان؛ فأشاروا عليه بأقوام، وكتبوا له أسماءهم؛ فكان ممن كتب له عثمان بن عبد الله بن الشخير ويحيى بن حضين بن المنذر الرقاشي ونصر بن سيّار الليثي وقطن بن قتيبة بن مسلم والمجشّر بن مزاحم السلمي أحد بني حرام؛ فأما عثمان بن عبد الله ابن الشخير، فقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له: المجشّر شيخ هم، وقيل له: ابن حضين رجل فيه تيه وعظمة، وقيل له: قطن بن قتيبة موتور؛ فاختار نصر بن سيّار؛ فقيل له: ليست له بها عشيرة، فقال هشام: أنا عشيرته. فولّاه وبعث بعهده مع عبد الكريم بن سليط بن عقبة الهفاني؛ هفان بن عدي بن حنيفة. فأقبل عبد الكريم بعهده، ومعه أبو المهند كاتبه مولى بنى حنيفة، فلما قدم سرخس ولا يعلم به أحد، وعلى سرخس حفص بن عمر بن عباد التيمي أخو تميم بن عمر، فأخبره أبو المهند، فوجه حفص رسولًا، فحمله إلى نصر، ونفذ ابن سليط إلى مرو، فأخبر أبو المهند الكرماني، فوجّه الكرماني نصر بن حبيب بن بحر بن ماسك بن عمر الكرماني إلى نصر بن سيار، فسبق رسول حفص إلى نصر بن سيار؛ فكان أوّل من سلم عليه بالإمرة، فقال له نصر: لعلك شاعر مكار! فدفع إليه الكتاب. وكان جعفر بن حنظلة ولّى عمرو بن مسلم مرو، وعزل الكرماني وولّى منصور بن عمر أبرشهر، وولّى نصر بن سيار بخاري، فقال جعفر ابن حنظلة: دعوت نصرًا قبل أن يأتيه عهده بأيام؛ فعرضت عليه أن أولّية بخارى، فشاور البختري بن مجاهد، فقال له البختري، وهو مولى بني شيبان: لا تقبلها، قال: ولمَ؟ قال: لأنك شيخ مضر بخراسان؛ فكأنك بعهدك قد جاء على خراسان كلها؛ فلما أتاه عهده بعث إلى البختري فقال البختري لأصحابه: قد ولى نصر بن سيار خراسان؛ فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: أنّى علمت؟ قال: لما بعثت إلي، وكنت قبل ذلك تأتيني، علمت أنك قد وليت. قال: وقد قيل إنّ هشامًا قال لعبد الكريم حين أتاه خبر أسد بن عبد الله بموته. من ترى أن نولّي خراسان، فقد بلغني أنّ لك بها وبأهلها علمًا؟ قال عبد الكريم: قلت: يا أمير المؤمنين؛ أما رجل خراسان حزمًا ونجدة فالكرماني؛ فأعرض بوجهه، وقال: ما اسمه؟ قلت: جديع بن علي، قال: لا حاجة لي فيه؛ وتطيّر، وقال: سم لي غيره، قلت: اللسن المجرّب يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني أبو الميلاء، قال: ربيعة لا تسد بها الثغور - قال عبد الكريم: فقلت في نفسي: كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر - فقلت: عقيل بن معقل الليثي، إن اغتفرت هنةً، قال: ما هي؟ قلت: ليس بالعفيف، قال: لا حاجة لي به، قلت: منصور بن أبي الخرقاء السلمي، إن اغتفرت نكره فإنه مشئوم، قال: غيره، قلت: المحشّر بن مزاحم السلمي، عاقل شجاع، له رأي مع كذب فيه، قال: لا خير في الكذب، قلت: يحيى بن حضين، قال: ألم أخبرك أنّ ربيعة لا تسدّ بها الثغور! قال: فكان إذا ذكرت له ربيعة، واليمن أعرض. قال عبد الكريم: وأخرّت نصرًا وهو أرجل القوم وأ؛ زمهم وأعلمهم بالسياسة، فقلت: نصر بن سيار الليثي، قال: هو لها، قلت: إن اغتفرت واحدة؛ فإنه عفيف مجرّب عاقل، قال: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قليلة، قال: لا أبا لك، أتريد عشيرة أكثر مني! أنا عشيرته. وقال آخرون: لما قدم يوسف بن عمر العراق قال: أشيروا علي برجل أولّه خراسان، فأشاروا عليه بمسلمة بن سليمان بن عبد الله ابن خازم وقديد بن منيع المنقري ونصر بن سيّار وعمرو بن مسلم ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم ومنصور بن أبي الخرقاء وسلم بن قتيبة ويونس بن عبد ربّه وزياد بن عبد الرحمن القشيري؛ فكتب يوسف بأسمائهم إلى هشام، وأطرى القيسية، وجعل آخر من كتب اسمه نصر بن سيار الكناني، فقال هشام: ما بال الكناني آخرهم! وكان في كتاب يوسف إليه: يا أمير المؤمنين، نصر بخراسان قليل العشيرة. فكتب إليه هشام: قد فهمت كتابك وإطراءك القيسيّة. وذكرت نصرًا وقلة عشيرته، فكيف يقلّ من أنا عشيرته! ولكنك تقيّست علي، وأنا متخندف عليك؛ ابعث بعهد نصر؛ فلم يقلّ من عشيرته أمير المؤمنين؛ بله ما إن تميمًا أكثر أهل خراسان. فكتب إلى نصر أن يكاتب يوسف بن عمر، وبعث يوسف سلمًا وافدًا إلى هشام؛ وأثنى عليه فلم يوله، ثم أوفد شريك بن عبد ربه النميري، وأثنى عليه ليولّيه خراسان، فأبى هشام. قال: وأوفد نصر من خراسان الحكم بن يزيد بن عمير الأسدي إلى هشام، وأثنى عليه نصر، فضربه يوسف ومنعه من الخروج إلى خراسان؛ فلما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة استعمل الحكم بن يزيد على كرمان، وبعث بعهد نصر مع عبد الكريم الحنفي - ومعه كاتبه أبو المهند مولى بني حنيفة - فلما أتى سرخس وقع الثلج، فأقام ونزل على حفص بن عمر بن عباد التيمي، فقال له: قدمت بعهد نصر على خراسان؛ قال: وهو عامل يومئذ على سرخس - فدعا حفص غلامه، فحمله على فرس وأعطاه مالًا، وقال له: طر واقتل الفرس؛ فإن قام عليك فاشتر غيره حتى تأتي نصرًا. قال: فخرج الغلام حتى قدم على نصر ببلخ، فيجده في السوق، فدفع إليه الكتاب، فقال: أتدري ما في هذا الكتاب؟ قال: لا، فأمسكه بيده، وأتى منزله، فقال الناس: أتى نصرًا عهده على خراسان، فأتاه قوم من خاصته، فسألوه فقال: ما جاءني شيء، فمكث يومه، فدخل عليه من الغد أبو حفص بن علي، أحد بني حنظلة - وهو صهره؛ وكانت ابنته تحت نصر، وكان أهوج كثير المال؛ فقال له: إنّ الناس قد خاصوا وأكثروا في ولايتك؛ وأقرأه الكتاب، فقال: ما كان حفص ليكتب إليك إلا بحق، قال: فبينا هو يكلمه إذ استأذن عليه عبد الكريم، فدفع غليه عهده، فوصله بعشرة آلاف درهم. ثم استعمل نصر على بلخ مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل وشاح ابن بكير بن وشاح على مرو الروذ، والحارث بن عبد الله بن الحشرج لعى هراة، وزياد بن عبد الرحمن القشيري على أبرشهر، وأبا حفص بن علي ختنه على خوارزم، وقطن بن قتيبة على السغد. فقال رجل من أهل الشأم من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذه! قال: بلى، التي كانت قبل هذه. فلم يستعمل أربع سنين إلا مضريًا، وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبل ذلك مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية. فقال سوار بن الأشعر: أضحت خراسان بعد الخوف آمنة ** من ظلم كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفًا أخبار ما لقيت ** اختار نصرًا لها؛ نصر بن سيار وقال نصر بن سيار فمن كره ولايته: تعز عن الصبابة لا تلام ** كذلك لا يلم بك احتمام أأن سخطت كبيرة بعد قرب ** كلفت بها واشرك السقام! ترجّى اليوم ما وعدت حديثًا ** وقد كذبت مواعدها الكرام ألم تر أن ما صنع الغواني ** عسير لا يريع به الكلام أبت لي طاعتي وأبى بلائي ** وفوزي حين يعترك الخصام وإنا لا نضيع لنا ملمًا ** ولا حسبًا إذا ضاع الذمام ولا نغضي على غدر وإنا ** نقيم على الوفاء فلا نلام خليفتنا الذي فازت يداه ** بقدح الحمد والملك الهمام نسوسهم به ولنا عليهم ** إذا قلنا مكارمه جسام أبو العاصي أبوه وعبد شمس ** وحرب والقماقمة الكرام ومروان أبو الخلفاء عال ** عليه المجد فهو لهم نظام وبيت خليفة الرحمن فينا ** وبيتاه المقدس والحرام ونحن الأكرمون إذا نسبنا ** وعرنين البرية والسنام فأمسينا لنا من كل حي ** خراطيم البرية والزمام لنا أيد نريش بها ونبري ** وأيد في بوادرها السمام وبأس في الكريهة حين نلقى ** إذا كان النذير بها الحسام قال: وأتى نصرًا عهده في رجب من سنة عشرين ومائة، وقال له البختري: اقرأ عهدك واخطب الناس؛ فخطب الناس فقال في خطبته: استمسكوا أصحابنا بجدتكم، فقد عرفنا خيركم وشركم. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وقد قيل: إن الذي حجّ بهم فيها سليمان بن هشام. وقيل: حج بهم يزيد بن هشام. وكان العامل في هذه السنة على المدينة ومكة والطائف محمد بن هشام، وعلى العراق والمشرق كله يوسف بن عمر، وعلى خراسان نصر بن سيار - وقيل جعفر بن حنظلة - وعلى البصرة كثير بن عبد الله السلمي من قبل يوسف بن عمر، وعلى قضائها عامر بن عبيدة الباهلي، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة. ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة مسلمة بن هشام بن عبد الملك الروم، فافتتح بها مطامير. وغزوة مروان بن محمد بلاد صاحب سرير الذهب، فافتتح قلاعه وخرّب أرضه، وأذعن له بالجزية، في كلّ سنة ألف رأس يؤدّيه إليه، وأخذ منه بذلك الرهن، وملّكه مروان على أرضه. وفيها ولد العباس بن محمد. ذكر الخبر عن ظهور زيد بن علي وفيها قتل زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب في قول الواقدي في صفر؛ وأما هشام بن محمد فإنه زعم أنه قتل في سنة اثنتين وعشرين ومائة، في صفر منها. ذكر الخبر عن سبب مقتله وأموره وسبب مخرجه اختلف في سبب خروجه؛ فأما الهيثم بن عدي فإنه قال - فيما ذكر عنه، عن عبد الله بن عياش - قال: قدم زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وداود بن علي بن عبد الله بن عباس على خالد بن عبد الله وهو على العراق، فأجازهم ورجعوا إلى المدينة؛ فلما ولّى ابن يوسف بن عمر كتب إلى هشام بأسمائهم وبما أجازهم به، وكتب يذكر أن خالدًا ابتاع من زيد بن علي أرضًا بالمدينة بعشرة آلاف دينار، ثم ردّ الأرض عليه. فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسرّحهم إليه ففعل، فسألهم هشام فأقرّوا بالجائزة، وأنكروا ما سوى ذلك، فسأل زيدًا عن الأرض فأنكرها، وحلفوا لهشام فصدّقهم. وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه ذكر أن أبا مخنف حدثه أن أوّل أمر زيد بن علي كان أنّ يزيد بن خالد القسري ادّعى مالًا قبل زيد بن علي ومحمد بن عمر بن علي بن أبي طالب وداود بن علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وأيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي، فكتب فيهم يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك - وزيد بن علي يومئذ بالرصافة يخاصم بني الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب في صدقة رسول الله ﷺ، ومحمد بن عمر بن علي يومئذ مع زيد بن علي - فلما قدمت كتب يوسف ابن عمر على هشام بن عبد الملك بعث إليهم فذكر لهم ما كتب به يوسف ابن عمر إليه مما ادّعى قبلهم يزيد بن خالد، فأنكروا، فقال لهم هشام: فإنا باعثون بكم إليه يجمع بينكم وبينه، فقال له زيد بن علي: أنشدك الله والرّحم أن تبعث بي إلى يوسف بن عمر! قال: وما الذي تخاف من يوسف بن عمر؟ قال: أخاف أن يعتدى علي، قال له هشام: ليس ذلك له، ودعا هشام كاتبه فكتب إلى يوسف بن عمر: أما بعد، فإذا قدم عليك فلان وفلان، فاجمع بينهم وبين يزيد بن خالد القسري، فإن هم أقروا بما ادّعى عليهم فسرح بهم إلي، وإن هم أنكروا فسله بيّنة، فإن هو لم يقم البيّنة فاستحلفهم بعد العصر بالله الذي لا إله إلا هو؛ ما استودعهم يزيد بن خالد القسري وديعة، ولا له قبلهم، شيء! ثم خلّ سبيلهم. فقالوا لهشام: إنا نخاف أن يتعدّى كتابك، ويطول علينا، قال: كلا، أنا باعث معكم رجلًا من الحرس يأخذه بذلك؛ حتى يعجّل الفراغ، فقالوا: جزاك الله والرحم خيرًا؛ لقد حكمت بالعدل. فسرح بهم إلى سوسف، واحتبس أيوب بن سلمة؛ لأن أمّ هشام بن عبد الملك ابنة هشام ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي. وهو في أخواله، فلم يؤخذ بشيءٍ من ذلك القرف. فلما قدموا على يوسف، أدخلوا عليه، فأجلس زيد بن علي قريبًا منه، وألطفه في المسأة، ثم سألهم عن المال، فأنكروا جميعًا، وقالوا: لم يستودعنا مالًا، ولا له قبلنا حق، فأخرج يوسف يزيد بن خالد إليهم، فجمع بينه وبينهم، وقال له: هذا زيد بن علي، وهذا محمد بن عمر بن علي وهذا فلان وفلان الذين كنت ادّعيت عليهم ما ادّعيت، فقال: مالي قبلهم قليل ولا كثير، فقال يوسف: أفبي تهزأ أم بأمير المؤمنين! فعذّبه يومئذ عذابًا ظنّ أنه قد قتله، ثم أخرجهم إلى المسجد بعد صلاة العصر، فاستحلفهم فحلفوا له، وأمر بالقوم فبسط عليهم؛ ما عدا زيد بن علي فإنه كف عنه فلم يقتدر عند القوم على شيء. فكتب إلى هشام يعلمه اعلحال. فكتب إليه هشام: أن استحلفهم، وخلّ سبيلهم. فخلّى عنهم فخرجوا فلحقوا بالمدينة، وأقام زيد بن علي بالكوفة. وذكر عبيد بن جنّاد، عن عطاء بن مسلم الخفّاف أنّ زيد بن علي رأى في منامه أنه أضرم في العراق نارًا، ثم أطفأها ثم مات. فهالته، فقال لابنه يحيى: يا بني، إني رأيت رؤيا قد راعتني، فقصّها عليه. وجاءه كتاب هشام بن عبد الملك بأمره بالقدوم عليه، فقدم، فقال له: الحق بأميرك يوسف، فقال له: نشدتك بالله يا أمير المؤمنين، فوالله ما آمن إن بعثتني إليه ألّا أجتمع أنا وأنت حيّين على ظهر الأرض بعدها، فقال: الحق بيوسف كما تؤمر؛ فقدم عليه. وقد قيل: إن هشام بن عبد الملك إنما استقدم زيدًا من المدينة عن كتاب يوسف بن عمر؛ وكان السبب في ذلك - فيما زعم أبو عبيدة - أن يوسف بن عمر عذّب خالد بن عبد الله، فادّعى خالد أنه استودع زيد بن علي وداود بن علي ابن عبد الله بن عباس ورجلين من قريش: أحدهما مخزومي والآخر جمحي مالًا عظيمًا، فكتب بذلك يوسف إلى هشام، فكتب هشام إلى خاله إبراهيم بن هشام - وهو عامله على المدينة - يأمره بحملهم إليه. فدعا إبراهيم بن هشام زيدًا وداود، فسألهما عما ذكر خالد، فحلفا ما أودعهما خالد شيئًا، فقال: إنكما عندي لصادقان؛ ولكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان، فلا بدّ من إنفاذه. فحملهما إلى الشأم، فحلفا بالأيمان الغلاظ ما أودعهما خالد شيئًا قط. وقال داود: كنت قدمت عليه العراق، فأمر لي بمائة ألف درهم، فقال هشام: أنتما عندي أصدق من ابن النصرانية، فاقدما على يوسف، حتى يجمع بينكما وبينه فتكذّباه في وجهه. وقيل: إن زيدًا إنما قدم على هشام مخاصمًا ابن عمّه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي، ذكر ذلك عن جويرية بن أسماء، قال: شهدت زيد بن علي وجعفر بن حسن بن حسن يختصمان في ولاية وقوف علي، وكان زيد يخاصم عن بني حسين، وجعفر يخاصم عن بني حسن؛ فكان جعفر وزيد يتبالغان بين يدي الوالي إلى كلّ غاية، ثم يقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفًا. فلما مات جعفر قال عبد الله: من يكفينا زيدًا؟ قال حسن بن حسن بن حسن: أنا أكفيكه، قال: كلا، إنا نخاف لسانك ويدك؛ ولكنى أنا، قال: إذن لا تبلغ حاجتك وحجتك، قال: أما حجتي فسأبلغها؛ فتنازعا إلى الوالي - والوالي يومئذ عندهم فيما قيل إبراهيم بن هشام - قال: فقال عبد الله لزيد: أتطمع أن تنالها وأنت لأمة سندية! قال: قد كان إسماعيل لأمة؛ فنال أكثر منها؛ فسكت عبد الله، وتبالغا يومئذ كل غاية؛ فلما كان الغد أحضرهم الوالي، وأحضر قريشًا والأنصار، فتنازعا، فاعترض رجل من الأنصار، فدخل بينهما، فقال له زيد: وما أنت والدخول بيننا، وأنت رجل من قحطان! قال: أنا والله خير منك نفسًا وأبًا وأمًا. قال: فسكت زيد، وانبرى له رجل من قريش فقال: كذبت، لعمر الله لهو خير منك نفسًا وأبًا وأمًا وأولًا وآخرًا، وفوق الأرض وتحتها، فقال الوالي: وما أنت وهذا! فأخذ القرشي كفًا من الحصى، فضرب به الأرض وقال: والله ما على هذا من صبر، وفطن عبد الله وزيد لشماتة الوالي بهما، فذهب عبد الله ليتكلم فطلب إليه زيد فسكت، وقال زيد للوالي: أما والله لقد جمعتنا لأمر ما كان أبو بكر ولا عمر ليجمعانا على مثله؛ وإني أشده الله ألّا أنازعه إليك محقًا ولا مبطلًا ما كنت حيًا. ثم قال لعبد الله: انهض يا بن عمّ؛ فنهضا وتفرّق الناس. وقال بعضهم: لم يزل زيد ينازع جعفر بن حسن ثم عبد الله بعده؛ حتى ولّى هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم المدينة، فتنازعا، فأغلظ عبد الله لزيد، وقال: يا بن الهندكيّة! فتضاحك زيد، وقال: قد فعلتها يا أبا محمد! ثم ذكر أمّه بشيء. وذكر المدائني أن عبد الله لما قال ذلك لزيد قال زيد: أجل والله، لقد صبرت بعد وفاة سيّدها فما تعتّبت بابها إذ لم يصبر غيرها. قال: ثم ندم زيد واستحيا من عمته؛ فلم يدخل عليها زمانًا، فأرسلت إليه: يا بن أخي، إني لأعلم أن أمّك عندك كأمّ عبد الله عنده. وقيل: إن فاطمة أرسلتْ إلى زيد: إن سبّ عبد الله أمك فاسبب أمه؛ وأنها قالت لعبد الله: أقلت لأم زيد كذا وكذا؟ قال: نعم، قالت: فبئس والله ما صنعت! أما والله لنعم دخيلة القوم كانت! فذكر أن خالد بن عبد الملك، قال لهما: اغدوا علينا غدًا، فلست لعبد الملك إن لم أفصل بينكما. فباتت المدينة تغلي كالمرجل، يقول قائل: كذا وقائل كذا؛ قائل يقول قال زيد كذا، وقائل يقول: قال عبد الله كذا. فلما كان الغدُ جلس خالد في المجلس في المسجد، واجتمع الناس، فمن شامت ومن مهموم، فدعا بهما خالد، وهو يحبّ أن يتشاتما، فذهب عبد الله يتكلم، فقال زيد: لا تجل يا أبا محمد، أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدًا؛ ثم أقبل على خالد فقال له: يا خالد؛ لقد جمعت ذرّية رسول الله ﷺ لأمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر؛ قال خالد: أما لهذا السفيه أحد! فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم، فقال: يا بن أبي تراب وابن حسين السفيه، ما ترى لوالٍ عليك حقًا ولا طاعة! فقال زيد: اسكت أيها القحطاني، فإنا لا نجيب مثلك، قال: ولم ترغب عني! فوالله إني لخير منك، وأبي خير من أبيك، وأمّي خير من أمك! فتضاحك زيد، وقال: يا معشر قريش، هذا الدين قد ذهب، أفذهبت الأحساب! فوالله إنه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال: كذبت والله أيها القحطاني؛ فوالله لهو خير منك نفسًا وأبًا وأمًا ومحتدًا، وتناوله بكلام كثير؛ قال القحطاني: دعنا منك يا بن واقد؛ فأخذ ابن واقد كفًا من حصىً؛ فضرب بها الأرض، ثم قال له: والله ما لنا على هذا صبر، وقام. وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك، فجعل هشام لا يأذن له، فيرفع إليه القصص؛ فكلّما رفع إليه قصّة كتب هشام في أسفلها: ارجع إلى أميرك؛ فيقول زيد: والله لا أرجع إلى خالد أبدًا، وما أسأل مالًا؛ إنما أنا رجل مخاصم؛ ثم أذن له يومًا بعد طول حبس. فذكر عمر بن شبّة، عن أيوب بن عمر بن أبي عمرو، قال: حدثني محمد بن عبد العزيز الزهري قال: لما قدم زيد بن علي على هشام بن عبد الملك أعلمه حاجبه بمكانه، فرقي هشام إلى علية له طويلة، ثم أذن له، وأمر خادمًا أن يتبعه، وقال: لا يرينك، واسمعما يقول. قال: فأتعبته الدرجة - وكان بادنًا - فوقف في بعضها، فقال: والله لا يحب الدنيا أحد إلا ذلّ، فلما صار إلى هشام قضى حوائجه، ثم مضى نحو الكوفة، ونسي هشام أن يسأل الخادم حتى مضى لذلك أيام، ثم سأله فأخبره، فالتفت إلى الأبرش. فقال: والله ليأتينّك خلعه أول شيء، وكان كما قال. وذكر عن زيد أنه حلف لهشام على أمر؛ فقال له: لا أصدقك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله لم يرفع قدر أحد عن أن يرضى بالله، ولم يضع قدر أحد عن ألا يرضى بذلك منه، فقال له هشام: لقد بلغني يا زيد أنك تذكر الخلافة وتتمناها، ولست هناك وأ، ت ابن أمة! فقال زيد: إن لك يا أمير المؤمنين جوابًا، قال: تكلم، قال: ليس أحد أولى بالله، ولا أرفع عنده منزلة من نبي ابتعثه؛ وقد كان إسماعيل من خير الأنبياء، وولد خيرهم محمدًا ﷺ، وكان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة مثلك؛ فاختاره الله عليه، وأخرج منه خير البشر؛ وما على أحد من ذلك جده رسول الله ﷺ ما كانت أمه أمة. فقال له هشام: اخرج، قال: أخرج ثم لا تراني إلّا حيث تكره، فقال له سالم: يا أبا الحسين؛ لا يظهرنّ هذا منك. رجع الحديث إلى حديث هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف. قال: فجعلت الشيعة تختلف إلى زيد بن علي، وتأمره بالخروج، ويقولون: إنا لنرجو أن تكون المنصور. وأن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية. فأقام بالكوفة، فجعل يوسف بن عمر يسأل عنه، فقال: هو هاهنا، فيبعث إليه أن اشخص، فيقول: نعم؛ ويعتل له بالوجع. فمكث ما شاء الله، ثم سأل أيضًا عنه فقيل له: هو مقيم بالكوفة بعد لم يبرح، فبعث إليه، فاستحثه بالشخوص، فاعتل عليه بأشياء يبتاعها، وأخبره أنه في جهازه، ورأى جد يوسف في أمره فتهيأ، ثم شخص حتى أتى القادسيّة. وقال بعض الناس: أرسل معه رسولًا حتى بلّغه العذيب، فلحقته الشيعة، فقالوا له: أين تذهب عنا ومعك مائة ألف رجل من أهل الكوفة، يضربون دونك بأسيافهم غدًا وليس قبلك من أهل الشأم إلا عدّة قليلة، لو أن قبيلة من قبائلنا نحو مذحج أو همدان أو تميم أو بكر نصبت لهم لكفتكهم بإذن الله تعالى! فننشدك الله لما رجعت؛ فلم يزالوا به حتى ردّوه إلى الكوفة. وأما غير أبي مخنف؛ فإنه قال ما ذكر عبيد بن جناد، عن عطاء بن مسلم، أن زيد بن علي لما قدم على يوسف، قال له يوسف: زعم خالد أنه قد أودعك مالًا، قال: أنّى يودعني مالًا وهو يشم آبائي على منبره! فأرسل إلى خالد، فأحضره في عباءة، فقال له: هذا زيد، زعمت أنك قد أودعته مالًا، وقد أنكر؛ فنظر خالد في وجههما، ثم قال: أتريد أن تجمع مع إثمك في إثمًا في هذا! وكيف أودعه مالًا وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! قال: فشتمه يوسف، ثم ردّه. وأما أبو عبيدة، فذكر عنه، أنه قال: صدّق هشام زيدًا ومن كان يوسف قرفه بما قرفه به، ووجههم إلى يوسف، وقال: إنهم قد حلفوا لي، وقبلت أيمانهم وأبرأتهم من المال، وإنما وجهت بهم إليك لتجمع بينهم وبين خالد فيكذبوه. قال: ووصلهم هشام؛ فلما قدموا على يوسف أنزلهم وأكرمهم، وبعث إلى خالد فأتى به، فقال: قد حلف القوم، وهذا كتاب أمير المؤمنين ببراءتهم، فهل عندك بيّنة بما ادعيت؟ فلم تكن له بينة، فقال القوم لخالد: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: غلّظ علي العذاب فادّعيت ما ادعيت، وأملت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم. فأطلقهم يوسف، فمضى القرشيان: الجمحي والمخزومي إلى المدينة؛ وتخلّف الهاشميّان: داود بن علي وزيد ابن علي بالكوفة. وذكر أن زيدًا أقام بالكوفة أربعة أشهر أو خمسة ويوسف يأمره بالخروج، ويكتب إلى عامله على الكوفة وهو يومئذ بالحيرة يأمره بإزعاج زيد، وزيد يذكر أنه ينازع بعض آل طلحة بن عبيد الله في مال بينه وبينهم بالمدينة، فيكتب العامل بذلك إلى يوسف، فيقرّه أيمًا، ثم يبلغه أنّ الشيعة تختلف إليه؛ فيكتب إليه أن أخرجه ولا تؤخّره؛ وإن ادّعى أنه ينازع فليجر جرًا، وليوكل من يقوم مقامه فيما يطالب به؛ وقد بايعه جماعة منهم سلمة بن كهيل ونصر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وحجيّة بن الأجلح الكندي وناس من وجوه أهل الكوفة؛ فلما رأى ذلك داود ابن علي قال له: يا بن عمّ، لا يغرنّك هؤلاء من نفسك؛ ففي أهل بيتك لك عبرة، وفي خذلان هؤلاء إياهم. فقال: يا داود، إنّ بني أمية قد عتوا وقست قلوبهم؛ فلم يزل به داود حتى عزم على الشخوص، فشخصا حتى بلغا القادسية. وذكر عن أبي عبيدة، أنه قال: اتّبعوه إلى الثعلبيّة وقالوا له: نحن أربعون ألفًا، إن رجعت إلى الكوفة لم يتخلّف معنك أحد، وأعطوه المواثيق والأيمان المغلّظة، فجعل يقول: إني أخاف أن تخذلوني وتسلموني كفعلكم بأبي وجدّي. فيحلفون له، فيقول داود بن علي: يا بن عمّ، إن هؤلاء يغرّونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعزّ عليهم منك؛ جدّك علي بن أبي طالب حتى قتل! والحسن م بعده بايعوه ثم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه، وانتهبوا فسطاطه، وجرّحوه! أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين، وحلّفوا له بأوكد الأيمان ثم خذلوه وأسلموه، ثم لم يرضوا بذلك حتى قتلوه! فلا تفعل ولا ترجع معهم. فقالوا: إن هذا لا يريد أن تظهر أنت، ويزعم أنه وأهل بيته أحق بهذا الأمر منكم، فقال: زيد لداود: إن عليًا كان يقاتله معاوية بدهائه ونكرانه بأهل الشأم، وإن الحسين قاتله يزيد بن معاوية والأمر عليهم مقبل؛ فقال له داود: إني لخائف إن رجعت معهم ألّا يكون أحد أشد عليك منهم، وانت أعلم. ومضى داود إلى المدينة ورجع زيد إلى الكوفة. وقال عبيد بن جنّاد. عن عطاء بن مسلم الخفاف، قال: كتب هشام إلى يوسف أن أشخص زيدًا إلى بلده، فإنه لا يقيم ببلد غيره فيدعو أهله إلا أجابوه، فأشخصه، فلما كان بالثعلبية - أو القادسية - لحقه المشائيم - يعني أهل الكوفة - فردوه وبايعوه، فأتاه سلمة بن كهيل، فأستاذن عليه، فأذن له، فذكر قرابته من رسول الله ﷺ وحقه فأحسن. ثم تكلم زيد فأحسن، فقال له سلمة: اجعل لي الأمان، فقال: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي الأمان! وإنما أراد سلمة أن يسمع ذلك أصحابه، ثم قال: لك الأمان، فقال: نشدتك بالله، كم بايعك؟ قال: أربعون ألفًا، قال: فكم بايع جدّك؟ قال: ثمانون ألفًا، قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلثمائة، قال: نشدتك الله أنت خير أم جدّك؟ قال: بل جدي، قال: أفقرنك الذي خرجت فيهم خير أم القرن الذي خرج فيهم جدك؟ قال: بل القرن الذي خرج فيهم جدّي، قال: أفتطمع أن يفي لك هؤلاء، وقد غدر أولئك بجدّك! قال: قد بايعوني، ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم، قال: أفتأذن لي أن أخرج من البلد؟ قال: لمَ؟ قال: لا آمن أن يحدث في أمرك حدث فلا أملك نفسي، قال: قد أذنت لك، فخرج إلى اليمامة، وخرج زيد فقتل وصلب. فكتب هشام إلى يوسف يلومه على تركه سلمة ابن كهيل يخرج من الكوفة، ويقول: مقامه كان خيرًا من كذا وكذا من الخيل تكون معك. وذكر عمر عن أبي إسحاق - شيخ من أهل أصبهان حدثه - أن عبد الله ابن حسن كتب إلى زيد بن علي: يا بن عمّ؛ إن أهلّ الكوفة نفخ العلانية، خور السريرة، هوج في الرخاء، جزع في اللقاء؛ تقدمهم ألسنتهم، ولا تشايعهم قلوبهم، لا يبيتون بعدة في الأحداث، ولا ينوءون بدولة مرجوّة؛ ولقد تواترت إلي كتبهم بدعوتهم، فصمّمت عن ندائهم؛ وألبست قلبي غشاءً عن ذكرهم؛ يأسًا منهم واطراحًا لهم؛ وما لهم مثل إلا ما قال علي بن أبي طالب: إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجبتم إلى مشاقة نكصتم. وذكر عن هشام بن عبد الملك، أنه كتب إلى يوسف بن عمر في أمر زيد بن علي: أما بعد فقد علمت بحال أهل الكوفة في حبهم أهل هذا لابيت، ووضعهم إياهم في غير مواضعهم؛ لأنهم افترضوا على أنفسهم طاعتهم، ووظفوا عليهم شرائع دينهم، ونحلوهم علم ما هو كائن؛ حتى حملوهم من تفريق الجماعة على حال استخفوهم فيها إلى الخروج، وقد قدم زين بن علي على أمير المؤمنين في خصومة عمر بن الوليد، ففصل أمير المؤمنين بينهما، ورأى رجلًا جدلًا لسنًا خليقًا بتمويه الكلام وصوغه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه، وبكثرة مخارجه في حججه، وما يدلى به عند لدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوّة الحادّة لنيل الفلج؛ فعجل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تخلّه والمقام قبلك؛ فإنه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه، وحلاوة منطقه، مع ما يدلي به من القرابة برسول الله ﷺ، وجدهم ميلًا إليه؛ غير متئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم، ولا مصونة عندهم أديانهم؛ وبعض التحامل عليه فيه أذى له، وإخراجه وتركه مع السلامة للجميع والحقن للدماء والأمن للفرقة أحب إلي من أمر فيه سفك دمائهم، وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم؛ والجماعة حبل الله المتين، ودين الله القويم وعروته الوثقى؛ فادع إليك أشارف أهل المصر، وأوعدهم العقوبة في الأبشار، واستصفاء الأموال؛ فإن من له عقد أو عهد منهم سيبطىء عنه، ولا يخفّ معه إلّا الرعاع وأهل السواد ومن تنهضه الحاجة؛ استلذاذًا للفتنة؛ وأولئك ممن يستعبد إبليس؛ وهو يستعبدهم. فبادهم بالوعيد. وأعضضهم بسوطك، وجرّد فيهم سيفك، وأخف الأشراف قبل الأوساط، والأوساط قبل السفلة. والعم أنك قائم على باب ألفة، وداع إلى طاعة، وحاض على جماعة، ومشمر لدين الله؛ فلا تستوحش لكثرتهم، واجعل معقلك الذي تأوي غليه، وضغوك الذي تخرج منه الثقة بربك، والغضب لدينك، والمحاماة عن الجماعة، ومناصبة من أراد كسر هذا الباب الذي أمرهم الله بالدخول فيه، والتشاح عليه؛ فإن أمير المؤمنين قد أعذر إليه وقضى من ذمامه، فليس له منزىً إلى ادعاء حقّ هو له ظلمة من نصيب نفسه، أو فيء، أو صلة لذي قربى، إلا الذي خاف أمير المؤمنين من حمل بادرة السفلة على الذي عسى أن يكونوا به أشقى وأضل؛ ولهم أمر، ولأمير المؤمنين أعز وأسهل إلى حياطة الدين والذب عنه، فإنه لا يحب أن يرى في أمته حالًا متفاوتًا نكالًا لهم مفنيًا؛ فهو يستديم النظرة، ويتأتى للرشاد، ويجتنبهم على المخاوف، ويستجرّهم إلى المراشد، ويعدل بهم عن المهالك، فعل الوالد الشفيق على ولده، والرّاعي الحدب على رعيته. واعلم أنّ من حجّتك عليهم في استحقاق نصر الله لك عند معاندتهم توفيتك أطماعهم، وأعطية ذرّيتهم، ونهيك جندك أن ينزلوا حريمهم ودورهم؛ فانتهز رضا الله فيما أنت بسبيله؛ فإنه ليس ذنب أسرع تعجيل عقوبة من بغى؛ وقد أوقعهم الشيطان، ودلّاهم فيه، ودلّهم عليه؛ والعصمة بتارك البغي أوْلى؛ فأمير المؤمنين يستعين الله عليهم وعلى غيرهم من رعيته، ويسأل إلهه ومولاه ووليّه أن يصلح منهم ما كان فاسدًا، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز؛ إنه سميع قريب. رجع الحديث إلى حديث هشام. قال: فرجع زيد إلى الكوفة، فاستخفى، قال: فقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب حيث أراد الرجوع إلى الكوفة: أذكّرك الله يا زيد لمّا لحقت بأهلك؛ ولم تقبل قول أحد من هؤلاء الذين يدعونك إلى ما يدعونك إليه؛ فإنهم لا يفون لك؛ فلم يقبل منه ذلك، ورجع. قال هشام: قال أبو مخنف: فأقبلت الشيعة لما رجع إلى الكوفة يختلفون إليه، ويبايعون له، حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل، فأقام بالكوفة بضعة عشر شهرًا؛ إلّا أنه قد كان منها بالبصرة نحو شهرين، ثم أقبل إلى الكوفة، فأقام بها، وأرسل إلى أهل السواد وأهل الموصل رجالًا يدعون إليه. قال: وتزوج حيث قدم الكوفة ابنة يعقوب بن عبد الله السلمي، أحد بني فرقد، وتزوج ابنة عبد الله بن أبي العنبس الأزدي. قال: وكان سبب تزوّجه إياها أن أمها أم عمرو بنت الصلت كانت ترى رأي الشيعة، فبلغها مكان زيد، فأتته لتسلّم عليه - وكانت امرأة جسيمة جميلة لحيمة، قد دخلت في السنّ، إلا أن الكبر لا يستبين عليها - فلمّا دخلت على زيد بن علي فسلمت عليه ظنّ أنها شابة، فكلمته فإذا أفصح الناس لسانًا، وأجمله منظرًا، فسألها عن نسبها فأنتسبت له، وأخبرته ممن هي، فقال لها: هل لك رحمك الله أن تتزوجيني؟ قالت: أنت والله - رحمك الله - رغبة لو كان من أمري التزويج، قال لها: وما الذي يمنعك؟ قالت: يمنعني من ذلك أني قد أسننت، فقال لها: كلّا قد رضيت، ما أبعدك من أن تكوني قد أسننت! قالت: رحمك الله، أنا أعلم بنفسي منك؛ وبما أتى علي من الدهر؛ ولو كنت متزوجة يومًا من الدهر لما عدلت بك؛ ولكن لي ابنة أبوها ابن عمي؛ وهي أجمل مني، وأنا أزوّجكها إن أحببت، قال: رضيت أن تكون مثلك، قالت له: لكن خالقها ومصورها لم يرض أن يجعلها مثلي، حتى جعلها أبيض وأوسم وأجسم، وأحسن مني دلًا وشكلًا. فضحك زيد، وقال لها: قد رزقت فصاحة ومنطقًا حسنًا، فأين فصاحتها من فصاحتك؟ قالت: أما هذا فلا علم لي به؛ لأني نشأت بالحجاز، ونشأت ابنتي بالكوفة، فلا أدري علّ ابنتي قد أخذت لغة أهلها. فقال زيد: ليس ذلك بأكره إلي، ثم واعدها موعدًا فأتاها فتزوّجها، ثم بنى بها فولدت له جاريةً. ثم إنها ماتت بعد؛ وكان بها معجبًا. قال: وكان زيد بن علي ينزل بالكوفة منازل شتى، في دار امرأته في الأزد مرة، ومرة في أصهاره السلميين، ومرة عند نصر بن خزيمة في بني عبس، ومرة في بني غبر. ثم إنه تحوّل من بني غبر إلى دار معاوية ابن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري في أقصى جباّانة سالم السلولي، وفي بني نهد وبني تغلب عند مسجد بني هلال بن عامر، فأقام يبايع أصحابه؛ وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس: " إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وجهاد الظالمين، والدّفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، وردّ الظالمين، وإقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا "، أتبايعون على ذلك فإذا قالوا: نعم، وضع يده على يده، ثم يقول: عليك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله، لتفينّ بيعتي ولتقاتلنّ عدوّي ولتنصحنّ في السرّ والعلانية؟ فإذا قال: نعم مسح يده على يده، ثم قال: اللهمّ اشهده. فمكث بذلك بضعة عشر شهرًا؛ فلما دنا خروجه أمر أصحابه بالاستعداد والتهيّؤ، فجعل من يريد أن يفي ويخرج معه يستعدّ لو يتهيّأ، فشاع أمره في الناس. ذكر الخبر عن غزوة نصر بن سيار ما وراء النهر وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرّتين، ثم غزا الثالثة، فقتل كور صول. ذكر الخبر عن غزواته هذه ذكر علي عن شيوخه، أن نصرًا غزا من بلخ ما وراء النهر من ناحية باب الحديد؛ ثم قفل إلى مرو، فخطب الناس، فقال: ألا إن بهرامسيس كان مانحج المجوس، يمنحهم ويدفع عنهم، ويحمل أثقالهم على المسلمين؛ ألا إنّ اشبداد بن جريجور كان مانح النصارى؛ ألا إن عقيبة اليهودي كان مانح اليهود يفعل ذلك. ألا إني مانح المسلمين، أمنحهم وأدفع عنهم، وأحمل أثقالهم على المشركين؛ ألا إنه لا يقبل مني إلا توفي الخراج على ما كتب ورفع. وقد استعملت عليكم منصور بن عمر بن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم. فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه، أو ثقل عليه في خراجه، وخفّف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك إلى المنصور بن عمر، يحوّله عن المسلم إلى المشرك. قال: فما كانت الجمعة الثانية؛ حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم، كانوا يؤدون الجزية عن رءوسهم وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحوّل ذلك عليهم، وألقاه من المسلمين. ثم صنّف الخراج حتى وضعه مواضعه، ثم وظّف الوظيفة التي جرى عليها الصلح. قال: فكاانت مرو يؤخذ منها مائة ألف سوى الخراج أيام بني أميّة. ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم قفل، ثم غزا الثانية إلى الشاش من مرو، فحال بينه وبين قطوع النهر نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفًا، استأجر كلّ رجل منهم في كلّ شهر بشقّة حرير؛ الشقة يومئذ بخمسة وعشرين درهمًا، فكانت بينهم مراماة، فمنع نصرًا من القطوع إلى الشاش. وكان الحارث بن سريج يومئذ بأرض الترك، فأقبل معهم؛ فكان بإزاء نصر، فرمى نصرًا؛ وهو على سريره على شاطىء النهر بحسبان، فوقع السهم في شدق وصيف لنصر يوضّئه. فتحوّل نصر عن سريره، ورمى فرسًا لرجل من أهل الشأم فنفق. وعبر كورصول في أربعين رجلًا، فبيّت أهل العسكر، وساق شاء لأهل بُخارى، وكانوا في الساقة، وأطاف بالعسكر في ليلة مظلمة؛ ومع نصر أهل بخارى وسمرقند وكسّ وأشروسنة، وهم عشرون ألفًا، فنادى نصر في الأخماس: ألا لا يخرجنّ أحد من بنائه، وأثبتوا على مواضعكم. فخرج عاصم بن عمير وهو على جند أهل سمرقند. حتى مرّت خيل كورصول، وقد كانت الترك صاحت صيحة. فظن أهل العسكر أن الترك قد قطعوا كلّهم. فلما مرّت خيل كورصول على ذلك حمل على آخرهم، فأسر رجلًا؛ فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبّة، فجاءوا به إلى نصر، فإذا هو شيخ يسحب درعه شبرًا، وعليه رانا ديباج فيهما حلق، وقباء فرند مكفف بالديباج، فقال له نصر: من أنت؟ قال: كورصول، فقال نصر: وأنا أعطيك ألف بعير من إبل الترك، وألف برذون تقوّى بها جندك، وخلّ سبيلي! فقال نصر لمن حوله من أهل الشأم وأهل خراسان: ما تقولون؟ فقالوا: خلّ سبيله، فسأله عن سنّه، قال: لا أدري، قال: كم غزوت؟ قال: اثنتين وسبعين غزوة، قال: أشهدت يوم العطش؟ قال: نعم، قال: لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك. وقال لعاصم بن عمير السغدي: قم إلى سلبه فخذه؛ فلما أيقن بالقتل، قال: من أسرني؟ قال نصر وهو يضحك: يزيد بن قرّان الحنظلي - وأشار إليه - قال: هذا لا يستطيع أن يغسل استه - أو قال: لا يستطيع أن يتمّ بوله - فكيف يأسرني! فأخبرني من أسرني؛ فإني أهلٌ أن أقتل سبع قتلات، قيل له: عاصم بن عمير، قال: لست أجد مسّ القتل إذ كان الذي أسرني فارسًا من فرسان العرب. فقتله وصلبه على شاطىء النهر. قال: وعاصم بن عمير هو الهزارمرد، قتل بنهاود أيام قحطبة. قال: فلما قتل كورصول تخدّرت الترك وجاءوا بأبنيته فحرقوها، وقطعوا آذانهم، وجردّوا وجوههم. وطفقوا يبكون عليه؛ فلما أمسى نصر وأراد الرحلة، بعث إلى كورصول بقارورة نفط، فصبّها عليه، وأشعل فيه النار لئلا يحملوا عظامه. قال: وكان ذلك أشدّ عليهم من قتله. وارتفع نصر إلى فرغانة، فسبى منها ثلاثين ألف رأس، قال: فقال عنبر بن برعمة الأزدي: كتب يوسف بن عمر إلى نصر: سر إلى هذا الغارز ذنبه بالشاش - يعني الحارث بن سريج - فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش، فخرّب بلادهم، واسب ذراريّهم؛ وإياك وورطة المسلمين. قال: فدعا نصر الناس، فقرأ عليهم الكتاب، وقال: ما ترون؟ فقال يحيى بن حضين: امض لأمر أمير المؤمنين وأمر الأمير، فقال نصر: يا يحيى، تكلمت ليالي عاصم بكلمة؛ فبلغت الخليفة فحظيت بها، وزيد في عطائك، وفرض لأهل بيتك، وبلغت الدرجة الرفيعة، فقلت: أقول مثلها. سر يا يحيى، فقد وليتك مقدّمتي؛ فأقبل الناس على يحيى يلومونه، فقال نصر يومئذ: وأي ورطة أشدّ من أن تكون في السفر وهم في القرار! قال: فسار إلى الشاش، فأتاه الحارث بن سريج فنصب عرّادتين تلقاء بني تميم؛ فقيل له: هؤلاء بنو تميم، فنقلهما فنصبهما على الأزد - ويقال: علي بكر بن وائل - وأغار عليهم الأخرم، وهو فارس الترك، فقتله المسلمون، وأسروا سبعة من أصحابه، فأمر نصر بن سيار برأس الأخرم، فرمى به في عسكرهم بمنجنيق، فلما رأوه ضجوا ضجة عظيمة، ثم ارتحلوا منهزمين، ورجع نصر، وأراد أن يعبر، فحيل بينه وبين ذلك، فقال أبو نميلة صالح بن الأبّار: كنا وأوبة نصر عند غيبته ** كراقب النوء حتى جاده المطر أودى بأخرم منه عارض برد ** مسترجف بمنايا القوم منهمر وأقبل نصر فنزل سمرقند في السنة التي لقي فيها الحارث بن سريج، فأتاه بخارا خذاه منصرفًا؛ وكانت المسلحة عليهم، ومعهم دهقانان من دهاقين بخارى، وكانا أسلما على يدي نصر، وقد أجمعا على الفتك بواصل بن عمرو القيسي عامل بخارى وببخاراخذاه يتظلّمان من بخاراخذاه، - واسمه طوق شياده - فقال بخاراخذاه لنصر: أصلح الله الأمير! قد علمت أنهما قد أسلما على يديك، فما بالهما معلّقي الخناجر عليهما! فقال لهما نصر: ما بالكما معلقي الخناجر وقد أسلمتما! قال: بيننا وبين بخاراخذاه عداوة فلا نأمنه على أنفسنا. فأمر نصر هارون بن السياوش مولى بني سليم - وكان يكون على الرابطة - فاجتذبهما فقطعهما، ونهض بخارخذاه إلى نصر يسارّه في أمرهما، فقالا: نموت كريمين؛ فشدّ أحدهما على واصل ابن عمرو فطعنه في بطنه بسكين، وضربه واصل بسيفه على رأسه؛ فأطار قحف رأسه فقتله، ومضى الآخر إلى بخارخذاه - وأقيمت الصلاة، وبخارخذاه جالس على كرسي - فوثب نصر، فدخل السرادق، وأحضر بخارخذاه، فعثر عند باب السرادق فطعنه، وشدّ عليه الجوزجان بن الجوزجان، فضربه بجرز كان معه فقتله، وحُمل بخاراخذاه فأدخل سرادق نصر، ودعا له نصر بوسادة فاتّكأ عليها، وأتاه قرعة الطبيب، فجعل يعالجه وأوصى إلى نصر، ومات من ساعته، ودفن واصل في السرادق، وصلى عليه نصر. وأما طوق شياده فكشطوا عنه لحمه، وحملوا عظامه إلى بخارى. قال: وسار نصر إلى الشاش، فلما قدم أشروسنة عرض دهقانها أباراخرّه مالًا، ثم نفذ إلى الشاش، واستعمل على فرغانة محمد بن خالد الأزدي، وجهه إليها في عشرة نفر، وردّ من فرغانة أخاجيش فيمن كان معه من دهاقين الختل وغيرهم، وانصرف منها بتماثيل كثيرة، فنصبها في أشروسنة. وقال بعضهم: لما أتى نصر الشاش تلقّاه قدر ملكها بالصلح والهدية والرهن، واشترط عليه إخراج الحارث بن سريج من بلده، فأخرجه إلى فاراب؛ واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص، ثم سار حتى نزل قباء من أرض فرغانة، وقد كانوا أحسوا بمجيئه، فأحرقوا الحشيش وحبسوا الميرة. ووجّه نصر إلى ولي عهد صاحب فرغانة في بقية سنة إحدى وعشرين ومائة، فحاصروه في قعلة من قلاعها، فغفل عنهم المسلمون، فخرجوا على دوابّهم وكمنوا لهم، فخرجوا فاستاقوا بعضها، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم، وقتلوا الدهقان، وأسروا منهم أسراء، وحمل ابن الدهقان المقتول على ابن المثنى، فختله محمد بن المثنىّ، فأسره، وهو غلام أمرد، فأتى به نصرًا، فضرب عنقه. وكان نصر بعث سليمان بن صول إلى صاحب فرغانة بكتاب الصلح بينهما. قال سليمان: فقدمت عليه فقال لي: من أنت؟ قلت: شاكري خليفة كاتب الأمير، قال: فقال: أدخلوه الخزائن ليرى ما أعددنا، فقيل له: قم، قال: قلت ليس بي مشي، قال: قدّموا له دابة يركبها، قال: فدخلت خزائنه، فقلت في نفسي: يا سليمان، شمت بك إسرايل وبشر بن عبيد؛ ليس هذا إلّا لكراهة الصحل، وسانصرف بخفّي حنين. قال: فرجعت إليه، فقال: كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم؟ قلت: سهلًا كثير الماء والمرعى؛ فكره ما قلت له، فقال: ما علمك؟ فقلت: قد غزوت غرشستان وغور والختّل وطبرستان، فكيف لا أعلم! قال: فكيف رأيت ما أعددنا؟ قلت: رأيت عدة حسنة؛ ولكن أما علمت أن صاحب الحصار لا يسلم من خصال! قال: وما هن؟ قلت: لا يأمن أقرب الناس إليه وأحبهم إليه وأوثقهم في نفسه أن يثب به يطلب مرتبته، ويتقرّب بذلك، أو يفنى ما قد جمع، فيسلم برمته، أو يصيبه داء فيموت. فقطّب وكره ما قلت له وقال: انصرف إلى منزلك، فانصرفت فأقمت يومين، وأنا لا أشكّ في تركه الصلح، فدعاني فحملتُ كتاب الصلح مع غلامي، وقلت له: إن أتاك رسولي يطلب الكتاب فانصرف إلى المنزل، ولا تظهر الكتاب، وقل لي: إني خلفت الكتاب في المنزل. فدخلت عليه، فسألني عن الكتاب، فقلت: خلّفته في المنزل. فقال: ابعث من يجيئك به، فقبل الصلح، وأحسن جائزتي، وسرّح معي أمّه، وكانت صاحبة أمره. قال: فقدمت على نصر؛ فلما نظر إلي قال: ما مثلك إلا كما قال الأوّل: فأرسل حكيمًا ولا توصه فأخبرته، فقال: وفقت، وأذن لمه عليه، وجعل يكلمها والترجمان يعبّر عنها، فدخل تميم بن نصر، فقال للترجمان: قل لها: تعرفين هذا؟ فقالت: لا، فقال: هذا تميم بن نصر، فقالت: والله ما أرى له حلاوة الصغير، ولا نبل الكبير. قال أبو إسحاق بن ربيعة: قالت لنصر: كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك: وزيرٌ يباثّه بكتاب نفسه وما شجر في صدره من الكلام، ويشاوره ويثق بنصيحته، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي، وزوجة إذا دخل عليها مغتمًا فنظر إلى وجهها زال غمه، وحصن إذا فزع أو جهد فزع إليه فأنجاه - تعني البرذون - وسيف إذا قارع الأقران لم يخش خيانته، وذخيرة إذا حملها فأين وقع بها من الأرض عاش بها. ثم دخل تميم بن نصر في الأزفلة وجماعة، فقالت: من هذا؟ قالوا: هذا فتى خراسان، هذا تميم بن نصر، قالت: ما له نبل الكبار ولا حلاوة الصغار. ثم دخل الحجاج بن قتيبة فقالت: من هذا؟ فقالوا: الحجاج بن قتيبة، قال: فحيّته، وسألت عنه؛ وقالت: يا معشر العرب، ما لكم وفاء؛ لا يصلح بعضكم لبعض. قتيبة الذي وطّن لكم ما أرى، وهذا ابنه تقعده دونك! فحقك أن تجلسه هذا المجلس، وتجلس أنت مجلسه. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي - كذلك قال أبو معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت. عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان عامل هشام بن عبد الملك على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة محمد بن هشام، وعامله على العراق كلّه يوسف بن عمر، وعامله على أذربيجان وأرمينية مروان بن محمد، وعلى خراسان نصر بن سيّار، وعلى قضاء البصرة عامر بن عبيدة، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من أحداث خبر مقتل زيد بن علي فمن ذلك مقتل زيد بن علي. ذكر الخبر عن ذلك ذكر هشام عن أبي مخنف، أنّ زيد بن علي لما أمر أصحابه بالتأهب للخروج والاستعداد، أخذ من كان يريد الوفاء له بالبيعة فيما أمرهم به من ذلك، فانطلق سليمان بن سراقة البارقي إلى يوسف بن عمر، فأخبره خبره، وأعلمه أنه يختلف إلى رجل منهم يقال له عامر. وإلى رجل من بني تميم يقال له طعمة؛ ابن أخت لبارق؛ وهو نازل فيهم. فبعث يوسف يطلب زيد بن علي في منزلهما فلم يوجد عندهما، وأخذ الرجلان، فأتيَ بهما، فلما كلمهما استبان له أمر زيد وأصحابه. وتخوّف زيد بن علي أن يؤخذ، فتعجّل قبل الأجل الذي جعله بينه وبين أهل الكوفة. قال: وعلى أهل الكوفة يومئذ الحكم بن الصلت، وعلى شرطه عمرو بن عبد الرحمن، رجل من القارة؛ وكانت ثقيف أخواله؛ وكان فيهم ومعه عبيد الله بن العباس الكندي، في أناس من أهل الشأم، ويوسف بن عمر بالحيرة. قال: فلما رأى أصحاب زيد بن علي الذين بايعوه أنّ يوسف بن عمر قد بلغه أمر زيد، وأنه يدسّ إليه، ويستبحث عن أمره، اجتمعت إليه جماعة من رءوسهم، فقالوا: رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدًا من أهل بيتي يتبرّأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيرًا، قالوا: فلم تطلب إذًا بدم أهل هذا البيت؛ إلّا أن وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم! فقال لهم زيد: إن أشدّ ما أقول فيما ذكرتم أنّا كنا أحقّ بسلطان رسول الله ﷺ من الناس أجمعين، وإنّ القوم استأثروا علينا، ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرًا، قد ولّوا فعدلوا في الناس، وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا: فلم يظلمك هؤلاء! وإن كان أولئك لم يظلموك، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين! فقال: وإنّ هؤلاء ليسوا كأولئك؛ إنّ هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم؛ وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وإلى السنن أن تحيا، وإلى البدع أن تطفأ؛ فإن أنتم أجبتمونا سعدتم، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه ونكثوا بيعته، وقالوا: سبق الإمام - وكانوا يزعمون أنّ أبا جعفر محمد بن علي أخا زيد بن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ - وكان ابنه جعفر بن محمد حيًّا، فقالوا: جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه؛ وهو أحقّ بالأمر بعد أبيه؛ ولا نتبع زيد بن علي فليس بإمام. فسمّاهم زيد الرافضة، فهم اليوم يزعمون أن الذي سماهم الرافضة المغيرة حيث فارقوه. وكانت منهم طائفة قبل خروج زيد مرّوا إلى جعفر بن محمد بن علي، فقالوا له: إن زيد بن علي فينا يبايع؛ أفترى لنا أن نبايعه؟ فقال لهم: نعم بايعوه؛ فهو والله أفضلنا وسيدنا وخيرنا فجاءوا، فكتموا ما أمرهم به. قال: واستتبّ لزيد بن علي خروجه، فواعد أصحابه ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة. وبلغ يوسف بن عمر أنّ زيدًا قد أزمع على الخروج، فبعث إلى الحكم ابن الصلت، فأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم يحصرهم فيه، فبعث الحكم إلى العرفاء والشرط والمناكب والمقاتلة؛ فأدخلهم المسجد، ثم نادى مناديه: ألا إنّ الأمير يقول: من أدركناه في رحلة فقد برئت منه الذمّة؛ ادخلوا المسجد الأعظم. فأتى الناس المسجد يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم، وطلبوا زيدًا في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، فخرج ليلًا؛ وذلك ليلة الأربعاء، في ليلة شديدة البرد، من دار معاوية بن إسحاق، فرفعوا الهرادي فيها النيران، ونادوا: يا منصور أمت، أمت يا منصور. فكلما أكلت النار هرديًا رفعوا آخر، فما زالوا كذلك حتى طلع الفجر؛ فلما أصبحوا بعث زيد بن علي القاسم التنعي ثم الحضرمي ورجلًا آخر من أصحابه، يناديان بشعارهما، فلما كانوا في صحراء عبد القيس لقيهم جعفر بن العباس الكندي، فشدوا عليه وعلى أصحابه، فقتل الرجل الذي كان مع القاسم التنعي، وارتُثّ القاسم، فأتى به الحكم فكلمه فلم يردّ عليه شيئاّ، فأمر به فضربت عنقه على باب القصر؛ فكان أول من قتل من أصحاب زيد ابن علي هو وصاحبه. وأمر الحكم بن الصلت بدروب السوق فغلقت، وغلقت أبواب المسجد على أهل الكوفة. وعلى أرباع الكوفة يومئذ؛ على ربع أهل المدينة إبراهيم بن عبد الله بن جرير البجلي، وعلى مذحج وأسد عمرو ابن أبي بذل العبدي، وعلى كندة وربيعة المنذر بن محمد بن أشعث بن قيس الكندي، وعلى تميم وهمدان محمد بن مالك الهمداني ثم الخيواني. قال: وبعث الحكم بن الصلت إلى يوسف بن عمر، فأخبره الخبر، فأمر يوسف مناديه فنادى في أهل الشأم: من يأتي الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم فيأتيني بخبرهم؟ فقال جعفر بن العباس الكندي: أنا، فركب في خمسين فارسًا، ثم أقبل حتى انتهى إلى جبّانة سالم السَّلولي، فاستخبرهم، ثم رجع إلى يوسف بن عمر فأخبره، فلما أصبح إلى تلّ قريب من الحيرة، فنزل عليه ومعه قريش وأشراف الناس؛ وعلى شرطته يومئذ العباس بن سعيد المزني، فبعث الريان بن سلمة الإراشي في ألفين ومعه ثلثمائه من القيقاينّة رجلًا معهم النُّشاب. وأصبح زيد بن علي، فكان جميع من وافاه تلك الليلة مائتي رجل وثمانية عشر رجلًا، فقال زيد: سبحان الله! اين الناس! فقيل له: هم في المسجد الأعظم محصورون، فقال: لا والله ما هذا لمن بايعنا بعذر. وسمع نصر ابن خزيمة النداء، فأقبل إليه، فلقي عمر بن عبد الرحمن صاحب شرطة الحكم بن الصلت في خيله من جهينة عند دار الزبير بن أبي حكمة في الطريق الذي يخرج إلى مسجد بني عدي، فقال نصر بن خزيمة: يا منصور أمت؛ فلم يردّ عليه شيئًا، فشدّ عليه نصر وأصحابه، فقتل عمر بن عبد الرحمن، وانهزم من كان معه، وأقبل زيد بن علي من جبّانة سالم حتى انتهى إلى جبّانه الصائديّين، وبها خمسمائة من أهل الشأم، فحمل عليهم زيد بن علي فيمن معه فهزمهم. وكان تحت زيد بن علي يومئذ برذون أدهم بهيم؛ اشتراه رجل من بني نهد بن كهمس بن مروان النجّاري بخمسة وعشرين دينارًا، فلما قتل زيد بعد ذلك أخذه الحكم بن الصلت. قال: وانتهى زيد بن علي إلى باب دار رجل من الأزد، يقال له أنس ابن عمرو - وكان فيمن بايعه - فنودي وهو في الدار فجعل بجيب، فناداه زيد يا أنس: اخرج إلىّ رحمك الله، فقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا. فلم يخرج إليه، فقال زيد: ما أخلفكم! قد فعلتموها، الله حسيبكم! قال: ثم إن زيدًا مضى حتى انتهى إلى الكناسة، فحمل على جماعة بها من أهل الشأم فهزمهم؛ ثم خرج حتى ظهر إلى الجبّانة ويوسف بن عمر على التلّ ينظر إليه هو وأصحابه، وبين يديه حزام بن مرة المزني وزمزم بن سليم الثعلبي؛ وهما على المجفّفة، ومعه نحو من مائتي رجل؛ والله لو أقبل على يوسف لقتله، والرّيان بن سلمة يتبع أثر زيد بن علي بالكوفة في أهل الشأم. ثم إن زيدًا أخذ ذات اليمين على مصلّى خالد بن عبد الله حتى دخل الكوفة، وكانت فرقة من أصحاب زيد بن علي حيث وجّه إلى الكناسة قد انشعبت نحو جبّانة مخنف بن سليم. ثم قال بعضهم لبعض: ألا ننطلق نحو جبّانة كندة! قال: فما زاد الرجل على أن تكلم بهذا الكلام. وطلع أهل الشأم؛ فلما رأوهم دخلوا زقاقًا فمضوا فيه، وتخلف رجل منهم، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج إليهم فقاتلهم ساعة. ثم إنهم صروعه، فجعلوا يضربونه بأسيافهم؛ فنادى رجل منهم مقنع بالحديد: أن اكشفوا المغفر ثم اضربوا رأسه بعمود حديد؛ ففعلوا، وقتل وحمل أصحابه عليهم فكشفوهم عنه وقد قتل، وانصرف أهل الشأم؛ وقد اقتطعوا رجلًا، ونجا سائرهم. فذهب ذلك الرجل حتى دار عبد الله بن عوف فدخل أهل الشأم عليه فأسروه، فذهب به إلى يوسف بن عمر فقتله. قال: وأقبل زيد بن علي، وقد رأى خذلان الناس إيّاه، فقال: يا نصر بن خزيمة، أتخاف أن يكون قد جعلوهها حسينيّة! فقال له: جعلني الله لك الفداء! أما أنا فوالله لأضربنّ معك بسيفي هذا حتى أموت؛ فكان قتاله يومئذ بالكوفة. ثم إن نصر بن خزيمة قال لزيد بن علي: جعلني الله لك الفداء! إن الناس في المسجد الأعظم محصورون، فامض بنا نحوهم، فخرج بهم زيد نحو المسجد، فمرّ على دار خالد بن عرفطة. وبلغ عبيد الله ابن العباس الكندي إقباله، فخرج في أهل الشأم، وأقبل زيد فالتقوا على باب عمر بن سعد أبي وقّاص، فكعّ صاحب لواء عبيد الله - وكان لواؤه مع سلمان مولاه - فلما أراد عبيد الله الحملة ورآه قد كعّ عنه، قال: احمل يابن الخبيثة! فحمل عليهم، فلم ينصرف حتى خضِّب لواؤه بالدم. ثم إن عبيد الله برز فخرج إليه واصل الحنّاط، فاضطربا بسيفهما، فقال للأحوال: خذها منّي وأنا الغلام الحنّاط! وقال الآخر: قطع الله يدي إن كلت بقفيز أبدًا. ثم ضربه فلم يصنع شيئًا. وانهزم عبيد الله بن العباس وأصحابه، حتى انتهوا إلى دار عمرو بن حريث. وجاء زيد وأصحابه حتى انتهوا إلى باب الفيل؛ فجعل أصحاب زيد يدخلون راياتهم من فوق الأبواب، ويقولون: يا أهل المسجد، اخرجوا. وجعل نصر بن خزيمة يناديهم، ويقول: يا أهل الكوفة، اخرجوا من الذل اخرجوا إلى الدين والدنيا؛ فإنكم لستم في دين ولا دنيا. فأشرف عليهم أهل الشأم، فجعلوا يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد - وكان يومئذ جمع كبير بالكوفة في نواحيها، وقيل في جبّانة سالم - وانصرف الريان بن سلمة إلى الحيرة عند المساء، وانصرف زيد بن علي فيمن معه، وخرج إليه ناس من أهل الكوفة، فنزل دار الرزق، فأتاه الريان بن سلمة، فقاتله عند دار الرزق قتالًا شديدًا، فجرح من أهل الشأم وقتل منهم ناس كثير، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزّق؛ حتى انتهوا إلى المسجد؛ فرجع أهل الشأم مساء يوم الأربعاء أسوأ شيء ظنًا؛ فلما كان من الغد غداة يوم الخميس، دعا يوسف بن عمر الريان بن سلمة، فلم يوجد حاضرًا تلك الساعة. وقال بعضهم: بل أتاه وليس عليه سلاحه فأفّف به، وقال له: أفٍّ لك من صاحب الخيل! اجلس. فدعا العباس بن سعيد المزني صاحب شرطته، فبعثه في أهل الشأم، فسار حتى انتهى إلى زيد بن علي في دار الرزق، وثمّ خشب للتجار كثير، فالطريق متضايق. وخرج زيد في أصحابه، وعى مجنّبتيه نصر بن خزيمه العبسي ومعاوية بن إسحاق الأنصاري، فلما رآهم العباس - ولم يكن معه رجال - نادى: يا أهل الشأم، الأرض والأرض! فنزل ناس كثير ممن معه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا في المعركة. وقد كان رجل من أهل الشأم من بني عبس يقال له نائل بن فروة قال ليوسف بن عمر: والله لئن أنا ملأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنه أو ليقتلني، فقال له يوسف: خذ هذا السيف؛ فدفع إليه بسيف لا يمرّ بشيء ألا قطعه. فلما التقى أصحاب العباس بن سعيد وأصحاب زيد واقتتلوا، بصر نائل بن فروة بنصر بن خزيمة، فأقبل نحوه، فضرب نصرًا فقطع فخذه، وضربه نصر ضربةً فقتله؛ فلم يلبث نصر أن مات، واقتتلوا قتالًا شديدًا. ثم إن زيد بن علي هزمهم وقتل من أهل الشأم نحوًا من سبعين رجلًا، فانصرفوا وهم بشرّ حال. وقد كان العباس بن سعيد نادى في أصحابه أن اركبوا؛ فإن الخيل لاتطيق الرجال في المضيق فركبوا، فلما كان العشي عبأهم يوسف بن عمر ثم سرحهم، فأقبلوا حتى التقواهم وأصحاب زيد، فحمل عليهم زيد في أصحابه فكشفهم، ثم تبعهم حتى أخرجهم إلى السبَّخة، ثم شدّ عليهم بالسبخة حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجاله؛ حتى أخذوا على المسناة. ثم إن زيدًا ظهر لهم فيما بين بارق ورؤاس، فقاتلهم هنالك قتالًا شديدًا. وصاحب لوائه يومئذ رجل يقال له عبد الصمد بن أبي مالك بن مسروح، من بني العباس بن زيد، حليف العباس بن عبد المطلب، وكان مسروح السعدي تزوج صفية بنت العباس بن عبد المطلب، فجعلت خيلهم لا تثبت لخيله ورجله، فبعث العباس إلى يوسف بن عمر ييعلمه ذلك، فقال له: ابعث إلي الناشبة، فبعث إليهم سليمان بن كيسان الكلبي في القيقانيّة والبخاريّة؛ وهم ناشبة، فجعلوا يرمون زيدًا وأصحابه، وكان زيد حريصًا على أن يصرفهم حين انتهوا إلى السبخة، فأبوا عليه، فقاتل معاويه بن إسحاق الأنصاري بين يدي زيد بن علي قتالًا شديدًا، فقتل بين يديه، وثبت زيد بن علي ومن معه حتى إذا جنح الليل رمى بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فتشبث في الدماغ، فرجع ورجع أصحابه؛ ولا يظن أهل الشأم أنهم رجعوا إلا للمساء والليل. قال: فحدثني سلمة بن ثابت الليثي - وكان مع زيد بن علي، وكان آخر من انصرف من الناس يومئذ، هو وغلام لمعاوية بن إسحاق - قال: أقبلت أنا وصاحبي نقصُّ أثر زيد بن علي، فنجده قد أنزل؛ وأدخل بيت حرّان ابن كريمة مولى لبعض العرب في سكة البريد في دور أرحب وشاكر. قال سلمة بن ثابت: فدخلت عليه، فقلت له: جعلني الله فداك أبا الحسين! وانطلق أصحابه فجاءوا بطبيب يقال له شقير مولى بني رؤاس فانتزع النصل من جبهته، وأنا أنظر إليه، فوالله ما عدا أن انتزعه جعل يصيح، ثم لم يلبث أن قضى؛ فقال القوم: أين ندفنه، وأين نواريه؟ فقال بعض أصحابه: نلبسه درعه ونطرحه في الماء، وقال بعضهم: بل نحتز رأسه ونضعه بين القتلى، فقال ابنه يحيى: لا والله لا تأكل لحم أبي الكلاب. وقال بعضهم: لا بل نحمله إلى العباسيّة فندفنه. قال سلمة: فأشرت عليهم أن ننطلق به إلى الحفرة التي يؤخذ منها الطين فندفنه فيها، فقبلوا رأيي وانطلقنا، وحفرنا له بين حفرتين، وفيه حينئذ ماء كثير؛ حتى إذا نحن أمكنّا له دفناه، وأجرينا عليه الماء، وكان معنا عبد له سندي قال: ثم انصرفنا حتى نأتي جبّانة السيبع، ومعنا ابنه، فلمم نزل بها، وتصدّع الناس عنا، وبقيت في رهط معه لا يكونون عشرة، فقلت له: أين تريد؟ هذا الصبح قد غشيك - ومعه أبو الصبَّار العبدي - قال: فقال: النهرين، فظننت أنه يريد أن يتشطّط الفرات ويقاتلهم - فقلت له: لاتبرح مكانك، تقاتلهم حتى تقتل، أو يقضي الله ما هو قاض. فقال لي: أنا أريد نهري كربلاء. فقلت له: فالنجاء قبل الصبح، فخرج من الكوفة، وأنا معه وأبوا الصبّار ورهط معنا، فلما خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذّنين، فصلينا الغداة بالنُّخيلة سراعًا قبل نينوى، فقال لي: إني أريد سباقًا مولى بشر بن عبد الملك بن بشر فأرسع السير، وكنت إذا لقيت القوم أستطعمهم فأطعم الأغرفة فأطعمها إياه، فيأكل ونأكل معه؛ فانتهينا إلى نينوى وقد أظلمنا، فأتينا منزل سابق، فدعوت على الباب، فخرج إلينا فقلت له: أما أنا فآتي الفيّوم، فأكون به؛ فإذا بدا لك أن ترسل إلي فأرسل. قال: ثم إني مضيت وخلّفته عند سابق؛ فذلك آخر عهدي به. قال: ثم إنّ يوسف بن عمر بعث أهل الشأم يطلبون الجرحى في دور أهل الكوفة، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار، ويطوفون البيت يتلمسون الجرحى. قال: ثم دلّ غلام زيد بن علي السندي يوم الجمعة على زيد، فبعث الحكم بن الصلت العباس بن سعيد المزني وابن الحكم بن الصلت، فانطلقا فاستخرجاه، فكره العباس أن يغلب عليه ابن الحكم بن الصلت، فتركه وسرح بشيرًا إلى يوسف بن عمر غداة يوم الجمعة برأس زيد بن علي مع الحجاج بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل، فقال أبوا الجورية مولى جهينة: قل للذين انتهكوا المحارم ** ورفعوا الشمع بصحرا مالم كيف وجدتم وقعة الأكارم ** يا يوسف بن الحكم بن القاسم قال: ولما أتى يوسف بن عمر البشير، أمر بزيد فصلب بالكناسة، هو ونصر بن خزيمة ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وزياد النهدي؛ وكان يوسف قد نادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء محمد بن عباد برأس نصر بن خزيمة، فأمر له يوسف بن عمر بألف درهم، وجاء الأحول مولى الأشعرييّن برأس معاوية بن إسحاق؛ فقال: أنت قتلته؟ فقال أصلح الله الأمير! ليس أنا قتلته؛ ولكني رأيته فعرفته، فقال: أعطوه سبعمائة درهم، ولم يمنعه أن يتم له ألفًا، إلا أنه زعم أنه لم يقتله. وقد قيل: إن يوسف بن عمر لم يعلم بأمر زيد ورجوعه من الطريق إلى الكوفة بعد ما شخص إلا بإعلام هشام بن عبد الملك إياه، وذلك أن رجلًا من بني أمية كتب - فيما ذكر - إلى هشام، إلى يوسف يشتمه ويجهّله، ويقول: إنك لغافل، وزيد غارز ذنبه بالكوفة يبايع له فألحح في طلبه، فأعطه الأمان فإن نلم يقبل فقاتله. فكتب يوسف إلى الحكم بن الصلت من آل أبي عقيلل وهو خليفته على الكوفة بطلبه، فطلبه فخفي عليه موضعه، فدس يوسف مملوكًا خرسانيًا ألكن، وأعطاه خمسة آلاف درهم، وأمره أن يلطف لبعض الشيعة فيخبره أنه قد قدم من خراسان حبًا لأهل البيت؛ وأن معه مالًا يريد أن يقويهم به؛ فلم يزل المملوك يلقى الشيعة، ويخبرهم عن المال الذي معه حتى أدخلوه على زيد، فخرج فدل يوسف على موضعه، فوجّه يوسف إليه الخيل، فنادى أصحابه بشعارهم، فلم يجتمع إليه منهم إلا ثلثمائة أو أقل، فجعل يقول: كان داود ابن علي أعلم بكم؛ قد حذرني خذلانكم فلم أحذر! وقيل إن الذي دل على موضع زيد الذي كان دفن فيه - وكان دفن في نهر يعقوب فيما قيل، وكان أصحابه قد سكروا النهر ثم حفروا له في بطنه، فدفنوه في ثيابه ثم أجروا عليه الماء - عبد قصار كان به، فاستعجل جعلا على أن يدلهم على موضعه، ثم دلهم فاستخرجوه، فقطعوا رأسه، وصلبوا جسده؛ ثم أمروا بحراسته لئلا ينزل، فمكث يحرس زمانًا. وقيل إنه كان فيمن يحرسه زهير بن معاوية أبو خيثمة، وبعث برأسه إلى هشام فأمر به فنصب على باب مدينة دمشق، ثم أرسل به إلى المدينة، ومكث البدن مصلوبًا حتى مات هشام، ثم أمر به الوليد فأنزل وأحرق. وقيل: إن حكيم ابن شريك كان هو الذي سعى بزيد إلى يوسف. فأما أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه قال في أمر يحيى بن زيد: لما قتل زيد عمد رجل من بنى أسد إلى يحيى بن زيد، فقال له: قد قتل أبو، وأهل خراسان لكم شيعة، فالرأي أن تخرج إليها. قال: وكيف لي بذلك؟ قال: تتوارى حتى يكفّ عنك الطلب ثم تخرج، فواراه عنده ليلة، ثم خاف فأتى عبد الملك بن بشر بن مروان، فقال له: إن قرابة زيد بك قريبة، وحقّه عليك واجب، قال له: أجل؛ ولقد كان العفو عنه أقرب إلى التقوى، قال: فقد قتل وهذا ابنه غلامًا حدثًا لا ذنب له؛ وإن علم يوسف بن عمر بمكانه قتله، فتجيره وتواريه عندك، قال: نعم وكرامة. فأتاه به فواراه عنده. فبلغ الخبر يوسف، فأرسل إلى عبد الملك: قد بلغني مكان هذا الغلام عندك، وأعطى الله عهدًا؛ لئن لم تأتني به لأكتبنّ فيك إلى أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك: أتاك الباطل والزور؛ أنا أواري من ينازعني سلطاني ويدّعي فيه أكثر من حقي! ما كنت أخشاك على قبول مثل هذا علي ولا الاستماع من صاحبه، فقال: صدق والله ابن بشر؛ ما كان ليواري مثل هذا، ولا يستر عليه؛ فكفّ عن طلبه؛ فلما سكن الطلبُ خرج يحيى في نفر من الزيديّة إلى خراسان. وخطب يوسف بعد قتل زيد بالكوفة فقال: يا أهل الكوفة، إن يحيى بن زيد يتنقّل في حجال نسائكم كما كان يفعل أبوه؛ والله لو أبدى لي صفحته لعقت خصييه كما عرقت خصيَي أبيه. وذكر عن رجل من الأنصار قال: لما جىء برأس زيد فصلب بالمدينة في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أقبل شاعر من شعراء الأنصار فقام بحياله، فقال: ألا يا ناقض الميثا ** ق أبشر بالذي ساكا نقضت العهد والميثا ** ق قدمًا كان قدماكا لقد أخلف إبليس ال ** ذي قد كان منّاكا قال: فقيل له: ويلك! أتقول هذا لمثل زيد! فقال: إن الأمير غضبان فأردت أن أرضيه، فرد عليه بعض شعرائهم: ألا يا شاعر السوء ** لقد أصبحت أفاكا أشتم ابن رسول الل ** ه يرضي من تولاكا ألا صبحك الله ** بخزي ثم مساكا ويوم الحشر لا شك ** بأن النار مثواكا وقيل: كان خراش بن حوشب بن يزيد الشيباني على شرط يوسف ابن عمر؛ فهو الذي نبش زيدًا، وصلبه، فقال السيد: بتّ ليلى مسهدا ** ساهر الطرف مقصدا ولقد قلت قولة ** وأطلت التبلدا لعن الله حوشبًا وخراشًا ومزيدا ويزيدًا فإنه ** كان أعتى وأعندا ألف ألف وألف أل ** ف من اللعن سرمدا إنهم حاربوا الإل ** ه وآذوا محمدا شركوا في دم المطه ** ر زيد تعندا ثم عالوه فوق جذ ** ع صريعًا مجردا يا خراش بن حوشب ** أنت أشقى الورى غدا قال أبو مخنف: ولما قتل يوسف زيد بن علي أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر، فقال: يا أهل المدرة الخبيثة، إني والله ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشّنان، ولا أخوف بالذنب. هيهات؟ حبيت بالساعد الأشدّ، أبشروا يا أهل الكوفة بالصغار والهوان، لا عطاء لكم عندنا ولا رزق؛ ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم، وأحرمكم أموالكم. أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه، فإنكم أهل بغي وخلاف، ما منكم إلا من حارب الله ورسوله؛ إلا حكيم بن شريك المحاربي؛ ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم؛ ولو أذن لقتلت مقاتلتكم، وسبيت ذراريكم. وفي هذه السنة قتل كلثوم بن عياض القشيري الذي كان هشام بن عبد الملك بعثه في خيول أهل الشأم إلى إفريقيّة؛ حيث وقعت الفتنة بالبربر. وفيها قتل عبد الله البطال في جماعة من المسلمين بأرض الروم. وفيها ولد الفضل بن صالح ومحمد بن إبراهيم بن محمد بن علي. وفيها وجّه يوسف بن عمر بن شبرمة على سجستان، فاستقضى ابن أبي ليلى. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام المخزومي، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكلذلك قال الواقدي وغيره. وكانت عمال المصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل؛ إلا أنّ قاضي الكوفة كان - فيما ذكر - في هذه السنة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر صلح نصر بن سيار مع السغد فمن ذلك ما جرى بين أهل السغد ونصر بن سيار من الصلح. ذكر الخبر عن ذلك وسببه ذكر علي بن محمد، عن شيوخه، أن خاقان لما قتل في ولاية أسد، تفرّقت الترك في غارة بعضها على بعض؛ فطمع أهل السغد في الرجعة إليها، وانحاز قوم منهم إلى الشاش، فلما ولى نصر بن سيار أرسل إليهم يدعوهم إلى الفيئة والمراجعة إلى بلادهم، وأعطاهم كلّ ما أرادوا. قال: وكانوا سألوا شروطًا أنكرها أمراء خراسان؛ منها ألّا يعاقب من كان مسلمًا وارتدّ عن الإسلام، ولا يعدّى عليهم في دين لأحد من الناس، ولا يؤخذون بقبالة عليهم في بيت المال، ولا يؤخذ أسراء المسلمين من أيديهم إلا بقضيّة قاض وشهادة العدول؛ فعاب الناس ذلك على نصر، وكلّموه فقال: أما والله لو عاينتم شوكتهم في المسلمين ونكايتهم مثل الذي عاينت ما أنكرتم ذلك؟ فأرسل رسولًا إلى هشام في ذلك؛ فلما قدم الرسول أبى أن ينفذ ذلك لنصر، فقال الرسول: جُرّبت يا أمير المؤمنين حربنا وصلحنا، فاختر لنفسك. فغضب هشام، فقال الأبرش الكلبي: يا أمير المؤمنين، تألّف القوم واحمل لهم؛ فقد عرفت نكايتهم كانت في المسلمين، فأنفذ هشام ما سأل. وفادة الحكم بن الصلت على هشام بن عبد الملك وفي هذه السنة أوفد يوسف بن عمر الحكم بن الصلت إلى هشام بن عبد الملك، يسأله ضم خراسان إليه وعزل نصر بن سيّار. ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان من الأمر فيه ذكر علي عن شيوخه، قال: لما طالت ولاية نصر بن سيار، ودانت له خراسان، كتب يوسف بن عمر إلى هشام حسدًا له: إن خراسان دبرة دبرة فإن رأى أمير المؤمنين أن يضمها إلى العراق فأسرّح إليها الحكم بن الصلت؛ فإنه كان مع الجنيد، وولي جسيم أعمالها، فأعمر بلاد أمير المؤمنين بالحكم. وأنا باعث بالحكم بن الصلت إلى أمير المؤمنين، فإنه أديب أريب، ونصيحته لأمير المؤمنين مثل نصيحتنا ومودّتنا أهلَ البيت. فلما أتى هشامًا كتابه بعث إلى دار الضيافة، فوجد فيها مقاتل بن علي السغدي، فأتوه به، فقال: أمن خراسان أنت؟ قال: نعم، وأنا صاحب الترك - قال: وكان قدم على هشام بخمسين ومائة من الترك - فقال: أتعرف الحكم بن الصلت؟ قال: نعم، قال: فما وليَ بخراسان؟ قال: وليَ قرية يقال لها الفارياب، خراجها سبعون ألفًا، فأسره الحارث بن سريج، قال: ويحك؟ وكيف أفلت منه؟ قال: عرك أذنه، وقفده وخلّى سبيله. قال: فقدم عليه الحكم بعد بخراج العراق، فرأى له جمالًا وبيانًا، فكتب إلى يوسف: إنّ الحكم قدم وهو على ما وصفت، وفيما قبلك له سعة، وخلّ الكناني وعمله. وفي هذه السنة غزا نصر فرغانة غزوته الثانية، وأوفد مغراء بن أحمر إلى العراق، فوقع فيه عند هشام. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من هشام ويوسف بن عمر فيه ذكر أن نصرًا وجّه مغراء بن أحمر إلى العراق وافدًا، منصرفه من غزوته الثانية فرغانة، فقال له يوسف بن عمر: يا بن أحمر؛ يغلبكم ابن الأقطع يا معشر قيس على سلطانكم؟ فقال: قد كان ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: فإذا قدمت على أمير المؤمنين فابقر بطنه. فقدموا على هشام، فسألهم عن أمر خراسان، فتكلّم مغراء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر يوسف بن عمر بخير، فقال: ويحك؟ أخبرني عن خراسان، قال: ليس لك جند يا أمير المؤمنين أحدّ ولا أنجد منهم، من سواذق في السماء وفرسان مثل الفيلة؛ وعدّة وعدد من قوم ليس لهم قائد، قال: ويحك؟ فما فعل الكناني؟ قال: لا يعرف ولده من الكبر. فردّ عليه مقالته، وبعث إلى دار الضيافة، فأتيَ بشبيل بن عبد الرحمن المازني، فقال له هشام: أخبرني عن نصر، قال: ليس بالشيخ يخشى خرفه، ولا الشابّ يخشى سفهه، المجرِّب المجرَّب، قد ولي عامّة ثغور خراسان وحروبها قبل ولايته. فكتب إلى يوسف بذلك، فوضع يوسف الأرصاد، فلما انتهوا إلى الموصل تركوا طريق البريد، وتكأّدوا حتى قدموا بيهق - وقد كتب إلى نصر بقول شبيل - وكان إبراهيم بن بسام في الوفد، فمكر به يوسف، ونعى له نصرًا، وأخبره أنه قد وليَ الحكم بن الصلت بن أبي عقيل خراسان. فقسم له إبراهيم أمر خراسان كله؛ حتى قدم عليه إبراهيم بن زياد رسول نصر؛ فعرف أنّ يوسف قد مكرَ به وقال: أهلكني يوسف. وقيل: إن نصرًا أوفد مغراء، وأوفد معه حملة بن نعيم الكلبي، فلما قدموا على يوسف، أطمع يوسف مغراء، إن هو تنقّص نصرًا عند هشام أن يوليه السند. فلما قدما عليه ذكر مغراء بأس نصر ونجدته ورأيه، وأطنب في ذلك، ثم قال: لو كان الله متعنا منه ببقيّة؟ فاستوى هشام جالسًا، ثم قال: ببقيّة ماذا؟ قال: لا يعرف الرجل إلا بجرمه، ولا يفهم عنه حتى يدنى منه، وما يكاد يفهم صوته من الضعف لأجل كبره. فقام حملة الكلبي، فقال: يا أمير المؤمنين، كذب والله، ما هو كما قال؛ هو هو. فقال هشام: إن نصرًا ليس كما وصف، وهذا أمر يوسف بن عمر حسد لنصر؛ وقد كان يوسف كتب إلى هشام يذكر كبر نصر وضعفه، ويذكر له سلم بن قتيبة. فكتب إليه هشام: اله عن ذكر الكناني، فلما قدم مغراء على يوسف، قال له: قد علمت بلاء نصر عندي، وقد صنعت به ما قد علمت، فليس لي في صحبته خير، ولا لي بخراسان مقام؛ فأمره بالمقام. وكتب إلى نصر: إني قد حوّلت اسمه، فأشخص إلي من قبلك من أهله. وقيل: إنّ يوسف لما أمر مغراء بعيب نصر، قال: كيف أعيبه مع بلائه وآثاره الجميلة عندي وعند قومي! فلم يزل به، فقال: فبم أعيبه؟ أعيب تجربته أم طاعته؟ أم يمن نقيبته أم سياسته؟ قال: عبه بالكبر. فلما دخل على هشام تكلم مغراء، فذكر نصرًا بأحسن ما يكون، ثم قال في آخر كلامه: لولا..، فاستوى هشام جالسًا، فقال: ما لولا! قال: لولا أنّ الدهر قد غلب عليه، قال: ما بلغ به ويحك الدهرّ قال: ما يعرف الرجل إلا من قريب، ولا يعرفه إلا بصوته، وقد ضعف عن الغزو والركوب. فشقّ ذلك على هشام. فتكلّم حملة بن نعيم. فلما بلغ نصرًا قول مغراء بعث هارون بن السياوش إلى الحكم بن نميلة، وهو في السرّاجين يعرض الجند، فأخذ برجله فسحبه عن طنفسة له، وكسر لواءه على رأسه، وضرب بطنفسته وجهه، وقال: كذلك يفعل الله بأصحاب الغدر! وذكر علي بن محمد، عن الحارث بن أفلح بن مالك بن أسماء بن خارجة: لما وليَ نصر خراسان أدنى مغراء بن أحمر بن مالك بن سارية النميري والحكم ابن نميلة بن مالك والحجاج بن هارون بن مالك؛ وكان مغراء بن أحمر النميري رأس أهل قنسرين، فآثر نصر مغراء وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بن نميلة على الجوزجان، ثم عقد للحكم على أهل العالية، وكان أبوه بالبصرة عليهم؛ وكان بعده عكابة بن نميلة، ثم أوفد نصر وفدًا من أهل الشأم وأهل خراسان، وصيّر عليهم مغراء؛ وكان في الوفد حملة بن نعيم الكلبي، فقال عثمان بن صدقة بن وثاب لمسلم بن عبد الرحمن ابن مسلم عامل طخارستان: خيرني مسلم مراكبه ** فقلت حسبي من مسلم حكما هذا فتى عامر وسيدها ** كفى بمن ساد عامرًا كرما يعني الحكم بن نميلة. قال: فتغيّر نصر لقيس وأوحشه ما صنع مغراء. قال: وكان أبو نميلة صالح الأبّار مولى بني عبس، خرج مع يحيى بن زيد بن علي بن حسين، فلم يزل معه حتى قتل بالجوزجان. وكان نصر قد وجد عليه لذلك، فأتى عبيد الله بن بسام صاحب نصر، فقال: قد كنت في همة حيران مكتئبًا ** حتى كفاني عبيد الله تهمامي ناديته فسما للمجد مبتهجًا ** كغرة البدر جلّى وجه إظلام فاسم برأى أبي ليث وصولته ** إن كنت يوم حفاظ بامرىء سام تظفر يداك بمن تمت مروته ** واختصه ربه منه بإكرام ماضي العزائم ليثي مضاربه ** على الكريهة يوم الروع مقدام لا هذر ساحة النادي ولا مذل ** فيه ولا مسكت إسكات إفحام له من الحلم ثوباه ومجلسه ** إذا المجالس شانت أهل أحلام قال: فأدخله عبيد الله على نصر، فقال أبو نميلة: أصلحك الله! إني ضعيف؛ فإن رأيت أن تأذن لراويتي! فأذن له، فأنشده: فاز قدح الكلبي فاعتقدت مغ ** راء في سعيه عروق لئيم فأبيني نمير ثم أبيني ** ألعبد مغراء أم لصميم فلئن كان منكم ما يكون ال ** غدر والكفر من خصال الكريم ولئن كان أصله كان عبدًا ما عليكم من غدره من شتيم وليته ليث وأي ولاة ** بأياد بيض وأمر عظيم! أسمنته حتى إذا راح مغبو ** طًا بخير من سيبها المقسوم كاد ساداته بأهون من نه ** قة عير بقفرة مرقوم فضربنا لغيرنا مثل الكل ** ب ذميمًا والذمّ للمذموم وحمدنا ليثًا ويأخذ بالفض ** ل ذوو الجود والندى والحلوم فاعلمن يا بني القساورة الغل ** ب وأهل الصفا وأهل الحطيم أن في شكر صالحينا لما يد ** حض قول المرهق الموصوم قد رأى الله ما أتيت ولن ين ** قص نبح الكلاب زهر النجوم فلما فرغ قال نصر: صدقت، وتكلمت القيسية واعتذروا. قال: وأهان نصر قيسًا وباعدهم حين فعل مغراء ما فعل، فقال في ذلك بعض الشعراء: لقد بغض الله الكرام إليكم ** كما بغض الرحمن قيسًا إلى نصر رأيت أبا ليث يهين سراتهم ** ويدنى إليه كل ذي والث غمر وحجّ بالناس في هذه السنة يزيد بن هشام بن عبد الملك؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر؛ وكذلك قال الواقدي أيضًا. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا في السنة التي قبلها، وقد ذكرتهم قبل. ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة ذكر الإخبار عما كان فيها من الأحداث ابتداء أمر أبي مسلم الخراساني فممّا كان فيها من ذلك مقدم جماعة من شيعة بني العباس الكوفّة يريدون مكّة، وشرّي بكير بن ماهان - في قول بعض أهل السير - أبا مسلم صاحب دعوة بني العباس من عيسى بن معقل العجلي. ذكر الخبر عن سبب ذلك وقد اختلف في ذلك؛ فأمّا علي بن محمد، فإنه ذكر أن حمزة بن طلحة السلمي حدثه عن أبيه، قال: كان بكير بن ماهان كاتبًا لبعض عمّال السند، فقدمها، فاجتمعوا بالكوفة في دار، فغمز بهم فأخذوا، فحبس بكير وخليَ عن الباقين، وفي الحبس يونس أبو عاصم وعيسى بن معقل العجلي، ومعه أبو مسلم يخدمه، فدعاهم بكير فأجابوه إلى رأيه، فقال لعيسى بن معقل: ما هذا الغلام؟ قال: مملوك، قال: تبيعه؟ قال: هو لك، قال: أحبّ أن تأخذ ثمنه، قال: هو لك بما شئت؛ فأعطاه أربعمائة درهم، ثم أخرجوا من السجن، فبعث به إلى إبراهيم فدفعه إبراهيم إلى أبي موسى السراج، فسمع منه وحفظ، ثم صار إلى أن اختلف إلى خراسان. وقال غيره: توجّه سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ، وقحطبة بن شبيب من خراسان، وهم يريدون مكة في سنة أربع وعشرين ومائة، فلما دخلوا الكوفة أتوا عاصم بن يونس العجلي؛ وهو في الحبس، قد اتهم بالدّعاء إلى ولد العباس، ومعه عيسى وإدريس ابنا معقل؛ حبسهما يوسف بن عمر فيمن حبس من عمّال خالد بن عبد الله، ومعهما أبو مسلم يخدمهما؛ فرأوا فيه العلامات، فقالوا: من هذا؟ قالوا: غلام معنا من السراجين - وقد كان أبو مسلم يسمع عيسى وإدريس يتكلمان في هذا الرأي فإذا سمعهما بكى - فلما رأوا ذلك منه دعوه إلى ما هم عليه، فأجاب وقبل. وفي هذه السنة غزا سليمان بن هشام الصائفة، فلقي أليون ملك الروم فسلم وغنم. وفيها مات - في قول الواقدي - محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن هشام بن إسماعيل؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي. وحجّ في هذه السنة عبد العزيز بن الحجاع بن عبد الملك معه امرأته أمّ سلمة بنت هشام بن عبد الملك. وذكر محمد بن عمر أن يزيد مولى أبي الزناد حدثه، قال: رأيت محمد ابن هشام على بابها يرسل بالسلام وألطافه على بابها كثيرة، ويعتذر فتأبى؛ حتى كان يأيس من قبول هديّته، ثم أمرت بقبضها. وكان عمّال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عمالها في سنة اثنتين وعشرين ومائة وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد ذكرناهم قبل. ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة النعمان بن يزيد بن عبد الملك الصائفة. خبر وفاة هشام بن عبد الملك ومن ذلك وفاة هشام بن عبد الملك بن مروان فيها، وكانت وفاته - فيما ذكر أبو معشر - لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى؛ عنه. وكذلك قال الواقدي والمدائني وغيرهما؛ غير أنهم قالوا: كانت وفاته يوم الأربعاء لستّ ليال خلون من شهر ربيع الآخر، فكانت خلافته في قول جميعهم تسع عشرة سنة، وسبعة أشهر وأحدًا وعشرين يومًا في قول المدائني وابن الكلبي، وفي قول أبي معشر: وثمانية أشهر ونصفًا، وفي قول الواقدي: وسبعة أشهر وعشر ليالٍ. واختلف في مبلغ سنه، فقال هشام بن محمد الكلبي: توفي وهو ابن خمس وخمسين سنة. وقال بعضهم: توفّي وله اثنتان وخمسون سنة. وقال محمد بن عمر: كان هشام يوم توفّي ابن أربع وخمسين سنة. وكانت وفاته بالرصافة وبها قبره، وكان يكنى أبا الوليد. ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثني شيبة بن عثمان، قال: حدثني عمرو بن كليع؛ قال: حدثني سالم أبو العلاء، قال: خرج علينا هشام بن عبد الملك يومًا وهو كئيب، يعرف ذلك فيه، مسترخ عليه ثيابه، وقد أرخى عنان دابته، فسار ساعة ثم انتبه، فجمع ثيابه وأخذ بعنان دابته، وقال للربيع: ادع الأبرش، فدعي فسار بيني وبين الأبرش، فقال له الأبرش: يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت منك شيئًا غمّني، قال: وما هو؟ قال: رأيتك قد خرجت على حال غمّني. قال: ويحك يا أبرش! وكيف لا أغتّمّ وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يومًا! قال سالم: فرجعت إلى منزلي، فكتبت في قرطاس: " زعم أمير المؤمنين يوم كذا وكذا أنه يسافر إلى ثلاثة وثلاثين يومًا ". فلمّا كان في الليلة التي استكمل فيها ثلاثة وثلاثين يومًا إذا خادم يدقّ الباب يقول: أجب أمير المؤمنين، واحمل معك دواء الذبحة - وقد كان أخذه مرّة فتعالج فأفاق - فخرجت ومعي الدواء فتغرغر به، فازداد الوجع شدة، ثم سكن فقال لي: يا سالم، قد سكن بعض ما كنت أجد؛ فانصرف إلى أهلك، وخلف الدوائ عندي. فانصرفت، فما كان إلا ساعة حتى سمعت الصراخ عليه، فقالوا: مات أمير المؤمنين! فلما مات أغلق الخزّان الأبواب، فطلبوا قمقمًا يسخن فيه الماء لغسله، فما وجدوه حتى استعاروا قمقمًا من بعض الجيران، فقال بعض من حضر ذلك: إن في هذا لمعتبرًا لمن اعتبر. وكان وفاته بالذبحة فلما مات صلى عليه ابنه مسلمة بن هشام. ذكر بعض سير هشام حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، عن وسنان الأعرجي، قال: حدثني ابن أبي نحيلة، عن عقّال بن شيبه، قال: دخلت على هشام، وعليه قباء فنك أخضر، فوجهني إلى خراسان، وجعل يوصيني وأنا أنظر إلى القباء، ففطن، فقال: ما لك؟ قلت: رأيت عليك قبل أن تلي الخلافة قباء فنك أخضر، فجعلت أتأمّل هذا، أهو ذاك أم غيره؟ فقال: هو والله الذي لا إله إلا، هو ذاك، ما لي قباء غيره. وأما ما ترون من جمعي هذا المال وصونه فإنه لكم. قال: وكان عقّال مع هشام. فأما شبّة أبو عقّال؛ فكان مع عبد الملك بن مروان، وكان عقّال يقول: دخلت على هشام، فدخلت على رجل محشوّ عقلًا. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي؛ قال: قال مروان بن شجاع؛ مولى لمروان بن الحكم: كنت مع محمد بن هشام بن عبد الملك، فأرسل إلي يومًا، فدخلتُ عليه، وقد غضب وهو يتلهف، فقلت: مالك؟ فقال: رجل نصراني شجّ غلامي - وجعل يشتمه - فقلت له: على رسلك! قال: فما أصنع؟ قلت: ترفعه إلى القاضي، قال: وما غير هذا! قلت: لا، قال خصي له: أنا أكفيك، فذهب فضربه. وبلغ هشامًا فطلب الخصي، فعاذ بمحمد، فقال محمد بن هشام: لم آمرك، وقال الخصي: بلى والله لقد أمرتني، فضرب هشام الخصي وشتم ابنَه. وحدثني أحمد، قال علي: لم يكن أحد يسير في أيام هشام في موكب إلّا مسلمة بن عبد الملك. قال: ورأى هشام يومًا سالمًا في موكب، فزجره وقال: لأعلمنّ متى سرت في موكب. وكان يقدم الرجل الغريب فيسير معه، فيقف سالم، ويقول: حاجتك، ويمنعه أن يسير معه، وكان سالم كأنه هو أمّر هشامًا. قال: ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ العطاء إلا عليه الغزو؛ فمنهم من يغزو، ومنهم من يخرج بدلًا. قال: وكان لهشام بن عبد الملك مولىً يقال له يعقوب، فكان يأخذ عطاء هشام مائتي دينار ودينارًا، يفضّل بدينار، فيأخذها يعقوب ويغزو. وكانوا يصيّرون أنفسَهم في أعوان الديّوان، وفي بعض ما يجوّز لهم المقام به، ويوضع به الغزو عنهم. وكان داود وعيسى ابنا علي بن عبد الله بن عباس - وهما لأمّ - في أعوان السوق بالعراق لخالد بن عبد الله، فأقاما عنده، فوصلهما، ولولا ذلك لم يستطع أن يحبسهما، فصيّرهما في الأعوان، فسمرا، وكانا يسامرانه ويحدثانه. قال: فولى هشام بعض مواليه ضيعةً له، فعمرها فجاءت بلغة عظيمة كبيرة ثم عمّرها أيضًا، فأضعفت الغلّة، وبعث بها مع ابنه، فقدم بها على هشام، فأخبره خبر الضيعة فجزاه خيرًا، فرأى منه انبساطًا، فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي حاجة، قال: وما هي؟ قال: زيادة عشرة دنانير في العطاء، فقال: ما يخيّل إلى أحدكم أن عشرة دنانير في العطاء إلا بقدر الجوز! لا لعمري لا أفعل. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال جعفر بن سليمان: قال لي عبد الله بن علي: جمعت دواوين بني مروان، فلم أر ديوانًا أصحّ ولا أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام. حدثنا أحمد، قال: قال علي: قال غسان بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرًا في أمر أصحابي ودواوينه، ولا أشدّ مبالغة في الفحص عنهم من هشام. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال حماد الأبحّ: قال هشام لغيلان: ويحك يا غيلان! قد أكثر الناس فيك، فنازعنا بأمرك، فإن كان حقًا اتّبعناك، وإن كان باطلًا نزعت عنه، قال: نعم، فدعا هشام ميمون بن مهران ليكلمه، فقال له ميمون: سل؛ فإن أقوى ما تكونون إذا سألتم، قال له: أشاء الله أن يعصى؟ فقال له ميمون: أفعصي كارهًا! فسكت، فقال هشام: أجبه فلم يجبه، فقال له هشام: لا أقالني الله إن أقلتُه؛ وأمر بقطع يديه ورجليه. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي عن رجل من غني، عن بشر مولى هشام، قال: أتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه وضربه، فبكى الشيخ. قال بشر: فقلت له - وأنا أعزّيه: عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي للضّرب! إنما أبكي لاحتقاره للبربط إذ سماه طنبورًا! قال: وأغلظ رجل لهشام، فقال له هشام: ليس لك أن تغلظ لإمامك! قال: وتفقّد هشام بعض ولده - ولم يحضر الجمعة - فقال له: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي، قال: أفعجزت عن المشي فتركت الجمعة! فمنعه الدابّة سنة. قال: وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إنّ بغلتي قد عجزت عني؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابّة فعل. فكتب إليه: قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وما ذكرت من ضعف دابتك، وقد ظنّ أمير المؤمنين أن ذلك من قلة تعهّدك لعلفها، وأنّ علفها يضيع، فتعهد دابتك في القيام عليها بنفسك، ويرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك. قال: وكتب إليه بعض عمّاله: إني قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة دراقن؛ فليكتب إلي أمير المؤمنين بوصولها. فكتب إليه: قد وصل إلى أمير المؤمنين الدرّاقن الذي بعثتَ به فأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه، واستوثق من الوعاء. قال: وكتب إلى بعض عمّاله: قد وصلت الكمأة التي بعثت بها إلى أمير المؤمنين؛ وهي أربعون، وقد تغيّر بعضها، ولم تؤت في ذلك إلا من حشوها، فإذا بعثت إلى أمير المؤمنين منها شيئًا فأجد حشوها في الظرف الذي تجعلها فيه بالرمل؛ حتى لا تضطرب ولا يصيب بعضها بعضًا. حدثني أحمد، قال: حدثني علي، قال: حدثنا الحارث بن يزيد، قال: حدثني مولى لهشام، قال: بعث معي مولى لهشام كان على بعض ضياعه بطيرين ظريفين، فدخلت إليه وهو جالس على سرير في عرصة الدار، فاقل: أرسلهما في الدار، قال: فأرسلتهما فنظر إليهما، فقلت: يا أمير المؤمنين، جائزتي، قال: ويلك! وما جائزة طيرين؟ قلت: ما كان، قال: خذ أحدهما، فعدوت في الدار عليهما، فقال: ما لك؟ قلت: أختار خيرهما، قال: أتختار أيضًا خيرهما وتدع شرهما لي! دعهما ونحن نعطيك أربعين درهمًا أو خمسين درهمًا. قال: وأقطع هشام أرضًا يقال لها دورين، فأرسل في قبضها؛ فإذا هي خراب، فقال لذويد كاتب كان بالشأم: ويحك! كيف الحيلة؟ قال: ما تجعل لي؟ قال: أربعمائة دينار، فكتب دورين وقراها، ثم أمضاها في الدواوين، فأخذ شيئًا كثيرًا، فلما ولى هشام دخل عليه ذويد، فقال له هشام: دورين وقراها! لا والله لا تلي لي ولاية أبدًا، وأخرجه من الشأم. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن عمير بن يزيد، عن أبي خالد، قال: حدثني الوليد بن خليد، قال: رآني هشام بن عبد الملك، وأنا على برذون طخارى، فقال: يا وليد بن خليد، ما هذا البرذون؟ قلت: حملني عليه الجنيد، فحسدني وقال: والله لقد كثرت الطخارية، لقد مات عبد الملك فما وجدنا في دوابه برذونًا طخاريًا غير واحد، فتنافسه بنو عبد الملك أيهم يأخذه؛ وما منهم أحد إلا يرى أنه إن لم يأخذه لم يرث من عبد الملك شيئًا. قال: وقال بعض آل مروان لهشام: أتطمع في الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قال: ولم لا أطمع فيها وأنا حليم عفيف! قال: وقال هشام يومًا للأبرش: أوضعت أعنزك؟ قال: إي والله، قال: لكن أعنزي تأخّر ولادها، فاخرج بنا إلى أعنزك نصب من ألبانها، قال: نعم، أفأقدّم قومًا؟ قال: لا، قال: أفأقدّم خباءً حتى يضرب لنا؟ قال: نعم، فبعث برجلين بخباء فضرب، وغدا هشام والأبرش وغدا الناس، فقعد هشام والأبرش؛ كلّ واحد منهما على كرسي، وقدّم إلى كلّ واحد منهما شاة، فحلب هشام الشاة بيده، وقال: تعلم يا أبرش أني لم أبسّ الحلب! ثم أمر بملة فعجنت وأوقد النار بيده، ثم فحصها وألقى الملة، وجعل يقلبها بالمحراث، ويقول: يا أبرش، كيف ترى رفقي! حتى نضجت ثم أخرجها، وجعل يقلّبها بالمحراث، ويقول: جبينك جبينك. والأبرش يقول: لبّيك لبيك - وهذا شيء تقوله الصبيان إذا خبزت لهم الملة - ثم تغدّى وتغدّى الناس ورجع. قال: وقدم علباء بن منظور الليثي على هشام، فأنشده: قالت علية واعتزمت لرحلة ** زوراء بالأذنين ذات تسدر أين الرحيل وأهل بيتك كلهم ** كل عليك كبيرهم كالأصغر! فأصاغر أمثال سلكان القطا ** لا في ثرى مال ولا في معشر إني إلى ملك الشآم لراحل ** وإليه يرحل كل عبد موقر فلأتركنك إن حييت غنية ** بندى الخليفة ذي الفعال الأزهر إنا أناس ميت ديواننا ** ومتى يصبه ندى الخليفة ينشر فقال له هشام: هذا الذي كنت تحاول، وقد أحسنت المسألة. فأمر له بخمسمائة درهم، وألحق له عيلًا في العطاء. قال: وأتى هشامًا محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. فقال: ما لك عندي شيء. ثم قال: إيّاك أن يغرّك أحد فيقول: لم يعرفك أمير المؤمنين؛ إني قد عرفتك؛ أنت محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فلا تقيمنّ وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة، فالحق بأهلك. قال: ووقف هشام يومًا قريبًا من حائط فيه زيتون، ومعه عثمان بن حيان المري، وعثمان قائم يكاد رأسه يوازي رأس أمير المؤمنين وهو يكلمه إذ سمع نفض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقل لهم: القطوه لقطًا، ولا تنفضوه نفضًا، فتتفقّأ عيونه، وتتكسر غصونه. قال: وحجّ هشام، فأخذ الأبرش مخنثين ومعهم البرابط، فقال هشام: احبسوهم وبيعوا متاعهم - وما درى ما هو - وصيروا ثمنه في بيت المال، فإذا صلحوا فردّوا عليهم الثمن. وكان هشام بن عبد الملك ينزل الرصافة - وهي فيما ذكر - من أرض قنسرين. وكان سبب نزوله إياها - فيما حدثني أحمد بن زهير بن حرب، عن علي بن محمد - قال: كان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدّون ويهربون من الطاعون، فينزلون البريّة خارجًا عن الناس، فلما أراد هشام أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج؛ فإنّ الخلفاء لا يطعنون؛ ولم نر خليفة طعن، قال: أتريدون أن تجربوا بي! فنزل الرصافة وهي برية، ابتنى بها قصرين، والرصافة مدينة رومية بنتها الروم. وكان هشام أحول، فحدثني أحمد، عن علي، قال: بعث خالد بن عبد الله إلى هشام بن عبد الملك بحادٍ فحدا بين يديه بأرجوزة أبي النجم: والشمس في الأفق كعين الأحول ** صغواء قد همت ولما تفعل فغضب هشام وطرده. وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثنا أبو عاصم الضبي، قال: مرّ بي معاوية بن هشام، وأنا أنظر إليه في رحبة أبي شريك - وأبو شريك رجل من العجم كانت تنسب إليه وهي مزرعة - وقد اختبز خبزة، فوقف علي، فقلت: الغداء! فنزل وأخرجتها، فوضعتها في لبن، فأكل ثم جاء الناس، فقلت: من هذا؟ قالوا: معاوية بن هشام، فأمر لي بصلة. وركب وثار بين يديه ثعلب، فركض خلفه، فما تبعه غلوة؛ حتى عثر به فرسه فسقط فاحتملوه ميتًا، فقال هشام: تالله لقد أجمعت أن أرشحه للخلافة، ويتبع ثعلبًا! قال: وكانت عند معاوية بن هشام ابنة إسماعيل بن جرير وامرأة أخرى، فأخرج هشام كلّ واحدة منهما من نصف الثمن بأربعين ألفًا. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا، علي، قال: قال قحذم كاتب يوسف: بعثني يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفي، وحبّة لؤلؤ أعظم ما يكون من الحبّ، فدخلت عليه فدنوت منه، فلم أر وجهه من طول السرير وكثرة الفرش، فتناول الحجر والحبّة، فقال: أكتب معك بوزنهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين؛ هما أجلّ عن أن يكتب بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما! قال: صدقت، وكانت الياقوتة للرائقة جارية خالد بن عبد الله، اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا حسين بن يزيد، عن شهاب بن عبد ربّه، عن عمرو بن علي، قال: مشيت مع محمد بن علي إلى داره عند الحمّام، فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين. وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون، فقال: ما أدري ما أحاديث الناس! ولكن أبي حدثني عن أبيه، عن علي، عن النبي ﷺ أنه قال: " لن يعمّر الله ملكًا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ بذلك النبي من العمر ". وفي هذه السنة ولي الخلافة بعد موت هشام بن عبد الملك الوليد بن يزيد ابن عبد الملك بن مروان، وليها يوم السبت في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة في قول هشام بن محمد الكلبي. وأما محمد بن عمر فإنه قال: استُخلف الوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر من سنة خمس وعشرين ومائة. وقال في ذلك علي بن محمد مثل قول محمد بن عمر. خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان ذكر الخبر عن بعض أسباب ولايته الخلافة قد مضى ذكرى سبب عقد أبيه يزيد بن عبد الملك بن مروان له الخلافة بعد أخيه هشام بن عبد الملك؛ وكان الوليد بن يزيد يوم عقد له أبوه يزيد ذلك ابن إحدى عشرة سنة، فلم يمت يزيد حتى بلغ ابنُه الوليد خمس عشرة سنة، فندم يزيد على استخلافه هشامًا أخاه بعده؛ وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد، قال: الله بيني وبين من جعل هشامًا بيني وبينك! فتوفيَ يزيد بن عبد الملك وابنه الوليد ابن خمسة عشرة سنة. وولى هشام وهو للوليد مكرّم معظم مقرّب؛ فلم يزل ذلك من أمرهما حتى ظهر من الوليد بن يزيد مجون وشرب الشراب؛ حمله على ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير، عن علي ابن محمد، عن جويرية بن أسماء وإسحاق بن أيوب وعامر بن الأسود وغيرهم - عبد الصمد بن عبد الأعلى الشبّاني أخو عبد الله بن عبد الأعلى - وكان مؤدّب الوليد - واتّخذ الوليد ندماء، فأراد هشام أن يقطعهم عنه فولاه الحجّ سنة تسع عشرة ومائة، فحمل معه كلابًا في صناديق، فسقط منها صندوق - فيما ذكر علي بن محمد عمّن سميت من شيوخه - عن البعير وفيه كلب، فأجالوا على لاكري السياط، فأوجعوه ضربًا. وحمل معه قبّة عملها على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه خمرًا، وأراد أن ينصب القبة على الكعبة؛ ويجلس فيها؛ فخوّفه أصحابه وقالوا: لا نأمن الناس عليك وعلينا معك؛ فلم يحرّكها. وظهر للناس منه تهاون بالدين واستخفاف به، وبلغ ذلك هشامًا فطمع في خلعه والبيعة لابنه مسلمة بن هشام، فأراده على أن يخلعها ويبايع لمسلمة؛ فأبى، فقال له: اجعلها له من بعدك؛ فأبى، فتنكر له هشام وأضرّ به، وعمل سرًّا في البيعة لابنه؛ فأجابه قوم. قال: فكان ممن أجابه خالاه: محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي، وبنو القعقاع بن خليد العبسي وغيرهم من خاصّته. قال: وتمادى الوليد في الشراب وطلب اللذات فأفرط، فقال له هشام: ويحك يا وليد! والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا! ما تدع شيئًا من المنكر إلا أتيته غير متحاش ولا مستتر به! فكتب إليه الوليد: يأيها السائل عن ديننا ** نحن على دين أبي شاكر نشربها صرفًا وممزوجة ** بالسخن أحيانًا وبالفاتر فغضب هشام على ابنه مسلمة - وكان يكنى أبا شاكر - وقال له: يعيّرني بك الوليد وأنا أرشحك للخلافة! فالزم الأدب واحضر الجماعة. وولّاه الموسم سنة تسع عشرة ومائة، فأظهر النسك والوقار واللين، وقسم بمكة والمدينة أموالًا، فقال مولى لأهل المدينة: يأيها السائل عن ديننا ** نحن على دين أبي شاكر الواهب الجرد بأرسانها ** ليس بزنديق ولا كافر يعرّض بالوليد. وأمّ مسلمة بن هشام أمّ حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص. فقال الكميت: إن الخلافة كائن أوتادها ** بعد الوليد إلى ابن أم حكيم فقال خالد بن عبد الله القسري: أنا برىء من خليفة يكنى أبا شاكر؛ فغضب مسلمة بن هشام على خالد، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد ابن عبد الله، كتب أبو شاكر إلى خالد بن عبد الله بعشر هجا به يحيى بن نوفل خالدًا وأخاه أسدًا حين مات: أراح من خالد وأهلكه ** رب أراح العباد من أسد أما أبوه فكان مؤتشبًا ** عبدًا لئيمًا لأعبد قفد وبعث بالطومار مع رسول على البرييد إلى خالد؛ فظنّ أنه عزاه عن أخيه، ففضّ الخاتم، فلم ير في الطومار غير الهجاء، فقال: ما رأيت كاليوم تعزية! وكان هشام يعيب الوليد ويتنقصه، وكشر عبثه به وبأصحابه وتقصيره به، فلمّا رأى ذلك الوليد خرج وخرج معه ناس من خاصّته ومواليه، فنزل بالأزرق؛ بين أرض بلقين وفزارة، على ماء يقال له الأغدف، وخلف كاتبه عياض ابن مسلم مولى عبد الملك بن مروان بالرصافة، فقال له: اكتب إلي بما يحدث قبلكم. وأخرج معهه عبد الصمد بن عبد الأعلى، فشربوا يومًا فلما أخذ فيهم الشراب، قال الوليد لعبد الصمد: يا أبا وهب، قل أبياتًا، فقال: ألم تر للنجم إذ شيعا ** يبادر في برجه المرجعا تحير عن قصد مجراته ** أتى الغور والتمس المطلعا فقلت وأعجبني شأنه ** وقد لاح إذ لاح لي مطمعا: لعل الوليد دنا ملكه ** فأمسى إليه قد استجمعا وكنا نؤمل في ملكه ** كتأميل ذي الجدب أن يمرعا عقدنا له محكمات الأمو ** ر طوعًا فكان لها موضعا وروى الشعر؛ فبلغ هشامًا، فقطع عن الوليد ما كان يجرى عليه، وكتب إلى الوليد: بلغني عنك أنك اتخذت عبد الصمد خدنًا ومحدثًا ونديمًا؛ وقد حقق ذلك عندي ما بلغني عنك، ولم أبرئك من سوء، فأخرج عبد الصمد مذمومًا مدحورًا. فأخرجه، وقال فيه: لقد قذفوا أبا وهب بأمر ** كبير بل يزيد على الكبير فأشهد أنهم كذبوا عليه ** شهادة عالم بهم خبير وكتب الوليد إلى هشام يعلمه إخراج عبد الصمد، واعتذر إليه مما بلغه من منادمته، وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه - وكان ابن سهيل من أهل اليمن وقد ولي دمشق غير مرّة، وكان ابن سهيل من خاصّة الوليد - فضرب هشام ابن سهيل وسيّره، وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد، وبلغه أنه يكتب بالأخبار إلى الوليد، فضربه ضربًا مبرحًا، وألبسه المسوح. فبلغ الوليد، فقال: من يثق بالناس، ومن يصطنع المعروف! هذا الأحول المشئوم قدّمه أبي على أهل بيته فصيّره ولي عهده، ثم يصنع بي ما ترون؛ لا يعلم أنّ لي في أحد هوىً إلا عبث به، كتب إلي أن أخرج عبد الصمد فأخرجته إليه، وكتبت إليه أن يأذن لابن سهيل في الخروج إلي، فضربه وسيّره، وقد علم رأي فيه، وقد علم انقطاع عياض بن مسلم إلي، وتحرّمه بي ومكانه مني وأنه كاتبي، فضربه وحبسه، يضارّني بذلك؛ اللهم أجرني منه! وقال: أنا النذير لمسدي نعمة أبدًا ** إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرًا ** وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا أتشمخون ومنّا رأس نعمتكم ** ستعلمون إذا كانت لنا دولا انظر فإن كنت لم تقدر على مثل ** له سوى الكلب فاضربه له مثلا بينا يسمنه للصيد صاحبه ** حتى إذ ما قوى من بعد ما هزلا عدا عليه فلم تضرره عدوته ** ولو أطاق له أكلا لقد أكلا وكتب إلى هشام: لقد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين من قطع ما قطع عنّي، ومحو ما محا من أصحابي وحرمي وأهلي، ولم أكن أخاف أن يبتليَ الله أمير المؤمنين بذلك ولا أبالي به منه؛ فإن يكن ابن سهيل كان منه ما كان فبحسب العير أن يكون قدر الذئب؛ ولم يبلغ من صنيعي في ابن سهيل واستصلاحه، وكتابي إلى أمير المؤمنين فيه كنه ما بلغ أمير المؤمنين من قطيعتي؛ فإن يكن ذلك لشيء في نفس أمير المؤمنين علي، فقد سبّب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدتّه، ولا صرف شيء عن مواقعه؛ فقدر الله يجري بمقاديره فيما أحبّ الناس أو كرهوا، ولا تأخير لعاجله ولا تعجيل لآجله؛ فالناس بين ذلك يقترفون الآثام على نفوسهم من الله، ولا يستوجبون العقوبة عليه؛ وأمير المؤمنين أحقّ أمته بالبصر بذلك والحفظ له، والله الموفّق لأمير المؤمنين بحسن القضاء له في الأمور. فقال هشام لأبي الزبير: يا نسطاس، أترى الناس يرضون بالوليد إن حدث بي حدث؟ قال: بل يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين، قال: ويحك! لا بدّ من الموت؛ أفترى الناس يرضون بالوليد؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إنّ له في أعناق الناس بيعة، فقال هشام: لئن رضي الناس بالوليد ما أظن الحديث الذي رواه الناس: " إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار "، إلا باطلًا. وكتب هشام إلى الوليد: قد فهم أمير المؤمنين ما كتبت به من قطع ما قطع عنك وغير ذلك؛ وأمير المؤمنين يستغفر الله من إجرائه ما كان يجري عليك؛ ولا يتخوّف على نفسه اقتراف المآثم في الذي أحدث من قطع ما قطع، ومحو من محا من صحابتك، لأمرين: أمّا أحدهما فإيثار أمير المؤمنين إياك بما كان يجري عليك؛ وهو يعلم وضعك له وإنفاقكه في غير سبيله، وأما الآخر فإثبات صحابتك، وإدرار أرزاقهم عليهم؛ لا ينالهم ما ينال المسلمين في كلّ عام من مكروه عند قطع البعوث، وهم معك تجول بهم في سفهك؛ ولأمير المؤمنين أحرى في نفسه للتقصير في القتر عليك منه للاعتداء عليك فيها؛ مع أن الله قد نصر أمير المؤمنين في قطع ما قطع عنك من ذلك ما يرجو به تكفير ما يتخوّف مما سلف فيه منه. وأما ابن سهيل فلعمري لئن كان نزل منك بما نزل، وكان أهلًا أن تسر فيه أو تساء؛ ما جعله الله كذلك؛ وهل زاد ابن سهيل - لله أبوك - على أن كان مغنيًا زفانًا، قد بلغ في السفه غايته! وليس ابن سهيل مع ذلك بشر ممن تستصحبه في الأمور التي يكرم أمير المؤمنين نفسه عن ذكرها، مما كنت لعمر الله أهلًا للتوبيخ به؛ ولئن كان أمير المؤمنين على ظنك به في الحرص على فسادك؛ إنك إذًا لغير آلٍ عن هوى أمير المؤمنين من ذلك. وأما ما ذكرت مما سبب الله لك؛ فإن الله قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك، واصطفاه له؛ والله بالغ أمره. لقد أصبح أمير المؤمنين وهو على اليقين من رّبه؛ أنه لا يملك لنفسه فيما أعطاه من كرامته ضرًا ولا نفعًا؛ وإن الله ولي ذلك منه؛ وإنه لا بدّ له من مزايلته؛ والله أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير الرضي له منهم. وإنّ أمير المؤمنين من حسن ظنه بربّه لعلي أحسن الرجاء أن يوليه تسبيب ذلك لمن هو أهله في الرضا له به ولهم؛ فإنّ بلاء الله عند أمير المؤمنين أعظم من أن يبلغه ذكره، أو يؤديه شكره؛ إلا بعون منه؛ ولئن كان قدر لأمير المؤمنين تعجيل وفاة، إنّ في الذ يهو مفض إليه إن شاء الله من كرامة الله لخلفًا من الدنيا. ولعمري إن كتابك إلى أمير المؤمنين بما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحمقك، فاربع على نفسك من غلواتها، وارقأ على ظلعك؛ فإن لله سطوات وعينًا؛ يصيب بذلك من يشاء، ويأذن فيه لمن يشاء ممن شاء الله؛ وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحب الأمور إليه وأرضاها له. فكتب الوليد إلى هشام: رأيتك تبني جاهدًا في قطيعتي ** لو كنت ذا إرب لهدمت ما تبني تثير على الباقين مجنى ضغينة ** فويل لهم إن مت من شر ما تجني! كأني بهم والليت أفضل قولهم ** ألا ليتنا والليت إذ ذاك لا يغني كفرت يدًا من منعم لو شكرتها ** جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمنِّ قال: فلم يزل الوليد مقيمًا في تلك البرية حتى مات هشام؛ فلما كان صبيحة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة، أرسل إلى أبي الزبير المنذر بن أبي عمرو، فأتاه فقال له: يا أبا الزبير؛ ما أتت علي ليلة منذ عقلت عقلي أطول من هذه الليلة؛ عرضت لي هموم، وحدثت نفسي فيها بأمور من أمر هذا الرجل؛ الذي قد أولع بي - يعني هشامًا - فاركب بنا نتنفس؛ فركبا، فسارا ميلين؛ ووقف على كثيب، وجعل يشكو هشامًا إذ نظر إلى رهج، فقال: هؤلاء رسل هشام؛ نسأل الله من خيرهم، إذ بدا رجلان على البريد مقبلان؛ أحدهما مولىً لأبي محمد السفياني، والآخر جردبة. فلما قربا أتيا الوليد، فنزلا يعدوان حتى دنوا منه؛ فسلما عليه بالخلافة، فوجم، وجعل جردبة يكرّر عليه السلام بالخلافة، فقال: ويحك! أمات هشام! قال: نعم؛ قال فممّن كتابك؟ قال: من مولاك سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل. فقرأ الكتاب وانصرفا، فدعا مولى أبي محمد السفياني، فسأله عن كاتبه عياض بن مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين؛ لم يزل محبوسًا حتى نزل بهشام أمر الله. فلما صار في حدّ لا ترجى الحياة لمثله أرسل عياض إلى الخزان؛ أن احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلنّ أحد منه إلى شيء. وأفاق هشام غفاقةً، فطلب شيئًا فمنعوه فقال: أرانا كنا خزانًا للوليد! ومات من ساعته. وخرج عياض من السجن، فختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه؛ فما وجدوا له قمقمًا يسخّن له فيه الماء حتى استعاروه، ولا وجدوا كفنًا من الخزائن؛ فكفنّه غالب مولى هشام؛ فكتب الوليد إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك بن مروان أن يأتي الرصافة، فيحصيَ ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذ عمّاله وحشمه؛ إلا مسلمة بن هشام؛ فإنه كتب إليه ألّا يعرض له، ولا يدخل منزله؛ فإنه كان يكثر أن يكلم أبه في الرفق به، ويكفه عنه. فقدم العباس الرصافة فأحكم ما كتب به إليه الوليد؛ وكتب إلى الوليد بأخذ بني هشام وحشمه وإحصاء أموال هشام، فقال الوليد: ليت هشامًا كان حيًا يرى ** محلبه الأوفر قد أترعا ويروى: ليت هشامًا عاش حتى يرى ** مكياله الأوفر قد طبّعا كلناه بالصاع الذي كاله ** وما ظلمناه به إصبعا وما أتينا ذاك عن بدعة ** أحله الفرقان لي أجمعا فاستعمل الوليد العمّال، وجاءته بيعته من الآفاق؛ وكتب إليه العمّال، وجاءته الوفود؛ وكتب إليه مروان بن محمد: بارك الله لأمير المؤمنين فيما أصاره إليه من ولاية عباده، ووراثة بلاده؛ وكان من تغشى غمرة سكرة الولاية ما حمل هشامًا على ما حاول من تصغير ما عظّم الله من حقّ أمير المؤمنين، ورام من الأمر المستصعب عليه؛ الذي أجابه إليه المدخولون في آرائهم وأديانهم؛ فوجد ما طمع فيه مستصعبًا، وزاحمته الأقدار بأشدّ مناكبها. وكان أمير المؤمنين بمكان من الله حاطه فيه حتى أزّره بأكرم مناطق الخلافة، فقام بما أراه الله له أهلًا، ونهض متسقلًا بما حمل منها، مثبتة ولايته في سابق الزبر بالأجل المسمى، وخصّه الله بها على خلقه وهو يرى حالاتهم، فقلّده طوقها، ورمى إليه بأزمّة الخلافة، وعصم الأمور. فالحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته، ووثائق عرى دينه، وذبّ له عما كاده فيه الظالمون، فرفعه ووضعهم؛ فمن أقام على تلك الخسيسة من الأمور أوبق نفسه، وأسخط ربه، ومن عدلت به التوبة نازعًا من الباطل إلى حقّ وجد الله توابًا رحيمًا. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أني عندما انتهى إلي من قيامه بولاية خلافة الله، نهضت إلى منبري؛ علي سيفان مستعدًا بهما لأهل الغشّ، حتى أعلمت من قبلي ما امتنّ الله به عليهم من ولاية أمير المؤمنين، فاستبشروا بذلك، وقالوا: لم تأتنا ولاية خليفة كانت آمالنا فيها أعظم ولا هي لنا أسرّ من ولاية أمير المؤمنين؛ وقد بسطت يدي لبيعتك فجدّدتها ووكدّتها بوثائق العهود وترداد المواثيق وتغليظ الأيمان، فكلهم حسنت إجابتهم وطاعتهم، فأثبهم يا أمير المؤمنين بطاعتهم من مال الله الذي آتاك؛ فإنك أجودهم جودًا وأبسطهم يدًا؛ وقد انتظروك راجين فضلك قبلهم بالرّحم الذي استرحموك، وزدهم زيادة يفضل بها من كان قبلك؛ حتى يظهر بذلك فضلك عليهم وعلى رعيّتك؛ ولولا ما أحاول من سدّ الثغر الذي أنا به، لخفت أن يحملني الشوق إلى أمير المؤمنين أن أستخلف رجلًا على غير أمره، وأقدم لمعاينة أمير المؤمنين؛ فإنها لا يعدلها عندي عادل نعمة وإن عظمت؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في المسير إليه لأشافهه بأمور كرهت الكتاب بها فعل. فلما وليَ الوليد أجرى على زمني أهل الشأم وعميانهم وكساهم، وأمر لكل إنسان منهم بخادم؛ وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة؛ وزادهم على ما كان يخرج لهم هشام، وزاد الناس جميعًا في العطاء عشرة عشرة، ثم زاد أهل الشأم بعد زيادة العشرات عشرة عشرة؛ لأهل الشأم خاصّة، وزاد من وفد إليه من أهل بيته في جوائزهم الضعف، وكان وهو لي عهد يطعم من وفد إليه من أهل الصائفة قافلًا، ويطعم من صدر عن الحجّ بمنزل يقال له زيزاء ثلاثة أيام، ويعلف دوابّهم، ولم يقل في شي يسأله: لا، فقيل له: إن في قولك: أنظر، عدّة ما يقيم عليها الطالب؛ فقال: لا أعوّد لساني شيئًا لم أعتده، وقال: ضمنت لكم إن لم تعقني عوائق ** بأن سماء الضر عنكم ستقلع سيوشك إلحاق معًا وزيادة ** وأعطية منّي عليكم تبرع محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ** به يكتب الكتّاب شهرًا وتطبع وفي هذه السنة عقد الوليد بن يزيد لابنيه الحكم وعثمان البيعة من بعده، وجعلهما وليّي عهده؛ أحدهما بعد الآخر، وجعل الحكم مقدّمًا على عثمان، وكتب بذلك إلى الأمصار؛ وكان ممن كتب إليه بذلك يوسف بن عمر، وهو عامل الوليد يومئذ على العراق، وكتب بذلك يوسف إلى نصر بن سيار؛ وكانت نسخة الكتاب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار؛ أما بعد فإني بعثت إليك نسخة كتاب أمير المؤمنين الذي كتب به إلى من قبلي في الذي ولّى الحكم ابن أمير المؤمنين وعثمان ابن أمير المؤمنين من العهد بعده مع عقّال بن شبّة التميمي وعبد الملك القيني، وأمرتهما بالكلام في ذلك؛ فإذا قدما عليك فاجمع لقراءة كتاب أمير المؤمنين الناس، ومرهم فليحشدوا له، وقم فيهم بالذي كتب أمير المؤمنين؛ فإذا فرغت فقمم بقراءة الكتاب، وأذن لمن أراد أن يقوم بخطبة، ثم بايع الناس لهما على اسم الله وبركته، وخذ عليهم العهد والميثاق على الذي نسخت لك في آخر كتابي هذا الذي نسخ لنا أمير المؤمنين في كتابه، فافهمه وبايع عليه، نسأل الله أن يبارك لأمير المؤمنين ورعيّته في الذي قضى لهم على لسان أمير المؤمنين، وأن يصلح الحكم وعثمان، ويبارك لنا فيهما؛ والسلام عليك. وكتب النضر يوم الخميس للنصف من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة. بسم الله الرحمن الرحيم. تبايع لعبد الله الوليد أمير المؤمنين والحكم ابن أمير المؤمنين إن كان من بعده وعثمان ابن أمير المؤمنين إن كان بعد الحكم على السمع والطاعة؛ وإن حدث بواحد منهما حدث فأمير المؤمنين أملك في ولده ورعيته، يقدّم من أحبّ، ويؤخر من أحب. عليك بذلك عهد الله وميثاقه؛ فقال الشاعر في ذلك: نبايع عثمان بعد الولي ** د للعهد فينا ونرجو يزيدا كما كان إذ ذاك في ملكه ** يزيد يرجى لذاك الوليدا على أنها شسعت شسعةً ** فنحن نومّلها أن تعودا فإن هي عادت فأرض القري ** ب عنها ليؤيس منها البعيدا قال أحمد: قال علي عن شيوخه الذين ذكرت: فقدم عقّال بن شبّة وعبد الملك بن نعيم على نصر، وقدما بالكتاب وهو: أما بعد؛ فإنّ الله تباركت أسماؤه، وجلّ ثناؤه، وتعالى ذكره، اختار الإسلام دينًا لنفسه، وجعله دين خيرته من خلقه، ثم اصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس؛ فبعثهم به، وأمرهم به؛ وكان بينهم وبين من مضى من الأمم، وخلا من القرون قرنًا فقرنًا؛ يدعون إلى التي هي أحسن، ويهدون إلى صراط مستقيم؛ حتى انتهت كرامة الله في نبوّته إلى محمد صلوات الله عليه؛ على حين دروس من العلم، وعميً من الناس، وتشتيت من الهوى، وتفرّقٍ من السبل، وطموس من أعلام الحقّ؛ فأبان الله به الهدى، وكشف به العمى، واستنقذ به من الضلالة والردى، وأبهج به الدين، وجعله رحمةً للعالمين، وختم به وحيه، وجمع له ما أكرم به الأنبياء قبله؛ وقفّى به على آثارهم؛ مصدّقًا لما نزل معهم، ومهيمنًا عليه، وداعيًا إليه، وآمرًا به؛ حتى كان من أجابه من أمته، ودخل في الدين الذي أكرمهم الله به، مصدّقين لما سلف من أنبياء الله فيما يكذّبهم فيه قومهم، منتصحين لهم فيما ينهونه، ذابّين لحرمهم عما كانوا منتهكين؛ معظمين منها لما كانوامصغّرين؛ فليس من أمة محمد ﷺ أحد كان يسمع لأحد من أنبياء الله فيما بعثه الله به مكذبًا، ولا عليه في ذلك طاعنًا، ولا له مؤذيًا، بتسفيه له، أو ردٍّ عليه؛ أو جحد ما أنزل الله عليه ومعه، فلم يبق كافر إلا استحلّ بذلك دمه، وقطع الأسباب التي كانت بينه وبينه؛ وإن كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم. ثم استخلف خلفاءه على منهاج نبوّته؛ حين قبض نبيّه ﷺ، وختم به وحيه لإنفاذ حكمه، وإقامة سنّته وحدوده، والأخذ بفرائضه وحقوقه، تأييدًا بهم للإسلام، وتشييدًا بهم لعراه؛ وتقويةً بهم لقوى حبله، ودفعًا بهم عن حريمه، وعدلًا بهم بين عباده، وإصلاحًا بهم لبلاده؛ فإنه تبارك وتعالى يقول: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين "، فتتابع خلفاء الله على ما أورثهم الله عليه من أمر أنبيائه، واستخلفهم عليه منه؛ لا يتعرّض لحقهم أحد إلا صرعه الله، ولا يفارق جماعتهم أحد إلّا أهلكه الله؛ ولا يستخف بولايتهم، ويتهم قضاء الله فيهم أحد إلا أمكنهم الله منه، وسلطهم عليه، وجعله نكالًا وموعظة لغيره؛ وكذلك صنع الله بمن فارق الطاعة التي أمر بلزومها والأخذ بها، والأثرة لها؛ والتي قامت السموات والأرض بها؛ قال الله تبارك وتعالى: " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين "، وقال عزّ ذكره: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ". فبالخلافة أبقى الله من أبقى في الأرض من عباده، وإليها صيّره، وبطاعة من ولّاه إياها سعد من ألهمها ونصرها؛ فإن الله عز وجل علم أن لا قوام لشيء، ولا صلاح له إلا بالطاعة التي يحفظ الله بها حقه، ويمضي بها أمره، وينكل بها عن معاصيه، ويوقف عن محارمه، ويذبّ عن حرماته؛ فمن أخذ بحظه منها كان لله وليًا ولأمره مطيعًا، ولرشده مصيبًا، ولعاجل الخير وآجله مخصوصًا؛ ومن تركها ورغب عنها وحاد الله فيها أضاع نصيبه، وعصى ربّه، وخسر دنياه وآخرته؛ وكان ممن غلبت عليه الشقوة، واستحوذت عليه الأمور الغاوية، التي تورد أهلها أفظع المشارع، وتقودهم إلى شرّ المصارع، فيما يحلّ الله بهم في الدنيا من الذلة والنقمة، ويصيّرهم فيما عندهم من العذاب والحسرة. والطاعة رأس هذا الأمر وذروته وسنامه وملاكه وزمامه، وعصمته وقوامه، بعد كلمة الإخلاص التي ميّز الله بها بين العباد. وبالطاعة نال المفلحون من الله منازلهم، واستوجبوا عليه ثوابهم، وفي المعصية مما يحلّ بغيرهم من نقماته، ويصيبهم عليه، ويحق من سخطه وعذابه، وبترك الطاعة والإضاعة لها والخروج منها والإدبار عنها والتبذّل للمعصية بها، أهلك الله من ضلّ وعتا، وعمى وغلا، وفارق مناهج البرّ والتقوى. فالزموا طاعة الله فيما عراكم ونالكم؛ وألمّ بكم من الأمور، وناصحوها واستوثقوا عليها، وسارعوا غليها وخالصوها، وابتغوا القربة إلى الله بها؛ فإنكم قد رأيتم مواقع الله لأهلها في إعلائه إياهم، وإفلاجه حجّتهم، ودفعه باطل من حادهم وناورأهم وساماهم، وأراد إطفاء نور الله الذي معهم. وخبرتم مع ذلك ما يصير إليه أهل المعصية من التوبيخ لهم والتقصير بهم؛ حتى يؤول أمرهم إلى تبار وصغار، وذلة وبوار؛ وفي ذلك لمن كان له رأي وموعظة عبرة ينتفع بواضحها، ويتمسّك بحظوتها؛ ويعرف خيرة قضاء الله لأهلها. ثم إن الله - وله الحمد والمنّ والفضل - هدى الأمة لأفضضل الأمور عاقبةً لها في حقن دمائها، والتئام ألفتها، واجتماع كلمتها، واعتدال عمودها، وإصلاح دهمائها؛ وذخر النعمة عليها في دنياها، بعد خلافته التي جعلها لهم نظامًا، ولأمرهم قوامًا؛ وهو العهد الذي ألهم الله خلفاءه توكيده والنظر للمسلمين في جسيم أمرهم فيه؛ ليكون لهم عندما يحدث بخلفائهم ثقةً في المفزع وملتجأ في الأمر، ولما للشعث، وصلاحًا لذات البين، وتثبيتًا لأرجاء الإسلام، وقطعًا لنزغات الشيطان؛ يما يتطلع إليه أولياؤه، ويوثبهم عليه من تلف هذا الدين وانصداع شعب أهله، واختلافهم فيما جمعهم الله عليه منه؛ فلا يريهم الله في ذلك إلّا ما ساءهم، وأكذب أمانيهم، ويجدون الله قد أحكم بما قضى لأوليائه من ذلك عقد أمورهم، ونفى عنهم من أراد فيها إدغالًا أو بها إغلالا، أو لما شدّد الله منها توهينًا، أو فيما تولّى الله منها اعتمادًا، فأكمل الله بها لخلفائه وحزبه البر الذين أودعهم طاعته أحسن الذي عوّدهم، وسبّب لهم من إعزازه وأكرامه وإعلائه وتمكينه؛ فأمر هذا العهد من تمام الإسلام، وكمال ما استوجب الله على أهله من المنن العظام؛ ومما جعل الله فيه لمن أجراه على يديه، وقضى به على لسانه، ووفقه لمن ولاه هذا الأمر عنده أفضل الذخر؛ وعند المسلمين أحسن الأثر فيما يؤثر بهم من منفعته، ويتّسع لهم من نعمته، ويستندون إليه من عزّه، ويدخلون فيه من وزره الذي يجعل الله لهم به منعة، ويحرزهم به من كلّ مهلكة، ويجمعهم به من كلّ فرقة، ويقمع به أهل النفاق، ويعصمهم به من كلّ اختلاف وشقاق. فاحمدوا الله ربكم الرءوف بكم، الصانع لكم في أموركم على الذي دلّكم عليه من هذا العهد؛ الذي جعله لكم سكنًا ومعوّلًا تطمئنون إليه، وتستظلون في أفنانه؛ ويستنهج لكم به مثنى أعناقكم، وسمات وجوهكم، وملتقى نواصيكم في أمر دينكم ودنياكم؛ فإنّ لذلك خطرًا عظيمًا من النعمة؛ وإنّ فيه من الله بلاء حسنًا في سعة العافية؛ يعرفه ذوو الألباب والنيات المريئون من أعمالهم في العواقب، والعارفون منار مناهج الرشد؛ فأنتم حقيقون بشكر الله فيما حفظ به دينكم وأمر جماعتكم من ذلك، جديرون بمعرفة كنه واجب حقه فيه، وحمده على الذي عزم لكم منه؛ فلتكن منزلة ذلك منكم، وفضيلته في أنفسكم على قدر حسن بلاء الله عندكم فيه إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله. ثم إنّ أمير المؤمنين لم يكن منذ استخلفه الله بشيء من الأمور أشد اهتمامًا وعناية منه بهذا العهد؛ لعلمه بمنزلتهمن أمر المسلمين، وما أراهم الله فيه من الأمور التي يغتبطون بها، ويكرمهم بما يقضي لهم ويختار له ولهم فيه جهده؛ ويستقضي له ولهم فيه إلهه ووليّه؛ الذي بيده الحكم وعند الغيب، وهو على كل شيء قدير. ويسأله أن يعينه من ذلك على الذي هو أرشد له خاصة وللمسلمين عامة. فرأى أمير المؤمنين أن يعهد لكم عهدًا بعد عهد، تكونون فيه على مثل الذي كان عليه من كان قبلكم، في مهلة من انفساح الأمل وطمأنينة النفس، وصلاح ذات البين؛ وعلم موضع الأمر الذي جعله الله لأهله عصمةً ونجاةً وصلاحًا وحياة، ولكل منافق وفاسق يحبّ تلف هذا الدين وفساد أهله وقمًا وخسارًا وقدعًا. فولّى أمير المؤمنين ذلك الحكم ابن أمير المؤمنين، وعثمان ابن أمير المؤمنين من بعده، وهما ممّن يرجو أمير المؤمنين أن يكون الله خلقه لذلك وصاغه، وأكمل فيه أحسن مناقب من كان يوليه إياه، في وفاء الرأي وصحة الدين، وجزالة المروءة والمعرفة بصالح الأمور، ولم يألكم أمير المؤمنين ولا نفسه في ذلك اجتهادًا وخيرًا. فبايعوا للحكم ابن أمير المؤمنين باسم الله وبركته ولأخيه من بعده؛ على السمع والطاعة، واحتسبوا في ذلك أحسن ما كان الله يريكم ويبليكم ويعوّدكم ويعرّفكم في أشباهه فيما مضى، من اليسر الواسع والخير العام، والفضل العظيم الذي أصبحتم في رجائه وخفضه وأمنه ونعمته، وسلامته وعصمته. فهو الأمر الذي استبطأتموه واستسرعتم إليه، وحمدتم الله على إمضائه إياه، وقضائه لكم، وأحدثتم فيه شكرًا، ورأيتموه لكم حظًا، تستبقونه وتجهدون أنفسكم في أداء حقّ الله عليكم، فإنه قد سبق لكم في ذلك من نعم الله وكرامته وحسن قسمه ما أنتم حقيقون أن تكون رغبتكم فيه، وحدبكم عليه، على قدر الذي أبلاكم الله، وصنع لكم منه. وأمير المؤمنين مع ذلك إن حدث بواحد من وليّيْ عهده حدث، أولى بأن يجعل مكانه وبالمنزل الذي كان به من أحبّ أن يجعل من أمته أو ولده، ويقدّمه بين يدي الباقي منهما إن شاء، أو أن يؤخره بعده. فاعلموا ذلك وافهموه. نسأل الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أن يبارك لأمير المؤمنين ولكم في الذي قضى به على لسانه من ذلك وقدّر منه؛ وأن يجعل عاقتبه عافيةً وسرورًا وغبطة؛ فإن ذلك بيده ولا يملكه إلا هو، ولا يرغب فيه إلا إليه، والسلام عليكم ورحمة الله. وكتب سمال يوم الثلاثاء لثمان بقين من رجب سنة خمس وعشرين ومائة. تولية الوليد نصر بن سيار على خراسان وأمره مع يوسف بن عمر وفي هذه السنة ولّى الوليد نصر بن سيار خراسان كلها، وأفرده بها. وفيها وفد يوسف بن عمر على الوليد، فاشترى نصرًا وعماله منه، فردّ إليه الوليد ولاية خراسان. وفي هذه السنة كتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيّار يأمره بالقدوم عليه. ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال. ذكر الخبر عما كان من أمر يوسف ونصر في ذلك ذكر علي عن شيوخه؛ أن يوسف كتب إلى نصر بذلك، وأمره أن يقدم معه بعياله أجمعين، فلما أتى نصرًا كتابه، قسّم على أهل خراسان الهدايا وعلى عمّاله، فلم يدع بخراسان جارية ولا عبدًا ولا برذونا فارهًا إلا أعده، واشترى ألف مملوك، وأعطاهم السلاح، وحملهم على الخيل. قال: وقال بعضهم: كان قد أعد خمسمائة وصيفة، وأمر بصنعة أباريق الذهب والفضة وتماثيل الظباء ورءوس السباع والأيايل وغير ذلك؛ فلما فرغ من ذلك كله كتب إليه الوليد يستحثّه، فسرّح الهدايا حتى بلغ أوائلها بيهق؛ فكتب إليه الوليد يأمره أن يبعث إليه ببرابط وطنابير، فقال بعض شعرائهم: فأبشر يا أمين الل ** ه أبشر بتباشير بإبل يحمل المال ** عليها كالأنابير بغال تحمل الخمر ** حقائبها طنابير ودل البربريات ** بصوت البم والزير وقرع الدف أحيانًا ** ونفخ بالمزامير فهذا لك في الدنيا ** وفي الجنة تحبير قال: وقدم الأزرق بن قرّة المسمعي من الترمذ أيام هشام على نصر، فقال لنصر: إني أريت الوليد بن يزيد في المنام؛ وهو ولي عهد، شبه الهارب من هشام، ورأيته على سرير، فشرب عسلًا وسقاني بعضه. فأعطاه نصر أربعة آلاف دينار وكسوة، وبعثه إلى الوليد، وكتب إليه نصر. فأتى الأزرق الوليد، فدفع إليه المال والكسوة، فسر بذلك الوليد، وأطلف الأزرق، وجزى نصرًا خيرًا، وانصرف الأزرق، فبلغه قبل أن يصل إلى نصر موت هشام، ونصر لا علم له بما صنع الأزرق، ثم قدم عليه فأخبره؛ فلمّا ولى الوليد كتب إلى الأزرق وإلى نصر، وأمر رسوله أن يبتدىء بالأزرق فيدفع إليه كتابه، فأتاه ليلًا، فدفع إليه كتابه وكتاب نصر، فلم يقرأ الأزرق كتابه، وأتى نصرًا بالكتابين؛ فكان في كتاب الوليد إلى نصر يأمره أن يتّخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان يقدر عليها، وكل بازي وبرذون فاره، ثم يسير بذلك كله بنفسه في وجوه أهل خراسان. فقال رجل من باهلة: كان قوم من المنجّمين يخبرون نصرًا بفتنة تكون؛ فبعث نصر إلى صدقة بن وثاب وهو ببلخ - وكان منجمًا - وكان عنده. وألحّ عليه يوسف بالقدوم؛ فلم يزل يتباطأ، فوجّه يوسف رسولًا وأمره بلزومه يستحثه بالقدوم، أو ينادي في الناس أنه قد خلع؛ فلما جاءه الرسول أجازه وأرضاه، وتحوّل إلى قصره الذي هو دار الإمارة اليوم؛ فلم يأت لذلك إلا يسير حتى وقعت الفتنة، فتحوّل نصر إلى قصره بماجان، واستخلف عصمة بن عبد الله الأسدي على خراسان، وولىّالمهلب بن إياس العدوي الخراج، وولىّ موسى بن ورقاء الناجي الشاش، وحسان من أهل صغانيان الأسدي سمرقند، ومقاتل بن علي السغُّدي آمل، وأمرهم إذا بلغهم خروجه من مرو أن يستحلبوا الترك، وأن يغيروا على ما وراء النهر؛ لينصرف إليهم بعد خروجه، يعتلّ بذلك، فبينا هو يسير يومًا إلى العراق طرقه ليلًا مولى لبني ليث؛ فلمّا أصبح أذن للناس، وبعث إلى رسول الوليد؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد كان في مسيري ما قد علمتم، وبعثي بالهدايا ما رأيتم؛ فطرقني فلان ليلًا، فأخبرني أن الوليد قد قتل، وأن الفتنة قد وقعت بالشأم؛ وقدم منصور بن جمهور العراق، وقد هرب يوسف ابن عمر، ونحن في بلاد قد علمتم حالتها وكثرة عدونا. ثم دعا بالقادم فأحلفه إنّ ما جاء به لحقّ! فحلف؛ فقال سلم بن أحوز: أصلح الله الأمير، لو حلفت لكنت صادقًا؛ إنه بعض مكايد قريش، أرادوا تهجين طاعتم، فسر ولا تهجِّنا. قال: يا سلم أنت رجل لك علم بالحروب ولك مع ذلك حسن طاعة لبني أمية؛ فأما مثل هذا من الأمور فرأيك فيه رأي أمة هتماء. ثم قال نصر: لم أشهد بعد ابن خازم أمرًا مفظعًا إلّا كنت المفزع في الرأي فقال الناس: قد علمنا ذلك، فالرأي رأيك. تولية الوليد بن زيد خاله يوسف الثقفي على المدينة ومكة وفي هذه السنة وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي واليًا على المدينة ومكة والطائف، ودفع إليه إبراهيم ومحمد ابني هشام بن إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من شعبان سنة خمس وعشرين ومائة، فأقامهما للناس بالمدينة. ثم كتب الوليد إليه يأمره أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر، وهو يومئذ عامله على العراق؛ فلما قدما عليه عذبهما حتى قتلهما؛ وقد كان رفع عليهما عند الوليد أنهما أخذا مالًا كثيرًا. وفي هذه السنة عزل يوسف بن محمد سعد بن إبراهيم عن قضاء المدينة وولاهما يحيى بن سعيد الأنصاري. غزو قبرس وفيها غزى الوليد بن يزيد أخاه الغمر بن زيد بن عبد الملك، وأمر علي على جيش البحر الأسود بن بلال المحاربي، وأمره أن يسير إلى قبرس فيخيرهم بين المسير إلى الشأم إن شاءوا، وإن شاءوا إلى الروم، فاختارت طائفة منهم جوار المسلمين، فنقلهم الأسود إلى الشأم؛ واختار آخرون أرض الروم فانتقلوا إليها. وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبة بن شبيب مكة، فلقوا - في قول بعض أهل السير - محمد بن علي فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوا منه؛ فقال لهم: أحرّ هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنّه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر، قال: فاشتروه وأعتقوه؛ واعطوا محمد بن علي مائتي ألف ألف درهم وكسوة بثلاثين ألف درهم، فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم إبراهيم بن محمد، فإني أثق به وأوصيكم به خيرًا، فقد أوصيته بكم. فصدروا من عنده. وتوفي محمد بن علي في مستهلّ ذي القعدة وهو ابن ثلاث وستين سنة؛ وكان بين وفاته وبين وفاة أبيه علي سبع سنين. وحج بالناس في هذه السنة بن محمد بن يوسف الثقفي، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ذكر الخبر عن مقتل يحيى بن زيد بن علي وفي هذه السنة قتل يحيى بن زيد بن علي بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله قد مضى ذكرنا قبل أمر مصير يحيى بن زيد بن علي إلى خراسان وسبب ذلك؛ ونذكر الآن سبب مقتله؛ إذا كان ذلك في هذه السنة. ذكر هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف، قال: أقام يحيى بن زيد بن علي عند الحريش بن عمرو بن داود ببلخ حتى هلك هشام بن عبد الملك، وولى الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن يسار بمسير يحيى بن زيد وبمنزله الذي كان ينزل؛ حتى أخبره أنه عند الحريش، وقال له: ابعث إليه وخذه أشد الأخذ. فبعث نصر بن سيّار إلى عقيل بن معقل العجلي، يأمره أن يأخذ الحريش ولا يفارقه حتى تزهق نفسه أو يأتيه بيحيى بن زيد بن علي. فبعث إليه عقيل، فسأله عنه، فقال: لا علم لي به، فجلده ستمائة سوط، فقال له الحريش: والله لو أنه كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه؛ فلما رأى ذلك قريش بن الحريش أتى عقيلا، فقال: لا تقتل أبي وأنا أدلك عليه، فأرسل معه فدلّه عليه، وهو في بيت في جوف بيت، فأخذه ومعه يزيد بن عمر والفضل مولى عبد القيس - كان أقبل معه من الكوفة - فأتى به نصر بن سيّار فسحبه، وكتب إلى يوسف بن عمر يخبره بذلك؛ فكتب بذلك يوسف إلى الوليد بن يزيد، فكتب الوليد إلى نصر بن سيّار، يأمره أن يؤمنه ويخلي سبيله وسبيل أصحابه، فدعاه نصر ابن سيّار، فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة، وأمره أن يلحق بالوليد بن يزيد، وأمر له بأفلي درهم وبغلين، فخرج هو وأصحابه حتى انتهى إلى سرخس، فأقام بها وعليها عبد الله بن قيس بن عباد، فكتب إليه نصر بن سيّارأن يشخصه عنها، وكتب إلى الحسن بن زيد التميمي - وكان رأس بني تميم، وكان على طوس - أن انظر يحيى بن زيد، فإذا مرّ بكم فلا تدعه يقيم بطوس حتى يخرج منها، وأمرهما إذا هو مرّ بهما ألّا يفارقاه حتى يدفعاه إلى عمرو بن زرارة بأبر شهر. فأشخصه عبد الله بن قيس من سرخس، ومرّ بالحسن بن زيد فأمره أن يمضي، ووكل به سرحان بن فروّخ بن مجاهد بن بلعاء العنبري أبا الفضل، وكان على مسلحة. قال: فدخلت عليه، فذكر نصر بن سيّار وما أعطاه؛ فإذا هو كالمستقلّ له؛ فذكر أمير المؤمنين الوليد بن يزيد، فأثنى عليه، وذكر مجيئه بأصحابه معه، وأنه لم يأت بهم إلا مخافة أن يسمّ أو يغمّ، وعرض بيوسف؛ وذكر أنه إياه يتخوّف، وقد كان أراد أن يقع فيه ثم كفّ، فقلت له: قل ما أحببت رحمك الله؛ فليس عليك منى عين؛ فقد أتى إليك ما تستحقّ أن تقول فيه. ثم قال: العجب من هذا الذي يقيم الأحراس أو أمر الأحراس، قال - وهو حينئذ يتفصّح: والله لو شئت أن أبعث إليه؛ فأوتي به مربوطًا. قال: فقلت له: لا والله ما بك صنع هذا؛ ولكن هذا شيء يصنع في هذا المكان أبداّ، لمكان بيت المال. قال: واعتذرت إليه من مسيري معه، وكنت أسير معه على رأس فرسخ، فأقبلنا معه حتى وقعنا إلى عمرو بن زرارة، فأمر بألف درهم، ثم أشخصه حتى انتهى إلى بيهق، وخاف اغتيال يوسف إياه، فأقبل من بيهق - وهي أقصى أرض خراسان، وأدناه من قومس - فأقبل في سبعين رجلًا إلى عمرو بن زرارة، ومرّ به تجار، فأخذ دوابهم، وقال: علينا أثمانها. فكتب عمرو بن زرارة إلى نصر بن سيّار، فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس وإلى الحسن بن زيد أن يمضيا إلى عمرو بن زرارة، فهو عليهم، ثم ينصبوا ليحيى بن زيد فيقاتلوه. فجاءوا حتى انتهوا إلى عمرو بن زرارة، واجتمعوا فكانوا عشرة آلف، وأتاهم يحيى بن زيد، وليس هو إلا في سبعين رجلًا، فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة، وأصاب دوابّ كثيرة. وجاء يحيى بن زيد حتى مرّ بهراة، وعليها مغلسّ بن زياد العامري، فلم يعرض واحد منها لصاحبه، فقطعها يحيى بن زيد، وسرح نصر بن سيّار سلم بن أحوز في طلب يحيى بن زيد فأتى هراة حين خرج منه يحيى بن زيد فأتبعه فلحقه بالجوزجان بقرية منها، وعليها حماد بن عمرو السغدي. قال: ولحق بيحيى بن زيد رجل من بني حنيفة يقال له أبو العجلان فقتل يومئذ معه، ولحق به الحسحاس الأزدي فقطع نصر بعد ذلك يده ورجاه. قال: فبعث سلم بن أحوز سورة بن محمد بن عزيز الكندي على ميمنته، وحمّاد بن عمرو السغدي على ميسرته، فقاتله قتالًا شديدًا، فذكروا أن رجلًا من عنزة يقال له عيسى، مولى عيسى بن سليمان العنزي رماه بنشّابة، فأصاب جبهته. قال: وقد كان محمد شهد ذلك اليوم، فأمره سلم بتعبئة الناس، فتمارض عليه، فعبّى الناس سورة بن محمد بن عزيز الكندي، فاقتتلوا فقتلوا من عند آخرهم. ومرّ سورة بيحيى بن زيد فأخذ رأسه، وأخذ العنزي سلبه وقميصه، وغلبه سورة على رأسه. فلما قتل يحيى بن زيد وبلغ خبره الوليد بن زيد، وكتب - فيما ذكر هشام عن موسى بن حبيب؛ أنه حدثه - إلى يوسف بن عمر: إذا أتاك كتابي هذا، فانظر عجل العراق فأحرقه ثم انسفه في اليمّ نسفًا. قال: فأمر يوسف خراش بن حوشب، فأنزله من جذعه وأحرقه بالنار، ثم رضّه فجعله في قوصرة، ثم جعله في سفينة، ثم ذرّاه في الفرات. كانت عمّال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل. ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة ذكر بقية أخبار يزيد بن الوليد بن عبد الملك فمن ذلك ما كان من قتل يزيد بن الوليد الذي يقال له الناقص الوليد بن يزيد. ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف قتل قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخلاعته ومجانته، وما ذكر عنه من تهاونه واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته ولما ولي الخلافة وأفضت إليه، لم يزدد في الدي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساّق إلاتماديًا وحدًا تركت الأخبار الواردة عنه بذلك كراهة إطالة الكتاب بذكرها - فثقل ذلك من أمره على رعيته وجنده، فكرهوا أمره. وكان من أعظم ما جنى على نفسه حتى أورثه ذلك هلاكه إفساده على نفسه بني عمّيه بني هشام وولد الوليد، ابني عبد الملك بن مروان، مع إفساده على نفسه اليمانية، وهم عظم جند أهل الشأم. ذكر بعض الخبر عن إفساده بني عمّيه هشام والوليد: حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي عن المنهال بن عبد الملك، قال: كان الوليد صاحب لهو وصيد ولذّات؛ فلما ولي الأمر جعل يكره المواضع التي فيها الناس حتى قتل، ولم يزل ينتقل ويتصيد، حتى ثقل على الناس وعلى جنده، واشتدّ على بني هشام؛ فضرب سليمان بن هشام مائة سوط وحلق رأسه ولحيته، وغربه إلى عمان فحبسه بها؛ فلم يزل بها محبوسًاحتى قتل الوليد. قال: وأخذ جارية كانت لآل الوليد، فكلمه عمر بن الوليد، فيها فقال: لا أردّها، فقال: إذن تكثير الصواهل حول عسكر. قال: وحبس الأفقم يزيد بن هشام، وأراد البيعة لابنيه الحكم وعثمان فشاور سعيد بن بيهس بن صهيب، فقال: لا تفعل؛ فإنهما غلامان لم يحتلما؛ ولكن بايع لعتيق بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، فغضب وحبسه حتى مات في الحبس. وأراد خالد بن عبد الله على البيعة لابنيه فأبى، فقال له قوم من أهله: أرادك أمير المؤمنين على البيعة لابنيه فأبيت، فقال: ويحكم! كيف أبايع من لا أصلّي خلفه، ولا أقبل شهادته! قالوا: فالوليد تقبل شهادته مع مجونه وفسقه! قال: أمر الوليد أمر غائب عني ولا أعلمه يقينًا؛ إنما هي أخبار الناس؛ فغضب الوليد على خالد. قال: وقال عمرو بن سعيد الثققفي: أوفدني يوسف بن عمر إلى الوليد فلما قدمت قال لي: كيف رأيت الفاسق؟ يعني بالفاسق الوليد - ثم قال: إياك أن نسمع هذا منك أحد، فقلت: حبيبة بنت عبد الرحمن بن جبير طلق إن سمعته إذنى ما دمت حيًا؛ فضحك. فقال: فثقل الوليد على الناس، ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه، وقالوا: ققد أتخذ مائة جامعة؛ زكتب على كل جامعة اسم رجل من بني أمية ليقتله بها. ورموه بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولًا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس إلى قوله أميل؛ لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، ويقول: ما يسمعنا الرضا بالوليد؛ حتى حمل الناس على الفتك به. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي، عن يزيد بن مصاد الكلبي، عن عمرو بن شراحيل، قال: سيرنا هشام بن عبد الملك إلى دهلك، فلم نزل بها حتى مات هشام، واستخلف الوليد، فكلم فينا فأبى، وقال: والله ما عمل هشام عملًا أرجى له عندي أن تناله المغفرة به من قتله القدرية وتسييرة إياهم. وكان الوالي علينا الحجاج بن بشر بن فيروز الديلمي، وكان يقول: لا يعيش الوليد إلا ثمانية عشر شهرًا حتى يقتل؛ ويكون قتله سبب هلاك أهل بيته. قال: فأجمع على قتل الوليد جماعة من قضاعة واليمانية من أهل دمشق خاصة، فأتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جمهور ويعقوب بن عبد الرحمن وحبال بن عمرو؛ ابن عمّ منصور، وحميد بن نصر اللخمي والأصبغ بن ذؤالة وطفيل بن حارثة والسّري بن زياد بن علاقة، خالد بن عبد الله، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، فسألوه أن يكتم عليهم، فقال: لا أسمّي أحدًا منكم. وأراد الوليد الحجّ، فخاف خالد أن يفتكوا به في الطريق، فأتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخّر الحجّ العام، فقال: ولم؟ فلم يخبره، فأمر بحبسه وأن يستأدى ما عليه من أموال العراق. وقال علي عن الحكم بن النعمان، قال: أجمع الوليد على عزل يوسف واستعمال عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر تخريب ابن النصرانيّة البلاد، وقد كنت على ما ذكرت من ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه؛ فاشخص إلى أمير المؤمنين، فصدق ظنّه بك فيما تحمل إليه لعمارتك البلاد، وليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك؛ لما جعل الله بينك وبين أمير المؤمنين من قرابة؛ فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولما قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشأم وغيرهم من الزيادة في أعطياتهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام إياهم، حتى أضرّ ذلك ببيوت الأموال. قال: فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بن محمد، وحمل من الأموال والأمتعة والآنية مالم يحمل من العراق مثله. فقدم - وخالد بن عبد الله محبوس - فلقيه حسان النبطي ليلًا، فأخبره أن الوليد عازم على تولية عبد الملك بن محمد ابن الحجاج، وأنه لا بدّ ليوسف فيها من إصلاح أمر وزرائه، فقال: ليس عندي فضل درهم، قال: فعندي خمسمائة ألف درهم، فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت. قال: فأنت أعرف بالقوم ومنازلهم من الخليفة منى، ففرقها على قدر علمك فيهم؛ ففعل. وقدم يوسف والقوم يعظمونه، فقال له: حسان: لا تغد على الوليد؛ ولكن رح إليه رواحًا؛ واكتب على لسان خليفتك كتابًا إليك: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر. وادخل على الوليد والكتاب معك متحازنًا، فأقرئه الكتاب، ومر أبان ابن عبد الرحمن النميري يشتري خالدًا منه بأربعين ألف ألف. ففعل يوسف، فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، فقال له أبان: ادفع إلى خالدًا وأدفع إليك أربعين ألف ألف درهم، قال: ومن يضمن عنك؟ قال: يوسف، قال: أتضمن عنه؟ ذقال: بل ادفعه إلي، فأنا أستأديه خمسين ألف ألف، فدفعه إليه، فحمله في محمل بغير وطاء. قال محمد بن محمد بن القاسم: فرحمته، فجمعت ألطافًا كانت معنا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، وأنا على ناقة فارهة، فتغفّلت يوسف، فأسرعت ودنوت من خالد، ورميت بالمنديل في محمله، فقال لي: هذا من متاع عمان - يعني أن أخي الفيض ان على عمان، فبعث إلي بمال جسيم - فقلت في نفسي: هذا على هذه الحالة وهو لا يدع هذا! ففطن يوسف بي فقال لي: ما قلت لابن النصرانية؟ فقلت: عرضت عليه الحاجة، قال: أحسنت، هو أسير؛ ولو فطن بما ألقيت إليه للقيني منه أذىً. وقدم الكوفة فقتله في العذاب؛ فقال الوليد بن يزيد - فيما زعم الهيثم بن عدي - شعرًا يوبّخ به أهل اليمن في تركهم نصرة خالد بن عبد الله. وأما أحمد بن زهير، فإنه حدثه عن علي بن محمد؛ عن محمد بن سعيد العامري، عامر كلب، أنّ هذا الشعر قاله بعض شعراء اليمن على لسان الوليد يحرّض عليه اليمانية: ألم تهتج فتذّكر الوصالا ** وحبلًا كان متصلًا فزالا بلى فالدمع منك له سجام ** كماء المزن ينسجل انسجالا فدع عنك ادّكارك آل سعدى ** فنحن الأكثرون حصىً ومالا ونحن المالكون الناس قسرًا ** نسومهم المذلّة والنكالا وطئنا الأشعرين بعزّ قيس ** فيا لك وطأة لن تستقالا! وهذا خالد فينا أسيرًا ** ألا منعوه إن كانوا رجالا! عظيمهم وسيدهم قديمًا ** جعلنا المخزيات له ظلالا فلو كانت قبائل ذات عز ** لما ذهبت صنائعه ضلالا ولا تركوه مسلوبًا أسيرًا ** يسامر من سلاسلنا الثقالا ورواه المدائني: " يعالج من سلاسلنا " وكندة والسكون فما استقالوا ** ولا برحت خيولهم الرحالا بها سمنا البريّة كل خسف ** وهدمنا السهولة والجبالا ولكن الوقائع ضعضعتهم ** وجذتهم وردتهم شلالا فما زالوا لنا أبدًا عبيدًا ** نسومهم المذلة والسفالا فأصبحت الغداة علي تاج ** لملك الناس ما يبغي انتقالا فقال عمران بن هلباء الكلبي يجيبه: قفي صدر المطية يا حلالا ** وجذي حبل من قطع الوصالا ألم يحزنك أن ذوي يمان ** يرى من حاذ قيلهم جلالا جعلنا للقبائل من نزار ** غداة المرج أيامًا طوالا بنا ملك المملك من قريش ** وأودى جدّ من أودى فزالا متى تلق السكون وتلق كلبًا ** بعبس تخش من ملك زوالا كذاك المرء ما لم يلف عدلًا يكون عليه منطقه وبالا أعدوا آل حمير إذ دعيتم ** سيوف الهند والأسل النهالا وكل مقلص نهد القصيري ** وذا فودين والقب الجبالا يذرن بكلّ معترك قتيلا ** عليه الطير قد مذل السؤالا لئن عيرتمونا ما فعلنا ** لقد قلتم وجدّكم مقالا لإخوان الأشاعث قتلوهم ** فما وطئوا ولا لاقوا نكالا وأبناء المهلب نحن صلنا ** وقائعهم وما صلتم مصالا وقد كانت جذام على أخيهم ** ولخم يقتلونهم شلالا هربنا أن تساعدكم عليهم ** وقد أخطا مساعدكم وفالا فإن عدتم فإنّ لنا سيوفًا ** صوارم نستجد لها الصقالا سنبكي خالدًا بمهندات ** ولا تذهب صنائعه ضلالا ألم يك خالد غيث اليتامى ** إذا حضروا وكنت لهم هزالا! يكفن خالد موتى نزار ** ويثرى حيّهم نشبًا ومالا لو أنّ الجائرين عليه كانوا ** بساحة قومه كانوا نكالا ستلقى إن بقيت مسومات ** عوابس لا يزايلن الحلالا فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: فازداد الناس على الوليد حنقًا لما روى هذا الشعر، فقال ابن بيض: وصلت سماء الضر بالضر بعد ما ** زعمت سماء الضر عنا ستقلع فليت هشامًا كان حيًا يسوسنا ** وكنا كما كنا نرجى ونطمع وكان هشام استعمل الوليد بن القعقاع على قنسرين وعبد الملك بن القعقاع على حمص، فضرب الوليد بن القعقاع ابن هبيرة مائة سوط؛ فلما قام الوليد هرب بنو القعقاع منه، فعاذوا بقبر يزيد بن عبد الملك؛ فبعث إليهم، فدفعهم إلى يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان على قنسرين - فعذّبهم، فمات في العذاب الوليد بن القعقاع وعبد الملك بن القعقاع ورجلان معهما من آل القعقاع، واضطغن على الوليد آل الوليد وآل هشام وآل القعقاع واليمانية بما صنع بخالد بن عبد الله. فأتت اليمانية يزيد بن الوليد، فأرادوه على البيعة، فشاور عمرو بن يزيد الحكمي، فقال: لا يبايعك الناس على هذا، وشاور أخاك العباس بن الوليد؛ فإنه سيّد بني مروان؛ فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن العباس قد بايعك. وكانت الشأم تلك الأيام وبيّة، فخرجوا إلى البوادي؛ وكان يزيد بن الوليد متبدّيًا، وكان العباس بالقسطل بينهما أميال يسيرة. فحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني علي، قال: أتى يزيد أخاه العباس، فأخبره وشاوره، وعاب الوليد، فقال له العبّاس: مهلًا يا يزيد؛ فإنّ في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا. فرجع يزيد إلى منزله، ودبّ في الناس فبايعوه سرًا، ودسّ الأحنف الكلبي ويزيد بن عنبسة السكسكي وقومًا من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم؛ فدعوا الناس سرًا، ثم عاود أخاه العباس ومعه قطن مولاهم، فشاوره في ذلك، وأخبره أن قومًا يأتونه يريدونه على البيعة، فزبره العباس، وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنّك وثاقًا، ولأحملنّك إلى أمير المؤمنين! فخرج يزيد وقطن، فأرسل العباس إلى قطن، فقال: ويحك يا قطن! أترى يزيد جادًا! قال: جعلت فداك! ما أظن ذاك؛ ولكنه قد دخله مما صنع الوليد ببني هشام وبني الوليد وما يسمع مع الناس من الاستخفاف بالدين وتهاونه ما قد ضاق به ذرعًا. قال: أما والله إني لأظنّه أشأم سخلة في بني مروان؛ ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددت يزيد وثاقًا، وحملته إليه؛ فازجره عن أمره؛ فإنه يسمع إليك. فقال يزيد لقطن: ما قال لك العباس حين رآك؟ فأخبره، فقال له: والله لا أكفّ. وبلغ معاوية بن عمرو بن عتبة خوض الناس؛ فأتى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين، إنك تبسط لساني بالأنس بك، وأكفه بالهيبة لك، وأنا أسمع ما لا تسمع وأخاف عليك ما أراك تأمن، أفأتكلم ناصحًا، أو أسكت مطيعًا؟ قال: كل مقبول منك؛ ولله فينا علم غيب نحن صائرون إليه؛ ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم ما فعلوا، ونعود ونسمع منك. وبلغ مروان بن محمد بأمرينية أنّ يزيد يؤلّب الناس، ويدعو إلى خلع الوليد؛ فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم - وكان سعيد يتألّه: إنّ الله جعل لكل أهل بيت أركانًا يعتمدون عليها، ويتقون بها المخاوف، وأنت بحمد ربّك ركنٌ من أركان أهل بيتك؛ وقد بلغني أن قومًا من سفهاء أهل بيتك قد استنّوا أمرًا - إن تمت لهم رويتهم فيه على ما أجمعوا عليه من نقض بيعتهم - استفتحوا بابًا لن يغلقه الله عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم؛ وأنا مشتغل بأعظم ثغور المسلمين فرجًا، ولو جمعتني وإياهم لرممت فساد أمرهم بيدي ولساني، ولخفت الله في ترك ذلك؛ لعلمي ما في عواقب الفرقة من فساد الدين والدنيا؛ وأنه لن ينتقل سلطان قوم قط إلا بتشتيت كلمتهم؛ وإنّ كلمتهم إذا تشتّتت طمع فيهم عدوهم. وأنت أقرب إليهم مني، فاحتل لعلم ذلك وإظهار المتابعة لهم؛ فإذا صرت إلى علم ذلك فتهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوفهم العواقب؛ لعلّ الله أن يرد إليهم ما قد عزب عنهم من دينهم وعقولهم؛ فإنّ فيما سعوا فيه تغير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر وحبل الألفة مشدود، والناس سكون، والثّغور محفوظة؛ فإنّ للجماعة دولة من الفرقة وللسعة دافعًا من الفقر، وللعدد منتقصًا، ودول الليالي مختلفة على أهل الدنيا، والتقلّب مع الزيادة والنقصان؛ وقد امتدّت بنا - أهل البيت - متتابعات من النعم، قد يعيبها جميع الأمم وأعداء النعم وأهل الحسد لأهلها؛ وبحسد إبليس خرج آدم من الجنة. وقد أمّل القوم في الفتنة أملًا؛ لعل أنفسهم تهلك دون ما أمّلوا، ولكلّ أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم - فأعاذك الله من ذلك - فاجعلني من أمرهم على علم. حفظ الله لك دينك، وأخرجك مما أدخلك فيه، وغلب لك نفسك على رشدك. فأعظم سعيد ذلك، وبعث بكتابه إلى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدّده، فحذّره يزيد، وقال: يا أخي، أخاف أن يكون بعض من حسدنا هذه النعمة من عدوّنا أراد أن يغري بيننا؛ وحلف له أنه لم يفعل. فصدّقه. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، قال: قال ابن بشر بن الوليد بن عبد الملك: دخل أبي بشر بن الوليد على عمّي العباس، فكلّمه في خلع الوليد وبيعة يزيد، فكان العباس ينهاه، وأبي يرادّه، فكنت أفرح وأقول في نفسي: أرى أبي يجترىء أن يكلم عمي ويردّ عليه قوله! وكنت أرى أنّ الصواب فيما يقول أبي، وكان الصواب فيما يقول عمّي، فقال العباس: يا بني مروان؛ إني أظنّ الله قد أذن في هلاككم؛ وتمثّل قائلًا: إني أعيذكم بالله من فتن ** مثل الجبال تسامى ثم تندفع إن البرية قد ملت سياستكم ** فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم ** إن الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا لا تبقرن بأيديكم بطونكم ** فثم لا حسرة تغنى ولا جزع قال: فلما اجتمع ليزيد أمره وهو مبتدّ، أقبل إلى دمشق وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكرًا في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرلحة من دمشق، فرمى يزيد بنفسه فنام. وقال القوم لمولّى لعباد بن زياد: أما عندك طعام فنشتريه؟ قال: أما لبيع فلا، ولكن عندي قراكم وما يسعكم. فأتاهم بدجاج وفراخ وعسل وسمن وشوانيز، فطعموا. ثم سار فدخل دمشق ليلًا، وقد بايع ليزيد أكثر أهل دمشق سرًا، وبايع أهل المزة غير معاوية بن مصاد الكلبي - وهو سيد أهل المزّة - فمضى يزيد من ليلته إلى منزل معاوية بن مصاد ماشيًا في نفير من أصحابه - وبين دمشق وبين المزّة ميل أو أكثر - فأصابهم مطر شديد، فأتوا منزل معاوية بن مصاد، فضربوا بابه، ففتح لهم، فدخلوا، فقال ليزيد: الفراش أصلحك الله! قال: إن في رجلي طينًا، وأكره أن أفسد بساطك، فقال: الذي تريدنا عليه أفسد. فكلمه يزيد فبايعه معاوية - ويقال هشام بن مصاد - ورجع يزيد إلى دمشق؛ فأخذ طريق القناة، وهو على حمار أسود؛ فنزل دار ثابت بن سليمان بن سعد الخشني، وخرج الوليد بن روح، وحلف لا يدخل دمشق إلّا في السلاح، فلبس سلاحه، وكفر عليه الثياب، وأخذ طريق النيرب - وهو على فرس أبلق - حتى وافى يزيد، وعلى دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فخاف الوباء، فخرج فنزل قطنًا، واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فأجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إنّ يزيد خارج، فلم يصدّق. وأرسل يزيد إلى أصحابه بين المغرب والعشاء ليلة الجمعة سنة ست وعشرين ومائة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذّنوا العتمة، فدخلوا المسجد، فصلوا - وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس من المسجد بالليل - فلمّا صلّى الناس صاح بهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد، فجعلوا يخرجون من باب المقصورة ويدخلون من باب آخر حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد، فأعلمه وأخذ بيده، وقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه، فقام وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضًا فأعنّي عليه وسددني له؛ وإن كان غير ذلك فاصرفه عنّي بموت. وأقبل في اثني عشر رجلًا، فلمّا كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلًا من أصحابهم، فلمّا كانوا عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل من أصحابهم؛ فمضوا إلى المسجد فدخلوه، فأخذوا باب المقصورة فضربوه وقالوا: رسل الوليد؛ ففتح لهم الباب خادم فأخذوه ودخلوا، وأخذوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزّان بيت المال وصاحب البريد، وأرسل إلى كلّ من كان يحذره فأخذ. وأرسل يزيد من ليلته إلى محمد بن عبيدة - مولى سعيد ابن العاص وهو على بعلبك - فأخذه، وأرسل يزيد من ليلته إلى عبد الملك بن محمد بن الحجّاج بن يوسف، فأخذه ووجّه إلى الثنيّة إلى أصحابه ليأتوه. وقال للبوّابين: لا تفتحوا الباب غدوة إلا لمن أخبركم بشعارنا. فتركوا الأبواب بالسلاسل. وكان في المسجد سلاح كثير قدم به سليمان بن هشام من الجزيرة، ولم يكن الخزّان قبضوه، فأصابوا سلاحًا كثيرًا، فلما أصبحوا جاء أهل المزّة وابن عصام، فما انتصف النهار حتى تبايع الناس، ويزيد يتمثل قول النابغة: إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ** إلى الموت إرقال اعلجمال المصاعب فجعل أصحاب يزيد يتعجبون، ويقولون: انظروا إلى هذا؛ هو قبيل الصبح يسبح، وهو الآن ينشد الشعر! حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني رزين بن ماجد، قال: غدونا مع عبد الرحمن ابن مصاد، ونحن زهاء ألف وخمسمائة؛ فلما انتهينا إلى باب الجابية ووجدناه مغلقًا، ووجدنا عليه رسولًا للوليد، قال: ما هذه الهيئة وهذه العدّة! أما والله لأعلمنّ أمير المؤمنين. فقتله رجل من أهل المزّة، فدخلنا من باب الجابية، ثم أخذنا في زقاق اعلكلبيّين، فضاق عنا، فأخذ ناس منا سوق القمح؛ ثم اجتمعنا على باب المسجد، فدخلنا على يزيد، فما فرغ آخرنا من التسليم عليه؛ حتى جاءت السكاسك في نحو ثلثمائة، فدخلوا من باب الشرقي حتى أتوا المسجد، فدخلوا من باب الدرج، ثم أقبل يعقوب ابن عمير بن هانىء العبسي في أهل داريّا، فدخلوا من باب دمشق الصغير، وأقبل عيسى بن شبيب التغلبي في أهل دومة وحرستا، فدخلوا من باب توما، وأقبل حميد بن حبيب اللخمي في أهل دبر المران والأرزة وسطرا، فدخلوا من باب الفراديس، وأقبل النضر بن الجرشي في أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا، فدخلوا من باب الشرقي، وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، فدخلوا من باب توما، ودخلت جهينة ومن والاهم مع طلحة بن سعيد، فقال بعض شعرائهم: فجاءتهم أنصارهم حين أصبحوا ** سكاسكها أهل البيوت الصنادد وكلب فجاءوهم بخيل وعدة ** من البيض والأبدان ثم السواعد فأكرم بها أحياء أنصار سنة ** هم منعوا حرماتها كل جاحد وجاءتهم شعبان والأزد شرعًا ** وعبس ولخم بين حام وذائد وغسان والحيان قيس وتغلب ** وأحجم عنها كل وان وزاهد فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها ** قد استوثقوا من كل عات ومارد حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني قسيم بن يعقوب ورزين بن ماجد وغيرهما، قالوا: وجّه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس أو نحوهم إلى قطن؛ ليأخذوا عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف، وقد تحصّن في قصره، فأعطاه الأمان فخرج إليه، فدخلنا القصر، فأصبنا فيه خرجين، في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار. قال: فلما انتهينا إلى المزّة قلت لعبد الرحمن بن مصاد: اصرف أحد هذين الحرجين إلى منزلك أو كليهما، فإنك لا تصيب من يزيد مثلهما أبدًا، فقال: لقد عجلت إذًا بالخيانة، لا والله لا يتحدث العرب أنى أوّل من خان في هذا الأمر، فمضى به إلى يزيد بن الوليد. وأرسل يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فأمره فوقف بباب الجابية، وقال: من كان له عطاء فليأت إلى عطائه، ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة. وقال لبني الوليد بن عبد الملك ومعه منهم ثلاثة عشر: تفرّقوا في الناس يرونكم وحضورهم، وقال للوليد بن روح بن الوليد: أنزل الراهب، ففعل. وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني دكين بن الشماخ الكلبي وأبو علاقة بن صالح السلاماني أن يزيد بن الوليد نادى بأمره مناد: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف درهم؟ فاجتمع إليه أقلّ من ألف رجل، فأمر رجلًا فنادى: من ينتدب إلى الفاسق وله ألف وخمسمائة؟ فانتدب إليه يومئذ ألف وخمسمائة، فعقد لمنصور بن جمهور على طائفة، وعقد ليعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي على طائفة أخرى، وعقد لهرم ابن عبد الله بن دحية على طائفة أخرى، وعقد لحميد بن حبيب اللخمي على طائفة أخرى، وعليهم جميعًا عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالحيرة. وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم بن الوليد أنّ مولىً للوليد لما خرج يزيد بن الوليد، خرج على فرس له، فأتى الوليد من يومه، فنفق فرسه حين بلغه، فأخبر الوليد الخبر، فضربه مائة سوط وحبسه، ثم دعا أبا محمد ابن عبد الله بن يزيد بن معاوية فأجازه، ووجّهه إلى دمشق، فخرج أبو محمد، فلما انتهى إلى ذنبة أقام، فوجّه يزيد بن الوليد إليه عبد الرحمن بن مصاد، فسالمه أبو محمد، وبايع ليزيد بن الوليد وأتى الوليد الخبر، وهو بالأغدف - والأغدف من عمّان - فقال بيهس بن زميل الكلابي - ويقال قاله يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجّه الجنود إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة ابن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيد أمير المؤمنين وناصره. فقال يزيد بن خالد: وماذا يخاف على حرمه! وإنما أتاه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك وهو ابن عمهنّ، فأخذ بقول ابن عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: يا أمير المؤمنين، تدمر حصينة، وبها قومي يمنعونك، فقال: ما أرى أن نأتي تدمر وأهلها بنو عامر؛ وهم الذين خرجوا علي؛ ولكن دلني على منزل حصين، فقال: أرى أن تنزل القرية، قال: أكرهها، قال: فهذا الهزيم، قال: أكره اسمه، قال: فهذا البخراء، قصر النعمان بن بشير، قال: ويحك! ما أقبح أسماء مياهكم! فأقبل في طريق السماوة، وترك الريف، وهو في مائتين، فقال: إذا لم يكن خير مع الشر لم تجد ** نصيحًا ولا ذا حاجة حين تفزع إذا ما هم هموا بإحدى هناتهم ** حسرت لهم رأسي فلا أتقنع فمر بشبكة الضحاك بن قيس الفهري؛ وفيها من ولده وولد ولده أربعون رجلًا، فساروا معه وقالوا: إنا عزل؛ فلو أمرت لنا بسلاح! فما أعطاهم سيفًا ولا رمحًا، فقال له بيهس بن زميل: أما إذ أبيت أن تمضي إلى حمص وتدمر فهذا الحصن البخراء فإنه حصين، وهو من بناء العجم فانزله، قال: إني أخاف الطاعون، قال: الذي يراد بك أشدّ من الطاعون؛ فنزل حصن البخراء. قال: فندب يزيد بن الوليد الناس إلى الوليد مع عبد العزيز، ونادى مناديه: من سار معه فله ألفان، فانتدب ألفا رجل، فأعطاهم ألفين ألفين، وقال: موعدكم بذنبة، فوافى بذنبة ألف ومائتان، وقال: موعدكم مصنعة بني عبد العزيز بن الوليد بالبرّيّة، فواافاه ثمانمائة، فسار، فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوه، ونزلوا قريبًا من الوليد، فأتاه رسول العباس بن الوليد: إني آتيك، فقال الوليد: أخرجوا سريرًا، فأخرجوا سريرًا فجلس عليه وقال: أعلي توثّب الرجال، وأنا أثبُ على الأسد وأتخصّر الأفاعي! وهم ينتظرون العباس، فقاتلهم عبد العزيز، وعلى الميمنة عمرو بن حوي السكسكي وعلى المقدّمة منصور بن جمهور وعلى الرجالة عمارة بن أبي كلثم الأزدي، ودعا عبد العزيز ببغل له أدهم فركبه، وبعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيّه، فقتله قطري مولى الوليد، فانكشف أصحاب يزيد، فترجّل عبد العزيز، فكرّ أصحابه، وقد قتل من أصحابه عدّة، وحملت رءوسهم إلى الوليد وهو على باب حصن البخراء قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالجابية، وقتل من أصحاب الوليد بن يزيد عثمان الخشبي، قتله جناح بن نعيم الكلبي، وكان من أولاد الخشبيّة الذين كانوا مع المختار. وبلغ عبد العزيز مسير العباس بن الوليد، فأرسل منصور بن جمهور في خيل، وقال: إنكم تلقون العباس في الشعب، ومعه بنوه في الشعب فخذوهم. فخرج منصور في الخيل فلما صاروا بالشعب إذا هم بالعباس في ثلاثين من بنيه، فقالوا له: اعدل إلى عبد العزيز، فشتمهم، فقال له منصور: والله لئن تقدّمت لأنفذن حصينك - يعني درعك - وقال نوح بن عمرو بن حوي السكسكي: الذي لقي العباس بن الوليد يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي - فعدل به إلى عبد العزيز، فأبى عليه فقال: يا بن قسطنطين؛ لئن أبيت لأضربنّ الذي فيه عيناك، فنظر العباس إلى هرم بن عبد الله بن دحية، فقال: من هذا؟ قال: يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم، قال: أما والله إن كان لبغيضًا إلى أبيه أن يقف ابنه هذا الموقف؛ وعدل به إلى عسكر عبد العزيز، ولم يكن مع العباس أصحابه، كان تقدّمهم مع بنيه، فقال: إنا لله! فأتوا به عبد العزيز، فقال له: بايع لأخيك يزيد بن الوليد، فبايع ووقف ونصبوا راية. وقالوا: هذه راية العباس بن الوليد، وقد بايع لأمير المؤمنين يزيد بن الوليد، فقال العباس: إنا لله! خدعة من خدع الاشيطان! هلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد، فأتوا العباس وعبد العزيز وظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسيْه: السندي والزّائد، فقاتلهم قتالًا شديدًا، فناداهم رجل: اقتلوا عدوّ الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر، وأغلق الباب، وأحاط عبد العزيز وأصحابه بالقصر، فدنا الوليد من الباب، فقال. أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلّمه! فقال له يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني، قال له: من أنت؟ قال: أنا يزيد بن عنبسة، قال: يا أخا السكاسكك؛ ألم أزد في أعطياتكم! ألم أرفع المؤمن عنكم! ألم أعط فقراءكم! ألم أخدم زمناكم! فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله؛ قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت؛ وإن فيما أحلّ لي لسعة عمّا ذكرت. ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفًا، وقال: يوم كيوم عثمان؛ ونشر المصحف يقرأ، فعلوا الحائط، فكان أوّل من علا الحائط يزيد بن عنبسة السكسكي، فنزل إليه وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له يزيد: نحّ سيفك، فقال له الوليد: لو أردت السيف لكانت لي ولك حالة فيهم غير هذه، فأخذ بيد الوليد؛ وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه. فنزل من الحائط عشرة: منصور بن جمهور وحبال بن عمرو الكلبي وعبد الرحمن بن عجلان مولى يزيد بن عبد الملك وحميد بن نصر اللخمي والسري بن زياد بن أبي كبشة وعبد السلام اللخمي، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السري على وجهه، وجرّوه بين خمسة ليخرجوه. فصاحت امرأة كانت معه في الدار، فكفّوا عنه ولم يخرجوه، واحتزّ أبو علاقة القضاعي رأسه، فأخذ عقبًا فخاط الضربة التي في وجهه، وقدم بالرأس على يزيد روح بن مقبل، وقال أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الفاسق الوليد وأسر من كان معه، والعباس - ويزيد يتغدّى - فسجد ومن كان معه، وقام يزيد بن عنبسة السكسكي، وأخذ بيد يزيد، وقال: قم يا أمير المؤمنين، وأبشر بنصر الله، فاختلج يزيد يده من كفّه، وقال: اللهمّ إن كان هذا لك رضًا فسدّدني، وقال ليزيد بن عنبسة: هل كلّمكم الوليد؟ قال: نعم. كلّمني من وراء الباب، وقال: أما فيكم ذو حسب فأكلّمه! فكلمته ووبّخته، فقال: حسبك، فقد لعمري أغرقت وأكثرت، أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجتمع كلمتكم. حدثني أحمد عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: قال نوح ابن عمرو بن حوي السكسكي: خرجنا إلى قتال الوليد في ليالٍ ليس فيها قمر؛ فإن كنت لأرى الحصى فأعرف أسوده من أبيضه. قال: وكان على ميسرة الوليد بن يزيد الوليد بن خالد، ابن أخي الأبرش الكلبي في بني عامر - وكانت بنو عامر ميمنة عبد العزيز - فلم تقاتل ميسرة الوليد ميمنة عبد العزيز، ومالوا جميعاُ إلى عبد العزيز بن الحجاج. قال: وقال نوح بن عمرو: رأيت خدم الوليد بن يزيد وحشمه يوم قتل يأخذون بأيدي الرجال، فيدخاونهم عليه. وحدثني أحمد عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني المثنّى بن معاوية، قال: أقبل الوليد فنزل اللؤلؤة، وأمر ابنه الحكم والمؤمّل ابن العباس أن يفرضا لمن أتاهما ستين دينارًا في العطاء، فأقبلتُ أنا وابن عمتي سليمان بن محمد بن عبد الله إلى عسكر الوليد، فقرّبني المؤمّل وأدناني. وقال: أدخلك على أمير المؤمنين، وأكلّمه حتى يفرض لك في مائة دينار. قال المثنىّ: فخرج الوليد من اللؤلؤة فنزل المليكة، فأتاه رسول عمرو بن قيس من حمص يخبره أن عمرًا قد وجّه إليه خمسمائة فارس، عليهم عبد الرحمن بن أبي الجنوب البهراني، فدعا الوليد الضحّاك بن أيمن من بني عوف بن كلب، فأمره أن يأتي ابن أبي الجنوب - وهو بالغوير - فيستعجله، ثم يأتي الوليد بالمليكة. فلما أصبح أمر الناس بالرّحيل، وخرج على برذون كميت، عليه قباء خز وعمامة خزّ، محتزمًا بريطة رقيقة قد طواها، وعلى كتفيه ريطة صفراء فوق السيف، فلقيه بنو سليم بن كيسان في ستة عشر فارسًا، ثم سار قليلًا، فتلقّاه بنو النعمان بن بشير في فوارس، ثم أتاه الوليد ابن أخي الأبرش في بني عامر من كلب، فحمله الوليد وكساه، وسار الوليد على الطريق ثم عدل في تلعة يقال لها المشبهة، فلقيه ابن أبي الجنوب في أهل حمص. ثم أتى البخراء، فضجّ أهل العسكر، وقالوا: ليس معنا علف لدوابنا، فأمر رجلًا فنادى: إن أمير المؤمنين قد اشترى زروع القرية، فقالوا: ما نصنع بالقصيل! تضعف عليه دوابنا؛ وإنما أرادوا الدراهم. قال المثنّى: أتيت الوليد، فدخلت من مؤخّر الفسسطاط، فدعا بالغداء، فلما وضع بين يديه أتاه رسول أمّ كلثوم بنت عبد الله بن يزيد بن عبد الملك يقال له عمرو بن مرة، فأخبره أنّ عبد العزيز بن الحجاج؛ قد نزل اللؤلؤة، فلم يلتفت إليه، وأتاه خالد بن عثمان المخراش - وان على شرطه - برجل من بني حارثة بن جناب، فقال له: إنّي كنت بدمشق مع عبد العزيز، وقد أتيتك بالخبر؛ وهذه ألف وخمسمائة قد أخذتها - وحل هميانًا من وسطه، وأراه - وقد نزل اللؤلؤة؛ وهو غاد منها إليك، فلم يجبه والتفت إلى رجل إلى جنبه، وكلمه بكلام لم أسمعه، فسألت بعض من كان بيني وبينه عما قال، فقال: سأله عن النهر الذي حفره بالأردن: كم بقي منه؟ وأقبل عبد العزيز من اللؤلؤة، فأتى المليكة فحازها، ووجّه منصور بن جمهور، فأخذ شرقي القرى - وهو تل مشرف في أرض ملساء على طريق نهيا إلى البخراء - وكان العباس بن الوليد تهيأ في نحو من خمسين ومائة من مواليه وولده، فبعث العباس رجلًا من بني ناجية يقال له حبيش إلى الوليد يخيّره بين أن يأتيه فيكون معه؛ أو يسير إلى يزيد بن الوليد. فاتّهم الوليد العباس، فأرسل إليه يأمره أن يأتيه فيكون معه، فلقي منصور بن جمهور الرسول، فسأله عن الأمر فأخبره، فقال له منصور: قل له: والله لئن رحلت من موضعك قبل طلوع الفجر لأقتلنّك ومن معك؛ فإذا أصبح فليأخذ حيث أحبّ. فأقام العباس يتهيّأ؛ فلما كان في السحر سمعنا تكبير أصحاب عبد العزيز قد أقبلوا إلى البخراء، فخرج خالد بن عثمان المخراش، فعبّأ الناس؛ فلم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس؛ وكان مع أصحاب يزيد بن الوليد كتاب معلّق في رمح، فيه: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وأن يصير الأمر شورى. فاقتتلوا فتقل عثمان الخشبي، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلًا، وأقبل منصور بن جمهور على طريق نهيا، فأتى عسكر الوليد من خلفهم، فأقبل إلى الوليد وهو في فسطاطه؛ ليس بينه وبين منصور أحد. فلما رأيته خرجت أنا وعاصم بن هبيرة المعافري خليفة المخراش، فانكشف أصحاب عبد العزيز، ونكص أصحاب منصور، وصرع سمي بن المغيرة وقتل، وعدل منصور إلى عبد العزيز. وكان الأبرش على فرس له يدعى الأديم، عليه قلنسوة ذات أذنين؛ قد شدّها تحت لحيته؛ فجعل يصيح بابن أخيه: يا بن اللخناء، قدّم رايتك، فقال له: لا أجد متقدّمًا، إنها بنو عامر. وأقبل العباس بن الوليد فمنعه أصحاب عبد العزيز، وشدّ مولى لسليمان بن عبد الله بن دحية - يقال له التركي - على الحارث بن العباس بن الوليد، فطعنه طعنة أذراه عن فرسه؛ فعدل العباس إلى عبد العزيز، فأسقط في أيدي أصحاب الوليد وانكسروا. فبعث الوليد بن يزيد الوليد بن خالد إلى عبد العزيز بن الحجاج بأن يعطيه خمسين ألف دينار، ويجعل له ولاية حمص ما بقي، ويؤمنه على كل حدث، على أن ينصرف ويكف؛ فأبى ولم يجبه، فقال له الوليد: ارجع إليه فعاوده أيضًا، فأتاه الوليد فلم يجبه إلى شيء، فانصرف الوليد؛ حتى إذا كان غير بعيد عطف دابته، فدنا من عبد العزيز، فقال له: أتجعل لي خمسة ألاف دينار وللأبرش مثلها، وأن أكون كأخصّ رجل من قومي منزلة وآتيك، فأدخل معك فيما دخلت فيه؟ فقال له عبد العزيز: على أن تحمل الساعة على أصحاب الوليد؛ ففعل. وكان على ميمنة الوليد معاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن خالد، فقال لعبد العزيز: أتجعل لي عشرين ألف دينار وولاية الأردنّ والشركة في الأمر على أن أصير معكم؟ قال: على أن تحمل على أصحاب الوليد من ساعتك، ففعل، فانهزم أصحاب الوليد. وقام الوليد فدخل البخراء، وأقبل عبد العزيز فوقف على الباب وعليه سلسلة، فجعل الرجل بعد الرجل يدخل من تحت السلسلة. وأتى عبد العزيز عبد السلام بن بكير بن شمّاخ اللخمي، فقال له: إنه يقول: أخرج على حكمك، قال: فليخرج؛ فلما ولّى قيل له: ما تصنع بخروجه! دعه يكفيكه الناس. فدعا عبد السلام فقال: لا حاجة لي فيما عرض علي، فنظرت إلى شاب طويل على فرس، فدنا من حائط القصر فعلاه، ثم صار إلى داخل القصر. قال: فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب وسراويل وشى، ومعه سيف في غمد والناس يشتمونه، فأقبل إليه بشر بن شيبان مولى كنانة بن عمير؛ وهو الذي دخل من الحائط، فمضى الوليد يريد الباب - أظنه أراد أن يأتي عبد العزيز - وعبد السلام عن يمينه ورسول عمرو بن قيس عن يساره، فضربه على رأسه؛ وتعاوره الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه - وكان يزيد بن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف - وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري فسلخ من جلد الوليد قدر الكفّ، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوسًا في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وحزائنه، وأتاني يزيد العليمي أبو البطريق بن يزيد؛ وكانت ابتنه عند الحكم بن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتي، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له. يمينه ورسول عمرو بن قيس عن يساره، فضربه على رأسه؛ وتعاوره الناس بأسيافهم فقتل، فطرح عبد السلام نفسه عليه يحتز رأسه - وكان يزيد بن الوليد قد جعل في رأس الوليد مائة ألف - وأقبل أبو الأسد مولى خالد بن عبد الله القسري فسلخ من جلد الوليد قدر الكفّ، فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوسًا في عسكر الوليد، فانتهب الناس عسكر الوليد وحزائنه، وأتاني يزيد العليمي أبو البطريق بن يزيد؛ وكانت ابتنه عند الحكم بن الوليد، فقال: امنع لي متاع ابنتي، فما وصل أحد إلى شيء زعم أنه له. قال أحمد: قال علي: قال عمرو بن مروان الكلبي: لما قتل الوليد قطعت كفه اليسرى، فبعث بها إلى يزيد بن الوليد، فسبقت الرأس؛ قدم بها ليلة الجمعة، وأتى برأسه من الغد، فنصبه للناس بعد الصلاة. وكان أهل دمشق قد أجفوا بعبد العزيز، فلما أتاهم رأس الوليد سكتوا وكفّوا. قال: وأمر يزيد بنصب الرأس، فقال له يزيد بن فروة مولى بني مروان: إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك؛ وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن ترقّ له قلوب الناس؛ ويغضب له أهل بيته؛ فقال: والله لأنصبنّه، فنصبه على رمح، ثم قال له: انطلق به، فطف به في مدينة دمشق؛ وأدخله دار أبيه. ففعل، فصاح الناس وأهل الدار ثم رده إلى يزيد، فقال: انطلق به إلى منزلك؛ فمكث عنده قريبًا من شهر، ثم قال له: ادفعه إلى أخيه سليمان - وكان سليمان أخو الوليد ممن سعى على أخيه - فغسل ابن فروة الرأس، ووضعه في سفط، وأتى به سليمان، فنظر إليه سليمان، فقال: بعدًا له! أشهد أنه كان شروبًا للخمر، ماجنًا فاسقًا؛ ولقد أرادني على نفسي الفاسق. فخرج ابن فروة من الدار، فتلقته مولاة للوليد، فقال لها: ويحك! ما أشد ما شتمه! زعم أنه أراده على نفسه! فقالت: كذب والله الخبيث، ما فعل، ولئن كان أراده على نفسه لقد فعل؛ وما كان ليقدر على الامتناع منه. وحدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكابي، قال: حدثني يزيد بن مصاد عن عبد الرحمن بن مصاد، قال: بعثني يزيد بن الوليد إلى أبي محمد السيفاني - وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد واليًا على دمشق وأتى ذنبة؛ وبلغ يزيد خبره، فوجّهني إليه - فاتيته، فسالم وبايع ليزيد. قال: فلم نرم حتى رفع لنا شحص مقبل من ناحية البريّة، فبعث إليه، فأتيت به فإذا هو الغزيّل أبو كمال المغنّي، على بلغة للوليد تدعى مريم، فأخبر أن الوليد قد قتل، فانصرفت إلى يزيد، فوجدت الخبر قد أتاه قبل أن آتيه. حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني دكين بن شماخ الكلبي ثم العامري، قال: رأيت بشر بن هلباء العامري يوم قتل الوليد ضرب باب البخراء بالسيف، وهو يقول: سنبكي حالدًا بمهنّداتٍ ** ولا تذهب صنائعه ضلالا وحدثني أحمد عن علي، عن أبي عاصم الزيّادي، قال: ادّعى قتل الوليد عشرة، وقال: إني رأيت جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس، فقال: أنا قتلته؛ وأخذت هذه الجلدة، وجاء رجل فاحتزّ رأسه، وبقيت هذه الجلدة في يدي. واسم وجه الفلس عبد الرحمن، قال: وقال الحكم بن النعمان مولى الوليد بن عبد الملك: قدم برأس الوليد على يزيد منصور بن جمهور في عشرة؛ فيهم روح بن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين؛ أبشر بقتل الفاسق وأسر العباس؛ وكان فيمن قدم برأس عبد الرحمن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب؛ فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف. قال: وقال الوليد يوم قتل وهو يقاتلهم: من جاء برأس فله خمسمائة؛ فجاء قوم بأرؤس، فقال الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه ممن جاء برأس: يا أمير المؤمنين؛ ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة! قال: وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغني وعمرو الوادي؛ فلما تفرق عن الوليد أصحابه، وحصر، قال مالك لعمرو: اذهب بنا، فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء؛ ونحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل، فقال مالك: ويلك! والله لئن ظفروا بنا يقتل أحد قبلي وقبلك؛ فيوضع رأسه بين رأسينا؛ ويقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال؛ فلا يعيبونه بشيء أشدّ من هذا فهربا. وقتل الوليد بن يزيد يوم الخميس لليلتين بقيا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، كذلك قال أبو معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكذلك قال هشام بن محمد ومحمد ابن عمر الواقدي وعلي بن محمد المدائني. واختلفوا في قدر المده التي كان فيها خليفةً؛ فقال أبو معشر: كانت خلافته سنه وثلاثة أشهر، كذلك حدثني بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وقال هشام بن محمد: كانت خلافته سنة وشهرين واثنين وعشرين يومًا. واختلفوا أيضًا في مبلغ سنه يوم قتل، فقال هشام بن محمد الكلبي: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقال محمد بن عمر: قتل وهو ابن ست وثلاثين سنة، وقال بعضهم: قتل وهو ابن اثنتي وأربعين سنة. وقال آخرون: وهو ابن إحدى وأربعين سنة، وقال آخرون: ابن خمس وأربعين سنة، وقال بعضهم: وهو ابن ست وأربعين سنة. وكان يكنى أبا العباس، وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف الثقفي؛ وكان شديد البطش، طويل أصابع الرجالين، كان يوتد له سكة حديد فيها خيط ويشد الخيط في رجله، ثم يثب على الدابة، فينتزع السكة ويركب، ما يمسّ الدابة بيده. وكان شاعرًا مشروبًا للخمر؛ حدثني أحمد؛ قال: حدثنا علي، عن ابن أبي الزناد، قال: قال أبي: كنت عند هشام وعنده الزهري، فذكر الوليد، فتنقّصاه وعاباه عيبًا شديدًا، ولم أعرض في شيء مما كنا فيه؛ فاستأذن الوليد، فأذن له، وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلًا، ثم قام. فلما مات هشام كتب في فحملت إليه فرحب بي، وقال: كيف حالك يابن ذكوان؟ وألطف المسألة بي، ثم قال: أتذكر يوم الأحول وعنده الفاسق الزهري، وهما يعيبانني؟ قلت أذكر ذلك؛ فلم أعرض في شيء مما كانا فيه، قال: صدقت، أرأيت الغلام الذي كان قائمًا على رأس هشام؟ قلت: نعم، قال: فإنه نمّ إلي بما قالا؛ وايم الله لو بقي الفاسق - يعني الزهّري - لقتلته، قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت. ثم قال يابن ذكوان، ذهب الأحول بعمري، بل يطيل الله لك عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك؛ فدعا بالعشاء فتعشينا، وجاءت المغرب فصلينا، وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس، وقال: اسقني؛ فجاءوا بلإناء مغطّى، وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه، بيني وبينه، ثم شرب وذهبنا فتحدثنا، واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولا؛ قال: فما زال على ذلك يتحدث ويستسقى وصنعن مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحًا. خبر قتل خالد بن عبد الله القسري وفي هذه السنة قتل خالد بن عبد الله القسري. ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك قد تقدم ذكرنا اللخبر عن عزل هشام إياه عن عماه ووليته العراق وخراسان واستعماله على العراق يوسف بن عمر؛ وكان - فيما ذكر - عمل لهشام على ذلك خمس عسرة سنة غير أشهر؛ وذلك أنه - فيما قيل - ولى العراق لهشام سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى سنة عشرين ومائة. ولما عزله هشام وقدم عليه يوسف واسطًا أخذه وحبسه بها، ثم شخص يوسف بن عمر إلى الحيرة؛ فلم يزل محبوسًا بالحيرة تمام. ثمانية عشر شهرًا مع أخيه إسماعيل بن عبد الله وابنيه يزيد بن خالد وابن أخيه المنذر بن أسد بن عبد الله. واستأذن يوسف هشامًا في إطلاق يده عليه وتعذيبه، فلم يأذنن له حتى أكثر عليه واعتلّ عليه بانكسار الخراج وذهاب الأموال، فأذن له مرّة واحدة، وبعث حرسيًّا يشهد ذلك؛ وحلف: لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنّه؛ فدعا به يوسف؛ فجلس على دكان بالحيرة وحضرالناس، وبسط عليه؛ فلم يكلمه واحدة حتى شتمه يوسف فقال: يابن الكاهن - يعني شقّ بن صعب الكاهن - فقال خالد: إنك لأحمق، تعيرني بشرفي! ولكنك يابن السبّاء، إنما كان أبوك سبّاء خمر - يعني يبيع الخمر - ثم ردّه إلى حبسه، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخلية سبيله في شوال إحدى وعشرين ومائة، فنزل خالد في قصر إسماعيل بن عبد الله بدوران، خلف جسر الكوفة، وخرج يزيد بن خالد وحده؛ فأخذ على بلاد طيء؛ حتى ورد دمشق، وخرج خالد ومعه إسماعيل والوليد؛ قد جهزهم عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ابن العاص، وبعث بالأثقال إلى قصر بني مقاتل، وكان يوسف قد بعث خيلا، فأخذت الزاد والأثقال والإبل وموالي خالد كانوا فيها، فضرب وباع ما أخذ لهم، ورد بعض الموالي إلى الرقّ، فقدم خالد قصر بني مقاتل؛ وقد أخذ كل شيء لهم، فسار إلى هيت، ثم تحمّلوا إلى القرية - وهي بإزاء باب الرُّصافة - فأقام بها بقيّة شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرّم وصفر؛ لا يأذن لهم هشام في القدوم عليه؛ والأبرش يكاتب خالدًا. وخرج زيد بن علي فقتل. قال الهيثم بن عدي - فيما ذكر عنه -: وكتب يوسف إلى هشام: إن أهل هذا البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعًا؛ حتى كانت همَّة أحدهم قوت عاليه؛ فلما ولى خالد العراق أعطاهم الأموال فقووا بها حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا عن رأي خالد؛ والدليل على ذلك نزول خالد بالقرية على مدرجة العراق يستنشي أخبارها. فسكت هشام حتى فرغ من قراءة الكتاب، ثم قال للحكم بن حزن القيني - وكان على الوفد، وقد أمره يوسف بتصديق ما كتب به ففعل - فقال له هشام: كذبت وكذب من أرسلك؛ ومهما اتّهمنا خالدًا فلسنا نتّهمه في طاعة؛ وأمر به فوجئت عنقه. وبلغ الخبر خالدًا فسار حتى نزل دمشق فأقام حتى حضرت الصائفة، فخرج فيها ومعه يزيد وهشام ابنا خالد بن عبد الله؛ وعلى دمشق يومئذ كلثوم بن عياض القسري، وكان متحملا على خالد؛ فلما أدربوا ظهر في دور دمشق حريق؛ كل ليلة يلقيه رجل من أهل العراق يقال له أبو العمرّس وأصحاب له؛ فإذا وقع الحريق أغاروا يسرقون. وكان إسماعيل بن عبد الله والمنذر بن أسد بن عبد الله وسعيد ومحمد ابنا خالد بالساحل لحدث كان من الروم؛ فكتب كلثوم إلى هشام يذكر الحريق، ويخبره أنه لم يكن قطّ؛ وأنه عمل مولى خالد؛ يريدون الوثوب على بيت المال. فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد؛ الصغير منهم والكبير ومواليهم والنساء؛ فأخذ إسماعيل والمنذر ومحمد وسعيد من الساحل فقدم بهم في الجوامع ومن كان معهم من مواليهم؛ وحبس أمّ جرير بنت خالد والرّائقة وجميع النساء والصبيان؛ ثم ظهر على أبي العمّرس؛ فأخذو من كان معه. فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل خراج دمشق إلى هشام يخبره بأخذ ابن العمّرس ومن كان معه؛ سماهم رجلا رجلا، ونسبهم إلى قبائلهم وأمصارهم، ولم يذكر فيهم أحد من موالي خالد، فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويعنفه، ويأمره بتخلية سبيل جميع من حبس منهم، فأرسلهم جميعًا واحتبس الموالي رجاء أن يكلمه فيهم خالد إذا قدم من الصائفة. فلما أقبل الناس وخرجوا عن الدرب بلغ خالدًا حبس أهله، ولم يبلغه تخليتهم؛ فدخل يزيد بن خالد في غمار الناس حتى أتى حمص، وأقبل خالد حتى نزل منزله من دمشق، فلما أصبح أتاه الناس، فبعث إلى ابنتيه: زينب وعاتكة؛ فقال: إني قد كبرت وأحببت أن تليا خدمتي؛ فسرّتا بذلك - ودخل عليه إسماعيل أخوه ويزيد وسعيد ابناه، وأمر بالإذن، فقامت ابنتاه لتتنحّيا، فقال: وما لهما تتنحيّان، وهشام في كلّ يوم يسوقهنّ إلى الحبس! فدخل الناس، فقام إسماعيل وابناه دون ابنتيه يسترونهما، فقال خالد: خرجت غازيًا في سبيل الله؛ سامعًا مطيعًا، فخلفت في عقبي، وأخذ حرمى وحرم أهل بيتي؛ فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بأهل الشرك! فما منع عصابةً منكم أن تقوم فتقول: علام حبس حرم هذا السامع المطيع! أخفتم أن تقتلوا جميعًا! أخافكم الله! ثم قال: مالي ولهشام! ليكفنّ عني هشام أو لأدعونّ إلى عراقي الهوى شأمي الدار حجازي الأصل - يعني محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس - وقد أذنت لكم أن تبلّغوا هشامًا. فلما بلغه ما قال، قال: خرف أبو الهيثم. وذكر أبو زيد أن أحمد بن معاوية حدثه عن أبي الخطاب، قال: قال خالد: لئن ساء صحاب الرُّصافة - يعني هشامًا - لننصبنّ لنا الشأمّى الحجازي العراقي، ولو نخر نخرةً تداعت من أقطارها. فبلغت هشامًا، فكتب إليه: إنك هذّاءة هذرة، أببجيلة القليلة الذليلة تتهددّني! قال: فوالله ما نصره أحد بيد ولا بلسان إلا رجل من عبس فإنه قال: ألا إنّ بحر الجود أصبح ساجيًا ** أسير ثقيف موثقًا في السلاسل فأن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ** ولا تسجنوا معروفه في القبائل فأقام خالد ويزيد وجماعة أهل بيته بدمشق، ويوسف ملح على هشام يسأله أن يوجّه إليه يزيد. وكتب هشام إلى كلثوم بن عياض يأمره بأخذ يزيد والبعثة به إلى يوسف، فوجه كلثوم إلى يزيد خيلًا وهو في منزله، فشدّ عليهم يزيد، فأفرجوا له، ثم مضى على فرسه، وجاءت الخيل إلى كلثوم فأخبروه، فأرسل إلى خالد الغد من يوم تنحّى يزيد خيلا، فدعا خالد بثيابه فلبسها. وتصارخ النساء، فقال رجل منهم: لو أمرت هؤلاء النسوة فسكتن! فقال: ولم؟ أما والله لولا الطاعة لعلم عبد بني قسر أنه لا ينال هذه منى، فأعلموه مقالتي؛ فإن كان عربيًا كما يزعم، فليطلب جده مني، ثم مضى معهم فحبس في حبس دمشق. وسار إسماعيل من يومه حتى قدم الرُّصافة على هشام، فدخل على أبي الزبير حاجبه فأخبره بحبس خالد، فدخل أبو الزبير على هاشم فأعلمه، فكتب إلى كاثوم يعنّفه، ويقول: خليت عمن أمرتك بحبسه، وحبست من لم آمرك بحبسه. ويأمره بتخلية سبيل خالد، فخلاه. وكان هشام إذا أراد أمرًا أمر الأبرش فكتب به إلى خالد، فكتب الأبرش: إنه بلغ أمير المؤمنين أن عبد الرحمن بن ثويب الضني - ضنة سعد إخوة عذرة ابن سعد - قام إليك، فقال: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وأنت رحيم، والله حليم وأنت حليم.. حتى عد عشرًا؛ وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تحقق عنده ذلك ليستحلنّ دمك؛ فاكتب إلي بالأمر على وجهه لأخبر به أمير المؤمنين. فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلًا من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرِّف ما كان فيه إلى غيره؛ قام إلى عبد الرحمن ابن ثويب، فقال: يا خال أني لأحبّك لعشر خصال: إن الله كريم يحب كل كريم، والله يحبك وأنا أحبك لحبّ الله إياك؛ حتى عدّد عشر خصال؛ ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين، وقوله: يا أمير المؤمنين، خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك؟ فقال أمير المؤمنين: بل خليفتي في أهلي، فقال ابن شقي: فأنت خليفة الله ومحمد رسوله؛ ولعمري لضلالة رجل من بجيلة إن ضلّ أهون على العامة والخاصّة من ضلال أمير المؤمنين. فأقرأ الأبرش هشامًا كتابه، فقال خرف أبو الهيثم. فأقام خالد بدمشق خلافة هشام حتى هلك، فلما هلك هشام، وقام الوليد، قدم عليه أشراف الأجناد؛ فيهم خالد؛ فلم يأذن لأحد منهم. واشتكى خالد، فاستاذن له، فرجع إلى دمشق، فأقام أشهرًا، ثم كتب إليه الوليد: إنّ أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين الألف ألف؛ التي تعلم، فاقدم على أمير المؤمنين مع رسوله؛ فقدم أمره ألّا يجعلك عن جهاز. فبعث خالد إلى عدّة من ثقاته؛ منهم عمارة بن أبي كلثم الأزدي، فأقرأهم الكتاب، وقال: أشيروا علي؛ فقالوا: إنّ الوليد ليس بمأمون عليك؛ فالرأي أن تدخل دمشق، فتأخذ بيوت الأموال وتدعو إلى من أحببت؛ فأكثر الناس قومك؛ ولن يختلف عليك رجلان، قال: أو ماذا؟ قالوا: تأخذ بيوت الأموال، وتقيم حتى تتوثّق لنفسك، ققال: أو ماذا؟ قالوا: أو تتوارى. قال: أما قولكم: تدعو إلى من أحببت؛ فإني أكره أن تكون الفرقة والاختلاف على يدي، وأما قولكم: تتوثّق لنفسك، فأنتم لا تأمنون علي الوليد؛ ولا ذنب لي، فكيف ترجون وفاءه لي وقد أخذت بيوت الأموال! وأما التوارى؛ فوالله ما قنّعت رأسي خوفًا من أحد قطّ؛ فالآن وقد بلغت من السنّ ما بلغت! لا، ولكن أمضى وأستعين الله. فخرج حتى قدم على الوليد فلم يدع به، ولم يكلّمه وهو في بيته؛ معه مواليه وخدمه، حتى قدم برأس يحيى بن زيد من خراسان، فجمع الناس في رواق، وجلس الوليد، وجاء الحاجب فوقف، فقال له خالد: إن حالي ما ترى؛ لا أقدر على المشي؛ وإنما أحمل في كرسي، فقال الحاجب: لا يدخل عليه أحد يحمل، ثم أذن لثلاثة نفر، ثم قال: قم يا خالد، فقال: حالى ماذكرت لك، ثم أذن لرجل أو رجلين؛ فقال: قم يا خالد، إن حالى ما ذكرت لك؛ حتى أذن لعشرة، ثم قال: قم يا خالد، وأذن للناس كلهم، وأمر بخالد فحمل على كرسيّه؛ فدخل به والوليد جالس على سريره. والموائد موضوعة، والناس بين يديه سماطان، وشبّة بن عقّال - أو عقال بن شبّة - يخطب، ورأس يحيى بن زيد منصوب، فميل بخالد إلى أحد السماطين، فلما فرغ الخطيب قام الوليد وصرف الناس، وحمل خالد إلى أهله؛ فلما نزع ثيابه جاءه رسول الوليد فردّه، فلما صار إلى باب السرادق وقف فخرج إليه رسول الوليد، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: أين يزيد بن خالد؟ فقال: كان أصابه من هشام ظفر، ثم طلبه فهرب منه، وكنا نراه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله؛ فلما لم يظهر ظننّاه ببلاد قومه من السراة، وما أوشكه. فرجع إليه الرسول، فقال: لا ولكنك خلفته طلبًا للفتنة. فقال خالد للرسول: قد علم أمير المؤمنين أنّا أهل بيت طاعة، أنا وأبي وجدي - قال خالد: وقد كنت أعلم بسرعة رجعة الرسول؛ أنّ الوليد قريب حيث يسمع كلامي - فرجع الرسول، فقال: يقول لك أمير المؤمنين؛ لتأتينّ به أو لأزهقنّ نفسك. فرفع خالد صوته، وقال: قل له: هذا أردت، وعليه درت؛ والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما لك عنه؛ فاصنع ما بدا لك! فأمر الوليد غيلان صاحب حرسه بالبسط عليه، وقال له: أسمعني صوته، فذهب به غيلان إلى رحله، فعذّبه بالسلاسل، فلم يتكلم، فرجع غيلان إلى الوليد، فقال: والله ما أعذّب إنسانًا؛ والله ما يتكلم ولا يتأوّه، فقال: اكفف عنه واحبسه عندك. فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر بمال من العراق، ثم أداروا الأمر بينهم، وجلس الوليد للناس ويوسف عنده؛ فتكلّم أبان بن عبد الرحمن النميري في خالد، فقال يوسف: أنا أشتريه بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إنّ يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف؛ فإن كنت تضمنها وإلّا دفعتك إليه، فقال خالد: ما عهدت العرب تباع؛ والله لو سألني أن أضمن هذا - ورفع عودًا من الأرض - ما ضمنته، فرَ رأيك. فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه ودرّعه عباءة ولحفه بأخرى، وحمله في محمل بغير وطاء، وزميله أبو قحافة المري ابن أخي الوليد بن تليد - وكان عامل هشام على الموصل، فانطلق به حتى نزل المحدثة، على مرحلة من عسكر الوليد. ثم دعا به فذكر أمّه، فقال: وما ذكر الأمهات لعنك الله! والله لا أكلمك كلمة أبدًا. فبسط عليه، وعذّبه عذابًا شديدًا وهو لا يكلّمه كلمة. ثم ارتحل به حتى إذا كان ببعض الطريق بعث إليه زيد بن تميم القيني بشربة سويق حبّ رمّان مع مولى له يقال له سالم النفّاط، فبلغ يوسف فضرب زيدًا خمسمائة سوط، وضرب سالمًا ألف صوط. ثم قدم يوسف الحيرة فدعا به وبإبراهيم ومحمد ابني هشام فبسط على خالد، فلم يكلمه، وصبر إبراهيم ابن هشام وخرع محمد بن هشام. فمكث خالد يومًا في العذاب، ثم وضع على صدره المضرّسة فقتله من الليل، ودفن بناحية الحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرّم سنة ست وعشرين ومائة في قول الهيثم بن عدي، فأقبل عامر بن سهلة الأشعري فعقر فرسه على قبره، فضربه يوسف سبعمائة سوط. قال أبو زيد: حدثني أبو نعيم قال: حدثني رجل، قال: شهدت خالدًا حين أتيَ به يوسف، فدعا بعود فوضع على قدميه، ثم قامت عليه الرجال حتى كسرت قدماه؛ فوالله ما تكلّم ولا عبس، ثم على ساقيه حتى كسرتا، ثم على فخذيه ثم على حقويه ثم على صدره حتى مات، فوالله ما تكلم ولا عبس، فقال خلف بن خليفة لما قتل الوليد بن يزيد: لقد سكنت كلب وأسباق مذحج ** صدى كان يزقو ليله غير راقد تركن أمير المؤمنين بخالد ** مكبًا على خيشومه غير ساجد فإن تقطعوا منّا مناط قلادة ** قطعنا به منكم مناط قلائد وإن تشغلونا عن ندانا فإننا ** شغلنا الوليد عن غناء الولائد وإن سافر القسري سفرة هالك ** فإن أبا العباس ليس بشاهد وقال حسان بن جعدة الجعفري يكذّب خلف بن خليفة في قوله هذا: إن امرأً يدعي قتل الوليد سوى ** أعمامه لملىء النفس بالكذب ما كان إلا امرأ حانت منيته ** سارت إليه بنو مروان بالعرب وقال أبو محجن مولى خالد: سائل وليدًا وسائل أهل عسكره ** غداة صبّحه شؤبوبنا البرد هل جاء من مضر نفس فتمنعه ** والخيل تحت عجاج الموت تطرد من يهجنا جاهلًا بالشعر ننقضه ** بالبيض إنا بها نهجو ونفتئد وقال نصر بن سعيد الأنصاري: أبلغ يزيد بني كرز مغلفغلة ** أني شفيت بغيب غير موتور قطعت أوصال قنور على حنق ** بصارم من سيوف الهند مأثور أمست حلائل قنور مجدعة ** لمصرع العبد قنور بن قنور ظلّت كلاب دمشق وهي تنهشه ** كأن أعضاءه أعضاء خنزير غادرن منه بقايا عند مصرعه ** أنقاض شلو على الأطناب مجرور حكّمت سيفك إذ لم ترض حكمهم ** والسيف يحكم حكمًا غير تعذير لا ترض من خالد إن كنت متئرًا ** إلا بكل عظيم الملك مشهور أسعرت ملك نزال ثم رعتهم ** بالخيل تركض بالشم المغاوير ما كان في آل قنور ولا ولدوا ** عدلًا لبدر سماء ساطع النور ذكر بيعة يزيد بن الوليد الناقص وفي هذه السنة بويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك؛ الذي يقال له يزيد الناقص؛ وإنما قيل: يزيد الناقص لنقصه الناس الزيادة التي زادهموها الوليد ابن يزيد في أعطياتهم؛ وذلك عشرة عشرة، فلما قتل الوليد نقصهم تلك الزيادة؛ وردّ أعطياتهم إلى ما كانت عليه أيام هشام بن عبد الملك. وقيل: أوّل من سماه بهذا الاسم مروان بن محمد، حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: شتم مروان بن محمد يزيد بن الوليد فقال: الناقص بن الوليد؛ فسمّاه الناس الناقص لذلك. ذكر اضطراب أمر بني مروان وفي هذه السنة اضطرب حبل بني مروان وهاجت الفتنة. ذكر الخبر عما حدث فيها من الفتن فكان في ذلك وثوب سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد ما قتل الوليد بن يزيد بعمّان. فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد قال: لما قتل الوليد خرج سليمان بن هشام من السجن، وكان محبوسًا بعمّان، فأخذ ما كان بعمّان من الأموال، وأقبل إلى دمشق، وجعل يلعن الوليد ويعيبه بالكفر. ذكر خلاف أهل حمص وفيها كان وثوب أهل حمص بأسباب العباس بن الوليد وهدمهم داره وإظهارهم الطلب بدم الوليد بن يزيد. ذكر الخبر عن ذلك حدثني أحمد عن علي، قال: كان مروان بن عبد الله بن عبد الملك عاملًا للوليد على حمص، وكان من سادة بني مروان نبلًا وكرمًا وعقلًا وجمالًا، فلما قتل الوليد بلغ أهل حمص قتله، فأغلقوا أبوابها، وأقاموا النوائح والبواكي على الوليد، وسألوا عن قتله، فقال بعض من حضرهم: مازلنا منتصفين من القوم قاهرين لهم؛ حتى جاء العباس بن الوليد، فمال إلى عبد العزيز بن الحجاج. فوثب أهل حمص فهدموا دار العباس وانتهبوها وسلبوا حرمه، وأخذوا بنيه فحبسوهم وطلبوه. فخرج إلى يزيد بن الوليد، وكاتبوا الأجناد، ودعوهم إلى الطلب بدم الوليد؛ فأجابوهم. وكتب أهل حمص بينهم كتابًا؛ ألّا يدخلوا في طاعة يزيد؛ وإن كان وليًا عهد الوليد حيّين قاموا بالبيعة لهما وإلا جعلوها لخير من يعلمون؛ على أن يعطيهم العطاء من المحرّم إلى المحرّم، ويعطيهم للذرّية. وأمّروا عليهم معاوية بن يزيد بن حصين، فكتب إلى مروان بن عبد الله بن عبد الملك وهو بحمص في دار الإمارة، فلما قرأه قال: هذا كتاب حضره من الله حاضر. وتابعهم على ما أرادوا. فلما بلغ يزيد بن الوليد خبرهم، وجّه إليهم رسلًا فيهم يعقوب بن هانىء، وكتب إليهم: إنه ليس يدعو إلى نفسه، ولكنه يدعوهم إلى الشورى. فقال عمرو بن قيس السكوني: رضينا بولي عهدنا - يعني ابن الوليد بن يزيد - فأخذ يعقوب بن عمير بلحيته، فقال: أيها العشمة، إنك قد فيّلت وذهب عقلك؛ إن الذي تعني لو كان يتيمًا في حجرك لم يحلّ لك أن تدفع إليه ماله، فكيف أمر الأمّة! فوثب أهل حمص على رسل يزيد بن الوليد فطردوهم. وكان أمر حمص لمعاوية بن يزيد بن حصين، وليس إلى مروان بن عبد الله من أمرهم شيء، وكان معهم السمط بن ثابت، وكان الذي بينه وبين معاوية بن يزيد متباعدًا. وكان معهم أبو محمد السفياني فقال لهم: لوقد أتيت دمشق، ونظر إلي أهلها لم يخالفوني. فوجّه يزيد بن الوليد مسرور ابن الوليد والوليد بن روح في جمع كبير، فنزلوا حوّارين، أكثرهم بنو عامر من كلب. ثم قدم على يزيد سليمان بن هشام فأكرمه يزيد، وتزوّج أخته أم هشام بنت هشام بن عبد الملك، وردّ عليه ما كان الوليد أخذه من أموالهم، ووجّهه إلى مسرور بن الوليد والوليد بن روح، وأمرهما بالسمع والطاعة له. وأقبل أهل حمص فنزلوا قرية لخالد بن يزيد بن معاوية. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني عمرو بن محمد ويحيى بن عبد الرحمن البهراني، قالا: قام مروان بن عبد الله، فقال: يا هؤلاء؛ إنكم خرجتم لجهاد عدوّكم والطلب بدم خليفتكم، وخرجتم مخرجًا أرجو أن يعظم الله به أجركم، ويحسن عليه ثوابكم، وقد نجم لكم منهم قرن، وشال إليكم منهم عنق، إن أنتم قطعتموه اتبعه ما بعده، وكنتم عليه أحرى، وكانوا عليكم أهون، ولست أرى المضي إلى دمشق وتخليف هذا الجيش خلفكم. فقال السمط: هذا والله العدوّ القريب الدار؛ يريد أن ينقض جماعتكم؛ وهو ممايل للقدرية. قال: فوثب الناس على مروان بن عبد الله فقتلوه وقتلوا ابنه، ورفعوا رأسيهما للناس؛ وإنّما أراد السمط بهذا الكلام خلاف معاوية بن يزيد، فلما قتل مروان بن عبد الله ولّوا عليهم أبا محمد السفياني، وأرسلوا إلى سليمان بن هشام: إنا آتوك فأقم بمكانك؛ فأقام. قال: فتركوا عسكر سليمان ذات اليسار، ومضوا إلى دمشق، وبلغ سليمان مضيّهم، فخرج مغدًا، فلقيهم بالسليمانية - مزرعة كانت لسليمان بن عبد الملك خلف عذراء من دمشق على أربعة عشر ميلًا. قال علي: فحدثني عمرو بن مروان بن بشّار والوليد بن علي، قالا: لما بلغ يزيد أمر أهل حمص دعا عبد العزيز بن الحجاج، فوجّهه في ثلاثة آلاف، وأمره أن يثبت على ثنيّة العقاب، ودعا هشام بن مصاد، فوجّهه في ألف وخمسمائة، وأمره أن يثبت على عقبة السلامة، وأمرهم أن يمدّ بعضهم بعضًا. قال عمرو بن مروان: فحدثني يزيد بن مصاد، قال: كنت في عسكر سليمان، فلحقنا أهل حمص، وقد نزلوا السلمانيّة، فجعلوا الزيتون على أيمانهم، والجبل على شمائلهم، والجباب خلفهم؛ وليس عليهم مأتىً إلا من وجه واحد، وقد نزلوا أوّل الليل، فأراحوا دوابّهم، وخرجنا نسري ليتنا كلّها، حتى دفعنا إليهم؛ فلما متع النهار واشتدّ الحرّ، ودوابنا قد كلّت وثقل علينا الحديد، دنوت من مسرور بن الوليد، فقلت له - وسليمان يسمع كلامي: أنشدك الله يا أبا سعيد أن يقدم الأمير جنده إلى القتال في هذه الحال! فأقبل سليمان فقال: يا غلام، اصبر نفسك، فوالله لا أنزل حتى يقضيَ الله بيني وبينهم ما هو قاض. فتقدّم وعلى ميمنته الطفيل بن حارثة الكلبي، وعلى ميسرته الطفيل بن زرارة الحبشيّن فحملوا علينا حملةً، فانهزمت الميمنة والميسرة أكثر من غلوتين، وسليمان في القلب لم يزل من مكانه؛ ثم حمل عليهم أصحاب سليمان حتى ردّوهم إلى موضعهم؛ فلم يزالوا يحملون علينا ونحمل عليهم مرارًا، فقتل منهم زهاء مائتي رجل، فيهم حرب بن عبد الله بن يزيد بن معاوية، وأصيب من أصحاب سليمان نحو من خمسين رجلًا، وخرج أبو الهلباء البهراني - وكان فارس أهل حمص - فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه حيّة بن سلامة الكلبي فطعنه طعنة أذراه عن فرسه، وشدّ عليه أبو جعدة مولىً لقريش من أهل دمشق فقتله، وخرج ثبيت ابن يزيد البهراني، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه إيراك السغدي؛ من أبناء ملوك السغد كان منقطعًا إلى سليمان بن هشام - وكان ثبيت قصيرًا، وكان إيراك جسيمًا - فلما رآه ثبيت قد أقبل نحوه استطرد، فوقف إيراك ورماه بسهم فأثبت عضلة ساقه إلى لبده. قال: فبينا هم كذلك إذ أقبل عبد العزيز من ثنية العقاب، فشد عليهم، حتى دخل عسكرهم فقتل ونفذ إلينا. قال أحمد: قال علي: قال عمرو بن مروان: فحدثني سليمان بن زياد الغساني قال: كنت مع عبد العزيز بن الحجاج؛ فلما عاين عسكر أهل حمص، قال لأصحابه: موعدكم التلّ الذي في وسط عسكرهم؛ والله لا يتخلّف منكم أحد إلّا ضربت عنقه. ثم قال لصاحب لوائه: تقدّم، ثم حمل وحملنا معه؛ فما عرض لنا أحد إلا قتل حتى صرنا على التلّ، فتصدّع عسكرهم، فكانت هزيمتهم، ونادى يزيد بن خالد بن عبد الملك القسري: الله الله في قومك! فكفّ الناس، وكره ما صنع سليمان وعبد العزيز؛ وكاد يقع الشرّ بين الذكوانيّة وسليمان وبين بني عامر من كلب، فكفوا عنهم؛ على أن يبايعوا ليزيد ابن الوليد. وبعث سليمان بن هشام إلى أبي محمد السفياني ويزيد خالد بن يزيد بن معاوية فأخذا، فمرّ بهما على الطفيل بن حارثة، فصاحا به: يا خالاه! ننشك الله والرحم! فمضى معهما إلى سليمان فحبسهما، فخاف بنو عامر أن يقتلهما، فجاءت جماعة منهم؛ فكانت معهما في الفسطاط، ثم وجّههما إلى يزيد بن الوليد معهم. ثم دخل سليمان وعبد العزيز إلى دمشق؛ ونزلا بعذراء. واجتمع أمر أهل دمشق، وبايعوا يزيد بن الوليد، وخرجوا إلى دمشق وحمص وأعطاهم يزيد العطاء، وأجاز الأشراف منهم معاوية بن يزيد بن الحصين والسمط بن ثابت وعمرو بن قيس وابن حُوَي والصقرين صفوان؛ واستعمل معاوية بن يزيد بن حصين من أهل حمص، وأقام الباقون بدمشق، ثم ساروا إلى أهل الأردن وفلسطين وقد قتل من أهل حمص يومئذ ثلثمائة رجل. ذكر خلاف أهل الأردن وفلسطين وفي هذه السنة وثب أهل فلسطين والأردنّ على عاملهم فقتلوه. ذكر الخبر عن أمرهم وأمر يزيد بن الوليد معهم حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني رجاء بن روح بن سلامة بن روح بن زنباع، قال: كان سعيد بن عبد الملك عاملًا للوليد على فلسطين، وكان حسن السيرة، وكان يزيد بن سليمان سيّد ولد أبيه، وكان ولد سليمان بن عبد الملك ينزلون فلسطين، فكان أهل فلسطين يحبّونهم لجوارهم؛ فلما أتى قتل الوليد - ورأس أهل فلسطين يومئذ سعيد بن روح بن زنباع - كتب إلى يزيد بن سليمان: إن الخليفة قد قثتل فاقدم علينا نولّك أمرنا. فجمع له سعيد قومه، وكتب إلى سعيد بن عبد الملك - وهو يومئذ نازل بالسبع: ارتحل عنّا، فإن الأمر قد اضطرب؛ وقد ولينا أرمنا رجلًا قد رضينا أمره. فخرج إلى يزيد بن الوليد، فدعا يزيد ابن سليمان أهل فلسطين إلى قتال يزيد بن الوليد، وبلغ أهل الأردنّ أمرهم، فولّوا عليهم محمد بن عبد الملك - وأمر أهل فلسطين إلى سعيد بن روح وضبعان بن روح - وبلغ يزيد أمرهم، فوجّه إليهم سليمان بن هشام في أهل دمشق وأهل حمص الذين كانوا مع السفياني. قال علي: قال عمرو بن مروان: حدثني محمد بن راشد الخزاعي أنّ أهل دمشق كانوا أربعة وثمانين ألفًا، وسار إليهم سليمان بن هشام. قال محمد بن راشد: وكان سليمان بن هشام يرسلني إلى ضبعان وسعيد ابني روح وإلى الحكم وراشد ابني جرو من بلقين، فأعدهم وأمنّيهم على الدخول في طاعة يزيد بن الوليد، فأجابوا. قال: وحدثني عثمان بن داود الخولاني، قال: وجهني يزيد بن الوليد ومعي حذيفة بن سعيد إلى محمد بن عبد الملك ويزيد بن سليمان، يدعوهما إلى طاعته، ويعدهما ويمنّيهما، فبدأنا بأهل الأردن ومحمد بن عبد الملك، فاجتمع إليه جماعة منهم؛ فكلّمته فقال بعضهم: أصلح الله الأمير! اقتل هذا القدري الخبيث، فكفهم عني الحكم بن جرو القيني. فأقيمت الصلاة فخلوت به، فقلت: إني رسول يزيد إليك، والله ما تركت ورائي راية تعقد إلّا على رأس رجل من قومك، ولا درهم يخرج من بيت المال إلّا في يد رجل منهم؛ وهو يحمل لك كذا وكذا. قال: أنت بذاك؟ قلت: نعم: ثم خرجت فأتيت ضبعان بن روح، فقلت له مثل ذلك، وقلت له: إنه يوليك فلسطين ما بقيَ، فأجابني فانصرفت، فما أصبحت حتى رحل بأهل فلسطين. حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: سمعت محمد بن سعيد بن حسان الأردني، قال: كنت عينًا ليزيد بن الوليد بالأردنّ، فلما اجتمع له ما يريد ولّاني خراج الأردنّ، فلما خالفوا يزيد بن الوليد أتيت سليمان بن هشام، فسألته أن يوجّه معي خيلًا، فأشنّ الغارة على طبريّة، فأبى سليمان أن يوجّه معي أحدًا، فخرجت إلى يزيد بن الوليد، فأخبرته الخبر، فكتب إلى سليمان كتابًا بخطه، يأمره أن يوجه معي ما أردت؛ فأتيت به سليمان، فوجه معي مسلم بن ذكوان في خمسة آلاف، فخرجت بهم ليلًا حتى أنزلتهم البطيحة، فتفرّقوا في القرى، وسرت أنا في طائفة منهم نحو طبريّة، وكتبوا إلى عسكرهم، فقال أهل طبريّة: علام نقيم والجنود تجوس منازلنا وتحكم في أهالينا! ومضوا إلى حجرة يزيد بن سليمان ومحمد بن عبد الملك، فانتهبوهما وأخذوا دوابّهما وسلاحهما، ولحقوا بقراهم ومنازلهم؛ فلما تفرّق أهل فلسطين والأردنّ، خرج سليمان حتى أتى الصنبرة، وأتاه أهل الأردنّ، فبايعوا ليزيد بن الوليد؛ فلما كان يوم الجمعة وجّه سليمان إلى طبرية، وركب مركبًا في البحيرة، فجعل يسايرهم حتى أتى طبريّة، فصلى بهم الجمعة، وبايع من حضر ثم انصرف إلى عسكره. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، قال: حدثني عثمان بن داود، قال: لما نزل سليمان الصنبرة، أرسلني إلى يزيد بن الوليد، وقال لي: أعلمه أنك قد علمت جفاء أهل فلسطين والأسود بن بلال المحاربي الأردنّ. فأتيت يزيد، فقلت له ما أمرني به سليمان، فقال: أخبرني كيف قلت لضبعان بن روح؟ فأخبرته، قال: فما صنع؟ قلت: ارتحل بأهل فلسطين، وارتحل ابن جرو بأهل الأردنّ قبل أن يصبحا. قال: فليسا بأحقّ بالوفاء منا، ارجع فمرْه ألّا ينصرف حتى ينزل الرملة، فيبايع أهلها، وقد استعملت إبراهيم بن الوليد على الأردنّ وضبعان بن روح على فلسطين ومسرور بن الوليد على قنسرين وابن الحصين على حمص. ثم خطب يزيد بن الوليد بعد قتل الوليد، فقال بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه محمد ﷺ. أيها الناس؛ إني والله ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا حرصًا على الدنيا، ولا رغبة في الملك، وما بي إطراء نفسي؛ إني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي؛ ولكني خرجت غضبًا لله ورسوله ودينه، داعيًا إلى الله وكتابه وسنة نبيه ﷺ؛ لمّا هدمت معالم الهدى، وأطفىء نور أهل التقوى، وظهر الجبّار العنيد، المستحلّ لكل حرمة، والرّاكب لكلّ بدعة؛ مع أنه والله ما كان يصدّق بالكتاب، ولا يؤمن بيوم الحساب؛ وإنه لابنُ عمّي في الحسب، وكفيّي في النسب؛ فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره، وسألته ألّا يكلني إلى نفسي، ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي، وسعيت فيه حتى أراح الله منه العباد والبلاد بحول الله وقوّته، لا بحولي وقوتي. أيّها الناس، إنّ لكم علي ألا أضع حجرًا على حجر، ولا لبنة على لبنة؛ ولا أكري نهرًا، ولا أكثر مالًا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدًا، ولا أنقل مالًا من بلدة إلى بلدة حتى أسدّ ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله بما يعينهم؛ فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه؛ ممن هو أحوج إليه؛ ولا أجمّركم في ثغوركم فأفتنكم وأفتن أهليكم؛ ولا أغلق بابي دونكم؛ فيأكل قويّكم ضعيفكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم ما يجليهم عن بلادهم ويقطع نسلهم؛ وإنّ لكم أعطياتكم عندي في كلّ سنة وأرزاقكم في كلّ شهر؛ حتى تستدرّ المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن وفيتُ لكم بما قلت؛ فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أف فلكم أن تخلعوني؛ إلا أن تستتيبوني؛ فإن تبت قبلتم مني، فإن علمتم أحدًا ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه؛ فأنا أوّل من يبايعه، ويدخل في طاعته. أيّها الناس، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا وفاء له بنقض عهد؛ إنما الطاعة طاعة الله؛ فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع، فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية؛ فهو أهل أن يعصى ويقتل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم دعا الناس إلى تجديد البيعة له، فكان أول من بايعه الأفقم يزيد بن هشام. وبايعه قيس بن هانىء العبسي، فقال: يا أمير المؤمنين، اتّق الله، ودم على ما أنت عليه، فما قام مقامك أحد من أهل بيتك؛ وإن قالوا: عمر بن عبد العزيز فأنت أخذتها بحبل صالح، وإن عمر أخذها بحبل سوء. فبلغ مروان بن محمد قوله، فقال: ما له قاتله الله ذمّنا جميعًا وذمّ عمر! فلما وليَ موران بعث رجلًا، فقال: إذا دخلتَ مسجد دمشق فانظر قيس ابن هانىء، فإنه طالما صلّى فيه، فاقتله؛ فانطلق الرجل، فدخل مسجد دمشق، فرأى قيسًا يصلي فقتله. وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر عن العراق وولاها منصور بن جمهور. ذكر الخبر عن عزل يوسف بن عمر وولاية منصور بن جمهور ولما استوثق ليزيد بن الوليد على الطاعة أهل الشأم، ندب - فيما قيل - لولاية العراق عبد العزيز بن هارون بن عبد الله بن دحية بن خليفة الكلبي، فقال له عبد العزيز: لو كان معي جند لقبلت، فتركه وولّاها منصور بن جمهور. وأما أبو مخنف، فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه: قتل الوليد ابن يزيد بن عبد الملك بوم الأربعاء، لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة، وبايع الناس يزيد بن الوليد بن عبد الملك بدمشق، وسار منصور بن جمهور من البخراء في اليوم الذي قتل فيه الوليد بن يزيد إلى العراق، وهو سابع سبعة، فبلغ خبره يوسف بن عمر فهرب. وقدم منصور بن جمهور الحيرة في أيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، فأخرج العطاء لأهل العطاء والأرزاق، واستعمل حريث بن أبي الجهم على واسط، وكان عليها محمد بن نباتة، فطرقه ليلًا فحبسه وأوثقه، واستعمل جرير بن يزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن يزيد بن جرير على البصرة، وأقام منصور وولّى العمال، وبايع ليزيد بن الوليد بالعراق؛ وفي كورها، وأقام بقيّة رجب وشعبان ورمضان، وانصرف لأيام بقين منه. وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كان منصور بن جمهور أعرابيًا جافيًا غيلانيًا، ولم يكن من أهل الدين؛ وإنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية، وحميّة لقتل خالد، فشهد لذلك قتل الوليد، فقال يزيد له لما ولاه العراق: قد وليتك العراق فسر إليه، واتّق الله، واعلم أني إنما قتلت الوليد لفسقه ولما أظهر من الجور؛ فلا ينبغي لك أن تركب مثل ما قتلناه عليه. فدخل على يزيد بن الوليد يزيد بن حجرة الغساني - وكان دَيّنًا فاضلًا ذا قدر في أهل الشأم، قد قاتل الوليد ديانةً - فقال: يا أمير المؤمنين، أولّيت منصورًا العراق؟ قال: نعم، لبلائه وحسن معونته، قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ليس هناك في أعرابيّته وجفائه في الدين. قال: فإذا لم أولّ منصورًا في حسن معاونته فمن أولّي! قال: تولّى رجلًا من أهل الدين والصلاح والوقوف عند الشبهات، والعلم بالأحكام والحدود؛ ومالي لا أرى أحدًا من قيس يغشاك، ولا يقف ببابك! قال: لولا أنه ليس من شأني سفك الدماء لعاجلتُ قيسًا؛ فوالله ما عزّت إلا ذلّ الإسلام. ولما بلغ يوسف بن عمر قتل الوليد، جعل يعمد إلى من بحضرته من اليمانيّة فيلقيهم في السجون، ثم جعل يخلو بالرجل بعد الرجل من المضريّة، فيقول له: ما عندك إن اضطرب حبل أو انفتق فتق؟ فيقول: أنا رجل من أهل الشأم، أبايع من بايعوا، وأفعل ما فعلوا. فلم ير عندهم ما يحبّ، فأطلق من في السجون من اليمانية، وأرسل إلى الحجاج بن عبد الله البصري ومنصور ابن نصير - وكانا على خبر ما بينه وبين أهل الشأم - فأمرهما بالكتاب إليه بالخبر، وجعل على طريق الشأم أرصادًا، وأقام بالحيرة وجلًا. وأقبل منصور حتى إذا كان بالجمع؛ كتب إلى سليمان بن سليم بن كيسان كتابًا: أما بعد، فإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له؛ وإنّ الوليد بن يزيد بدّل نعمة الله كفرًا، فسفك الدماء، فسفك الله دمه، وعجّله إلى النار! وولي خلافته من هو خير منه، وأحسن هديًا؛ يزيد بن الوليد، وقد بايعه الناس، وولّى على العراق الحارث بن العباس بن الوليد، ووجّهني العباس لآخذ يوسف وعماله، وقد نزل الأبيض، ورائي على مرحلتين؛ فخذ يوسف وعماله، لا يفوتنّك منهم أحد، فاحبسهم قبلك. وإياك أن تخالف، فيحلّ بك وبأهل بيتك ما لا قبل لك به؛ فاختر لنفسك أو دع. وقيل إنه لما كان بعين التمر كتب إلى من بالحيرة من قوّاد أهل الشأم يخبرهم بقتل الوليد، ويأمرهم بأخذ يوسف وعماله. وبعث بالكتب كلها إلى سليمان بن سليم بن كيسان، وأمره أن يفرّقها على القوّاد، فأمسكها سليمان، ودخل على يوسف، فأقرأه كتاب منصور إليه، فبعل به. قال حريث بن أبي الجهم: كان مكثي بواسط؛ فما شعرت إلا بكتاب منصور بن جمهور قد جاءني أن خذ عمال يوسف، فكنت أتولّى أمره بواسط، فجمعت موالي وأصحابي، فركبنا نحوًا من ثلاثين رجلًا في السلاح؛ فأتينا المدينة، فقال البوابون: من أنت؟ قلت: حريث بن أبي الجهم، فقالوا: نقسم بالله ما جاء بحريث إلا أمر مهم؛ ففتحوا الباب فدخلنا، فأخذنا العامل فاستسلم، وأصبحنا فأخذنا البيعة من الناس ليزيد بن الوليد. قال: وذكرعمر بن شجرة أنّ عمرو بن محمد بن القاسم كان على السند، فأخذ محمد بن غزّان - أو عزّان - الكلبي، فضربه وبعث به إلى يوسف، فضربه وألزمه مالًا عظيمًا يؤدّي منه في كل جمعة نجمًا، وإن لم يفعل ضرب خمسة وعشرين سوطًا، فجفّت يده وبعض أصابعه، فلما ولي منصور ابن جمهور العراق ولّاه السند وسجستان، فأتى سجستان فبايع ليزيد، ثم سار إلى السند، فأخذ عمرو بن محمد، فأوثقه وأمر به حرسًا يحرسونه، وقام إلى الصلاة، فتناول عمرو سيفًا مع الحرس، فاتّكأ عليه مسلولًا حتى خالط جوفه، وتصايح الناس؛ فخرج ابن غزّان فقال: ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال: خفت العذاب، قال: ما كنت أبلغ منك ما بلغته من نفسك. فلبث ثلاثًا ثم مات، وبايع ابن غزّان ليزيد؛ فقال يوسف بن عمر لسليمان بن سليم بن كيسان الكلبي حين أقرأه كتاب منصور بن جمهور: ما الرأي؟ قال: ليس لك إمام تقاتل معه، ولا يقاتل أهل الشأم الحارث بن العباس معك، ولا آمن عليك منصور بن جمهور إن قدم عليك، وما الرأي إلا أن تلحق بشأمك؛ قال: هو رأيي، فكيف الحيلة؟ قال: تظهر الطاعة ليزيد، وتدعو له في خطبتك؛ فإذا قرب منصور وجّهتُ معك من أثق به. فلما نزل منصور بحيث يصبّح الناس البلد، خرج يوسف إلى منزل سليمان بن سليم، فأقام به ثلاثًا، ثم وجّه معه من أخذ به طريق السماوة حتى صار إلى البلقاء. وقد قيل إنّ سليمان قال له: تستخفي وتدع منصورًا والعمل، قال: فعند من؟ قال: عندي، وأضعك في ثقة؛ ثم مضى سليمان إلى عمرو بن محمد ابن سعيد بن العاص، فأخبره بالأمر، وسأله أن يؤوي يوسف، وقال: أنت امرؤٌ من قريش، وأخوالك بكر بن وائل؛ فآواه. قال عمرو: فلم أر رجلًا كان مثل عتوه رعب رعبه؛ أتيته بجارية نفيسة، وقلت: تدفئه وتطيب نفسه، فوالله ما قربها ولا نظر إليها، ثم أرسل إلي يومًا فأتيته، فقال: قد أحسنت وأجملت؛ وقد بقيت لي حاجة، قلت: هاتها، قال: تخرجني من الكوفة إلى الشأم، قلت: نعم. وصبّحنا منصور بن جمهور، فذكر الوليد فعابه، وذكر يزيد بن الوليد. فقرظه، وذكر يوسف وجوره، وقامت الخطباء فشعّثوا من الوليد ويوسف، فأتيته فأقصصت قصّتهم، فجعلت لا أذكر رجلًا ممّن ذكره بسوء إلا قال: لله علي أن أضربه مائة سوط، مائتي سوط؛ ثلثمائة سوط؛ فجعلت أتعجّب من طمعه في الولاية بعد؛ وتهدده الناس، فتركه سليمان بن سليم، ثم أرسله إلى الشأم فاختفى بها، ثم تحوّل إلى البلقاء. ذكر علي بن محمد أن يوسف بن عمر وجّه رجلًا من بني كلاب في خمسمائة، وقال لهم: إن مرّ بكم يزيد بن الوليد فلا تدعنّه يجوز. فأتاهم منصور بن جمهور في ثلاثين، فلم يهايجوه، فانتزع سلاحهم منهم، وأدخلهم الكوفة. قال: ولم يخرج مع يوسف من الكوفة إلّا سفيان بن سلامة بن سليم بن كيسان وغسّان بن قعاس العذري، ومعه من ولده لصلبه ستون بين ذكر وأنثى. ودخل منصور الكوفة لأيام خلون من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في سجون يوسف من العمال وأهل الخراج. قال: فلما بلغ يوسف البلقاء حينئذ بلغ خبره إلى يزيد بن الوليد؛ فحدثني أحمد بن زهير؛ قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم خالد بن يزيد بن هريم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح مولى عثمان بن عفان، قال: سمعت محمد بن سعيد الكلبي - وكان من قوّاد يزيد بن الوليد - يقول: إنّ يزيد وجّهه في طلب يوسف بن عمر حيث بلغه أنه في أهله بالبلقاء، قال: فخرجت في خمسين فارسًا أو أكثر، حتى أحطت بداره بالبلقاء، فلم نزل نفتّش، فلم نر شيئًا، وكان يوسف قد لبس لبسة النساء، وجلس مع نسائه وبناته، ففتشهنّ فظفر به مع النساء، فجاء به في وثاق، فحبسه في السجن مع الغلامين ابني الوليد، فكان في الحبس ولاية يزيد كلها وشهرين وعشرة أيام من ولاية إبراهيم؛ فلما قدم مروان الشأم وقرب من دمشق وليَ قتلهم يزيد ابن خالد، فأرسل يزيد مولى خالد - يكنى أبا الأسد - في عدّة من أصحابه؛ فدخل السجن لشدخ الغلامين بالعمد، وأخرج يوسف بن عمر فضرب عنقه. وقيل: إن يزيد بن الوليد لما بلغه مصير يوسف إلى البلقاء وجّه إليه خمسين فارسًا، فعرض له رجل من بني نمير، فقال: يا بن عمّ، أنت والله مقتول فأطعني وامتنع، وائذن لي حتى أنتزعك من أيادي هؤلاىء، قال: لا، قال: فدعني أقتلك أنا، ولا يقتلك هذه اليمانية؛ فتغيّظنا بقتلك، قال: مالي في واحدة مما عرضت علي خيار، قال: فأنت أعلم. ومضوا به إلى يزيد، فقال: ما أقدمك؟ قال: قدم منصور بن جمهور واليًا فتركته والعمل، قال: لا، ولكنك كرهت أن تليَ لي. فأمر بحبسه. وقيل: إن يزيد دعا مسلم بن ذكوان ومحمد بن سعيد بن مطرّف الكلبي، فقال لهما؛ إنه بلغني أنّ الفاسق يوسف بن عمر قد صار إلى البلقاء، فانطلِقا فأتياني به، فطلباه فلم يجداه: فرهبا ابنًا له، فقال: أنا أدلّكما عليه، فقال: غنه انطلق إلى مزرعة له على ثلاثين ميلًا، فأخذا معهما خمسين رجلًا من جند البلقاء، فوجدوا أثره - وكان جالسًا - فلما أحسّ بهم هرب وترك نعله، ففتشا فوجداه بين نسوة قد ألقين عليه قطيفة خزّ، وجلسن على حواشيها حاسرات، فجرّوا برجله، فجعل يطلب إلى محمد بن سعيد أن يرضي عنه كلبًا، ويدفع عشرة آلاف دينار ودية كلثوم بن عمير وهانىء بن بشر، فأقبلا إلى يزيد، فلقيه عامل لسليمان على نوبة من نوائب الحرس، فأخذ بلحيته فهزّها، ونتف بعضها - وكان من أعظم الناس لحية وأصغرهم قامة - فأدخلاه على يزيد، فقبض على لحية نفسه - وإنها حينئذ لتجوز سرّته - وجعل يقول: نتف والله يا أمير المؤمنين لحيتي، فما بقي فيها شعرة. فأمر به يزيد فحبس في الخضراء، فدخل عليه محمد بن راشد، فقال له: أما تخاف أن يطلع عليك بعض من قد وترت، فيلقى عليك حجرًا! فقال: لا والله ما فطنت إلى هذا، فنشدتك الله إلّا كلمت أمير المؤمنين في تحويلي إلى مجلس غير هذا؛ وإن كان أضيق منه! قال: فأخبرت يزيد، فقال: ما غاب عنك من حمقه أكثر، وما حبسته إلا لأوجّهه إلى العراق، فيقام للناس، وتؤخذ المظالم من ماله ودمه. ولما قتل يزيد بن الوليد الوليد بن يزيد، ووجّه منصور بن جمهور إلى العراق كتب يزيد بن الوليد إلى أهل العراق كتابًا يذكر فيه مساوىء الوليد، فكان مما كتب به - فيما حدثني أحمد بن زهير عن علي بن محمد: إنّ الله اختار الإسلام دينًا وارتضاه وطهّره، وافترض فيه حقوقًا أمر بها، ونهى عن أمور حرمها؛ ابتلاء لعباده في طاعتهم ومعصيتهم، فأ: مل فيه كلّ منقبة خير وجسيم فضل؛ ثم تولّاه، فكان له حافظًا ولأهله المقيمين حدوده وليًا، يحوطهم ويعرفّهم بفضل الإسلام، فلم يكرم الله بالخلافة أحدًا يأخذ بأمر الله وينتهي إليه فيناوئه أحد بميثاق أو يحاول صرف ما حباه الله به، أو ينكث ناكث، إلّا كان كيده الأوهن، ومكره الأبور؛ حتى يتمّ الله ما أعطاه، ويدّخر له أجره ومثوبته، ويجعل عدوّه الأضلّ سبيلا، الأخسر عملًا. فتناسخت خلفاء الله ولاة دينه، قاضين فيه بحكمه، متبعين فيه لكتابه؛ فكانت لهم بذلك من ولايته ونصرته ما تمّت به النعم عليهم، قد رضي الله بهم لها حتى توفي هشام. ثم أفضى الأمر إلى عدوّ الله الوليد، المنتهك للمحارم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يقدم عليها كافر؛ تكرمًا عن غشيان مثلها. فلما استفاض ذلك منه واستعلن، واشتدّ فيه البلاء، وسفكت فيه الدماء، وأخذت الأموال بغير هحقها؛ مع أمور فاحشة، لم يكن الله ليمليَ للعاملين بها إلا قليلا، سرت إليه مع انتظار مراجعته، وإعذار إلى الله وإلى المسلمين، منكرًا لعمله وما اجترأ عليه من معاصي الله، متوخّيًا من الله إتمام الذي نويت؛ من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بما هو رضًا، حتى أتيت جندًا، وقد وغرت صدورهم على عدوّ الله، لما رأوا من عمله؛ فإنّ عدوّ الله لم يكن يرى من شرائع الإسلام شيئًا إلا أراد تبديله، والعمل فيه بغير ما أنزل الله؛ وكان ذلك منه شائعًا شاملًا، عريان لم يجعل الله فيه تسرًا، ولا لأحد فيه شكًا، فذكرت لهم الذي نقمت وخفت من فساد الدين والدنيا، وحضضتهم على تلافي دينهم، والمحاماة عنه؛ وهم في ذلك مستريبون، قد خافوا أن يكونوا قد أبقوا لأنفسهم بما قاموا عليه، إلى أن دعوتهم إلى تغييره فأسرعوا الإجابة. فابتعث الله منهم بعثًا يخبرهم، من أولى الدين والرضا، وبعثت عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، حتى لقي عدوّ الله إلى جانب قرية يقال لها البخراء، فدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، ينظر المسلمون لأنفسهم ممن يقلدونه ممّن اتفقوا عليه، فلم يجب عدوّ الله إلى ذلك؛ وأبى إلا تتايعًا في ضلالته؛ فبدرهم الحملة جهالة بالله، فوجد الله عزيزًا حكيمًا، وأخذه أليمًا شديدًا، فقتله الله على سوء عمله وعصبته؛ ممن صاحبوه من بطانته الخبيثة، لا يبلغون عشرة؛ ودخل من كان معه سواهم في الحقّ الذي دعوا إليه، فأطفأ الله جمرته وأراح العباد منه، فبعدًا له ولمن كان على طريقته! أحببت أن أعلمكم ذلك، وأعجّل به إليكم، لتحمدوا الله وتشكروه، فإنكم قد أصبحتم اليوم على أمثل حالكم؛ إذ ولاتكم خياركم، والعدل مبسوط لكم، لا يسار فيكم بخلافه؛ فأكثروا على ذلك حمد ربكم، وتابعوا منصور بن جمهور؛ فقد ارتضيته لكم؛ على أنّ عليكم عهد الله وميثاقه، وأعظم ما عهد وعقد على أحد من خلقه؛ لتسمعن وتطيعن لي، ولمن استخلفته من بعدي، ممن اتفقت عليه الأمة؛ ولكم علي مثل ذلك؛ لأعملنّ فيكم بأمر الله وسنة نبيه ﷺ، واتبع سبيل من سلف من خياركم؛ نسأل الله ربنا ووليّنا أحسن توفيقه وخير قضائه. ذكر امتناع نصر بن سيار على منصور بن جمهور وفي هذه السنة امتنع نصر بن سيار بخراسان من تسليم عمله لعامل منصور ابن جمهور، وقد كان يزيد بن الوليد ولّاها منصورًا مع العراق. قال أبو جعر: قد ذكرت قبل من خبر نصر؛ وما كان من كتاب يوسف ابن عمر إليه بالمصير إليه مع هدايا الوليد بن يزيد، وشخوص نصر من خراسان متوجهًا إلى العراق، وتباطئه في سفره، حتى قدم عليه الخبر بقتل الوليد؛ فذكر علي بن محمد أنذ الباهلي أخبره، قال: قدم على نصر بشر بن نافع مولى سالم الليثي - وكان على سكك العراق - فقال: أقبل منصور بن جمهور أميرًا على العراق؛ وهرب يوسف بن عمر؛ فوجّه منصور أخاه منظور بن جمهور على الري، فأقبلتُ مع منظور إلى الري، وقلت: أقدم على نصر فأخبره، فلما صرت بنيسابور حبسني حميد مولى نصر، وقال: لن تجاوزني أو تخبرني؛ فأخبرته، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ألّا يخبر أحدًا حتى أقدم على نصر فأخبره. ففعل؛ فأقبلنا جميعًا حتى قدمنا على نصر، وهو بقصره بماجان، فاستأذنّا، فقال خصي له: هو نائم، فألححنا عليه، فانطلق فأعلمه، فخرج نصر حتى قبض على يدي وأدخلني؛ فلم يكلمني حتى صرت في البيت، فساءلني فأخبرته، فقال لحميد مولاه: انطلق به؛ فأته بجائزة؛ ثم أتاني يونس بن عبد ربّه وعبيد الله بن بسام فأخبرتهما، وأتاني سلم بن أحوز فأخبرته. قال: وكان خبر يوسف عند نصر، فأتوه حين بلغهم الخبر، فأرسل إلي فلما أخبرتهم كذبوني، فقلت: استوثق من هؤلاء؛ فلما مضت ثلاث على ذلك؛ جعل علي ثمانين رجلًا حرسًا، فأبطأ الخبر على ما كنت قدّرت، فلما كانت الليلة التاسعة - وكانت ليلة نوروز - جاءهم الخبر على ما وصفت، فصرف إلي عامة تلك الهدايا، وأمر لي ببرذون بسرجه ولجامه، وأعطاني سرجًا صينيًا، وقال لي: أقم حتى أعطيك تمام مائة ألف. قال: فلما تيقّن نصر قتل الوليد ردّ تلك الهدايا، وأعتق الرقيق، وقسم روفقة الجواري في ولده وخاصّته، وقسم تلك الآنية في عوّام الناس، ووجّه العمال، وأمرهم بحسن السيرة. قال: وأرجفت الأزد في خراسان أن منظور بن جمهور قادم خراسان؛ فخطب نصر، فقال في خطبته: إن جاءنا أمير ظنين قطعنا يديه ورجليه. ثم باح به بعد؛ فكان يقول: عبد الله المخذول المثبور. قال: وولّى نصر بن سيار ربيعة واليمن، وولّى يعقوب بن يحيى بن حضين على أعلى طخارستان، ومسعدة بن عبد الله اليشكري على خوارزم؛ وهو الذي يقول فيه خلف: أقول لأصحابي معًا دون كردر ** لمسعدة البكري غيث الأرامل ثم أتبعه بأبان بن الحكم الزهراني؛ واستعمل المغيرة بن شعبة الجهضمي على قهستان وأمرهم بحسن السيرة، فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه، فقال في ذلك: أقول لنصر وبايعته ** على جل بكر وأحلافها يدي لك رهن ببكر العرا ** ق سيدها وابن وصافها أخذت الوثيقة للمسلمين ** لأهل البلاد وألافها إذا آل يحيى إلى ما تريد ** أتتك الدماك بأخفافها دعوت الجنود إلى بيعة ** فأنصفتها كل إنصافها وطدت خراسان للمسلمين ** إن الأرض همت بإرجافها وإن جمعت ألفة المسلمين ** صرفت الضراب لألافها أجار وسلم أهل البلا ** د والنازلين بأطرافها فصرت على الجند بالمشرقين ** لقوحًا لهم در أخلافها فنحن على ذاك حتى تبين ** مناهج سبل لعرافها وحتى تبوح قريش بما ** تجنّ ضمائر أجوافها فأقسمت للمعبرات الرتا ** ع للعرو أوفى لأصوافها إلى ما تؤدّي قريش البطا ** ح أخلافها بعد أشرافها فإن كان من عز بز الضعيف ** ضربنا الخيول بأعرافها وجدنا العلائف أنّى يكو ** ن يحمى أواري أعلافها إذا ما تشارك فيه كبت ** خواصرها بعد إخطافها فنحن على عهدنا نستديم ** قريشًا ونرضى بأحلافها سنرضى بظلك كنا لها ** وظلك من ظل أكنافها لعل قريشًا إذا ناضلت ** تقرطس في بعض أهدافها وتلبس أغشية بالعراق ** رمت دلو شرق بخطافها وبالأسد منا وإن الأسود لها لبد فوق أكتافها فإن حاذرت تلفًا في النفا ** ر فالدهر أدنى لإتلافها فقد ثبتت بك أقدامنا ** إذا انهار منهار أجرافها وجدناك برًا رءوفًا بنا كرأمة أم وإلطافها ولم تك بيعتنا خلسة ** لأسرع نسفة خطافها نكاح التي أسرعت بالحلي ** ل قبل تخضب أطرافها فكشفها البعل قبل الصدا ** ق فاستقبلته بمعتافها قال: وكان نصر ولّى عبد الملك بن عبد الله السلمي خوارزم؛ فكان يخطبهم ويقول في خطبته: ما أنا بالأعرابي الجلف، ولا الفزاري المستنبط؛ ولقد كرّمتني الأمور وكرّمتها، أما والله لأضعنّ السيف موضعه، والسوط موضعه، والسجن مدخله، ولتجدُنّي غشمشمًا، أغشى الشجر، ولتستقيمن لي على الطريقة ورفض البكّارة في السنن الأعظم، أو لأصكّنكم صكّ القطامي القطا القارب يصكهنّ جانبًا فجانبًا. قال: فقدم رجل من بلقين خراسان، وجّهه منصور بن جمهور، فأخذه مولىً لنصر، يقال له حميد، كان على سكّة بنيسابور؛ فضربه وكسر أنفه، فشكاه إلى نصر، فأمر له نصر بعشرين ألفًا وكساه، وقال: إنّ الذي كسر أنفك مولىً لي وليس بكفء فأقصّك منه، فلا تقلْ إلّا خيرًا. قال: ما قبلت جائزتك، وأنا أريد ألا أذكر إلا خيرًا. قال عصمة بن عبد الله الأسدي: يا أخا بلقين، أخبر من تأتي أنا قد أعددنا قيسًا لربيعة وتميمًا للأزد، وبقيت كنانة، ليس لها من يكافئها. فقال نصر: كلما أصلحت أمرًا أفسدتموه! قال أبو زيد عمر بن شبّة: حدثني أحمد بن معاوية عن أبي الخطاب، قال: قدم قدامة بن مصعب العبدي ورجل من كندة على نصر بن سيّار من قبل منصور بن جمهور، فقال: أمات أمير المؤمنين؟ قالا: نعم، قال: ووليَ منصور بن جمهور وهرب يوسف بن عمر عن سرير العراق؟ قالا: نعم، قال: أنا بجمهوركم من الكافرين، ثم حبسهما ووسّع عليهما، ووجّه رجلًا حتى أتى فرأى منصورًا يخطب بالكوفة، فأخرجهما، وقال لقدامة: أوليكم رجل من كلب؟ قال: نعم؛ إنما نحن بين قيس واليمن، قال: فكيف لا يولاها رجل منكم! قال: لأنا كما قال الشاعر: إذا ما خشينا من أمير ظلامة ** دعونا أبا غسان يومًا فعسكرا فضحك نصر، وضمّه إليه. قال: ولما قدم منصور بن جمهور العراق ولي عبيد الله بن العباس الكوفة - أو وجده واليًا عليها فأقرّه - وولّى شرطته ثمامة بن حوشب ثم عزله وولّى الحجاج بن أرطاة النخعي. ذكر مخالفة مروان بن محمد وفي هذه السنة كتب مروان بن محمد إلى الغمر بن يزيد، أخي الوليد بن يزيد يأمره بدم أخيه الوليد. ذكر نسخة ذلك الكتاب الذي كتب إليه حدثني أحمد عن علي، قال: كتب مروان إلى الغمر بن يزيد بعد قتل الوليد: أما بعد، فإن هذه الخلافة من الله على مناهج نبوّة رسله، وإقامة شرائع دينه، أكرمهم الله بما قلّدهم، يعزّهم ويعزّ من يعزّهم، والحين عليى من ناوأهم فابتغى غير سبيلهم، فلم يزالوا أهل رعاية لما استودعهم الله منها، يقوم بحقها ناهض بعد ناهض، بأنصار لها من المسلمين. وكان أهل الشأم أحسن خلقه فيه طاعة، وأذّه عن حرمه وأوفاه بعهده، وأشدّه نكاية في مارق مخالف ناكث ناكب عن الحق، فاستدرّت نعمة الله عليهم. قد عمر بهم الإسلام، وكبت بهم الشرك وأهله، وقد نكثوا أمر الله، وحاولوا نكث العهود، وقام بذلك من أشعل ضرامها، وإن كانت القلوب عنه نافرة، والمطلوبون بدم الخليفة ولاية من بني أمية؛ فإن دمه غير ضائع؛ وإن سكنت بهم الفتنة، والتأمت الأمور؛ فأمر أراده الله لا مردّ له. فاكتب بحالك فيما أبرموا وما ترى؛ فإني مطرق إلى أن أرى غيرًا فأسطو بانتقام، وأنتقم لدين الله المنبوذة فرائضه، المتروكة مجانة، ومعي قوم أسكن الله طاعتي قلوبهم؛ أهل إقدام إلى ما قدمت بهم عليه، ولهم نظراء صدورهم مترعة ممتلئة لو يجدون منزعًا، والنقمة دولة تأتي من الله؛ ووقت مؤجل؛ ولم أشبه محمدًا ولا مروان - غير أن رأيت غيرًا - إن لم أشمّر للقدريّة إزاري، وأضربهم بسيفي جارحًا وطاعنًا، يرمي قضاء الله بي في ذلك حيث أخذ، أو يرمي بهم في عقوبة الله حيث بلغ منهم فيها رضاه؛ وما إطراقي إلّا لما أنتظر مما يأتيني عنك، فلا تهن عن ثأرك بأخيك، فإنّ الله جارك وكافيك، وكفى بالله طالبًا ونصيرًا. حدثني أحمد، عن علي، عن عمرو بن مروان الكلبي، عن مسلم بن ذكوان، قال: كلّمَ يزيد بن الوليد العباس بن الوليد في طفيل بن حارثة الكلبي، وقال: إنه حمل حمالة، فإن رأيت أن تكتب إلى مروان بن محمد في الوصاة به، وأن يأذن له أن يسأل عشيرته فيها - وكان مروان يمنع الناس أن يسألوا شيئًا من ذلك عند العطاء - فأجابه وحمله على البريد. وكان كتاب العباس ينفذ في الآفاق بكلّ ما يكتب به. وكتب يزيد إلى مروان أنه اشترى من أبي عبيدة بن الوليد ضيعة بثمانية عشر ألف دينار، وقد احتاج إلى أربعة آلاف دينار. قال مسلم بن ذكوان: فدعاني يزيد، وقال: انطلق مع طفيل بهذا الكتاب، وكلّمه في هذا الأمر. قال: فخرجنا ولم يعلم العباس بخروجي، فلما قدمنا خلاط، لقينا عمرو بن حارثة الكلبي، فسألنا عن حالنا فأخبرناه، فقال: كذبتما؛ إن لكما ولمروان لقصّةً، قلنا: وما ذاك؟ قال: أخلاني حين أردت الخروج، وقال لي: جماعة أهل المزّة يكونون ألفًا؟ قلت: وأكثر، قال: وكم بينها وبين دمشق؟ قلت: يسمعهم المنادي، قال: كم ترى عدّة بني عامر؟ يعني بني عامر من كلب، قلت: عشرون ألف رجل، فحرّك أصبعه، ولوى وجهه. قال مسلم: فلما سمعت ذلك طمعت في مروان، وكتبت إليه على لسان يزيد: أما بعد، فإنني وجهت إليك ابن ذكوان مولاي بما سيذكره لك، وينهيه إليك، فألق إليه ما أحببت، فإنه من خيار أهلي وثقات موالي؛ وهو شعب حصين، ووعاء أمين؛ إن شاشء الله. فقدمنا على مروان، فدفع طفيل كتاب العباس إلى الحاجب، وأخبره أنّ معه كتاب يزيد بن الوليد، فقرأه، فخرج الحاجب، وقال: أما معك كتاب غير هذا، ولا أوصاك شيء! قلت: لا، ولكني معي مسلم بن ذكوان، فدخل فأخبره، فخرج الحاجب، فقال: مر مولاه بالرواح. قال مسلم: فانصرفت، فلما حضرت المغرب أتيت المقصورة؛ فلما صلّى مروان انصرفت لأعيد الصلاة، ولم أكن أعتدّ بصلاته، فلما استويت قائمًا جاءني خصي، فلما نظر إلي انصرفت وأوجزت الصلاة، فلحقته، فأدخلني على مروان؛ وهو في بيت من بيوت النساء، فسلمت وجلست، فقال: من أنت؟ فقلت: مسلم بن ذكوان مولى يزيد، قال: مولى عتقاة أو مولى تباعة؟ قلت: مولى عتاقة، قال: ذاك أفضل؛ وفي كلّ ذلك فضل؛ فاذكر ما بدا لك. قلت: إن رأى الأمير أن يجعل لي الأمان على ما قلته، أوافقه في ذلك أو أخالفه؛ فأعطاني ما أردت، فحمدت الله وصلّيت على نبيّه، ووصفت ما أكرم الله به بني مروان من الخلافة ورضا العامة بهم، وكيف نقض الوليد العرى، وأفسد قلوب الناس، وذمته العامّة؛ وذكرت حاله كلها. فلما فرغت تكلم؛ فوالله ما حمد الله ولا تشهد، وقال: قد سمعت ما قلت، قد أحسنت وأصبت، ولنعم الرأي رأي يزيد؛ فأشهد الله أني قد بايعته، أبذل في هذا الأمر نفسي ومالي؛ لا أريد بذلك إلا ما عند الله؛ والله ما أصبحت أستزيد الوليد، لقد وصل وفرض وأشرك في ملكه؛ ولكني أشهد أنه لا يؤمن بيوم الحساب. وسألني عن أمر يزيد، فكبّرت الأمر وعظمته، فقال: اكتم أمرك؛ وقد قضيت حاجة صاحبك، وكفيته أمر حمالته، وأمرت له بألف درهم. فأقمت أيامًا، ثم دعاني ذات يوم نصف النهار، ثم قال: الحق بصاحبك، وقل له: سدّدك الله، امض على أمر الله؛ فإنك بعين الله وكتب جواب كتابي، وقال لي: إن قدرت أن تطوي أو تطير فطر، فإنه يخرج بالجزيرة إلى ستّ ليال أو سبع خارجة؛ وقد خفت أن يطول أمرهم فلا تقدر أن تجوز. قلت: وما علم الأمير بذلك؟ فضحك، وقال: ليس من أهل هوى إلّا وقد أعطيتهم الرضا حتى أخبروني بذات أنفسهم. فقلت في نفسي: أنا واحد من أولئك، ثم قلت: لئن فعلت ذلك أصلحك الله؛ إنه قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: أنّي أصبت هذا العلم؟ قال: وافقت الرجال على أهوائهم، ودخلت معهم في آرائهم؛ حتى بذلوا لي ما عندهم، وأفضوا لي بذات أنفسهم. فوّدعته وخرجت. فلما كنت بآمد لقيت البرد تتبع بعضها بعضًا بقتل الوليد؛ وإذا عبد الملك بن مروان بن محمد قد وثب على عامل الوليد بالجزيرة، فأخرجه منها، ووضع الأرصاد على الطريق، فتركت البرد، واستأجرت دابّة ودليلًا، فقدمت على يزيد بن الوليد. ذكر الخبر عن عزل منصور بن جمهور عن العراق وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد منصور بن جمهور عن العراق، وولّاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان. ذكر الخبر عن ذلك ذكر عن يزيد بن الوليد أنه قال لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز: إن أهل العراق يميلون إلى أبيك فسر إليها فقد ولّيتكها؛ فذكر عن أبي عبيدة، قال: كان عبد الله بن عمر متألّهًا متألمًا، فقدّم حين شخص إلى العراق بين يديه رسلًا وكتبًا إلى قوّاد الشأم الذين بالعراق، وخاف ألّا يسلّم له منصور بن جمهور العمل، فانقاد له كلهم، وسلّم له منصور بن جمهور، وانصرف إلى الشأم، ففرق عبد الله بن عمر عماله في الأعمال، وأعطى الناس أرزاقهم وأعطياتهم؛ فنازعه قوّاد أهل الشأم وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدوّنا! فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أردتُ أن أردّ فيئكم عليكم، وعلمت أنكم أحقّ به؛ فنازعني هؤلاء فأنكروا عليبّ. فخرج أهل الكوفة إلى الجبّانة، وتجمّعوا، فأرسل إليهم قوّاد أهل الشأم يعتذرون وينكرون، ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئًا مما بلغهم، وثار غوغاء الناس من الفريقين، فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بن عمر بالحيرة، وعبيد الله بن العباس الكندي بالكوفة؛ قد كان منصور بن جمهور استخلفه عليها فأراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل إلى عمر بن الغضبان بن القبعثري، فأتاه فنحّى الناس عنه، وسكّنهم وزجر سفهاءهم حتى تحاجزوا، وأمن بعضهم بعضًا وبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فأرسل إلى ابن الغضبان، فكساه وحمله، وأحسن جائزته، وولّاه شرطه وخراج السواد والمحاسبات، وأمره أن يفرض لقومه، ففرض في ستين وفي سبعين. ذكر وقوع الخلاف بين اليمانية والنزارية في خراسان وفي هذه السنة وقع الاختلاف في خراسان بين اليمانية والنزارّية، وأظهر الكرماني فيها الخلاف لنصر بن سيار، واجتمع مع كلّ واحد منهما جماعة لنصرته. ذكر الخبر عما كان بينهما من ذلك وعن السبب الذي أحدث ذلك ذكر علي بن محمد عن شيوخه؛ أن عبد الله بن عمر لمّا قدم العراق واليًا عليها من قبل يزيد بن الوليد، كتب إلى نصر بعهده على خراسان؛ قال: ويقال: بل أتاه كتابه بعد خروج الكرماني من حبس نصر، فقال المنجّمون لنصر: إنّ خراسان سيكون بها فتنة؛ فأمر نصر برفع حاصل بيت المال، وأعطى الناس بعض أعطياتهم ورقًا وذهبًا من الآنية التي كان اتخذها للوليد ابن يزيد؛ وكان أوّل من تكلم رجل من كندة، أفوه طوال، فقال: العطاء العطاء! فلما كانت الجمعة الثانية، أمر نضر رجالًا من الحرس، فلبسوا السلاح، وفرّقهم في المسجد مخافة أن يتكلم متكلم، فقام الكندي فقال: العطاء العطاء! فقام رجل مولى للأدزد - وكان يلقب أبا الشياطين - فتكلم، وقام حمّاد الصائغ وأبو السليل البكري، فقالا: العطاء العطاء! فقال نصر: إياي والمعصية؛ عليكم بالطاعة والجماعة؛ فاتقوا الله واسمعوا ما توعظون به. فصعد سلم بن أحوز إلى نصر وهو على المنبر فكلّمه، فقال: ما يغني عنّا كلامك هذا شيئًا. ووثب أهل السوق إلى أسواقهم؛ فغضب نصر وقال: ما لكم عندي عطاء بعد يومكم هذا، ثم قال: كأني بالرّجل منكم قد قام إلى أخيه وابن عمه، فلطم وجهه في جمل يهدى له وثوب يكساه، ويقول: مولاي وظئري؛ وكأني بهم قد نبغ من تحت أرجلهم شرّ لا يطاق، وكأني بكم مطرّحين في الأسواق كالجزر المنحورة؛ إنه لم تطل ولاية رجل إلا ملّوها؛ وأنتم يا أهل خراسان؛ مسلحة في نحور العدوّ، فإياكم أن يختلف فيكم سيفان. قال علي: قال عبد الله بن المبارك، قال نصر في خطبته: إني لمكفر ومع ذاك لمظلّم؛ وعسى أن يكون ذلك خيرًا لي. إنكم تغشون أمرًا تريدون فيه الفتنة، فلا أبقى الله عليكم؛ والله لقد نشرتكم وطويتكم، وطويتكم ونشرتكم، فما عندي منكم عشرة، وإني وإياكم كما قال من كان قبلكم: استمسكوا أصحابنا نحدو بكم ** فقد عرفنا خيركم وشركم فاتقوا الله؛ فوالله لئن اختلف فيكم ليتمنين الرجل منكم أنه يخلع من ماله وولده ولم يكن رآه. يا أهل خراسان، إنكم غمطتم الجماعة، وركنتم إلى الفرقة. أسلطان المجهول تريدون وتنتظرون! إن فيه لهلاككم معشر العرب، وتمثل لقول النابغة الذبياني: فإن يغلب شقاؤكم عليكم ** فإني في صلاحكم سعيت وقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن المغيرة بن الورد الجعدي: أبيت أرعى النجوم مرتفقًا ** إذا استقلت تجري أوائلها من فتنة أصبحت مجللة ** قد عمّ أهل الصلاة شاملها من بخراسان والعراق ومن ** بالشأم كل شجاه شاغلها فالناس منها في لون مظلمة ** دهماء ملتجة غياظلها يمسي السفيه الذي يعنف بال ** جهل سواء فيها وعاقلها والناس في كربة يكاد لها تنبذ أولادها حواملها يغدون منها في ظل مبهمة ** عمياء تغتالهم غوائلها لا ينظر الناس في عواقها ** إلا التي لا يبين قائلها كرغوة البكر أو كصيحة حب ** لى طرقت حولها قوابلها فجاء فينا أزرى بوجهته ** فيها خطوب حمر زلازلها قال: فلما أتى نصرًا عهده من قبل عبد الله بن عمر قال الكرماني لأصحابه: الناس في فتنة؛ فانظروا لأموركم رجلًا - وإنما سمّي الكرماني لأنه ولد بكرمان، واسمه جديع بن علي بن شبيب بن براري بن صنيم المعني - فقالوا: أنت لنا، فقالت المضريّة لنصر: الكرماني يفسد عليك؛ فأرسل إليه فاقتله، أو فاحبسه، قال: لا، ولكن لي أولاد ذكور وإناث، فأزوّج بني من بناته وبنيه من بناتي؛ قالوا: لا، قال: فأبعث إليه بمائة ألف درهم، فإنه بخيل ولا يعطي أصحابه شيئًا، ويعلمون بها فيتفرّقون عنه، قالوا: لا، هذه قوة له، قال: فدعوه على حاله يتقينا ونتّقيه، قالوا لا، قال: فأرسل إليه فحبسه. قال: وبلغ نصرًا أن الكرماني يقول: كانت غايتي في طاعة بني مروان أن يقلّد ولدي السيوف فأطلب بثأر بني المهلب، مع ما لقينا من نصر وجفائه وطول حرمانه ومكافأته إيانا بما كان من صنيع أسد إليه. فقال له عصمة ابن عبد الله الأسدي: إنها بدء فتنة، فتجنّ عليه فاحشة، وأظهر أنه مخالف واضرب عنقه وعنق سباع بن النعمان الأزدي والفرافصة بن ظهير البكري، فإنه لم يزل متغضّبًا على الله بتفضيله مضر على ربيعة. وكان بخراسان. وقال جميل بن النعمان: إنك قد شرّفته وإن كرهت قتله فادفعه إلي أقتله. وقيل: إنما غضب عليه في مكاتبته بكر بن فراس البهراني عامل جرجان، يعلمه حال منصور بن جمهور حين بعث عهد الكرماني مع أبي الزعفران مولى أسد بن عبد الله، فطلبه نصر فلم يقدر عليه. والذي كتب إلى الكرماني بقتل الوليد وقدوم منصور بن جمهور على العراق صالح الأثرم الحرار. وقيل: إن قومًا أتوا نصرًا، فقالوا: الكرماني يدعو إلى الفتنة. وقال أصرم ابن قبيصة لنصر: لو أن جديعًا لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية لتنصر وتهوّد. وكان نصر والكرماني متصافيينن، وقد كان الكرماني أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله، فلما وليَ نصر خراسان عزل الكرماني عن الرئاسة وصيرها لحرب بن عامر بن أيثم الواشجي، فمات حرب فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى عزله، وصيّرها لجميل بن النعمان. قال: فتباعد ما بين نصر والكرماني فحبس الكرماني في القهندز وكان على القهندز مقاتل بن علي المرئي - ويقال المري. قال: ولما أراد نصر حبس الكرماني أمر عبيد الله بن بسّام صاحب حرسه؛ فأتاه به، فقال له نصر: يا كرماني، ألم يأتني كتاب يوسف بن عمر يأمرني بقتلك، فراجعته وقلت له: شيخ خراسان وفارسها، وحقنت دمك! قال: بلى، قال ألم أغرم عنك ما كان لزمك من الغرم وقسمته في أعطيات الناس! قال بلى، ألم أرش عليًّا ابنك على كره من قومك! قال: بلى، قال: فبدّلت ذلك إجماعًا على الفتنة! قال الكرماني: لم يقل الأمير شيئًا إلا وقد كان أكثر منه، فأنا لذلك شاكر، فإن كان الأمير حقن دمي فقد كان مني أيام أسد بن عبد الله ما قد علم، فليستأن الأمير ويثبّت فلست أحب الفتنة. فقال عصمة بن عبد الله الأسدي: كذبت؛ وأنت تريد الشغب، ومالا تناله. وقال سلم بن أحوز: اضرب عنقه أيها الأمير، فقال المقدام وقدامة ابنا عبد الرحمن بن نعيم الغامدي: لجلساء فرعون خير منكم، إذ قالوا: أرجه وأخاه، والله لا يقتلنّ الكرماني بقولك يابن أحوز وعلت الأصوات، فأمر نصر سليمان بحبس الكرماني، فحبس لثلاث بقين من شهر رمضان سنة ست وعشرين ومائة، فكلمت الأزد، فقال نصر: إني حلفت أن أحبسه ولا يبدؤه مني سوء، فإن خشيتم عليه فاختاروا رجلًا يكون معه. قال: فاختاروا يزيد النحوي؛ فكان معه في القهندز، وصيّر حرسه بني ناجية أصحاب عثمان وهجم ابني مسعود. قال: وبعث الأزد إلى نصر المغيرة بن شعبة الجهضمي وخالد بن شعيب بن أبي صالح الحمداني، فكلماه فيه. قال: فلبث في الحبس تسعة وعشرين يومًا، فقال علي بن وائل أحد بني ربيعة بن حنظلة: دخلت على نصر والكرماني جالس ناحية، وهو يقول: ما ذنبي إن كان أبو الزعفران جاء! فوالله ما ورايته ولا أعلم مكانه. وقد كانت الأزد يوم حبس الكرماني أرادت أن تنزعه من رسله، فناشدهم الله الكرماني ألا يفعلوا، ومضى مع رسل سلم بن أحوز، وهو يضحك، فلما حبس تكلم عبد الملك بن حرملة اليحمدي والمغيرة بن شعبة وعبد الجبار بن شعيب بن عباد وجماعة من الأزد، فنزلوا نوش، وقالوا: لا نرضى أن يحبس الكرماني يغير جناية ولا حدث، فقال لهم شيوخ من اليحمد: لا تفعلوا وانظروا ما يكون من أميركم، فقالوا: لا نرضى؛ ليكفنّ عنا نصر أو لنبدأنّ بكم. وأتاهم عبد العزيز بن عباد بن جابر بن همام بن حنظلة اليحمدي في مائة، ومحمد بن المثنى وداود بن شعيب، فباتوا بنوش مع عبد الملك بن حرملة ومن كان معه، فلما أصبحوا أتوا حوزان، وأحرقوا منزل عزّة أم ولد نصر - وأقاموا ثلاثة أيام، وقالوا: لا نرضى؛ فعند ذلك صيّروا عليه الأمناء، فجعلوا معه يزيد النحوي وغيره، فجاء رجل من أهل نسف، فقال لجعفر غلام الكرماني: ما تجعلون لي إن أخرجته؟ قالوا لك ما سألت، فأتى مجرى الماء من القهندز فوسّعه، وأتى ولد الكرماني، وقال لهم: اكتبوا إلى أبيكم يستعد الليلة للخروج، فكتبوا إليه، وأدخلوا الكتاب في الطعام، فدعا الكرماني يزيد النحوي وحصين بن حكم فتعشيّا معه وخرجا، ودخل الكرماني السرب، فأخذوا بعضده، فانطوت على بطنه حية فلم تضره، فقال بعض الأزد: كانت الحية أزدية فلم تضره. قال فانتهى إلى موضع ضيق فسحبوه فسحج منكبه وجنبه، فلما خرج ركب بغلته دوّامه - ويقال: بل ركب فرسه البشير - والقيد في رجله، فأتوابه قرية تسمى غلطان، وفيها عبد الملك بن حرملة، فأطلق عنه. قال علي: وقال أبو الوليد زهير بن هنيد العدوي: كان مع الكرماني غلامه بسام، فرأى خرقًا على القهندز، فلم يزل يوسعه حتى أمكنه الخروج منه. قال: فأرسل الكرماني إلى محمد بن المثنى وعبد الملك بن حرملة: إني خارج الليلة، فاجتمعوا، فأتاهم فرقد مولاه، فأخبرهم، فلقوه في قرية حرب ابن عامر، وعليه ملحفة متقلدًا سيفًا، ومعه عبد الجبار بن شعيب وابنا الكرماني: علي وعثمان وجعفر غلامه، فأمر عمرو بن بكر أن يأتي غلطان وأندغ وأشترج معًا، وأمرهم أن يوافوه على باب الريّان بن سنان اليحمدي بنوش في المرج - وكان مصلّاهم في العيد - فأتاهم فأخبرهم، فخرج القوم من قراهم في السلاح، فصلّى بهم الغداة، وهم زهاء ألف، فما ترجلت الشمس حتى صاروا ثلاثة آلاف، وأتاهم أهل السقادم، فسار على مرج نيران حتى أتى حوزان، فقال خلف بن خليفة: أصحروا للمرج أجلي للعمى ** فلقد أصحر أصحاب السرب إن مرج الأزد مرج واسع ** تستوي الأقدام فيه والرّكب وقيل إن الأزد بايعت لعبد الملك بن حرملة على كتاب الله عز وجل ليلة خرج الكرماني، فلما اجتمعوا في مرج نوش أقيمت الصلاة، فاختلف عبد الملك والكرماني ساعة، ثم قدمه عبد الملك، وصيّرا الأمر له، فصلى الكرماني. ولما هرب الكرماني أصبح نصر معسكرًا بباب مرو الروذ بناحية إبردانة، فأقام يومًا أو يومين. وقيل: لما هرب الكرماني استخلف نصر عصمة بن عبد الله الأسدي وخرج إلى القناطر الخمس بباب مرو الروذ، وخطب الناس، فنال من الكرماني، فقال: ولد بكرمان وكان كرمانيًا، ثم سقط إلى هراة فكان هرويًا، والساقط بين الفراشين لا أصل ثابت؛ ولا فرع نابت، ثم ذكر الأزد، فقال: إن يستوثقوا فأذلّ قوم، وإن يأبوا فهم كما قال الأخطل: ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ** فدلّ عليها صوتها حية البحر ثم ندم على ما فرط منه، فقال: اذكروا الله، فإنّ ذكر الله شفاء، ذكر الله خير لا شر فيه، يذهب الذنب، وذكر الله براءة من النفاق. ثم اجتمع إلى نصر بشر كثير، فوجه سلم بن أحوز إلى الكرماني في بشر كثير. فسفر الناس بين نصر والكرماني، وسألوا نصرًا أن يؤمنه ولا يحبسه، ويضمن عنه قومه ألا يخالفه. فوضع يده في يد نصر فأمره بلزوم بيته، ثم بلغه عن نصر شيء، فخرج إلى قرية له، وخرج نصر فعسكر بالقناطر فأتاه القاسم بن نجيب، فكلمه فيه فآمنه، وقال له: إن شئت خرج لك عن خراسان، وإن شئت أقام في داره - وكان رأي نصر إخراجه - فقال له سلم: إن أخرجته نوهت باسمه وذكره، وقال الناس: أخرجه لأنه هابه، فقال نصر: إن الذي أتخوفّه منه إذا خرج أيسر مما أتخوفه منه وهو مقيم، والرجل إذا نفى عن بلده صغر أمره. فأبوا عليه، فكفّ عنه، وأعطى من كان معه عشرة عشرة. وأتى الكرماني نصرًا، فدخل سرادقه فآمنه. ولحق عبد العزيز بن عبد ربّه بالحارث بن سريج. وأتى نصرًا عزل منصور بن جمهور وولاية عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في شوّال سنة ست وعشرين ومائة؛ فخطب الناس، وذكرا ابن جمهور، وقال: قد علمت أنه لم يكن من عمال العراق، وقد عزله الله، واستعمل الطيب ابن الطيب؛ فغضب الكرماني لابن جمهور، فعاد في جميع الرجال واتخاذ السلاح. وكان يحضر الجمعه في ألف وخمسمائة وأكثر وأقل، فيصلي خارجًا من المقصروة ثم يدخل على نصر، فيسلم ولا يجلس. ثم ترك إتيان نصر وأظهر الخلاف، فأرسل إليه نصر مع سلم بن أحوز: إني والله ما أردت بك في حبسك سوءًا، ولكن خفت أن تفسد أمر الناس، فأتني. فقال الكرماني: لولا أنك في منزلي لقتلتك، ولولا ما أعرف من حمقك أحسنت أدبك، فارجع إلى ابن الأقطع فأبلغه ما شئت من خير وشر. فرجع إلى نصر فأخبره، فقال: عد إليه، فقال: لا والله، وما بي هيبة له ولكني أكره أن يسمعني فيك ما أكره. فبعث إليه عصمة بن عبد الله الأسدي، فقال: يا أبا علي، إني أخاف عليك عاقبة ما بدأت به في دينك ودنياك، ونحن نعرض عليك خصالًا؛ فانطلق إلى أميرك يعرضها عليك، وما نريد بذلك إلا الإنذار إليك. فقال الكرماني: إني أعلم أن نصرًا بدلم يقل هذا لك ولكنك أردت أن يبلغه فتحظى، والله لا أكلمك كلمة بعد انقضاء كلمي حتى ترجع إلى منزلك، فيرسل من أحب غيرك. فرجع عصمة، وقال: ما رأيت علجًا أعدى لطوره من الكرماني، وما أعجب منه؛ ولكن من يحيى بن حصين لعنهم الله! والله لهم أشد تعظيمًا له من أصحابه. قال سلم ابن أحوز: إني أخاف فساد هذا الثغر والناس، فأرسل إليه قديدًا. وقال نصر لقديد بن منيع: انطلق إلليه، فأتاه فقال له: يا أبا علي، لقد لحجت وأخاف أن يتفاقم الأمر فنهلك جميعًا، وتشمت بنا هذه الأعاجم، فقال: يا قديد؛ إني لا أتهمك؛ وقد جاء ما لا أثق بنصر معه، وقد قال رسول الله ﷺ: " البكري أخوك ولا تثق به "؛ قال: أما إذ وقع هذا في نفسك فأعطه رهنًا، قال: من؟ قال: أعطه عليًّا وعثمان، قال: قمن يعطني؟ ولا خير فيه، قال يا أبا علي، أنشدك الله أن يكون خراب هذه البلدة على يديك. ورجع إلى نصر، فقال لعقيل بن معقل الليثي: ما أخوفني أن يقع ييهذا الثغر بلاء، فكلم ابن عمك، فقال عقيل لنصر: أيها الأميرح أنشدك الله أن تشأم عشيرتك؛ إن مروان بالشأم تقاتله الخوارج، والناس في فتنة والأزد سفهاء وهم جيرانك. قال: فما أصنع؟ إن علمت أمرًا يصلح الناس فدونك، فقدم عزم أنه لا يثق بي. قال: فأتى عقيل الكرماني، فقال: أبا علي، قد سننت سنة تطلببعدك من الأمراء، إني أرى أمرًا أخاف أن تذهب فيه العقول، قال الكرماني: إن نصرًا يريد أن آتيه ولا آمنه، ونريد أن يعتزل ونعتززل، ونختار رجلًا من بكر بن وائل، نرضاه جميعًا فيلي أمرنا جميعًا حتى يأتي أمر من الخليفة؛ وهو يابى هذا. قال: يا أبا علي، إني أخاف أن يهلك أهل هذا الثغر، فأت أميرك وقل ما سئت تجب إليه، ولا تطمع سفهاء قومك فيما دخلوافيه، فقال الكرماني: إني لاأتهمك في نصيحة ولا عقل، ولكني لا أثقبنص؛ فليحمل من مال خراسان ما شاء ويشخص. قال: فهل لك في أمريجمع الأمر بينكما؟ تتزوج إليه ويتزوج إليك، قال: لا آمنه على حال، قال: ما بعد هذا خير، وإني خائف أن تهلك غدًا بمضيعة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له عقيل: أعود إليك؟ قال: لا؛ ولكن أبلغه عني وقل له: لا آمن أن يحملك قوم على غير ما تريد، فتتركب منا مالا بقيّة بعده؛ فإن شئت خرجت عنك لا من هيبة لك، ولكن أكره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان. كره أن أشأم أهل هذه البلدة، وأسفك الدماء فيها. وتهيأ ليخرج إلى جرجان. خبر الحارث بن سريج مع يزيد وفي هذه السنة آمن يزيد بن الوليد الحاررث بن سريج، وكتب له بذلك، فكتب إلى عبد الله بن عمر يأمره بردّ ما كان أخذ منه ماله وولده ذكر الخبر عن سبب ذلك ذكر أن الفتنة لما وقعت بخرسان بين نصر والكرماني، خاف نصر قدوم الحارث بن سريج عليه بأصحابه والترك، فيكون أمره أشد عليه من الكرمانيّوغيره، وطمع أن يناصحه، فأرسل إلليه مقاتل بن حيان النبطي وثعلبة بن صفوان البناني وأنس بن بجالة الأعرجي هدبة الشعراوي وربيعة القرشي ليردّوه عن بلاد الترك. فذكر علي بن محمد عن شيوخه أن خالد بن زياد البدّي من أهل الترمذ وخالد بن عمر مولى بني عامر، خارجا إلى يزيد بن الوليد يطلبان الأمان للحارث بن سريج، فقما الكوفة، فلقيا سعيد خدينة، فقال لخالد ابن زياد: أتدري لم سمّوني خدينة؟ قال: لا، قال: أرادوني على قتل أهل اليمن فأبيت، وسألا أبا حنيفة أن يكتب لهما إلى الأجلح - وكان من خاصة يزيد بن الوليد - فكتب لهما إليه، فأدخلمها عليه، فقال له خالد بن زياد: يا أمير المؤمنين، قتلت ابن عمك لإقامة كتاب الله، وعمالك يغشمون ويظلمون! قال: لا أجد أعوانًا غيرهم، وإني لأغضهم، قال: يا أمير المؤمنين، ولّ أهل البيوتات، وضمّ إلى كل عامل رجلًا من أهل الخير والفقه يأخذونهم بما في عهدك، قال: أفعل، وسألاه أمانًا للحارث بن سريج، فكتب له: أما بعد، فإنا غضبنا الله، إذ عطلت حدود، وبلغ بعباده كل مبلغ، وسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها، فأردنا أن نعمل في هذه الأمة بكتاب الله عز وجلّ وسنة نبيه ﷺ، ولا قوّة إلا بالله؛ فقد أوضحنا لك عن ذات أنفسنا؛ فأقبل آمنًا أنت ومن معك؛ فإنكم إخواننا وأعواننا. وقد كتبت إلى عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بردّ ما كان اصطفى من أموالكم وذراريكم. فقدما الكوفة فدخلا على ابن عمر، فقال خالد بن زياد: أصلح الله الأمير؟ ألا تأمر عمالك بسيرة أبيك؟ قال: أوليس سيرة عمر ظاهرة معروفة؟ قال: فما ينفع الناس منها ولا يعمل بها؟ ثم قدما مرو فدفعا كتاب يزيد إلى نصر، فردّ ما كان أخذ لهم مما قدر عليه. ثم نفذا إلى الحارث، فلقيا مقاتل بن حيّان وأصحابه الذين وجهّهم نصر إلى الحارث. وكان ابن عمر كتب إلى نصر: إنك آمنت الحارث بغير إذني ولا إذن الخليفة. فأسقط في يديه، فبعث يزيد بن الأحمر وأمره أن يفتك بالحارث إذا صار معه في السفينة. فلما لقيا مقاتلًا بآمل قطع إليه مقاتل بنفسه، فكفّ عنه يزيد. قال: فأقبل الحارث يريد مرو - وكان مقامه بأرض الشرّك اثنتي عشرة سنة - وقدم معه القاسم الشيباني ومضرس بن عمران قاضيه وعبد الله بن سنان. فقدم سمرقند وعليها منصور بن عمر فلم يتلقّه، وقال: ألحسن بلائه وكتب إلى نصر يستأذنه في الحارث أن يثب به، فأيهما قتل صاحبه فإلى الجنة أو إلى النار. وكتب إليه: لئن قدم الحارث على الأمير وقد ضرّ ببني أمية في سلطانهم؛ وهو والغ في دم بعد دم، قد طوى كشحًا عن الدنيا بعد أن كان في سلطانهم أقراهم لضيف، وأشدهم بأسًا، وأنفذهم غارة في الترك؛ ليفّرقن عليك بني تميم. وكان سردرخداه محبوسًا عند منصور بن عمر؛ لأنه قتل بياسان، فاستعدى ابنه جنده منصورًا، فحبسه، فكلم الحارث منصورًا فيه، فخلى سبيله، فلزم الحارث ووفّى له. كتاب إبراهيم الإمام إلى شيعة بني العباس وفي هذه السنة - فيما زعم بعضهم - وجه إبراهيم بن محمد الإمام أبا هاشم بكير بن ماهان إلى خراسان، وبعث معه بالسيرة والوصيّه. فقدم مرو، وجمع النقباء ومن بها من الدعاة، فنعى لهم الإمام محمد بن علي، ودعاهم إلى إبراهيم، ودفع إليهم كتاب إبراهيم، فقبلوه ودفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقات الشيعة، فقدم بها بكير على إبراهيم بن محمد. ذكر بيعة إبرهيم بن الوليد بالعهد وفي هذه السنة أخذ يزيد بن الوليد لأخيه إبراهيم بن الوليد على الناس البيعة، وجعله ولي عهده، ولعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بعد إبراهيم ابن الوليد؛ وكان السبب في ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير، عن علي ابن محمد - أن يزيد بن الوليد مرض في ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، فقيل له: بايع لأخيك إبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده. قال: فلم تزل القدرية يحثونه عل البيعة، ويقولون له: إنه لا يحلّ لك أن تهمل أمر الأمة فبايع لأخيك؛ حتى بايع لإبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده. وفي هذه السنة عزل يزيد بن الوليد يوسف بن محمد بن يوسف عن المدينة، وولاها عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن عثمان. قال محمد بن عمر: يقال إن يزيد بن الوليد لم يوله، ولكنه افتعل كتابًا بولايته المدينة، فعزله يزيد عنها، وولاها عبد العزيز بن عمر، فقدمها لليلتين بقيتا من ذي القعدة. ذكر خلاف مروان بن محمد على يزيد وفي هذه السنة أظهر مروان بن محمد الخلاف على يزيد بن الوليد؛ وانصرف من أرمينية إلى الجزيرة، مظهرًا أنه طالب بدم الوليد بن يزيد. فلما صار بحرّان بايع يزيد. ذكر الخبر عما كان منه في ذلك وعن السبب الذي حمله على الخلاف ثم البيعة حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم بن خالد ابن يزيد بن هريم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن صالح مولى عثمان بن عفان - وسألته عما شهد ما حدثنا به فقال: لم أزل في عسكر مروان بن محمد - قال: كان عبد الملك بن مروان بن محمد بن مروان حين انصرف عن غزاته الصائفة مع الغمر بن يزيد بحران، فأتاه قتل الوليد وهو بها، وعلى الجزيرة عبدة بن رباح الغساني عاملا للوليد عليها، فشخص منها - حيث بلغه قتل الوليد - إلى الشأم، ووثب عبد الملك بن مروان بن محمد على حران ومدائن الجزيرة فضبطها، وولاها سليمان بن عبد الله بن علاثة، وكتب إلى أبيه بأرمينية يعلمه بذلك، ويشير عليه بتعجيل السير والقدوم. فتهيأ مروان للمسير، وأظهر أنه يطلب بدم الوليد، وكره أن يدع الثغر معطّلا حتى يحكم أمره؛ فوجّه إلى أهل الباب إسحاق بن مسلم العقيلي - وهو رأس قيس - وثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين - وهو رأس اليمن - وكان سبب صحبة ثابت إياه أن مروان كان خلصه من حبس هشام بالرّصافة. وكان مروان يقدم على هشام المرة في السنتين، فيرفع إليه أمر الثغر وحاله ومصلحة من به من جنوده، وما ينبغي أن يعمل به في عدوه. وكان سبب حبس هشام ثابتًا ما قد ذكرنا قبل من أمره مع حنظلة بن صفوان وإفساده عليه الجند الذين كان هشام وجههم معه لحرب البربر وأهل إفريقية؛ إذ قتلوا عامل هشام عليهم، كلثوم بن عياض القسري، فشكا ذلك من أمره حنظلة إلى هشام في كتاب كتبه إليه، فأمر هشام حنظلة بتوجيهه إليه في الحديد، فوجّهه حنظلة إليه، فحبسه هشام، فلم يزل في حبسه حتى قدم مروان بن محمد على هشام في بعض وفاداته - وقد ذكرنا بعض أمر كلثوم ابن عياض وأمر إفريقية معه في موضعه فيما مضى من كتابنا هذا - فلما قدم مروان على هشام أتاه رءوس أهل اليمانية؛ ممن كان مع هشام، فطلبوا إليه فيه؛ وكان ممن كلمه فيه كعب بن حامد العبسي صاحب شرط هشام وعبد الرحمن بن الضخم وسلمان بن حبيب قاضيه، فاستوهب مروان منه فوهبه له، فشخص إلى أرمينية، فولاه وحباه، فلما وجّه مروان ثابتًا مع إسحاق إلى أهل الباب، كتب إليهم كتابًا يعلمهم فيه حال ثغرهم وما لهم من الأجر في لزوم أمرهم ومراكزهم، وما في ثبوتهم فيه من دفع مكروه العدو عن ذراري المسلمين. قال: وحمل إليهم معهما أعطياتهم، وولى عليهم رجلًا من أهل فلسطين يقال له حميد بن عبد الله اللخمي - وكان راضيًا فيهم وكان وليهم قبل ذلك - فحمدوا ولايته. فقاما فيهم بأمره، وأبلغهم رسالته، وقرآ عليهم كتابه، فأجابوا إلى الثبوت في ثغرهم وازوم مراكزهم ثم بلغه أن ثابتًا قد كان يدس إلى قوادهم بالانصراف من ثغرهم وللحاق بأجنادهم، فلما انصرفا إليه تهيأ للمسير وعرض جنده، ودس ثابت بن نعيم إلى من معه من أهل الشأم بالانخزال عن مروان والانضمام إليه ليسير بهم إلى أجنادهم، ويتولى أمرهم؛ فانخزلوا عن عسكرهم مع من فرّ ليلا وعسكروا على حدة. وبلغ مروان أمرهم فبات ليلته ومن معه في السلاح يتحارسون حتى أصبح؛ ثم خرج إليهم بمن معه ومن مع ثابت يضعفون على من مع مروان، فصافوهم ليقاتلوهم، فأمر مروان منادين فنادوا بين الصفين من الميمنة والميسرة والقلب، فنادوهم: يا أهل الشأم؛ ما دعاكم إلى الانعزال! وما الذي نقمتم علي فيه من سيرى! ألم ألكم بما تحبّون، وأحسن السيرة فيكم والولاية عليكم! ما الذي دعاكم إلى سفك دمائكم! فأجابوه بأنا كنا نطيعك بطاعة خليفتنا وقد قتل خليفتنا وبايع أهل الشأم يزيد بن الوليد، فرضينا بولاية ثابت، ورأسناه ليسير بنا على ألويتنا حتى نردّ إلى أجنادنا. فأمر مناديه فنادى: أن قد كذبتم، وليس تريدون الذي قلتم؛ وإنما أردتم أن تركبوا رءوسكم، فتغصبوا من مررتم به من أهل الذمّة أموالهم وأطعمتهم وأعلافهم؛ وما بيني وبينكم إلا السيف حتى تنقادوا إلي، فأسير بكم حتى أوردكم الفرات، ثم أخلي عن كل قائد وجنده، فتلحقون بأجنادكم. فلما رأوا الجدّ منه انقادوا إليه ومالوا له، وأمكنوه من ثابت بن نعيم وأولاده؛ وهم أربعة رجال: رفاعة، ونعيم، وبكر، وعمران. قال: فأمر بهم فأنزلوا عن خيولهم، وسلبوا سلاحهم، ووضع في أرجلهم السلاسل. ووكل بهم عدّة من حرسه يحتفظون بهم، وشخص بجماعة من الجند من أهل الشأم والجزيرة، وضمهم إلى عسكره، وضبطهم في مسيره، فلم يقدر أحد منهم على أن يفسد ولا يظلم أحدًا من أهل القرى، ولا يرزأه شيئًا إلا بثمن، حتى ورد حرّان. ثم أمرهم باللحاق بأجنادهم، وحبس ثابتًا معه، ودعا أهل الجزيرة إلى الفرض، ففرض لنيّف وعشرين ألفًا من أهل الجلد منهم، وتهيأ للمسير إلى يزيد، وكاتبه يزيد على أن يبايعه ويوليه ما كان عبد الملك بن مروان ولّى أباه محمد بن مروان من الجزرة وأرمينية والموصل وأذربيجان، فبايع له مروان، ووجّه إليه محمد بن عبد الله بن علاثة ونفرًا من وجوه الجزيرة. ذكر خبر وفاة يزيد بن الوليد وفي هذه السنة مات يزيد بن الوليد، وكانت وفاته سلخ ذي الحجة من سنة ست وعشرين ومائة، قال أبو معشر ما حدثني به أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: توفي يزيد بن الوليد في ذي الحجة بعد الأضحى سنة ست وعشرين ومائة، وكانت خلافته في قول جميع من ذكرنا ستة أشهر، وقيل كانت خلافته خمسة أشهر وليلتين. وقال هشام بن محمد: ولي ستة أشهر وأيامًا. وقال علي بن محمد: كانت ولايته خمسة أشهر واثني عشر يومًا. وقال علي بن محمد: مات يزيد بن الوليد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة. وكانت ولايته فيما زعم ستة أشهر وليلتين، وتوفي بدمشق. واختلف في مبلغ سنه يوم توفّى فقال هشام توفي وهو ابن ثلاثين سنة. وقال بعضهم: توفيَ وهو ابن سبع وثلاثين سنة. وكان يكنى أبا خالد وأمه أم ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار ابن كسرى. وهو القائل: أنا ابن كسرى وأبي مروان ** وقيصر جدّي وجدّ خاقان وقيل: إنه كان قدريًا. وكان - فيما حدثني أحمد، عن علي بن محمد في صفته - أسمر طويلًا، صغير الرأس، بوجهه خال. وكان جميلًا من رجل، في فمه بعض السعة، وليس بالمفرط. وقيل له يزيد الناقص لنقصه الناس العشرات التي كان الوليد زادها الناس في قول الواقدي؛ وأما علي بن محمد فإنه قال: سبّه مروان بن محمد، فقال: الناقص ابن الوليد، فسمّاه الناس الناقص. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان في قول الواقدّي. وقال بعضهم: حجّ بالناس في هذه السنة عمر بن عبد الله ابن عبد الملك، بعثه يزيد بن الوليد، وخرج معه عبد العزيز وهو على المدينة ومكة والطائف. وكان عامله على العراق في هذه السنة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وعلى قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى أحداث البصرة المسوّر بن عمر بن عبّاد. وعلى قضائها عامر بن عبيدة، وعلى خراسان نصر بن سيار الكناني. خلافة أبي إسحاق إبراهيم بن الوليد ثم كان إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان غير أنه لم يتمّ له أمر. فحدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: لم يتمّ لإبراهيم أمره، وكان يسلّم عليه جمعة بالخلافة، وجمعة بالإمرة؛ وجمعة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمرة؛ فكان على ذلك أمره حتى قدم مروان بن محمد فخلعه وقتل عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك. وقال هشام بن محمد: استخلف يزيد بن الوليد أبا إسحاق إبراهيم بن الوليد؛ فمكث أربعة أشهر ثم خلع في شهر ربيع الآخر من سنة ست وعشرين ومائة، ثم لم يزل حيًّا حتى أصيب في سنة اثنتين وثلاثين ومائة أمه أمّ ولد. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كانت ولاية إبراهيم بن الوليد سبعين ليلة. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث ذكر مسير مروان إلى الشام وخلع إبراهيم بن الوليد فمما كان فيها من ذلك مسير مروان بن محمد إلى الشأم والحرب التي جرت بينه وبين سليمان بن هشام بعين الجرّ. ذكر ذلك والسبب الذي كانت عنه هذه الوقعة قال أبو جعفر: وكان السبب ما ذكرتُ بعضه؛ من أمر مسير مروان بعد مقتل الوليد بن يزيد إلى الجزيرة من أرمينية، وغلبته عليها، مظهرًا أنه ثائر بالوليد، منكر قتله، ثم إظهاره البيعة ليزيد بن الوليد بعد ما ولّاه عمل أبيه محمد بن مروان، وإظهاره ما أظهر من ذلك، وتوجيهه وهو بحرّان محمد بن عبد الله بن علاثة وجماعة من وجوه أهل الجزيرة. فحدثني أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: لما أتى مروان موت يزيد أرسل إلى ابن علاثة وأصحابه فردّهم من منبج، وشخص إلى إبراهيم بن الوليد، فسار مروان في جند الجزيرة، وخلف ابنه عبد الملك في أربعين ألف من الرابطة بالرقة. فلما انتهى إلى قنسرين، وبها أخ ليزيد بن الوليد يقال له بشر، كان ولاه قنسرين فخرج إليه فصافّه، فنادى الناس، ودعاهم مروان إلى مبايعته، فمال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة في القيسيّة، وأسلموا بشرًا وأخًا له يقال له مسرور بن الوليد، - وكان أخا بشر لأمه وأبيه - فأخذه مروان وأخاه مسرور بن الوليد؛ فحبسهما وسار فيمن معه من أهل الجزيرة وأهل قنسرين، متوجّهًا إلى أهل حمص؛ وكان أهل حمص امتنعوا حين مات يزيد بن الوليد أن يبايعوا إبراهيم وعبد العزيز ابن الحجاج، فوجّه إليه إبراهيم عبد العزيز بن الحجاج وجند أهل دمشق، فحاصرهم في مدينتهم، وأغذّ مروان السير، فلما دنا من مدينة حمص، رحل عبد العزيز عنهم، وخرجوا إلى مروان فبايعوه، وساروا بأجمعهم معه، ووجّه إبراهيم بن الوليد الجنود مع سليمان بن هشام، فسار بهم حتى نزل عين الجرّ، وأتاه مروان وسليمان في عشرين ومائة ألف فارس ومروان في نحو من ثمانين ألفًا فالتقيا، فدعاهم مروان إلى الكفّ عن قتاله، والتخلية عن ابني الوليد: الحكم وعثمان، وهما في سجن دمشق محبوسان، وضمن عنهما ألّا يؤاخذاهم بقتلهم أباهما، وألّا يطلبا أحدًا ممن ولي قتله؛ فأبوا عليه، وجدّوا في قتاله؛ فاقتتلوا ما بين ارتفاع النهار إلى العصر، واستحرّ القتل بينهم؛ وكثر في الفريقين. وكان مروان مجرّبًا مكايدًا، فدعا ثلاثة نفر من قوّاده - أحدهم أخ لإسحاق بن مسلم يقال له عيسى - فأمرهم بالمسير خلف صفّه في خيله وهم ثلاثة آلاف، ووجّه معهم فعلة بالفؤوس، وقد ملأ الصفان من أصحابه وأصحاب سليمان بن هشام ما بين الجبلين المحيطين بالمرج، وبين العسكرين نهر جرّار، وأمرهم إذا انتهوا إلى الجبل أن يقطعوا الشجر، فيعقدوا جسورًا، ويجوزوا إلى عسكر سليمان، ويغيروا فيه. قال: فلم تشعر خيول سليمان وهم مشغولون بالقتال إلّا بالخيل والبارقة والتكبير في عسكرهم من خلفهم، فلما رأوا ذلك انكسروا؛ وكانت هزيمتهم، ووضع أهل حمص السلاح فيهم لحردهم عليهم، فقتلوا منهم نحوًا من سبعة عشر ألفًا، وكفّ أهل الجزيرة وأهل قنسرين عن قتلهم، فلم يقتلوا منهم أحدًا، وأتوا مروان من أسرائهم بمثل عدّة القتلى وأكثر، واستبيح عسكرهم. فأخذ مروان عليهم البيعة للغلامين: الحكم وعثمان، وخلّى عنهم بعد أن قوّاهم. بدينار دينار، وألحقهم بأهاليهم، ولم يقتل منهم إلّا رجلين يقال لأحدهما يزيد بن العقّار وللآخر الوليد بن مصاد الكلبيّان؛ وكانا فيمن سار إلى الوليد ووليَ قتله. وكان يزيد بن خالد بن عبد الله القسري معهم، فسار حتى هرب فيمن هرب مع سليمان بن هشام إلى دمشق؛ وكان أحدهما - يعني الكلبيّين - على حرس يزيد والآخر على شرطه؛ فإنه ضربهما في موقفه ذلك بالسياط، ثم أمر بهما فحبسا فهلكا في حبسه. قال: ومضى سليمان ومن معه من الفلّ حتى صبّحوا دمشق، واجتمع إليه وإلى إبراهيم وعبد العزيز بن الحجاج رءوس من معهم، وهم يزيد بن خالد القسري وأبو علاقة السكسكي والأصبغ بن ذؤالة الكلبي ونظراؤهم؛ فقال بعضهم لبعض: إن بقي الغلامان ابنا الوليد حتى يقدم مروان ويخرجهما من الحبس ويصير الأمر إليهما لم يستبقيا أحدًا من قتلة أبيهما؛ والرأي أن نقتلهما. فولّوا ذلك يزيد بن خالد - ومعهما في الحبس أبو محمد السفياني ويوسف بن عمر - فأرسل يزيد مولىً لخالد يقال له أبا الأسد، في عدّة من أصحابه، فدخل السجن، فشدخ الغلامين بالعمد؛ وأخرج يوسف بن عمر ليقتلوه، وضربت عنقه. وأرادوا قتل أبي محمد السفياني، فدخل بيتًا من بيوت السجن فأغلقه، وألقى خلفه الفرش والوسائد، واعتمد على الباب فلم يقدروا على فتحه، فدعوا بنار ليحرقوه فلم يؤتوا بها، حتى قيل: قد دخلت خيل مروان المدينة وهرب إبراهيم بن الوليد، وتغيّب، وأنهب سليمان ما كان في بيت المال وقسّمه فيمن معه من الجنود وخرج من المدينة. ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قال أبو جعفر: وفي هذه السنة دعا إلى نفسه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة، وحارب بها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ابن مروان، فهزمه عبد الله بن عمر، فلحق بالجبال فغلب عليها. ذكر الخبر عن سبب خروج عبد الله ودعائه الناس إلى نفسه وكان إظهار عبد الله بن معاوية الخلاف على عبد الله بن عمر ونصبه الحرب له - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف - في المحرّم سنة سبع وعشرين ومائة. وكان سبب خروجه عليه - فيما حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن عاصم ابن حفص التميمي وغيره من أهل العلم - أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر قدم الكوفة زائرًا لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، يلتمس صلته، لا يريد خروجًا، فتزوج ابنة حاتم بن الشرقي بن عبد المؤمن بن شبث بن ربعي، فلما وقعت العصبيّة قال له أهل الكوفة: ادعُ إلى نفسك، فبنو هاشم أولى بالأمر من بني مروان، فدعا سرًا بالكوفة وابن عمر بالحيرة، وبايعه ابن ضمرة الخزاعي، فدسّ إليه ابن عمر فأرضاه، فأرسل إليه: إذا نحن التقينا بالناس انهزمت بهم. وبلغ ابن معاوية، فلما التقى الناس قال ابن معاوية: إنّ ابن ضمرة قد غدر، ووعد ابن عمر أن ينهزم بالناس؛ فلا يهولنّكم انهزامه، فإنه عن غدر يفعل. فلما التقوا انهزم ابن ضمرة، وانهزم الناس، فلم يبق معه أحد، فقال: تفرقت الظباء على خداش ** فما يدري خداش ما يصيد فرجع ابن معاوية إلى الكوفة؛ وكانوا التقوا ما بين الحيرة والكوفة، ثم خرج إلى المدائن فبايعوه، وأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج فغلب على حلوان والجبال. قال: ويقال قدم عبد الله بن معاوية الكوفة وجمع جمعًا، فلم يعلم عبد الله بن عمر حتى خرج في الجبّانة مجمعًا على الحرب، فالتقوا، وخالد بن قطن الحارثي على أهل اليمن، فشدّ عليه الأصبغ بن ذؤالة الكلبي في أهل الشأم، فانهزم خالد وأهل الكوفة وأمسكت نزار عن نزار ورجعوا، وأقبل خمسون رجلًا من الزيديّة إلى دار ابن محرز القرشي يريدون القتال، فقتلوا، ولم يقتل من أهل الكوفة غيرهم. قال: وخرج ابن معاوية من الكوفة مع عبد الله بن عباس التميمي إلى المدائن، ثم خرج منها فغلب على الماهين وهمذان وقومس وأصبهان والرّي، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، وقال: فلا تركبنّ الصنيع الذي ** تلوم أخاك على مثله ولا يعجبنك قول امرىء ** يخالف ما قال في فعله وأما أبو عبيدة معمر بن المثنّى؛ فإنه زعم أن سبب ذلك أن عبد الله والحسن ويزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قدموا على عبد الله بن عمر؛ فنزلوا في النخع، في دار مولى لهم، يقال له الوليد بن سعيد، فأكرمهم ابن عمر وأجازهم، وأجرى عليهم كلّ يوم ثلثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد ومن بعده عبد العزيز ابن الحجاج بن عبد الملك، فقدمت بيعتهما على عبد الله بن عمر بالكوفة، فبايع الناس لهما، وزادهم في العطاء مائة مائة؛ وكتب بيعتهما إلى الآفاق، فجاءته البيعة، فبينا هو كذلك؛ إذ أتاه الخبر بأنّ مروان بن محمد قد سار في أهل الجزيرة إلى إبراهيم بن الوليد، وأنه امتنع من البيعة له، فاحتبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده، وزاده فيما كان يجري عليه، وأعدّه لمروان ابن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له؛ ويقاتل به مروان؛ فماج الناس في أمرهم، وقرب مروان من الشأم، وخرج إليه إبراهيم فقاتله مروان، فهزمه وظفر بعسكره وخرج هاربًا، وثبت عبد العزيز بن الحجاج يقاتل حتى قتل. وأقبل إسماعيل بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري هاربًا حتى أتى الكوفة؛ وكان في عسكر إبراهيم، فافتعل كتابًا على لسان إبراهيم بولاية الكوفة، فأرسل إلى اليمانية، فأخبرهم سرًا أنّ إبراهيم بن الوليد ولّاه العراق، فقبلوا ذلك منه، وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فباكره صلاة الغداة، فقاتله من ساعته، ومعه عمر بن الغضبان؛ فلما رأى إسماعيل ذلك - ولا عهد معه وصاحبه الذي افتعل العهد على لسانه هارب منهزم - خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل، فقال لأصحابه: إني كاره لسفك الدماء؛ ولم أحس أن يبلغ الأمر ما بلغ، فكفوا أيديكم. فتفرق القوم عنه، فقال لأهل بيته: إنّ إبراهيم قد هرب، ودخل مروان دمشق، فحّكي ذلك عن أهل بيته، فانتشر الخبر، واشرأبّت الفتنة، ووقعت العصبية بين الناس. وكان سبب ذلك أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا عظامًا، ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهلي وعثمان بن الخيبري أخا بني تيم اللات بن ثعلبة شيئًا، ولم يسوّهما بنظرائهما؛ فدخلا عليه؛ فكلّماه كلامًا غليظًا، فغضب ابن عمر، وأمر بهما، فقام إليهما عبد الملك الطائي - وكان على شرطه يقوم على رأسه - فدفعهما، فدفعاه وخرجا مغضبين. وكان ثمامة بن حوشب بن رويم الشيباني حاضرًا، فخرج مغاضبًا لصاحبيه، فخرجوا جميعًا إلى الكوفة، وكان هذا وابن عمر بالحيرة، فلما دخلوا الكوفة نادوا: يا آل ربيعة، فثارت إليهم ربيعة، فاجتمعوا وتنمّروا، وبلغ الخبر ابن عمر، فأرسل إليهم أخاه عاصمًا، فأتاهم وهم بدير هند قد اجتمعوا وحشدوا، فألقى نفسه بينهم، وقال: هذه يدي لكم فاحكموا؛ فاستحيوا وعظّموا عاصمًا، وتشكّروا له، وأقبل على صاحبيهم فسكتا وكفّا، فلمّا أمسى ابنُ عمر أرسل من تحت ليلته إلى عمر بن الغضبان بمائة ألف، فقسمها في قومه بني همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وأرسل إلى ثمامة بن حوشب بن رويم بمائة ألف، فقسمّها في قومه، وأرسل إلى جعفر بن نافع بن القعقاع بعشرة آلاف، وإلى عثمان بن الخيبري بعشرة آلاف. قال أبو جعفر: فلما رأت الشيعة ضعفه اغتمزوا فيه، واجترءوا عليه وطمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وكان الذي ولي ذلك هلال ابن أبي الورد مولى بني عجل، فثاروا في غوغاء الناس حتى أتوا المسجد، فاجتمعوا فيه وهلال القائم بالأمر، فبايعه ناس من الشيعة لعبد الله بن معاوية، ثم مضوا من فورهم إلى عبد الله، فأخرجوه من دار الوليد بن سعيد؛ حتى أدخلوه القصر، وحالوا بين عاصم بن عمر وبين القصر، فلحق بأخيه عبد الله بالحيرة، وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه، فيهم عمر بن الغضبان بن القبعثري ومنصور بن جمهور وإسماعيل بن عبد الله القسري ومن كان من أهل الشأم بالكوفة له أهل وأصل، فأقام بالكوفة أيامًا يبايعه الناس، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل، واجتمع إليه الناس، فخرج يريد عبد الله بن عمر بالحيرة، وبرز له عبد الله بن عمر فيمن كان معه من أهل الشأم، فخرج رجل من أهل الشأم يسأله البراز، فبرز له القاسم بن عبد الغفار، فقال له الشامي: لقد دعوت حين دعوت، وما أظنّ أن يخرج إلي رجل من بكر بن وائل، والله ما أريد قتالك، ولكن أحببت أن ألقي إليك ما انتهى إلينا؛ أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن؛ لا منصور ولا إسماعيل ولا غيرهما إلا وقد كاتب عبد الله بن عمر، وجاءته كتب مضر، وما أرى لكم أيها الحي من ربيعة كتابًا ولا رسولًا، وليسوا مواقعيكم يومكم حتى تصبحوا فيواقعوكم، فإن استطعتم ألّا تكون بكم الحزّة فافعلوا، فإني رجل من قيس، وسنكون غدًا بإزائكم؛ فإن أردتم الكتاب إلى صاحبنا أبغته، وإن أردتم الوفاء لمن خرجتم معه فقد أبلغتكم حالَ الناس. فدعا القاسم رجالًا من قومه، فأعلمهم ما قال له الرجل؛ وأنّ ميمنة ابن عمر من ربيعة، ومضر ستقف بإزاء ميسرته وفيها ربيعة، فقال عبد الله بن معاوية: إنّ هذه علامة ستظهر لنا إن أصبحنا؛ فإن أحبّ عمر بن الغضبان فليلقني الليلة؛ وإن منعه شغل ما هو فيه فهو عذر؛ وقل له: إني لأظن القيسي قد كذب، فأتى الرسول عمر بذلك، فردّه إليه بكتاب يعلمه أن رسولي هذا بمنزلتي عندي، ويأمره أن يتوثّق من منصور وإسماعيل، وإنما أراد أن يعلمهما بذلك. قال: فأبى ابنُ معاوية أن يفعل، فأصبح الناس غادين على القتال، وقد جعل اليمن في الميمنة ومضر وربيعة في الميسرة، ونادى منادٍ: من أتى برأس فله كذا وكذا، أو بأسير فله كذا وكذا، والمال عند عمر بن الغضبان. والتقى الناس واقتتلوا، وحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة، ورجمت غوغاء الناس أهل اليمن من أهل الكوفة، فقتلوا فيهم أكثر من ثلاثين رجلًا، وقتل الهاشمي العباس بن عبد الله زوج ابنة الملاة. ذكر عمر أن محمد بن يحيى حدثه عن أبيه، عن عاتكة بنت الملاة، تزوجت أزواجًا، منهم العباس بن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قتل مع عبد الله بن عمر بن عبد العزيز في العصبيّة بالعراق. وقتل مبكر ابن الحواري بن زياد في غيرهم؛ ثم انكشفوا وفيهم عبد الله بن معاوية حتى دخل نصر الكوفة، وبقيت الميسرة من مضر وربيعة ومن بإزائهم من أهل الشأم، وحمل أهل القلب من أهل الشأم على الزيديّة فانكشفوا، حتى دخلوا الكوفة، وبقيت الميسرة وهم نحو خمسمائة رجل، وأقبل عامر بن ضبارة ونباتة ابن حنظلة بن قبيصة وعتبة بن عبد الرحمن الثعلبي والنضر بن سعيد بن عمرو الحرشي، حتى وقفوا على ربيعة، فقالوا لعمر بن الغضبان: أمّا نحن يا معشر ربيعة، فما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بأهل اليمن، ونتخوّف عليكم مثلها؛ فانصرفوا. فقال عمر: ما كنت ببارح أبدًا حتى أموت؛ فقالوا: إن هذا ليس بمغنٍ عنك ولا عن أصحابك شيئًا، فأخذوا بعنان دابته فأدخلوه الكوفة. قال عمر: حدثني علي بن محمد، عن سليمان بن عبد الله النوفلّي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا خراش بن المغيرة بن عطية مولى لبني ليث، عن أبيه، قال: كنت كاتب عبد الله بن عمر؛ فوالله إني لعنده يومًا وهو بالحيرة إذ أتاه آت فقال: هذا عبد الله بن معاوية قد أقبل في الخلق، فأطرق مليًا وجاءه رئيس خبّازيه، فقام بين يديه كأنه يؤذنه بإدراك طعامه، فأومأ إليه عبد الله: أن هاته. فجاء بالطعام، وقد شخصت قلوبنا، ونحن نتوقع أن يهجم علينا ابن معاوية ونحن معه، قال: فجعلت أتفقّده: هل أراه تغير في شيءمن أمره من مطعم أو مشرب أو منظر أو أمر أو نهي؟ فلا والله، ما أنكرت من هيئته قليلًا ولا كثيرًا؛ وكان طعامه إذا أتيَ به وضع بين كل اثنين منا صحفة. قال: فوضعت بيني وبين فلان صحفة، وبين فلان وفلان صحفة أخرى؛ حتى عدّ من كان على خوانه، فلما فرغ من غدائه ووضوئه، أمر بالمال فأخرج؛ حتى أخرجت آنية من ذهب وفضة وكسًا، ففرّق أكثر ذلك في قواده، ثم دعا مولى له أو مملوكًا كان يتبرّك به ويتفاءل باسمه - إمّا يدعى ميمونًا أو فتحًا أو اسمًا من الأسماء المتبرّك بها - فقال له: خذ لواءك، وامض إلى تلّ كذا وكذا فاركزه عليه؛ وادع أصحابك، وأقم حتى آتيك. ففعل وخرج عبد الله وخرجنا معه؛ حتى صار إلى التلّ فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية، فأمر عبد الله مناديًا، فنادى: من جاء برأس فله خمسمائة؛ فوالله ما كان بأسرع من أن أتيَ برأس، فوضع بين يديه؛ فأمر له بخمسمائة، فدفعت إلى الذي جاء به، فلما رأى أصحابه وفاءه لصاحب الرأس، ثاروا بالقوم؛ فوالله ما كان إلا هنيهة حتى نظرت إلى نحو من خمسمائة رأس قد ألقيت بين يديه؛ وانكشف ابن معاوية ومن معه منهزمين، فكان أوّل من دخل الكوفة من أصحابه منهزمًا أبو البلاد مولى بني عبس وابنه سليمان بين يديه - وكان أبو البلاد متشيعًا - فجعل أهل الكوفة ينادونهم كل يوم؛ وكأنهم يعيرونهم بانهزامه؛ فجعل يصيح بابنه سليمان: امض ودع النواضح ينفقن. قال: ومرّ عبد الله بن معاوية فطوى الكوفة، ولم يعرّج بها حتى أتى الجبل. وأما أبو عبيدة: فإنه ذكر أن عبد الله بن معاوية وإخوته دخلوا القصر فلما أمسوا قالوا لعمر بن الغضبان وأصحابه: يا معشر ربيعة، قد رأيتم ما صنع الناس بنا؛ وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم؛ فإن كنتم مقاتلين معنا قاتلنا معكم؛ وإن كنتم ترون الناس خاذلينا وإيّاكم؛ فخذوا لنا ولكم أمانًا؛ فما أخذتم لأنفسكم فقد رضينا لأنفسنا، فقال لهم عمر بن الغضبان: ما نحن بتاركيكم من إحدى خلّتين: إما أن نقاتل معكم، وإما أن نأخذ لكم أمانًا كما نأخذ لأنفسنا، فطيبوا نفسًا، فأقاموا في القصر، والزيدية على أفواه السكك يغدو عليهم أهل الشأم ويروحون، يقاتلونهم أيامًا. ثم إن ربيعة أخذت لأنفسها وللزيدّية ولعبد الله بن معاوية أمانًا؛ ألّا يتبعوهم ويذهبوا حيث شاءوا. وأرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان يأمره بنزول القصر وإخراج عبد الله بن معاوية، فأرسل إليه ابن الغضبان فرحّله ومن معه من شيعته ومن تبعه من أهل المدائن وأهل السواد وأهل الكوفة، فسار بهم رسل عمر حتى أخرجوهم من الجسر فنزل عمر من القصر. ذكر خبر رجوع الحارث بن سريج إلى مرو وفي هذه السنة وافى الحارث بن سريج مرو، خارجًا إليها من بلاد الترك بالأمان الذي كتب له يزيد بن الوليد، فصار إلى نصر بن سيار، ثم خالفه وأظهر الخلاف له، وبايعه على ذلك جمع كبير. ذكر الخبر عن أمره وأمر نصر بعد قدومه عليه ذكر علي بن محمد عن شيوخه؛ أنّ الحارث سار إلى مرو، مخرجه من بلاد الترك، فقدمها يوم الأحد لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين ومائة، فتلقاه سلم بن أحوز، والناس بكشماهن، فقال محمد بن الفضل ابن عطية العبسي: الحمد لله الذي أقر أعيننا بقدومك، وردّك إلى فئة الإسلام وإلى الجماعة. قال: يا بني؛ أما علمت أنّ الكثير إذا كانوا على معصية الله كانوا قليلًا، وأنّ القليل إذا كانوا على طاعة الله كانوا كثيرًا! وما قرّت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرة عيني إلا أن يطاع الله. فلما دخل مرو قال: اللهمّ إني لم أنوِ قطّ فى شىء مما بينى وبينهم إلّا الوفاء، فإن أرادوا الغدر فانصرني عليهمم. ولقاه نصر فأنزله قصر بخاراخذاه، وأجرى عليه نزلًا خمسين درهمًا في كلّ يوم، وكان يقتصر على لون واحد، وأطلق نصر من كان عنده من أهله؛ أطلق محمد بن الحارث والألوف بنت الحارث وأمّ بكر؛ فلما أتاه ابنه محمد، قال: اللهمّ اجعله بارًا تقيًّا. قال: وقدم الوضاح بن حبيب بن بديل على نصر بن سيّار من عند عبد الله بن عمر، وقد أصابه برد شديد، فكساه أثوابًا، وأمر له بقرى وجاريتين؛ ثم أتى الحارث بن سريج، وعنده جماعة من أصحابه قيام على رأسه، فقال له: إنّا بالعراق، نشهر عظم عمودك وثقله؛ وإني أحبّ أن أراه، فقال: ما هو إلا كبعض ما ترى مع هؤلاء - وأشار إلى أصحابه - ولكني إذا ضربت به شهرت ضربتني، قال: وكان في عموده بالشأمي ثمانية عشر رطلًا. قال: ودخل الحارث بن سريج على نصر، وعليه الجوشن الذي أصابه من خاقان، وكان خيّره بين مائة ألف دينار دنبكانيّة وبين الجوشن؛ فاختار الجوشن. فنظرت إليه المرزبانة بنت قديد؛ امرأة نصر بن سيار، فأرسلت إليه بجرز لها سمّور، مع جارية لها فقالت، أقرئي ابن عمي السلام، وقولي له: اليوم بارد فاستدفىء بهذا الجرز السمّور، فالحمد لله الذي أقدمك صالحًا. فقال للجارية: أقرئي بنت عمّي السلام، وقولي لها: أعارّية أم هدية؟ فقالت: بل هديّة؛ فباعه بأربعة آلاف دينار وقسمها في أصحابه. وبعث إليه نصر بفرش كثيرة وفرس، فباع ذلك كلّه وقسّمه في أصحابه بالسّويّة. وكان يجلس على برذعة، وتثنى له وسادة غليظة. وعرض نصر على الحارث أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وأرسل إلى نصر: إني لست من هذه اعلدنيا ولا من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات، ولا من تزويج عقائل العرب في شيء؛ وإنما أسأل كتاب الله عز وجل والعمل بالسنّة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوّك. وأرسل الحارث إلى الكرماني: إني أعطاني نصر العمل بكتاب الله وما سألته من استعمال أهل الخير والفضل عضدته وقمت بأمر الله، وإن لم يفعل استعنت بالله عليه، وأعنتك إن ضمنت لي ما أريد من القيام بالعدل والسنة. وكان كلما دخل عليه بنو تميم دعاهم إلى نفسه، فبايعه محمد بن حمران ومحمد ابن حرب بن جرفاس المنقريّان والخليل بن غزوان العدوي، وعبد الله ابن مجاعة وهبيرة بن شراحيل السعديّان، وعبد العزيز بن عبد ربّه الليثي، وبشر ابن جرموز الضبي، ونهار بن عبد الله بن الحتات المجاشعي، وعبد الله النباتي. وقال الحارث لنصر: خرجت من هذه المدينة منذ ثلاث عشرة سنة إنكارًا للجور، وأنت تريدني عليه! فانضمّ إلى الحارث ثلاثة آلاف. خلافة مروان بن محمد وفي هذه السنة بويع بدمشق لمروان بن محمد بالخلافة: ذكر الخبر عن سبب البيعة له حدثني أحمد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد مولى عثمان بن عفان، قال: لما قيل: قد دخلت خيل مروان دمشق هرب إبراهيم بن الوليد وتغيّب، فانتهب سليمان ما كان في بيت المال وقسّمه فيمن معه من الجند، وخرج من المدينة، وثار من فيها من موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه، ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان دمشق فنزل عالية، وأتيَ بالغلامين مقتولين وبيوسف بن عمر فأمر بهم فدفنوا، وأُتي بأبي محمد السفياني محمولًا في كُبُوله، فسلم عليه بالخلافة، ومروان يومئذ يسلّم عليه بالإمرة، فقال له: مه، فقال: إنهما جعلاها لك بعدهما، وأنشده شعرًا قاله الحكم في السجن. قال: وكانا قد بلغا، وولد لأحدهما وهو الحكم والآخر قد احتلم قبل ذلك بسنتين، قال: فقال الحكم: ألا من مبلغٌ مروان عنّى ** وعمى الغمر طال بذا حنينا بأني قد ظلمت وصار قومي ** على قتل الوليد متابعينا أيذهب كلبهم بدمي ومالي ** فلا غثًا أصبت ولا سمينا ومروان بأرض بني نزار ** كليث الغاب مفترس عرينا ألم يحزنك قتل فتى قريش ** وشقهم عصي المسلمينا ألا فاقر السلام على قريش ** وقيس بالجزيرة أجمعينا وساد الناقص القدري فينا ** وألقى الحرب بين بني أبينا فلو شهد الفوارس من سليم ** وكعب لم أكن لهم رهينا ولو شهدت ليوث بني تميم ** لما بعنا تراث بني أبينا أتنكث بيعتي من أجل أمي ** فقد بايعتم قبلي هجينا فليت خئولتي من غير كلب ** وكانت في ولادة آخرينا فإن أهلك أنا وولي عهدي ** فمروان أمير المؤمنينا ثم قال: ابسط يدك أبايعك، وسمعه من مع مروان من أهل الشأم؛ فكان أوّل من نهض معاوية بن يزيد بن الحصين بن نمير ورءوس أهل حمص، فبايعوه، فأمرهم أن يختاروا لولاية أجنادهم، فاختار أهل دمشق زامل بن عمرو الجبراني، وأهل حمص عبد الله بن شجرة الكندي، وأهل الأردنّ الوليد بن معاوية بن مروان، وأهل فلسطين ثابت بن نعيم الجذامي الذي كان استخرجه من سجن هشام وغدر به بأرمينية، فأخذ عليهم العهود المؤكّدة والأيمان المغلظلة على بيعته، وانصرف إلى منزله من حرّان. قال أبو جعفر: فلما استوت لمروان بن محمد الشأم وانصرف إلى منزله بحرّان طلب الأمان منه إبراهيم بن الوليد وسليمان بن هشام فآمنهم، فقدم عليه سليمان - وكان سليمان بن هشام يومئذ بتدمر بمن معه من إخوته وأهل بيته ومواليه الذكوانيّة - فبايعوا مروان بن محمد. ذكر الخبر عن انتقاض أهل حمص على مروان وفي هذه السنة انتقض على مروان أهل حمص وسائر أهل الشأم فحاربهم. ذكر الخبر عن أمرهم وأمره وعن سبب ذلك حدثني أحمد، قال حدثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن محمد بن صالح، قال: لما انصرف مروان إلى منزله من حران بعد فراغه من أهل الشأم لم يلبث إلا ثلاثة أشهر؛ حتى خالفه أهل الشأم وانتقضوا عليه؛ وكان الذي دعاهم إلى ذلك ثابت بن نعيم، وراسلَهم وكاتبهم، وبلغ مروان خبرهم، فسار إليهم بنفسه، وأرسل أهل حمص إلى من بتدمر من كلب؛ فشخص إليهم الأصبغ بن ذؤالة الكلبي ومعه بنون له ثلاثة رجال: حمزة وذؤالة وفرافصة ومعاوية السكسكي - وكان فارس أهل الشأم - وعصمة بن المقشعرّ وهشام بن مصاد وطفيل بن حارثة ونحو ألف من فرسانهم، فدخلوا مدينة حمص ليلة الفطر من سنة سبع وعشرين ومائة. قال: ومروان بحماة ليس بينه وبين مدينة حمص إلا ثلاثون ميلًا، فأتاه خبرهم صبيحة الفطر، فجدّ في السير، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع وسليمان بن هشام؛ وقد كانا راسلاه وطلبا إليه الأمان، فصارا معه في عسكره يكرمهما ويدنيهما ويجلسان معه على غدائه وعشائه، ويسيران معه في موكبه. فانتهى إلى مدينة حمص بعد الفطر بيومين، والكلبيّة فيها قد ردموا أبوابها من داخل، وهو على عدّة معه روابطه، فأحدقت خيله بالمدينة، ووقف حذاء باب من أبوابها، وأشرف على جماعة من الحائط، فناداهم مناديه: ما دعاكم إلى النكث؟ قالوا: فإنا على طاعتك لم ننكث، فقال لهم: فإن كنتم على ما تذكرون فافتحوا، ففتحوا الباب، فاقتحم منه عمرو بن الوضاح في الوضّاحية وهم نحو من ثلاثة آلاف فقاتلوهم في داخل المدينة؛ فلما كثرتهم خيل مروان، انتهوا إلى باب من أبواب المدينة يقال له باب تدمر، فخرجوا منه والروابط عليه فقاتلوهم، فقتل عامتهم، وأفلت الأصبغ بن ذؤالة والسكسكي وأسر ابنا الأصبغ: ذؤالة وفرافصة في نيّف وثلاثين رجلًا منهم، فأتيَ بهم مروان فقتلهم وهو واقف، وأمر بجمع قتلاهم وهم خمسمائة أو ستمائة، فصلبوا حول المدينة، وهدم من حائط مدينتها نحوًا من غلوة. وثار أهل الغوطة إلى مدينة دمشق، فحاصروا أميرهم زامل بن عمرو، وولّوا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت مع زامل المدينة وأهلها وقائد في نحو أربعمائة، يقال له أبو هبّار القرشي فوجّه إليهم مروان من حمص أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحارث - واسمه مجزأة - وعمرو بن الوضّاح في عشرة آلاف، فلما دنوا من المدينة حملوا عليهم، وخرج أبو هبّار وخيله من المدينة، فهزموهم واستباحوا عسكرهم وحرقوا المزّة من قرى اليمانية، ولجأ يزيد بن خالد وأبو علاقة إلى رجل من لخم من أهل المزّة، فدلّ عليهما زامل، فأرسل إليهما، فقتلا قبل أن يوصل بهما إليه، فبعث برأسيهما إلى مروان بحمص، وخرج ثابت ابن نعيم من أهل فلسطين؛ حتى أتى مدينة طبريّة، فحاصر أهلها وعليها الوليد بن معاوية بن مروان؛ ابن أخي عبد الملك بن مروان، فقاتلوه أيامًا، فكتب مروان إلى أبي الورد أن يشخص إليهم فيمدّهم. قال: فرحل من دمشق بعد أيام، فلما بلغهم دنوّه خرجوا من المدينة على ثابت ومن معه، فاستباحوا عسكرهم، فانصرف إلى فلسطين منهزمًا، فجمع قومه وجنده؛ ومضى إليه أبو الورد فهزمه ثانية، وتفرّق من معه، وأسر ثلاثة رجال من ولده؛ وهم نعيم وبكر وعمران، فبعث بهم إلى مروان فقدم بهم عليه؛ - وهو بدير أيوب - جرحى، فأمر بمداواة جراحاتهم، وتغيّب ثابت بن نعيم، فولّى الرماحس بن عبد العزيز الكناني فلسطين، وأفلت مع ثابت من ولده رفاعة ابن ثابت - وكان أخبثهم - فلحق بمنصور بن جمهور، فأكرمه وولّاه وخلّفه مع أخ له يقال له منظور بن جمهور؛ فوثب عليه فقتله، فبلغ منصورًا وهو متوجّه إلى الملتان، وكان أخوه بالمنصورة، فرجع إليه فأخذه، فبنى له أسطوانة من آجرّ مجوّفة، وأدخله فيها، ثم سمّره إليها، وبنى عليه. قال: وكتب مروان إلى الرماحس في طلب ثابت والتلطف له، فدلّ عليه رجل من قومه فأخذ ومعه نفر، فأتي به مروان موثقًا بعد شهرين، فأمر به وببنيه الذين كانوا في يديه، فقطعت أيديهم وأرجلهم؛ ثم حملوا إلى دمشق. فرأيتهم مقطّعين، فأقيموا على باب مسجدها؛ لأنه كان يبلغه أنهم يرجفون بثابت، ويقولن: إنه أتى مصر؛ فغلب عليها، وقتل عامل مروان بها. وأقبل مروان من دير أيوب حتى بايع لابنيه عبيد الله وعبد الله، وزوّجهما ابنتي هشام بن عبد الملك؛ أمّ هشام وعائشة، وجمع لذلك أهل بيته جميعًا؛ من ولد عبد الملك محمد وسعيد وبكار وولد الوليد وسليمان ويزيد وهشام وغيرهم من قريش ورءوس العرب، وقطع على أهل الشأم بعثًا وقوّاهم، وولّى على كل جند منهم قائدًا منهم، وأمرهم باللّحاق بيزيد بن عمر بن هبيرة. وكان قبل مسيره إلى الشأم وجهه في عشرين ألفًا من أهل قنّسرين والجزيرة، وأمره أن ينزل دورين إلى أن يقدم، وصيّره مقدّمة له، وانصرف من دير أيوب إلى دمشق؛ وقد استقامت له الشأم كلها ما خلا تدمر، وأمر بثابت بن نعيم وبنيه والنّفر الذين قطعهم فقتلوا وصلبوا على أبواب دمشق، قال: فرأيتهم حين قتلوا وصلبوا. قال: واستبقى رجلًا منهم يقال له عمرو بن الحارث الكلبي، وكان - فيما زعموا - عنده علم من أموال كان ثابت وضعها عند قوم، ومضى بمن معه، فنزل القسطل من أرض حمص ممايلي تدمر؛ بينهما مسيرة ثلاثة أيام؛ وبلغه أنهم قد عوّروا ما بينه وبينها من الآبار، وطمّوها بالصخر؛ فهيّأ المزاد والقرب والأعلاف والإبل، فحمل ذلك له ولمن معه، فكلمه الأبرش بن الوليد وسليمان ابن هشام وغيرهما. وسألوه أن يعذر إليهم، ويحتجّ عليهم. فأجابهم إلى ذلك، فوجّه الأبرش إليهم أخاه عمرو بن الوليد، وكتب إليهم يحذّرهم ويعلمهم أنه يتخوّف أن يكون هلاكه وهلاك قومه، فطردوه ولم يجيبوه، فسأله الأبرش أن يأذن له في التوجّه إليهم، ويؤجله أيامًا، ففعل، فأتاهم فكلمهم وخوّفهم وأعلمهم أنهم حمقى، وأنه لا طاقة لهم به وبمن معه، فأجابه عامّتهم، وهرب من لم يثق به منهم إلى برّية كلب وباديتهم، وهم السكسكي وعضمة بن المقشعرّ وطفيل بن حارثة ومعاوية بن أبي سفيان بن يزيد بن معاوية، وكان صهر الأبرش على ابنته. وكتب الأبرش إلى مروان يعلمه ذلك، فكتب إليه مروان: أن اهدم حائط مدينتهم، وانصرف إلي بمن بايعك منهم. فانصرف إليه ومعه من رءوسهم الأصبغ بن ذؤالة وابنه حمزة وجماعة من رءوسهم، وانصرف مروان بهم على طريق البريّة على سورية ودير اللثق، حتى قدم الرصافة ومعه سليمان بن هشام وعمه سعيد بن عبد الملك وإخوته جميعًا وإبراهيم المخلوع وجماعة من ولد الوليد وسليمان ويزيد، فأقاموا بها يومًا، ثم شخص إلى الرقة فاستأذنه سليمان، وسأله أن يأذن له أن يقيم أيامًا ليقوى من معه من مواليه، ويجمّ ظهره ثم يتبعه، فأذن له ومضى مروان، فنزل عند واسط على شاطىء الفرات في عسكر كان ينزله، فأقام به ثلاثة أيام، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها، ليقدمه إلى العراق لمحاربة الضحاك ابن قيس الشيباني الحروري، فأقبل في نحو عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليهم البعث بدير أيّوب لغزو العراق مع قوّادهم حتى حلّوا بالرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته. وفي هذه السنة دخل الضحاك بن قيس الشيباني الكوفة. ذكر الأخبار عن خروج الضحاك محكما ودخوله الكوفة ومن أين كان إقباله إليها اختلف في ذلك من أمره، فأما أحمد، فإنه حدثني عن عبد الوهاب ابن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان سبب خروج الضحاك أنّ الوليد حين قتل خرج بالجزيرة حروري يقال له سعيد ابن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة؛ فيهم الضحّاك، فاغتنم قتل الوليد واشتغال مروان بالشأم، فخرج بأرض كفر توثا، وخرج بسطام البيهسي وهو مفارق لرأيه في مثل عدّتهم من ربيعة، فسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه؛ فلما تقارب العسكران وجّه سعيد بن بهدل الخيبري - وهو أحد قواده، وهو الذي هزم مروان - في نحو من مائة وخمسين فارسًا ليبيّته، فانتهى إلى عسكره وهم غارون، وقد أمر كلّ واحد منهم أن يكون معه ثوب أبيض يجلّل به رأسه، ليعرف بعضهم بعضًا، فبكّروا في عسكرهم فأصابوهم في غرّة، فقال الخيبري: إن يك بسطام فإني الخيبري ** أضرب بالسيف وأحمي عسكري فقتلوا بسطامًا وجميع من معه إلّا أربعة عشر، فلحقوا بمروان، فكانوا معه فأثبتهم في روابطه، وولّى عليهم رجلًا منهم يقال له مقاتل، ويكنى أبا النعثل. ثمّ مضى سعيد بن بهدل نحو العراق لما بلغه من تشتيت الأمر بها واختلاف أهل الشأم، وقتال بعضهم بعضًا مع عبد الله بن عمر، والنضر بن سعيد الحرشي - وكانت اليمانية من أهل الشأم مع عبد الله بن عمر بالحيرة، والمضرّية، مع ابن الحرشي بالكوفة؛ فهم يقتتلون فيما بينهم غدوة وعشيّة. قال: فمات سعيد بن بهدل في وجهه ذلك من طاعون أصابه؛ واستخلف الضحاك بن قيس من بعده؛ وكانت له امرأة تسمى حوماء، فقال الخيبري في ذلك: سقى الله يا حوماء قبر ابن بهدل ** إذا رحل السارون لم يترحّل قال: واجتمع مع الضحاك نحوٌ من ألف ثم توّنجه إلى الكوفة، ومرّ بأرض الموصل، فاتّبعه منها ومن أهل الجزيرة نحو من ثلاثة آلاف، وبالكوفة يومئذ النضر بن سعيد الحرشي ومعه المضرّية، وبالحيرة عبد الله بن عمر في اليمانية، فهم متعصبون يقتتلون فيما بين الكوفة والحيرة، فلما دنا إليه الضحاك فيمن معه من الكوفة اصطلح ابن عمر والحرشي، فصار أمرهم واحدًا، وبدًا على قتال الضحاك، وخندقًا على الكوفة، ومعهما يومئذ من أهل الشأم نحو من ثلاثين ألفًا، لهم قوّة وعدّة، ومعهم قائد من أهل قنّسرين، يقال له عبّاد بن الغزيّل في ألف فارس، قد كان مروان أمدّ به ابن الحرشي، فبرزوا لهم، فقاتلوهم، فقتل يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن عباس الكندي، وهزموهم أقبح هزيمة، ولحق عبد الله بن عمر في جماعتهم بواسط، وتوجّه ابن الحرشي - وهو النضر - وجماعة المضرّية وإسماعيل ابن عبد الله القسري إلى مروان، فاستولى الضحاك والجزريّة على الكوفة وأرضها، وجبوا السواد. ثم استخلف الضحاك رجلًا من اصحابه - يقال له ملحان - على الكوفة في مائتي فارس، ومضى في عظم أصحابه إلى عبد الله بان عمر بواسط، فحاصره بها؛ وكان معه قائد من قوّاد أهل قنّسرين يقال له عطية الثعلبي - وكان من الأشدّاء - فلما تخوّف محاصرة الضحاك خرج في سبعين أو ثمانين من قومه متوجهًا إلى مروان، فخرج على القادسيّة، فبلغ ملحان ممره، فخرج في أصحابه مبادرًا يريده. فلقيه على قنطرة السَيلحين - وملحان قد تسرع في نحو من ثلاثين فارسًا - فقاتله فقتله عطية وناسًا من أصحابه، وانهزم بقيتهم حتى دخلوا الكوفة، ومضى عطية حتى لحق فيمن معه مروان. وأما أبو عبيدة معمر بن المثنّى، فإنه قال: حدثني أبو سعيد، قال: لما مات سعيد بن بهدل المرّي، وبايعت الشراة للضّحاك، أقام بشهرزور وثابت إليه الصفرية من كلّ وجه حتى صار في أربعة آلاف، فلم يجتمع مثلهم لخارجي قطّ قبله. قال: وهلك يزيد بن الوليد وعامله على العراق عبد الله بن عمر، فانحطّ مروان من أرمينية حتى نزل الجزيرة، وولّى العراق النضر بن سعيد - وكان من قوّاد ابن عمر - فشخص إلى الكوفة، ونزل ابن عمر الحيرة، فاجتمعت المضرّية إلى النضر واليمانية إلى ابن عمر، فحاربه أربعة أشهر، ثم آمدّ مروان النضر بابن الغزيل، فأقبل الضحاك نحو الكوفة وذلك في سنة سبع وعشرين ومائة، فأرسل ابن عمر إلى النضر: هذا لا يريد غيري وغيرك، فهلمّ نجتمع عليه فتعاقدا عليه، وأقبل ابن عمر، فنزل تلّ الفتح وأقبل الضحاك ليعبر الفرات، فأرسل إليه ابن عمر حمزة بن الأصبغ بن ذؤالة الكلبي ليمنعه من العبور، فقال عبيد الله بن العباس الكندي: دعه يعبر إلينا، فهو أهون علينا من طلبه. فأرسل ابن عمر إلى حمزة يكفّه عن ذلك، فنزل ابن عمر الكوفة، وكان يصلي في مسجد الأمير بأصحابه، والنضر بن سعيد في ناحية الكوفة يصلّي بأصحابه، لا يجامع ابن عمر ولا يصلي معه؛ غير أنهما قد تكافآ واجتمعا على قتال الضحاك، وأقبل الضحاك حين رجع حمزة حتى عبر الفرات، ونزل النخيلة يوم الأربعاء في رجب سنة سبع وعشرين ومائة، فخفّ إليهم أهل الشأم من أصحاب ابن عمر والنضر، قبل أن ينزلوا، فأصابوا منهم أربعة عشر فارسًا وثلاث عشرة امرأة. ثم نزل الضحاك وضرب عسكره، وعبّى أصحابه، وأراح، ثم تغادوا يوم الخميس، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فكشفوا ابن عمر وأصحابه، وقتلوا أخاه عاصمًا؛ قتله البرذون بن مرزوق الشيباني، فدفنه بنو الأشعث بن قيس في دارهم، وقتلوا جعفر بن العباس الكندي أخا عبيد الله، وكان جعفر على شرطة عبد الله بن عمر، وكان الذي قتل جعفرًا عبد الملك بن علقمة بن عبد القيس، وكان جعفر حين رهقه عبد الملك نادى ابن عمّ له يقال له شاشلة، فكرّ عليه شاشلة، وضربه رجل من الصفرّية، ففلق وجهه. قال أبو سعيد: فرأيته بعد ذلك كأنّ له وجهين، وأكبّ عبد الملك على جعفر فذبحه ذبحًا، فقالت أم البرذون الصفرية: نحن قتلنا عاصمًا وجعفرا ** والفارس الضبّي حين أصحرا ونحن جئنا لخندق المقعرا فانهزم أصحاب ابن عمر، وأقبل الخوارج، فوقفوا على خندقنا إلى الليل ثم انصرفوا، ثم تغادينا يوم الجمعة؛ فوالله ما تتاممنا حتى هزمونا، فدخلنا خنادقنا، وأصبحنا يوم السبت؛ فإذا الناس يتسلللون ويهربون إلى واسط، ورأبوا قومًا لم يروا مثلهم قطّ أشدّ بأسًا؛ كأنهم الأسد عند أشبالها، فذهب ابن عمر ينظر أصحابه، فإذا عامّتهم قد هربوا حتحت الليل، ولحق عظمهم بواسط؛ فكان ممّن لحق بواسط النضر بن سعيد وإسماعيل بن عبد الله ومنصور ابن جمهور والأصبغ بن ذؤالة وابناه: حمزة وذؤالة، والوليد بن حسان الغساني وجميع الوجوه، وبقي ابن عمر فيمن بقي من أصحابه مقيمًا لم يبرح. ويقال إنّ عبد الله بن عمر لمّا وليَ العراق ولّى الكوفة عبيد الله بن العباس الكندي وعلى شرطه عمر بن الغضبان بن القبعثري، فلم يزالا على ذلك حتى مات يزيد بن الوليد، وقام إبراهيم بن الوليد، فأقرّ ابن عمر على العراق، فولّى ابن عمر أخاه عاصمًا على الكوفة، وأقرّ ابن الغضبان على شرطه، فلم يزالوا على ذلك حتى خرج عبد الله بن معاوية فاتّهم عمر بن الغضبان، فلما انقضى أمر عبد الله بن معاوية ولّى عبد الله بن عمر عمرَ بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الكوفة، وعلى شرطه الحكم بن عتيبة الأسدي من أهل الشأم، ثم عزل عمر بن عبد الحميد عن الكوفة، ثم عزل عمر بن الغضبان عن شرطه وولى الوليد بن حسان الغساني، ثم ولّى إسماعيل بن عبد الله القسري وعلى شرطه أبان بن الوليد، ثم عزل إسماعيل وولّى عبد الصمد بن أبان بن النعمان بن بشير الأنصاري، ثم عزل فولّى عاصم بن عمر، فقدم عليه الضحاك بن قيس الشيباني. ويقال: إنما قدم الضحاك وإسماعيل بن عبد الله القسري في القصر وعبد الله بن عمر بالحيرة وابن الحرشي بدير هند، فغلب الضحاك على الكوفة، وولّى ملحان بن معروف الشيباني عليها، وعلى شرطه الصفر من بني حنظلة - حروري - فخرج ابن الحرشي يريد الشأم، فعارضه ملحان، فقتله ابن الحرشي فولى الضحاك على الكوفة حسان فولّى حسان ابنه الحارث على شرطه. وقال عبد الله بن عمر يرثي أخاه عاصمًا لما قتله الخوارج: رمى غرضي ريب الزمان فلم يدع ** غداة رمى للقوس في الكف منزعا رمى غرضي الأقصى فأقصد عاصمًا ** أخًا كان لي حرزًا ومأوًى ومفزعا فإن تلك أحزان وفائض عبرة ** أذابت عبيطًا من دم الجوف منقعًا تجرعتها في عاصم واحتسيتها ** فأعظم منها ما احتسى وتجرّعا فليت المنايا كن خلفن عاصمًا ** فعشنا جميعًا أو ذهبن بنا معا وذكر أن عبد الله بن عمر يقول: بلغني أنّ عين بن عين بن عين بن عين يقتل ميم بن ميم بن ميم بن ميم، وكان يأمل أن يقتله؛ فقتله عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، فذكر أن أصحاب ابن عمر لما انهزموا فلحقوا بواسط، قال لابن عمر أصحابه: علام تقيم وقد هرب الناس! قال: أتلوّم وأنظر، فأقام يومًا أو يومين لا يرى إلا هاربًا، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا من الخوارج، فأمر عند ذلك بالرّحيل إلى واسط، وجمع خالد بن الغزيّل أصحابه، فلحق بمروان وهو مقيم بالجزيرة، ونظر عبيد الله بن العباس الكندي إلى ما لقيَ الناس، فلم يأمن على نفسه، فجنح إلى الضحاك فبايعه؛ وكان معه في عسكره، فقال أبو عطاء السندي يعيّره باعتباعه الضحاك، وقد قتل أخاه: قل لعبيد الله لو كان جعفر ** هو الحي لم يجنح وأنت قتيل ولم يتبع المرّاق والثّأر فيهم ** وفي كفه عضب الذباب صقيل إلى معشر أردوا أخاك وأكفروا ** أباك، فماذا بعد ذاك تقول! فلما بلغ عبيد الله بن العباس هذا البيت من قول أبي عطاء، قال أقول: أعضّك الله ببظر أمّك. فلا وصلتك الرحم من ذي قرابة ** وطالب وتر، والذليل ذليل تركت أخا شيبان يسلب بزّه ** ونجّاك خوّار العنان مطول قال: فنزل ابن عمر منزل الحجاج بن يوسف بواسط - فيما قيل - في اليمانية ونزل النضر وأخوه سليمان ابنا سعيد وحنظلة بن نباتة وابناه محمد ونباتة في المضرّية ذات اليمين إذا صعدت من البصرة، وخلوا الكوفة والحيرة للضّحاك والشّراة، وصارت في أيديهم، وعادت الحرب بين عبد الله بن عمر والنّضر ابن سعيد الحرشي إلى ما كانت عليه قبل قدوم الضحاك يطلب النضر أن يسلم إليه عبد الله بن عمر ولاية العراق بكتاب مروان، ويأتي عبد الله بن عمر واليمانية مع ابن عمر والنزارية مع النضر؛ وذلك أن جند أهل اليمن كانوا مع يزيد الناقص تعصّبًا على الوليد حيث أسلم خالد بن عبد الله القسري إلى يوسف بن عمر حتى قتله؛ وكانت القيسية مع مروان، لأنه طلب بدم الوليد - وأخوال الوليد من قيس، ثم من ثقيف، أمّه زينب بنت محمد بن يوسف ابنة أخي الحجاج - فعادت الحرب بين ابن عمر والنّضر، ودخل الضحاك الكوفة فأقام بها، واستعمل عليها ملحان الشيباني في شعبان سنة سبع وعشرين ومائة، فأقبل منقضًّا في الثراة إلى واسط، متبعًا لابن عمر والنضر، فنزل باب المضمار. فلما رأى ذلك ابن عمر والنضر نلا عن الحرب فيما بينهما، وصارت لمتهما عليه واحدة؛ ما انت بالوفة؛ فجعل النضر وقوّاده يعبرون الجسر، فيقاتلون الضحا وأصحابه مع ابن عمر ثم يعودون إلى مواضعهم، ولا يقيمون مع ابن عمر؛ فلم يزالوا على ذلك شعبان وشهر رمضان وشوال، فاقتتلوا يومًا من تل الأيام، فاشتدّ قتالهم، فشدّ منصور بن جمهور على قائد من قواد الضحا، ان عظيم القدر في الشراة، يقال له عرمة بن شيبان، فضربه على باب القورج، فقطعه باثنين فقتله. وبعث الضحاك قائدًا من قواده يدعى شوالًا من بني شيبان إلى باب الزاب، فقال اضرمه عليهم نارًا، فقد طال الحصار علينا، فانطلق شوّال ومعه الخيبري؛ أحد بني شيبان في خيلهم، فلقيهم عبد الملك بن علقمة، فقال لهم أين تريدون؟ فقال له شوّال نريد باب الزاب، أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فقال: أنا معك؛ فرجع معه وهو حاسر، لا درع عليه، وكان من قوّاد الضحاك أيضًا وكان أشد الناس، فانتهوا إلى الباب فأضروه، فأخرج لهم عبد الله بن عمر منصور بن جمهور فى ستمائة فارس من كلب، فقاتلوهم أشد القتال، وجعل عبد الملك بن علقمة يشد عليهم وهو حاسر؛ فقتل منهم عدّة، فنظر إليه منصور بن جمهور، فغاظه صنيعه، فشد عليه فضربه على حبل عاتقه فقطعه حتى بلغ حرفقته؛ فخرّ ميّتًا، وأقبلت امرأة من الخوارج شادّة؛ حتى أخذت بلجام منصور بن جمهور، فقالت: يا فاسق، أجب أمير المؤمنين، فضرب يدها - ويقال: ضرب عنان دابته فقطعه في يدها - ونجا. فدخل المدينة الخيبري يريد منصورًا، فاعترض عليه ابن عمّ له من كلب، فضربه الخيبري فقتله؛ فقال حبيب بن خدرة مولى بني هلال - وكان يزعم أنه من أبناء ملوك فارس - يرثي عبد الملك بن علقمة: وقائلة ودمع العين يجري ** على روح ابن علقمة السلام أأدركك الحمام وأ، ت سار ** وكل فتى لمصرعه حمام فلا رعش اليدين ولا هدان ** ولا وكل اللقاء ولا كهام وما قتل على شار بعار ** ولكن يقتلون وهم كرام طغام الناس ليس لهم سبيل ** شجاني يا بن علقمة الطغام ثم إن منصورًا قال لابن عمر: ما رأيت في الناس مثل هؤلاء قطّ - يعني الشراة - فلم تحاربهم وتشغلهم عن مروان؟ أعطهم الرضا، واجعلنم بينك وبين مروان، فإنك إن أعطيتهم الرضا خلّوا عنا ومضوا إلى مروان، فكان حدهم وبأسهم عليه، وأقمت أنت مستريحًا يموضعك هذا؛ فإن ظفروا بها كان ما أردت وكنت عندهم آمنًا، وإن ظفر بهم وأردت خلافه وقتاله قاتلته جامًا مستريحًا؛ مع أن أمره وأمرهم سيطول، ويوسعونه شرًّا. فقال ابن عمر: لا تعجل حتى نتلوّم وننظر، فقال: أي شيء ننتظر؟ فما تستطيع أن تطلع معهم ولا تستقرّ، وإن خرجنا لم نقم لهم، فما انتظارنا بهم ومروان في راحة، وقد كفيناه حدّهم وشغلناهم عنه؟ أما أنا فخارج لاحقٌ بهم. فخرج فوقف حيال صفهم وناداهم: إني جانح أريد أن أسلم وأسمع كلام الله - قال: وهي محنتهم - فلحق بهم فبايعهم، وقال: قد أسلمتُ، فدعوا له بغداء فتغدّى، ثم قال لهم: من الفارس الذي أخذ بعناني يوم الزاب؟ يعني يوم ابن علقمة - فنادوا يا أمّ العنبر، فخرجت إليهم؛ فإذا أجمل الناس، فقالت له: أنت منصور؟ قال: نعم، قالت: قبح الله سيفك، أين ما تذكر منه؟ فوالله ما صنع شيئًا، ولا ترك - تعني ألّا يكون قتلها حين أخذت بعنانه فدخلت الجنة - وكان منصور لا يعلم يومئذ أنها امرأة، فقال: يا أمير المؤمنين، زوجنيها، قال: إن لها زوجًا - وكانت تحت عبيدة بن سوّار التغلبي - قال: ثم إنّ عبد الله بن عمر خرج إليهم في آخر شوّال فبايعه. خبر خروج سليمان بن هشام على مروان بن محمد وفي هذه السنة - أعني سنة سبع وعشرين ومائة - خلع سليمان بن هشام ابن عبد الملك بن مروان مروان بن محمد ونصب الحرب. ذكر الخبر عن سبب ذلك وما جرى بينهما حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما شخص مروان من الرصافة إلى الرقة لتوجيه ابن هبيرة إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني استأذنه سليمان بن هشام في مقام أيام، لإجمام ظهره وإصلاح أمره؛ فأذن له، ومضى مروان، فأقبل نحو من عشرة آلاف ممن كان مروان قطع عليه البعث بدير أيوب لغزو العراق مع قوّادهم؛ حتى جاءوا الرصافة، فدعوا سليمان إلى خلع مروان ومحاربته، وقالوا: أنت أرضى منه عند أهل الشأم وأولى بالخلافة، فاستزلّه الشيطان، فأجابهم، وخرج إليهم بإخوته وولده ومواليه، فعسكر بهم وسار بجمعهم إلى قنسرين، فكاتب أهل الشأم فانقضوا إليه من كلّ وجه وجند؛ وأقبل مروان بعد أن شارف قرقيسيا منصرفًا إليه، وكتب إلى ابن ههبيرة يأمره بالثبوت في عسكره من دورين حتى نزل معسكره بواسط، واجتمع من كان بالهني من موالى سليمان وولد هشام، فدخلوا حصن الكامل بذراريّهم فتحصّنوا فيه، وأغلقوا الأبواب دونه، فأرسل إليهم: ماذا صنعتم؟ خلعتم طاعتي ونقضتم بيعتي بعد ما أعطيتموني من العهود والمواثيق! فردّوا على رسله: إنا مع سليمان على من خالفه. فردّ إليهم: إنّي أحذرّكم وأنذركم أن تعرضوا لأحد ممّن تبعني من جندي أو يناله منكم أذى، فتحلّوا بأنفسكم؛ ولا أمان لكم عندي. فأرسلوا إليه: إنا سنكفّ. ومضى مروان، فجعلوا يخرجون من حصنهم، فيغيرون على من اتّبعه من أخريات الناس وشذّان الجند؛ فيسلونهم خيولهم وسلاحهم. وبلغه ذلك، فتحرّق عليهم غيظًا. واجتمع إلى سليمان نحوٌ من سبعين ألفًا من أهل الشأم والذّكوانية وغيرهم، وعسكر في قرية لبنى زفر يقال لها خساف من قنسرين من أرضها. فلما دنا منه مروان قدّم السكسكي في نحو سبعة آلاف، ووجّه مروان عيسى بن مسلم في نحو من عدّتهم، فالتقوا فيما بين العسكرين، فاقتتلوا قتالا شديدًا، والتقى السكسكي وعيسى، وكلّ واحد منهما فارس بطل، فطّعنا حتى تقصّفت رماحهما، ثم صارا إلى السيوف، فضرب السكسكي مقدّم فرس صاحبه، فسقط لجامه في صدره، وجال به فرسه، فاعترضه السكسكي، فضربه بالعمود فصرعه، ثم نزل إليه فأسره، وبارز فارسًا من فرسان أنطاكية، يقال له سلساق قائد الصقالبة. فأسره، وانهزمت مقدّمة مروان وبلغه الخبر وهو في مسيره، فمضى وطوى على تعبية، ولم ينزل حتى انتهى إلى سليمان، وقد تعبّأ له، وتهيّأ لقتاله، فلم يناظره حتى واقعه، فانهزم سليمان ومن معه، وأتبعتهم خيوله تقتلهم وتأسرهم؛ وانتهوا إلى عسكرهم فاستباحوه، ووقف مروان موقفًا، وأمر ابنيه فوقفا موقفين، ووقف كوثر صاحب شرطته في موضع، ثم أمرهم ألّا يأتوا بأسير إلّا قتلوه إلّا عبدًا مملوكًا، فأحصيَ من قتلاهم يومئذ نيّف على ثلاثين ألفًا. قال: وقتل إبراهيم بن سليمان أكبر ولده، وأتى بخال لهشام بن عبد الملك يقال له خالد بن هشام المخزومي - وكان بادنًا كثير اللحم - فأدنيَ إليه وهو يلهث، فقال له: يا فاسق؛ أما كان لك في خمر المدينة وقيانها ما يكفك عن الخروج مع الخرّاء تقاتلني! قال: يا أمير المؤمنين، أكرهني، فأنشدك الله والرّحم! قال: وتكذب أيضًا! كيف أكرهك وقد خرجت بالقيان والزقاق والبرابط معك في عسكره! فقتله. فف وادّعى كثير من الأسراء من الجند أنهم رقيق، فكفّ عن قتلهم، وأمر ببيعهم فيمن يزيد مع ما بيع مما أصيب في عسكرهم. قال: ومضى سليمان مفلولًا حتى انتهى إلى حمص؛ فانضمّ إليه من أفلت ممّن كان معه، فعسكر بها، وبنى ما كان مروان أمر بهدمه من حيطانها، ووجّه مروان يوم هزمه قوّادًا وروابط في جريدة خيل، وتقدّم إليهم أن يسبقوا كلّ خبر؛ حتى يأتوا الكامل، فيحدقوا بها إلى أن يأتيهم، حنقًا عليهم، فأتوهم فنزلوا عليهم، وأقبل مروان نحوهم حتى نزل معسكره من واسط، فأرسل إليهم أن انزلوا على حكمي، فقالوا: لا حتى ترمّننا بأجمعنا، فدلف إليهم، ونصب عليهم المجانيق، فلما تتابعت الحجارة عليهم نزلوا على حكمه، فمثّل بهم واحتملهم أهل الرقة فآووهم، وداووا جراحاتهم، وهلك بعضهم وبقي أكثرهم، وكانت عدّتهم جميعًا نحوًا من ثلثمائة. ثم شخص إلى سليمان ومن تجمّع معه بحمص، فلما دنا منهم اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: حتى متى ننهزم من مروان! هلمّوا فلنتبايع على الموت ولا نفترق بعد معاينته حتى نموت جميعًا. فمضى على ذلك من فرسانهم من قد وطّن نفسه على الموت نحو من تسعمائة، وولّى سليمان على شطرهم معاوية السكسكي، وعلى الشطر الثاني ثبيتًا البهراني. فتوجهوا إليه مجتمعين، على أن يبيّتوه إن أصابوا منه غرّة، وبلغه خبرهم وما كان منهم، فتحرّز وزحف إليهم في الخنادق على احتراس وتعبية، فراموا تبييته فلم يقدروا، فتهيئوا له وكمنوا في زيتون ظهر على طريقه، في قرية تسمى تل منّس من جبل السمّاق، فخرجوا عليه وهو يسير على تعبية، فوضعوا السلاح فيمن معه، وانتبذ لهم، ونادى خيوله فثابت إليه من المقدمة والمجنّبتين والساقة، فقاتلوهم من لدن ارتفاع النهار إلى بعد العصر، والتقى السكسكي وفارس من فرسان بني سليم، فاضطربا، فصرعه السلمي عن فرسه، ونزل إليه، وأعانه رجل من بني تميم، فأتياه به أسيرًا وهو واقف؛ فقال: الحمد لله الذي أمكن منك فطالما بلغت منّا! فقال: استبقني فإني فارس العرب، قال: كذبت؛ الذي جاء بك أفرس منك، فأمر به فأوثق، وقتل ممّن صبر معه نحو من ستة آلاف. قال: وأفلت ثبيت ومن انهزم معه، فلما أتوا سليمان خلف أخاه سعيد ابن هشام في مدينة حمص، وعرف أنه لا طاقة له به، ومضى هو إلى تدمر، فأقام بها، ونزل مروان على حمص، فحاصرهم بها عشرة أشهر، ونصب عليها نيفًا وثمانين منجنيقًا، فطرح عليهم حجارتها بالليل والنهار وهم في ذلك يخرجون إليه كلّ يوم فيقاتلونه، وربما بيّتوا نواحي عسكره، وأغاروا على الموضع الذي يطمعون في إصابة العورة والفرضة منه. فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل سألوه أن يؤمّنهم على أن يمكنوه من سعيد بن هشام وابنيه عثمان ومروان ومن رجل كان يسمى السكسكي، كان يغير على عسكرهم، ومن حبشي كان يشتمه ويفتري عليه؛ فأجابهم إلى ذلك وقبله. وكانت قصّة الحبشي أنه كان يشرف من الحائط ويربط في ذكره ذكر حمار، ثم يقول: يا بني سليم، يا أولاد كذا وكذا، هذا لواؤكم! وكان يشتم مروان، فلما ظفر به دفعه إلى بني سليم، فقطعوا مذاكيره وأنفه، ومثّلوا به، وأمر بقتل المتسمّي السكسكي والاستيثاق من سعيد وابنيه، وأقبل متوجّهًا إلى الضحاك. وأما غير أبي هاشم مخلّد بن محمد، فإنه ذكر من أمر سليمان بن هشام بعد انهزامه من وقعة خساف غير ما ذكره مخلّد؛ والذي ذكره من ذلك أنّ سليمان بن هشام بن عبد الملك حين هزمه مروان يوم خساف أقبل هاربًا؛ حتى صار إلى عبد الله بن عمر، فخرج مع عبد الله بن عمر إلى الضحاك، فبايعه، وأخبر عن مروان بفسق وجور وحضّض عليه، وقال: أنا سائر معكم في موالي ومن اتبعني، فسار مع الضحاك حين سار إلى مروان، فقال شبيل ابن عزرة الضبعي في بيعتهم الضحاك: ألم تر أن الله أظهر دينه ** فصلّت قريش خلف بكر بن وائل فصارت كلمة ابن عمر وأصحابه واحدة على النضر بن سعيد، فعلم أنه لا طاقة له بهم؛ فارتحل من ساعته يريد مروان بالشأم. وذكر أبو عبيدة أن بيهسًا أخبره: لما دخل ذو القعدة سنة سبع وعشرين ومائة، استقام لمروان الشأم ونفى عنها من كان يخالفه، فدعا يزيد بن عمر ابن هبيرة، فوجّهه عاملًا على العراق، وضمّ إليه أجناد الجزيرة، فأقبل حتى نزل سعيد بن عبد الملك، وأرسل ابن عمر إلى الضحاك يعلمه ذلك. قال: فجعل الضحاك لنا ميسان وف إنها تكفيكم حتى ننظر عما تنجلي. واستعمل ابن عمر عليها مولاه الحكم بن النعمان. فأما أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر عنه هشام: إن عبد الله بن عمر صالح الضحاك على أنّ بيد الضحاك ما كان غلب عليه من الكوفة وسوادها، وبيد ابن عمر ما كان بيده من كسكر وميسان ودستميسان وكور دجلة والأهواز وفارس، فارتحل الضحاك حتى لقي مروان بكفر توثا من أرض الجزيرة. وقال أبو عبيدة: تهيأ الضحاك ليسير إلى مروان، ومضى النضر يريد الشأم، فنزل القادسيّة، وبلغ ذلك ملحان الشيباني عامل الضحاك على الكوفة، فخرج إليه فقاتله وهو في قلّة من الشراة، فقاتله فصبر حتى قتله النضر. وقال ابن خدرة يرثيه وعبد الملك بن علقمة: كائن كملحان من شار أخي ثقة ** وابن علقمة المستشهد الشاري من صادق كنت أصفيه مخالصتي ** فباع داري بأعلى صفقة الدار إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ** أشكو إلى الله خذلاني وإخفاري وبلغ الضحاك قتل ملحان، فاستعمل على الكوفة المثنّى بن عمران من بني عائدة، ثم سار الضحاك في ذي القعدة، فأخذ الموصل، وانحطّ ابن هبيرة من نهر سعيد حتى نزل غزّة من عين التمر، وبلغ ذلك المثنّى بن عمران العائذي، عامل الضحاك على الكوفة، فسار إليه فيمن معه من الشراة، ومعه منصوور بن جمهور، وكان صار إليه حين بايع الضحاك خلافًا على مروان، فالتقوا بغزّة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا أيامًا متوالية؛ فقتل المثنى وعزيز وعمرو - وكانوا من رؤساء أصحاب الضحاك - وهرب منصور، وانهزمت الخوارج، فقال مسلم حاجب يزيد: أرت للمثنّى يوم غزّة حتفه ** وأذرت عزيرًا بين تلك الجنادل وعمرًا أزارته المنية بعد ما ** أطافت بمنصور كفات الحبائل وقال غيلان بن حريث في مدحه ابن هبيرة: نصرت يوم العين إذ لقيتا ** كنصر داود على جالوتا فلما قتل منهم من قتل في يوم العين، وهرب منصور بن جمهور، أقبل لا يلوي حتى دخل الكوفة، فجمع بها جمعًا من اليمانية والصفرية ومن كان تفرّق منهم يوم قتل ملحان ومن تخلف منهم عن الضحاك، فجمعهم منصور جميعًا، ثم سار بهم حتى نزل الروحاء، وأقبل ابن هبيرة في أجناده حتى لقيهم، فقاتلهم أيامًا ثم هزمهم، وقتل البرذون بن مرزوق الشيباني، وهرب منصور ففي ذلك يقول غيلان بن حريث: ويوم روحاء العذيب دففوا ** على ابن مرزوق سمام مزعف قال: وأقبل ابن هبيرة حتى نزل الكوفة ونفى عنها الخوارج، وبلغ الضحاك ما لقي أصحابه، فدعا عبيدة بن سوّار التغلبي، فوجّهه إليهم، وانحطّ ابن هبيرة يريد واسطًا وعبد الله بن عمر بها، وولى على الكوفة عبد الرحمن بن بشير العجلي، وأقبل عبيدة بن سوّار مغذًا في فرسان أصحابه، حتى نزل الصراة، ولحق به منصور بن جمهور؛ وبلغ ذلك ابن هبيرة فسار إليهم فالتقوا بالصّراة في سنة سبع وعشرين ومائة. وفي هذه السنة توجّه سليمان بن كثير ولاهز بن قريظة وقحطبة بن شبيب - فيما ذكر - إلى مكة، فلقوا إبراهيم بن محمد الإمام بها، وأعلموه أن معهم عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم ومسكًا ومتاعًا كثيرًا، فأمرهم بدفع ذلك إلى ابن عروة مولى محمد بن علي، وكانوا قدموا معهم بأبي مسلم ذلك العام، فقال ابن كثير لإبراهيم بن محمد: إنّ هذا مولاك. وفيها كتب بكير بن ماهان إلى إبراهيم بن محمد يخبره أنه في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وأنه قد استخلف حفص بن سليمان، وهو رضًا للأمر. وكتب إبراهيم إلى أبي سلمة يأمره بالقيام بأمر أصحابه؛ وكتب إلى أهل خراسان يخبرهم أنه قد أسند أمرهم إليه، ومضى أبو سلمة إلى خراسان فصدّقوه، وقبلوا أمره، ودفعوا إليه ما اجتمع قبلهم من نفقات الشيعة وخمس أموالهم. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وهو عامل مروان على المدينة ومكة والطائف؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان العامل على العراق النضر بن الحرشي، وكان من أمره وأمر عبد الله ابن عمر والضحاك الحروري ما قد ذكرت قبل. وكان بخراسان نصر بن سيار وبها من ينازعه فيها كالكرماني والحارث بن سريج. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة ذكر خبر قتل الحارث بن سريج بخراسان فمما كان فيها من الأحداث قتل الحارث بن سريج بخراسان. ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك قد مضى ذكر كتاب يزيد بن الوليد للحارث بأمانه، وخروج الحارث من بلاد الترك إلى خراسان ومصيره إلى نصر بن سيار، وما كان من نصر إليه، واجتماع من اجتمع إلى الحارث مستجيبين له. فذكر علي بن محمد عن شيوخه، أنّ ابن هبيرة لما وليَ العراق كتب إلى نصر بعهده، فبايع لمروان، فقال الحارث: إنما آمنني يزيد بن الوليد، ومروان لا يجيز أمان يزيد، فلا آمنه. فدعا إلى البيعة، فشتم أبو السليل مروان، فلما دعا الحارث إلى البيعة أتاه سلم بن أحوز وخالد بن هريم وقطن بن محمد وعبّاد بن الأبرد بن قرّة وحمّاد بن عامر، وكلموه وقالوا له: لم يصيّر نصر سلطانه وولايته في أيدي قومك؟ ألم يخرجك من أرض الترك ومن حكم خاقان! وإنما أتى بك لئلا يجترىء عليك عدوّك فخالفته، وفارقت أمر عشيرتك، وأطمعت فيهم عدوّهم، فنذكّرك الله أن تفرّق جماعتنا! فقال الحارث: إنّي لأرى في يدي الكرماني ولاية، والأمر في يد نصر، فلم يجبهم بما أرادوا، وخرج إلى حائط لحمزة بن أبي صالح السلمي بإزاء قصر بخاراخذاه، فعسكر وأرسل إلى نصر، فقال له: اجعل الأمر شورى، فأبى نصر. فخرج الحارث فأتى منازل يعقوب بن داود، وأمر جهم بن صفوان، مولى بني راسب، فقرأ كتابًا سيّر فيه الحارث على الناس، فانصرفوا يكبّرون، وأرسل الحارث إلى نصر: اعزل سلم بن أحوز عن شرطك، واستعمل بشر بن بسطام البرجمي، فوقع بينه وبين مغلّس بن زياد كلام، فتفرقت قيس وتميم، فعزله. واستعمل إبراهيم بن عبد الرحمن، واختاروا رجالًا يسمون لهم قومًا يعملون بكتاب الله. فاختار نصر مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان، واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يرضون من السنن، وما يختارونه من العمال، فيولّيهم الثغرين؛ ثغر سمرقند وطخارستان، ويكتب إلى من عليهما ما يرضونه من السير والسنن. فاستأذن سلم بن أحوز نصرًا في الفتك بالحارث، فأبى وولّى إبراهيم الصائغ، وكان يوجّه ابنه إسحاق بالفيروزج إلى مرو، وكان الحارث يظهر أنه صاحب الرايات السود؛ فأرسل إليه نصر: إن كنت كما تزعم، وأنكم تهدمون سور دمشق، وتزيلون أمر بني أميّة، فخذ مني خمسمائة رأس ومائتي بعير، واحمل من الأموال ما شئت وآلة الحرب وسر؛ فلعمري لئن كنت صاحب ما ذكرت إني لفي يدك؛ وإن كنت لست ذلك فقد أهلكت عشيرتك. فقال الحارث: قد علمت أن هذا حق، ولكن لا يبايعني عليه من صحبني. فقال نصر: فقد استبان أنهم ليسوا على رأيك، ولا لهم مثل بصيرتك، وأنهم هم فساق ورعاع، فأذكرك الله في عشرين ألفًا من ربيعة واليمن سيهلكون فيما بينكم. وعرض نصر على الحارث أن يولّيه ما وراء النهر، ويعطيه ثلثمائة ألف؛ فلم يقبل؛ فقال له نصر: فإن شئت فابدأ بالكرماني فإن قتلته فأنا في طاعتك، وإن شئت فخلّ بيني وبينه؛ فإن ظفرت به رأيت رأيك، وإن شئت فسر بأصحابك؛ فإذا جزت الري فأنا في طاعتك. قال: ثم تناظر الحارث ونصر، فتراضيا أن يحكم بينهم مقاتل بن حيان وجهم بن صفوان، فحكما بأن يعتزل نصر، ويكون الأمر شورى. فلم يقبل نصر. وكان جهم يقصّ في بيته في عسكر الحارث، وخالف الحارث نصرًا، ففرض نصر لقومه من بني سلمة وغيرهم، وصيّر سلمًا في المدينة في منزل ابن سوّار، وضمّ إليه الرابطة وإلى هدبة بن عامر الشعراوي فرسًا، وصيّره في المدينة، واستعمل على المدينة عبد السلام بن يزيد بن حيّان السلمي، وحوّل السلاح والدّواوين إلى القهندز، واتّهم قومًا من أصحابه أنهم كاتبوا الحارث، فأجلس عن يساره من اتّهم ممن لا بلاء له عنده، وأجلس الذين ولّاهم واصطنعهم عن يمينه؛ ثم تكلم وذكر بني مروان ومن خرج عليهم؛ كيف أظفر الله به؛ ثم قال: أحمد الله وأذم من على يساري؛ وليت خراسان فكنت يا يونس بن عبد ربّه ممن أراد الهرب من كلف مئونات مرو، وأنت وأهل بيتك ممن أراد أسد بن عبد الله أن يختم أعناقهم، ويجعلهم في الرجالة، فوليتكم إذ ووليتكم واصطنعتكم وأمرتكم أن ترفعوا ما أصبتم إذا أردت المسير إلى الوليد، فمنكم من رفع ألف ألف وأكثر وأقلّ، ثم ملأتم الحارث علي، فهلّا نظرتم إلى هؤلاء الأحرار الذين لزموني مؤاسين على غير بلاء! وأشار إلى هؤلاء الذين عن يمينه. فاعتذر القوم إليه، فقبل عذرهم. وقدم على نصر من كورخراسان حين بلغهم ما صار إليه من الفتنة جماعة؛ منهم عاصم بن عمير الصريمي وأبو الذيال الناجي وعمرو الفادوسبان السغدي البخاري وحسان بن خالد الأسدي من طخارستان في فوارس، وعقيل ابن معقل الليثي ومسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسعد الصغير في فرسان. وكتب الحارث بن سريج سيرته، فكانت تقرأ في طريق مرو والمساجد فأجابه قوم كثير؛ فقرأ رجل كتابه على باب نصر بماجان، فضربه غلمان نصر، فنابذه الحارث، فأتى نصرًا هبيرة بن شراحيل ويزيد أبو خالد، فأعلماه، فدعا الحسن بن سعد مولى قريش، فأمره فنادى: إن الحارث بن سريج عدوّ الله قد نابذ وحارب، فاستعينوا الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وأرسل من ليلته عاصم بن عمير إلى الحارث، وقال لخالد بن عبد الرحمن: ما نفعل شعارَنا غدا؟ فقال مقاتل بن سليمان: إن الله بعث نبيًا فقاتل عدوًا له، فكان شعاره " حم لا ينصرون "، فكان شعارهم " حم لا ينصرون "، وعلامتهم علي الرماح الصوف. وكان سلم بن أحوز وعاصم بن عمير وقطن وعقيل بن معقل ومسلم ابن عبد الرحمن وسعيد الصغير وعامر بن مالك والجماعة في طرف الطخارّية ويحيى بن حضين وربيعة في البخاريّين. ودلّ رجل من أهل مدينة مرو الحارث على نقب في الحائط، فمضى الحارث فنقب الحائط، فدخلوا المدينة من ناحية باب بالين وهم خمسون، ونادوا: يا منصور - بشعار الحارث - وأتوا باب نيق، فقاتلهم جهم بن مسعود الناجي، فحمل رجل على جهم فطعنه في فيه فقتله، ثم خرجوا من باب نيق حتى أتوا قبة سلم بن أحوز فقاتلهم عصمة بن عبد الله الأسدي وخضر بن خالد والأبرد بن داود من آل الأبرد بن قرّة، وعلى باب بالين حازم بن حاتم، فقتلوا كلّ من كان يحرسه، وانتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع؛ ونهاهم الحارث أن ينتهبوا منزل ابن أحوز ومنزل قديد بن منيع ومنزل إبراهيم وعيسى ابني عبد الله السلمي إلّا الدوابّ والسلاح؛ وذلك ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة. قال: وأتى نصرًا رسول سلم يخبره دنوّ الحارث منه، وأرسل إليه: أخّره حتى نصبح، ثم بعث إليه أيضًا محمد بنم قطن بن عمران الأسدي، أنه قد خرج عليه عامّة أصحابه، فأرسل إليه: لا تبدأهم. وكان الذي أهاج القتال، أنّ غلامًا للنضر بن محمد الفقيه يقال له عطية، صار إلى أصحاب سلم، فقال أصحاب اعلحارث: ردوه إلينا، فأبوا، فاقتتلوا، فرمى غلامًا لعاصم في عينه فمات؛ فقاتلهم ومعه عقيل بن معقل فهزمهم، فانتهوا إلى الحارث وهو يصلّي الغداة في مسجد أبي بكرة، مولى بني تميم؛ فلما قضى الصلاة دنا منهم، فرجعوا حتى صاروا إلى طرف الطخاريّة، فدنا منه رجلان، فناداهما عاصم: عرقبا برذونه؛ فضرب الحارث أحدهما بعموده فقتله، ورجع الحارث إلى سكة السغد، فرأى أعين مولى حيّان، فنهاه عن القتال، فقاتل فقتل، وعدل في سكة بني عصمة، فأتبعه حماد بن عامر الحماني ومحمد بن زرعة، فكسر رمحيهما، وحمل على مرزوق مولى سلم؛ فلما دنا منه رمى به فرسه؛ فدخل حانوتًا، وضرب برذونه على مؤخره فنفق. قال: وركب سلم حين أصبح إلى باب نيق، فأمرهم بالخندق، فخندقوا وأمر مناديًا، فنادى: من جاء برأس فله ثلثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث، وقاتلهم الليل كله، فلما أصبحنا أخذ أصحاب نصر على الرزيق، فأدركوا عبد الله بن مجّاعة بن سعد، فقتلوه. وانتهى سلم إلى عسكر الحارث؛ وانصرف إلى نصر فنهاه نصر، فقال: لست منتهيًا حتى أدخل المدينة على هذا الدبّوسي؛ فمضى معه محمد ابن قطن وعبيد الله بن بسام إلى باب درسنكان - وهو القهندز - فوجده مردومًا، فصعد عبد الله بن مزيد الأسدي السور ومعه ثلاثة، ففتحوا الباب، ودخل بن أحوز، ووكّل بالباب أبا مطهّر حرب بن سليمان، فقتل سلم يومئذ كاتب الحارث بن سريج، واسمه يزيد بن داود، وأتى عبد ربه ابن سيسن فقتله، ومضى سلم إلى باب نيق ففتحه، وقتل رجلًا من الجزّارين كان دلّ الحارث على النقب؛ فقال المنذر الرقاشي ابن عمّ يحيى بن حضين، يذكر صبر القاسم الشيباني: ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا ** في عصبة قاتلوا صبرًا فما ذعروا هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا ** حتى أتاهم غياث الله فانتصروا فقاسم بعد أمر الله أحرزها ** وأنت في معزل عن ذاك مقتصر ويقال: لما غلظ أمر الكرماني والحارث أرسل نصر إلى الكرماني، فأتاه على عهد، وحضرهم محمد بن ثابت القاضي ومقدام بن نعيم أخو عبد الرحمن ابن نعيم الغامدي وسلم بن أحوز، فدعا نصر إلى الجماعة، فقال للكرماني أن أسعد الناس بذلك؛ فوقع بين سلم بن أحوز والمقدام كلام؛ فأغلظ له سلم، فأعانه عليه أخوه، وغضب لهما السغدي بن عبد الرحمن الحزمي، فقال سلم: لقد هممت أن أضرب أنفك بالسيف، فقال السغدي: لو مست السيف لم ترجع إليك يدك، فخاف الكرماني أن يكون مكرًا من نصر، فقام وتعلقوا به، فلم يجلس، وعاد إلى باب المقصورة. قال فتلقوه بفرسه، فركب في المسجد، وقال نصر: أراد الغدر بي، وأرسل الحارث إلى نصر: إنا لا نرضى بك إمامًا، فأرسل إليه نصر: كيف يكون لك عقل، وقد أفنيت عمرك في أرض الشرك وغزوت المسلمين بالمشركين! أتراني أتضرّع إليك أكثر مما تضرّعت!. قال فأسر يومئذ جهم بن صفوان صاحب الجهميّة، فقال لسلم: إن لي ولثًا من ابنك حارث؛ قال: ما كان ينبغي له أن يفعل؛ ولو فعل ما آمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأبرأك إلي عيسى بن مريم ما نجوت؛ والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك؛ والله لا يقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت؛ وأمر عبد ربّه بن سيسن فقتله، فقال الناس: قتل أبو محرز - وكان جهم يكنى أبا محرز. وأسر يومئذ هبيرة بن شراحيل وعبد الله بن مجّاعة فقال: لا أبقى الله من استبقاكما، وإن كنتما من تميم. ويقال: بل قتل هبيرة، لحقته الخيل عند دار قديد بن منيع فقتل. قال: ولما هزم نصر الحارث، بعث الحارث ابنه حاتمًا إلى الكرماني، فقال له محمد بن المثنّى: هما عدوّاك، دعهما يضطربان؛ فبعث الكرماني السغدي بن عبد الرحمن الحزمي معه، فدخل السغدي المدينة من ناحية باب ميخان، فأتاه الحارث، فدخل فازة الكرماني، ومع الكرماني داود ابن شعيب الجدّاني ومحمد بن المثنى، فأقيمت الصلاة، فصلى بهم الكرماني، ثم ركب الحارث، فسار معه جماعة بن محمد بن عزيز أبو خلف، فلمّا كان الغد سار الكرماني إلى باب ميدان يزيد، فقاتل أصحاب نصر، فقتل سعد بن سلم المراغي، وأخذوا علم عثمان بن الكرماني؛ فأوّل من أتى الكرماني بهزيمة الحارث وهو معسكر بباب ماسرجسان على فرسخ من المدينة النضر ابن غلّاق السغدي وعبد الواحد بن المنخّل. ثم أتاه سوادة بن سريج وحاتم بن الحارث والخليل بن غزوان العذري، أتوه ببيعة الحارث بن سريج. وأول من بايع الكرماني يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني، فوجه الكرماني إلى الحارث بن سريج سورة بن محمد الكندي إلى أسمانير والسغدي بن عبد الرحمن أبا طعمة وصعبًا أو صعيبًا، وصبّاحًا، فدخلوا المدينة من باب ميخان، حتى أتوا باب ركك، وأقبل الكرماني إلى باب حرب بن عامر، ووجّه أصحابه إلى نصر يوم الأربعاء، فتراموا ثم تحاجزوا، ولم يكن بينهم يوم الخميس قتال. قال: والتقوا يوم الجمعة، فانهزمت الأزد؛ حتى وصلوا إلى الكرماني، فأخذ اللواء بيده فقاتل به، وحمل الخضر بن تميم وعليه تهجفاف، فرموه بالنّشاب، وحمل عليه حبيش مولى نصر فطعنه في حلقه، فأخذ الخضر السنان بشماله من خلفه؛ فشبّ به فرسه، وحمل فطعن حبيشًا فأذراه عن برذونه، فقتله رجّالة الكرماني بالعصي. قال: وانهزم أصحاب نصر، وأخذوا لهم ثمانين فرسًا، وصرع تميم ابن نصر، فأخذوا له برذونين؛ أخذ أحدهما السغدي بن عبد الرحمن، وأخذ الآخر الخضر، ولحق الخضر بسلم بن أحوز، فتناول من ابن أخيه عمودًا فضربه فصرعه، فحمل عليه رجلان من بني تميم فهرب، فرمى سلم بنفسه تحت القناطر وبه بضع عشرة ضربة على بيضته فسقط، فحمله محمد بن الحدّاد إلى عسكر نصر، وانصرفوا، فلما كان في بعض الليالي خرج نصر من مرو، وقتل عصمة بن عبد الله الأسدي، وكان يحمى أصحاب نصر؛ فأدركه صالح بن القعقاع الأزدي، فقال له عصمة: تقدّم يا مزني، فقال صالح: أثبت يا حصي - وكان عقيمًا - فعطف فرسه فشبّ فسقط، فطعنه صالح فقتله. وقاتل ابن الديليمري، وهو يرتجز؛ فقتل إلى جنب عصمة. وقتل عبيد الله بن حوتمة السلمي، رمى مروان البهراني بجرزة؛ فقتل؛ فأتى الكرماني برأسه فاسترجع - وكان له صديقًا - وأخذ رجل يماني بعنان فرس مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم فعرفه فتركه. واقتتلوا ثلاثة أيام، فهزمت آخر يوم المضرّية اليمن، فنادى الخليل بن غزوان: يا معشر ربيعة واليمن؛ قد دخل الحارث السوق، وقتل ابن الأقطع؛ ففتّ في أعضاد المضرّية. وكان أوّل من انهزم إبراهيم بن بسام الليثي، وترجّل تميم بن نصر، فأخذ برذونه عبد الرحمن بن جامع الكندي، وقتلوا هيّاجًا الكلبي ولقيط بن أخضر؛ قتله غلام لهانىء البزّار. قال: ويقال: لما كان يوم الجمعة تأهّبوا للقتال، وهدموا الحيطان ليتّسع لهم الموضع، فبعث نصر محمد بن قطن إلى الكرماني: إنك لست مثل هذا الدبّوسي، فاتّق الله، لا تشرع في الفتنة. قال: وبعث تميم بن نصر شاكريّته، وهم في دار الجنوب بنت القعقاع؛ فرماهم أصحاب الكرماني من السطوح ونذروا بهم، فقال عقيل بن معقل لمحمد بن المثنّى: علام نقتل أنفسنا لنصر والكرماني! هلّم نرجع إلى بلدنا بطخارستان، فقال محمد: إنّ نصرًا لم يفِ لنا، فلسنا ندع حربه. وكان أصحاب الحراث والكرماني يرمون نصرًا وأصحابه بعرّادة، فضرب سرادقه وهو فيه فلم يحوّله، فوجه إليهم سلم ابن أحوز فاقتلهم؛ فكان أوّل الظفر لنصر، فلما رأى الكرماني ذلك أخذ لواءه من محمد بن محمد بن عميرة، فقاتل به حتى كسره. وأخذ محمد بن المثنى والزّاغ وحطّان في كارابكل، حتى خرجوا على الرزيق، وتميم بن نصر على قنطرة النهر، فقال محمد بن المثنى لتميم حين انتهى إليه: تنحّ يا صبي. وحمل محمد والزاغ معه راية صفراء، فصرعوا أعين مولى نصرن وقتلوه؛ وكان صاحب دواة نصر، وقتلوا نفرًا من شاكريّته. وحمل الخضر بن تميم على سلم بن أحوز فطعنه، فمال السنان، فضربه بجرز على صدره وأخرى على منكبه؛ وضربه على رأسه فسقط، وحمى نصر أصحابه في ثمانية، فمنعهم من دخول السوق. قال: ولما هزمت اليمانية مضر، أرسل الحارث إلى نصر: إن اليمانية يعيّرونني بانهزامكم؛ وأنا كافّ؛ فاجعل حماة أصحابك بإزاء الكرماني، فبعث إليه نصر يزيد النحوي أو خالدًا يتوثّق منه؛ أن يفي له بما أعطاه من الكفّ. ويقال: إنما كفّ الحارث عن قتال نصر أن عمران بن الفضل الأزدي وأهل بيته وعبد الجبار العدوي وخالد بن عبيد الله بن حبيب العدوي وعامة أصحابه نقموا على الكرماني فعله بأهل التبوشكان؛ وذلك أن أسدًا وجهّه إليهم، فنزلوا على حكم أسد، فبقر بطون خمسين رجلًا وألقاهم في نهر بلخ، وقطع أيدي ثلثمائة منهم وأرجلهم، وصلب ثلاثة، وباع أثقالهم فيمن يزيد، فنقموا على الحارث عونه الكرماني، وقتاله نصرًا. فقال نصر لأصحابه حين تغير الأمر بينه وبين الحارث: إن مضر، لا تجتمع لي ما كان الحارث مع الكرماني؛ لا يتفقان على أمر، فالرأي تركهما؛ فإنهما يختلفان. وخرج إلى جلفر فيجد عبد الجبار الأحول العدوي وعمر بن أبي الهيثم الصغدي، فقال لهما: أيسعكما المقام مع الكرماني؟ فقال عبد الجبار: وأنت فلا عدمت آسيًا؛ ما أحلك هذا المحلّ! فلما رجع نصر إلى مرو أمر به فضرب أربعمائة سوط، ومضى نصر إلى خرق، فأقام أربعة أيام بها، ومعه مسلم بن عبد الرحمن بن مسلم وسلم بن أحوز وسنان الأعرابي، فقال نصر لنسائه: إنّ الحارث سيخلفني فيكنّ ويحميكنّ. فلما قرب من نيسابور أرسلوا إليه: ما أقدمك، وقد أظهرت من العصبية أمرًا قد كان الله أطفأه؟ وكان عامل نصر على نيسابور ضرار ابن عيسى العامري، فأرسل إليه نصر بن سيار سنانًا الأعرابي ومسلم بن عبد الرحمن وسلم بن أحوز، فكلموهم فخرجوا، فتلقوا نصرًا بالمواكب والجواري والهدايا، فقال سلم: جعلني الله فداك! هذا الحي من قيس؛ فإنما كانت عاتبة، فقال نصر: أنا ابن خندف تنميني قبائلها ** للصالحات وعمّي قيس عيلانا وأقام عند نصر حين خرج من مرو يونس بن عبد ربّه ومحمد بن قطن وخالد بن عبد الرحمن في نظرائهم. قال: وتقدّم عبّاد بن عمر الأزدي وعبد الحكيم بن سعيد العوذي وأبو جعفر عيسى بن جرز على نصر من مكة بأبرشهر، فقال نصر لعبد الحكيم: أما ترى ما صنع سفهاء قومك؟ فقال عبد الحكيم: بل سفهاء قومك؛ طالت ولايتها في ولايتك، وصيّرت الولاية لقومك دون ربيعة واليمن فبطروا، وفي ربيعة واليمن حلماء وسفهاء فغلب السفهاء الحكماء. فقال عبّاد: أتستقبل الأمير بنهذا الكلام! قال: دعه فقد صدق، فقال أبو جعفر عيسى بن جرز - وهو من أهل قرية على نهر مرو: أيها الأمير، حسبك من هذه الأمور والولاية، فإنه قد أطلّ أمرٌ عظيم، سيقوم رجل مجهول النسب يظهر السواد، ويدعو إلى دولة تكون، فيغلب على الأمر وأنتم تنظرون وتضطربون. فقال نصر: ما أشبه أن يكون لقلة الوفاء، واستجراح الناس، وسوء ذات البين. وجّهت إلى الحارث وهو بأرض الترك، فعرضت عليه الولاية والأموال فأبى وشغب، وظاهر علي. فقال أبو جعفر عيسى: إن الحارث مقتول مصلوب، وما الكرماني من ذلك ببعيد. فوصله نصر. قال: وكان سلم بن أحوز يقول: ما رأيت قومًا أكرم إجابةً، ولا أبذل لدمائهم من قيس. قال: فلما خرج نصر من مرو غلب عليها الكرمانىّ، وقال للحارث: إنما أريد كتاب الله، فقال قحطبة: لو كان صادقًا لأمددته ألف عنان، فقال مقاتل بن حيّان: أفي كتاب الله هدم الدور وانتهاب الأموال! فحبسه الكرماني في خيمة في العسكر، فكلّمه معمّر بن مقاتل بن حيّان - أو معمر بن حيان - فخلاه، فأتى الكرماني المسجد، ووقف الحارث، فخطب الكرماني الناس، وآمنهم غير محمد بن الزبير ورجل آخر، فاستأمن لابن الزبير داود بن أبي داود بن يعقوب، ودخل الكاتب فآمنه؛ ومضى الحارث إلى باب دوران وسرخس، وعسكر الكرماني في مصلّى أسد، وبعث إلى الحارث فأتاه، فأنكر الحارث هدم الدور وانتهاب الأموال، فهمّ الكرماني به، ثم كفّ عنه، فأقام أيامًا. وخرج بشر بن جرموز الضبي بخرقان، فدعا إلى الكتاب والسنّة، وقال للحارث: إنما قاتلت معك طلب العدل، فأمّا إذْ كنت مع الكرماني، فقد علمت أنك إنما تقاتل ليقال: غلب الحارث! وهؤلاء يقاتلون عصبيّة، فلست مقاتلًا معك. واعتزل في خمسة آلاف وخمسمائة - ويقال في أربعة آلاف - وقال: نحن الفئة العادلة، ندعو إلى الحقّ ولا نقاتل إلّا من يقاتلنا. وأتى الحارث مسجد عياض، فأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني، وبعث الحارث ابنه محمدًا فحمل ثقله من دار تميم بن نصر، فكتب نصر إلى عشيرته ومضر؛ أن الزموا الحارث مناصحةً فأتوه؛ فقال الحارث: إنكم أصل العرب وفرعها، وأنتم قريب عهد بالهزيمة، فاخرجوا إلي بالأثقال، فقالوا: لم نكن نرضى بشيء دون لقائه. وكان من مدبّري عسكر الكرماني مقاتل بن سليمان، فأتاه رجل من البخاريّين، فقال: أعطني أجر المنجنيق التي نصبتها، فقال: أقم البيّنة أنك نصبتها من منفعة المسلمين، فشهد له شيبة بن شيخ الأزدي، فأمر مقاتل فصكّ له إلى بيت المال. قال: فكتب أصحاب الحارث إلى الكرماني: نوصيكم بتقوى الله وطاعته وإيثار أئمة الهدى وتحريم ما حرّم الله من دمائكم؛ فإن الله جعل اجتماعنا كان إلى الحراث ابتغاء الوسيلة إلى الله، ونصيحةً في عباده، فعرّضنا أنفسنا للحرب ودماءنا للسفك وأموالنا للتلف، فصغر ذلك كله عندنا في جنب ما نرجو من ثواب الله؛ ونحن وأنتم إخوان في الدين وأنصار على العدوّ، فاتقوا الله وراجعوا الحقّ، فإنا لا نريد سفك الدماء بغير حلها. فأقاموا أيامًا، فأتى الحارث بن سريج الحائط فثلم فيه ثلمة ناحية نوبان عند دار هشام بن أبي الهيثم، فتفرّق عن الحارث أهل البصائر وقالوا: غدرت. فأقام القاسم الشيباني وربيع التيمي في جماعة، ودخل الكرماني من باب سرخس، فحاذى الحارث؛ ومرّ المنخّل بن عمرو الأزدي فقتله السميدع؛ أحد بني العدويّة، ونادى: يا لثارات لقيط! واقتتلوا، وجعل الكرماني على ميمنته داود بن شعيب وإخوته: خالدًا ومزيدًا والمهلب، وعلى ميسرته سورة بن محمد بن عزيز الكندي، في كندة وربيعة. فاشتدّ الأمر بينهم، فانهزم أصحاب الحارث وقتلوا ما بين الثلمة وعسكر الحارث، والحارث على بغل فنزل عنه، وركب فرسًا فضربه، فجرى وانهزم أصحابه، فبقي في أصحابه، فقتل عند شجرة، وقتل أخوه سوادة وبشر بن جرموز وقطن بن المغيرة بن عجرد، وكفّ الكرماني، وقتل مع الحارث مائة، وقتل من أصحاب الكرماني مائة، وصلب الحارث عند مدينة مرو بغير رأس. وكان قتل بعد خروج نصر من مرو بثلاثين يومًا، قتل يوم الأحد لستّ بقين من رجب. وكان يقال: إن الحارث يقتل تحت زيتونة أو شجرة غبيراء. فقتل كذك سنة ثمان وعشرين ومائة. وأصاب الكرماني صفائح ذهب للحارث فأخذها وحبس أمّ ولده ثم خلّى عنها، وكانت عند حاجب بن عمرو بن سلمة بن سكن بن جون بن دبيب. قال: وأخذ أموال من خرج مع نصر، واصطفى متاع عاصم بن عمير، فقال إبراهيم: بم تستحل ماله؟ فقال صالح من آل الوضاح: اسقني دمه، فحال بينه وبينه مقاتل بن سليمان، فأتى به منزله. قال علي:، قال زهير بن الهنيد: خرج الكرماني إلى بشر بن جرموز، وعسكر خارجًا من المدينة؛ مدينة مرو، وبشر في أربعة آلاف، فعسكر الحارث مع الكرماني، فأقام الكرماني أيامًا بينه وبين عسكر بشر فرسخان، ثم تقدّم حتى قرب من عسكر بشر، وهو يريد أن يقاتله، فقال للحارث: تقدّم. وندم الحارث على اتباع الكرماني، فقال: لا تعجل إلى قتالهم، فإني أردّهم إليك، فخرج من العسكر في عشرة فوارس؛ حتى أتى عسكر بشر في قرية الدرزيجان، فأقام معهم وقال: ما كنت لأقاتلكم مع اليمانية، وجعل المضريّون ينسلّون من عسكر الكرماني إلى الحارث حتى لم يبق مع الكرماني مضري غير سلمة بن أبي عبد الله، مولى بني سليم؛ فإنه قال: والله لا أتبع الحارث أبدًا فإني لم أره إلا غادرًا والمهلّب بن إياس، وقال: لا أتبعه فإني لم أره قطّ إلا في خيل تطّرد. فقاتلهم الكرماني مرارًا يقتتلون ثم يرجعون إلى خنادقهم، فمرّةً لهؤلاء ومرّة لهؤلاء، فالتقوا يومًا من أيامهم، وقد شرب مرثد بن عبد الله المجاشعي، فخرج سكران على برذون للحارث، فطعن فصرع، وحماه فوارس من بني تميم؛ حتى تخلص، وعار البرذون، فلما رجع لامه الحارث، وقال: كدت تقتل نفسك، فقال للحارث: إنما تقول ذلك لمكان برذونك، امرأتي طالق إن لم آتك ببرذون أفره من برذونك من عسكرهم، فالتقوا من غد، فقال مرثد: أي برذون في عسكرهم أفره؟ قالوا: برذون عبد الله ابن ديسم العنزي - وأشاروا إلى موقفه - حتى وصل إليه، فلما غشيه رمى ابن ديسم نفسه عن برذونه، وعلّق مرثد عنان فرسه في رمحه، وقاده حتى أتى به الحارث، فقال: هذا مكان برذونك، فلقي مخلد بن الحسن مرثدًا، فقال له يمازحه: ما أهيأ برذون ابن ديسم تحتك! فنزل عنه، وقال: خذه، قال: أردت أن تفضحني! أخذته منا في الحرب وآخذه في السلم! ومكثوا بذلك أيامًا، ثم ارتحل الحارث ليلًا، فأتى حائط مرو فنقب بابًا، ودخل الحائط، فدخل الكرماني، وارتحل، فقالت المضريّة للحارث: قد تركنا الخنادق فهو يومنا، وقد فررت غير مرّة، فترجّل. فقال: أنا لكم فارسًا خير مني لكم راجلًا، قالوا: لا نرضى إلا أن تترجّل، فترجّل وهو بين حائط مرو والمدينة، فقتل اعلحارث وأخوه وبشر بن جرموز وعدّة من فرسان تميم، وانهزم الباقون، وصلب الحارث وصفت مرو لليمن، فهدموا دور المضريّة، فقال نصر بن سيار للحارث حين قتل: يا مدخل الذلّ على قومه ** بعدًا وسحقًا لك من هالك! شؤمك أردى مضرًا كلّها ** وغض من قومك بالحارك ما كانت الأزد وأشياعها ** تطمع في عمرو ولا مالك ولا بني سعد إذا ألجموا ** كل طمر لونه حالك ويقال: بل قال هذه الأبيات نصر لعثمان بن صدقة المازّني. وقالت أم كثير الضبيّة: لا بارك الله في أنثى وعذّبها ** تزوجت مضربًا آخر الدهر أبلغ رجال تميم قول موجعة ** أحللتموها بدار الذلّ والفقر إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ** حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ** هذا المزوني يجبيكم على قهر وقال عبّاد بن الحارث: ألا يا نصر قد برح الخفاء ** وقد طال التمنّي والرجاء وأصبحت المزون بأرض مرو ** تقضّى في الحكومة ما تشاء يجوز قضاؤها في كل حكم ** على مضر وإن جار القضاء وحمير في مجالسها قعود ** ترقرق في رقابهم الدماء فإن مضر بذا رضيت وذلت ** فطال لها المذلّة والشقاء وإن هي أعتبت فيها وإلا ** فحل على عساكرها العفاء وقال: ألا يا أيها المرء ال ** ذي قد شفّه الطرب أفق ودع الذي قد كن ** ت تطلبه ونطّلب فقد حدثت بحضرتنا ** أمور شأنها عجب الأزد رأيتها عزّت ** بمرو وذلت العرب فجاز الصفر لمّا كا ** ن ذاك وبهرج الذهب وقال أبو بكر بن إبراهيم لعلي وعثمان ابني الكرماني: إني لمرتحل أريد بمدحتي ** أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما سبقا الجياد فلم يزالا نجعةً ** لا يعدم الضيف الغريب قراهما يستعليان ويجريان إلى العلا ** ويعيش في كنفيهما حيّاهما أعنى عليًّا إنّه ووزيره ** عثمان ليس يذلّ من والاهما جريًا لكيما يلحقا بأبيهما ** جري الجياد من البعيد مداهما فلئن هما لحقا به لمنصب ** يستعليان ويلحقان أباهما ولئن أبرّ عليهما فلطالما ** جريا فبذّهما وبذّ سواهما فلأمدحنّهما بما قد عاينت ** عني وإن لم أحص كلّ نداهما فهما التقيّان المشار إليهما ** الحاملان الكاملان كلاهما وهما أزالا عن عريكة ملكه ** نصرًا ولا في الذلّ إذ عاداهما نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ** وتقسّمت أسلابه خيلاهما والحارث بن سريج إذا قصدوا له ** حتى تعاور رأسه سيفاهما أخذا بعفو أبيهما في قدره ** إذ عزّ قومهما ومن والاهما وفي هذه السنة وجّه إبراهيم بن محمد أبا مسلم إلى خراسان، وكتب إلى أصحابه: إني قد أمرته بأمري، فاسمعوا منه واقبلوا قوله؛ فإني قد أمّرته على خراسان وما غلب عليه بعد ذلك؛ فأتاهم فلم يقبلوا قوله، وخرجوا من قابل، فالتقوا بمكة عند إبراهيم، فأعلمه أبو مسلم أنهم لم ينفذوا كتابه وأمره، فقال إبراهيم: إني قد عرضت هذا الأمر على غير واحد فأبوه علي، وذلك أنه كان عرض ذلك قبل أن يوجّه أبا مسلم على سليمان بن كثير، فقال: لا ألي اثنين أبدًا، ثم عرضه على إبراهيم بن سلمة فأبى، فأعلمهم أنه أجمع رأيه على أبي مسلم، وأمرهم بالسمع والطاعة، ثم قال: يا عبد الرحمن، إنك رجل منّا أهل البيت؛ فاحتفظ وصيّتي، وانظر هذا الحي من اليمن فأكرمهم، وحلّ بين أظهرهم؛ فإن الله لا يسمّ هذا الأمر إلا بهم؛ وانظر هذا الحي من ربيعة فاتّهمهم في أمرهم، وانظر هذا الحي من مضر؛ فإنهم العدوّ القريب الدار، فاقتل من شككت في أمره ومن كان في أمره شبهة ومن وقع في نفسك منه شيء؛ وإن استطعت ألّا تدع بخراسان لسانًا عربيًا فافعل، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار تتّهمه فاقتله، ولا تخالف هبذا الشيخ - يعني سليمان بن كثير - ولا تعصه، وإذا أشكل عليك أمر فاكتف به مني. ذكر الخبر عن مقتل الضحاك الخارجي وفي هذه السنة قتل الضحاك بن قيس الخارجي، فيما قال أبو مخنف، ذكر ذلك هشام بن محمد عنه. ذكر الخبر عن مقتله وسبب ذلك ذكر أنّ الضحاك لما حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط، وبايعه منصور بن جمهور، ورأى عبد الله بن عمر أنه لا طاقة له به، أرسل إليه؛ إن مقامكم علي ليس بشيء؛ هذا مروان فسر إليه؛ فإن قاتلته فأنا معك، فصالحه على ما قد ذكرت من اختلاف المختلفين فيه. فذكر هشام، عن أبي مخنف؛ أن الضحاك ارتحل عن ابن عمر حتى لقيَ مروان بكفرتوثا من أرض الجزيرة، فقتل الضحاك يوم التقوا. وأما أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، فقال فيما حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم عنه أن الضحاك لما قتل عطية الثعلبي صاحبَه وعامله على الكوفة ملحان بقنطرة السيلحين، وبلغه خبر قتل ملحان وهو محاصر عبد الله بن عمر بواسط، وجّه مكانه من أصحابه رجلًا يقال له مطاعن؛ واصطلح عبد الله بن عمر والضحاك عن أن يدخل في طاعته؛ فدخل وصلى خلفه، وانصرف إلى الكوفة، وأقام ابن عمر فيمن معه بواسط، ودخل الضحاك الكوفة، وكاتبه أهل الموصل ودعوه إلى أن يقدم عليهم فيمكّنوه منها؛ فسار في جماعة جنوده بعد عشرين شهرًا، حتى انتهى إليها، وعليها يومئذ عامل لمروان؛ وهو رجل من بني شيبان من أهل الجزيرة يقال له القطران بن أكمه، ففتح أهل الموصل المدينة للضحاك وقاتلهم القطران في عدّة يسيرة من قومه وأهل بيته حتى قتلوا، واستولى الضحاك على الموصل وكورها. وبلغ مروان خبره وهو محاصر حمص، مشتغل بقتال أهلها، فكتب إلى ابنه عبد الله وهو خليفته بالجزيرة، يأمره أن يسير فيمن معه من روابطه إلى مدينة نصيبين ليشغل الضحاك عن توسط الجزيرة، فشخص عبد الله إلى نصيبين في جماعة روابطه؛ وهو في نحو من سبعة آلاف أو ثمانية، وخلّف بحرّان قائدًا في ألف أو نحو ذلك؛ وسار الضحاك من الموصل إلى عبد الله بنصيبين، فقاتله فلم يكن له قوّة لكثرة من مع الضحاك؛ فهم فيما بلغنا عشرون ومائة ألف، يرزق الفارس عشرين ومائة والراجل والبغال المائة والثمانين في كلّ شهر؛ وأقام الضحاك على نصيبين محاصرًا لها، ووجّه قائدين من قوّاده يقال لهما عبد الملك بن بشر التغلبي، وبدر الذكواني مولى سليمان بن هشام، في أربعة آلاف أو خمسة آلاف حتى وردا الرقة، فقاتلهم من بها من خيل مروان؛ وهم نحو من خمسمائة فارس، ووجّه مروان حين بلغه نزولهم الرقة خيلًا من روابطه؛ فلما دنوا منها انقشع أصحاب الضحاك منصرفين إليه، فاتبعتهم خيله، فاستسقطوا من ساقتهم نيّفًا وثلاثين رجلًا، فقطعهم مروان حين قدم الرقة، ومضى صامدًا إلى الضحاك وجموعه حتى التقيا بموضع يقال له الغزّ من أرض كفرتوثا، فقاتله يومه ذلك؛ فلما كان عند المساء ترجّل الضحاك وترجّل معه من ذوي الثبات من أصحابه نحو من ستة آلاف وأهل عسكره أكثرهم لا يعلمون بما كان منه، وأحدقت بهم خيول مروان فألحّوا عليهم حتى قتلوهم عند العتمة، وانصرف من بقي من أصحاب الضحاك إلى عسكرهم؛ ولم يعلم مروان ولا أصحاب الضحاك أن الضحاك قد قتل فيمن قتل حتى فقدوه في وسط الليل. وجاءهم بعض من عاينه حين ترجّل، فأخبرهم بخبره ومقتله، فبكوه وناحوا عليه، وخرج عبد الملك بن بشر التغلبي القائد الذي كان وجّهه في عسكرهم إلى الرقة حتى دخل عسكر مروان، ودخل عليه فأعلمه أنّ الضحاك قتل، فأرسل معه رسلًا من حرسه، معهم النيران والشمع إلى موضع المعركة، فقلّبا القتلى حتى استخرجوه، فاحتملوه حتى أتوا به مروان، وفي وجهه أكثر من عشرين ضربة، فكبّر أهل عسكر مروان، فعرف أهل عسكر الضحاك أنهم قد علموا بذلك، وبعث مروان برأسه من ليلته إلى مدائن الجزيرة، فطيف به فيها. وقيل: إن الخيبري والضحاك إنما قتلا في سنة تسع وعشرين ومائة. ذكر الخبر عن مقتل الخيبري وولاية شيبان وفي هذه السنة كان أيضًا - في قول أبي مخنف - قتل الخيبري الخارجي، كذلك ذكر هشام عنه. ذكر الخبر عن مقتله حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: لما قتل الضحاك أصبح أهل عسكره بايعوا الخيبري، وأقاموا يومئذ وغادوه من بعد الغد، وصافّوه وصافّهم، وسليمان بن هشام يومئذ في مواليه وأهل بيته مع الخيبري؛ وقد كان قدم على الضحاك وهو بنصيبين؛ وهم في أكثر من ثلاثة آلاف من أهل بيته ومواليه، فتزوّج فيهم أخت شيبان الحروري الذي بايعوه بعد قتل الخيبري، فحمل الخيبري على مروان في نحو من أربعمائة فارس من الشراة، فهزم مروان وهو في القلب، وخرج مروان من المعسكر هاربًا، ودخل الخيبري فيمن معه عسكره، فجعلوا ينادون بشعارهم: يا خيبري يا خيبري، ويقتلون من أدركوا حتى انتهوا إلى حجرة مروان، فقطعوا أطنابها، وجلس الخيبري على فرشه. وميمنة مروان عليها ابنه عبد الله ثابتة على حالهاا، وميسرته ثابتة عليها إسحاق بن مسلم العقيلي، فلما رأى أهل عسكر مروان قلة من مع الخيبري ثار إليه عبيد من أهل العسكر بعمد الخيام، فقتلوا الخيبري وأصحابه جميعًا في حجرة مروان وحولها، وبلغ مروان الخبر وقد جاز العسكر بخمسة أميال أو ستة منهزمًا، فانصرف إلى عسكره وردّ خيوله عن مواضعها ومواقفها، وبات ليلته تلك في عسكره. فانصرف أهل عسكر الخيبري فولّوا عليهم شيبان وبايعوه، فقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ. وكان مروان يوم الخيبري بعث محمد بن سعيد، وكان من ثقاته وكتابه إلى الخيبري، فبلغه أنه ما لأهم وانحاز إليهم يومئذ، فأتيَ به مروان أسيرًا فقطع يده ورجله ولسانه. وفي هذه السنة وجّه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة إلى العراق لحرب من بها من الخوارج. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز؛ كذلك قال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه. وكذلك قال الواقدي وغيره. وقال الواقدي: وافتتح مروان حمص وهدم سورها، وآخذ نعيم بن ثابت الجزامي فقتله في شوال سنة ثمان، وقد ذكرنا من خالفه في ذلك قبل. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف - فيما ذكر - في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وبالعراق عمّال الضحاك وعبد الله بن عمر، وعلى قضاء البصرة ثُمامة بن عبد الله، وبخراسان نصر بن سيّار وخراسان مفتونة. خبر أبي حمزة الخارجي مع عبد الله بن يحيى وفي هذه السنة لقي أبو حمزة الخارجي عبد الله بن يحيى طالب الحق فدعاه إلى مذهبه. ذكر الخبر عن ذلك حدثني العباس بن عيسى العقيلي، قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي، قال: حدثني موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال: كان أوّل أمر أبي حمزة - وهو المختار بن عوف الأزدي السبّليمي من البصرة - قال موسى: كان أول أمر أبي حمزة أنه كان يوافي كلّ سنة مكة يدعو الناس إلى خلاف مروان بن محمد وإلى خلاف آل مروان. قال: فلم يزل يختلف في كلّ سنة حتى وافى عبد الله بن يحيى في آخر سنة ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل، أسمع كلامًا حسنًا، وأراك تدعو إلى حقّ، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج حتى ورد حضرموت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، ودعا إلى خلاف مروان وآل مروان. وقد حدثني محمد بن حسن أن أبا حمزة مرّ بمعدن بني سليم وكثير بن عبد الله عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد سبعين سوطًا، ثم مضى إلى مكّة، فلما قدم أبو حمزة المدينة حين افتتحها تغيّب كثير حتى كان من أمرهم ما كان. ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر هلاك شيبان بن عبد العزيز الحروري فمن ذلك ما كان من هلاك شيبان بن عبد العزيز اليشكري أبي الدلفاء. ذكر الخبر عن سبب مهلكه وكان سبب ذلك أنّ الخوارج الذين كانوا بإزاء مروان بن محمد يحاربونه لمّا قتل الضحاك بن قيس الشيباني رئيس الخوارج والخيبري بعده، ولّوا عليهم شيبان وبايعوه؛ فقاتلهم مروان، فذكر هشام بن محمد والهيثم بن عدي أنّ الخيبري لما قتل قال سليمان بن هشام بن عبد الملك للخوارج - وكان معهم في عسكرهم: إنّ الذي تفعلون ليس برأي؛ فإن أخذتم برأيي، وإلا انصرفت عنكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: إنّ أحدكم يظفر ثم يستقتل فيقتل، فإني أرى أن ننصرف على حاميتنا حتى ننزل الموصل، فنخندق. ففعل وأتبعه مروان والخوارج في شرقي دجلة ومروان بإزائهم؛ فاقتتلوا تسعة أشهر، ويزيد بن عمر بن هبيرة بقرقيسيا في جند كثيف من أهل الشأم وأهل الجزيرة، فأمره مروان أن يسير إلى الكوفة، وعليها يومئذ المثنّى بن عمران؛ من عائذة قريش من الخوارج. وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلّد بن محمد، قال: كان مروان بن محمد يقاتل الخوارج بالصّف، فلما قتل الخيبري وبويع شيبان، قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس، وأبطل الصفّ منذ يومئذ، وجعل الآخرون يكردسون بكراديس مروان كراديس تكافئهم وتقاتلهم، وتفرّق كثير من أصحاب الطمع عنهم وخذلوهم، وحصلوا في نحو من أربعين ألفًا، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن ينصرفوا إلى مدينة الموصل، فيصيّروها ظهرًا وملجأً وميرةً لهم، فقبلوا رأيه، وارتحلوا ليلًا، وأصبح مروان فأتبعهم؛ ليس يرحلون عن منزل إلا نزله؛ حتى انتهوا إلى مدينة الموصل، فعسكروا على شاطىء دجلة من عسكرهم إلى المدينة؛ فكانت ميرتهم ومرافقهم منها، وخندق مروان بإزائهم، فأقام ستة أشهر يقاتلهم بكرة وعشيّةً. قال: وأتيَ مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، يقال له أمية بن معاوية بن هشام، وكان مع عمه سليمان بن هشام في عسكر شيبان بالموصل؛ فهو مبارز رجلًا من فرسان مروان، فأسره الرجل فأتيَ به أسيرًا، فقال له: أنشدك الله والرحِم يا عمّ! فقال: ما بيني وبينك اليوم من رحم، فأمر به - وعمه سليمان وإخوته ينظرون - فقطعت يداه وضربت عنقه. قال: وكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بالمسير من قرقيسيا بجميع من معه إلى عبيدة بن سوّار خليفة الضحاك بالعراق، فلقي خيوله بعين التمر، فقاتلهم فهزمهم؛ وعليهم يومئذ المثنّى بن عمران من عائذة قريش والحسن بن يزيد؛ ثم تجمّعوا له بالكوفة بالنّخيلة، فهزمهم، ثم اجتمعوا بالصّراة ومعهم عبيدة؛ فقاتلهم فقتل عبيدة، وهزم أصحابه، واستباح ابن هبيرة عسكرهم، فلم يكن لهم بقيّة بالعراق، واستولى ابن هبيرة عليها، وكتب إليه مروان بن محمد من الخنادق يأمره أن يمدّه بعامر بن ضبارة المرّي، فوجّهه في نحو من ستة آلاف أو ثمانية؛ وبلغ شيبان خبرهم ومن معه من الحرورية، فوجّهوا غليه قائدين في أربعة آلاف، يقال لهما ابن غوث والجون، فلقوا ابن ضبارة بالسنّ دون الموصل، فقاتلوه قتالَا شديدًا، فهزمهم ابن ضبارة، فلما قدم فلهم أشار عليهم سليمان بالارتحال عن الموصل، وأعلمهم أنه لا مقام لهم إذ جاءهم ابن ضبارة من خلفهم، وركبهم مروان من بين أيديهم؛ فارتحلوا فأخذوا على حلوان إلى الأهواز وفارس، ووجّه مروان إلى ابن ضبارة ثلاثة نفر من قوّاده في ثلاثين ألفًا من روابطه؛ أحدهم مصعب بن الصحصح الأسدي وشقيق وعطيف السليماني، وشقيق الذي يقول فيه الخوارج: قد علمت أختاك يا شقيق ** أنك من سكرك ما تفيق وكتب إليه يأمره أن يتبعهم، ولا يقلع عنهم حتى يبيرهم ويستأصلهم، فلم يزل يتبعهم حتى وردوا فارس، وخرجوا منها وهو في ذلك يستسقط من لحق من أخرياتهم، فتفرّقوا، وأخذ شيبان في فرقته إلى ناحية البحرين، فقتل بها، وركب سليمان فيمن معه من مواليه وأهل بيته السفن إلى السند، وانصرف مروان إلى منزله من حرّان، فأقام بها حتى شخص إلى الزاب. وأمّا أبو مخنف فإنه قال - فيما ذكر هشام بن محمد عنه - قال: أمر مروان يزيد بن عمر بن هبيرة - وكان في جنود كثيرة من الشأم وأهل الجزيرة بقرقيسيا - أن يسير إلى الكوفة، وعلى الكوفة يومئذ رجل من الخوارج يقال له المثنّى بن عمران العائذي؛ عائذة قريش، فسار إليه ابن هبيرة على الفرات حتى انتهى إلى عين التمر، ثم سار فلقي المثنى بالروحاء، فوافى الكوفى في شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فهزم الخوارج، ودخل ابن هبيرة الكوفة ثم سار إلى الصراة، وبعث شيبان عبيدة بن سوّار في خيل كثيرة، فعسكر في شرقي الصراة، وابن هبيرة في غربيّها، فالتقوا، فقتل عبيدة وعدّة من أصحابه؛ وكان منصور بن جمهور معهم في دور الصراة، فمضى حتى غلب على الماهين وعلى الجبل أجمع، وسار ابن هبيرة إلى واسط؛ فأخذ ابن عمر فحبسه، ووجّه نباتة بن حنظلة إلى سليمان بن حبيب وهو على كور الأهواز، وبعث إليه سليمان داود بن حاتم، فالتقوا بالمريان على شاطىء دجيل، فانهزم الناس، وقتل داود بن حاتم. وفي ذلك يقول خلف بن خليفة: نفسي لداود الفدا والحمى ** إذ أسلم الجيش أبا حاتم مهلّبي مشرق وجهه ** ليس على المعروف بالنادم سألت من يعلم لي علمه ** حقًا وما الجاهل كالعالم قالوا عهدناه على مرقب ** يحمل كالضرغامة الصارم ثم انثنى منجدلًا في دم ** يسفح فوق البدن الناعم وأقبل القبط على رأسه ** واختصموا في السيف والخاتم وسار سليمان حتى لحق بابن معاوية الجعفري بفارس. وأقام ابن هبيرة شهرًا. ثم وجّه عامر بن ضبارة في أهل الشأم إلى الموصل؛ فسار حتى انتهى إلى السنّ فلقيه بها الجون بن كلاب الخارجي، فهزم عامر بن ضبارة حتى أدخله السنّ فتحصّن فيها، وجعل مروان يمدّه بالجنود يأخذون طريق البرّ؛ حتى انتهوا إلى دجلة، فقطعوها إلى ابن ضبارة حتى كثروا. وكان منصور بن جمهور يمدّ شيبان بالأموال من كور الجبل؛ فلما كثر من يتبع ابن ضبارة من الجنود؛ نهض إلى الجون بن كلاب فقتل الجون، ومضى ابن ضبارة مصعدًا إلى الموصل.؛ فلما انتهى خبر الجون وقتله إلى شيبان ومسير عامر بن ضبارة نحوه، كره أن يقيم بين العسكرين؛ فارتحل بمن معه وفرسان الشأم من اليمانية. وقدم عامر بن ضبارة بمن معه على مروان بالموصل، فضمّ إليه جنودًا من جنوده كثيرة، وأمره أن يسير إلى شيبان؛ فإن أقام أقام؛ وإن سار سار؛ وألّا يبدأه بقتال؛ فإن قاتله شيبان قاتله؛ وإن امسك أمسك عنه، وإن ارتحل اتّبعه؛ فكان على ذلك حتى مرّ على الجبل، وخرج على بيضاء إصطخر، وبها عبد الله بن معاوية أيامًا، ثم ناهضه القتال، فانهزم ابن معاوية، فلحق بهراة وسار ابن ضبارة بمن معه، فلقي شيبان بجيرفت من كرمان، فاقتتلوا قتالًا شديدًا وانهزمت الخوارج، واستبيح عسكرهم؛ ومضى شيبان إلى سجستان، فهلك هبا؛ وذلك في سنة ثلاثين ومائة. وأما أبو عبيدة فإنه قال: لما قتل الخيبري قام بأمر الخوارج شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فحارب مروان، وطالت الحرب بينهما؛ وابن هبيرة بواسط قد قتل عبيدة بن سوار ونفى الخوارج ومعه رءوس قوّاد أهل الشأم وأهل الجزيرة. فوجّه عامر بن ضبارة في أربعة آلاف مددًا لمروان، فأخذ على باب المدائن، وبلغ مسيره شيبان، فخاف أن يأتيهم مروان، فوجّه إليه الجون بن كلاب الشيباني ليشغله، فالتقيا بالسنّ، فحصر الجون عامرًا أيامًا. قال أبو عبيدة: قال أبو سعيد: فأحرجناهم والله، واضطررناهم إلى قتالنا؛ وقد كانوا خافونا وأرادوا الهرب منا؛ فلم ندع لهم مسلكًا. فقال لهم عامر: أنتم ميّتون لا محالة؛ فموتوا كرامًا، فصدمونا صدمة لم يقم لها شيء، وقتلوا رئيسنا الجون بن كلاب، وانكشفنا حتى لحقنا بشيبان، وابن ضبارة في آثارنا؛ حتى نزل منّا قريبًا؛ وكنا نقاتل من وجهين؛ نزل ابن ضبارة من ورائنا ممّا يلي العراق، ومروان أمامنا مما يلي الشأم؛ فقطع عنا المادّة والميرة، فغلت أسعارنا؛ حتى بلغ الرغيف درهمًا؛ ثم ذهب الرغيف فلا شيء يشترى بغالٍ ولا رخيص. فقال حبيب بن خدرة لشيبان: يا أمير المؤمنين؛ إنك في ضيق من المعاش؛ فلو انتقلت إلى غير هذا الموضع! ففعل ومضى شهرزور من أرض الموصل، فعاب ذلك عليه أصحابه؛ فاختلفت كلمتهم. وقال بعضهم: لما ولي شيبان أمر الخوارج رجع بأصحابه إلى الموصل فاتّبعه مروان ينزل معه حيث نزل فقاتله شهرًا ثم انهزم شيبان حتى لحق بأرض فارس، فوجه مروان في أثره عامر بن ضبارة فقطع إلى جزيرة ابن كاوان، ومضى شيبان بمن معه حتى صار إلى عمان، فقتله جلندي بن مسعود ابن جيفر بن جلندي الأزدي. ذكر إظهار الدعوة العباسية بخراسان وفي هذه السنة أمر إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أبا مسلم، وقد شخص من خراسان يريده حتى بلغ قومس، بالانصراف إلى شيعته بخراسان، وأمرهم بإظهار الدعوة والتسويد. ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان الأمر فيه قال علي بن محمد عن شيوخه: لم يزل أبو مسلم يختلف إلى خُراسان، حتى وقعت العصبيّة بها؛ فلما اضطرب الحبل، كتب سليمان بن كثير إلى أبي سلمة الخلّال يسأله أن يكتب إلى إبراهيم، يسأله أن يوجّه رجلًا من أهل بيته. فكتب أبو سلمة إلى إبراهيم، فبعث أبا مسلم. فلما كان في سنة تسع وعشرين ومائة، كتب إبراهيم إلى أبي مسلم يأمره بالقدوم عليه ليسأله عن أخبار الناس، فخرج في النصف من جمادى الآخرة مع سبعين نفسًا من النقباء، فلما صار بالدّندانقان من أرض خراسان عرض له كامل - أو أبو كامل - قال: أين تريدون؟ قالوا: الحجّ، ثم خلا به أبو مسلم، فدعاه فأجابهم، وكفّ عنهم، ومضى أبو مسلم إلى بيورد، فأقام بها أيامًا، ثم سار إلى نسا؛ وكان بها عاصم بن قيس السلمي عاملًا لنصر بن سيار الليثي؛ فلما قرب منها أرسل الفضل بن سليمان الطوسي إلى أسيد بن عبد الله الخزاعي ليعلمه قدومه، فمضى الفضل فدخل قريةً من قرى نسا، فلقي رجلًا من الشيعة يعرفه، فسأله عن أسيد، فانتهره، فقال: يا عبد الله، ما أنكرت من مسأتلي عن منزل رجل؟ قال: إنه كان في هذه القرية شرّ، سعيَ برجلين قدما إلى العامل، وقيل إنهما داعيان، فأخذهما، وأخذ الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب بن سعيد والمهاجر بن عثمان؛ فانصرف الفضل إلى أبي مسلم وأخبره، فتنكّب الطريق، وأخذ في أسفل القرى، وأرسل طرخان الجمّال إلى أسيد، فقال: ادعه لي ومن قدرت عليه من الشيعة، وإياك أن تكلم أحدًا لم تعرفه، فأتى طرخان أسيدًا فدعاه، وأعلمه بمكان أبي مسلم، فأتاه فسأله عن الأخبار، قال: نعم، قدم الأزهر بن شعيب وعبد الملك بن سعد بكتب من الإمام إليك، فخلّفا الكتب عندي وخرجا، فأخذا فلا أدري من سعى بهما! فبعث بهما العامل إلى عاصم بن قيس، فضرب المهاجرين عثمان وناسًا من الشيعة. قال: فأين الكتب؟ قال: عندي، قال: فأتني بها فأتاه بالكتب فقرأها. قال: ثم سار حتى أتى قومس، وعليها بيهس بن بديل العجلي، فأتاهم بيهس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: الحجّ، قال: أفمعكم فضل برذون تبيعونه؟ قال أبو مسلم: أما بيعًا فلا؛ ولكن خذ أي دوابّنا ششئت؛ قال: اعرضوها علي، فعرضوها، فأعجبه برذون منها سمند، فقال أبو مسلم: هو لك، قال: لا أقبله إلّا بثمن، قال: احتكم، قال: سبعمائة، قال: هو لك. وأتاه وهو بقومس كتاب من الإمام إليه وكتاب إلى سليمان بن كثير؛ وكان في كتاب أبي مسلم: إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث ألفاك كتابي، ووجّه إلي قحطبة بما معك يوافني به في الموسم. فانصرف أبو مسلم إلى خراسان، ووجّه قحطبة إلى الإمام، فلما كانوا بنسا عرض لهم صاحب مسلحه في قرية من قرى نسا، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: أردنا الحجّ، فبلغنا عن الطريق شيء خفناه، فأوصلهم إلى عاصم بن قيس السلمي، فسألهم فأخبروه، فقال: ارتحلوا وأمر المفضل بن الشرقي السلمي - وكان على شُرطته - أن يزعجهم، فخلا به أبو مسلم وعرض عليه أمرهم، فأجابه، وقال: ارتحلوا على مهل، ولا تعجلوا. وأقام عندهم حتى ارتحلوا. فقدم أبو مسلم مرو في أول يوم من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة، ودفع كتاب الإمام إلى سليمان بن كثير، وكان فيه أن أظهر دعوتك ولا تربّص، فقد آن ذلك. فنصبوا أبا مسلم، وقالوا: رجل من أهل البيت، ودعوا إلى طاعة بني العباس، وأرسلوا إلى من قرب منهم أو بعد ممن أجابهم، فأمروه بإظهار أمرهم والدعاء إليهم. ونزل أبو مسلم قريةً من قرى خزاعة يقال لها سفيذنج، وشيبان والكرماني يقاتلان نصر بن سيار، فبثّ أبو مسلم دعاته في الناس، وظهر أمره، وقال الناس: قدم رجل من بني هاشم، فأتوه من كلّ وجه، فظهر يوم الفطر في قرية خالد بن إبراهيم. فصلى بالناس يوم الفطر القاسم بن مجاشع المرائي، ثم ارتحل فنزل بالين - ويقال قرية اللين - لخزاعة، فوافاه في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام اثنين وأربعين يومًا؛ فكان أوّل فتح أبي مسلم من قبل موسى بن كعب في بيودر، وتشاغل بقتل عاصم بن قيس، ثم جاء فتح من قبل مروروذ. قال أبو جعفر: وأما أبو الخطاب فإنه قال: كان مقدم أبي مسلم أرض مرو منصرفًا من قومس، وقد أنفذ من قومس قحطبة بن شبيب بالأموال التي كانت معه والعروض إلى الإمام إبراهيم بن محمد، وانصرف إلى مرو، فقدمها في شعبان سنة تسع وعشرين ومائة لتسع خلون منه يوم الثلاثاء، فنزل قرية تدعى فنين على أبي الحكم عيسى بن أعين النقيب، وهي قرية أبي داود النقيب، فوجّه منها أبا داود ومعه عمرو بن أعين إلى طخارستان فما دون بلخ بإظهار الدعوة في شهر رمضان من عامهم، ووجّه النضر بن صبيح التميمي ومعه شريك بن غضي التميمي إلى مرو الروذ بإظهار الدعوة في شهر رمضان، ووجّه أبا عاصم عبد الرحمن بن سليم إلى الطالقان، ووجه أبا الجهم بن عطيّة إلى العلاء بن حريث بخوارزم بإظهار الدعوة في شهر رمضان لخمس بقين من الشهر، فإن أعجلهم عدوّهم دون الوقت، فعرض لهم بالأذى والمكروه فقد حلّ لهم أن يدفعوا عن أنفسهم، وأن يظهروا السيوف ويجرّدوها من أغمادها، ويجاهدوا أعداء الله ومن شغلهم عدوّهم عن الوقت فلا حرج عليهم أن يظهروا بعد الوقت. ثم تحوّل أبو مسلم عن منزل أبي الحكم عيسى بن أعين، فنزل على سليمان ابن كثير الخزاعي في قريته التي تدعى سفيذنج من ربع خرقان لليلتين خلتا من شهر رمضان من سنة تسع وعشرين ومائة، فلما كانت ليلة الخميس لخمس بقين من شهر رمضان سنة تسع وعشرين ومائة اعتقدوا اللواء الذي بعث به الإمام إليه الذي يُدعى الظلّ، على رمح طوله أربعة عشر ذراعًا، وعقد الراية التي بعث بها الإمام التي تدعى السحاب على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعًا، وهو يتلو: " أُذنَ للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير "، ولبس السوّاد هو وسليمان بن كثير وإخوة سليمان ومواليه ومن كان أجاب الدعوة من أهل سفيذنج، منهم غيلان بن عبد الله الخزاعي - وكان صهر سليمان على أخته أم عمرو بنت كثير - ومنهم حميد بن رزين وأخوه عثمان بن رزين، فأقوقدوا النيران ليلتهم أجمع للشيعة من سكان ربع خرقان - وكانت العلامة بين الشيعة - فتجمعوا له حين أصبحوا مغذّين، وتأويل هذين الاسمين: الظلّ والسحاب، أن السحاب يطبّق الأرض؛ وكذلك دعوة بني العباس، وتأويل الظلّ أن الأرض لا تخلو من الظلّ أبدًا، وكذلك لا تخلو من خليفة عباسي أبد الدهر. وقدم على أبي مسلم الدعاة من أهل مرو بمن أجاب الدعوة؛ وكان أوّل من قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح الهرمزفرّي عيسى بن شبيل في تسعمائة رجل وأربعة فرسان، وم أهل هرمزفرة سليمان بن حشان وأخوه يزدان بن حسان والهيثم بن يزيد بن كيسان؛ وبويع مولى نصر بن معاوية وأبو خالد الحسن وجردى ومحمد بن علوان، وقدم أهل السقادم مع أبي القاسم محرز بن إبراهيم الجوباني في ألف وثلثمائة راجل وستة عشر فارسًا. ومنهم من الدعاة أبو العباس المرّوزي وخذام بن عمّار وحمزة بن زنيم، فجعل أهل السقادم يكبّرون من ناحيتهم وأهل السقادم مع محرز بن إبراهيم يجيبونهم بالتكبير؛ فلم يزالوا كذلك حتى دخلوا عسكر أبي مسلم بسفيذنج؛ وذلك يوم السبت من بعد ظهور أبي مسلم بيومين. وأمر أبو مسلم أن يرمّ حصن سفيذنج ويحصّن ويدرّب؛ فلما حضر العيد يوم الفطر بسفيذنج أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي به وبالشيعة، ونصب له منبرًا في العسكر، وأمره أن يبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة - وكانت بنو أميّة تبدأ بالخطبة والأذان، ثم الصلاة بالإقامة على صلاة يوم الجمعة، فيخطبون على المنابر جلوسًا في الجمعة والأعياد - وأمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يكبّر الركعة الأولى ست تكبيرات تباعًا، ثم يقرأ ويركع بالسابعة، ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات تباعًا. ثم يقرأ ويركع بالسادسة. ويفتتح الخطبة بالتكبير ويختمها بالقرآن، وكانت بنو أمية تكبر في الركعة الأولى أربع تكبيرات يوم العيد، وفي الثانية ثلاث تكبيرات. فلما ضقى سليمان بن كثير الصلاة والخطبة انصرف أبو مسلم والشيعة إلى طعام قد أعدّه لهم أبو مسلم الخراساني، فطعموا مستبشرين. وكان أبو مسلم وهو في الخندق إذا كتب إلى نصر بن سيار يكتب: للأمير نصر؛ فلما قوي أبو مسلم بمن اجتمع إليه في خندقه من الشيعة بدأ بنفسه، فكتب إلى نصر: أما بعد، فإن الله تبارك أسماؤه وتعالى ذكره عيّر أقوامًا في القرآن فقال: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلّا نفورًا. استكبارًا في الأرض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيء إلّا بأهله فهل ينظرون إل سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنه الله تحويلًا. فتعاظم نصرٌ الكتاب وأنه بدأ بنفسه، وكسر له إحدى عينيه وأطال الفكرة وقال: هذا كتاب له جواب. فلما استقرّ بأبي مسلم معسكره بالماخوان أمر محرز ابن إبراهيم أن يخندق خندقًا بجيرنج، ويجتمع إليه أصحابه ومن نزع إليه من الشيعة، فيقطع مادّة نصر بن سيار من مرور وذوبلخ وكورطخارستان. ففعل ذلك محرز بن إبراهيم، واجتمع له في خندق نحو من ألف رجل، فأمر أبو مسلم أبا صالح كامل بن مظفر أن يوجه رجلًا إلى خندق محرز بن إبراهيم لعرض من فيه وإحصائهم في دفتر بأسمائهم وأسماء آبائهم وقراهم، فوجّه أبو صالح حميدًا الأزرق لذلك، وكان كاتبًا، فأحصى في خندق محرز ثمانمائة رجل وأربعة رجال من أهل الكفّ؛ وكان فيهم من القوّاد المعروفين زياد بن سيّار الأزدي من قرية تدعى أسبوادق من ربع خرقان، وخذام بن عمار الكندي من ربع السقادم ومن قرية تدعى بالأوايق، وحنيفة بن قيس من ربع السقادم، ومن قرية تدعى الشنج، وعبدويه الجردامذ بن عبد الكريم من أهل هراة، وكان يجلب الغنم إلى مرو، وحمزة بن زنيم الباهلي من ربع خرقان من قرية تدعى ميلاذجرد، وأبو هاشم خليفة بن مهران من ربع السقادم من قرية تدعى جوبان وأبو خديجة جيلان بن السغدي وأبو نعيم موسى بن صبيح. فلم يزل محرز بن إبراهيم مقيمًا في خندقه حتى دخل أبو مسلم حائط مرو، وعطل الخندق بماخوان وإلى أن عسكر بمارسرجس يريد نيسابور؛ فضمّ إليه محرز بن إبراهيم أصحابه؛ وكان من الأحداث، وأبو مسلم بسفيذنج، وكان نصر بن سيار وجّه مولى له يقال له يزيد في خيل عظيمة لمحاربة أبي مسلم بعد ثمانية عشر شهرًا من ظهوره، فوجّه إليه أبو مسلم مالك ابن الهيثم الخزاعي ومعه مصعب بن قيس، فالتقوا بقرية تدعى آلين، فدعاهم مالك إلى الرضا من آل رسول الله ﷺ، فاستكبروا عن ذلك، فصافّهم مالك وهو في نحو من مائتين من أوّل النهار إلى وقت العصر. وقدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبي وإبراهيم بن يزيد وزياد بن عيسى فوجّههم إلى مالك بن الهيثم، فقدموا عليه مع العصر، فقوى بهم أبو نصر، فقال يزيد مولى نصر بن سيار لأصحابه: إن تركنا هؤلاء الليلة أتتهم الأمداد، فاحملوا على القوم؛ ففعلوا، وترجّل أبو نصر وحضّ أصحابه، وقال: إني لأرجو أن يقطع الله من الكافرين طرفًا، فاجتلدوا جلادًا صادقًا، وصبر الفريقان، فقتل من شيعة بني مروان أربعة وثلاثون رجلًا، وأسر منهم ثمانية نفر، وحمل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر عميد القوم فأسره، وانهزم أصحابه، فوجّه أبو نصر عبد الله الطائي بأسيره في رجال من الشيعة، ومعهم الأسرى والرءوس، وأقام أبو نصر في معسكره بسفيذنج، وفي الوفد أبو حماد المروزي وأبو عمرو الأعجمي، فأمر أبو مسلم بالرءوس فنصبت على باب الحائط الذي في معسكره، ودفع يزيد الأسلمي إلى أبي إسحاق خالد بن عثمان، وأمره أن يعالج يزيد مولى نصر من جراحات كانت به، ويحسن تعاهده، وكتب إلى أبي نصر بالقدوم عليه، فلما اندمل يزيد مولى نصر من جراحاته دعاه أبو مسلم، فقال: إن شئت أن تقيم معنا وتدخل في دعوتنا فقد أرشدك الله، وإن كرهت فارجع إلى مولاك سالمًا، وأعطنا عهد الله ألّا تحاربنا وألّا تكذب علينا، وأن تقول فينا ما رأيت؛ فاختار الرجوع إلى مولاه، فخلى له الطريق. وقال أبو مسلم: إنّ هذا سيردّ عنكم أهل الورع والصلاح. فإنّا عندهم على غير الإسلام. وقدم يزيد على نصر بن سيار؛ فقال: لا مرحبًا بك؛ والله ما ظننت استبقاك القوم إلّا ليتخذوك حجة علينا، فقال يزيد: فهو والله ما ظننت، وقد استحلفوني ألّا أكذب عليهم، وأنا أقول: إنهم يصلون الصلوات لمواقيتها بأذان وإقامة، ويتلون الكتاب، ويذكرون الله كثيرًا، ويدعون إلى ولاية رسول الله ﷺ؛ وما أحسب أمرهم إلا سيعلو؛ ولولا أنك مولاي أعتقتني من الرقّ ما رجعتُ إليك، ولأقمت معهم. فهذه أول حرب كانت بين الشيعة وشيعة بني مروان. وفي هذه السنة غلب خازم بن خزيمة على مروروذ، وقتل عامل نصر بن سيّار الذي كان عليها؛ وكتب بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد أن أبا الحسن الجشمي وزهير بن هنيد والحسن ابن رشيد أخبروه أن خازم بن خزيمة لما أراد الخروج بمروروذ أراد ناس من تميم أن يمنعوه، فقال: إنما أنا رجل منكم، أريد مرو لعلي أن أغلب عليها، فإن ظفرت فهي لكم، وإن قتلت فقد كفيتكم أمري. فكفّوا عنه، فخرج فعسكر في قرية يقال لها كنج رستاه، وقدم عليهم من قبل أبي مسلم النضر بن صبيح وبسام بن إبراهيم. فلما أمسى خازم بيّت أهل مروروذ، فقتل بشر بن جعفر السعدي - وكان عاملًا لنصر بن سيار على مروروذ - في أول ذي القعدة، وبعث بالفتح إلى أبي مسلم مع خزيمة بن خازم عبد الله بن سعيد وشبيب بن واج. قال أبو جعفر: وقال غير الذين ذكرنا قولهم في أمر أبي مسلم وإظهاره الدعوة ومصيره إلى خراسان وشخوصه عنها وعوده إليها بعد الشخوص قولًا خلاف قولهم؛ والذي قال في ذلك: أنذ إبراهيم الإمام زوّج أبا مسلم لما توجّه إلى خراسان ابنة أبي النجم، وساق عنه صداقها، وكتب بذلك إلى الننقباء، وأمرهم بالسمع والطاعة لأبي مسلم، وكان أبو مسلم - فيما زعم - من أهل خطرنية، من سواد الكوفة، وكان قهرمانًا لإدريس بن معقل العجلي، فآل أمره ومنتهى ولائه لمحمد بن علي، ثم لإبراهيم بن محمد، ثم للأئمة من أولاد محمد ابن علي فقدم خراسان وهو حديث السنّ، فلم يقبله سليمان بن كثير وتخوّف ألّا يقوى على أمرهم، وخاف على نفسه وأصحابه، فردّوه - وأبو داود خالد بن إبراهيم غائب خلف نهر بلخ - فلما انصرف أبو داود، وقدم مرو أقرأه كتاب الإمام إبراهيم، فسأل عن الرجل الذي وجّهه، فأخبروه أنّ سليمان بن كثير ردّه، فأرسل إلى جميع النقباء، فاجتمعوا في منزل عمران بن إسماعيل، فقال لهم أبو داود: أتاكم كتاب الإمام فيمن وجّهه إليكم وأنا غائب فرددتموه، فما حجّتكم في ردّه؟ فقال سليمان بن كثير: لحداثة سنه، وتخوّفًا ألّا يقدر على القيام بهذا الأمر؛ فأشفقنا على من دعونا إليه وعلى أنفسنا وعلى المجيبين لنا، فقال: هل فيكم أحد ينكر أن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وانتخبه واصطفاه، وبعثه برسالته إلى جميع خلقه؟ فهل فيكم أحد ينكر ذلك؟ قالوا: لا؛ قال: أفتشكون أنّ الله تعالى نزّل عليه كتابه فأتاه به جبريل الروح الأمين، أحلّ فيه حلاله، وحرّم فيه حرامه، وشرّع فيه شرائعه، وسنّ فيه سننه، وأنبأه فيه بما كان قبله، وما هو كائن بعده إلى يوم القيامة؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أن الله عز وجل قبضه إليه بعد ما أدّى ما عليه من رسالة ربه؟ قالوا: لا، قال: أفتظنّون أن ذلك العلم الذي أنزل عليه رفع معه أو خلّفه؟ قالوا: بل خلّفه، قال: أفتظنونه خلّفه عند غير عترته وأهل بيته، الأقرب فالأقرب؟ قالوا: لا، قال: فهل أحد منكم إذا رأى من هذا الأمر إقبالًا، ورأى الناس له مجيبين بدا له أن يصرف ذلك إلى نفسه؟ قالوا: اللهم لا، وكيف يكون ذلك! قال: لست أقول لكم فعلتم؛ ولكن الشيطان ربما نزع النزعة فيما يكون وفيما لا يكون. قال: فهل فيكم أحد بدا له أن يصرف هذا الأمر عن أهل البيت إلى غيرهم من عترة النبي ﷺ؟ قالوا: لا، قال: أفتشكون أنهم معدن العلم وأصحاب ميراث رسول الله ﷺ؟ قالوا: لا، قال: فأراكم شككتم في أمرهم ورددتم عليهم علمهم؛ ولو لم يعلموا أن هذا الرجل هو الذي ينبغي له أن يقوم بأمرهم، لما بعثوه إليكم، وهو لا يتهم في موالاتهم ونصرتهم والقيام بحقهم. فبعثوا إلى أبي مسلم فردوه من قومس بقول أبي داود؛ وولّوه أمرهم وسمعوا له وأطاعوا. ولم تزل في نفس أبي مسلم على سليمان بن كثير، ولم يزل يعرفها لأبي داود. وسمعت الشيعة من النقباء وغيرهم لأبي مسلم، وأطاعوه وتنازعوا، وقبلوا ما جاء به، وبثّ الدعاة في أقطار خراسان؛ فدخل الناس أفواجًا، وكثروا، وفشت الدعاة بخراسان كلها. وكتب إليه إبراهيم الإمام يأمره أن يوافيه بالموسم في هذه السنة - وهي سنة تسع وعشرين ومائة -، ليأمره بأمره في إظهار دعوته، وأن يقدم معه بقحطبة بن شبيب، ويحمل إليه ما اجتمع عنده من الأموال؛ وقد كان اجتمع عنده ثلثمائة ألف وستون ألف درهم، فاشترى بعامّتها عروضًا من متاع التجار؛ من القوهي والمروي والحرير والفرند، وصيّر بقيته سبائك ذهب وفضة وصيّرها في الأقبية المحشوّة، واشترى البغال وخرج في النصف من جمادى الآخرة، ومعه من النقباء قحطبة بن شبيب والقاسم بن مجاشع وطلحة بن رزيق؛ ومن الشيعة واحد وأربعون رجلًا، وتحمل من قرى خزاعة، وحمل أثقاله على واحد وعشرين بغلًا، وحمل على كلّ بغل رجلًا من الشيعة بسلاحه، وأخذ المفازة وعدا عن مسلحة نصر بن سيار حتى انتهوا إلى أبيورد. فكتب أبو مسلم إلى عثمان بن نهيك وأصحابه يأمرهم بالقدوم عليه، وبينه وبينهم خمسة فراسخ، فقدم عليه منهم خمسون رجلًا، ثم ارتحلوا من أبيورد؛ حتى انتهوا إلى قرية يقال لها قافس؛ من قرى نسا، فبعث الفضل ابن سليمان إلى أندومان - قرية أسيد - فلقي بها رجلًا من الشيعة، فسأله عن أسيد، فقال له الرجل: وما سؤالك عنه! فقد كان اليوم شرّ طويل من العامل أخذ، فأخذ معه الأحجم بن عبد الله وغيلان بن فضالة وغالب ابن سعيد والمهاجر بن عثمان، فحملوا إلى العامل عاصم بن قيس بن الحروري، فحبسهم. وارتحل أبو مسلم وأصحابه حتى انتهوا إلى أندومان، فأتاه أبو مالك والشيعة من أهل نسا؛ فأخبره أبو مالك أنّ الكتاب الذي كان مع رسول الإمام عنده، فأمره أن يأتيه به، فأتاه بالكتاب وبلواء وراية؛ فإذا في الكتاب إليه يأمره بالانصراف حيثما يلقاه كتابه؛ وأن يظره الدعوة. فعقد اللواء الذي أتاه من الإمام على رمح، وعقد الراية، واجتمع إليه شيعة أهل نسا والدعاة والرءوس، ومعه أهل أبيورد الذين قدموا معه. وبلغ ذلك عاصم بن قيس الحروري، فبعث إلى أبي مسلم يسأله عن حاله، فأخبره أنه من الحاجّ الذين يريدون بيت الله، ومعه عدّة من أصحابه من التجار، وسأله أن يخلّي سبيل من احتبس من أصحابه حتى يخرج من بلاده، فسألوا أبا مسلم أن يكتب لهم شرطًا على نفسه؛ أن يصرف من معه من العبيد وما معه من الدوابّ والسلاح، على أن يخلّوا سبيل أصحابه الذين قدموا من بلاد الإمام وغيرهم. فأجابهم أبو مسلم إلى ذلك، وخلى سبيل أصحابه؛ فأمر أبو مسلم الشيعة من أصحابه أن ينصرفوا، وقرأ عليهم كتاب الإمام؛ وأمرهم بإظهار الدعوة؛ فانصرف منهم طائفة وسار معه أبو مالك أسيد بن عبد الله الخزاعي وزريق بن شوذب ومن قدم عليه من أبيورد، وأمر من انصرف بالاستعداد. ثم سار فيمن بقي من أصحابه ومعه قحطبة ابن شبيب؛ حتى نزلوا تخوم جرجان؛ وبعث إلى خالد بن برمك وأبي عون يأمرهما بالقدوم عليه بما قبلهما من مال الشيعة، فقدما عليه؛ فأقام أيامًا حتى اجتمعت القوافل. وجهّز قحطبة بن شبيب، ودفع إليه المال الذي كان معه، والأحمال بما فيها؛ ثم وجّهه إلى إبراهيم بن محمد، وسار أبو مسلم بمن معه حتى انتهى إلى نسا، ثم ارتحل منها إلى أبيورد حتى قدمها؛ ثم سار حتى أتى مرو ممتنكرًا، فنزل قرية تدعى فنزل قرية تدعى فنين من قرى خزاعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان؛ وقد كان واعد أصحابه أن يوافوه بمرو يوم الفطر. ووجّه أبا داود وعمرو بن أعين إلى طخارستان، والنضر بن صبيح إلى آمل وبخارى ومعه شريك بن عيسى، وموسى بن كعب إلى أبيورد ونسا، وخازم بن خزيمة إلى مروروذ، وقدموا عليه، فصلّى بهم القاسم بن مجاشع التميمي يوم العيد؛ في مصلّى آل قنبر؛ في قرية أبي داود خالد بن إبراهيم. ذكر تعاقد أهل خراسان على قتال أبي مسلم وفي هذه السنة تحالفت وتعاقدت عامة من كان بخراسان من قبائل العرب على قتال أبي مسلم؛ وذلك حين كثر تبّاع أبي مسلم وقويَ أمره. وفيها تحوّل أبو مسلم من معسكره بإسفيذنج إلى الماخوان. ذكر الخبر عن ذلك والسبب فيه قال علي: أخبرنا الصبّاح مولى جبريل، عن مسلمة بن يحيى، قال: لما ظهر أبو مسلم، تسارع إليه الناس، وجعل أهل مرو يأتونه؛ لا يعرض لهم نصر ولا يمنعهم؛ وكان الكرماني وشيبان لا يكرهان أمر أبي مسلم؛ لأنه دعا إلى خلع مروان بن محمد، وأبو مسلم في قرية يقال لها بالين في خباء ليس له حرس ولا حجاب، وعظم أمره عند الناس، وقالوا: ظهر رجل من بني هاشم، له حلم ووقار وسكينة؛ فانطلق فتية من أهل مرو، نساك كانوا يطلبون الفقه، فأتوا أبا مسلم في معسكره، فسألوه عن نسبه، فقال: خبري خير لكم من نسبي، وسألوه عن أشياء من الفقه، فقال: أمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر خير لكم من هذا؛ ونحن في شغل، ونحن إلى عونكم أحوج منا إلى مسألتكم، فأعفونا. قالوا: والله ما نعرف لك نسبًا، ولا نظنك تبقى إلا قليلا حتى تقتل؛ وما بينك وبين ذلك إلا أن يتفرّغ أحد هذين؛ قال أبو مسلم: بل أنا أقتلهما إن شاء الله. فرجع الفتية فأتوا نصر بن سيار فحدثوه، فقال: جزاكم الله خيرًا، مثلكم تفقّد هذا وعرفه، وأتوا شيبان فأعلموه، فأرسل: إنا قد أشجى بعضنا بعضًا؛ فأرسل إليه نصر: إن شئت فكفّ عني حتى أقاتله، وإن شئت فجامعني على حربه حتى أقتله أو أنفيه؛ ثم نعود إلى أمرنا الذي نحن عليه. فهمّ شيبان أن يفعل، فظهر ذلك في العسكر، فأتت عيون أبي مسلم فأخبروه، فقال سليمان: ما هذا الأمر الذي بلغهم؟ تكلّمت عند أحد بشيء؟ فأخبره خبر الفتية الذين أتوه؛ فقال: هذا لذاك إذًا. فكتبوا إلى علي بن الكرماني: إنك موتور؛ قتل أبوك ونحن نعلم أنك لست على رأي شيبان؛ وإنما تقاتل لثأرك؛ فامنع شيبان من صلح نصر؛ فدخل على شيبان، فكلمه فثناه عن رأيه، فأرسل نصر إلى شيبان: إنك لمغرور؛ وأيم الله ليتفاقمنّ هذا الأمر حتى تستصغرني في جنبه. فبينا هم في أمرهم إذ بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة وعليها عيسى بن عقيل الليثي، فطرده عن هراة، فقدم عيسى على نصر منهزمًا، وغلب النضر على هراة. قال: فقال يحيى بن نعيم بن هبيرة: اختاروا إما أن تهلكوا أنتم قبل مضر أو مضر قبلكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: إنّ هذا الرجل إنما ظهر أمره منذ شهر، وقد صار في عسكره مثل عسكركم؛ قالوا: فما الرأي؟ قال: صالحوا نصرًا، فإنكم إن صالحتموه قاتلوا نصرًا وتركوكم؛ لأنّ الأمر في مضر، وإن لم تصالحوا نصرًا صالحوه وقاتلوكم، ثم عادوا عليكم. قالوا: فما الرأي؟ قال: قدّموهم قبلكم ولو ساعة؛ فتقرّ أعينكم بقتلهم. فأرسل شيبان إلى نصر يدعوه إلى الموادعة فأجابه، فأرسل إلى سلم بن أحوز، فكتب بينهم كتابًا، فأتى شيبان وعن يمينه ابن الكرماني، وعن يساره يحيى ابن نعيم، فقال سلم لابن الكرماني: يا أعور، ما أخلقك أن تكون الأعور الذي بلغنا أن يكون هلاك مضر على يديه! ثم توادعوا سنة؛ وكتبوا بينهم كتابًا؛ فبلغ أبا مسلم، فأرسل إلى شيبان: إنا نوادعك أشهرًا، فتوادعنا ثلاثة أشهر؛ فقال ابن الكرماني: فإني ما صالحت نصرًا؛ وإنما صالحه شيبان؛ وأنا لذلك كاره، وأنا موتور، ولا أدع قتاله. فعاوده القتال؛ وأبي شيبان أن يعينه، وقال: لا يحلّ الغدر. فأرسل ابن الكرماني إلى أبي مسلم يستنصره على نصر بن سيار، فأقبل أبو مسلم حتى أتى الماخوان، وأرسل إلى ابن الكرماني شبل بن طهمان: إني معك على نصر، فقال ابن الكرماني: إني أحبّ أن يلقاني أبو مسلم، فأبلغه ذلك شبل، فأقام أبو مسلم أربعة عشر يومًا، ثم سار إلى ابن الكرماني، وخلف عسكره بالماخوان، فتلقاه عثمان بن الكرماني في خيل، وسار معه حتى دخل العسكر؛ وأتى لحجرة علي فوقف، فأذن له فدخل، فسلّم على علي بالإمرة، وقد اتخذ له علي منزلًا في قصر لمخلّد بن الحسن الأزدي، فأقام يومين، ثم انصرف إلى عسكره بالماخوان؛ وذلك لخمس خلون من المحرّم من سنة ثلاثين ومائة. وأما أبو الخطاب، فإنه قال: لما كثرت الشيعة في عسكر أبي مسلم، ضاقت به سفيذنج، فارتاد معسكرًا فسيحًا، فأصاب حاجته بالماخوان؛ - وهي قرية العلاء بن حريث وأبي إسحاق خالد بن عثمان، وفيها أبو الجهم ابن عطية وإخوته - وكان مقامه بسفيذنج اثنين وأربعين يومًا، وارتحل من سفيذنج إلى الماخوان، فنزل منزل أبي إسحاق خالد بن عثمان يوم الأربعاء، لتسع ليال خلون من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين ومائة، فاحتفر بها خندقًا، وجعل للخندق بابين، فعغسكر فيه والشيعة، ووكّل بأحد بابي الخندق مصعب بن قيس الحنفي وبهدل بن إياس الضبّي، ووكل بالباب الآخر أبا شراحيل وأبا عمرو الأعجمي، واستعمل على الشرط أبا نصر مالك ابن الهيثم، وعلى الحرس أبا إسحاق خالد بن عثمان، وعلى ديوان الجند كامل ابن مظفر أبا صالح، وعلى الرسائل أسلم بن صبيح؛ والقاسم بن مجاشع النقيب التميمي على القضاء، وضمّ أبا الوضاح وعدّة من أهل السقادم إلى مالك بن الهيثم، وجعل أهل نوشان - وهم ثلاثة وثمانون رجلًا - إلى أبي إسحاق في الحرس. وكان القاسم بن مجاشع يصلي بأبي مسلم الصلوات في الخندق، ويقصّ القصص بعد العصر، فيذكر فضل بني هاشم ومعايب بني أميّة، فنزل أبو مسلم خندق الماخوان، وهو كرجل من الشيعة في هيئته؛ حتى أتاه عبد الله بن بسطام؛ فأتاه بالأروقة والفساطيط والمطابخ والمعالف للدوابّ وحياض الأدم للماء؛ فأوّل عامل استعمله أبو مسلم على شيء من العمل داود بن كرّاز؛ فردّ أبو مسلم العبيد عن أن يضاموا في خندقه، واحتفر لهم خندقًا في قرية شوّال، وولى الخندق داود بن كرّاز. فلما اجتمعت للعبيد جماعة، وجّههم إلى موسى بن كعب بأبيورد، وأمر أبو مسلم كامل بن مظفر أن يعرض أهل الخندق بأسمائهم وأسماء آبائهم فينسبهم إلى القوى، ويجعل ذلك في دفتر، ففعل ذلك كامل أبو صالح، فبلغت عدّتهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم ثلاثة دراهم لكلّ رجل، ثم أعطاهم أربعة أربعة على يدي أبي صالح كامل. ثم إنّ أهل القبائل من مضر وربيعة وقحطان توادعوا على وضع الحرب، وعلى أن تجتمع كلمتهم على محاربة أبي مسلم، فإذا نفوه عن مرو نظروا في أمر أنفسهم وعلى ما يجتمعون عليه. فكتبوا على أنفسهم بذلك كتابًا وثيقًا. وبلغ أبا مسلم الخبر، فأفظعه ذلك وأعظمه، فنظر أبو مسلم في أمره، فإذا ماخوان سافلة الماء؛ فتخوّف أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، فتحوّل إلى آلين - قرية أبي منصور طلحة بن رزيق النقيب - وذلك بعد مقامه أربعة أشهر بخندق الماخوان، فنزل آلين في ذي الحجة من سنة تسع وعشرين ومائة، يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة. فخندق بآلين خندقًا أمام القرية؛ فيما بينها وبين بلاش جرد، فصارت القرية من خلف الخندق، وجعل وجه دار المحتفز بن عثمان ابن بشر المزني في الخندق، وشرب أهل آلين من نهر يدعى الخرقان، لا يمكّن نصر ابن سيار قطع الشرب عن آلين. وحضر العيد يوم النحر، وأمر القاسم بن مجاشع التميمي فصلى بأبي مسلم والشيعة في مصلى آلين، وعسكر نصر بن سيّار على نهر عياض، ووضع عاصم بن عمرو ببلاش جرد، ووضع أبا الذيّال بطوسان، ووضع بشر بن أنيف اليربوعي بجلفر، ووضع حاتم بن الحارث ابن سريج بخرق؛ وهو يلتمس مواقعة أبي مسلم. فأمّا أبو الذيال فأنزل جنده على أهلها مع أبي مسلم في الخندق، فآذوا أهل طوسان وعسفوهم وذبحوا الدجاج والبقر والحمام، وكلفوهم الطعام والعلف، فشكت الشيعة ذلك إلى أبي مسلم، فوجّه معهم خيلًا، فلقوا أبا الذيّال فهزموه، وأسروا من أصحابه ميمونًا الأعسر الخوارزمي في نحو من ثلاثين رجلًا، فكساهم أبو مسلم، وداوى جراحاتهم وخلّى لهم الطريق. ذكر خبر مقتل الكرماني قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل جديع بن علي الكرماني وصلب. ذكر الخبر عن مقتله قد مضى قبل ذكرنا مقتل الحارث بن سريج، وأنّ الكرماني هو الذي قتله. ولما قتل اعلكرماني الحارث، خلصت له مرو بقتله إياه، وتنحّى نصر ابن سيّار عنها إلى أبرشهر، وقوى أمر الكرماني، فوجّه نصر إليه - فيما قيل - سلم بن أحوز، فسار في رابطة نصر وفرسانه؛ حتى لقي أصحاب الكرماني، فوجد يحيى بن نعيم أبا الميلاء واقفًا في ألف رجل من ربيعة، ومحمد بن المثنّى في سبعمائة من فرسان الأزد، وابن الحسن بن الشيخ الأزدي في ألف من فتيانهم، والحزمي السغدي في ألف رجل من أبناء اليمن، فلما تواقفوا قال سلم بن أحوز لمحمد بن المثنّى: يا محمّد بن المثنى، مر هذا الملّاح بالخروج إلينا، فقال محمد لسلم: يا بن الفاعلة؛ لأبي علي تقول هذا! ودلف القوم بعضهم إلى بعض، فاجتلدوا بالسيوف، فانهزم سلم بن أحوز، وقتل من أصحابه زيادة على مائة، وقتل من اصحاب محمد زيادة على عشرين، وقدم أصحاب نصر عليه فلولًا، فقال له عقيل بن معقل: يا نصر شأمت العرب؛ فأما إذ صنعت ما صنعت فجدّ وشمر عن ساق، فوجّه عصمة بن عبد الله الأسدي فوقف موقف سلم بن أحوز، فنادى: يا محمد، لتعلمنّ أن السمك لا يغلب اللخم؛ فقال له محمد: يا بن الفاعلة، قف لنا إذًا. وأمر محمد السغدي فخرج إليه في أهل اليمن، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم عصمة حتى أتى نصر بن سيار، وقد قتل من أصحابه أربعمائة. ثم أرسل نصر بن سيّار مالك بن عمرو التميمي فأقبل في أصحابه، ثم نادى: يا بن المثنى، ابرز لي إن كنت رجلًا! فبرز له، فضربه التميمي على حبل العاتق فلم يصنع شيئًا؛ وضربه محمد بن المثنّى بعمود فشدخ رأسه؛ فالتحم القتال؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا كأعظم ما يكون من القتال، فانهزم أصحاب نصر، وقد قتل منهم سبعمائة رجل، وقتل من أصحاب الكرماني ثلثمائة رجل؛ ولم يزل الشرّ بينهم حتى خرجوا جميعًا إلى الخندقين، فاقتتلوا قتالَا شديدًا، فلما استيقن أبو مسلم أنّ كلا الفريقين قد أثخن صاحبه؛ وأنه لا مدد لهم، جعل يكتب الكتب إلى شيبان، ثم يقول للرسول: اجعل طريقك على المضريّة، فإنهم سيعرضون لك، ويأخذون كتبك، فكانوا يأخذونها فيقرءون فيها: إني رأيت أهل اليمن لا وفاء لهم ولا خير فيهم، فلا تثقنّ بهم ولا تطمئنّ إليهم؛ فإني أرجو أن يريك الله ما تحب، ولئن بقيت لا أدع لهم شعرا ولا ظفرًا. ويرسل رسولًا آخر في طريق آخر بكتاب فيه ذكر المضرّية وإطراء اليمن بمثل ذلك؛ حتى صار هوى الفريقين جميعًا معه؛ وجعل يكتب إلى نصر بن سيّار وإلى الكرماني: إنّ الإمام قد أوصاني بكم، ولست أعدو رأيه فيكم. وكتب إلى الكور بإظهار الأمر؛ فكان أول من سوّد - فيما ذكر - أسيد ابن عبد الله بنسا، ونادى: يا محمد، يا منصور. وسوّد معه مقاتل بن حكيم وابن غزوان، وسوّد أهل أبيورد وأهل مرو الروذ، وقرى مرو. وأقبل أبو مسلم حتى نزل بين خندق نصر بن سيار وخندق جديع الكرماني، وهابه الفريقان، وكثر أصحابه، فكتب نصر بن سيار إلى مروان ابن محمد يعلمه حال أبي مسلم وخروجه وكثرة من معه ومن تبعه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب بأبيات شعر: أرى بين الرماد وميض جمر ** فأحج بأن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تذكى ** وإن الحرب مبدؤها الكلام فقلت من التعجب: ليت شعري ** أأيقاظ أمية أم نيام! فكتب إليه: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم الثؤلول قبلك، فقال نصر: أما صاحبكم فقد أعلمكم ألّا نصر عنده. فكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمدّه، وكتب إليه بأبيات شعر: أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ** وقد تبينت ألّا خير في الكذب أنّ خراسان أرض قد رأيت بها ** بيضًا لوافرخ قد حدثت بالعجب فراخ عامين إلا أنها كبرت ** لما يطرن وقد سربلن بالزغب فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ** يلهبن نيران حرب أيّما لهب فقال يزيد: لا غلبة إلا بكثرة؛ وليس عندي رجل. وكتب نصر إلى مروان يخبره خبر أبي مسلم وظهوره وقوّته؛ وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، فألفى الكتاب مروان وقد أتاه رسول لأبي مسلم إلى إبراهيم؛ كان قد عاد من عند إبراهيم، ومعه كتاب إبراهيم إلى أبي مسلم جواب كتابه، يلعن فيه أبا مسلم ويسبّه؛ حيث لم ينتهز الفرصة من نصر والكرماني إذ أمكناه، ويأمره ألّا يدع بخراسان عربيًا إلا قتله. فدفع الرسول الكتاب إلى مروان، فكتب مروان إلى الوليد بن معاوية بن عبد الملك وهو على دمشق، يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء، فيسير إلى كرار الحميمة، فليأخذ إبراهيم بن محمد ويشدّه وثاقًا، وليبعث به إليه في خيل؛ فوجه الوليد إلى عامل البقاء فأتى إبراهيم وهو في مسجد القرية، فأخذه وكتفه وحمله إلى الوليد، فحمله إلى مروان فحبسه مروان في السجن. رجع الحديث إلى حديث نصر والكرماني. وبعث أبو مسلم حين عظم الأمر بين الكرماني ونصر إلى الكرماني: إني معك، فقبل ذلك الكرماني وانضمّ إليه أبو مسلم، فاشتدّ ذلك على نصر، فأرسل إلى الكرماني: ويلك لا تغترر! فوالله إني لخائف عليك وعلى أصحابك منه؛ ولكن هلمّ إلى الموادعة، فتدخل مرو، فنكتب بيننا كتابًا بصلح - وهو يريد أن يفرّق بينه وبين أبي مسلم - فدخل الكرماني منزله، وأقام أبو مسلم في المعسكر، وخرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس، وعليه قرطق خشكشونة. ثم أرسل إلى نصر: اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب، فأبصر نصر منه غرّة، فوجه إليه ابن الحارث بن سريج في نحو من ثلثمائة فارس، فالتقوا في الرحبة، فاقتتلوا بها طويلًا. ثم إنّ الكرماني طعن في خاصرته فخرّ عن دابّته، وحماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به، فقتل نصر الكرماني وصلبه، ومعه سمكة، فأقبل ابنه علي - وقد كان صار إلى أبي مسلم، وقد جمع جمعًا كثيرًا - فسار بهم إلى نصر بن سيار فقاتله حتى أخرجه من دار الإمارة، فمال إلى بعض دور مرو، وأقبل أبو مسلم حتى دخل مرو، فأتاه علي بن جديع الكرماني فسلّم عليه بالإمرة، وأعلمه أنه معه على مساعدته، وقال: مرني بأمرك، فقال: أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري. غلبة عبد الله بن معاوية على فارس وفي هذه السنة غلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على فارس. ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي وصل به إلى الغلبة عليها ذكر علي بن محمد أنّ عاصم بن حفص التميمي وغيره حدثوه أنّ عبد الله ابن معاوية لما هزم بالكوفة، شخص إلى المدائن، فبايعه أهل المدائن، فأتاه قوم من أهل الكوفة، فخرج إلى الجبال فغلب عليها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة، فلمّا غلب على ذلك أقام بأصبهان؛ وقد كان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس، فجاء يمشي في نعلين إلى دار الإمارة بإصطخر، فطرد العامل؛ عامل ابن عمر عنها، وقال لرجل يقال له عمارة: بايع الناس، فقال له أهل إصطخر: علام نبايع؟ قال: على ما أحببتم وكرهتم. فبايعون لابن معاوية، وخرج محارب إلى كرمان فأغار عليهم، وأصاب في غارته إبلًا لثعلبة بن حسان المازني فاستاقها ورجع. فخرج ثعلبة يطلب إبله في قرية له تدعى أشهر - قال: ومع ثعلبة مولىً له - فقال له مولاه: هل لك أن نفتك بمحارب؛ فإن شئت ضربته وكفيتني الناس؛ وإن ششئت ضربته وكفيتك الناس؟ قال: ويحك! أردت أن تفتك وتذهب الإبل ولم نلق الرجل! ثم دخل على محارب فرحّب به. ثم قال: حاجتك! قال: إبلي، قال: نعم، لقد أخذت، وما أعرفها، وقد عرفتها، فدونك إبلك فأخذها، وقال لمولاه: هذا خير، وما أردت؟ قال: ذلك لو أخذناها كان أشفى. وانضمّ إلى محارب القواد والأمراء من أهل الشأم: فسار إلى مسلم بن المسيّب وهو بشيراز، عامل لابن عمر؛ فقتله في سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم خرج محارب إلى أصبهان، فحوّل عبد الله بن معاوية إلى إصطخر؛ واستعمل أخاه عبد الله أخاه الحسن على الجبال، فأقبل فنزل في دير على ميل من إصطخر، واستعمل أخاه يزيد على فارس فأقام، فأتاه الناس؛ بنو هاشم وغيرهم؛ وجبى المال، وبعث العمال؛ وكان معه منصور بن جمهور وسليمان بن هشام بن عبد الملك وشيبان بن الحلس بن عبد العزيز الشيباني الخارجي، وأتاه أبو جعفر عبد الله، وعبد الله وعيسى ابنا علي. وقدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق، فأرسل نباتة بن حنظلة الكلابي إلى عبد الله بن معاوية؛ وبلغ سليمان بن حبيب أنّ ابن هبيرة ولي نباتة الأهواز، فسرّح داود بن حاتم، فأقام بكربج دينار ليمنع نباتة من الأهواز، فقدم نباتة، فقاتله، فقتل داود، وهرب سليمان إلى سابور؛ وفيها الأكراد قد غلبوا عليها، وأخرجوا المسيح بن الحماري، فقاتلهم سليمان، فطرد الأكراد عن سابور، وكتب إلى عبد الله بن معاوية بالبيعة، فقال: عبد الرحمن ابن يزيد بن المهلب: لا يفي لك، وإنما أراد أن يدفعك عنه؛ ويأكل سابور؛ فاكتب إليه فليقدم عليك إن كان صادقًا. فكتب إليه فقدم، وقال لأصحابه: ادخلوا معي؛ فإن منعكم أحد فقاتلوه، فدخلوا فقال لابن معاوية: أنا أطوع الناس لك، قال: ارجع إلى عملك، فرجع. ثم إن محارب بن موسى نافر ابن معاوية، وجمع جمعًا، فأتى سابور - وكان ابنه مخلد بن محارب محبوسًا بسابور، أخذه يزيد بن معاوية فحبسه - فقال لمحارب: ابنك في يديه وتحاربه! أما تخاف أن يقتل ابنك! قال: أبعده الله! فقاتله يزيد، فانهزم محارب، فأتى كرمان، فأقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث، فصار معه، ثم نافر ابن الأشعث فقتله وأربعة وعشرين ابنًا له. ولم يزل عبد الله بن معاوية بإصطخر حتى أتاه ابن ضبارة مع داود ابن يزيد بن عمر بن هبيرة، فأمر ابن معاوية فكسروا قنطرة الكوفة، فوجّه ابن هبيرة معن بن زائدة من وجه آخر، فقال سليمان لأبان بن معاوية بن هشام: قد أتاك القوم، قال: لم أومر بقتالهم؛ قال: ولا تؤمر والله بهم أبدًا، وأتاهم فقاتلهم عند مرو الشاذان، ومعن يرتجز: ليس أمير القوم بالخب الخدع ** فر من الموت وفي الموت وقع قال ابن المقفع أو غيره: فرّ من الموت وفيه قد وقع. قال: عمدًا، قلت: قد عملت، فانهزم ابن معاوية، وكفّ معن عنهم، فقتل في المعركة رجل من آل أبي لهب، وكان يقال: يقتل رجل من بني هاشم بمرو الشاذان. وأسروا أسراء كثيرة، فقتل ابن ضبارة عدّة كثيرة؛ فيقال: كان فيمن قتل يومئذ حكيم الفرد أبو المجد، ويقال: قتل بالأهواز، قتله نباتة. ولما انهزم ابن معاوية هرب شيبان إلى جزيرة ابن كاوان ومنصور بن جمهور إلى السند، وعبد الرحمن بن يزيد إلى عمان، وعمرو بن سهل بن عبد العزيز إلى مصر؛ وبعث ببقيّة الأسراء إلى ابن هبيرة. قال حميد الطويل: أطلق أولئك الأسراء فلم يقتل منهم غير حصين بن وعلة السدوسي، ولما أمر بقتله قال: أقتل من بين الأسراء! قال: نعم، أنت مشرك، أنت الذي تقول: ولو آمر الشمس لم تشرق ومضى ابن معاوية من وجهه إلى سجستان. ثم أتى خراسان ومنصور بن جمهور إلى السند، فسار في طلبه معن بن زائدة وعطيّة الثعلبي وغيره من بني ثعلبة، فلم يدركوه، فرجعوا. وكان حصين بن وعلة السدوسي مع يزيد بن معاوية، فتركه ولحق بعبد الله بن معاوية فأسره مورع السلمي، رآه دخل غيضة فآخذه فأتى به معن بن زائدة فبعث به معن إلى ابن ضبارة، فبعث به ابن ضبارة إلى واسط؛ وسار ابن ضبارة إلى عبد الله بن معاوية بإصطخر، فنزل بإزائه على نهر إصطخر، فعبر ابن الصحصح في ألف، فلقيه من أصحاب عبد الله بن معاوية أبان بن معاوية بن هشام فيمن كان معه من أهل الشأم، ممن كان مع سليمان بن هشام فاقتتلوا، فمال ابن نباتة إلى القنطرة، فلقيهم من كان مع ابن معاوية من الخوارج، فانهزم أبان والخوارج، فأسر منهم ألفًا، فأتوا بهم ابن ضبارة، فخلى عنهم، وأخذ يومئذ عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس في الأسراء، فنسبه ابن ضبارة، فقال: ما جاء بك إلى ابن معاوي، وقد عرفت خلافة أمير المؤمنين! قال: كان علي دين فأدّيته. فقام إليه حرب بن قطن الكناني. فقال: ابن اختنا، فوهبه له، وقال: ما كنت لأقدم على رجل من قريش. وقال له ابن ضبارة: إن الذي قد كنت معه قد عيب بأشياء، فعندك منها علم؟ قال: نعم، وعابه ورمى أصحابه باللواط، فأتوا ابن ضبارة بغلمان عليهم أقبية قوهيّة مصبّغة ألوانًا، فأقامهم للناس وهم أكثر من مائة غلام، لينظروا إليهم. وحمل ابن ضبارة عبد الله بن علي على البريد إلى ابن هبيرة ليخبره أخباره، فحمله ابن هبيرة إلى مروان في أجناد أهل الشأم، وكان يعيبه، وابن ضبارة يومئذ في مفازة كرمان في طلب عبد الله ابن معاوية، وقد أتى ابن هبيرة مقتل نباتة، فوجّه ابن هبيرة كرب بن مصقلة والحكم بن أبي الأبيض العبسي وابن محمد السكرني؛ كلهم خطيب، فتكلموا في تقريظ ابن ضبارة، فكتب إليه أن سر بالناس إلى فارس، ثم جاءه كتاب ابن هبيرة: سر إلى أصبهان. مجىء أبي حمزة الخارجي الموسم وفي هذه السنة وافى الموسم أبو حمزة الخارجي، من قبل عبد الله ابن يحيى طالب الحق، محكّمًا مظهرًا للخلاف على مروان بن محمد. ذكر الخبر عن ذلك من أمره حدثني العباس بن عيسى العقيلي، قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي قال: حدثنا موسى بن كثير مولى الساعديّين، قال: لما كان تمام سنة تسع وعشرين ومائة، لم يدر الناس بعرفة إلّا وقد طلعت أعلام عمائم سود حرقانيّة في رءوس الرماح وهم في سبعمائة، ففزع الناس حين رأوهم، وقالوا: ما لكم! وما حالكم؟ فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبرؤ منه. فراسلهم عبد الواحد بن سليمان - وهو يومئذ على المدينة ومكة - فراسلهم في الهندنة، فقالوا: نحن بحجّنا أضنّ، ونحن عليه أشحّ. وصالحهم على أنهم جميعًا آمنون؛ بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النفر الأخير، وأصبحوا من الغد. فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع بالناس عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان، فلما كانوا بمنى ندموا عبد الواحد، وقالوا: قد أخطأت فيهم، ولو حملت الحاجّ عليهم ما كانوا إلاذ أكلة رأس. فنزل أبو حمزة بقرين الثعالب، ونزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، في رجال أمثالهم، فدخلوا على أبي حمزة وعليه إزار قطن غليظ، فتقدّمهم إليه عبد الله بن الحسن ومحمد بن عبد الله فنسبهما فانتسبا له، فعبس في وجوههما، وأظهر الكراهة لهما، ثم سأل عبد الرحمن بن القاسم وعبيد الله بن عمر فانتسبا له، فهشّ إليهما، وتبسّم في وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد الله بن حسن: والله ما جئنا لتفضّل بين آبائنا، ولكنا بعثنا إليك الأمير برسالة - وهذا ربيعة يخبركها - فلما ذكر ربيعة نقض العهد؛ قال بلج وأبرهة - وكانا قائدين له: الساعة الساعة! فأقبل عليهم أبو حمزة، فقال: معاذ الله أن ننقض العهد أو نحبس، والله لا أفعل ولو قطعت رقتي هذه؛ ولكن تنقضي الهدنة بيننا وبينكم. فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا عبد الواحد، فلما كان النفر نفر عبد الواحد في النفر الأول، وخلى مكة لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال. قال العباس: قال هارون: فأنشدني يعقوب بن طلحة الليثي أبياتًا هجيَ بها عبد الواحد - قال: وهي لبعض الشعراء لم أحفظ اسمه: زار الحجيج عصابة قد خالفوا ** دين الإله ففر عبد الواحد ترك الحلائل والإمارة هاربًا ** ومضى يخبط كالبعير الشارد لو كان والده تنصّل عرقه ** لصفت مضاربه بعرق الوالد ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالدّيوان، فضرب على الناس البعث، وزادهم في العطاء عشرة عشرة. قال العباس: قال هارون: أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بن عياض، قال: كنت فيمن اكتتب، ثم محوت اسمي. قال العباس: قال هارون: وحدثني غير واحد من أصحابنا أنذ عبد الواحد استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس فخرجوا؛ فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فمضوا. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك بن مروان حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال محمد بن عمر وغيره. وكان العامل على مكة والمدينة عبد الواحد بن سليمان، وعلى العراق يزيد ابن عمر بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي - فيما ذكر - وعلى قضاء البصرة عباد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والفتنة بها. ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة ذكر خبر الأحداث التي كانت فيها ذكر دخول أبي مسلم مرو والبيعة بها فمما كان فيها من ذلك دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة بها، ومطابقة علي بن جديع الكرماني إيّاه على حرب نصر بن سيّار. ذكر الخبر عن ذلك وسببه ذكر أبو الخطاب أن دخول أبي مسلم حائط مرو ونزوله دار الإمارة التي ينزلها عمّال خراسان كان في سنة ثلاثين ومائة لتسع خلون من جمادى الآخرة يوم الخميس، وأن السبب في مسير علي بن جديع مع أبي مسلم كان أن سليمان ابن كثير كان بإزاء علي بن الكرماني حين تعاقد هو ونصر على حرب أبي مسلم؛ فقال سليمان بن كثير لعلي بن الكرماني: يقول لك أبو مسلم: أما تأنف من مصالحة نصر بن سيار، وقد قتل بالأمس أباك وصلبه! ما كنت أحسبك تجامع نصر بن سيار في مسجد تصليان فيه! فأدرك علي بن الكرمانيذ الحفيظة، فرجع عن رأيه وانتقض صلح العرب. قال: ولما انتقض صلحهم بعث نصر ابن سيار إلى أبي مسلم يتمس منه أن يدخل مع مضر، وبعثت ربيعة وقحطان إلى أبي مسلم بمثل ذلك، فتراسلوا بذلك أيامًا، فأمرهم أبو مسلم أن يقدم عليه وفد الفريقين حتى يختار أحدهما، ففعلوا. وأمر أبو مسلم الشيعة أن يختاروا ربيعة وقحطان؛ فإنّ السلطان في مضر، وهم عمال مروان الجعدي، وهم قتلة يحيى بن زيد. فقدم الوفدان؛ فكان في وفد مضر عقيل بن معقل بن حسان الليثي وعبيد الله بن عبد ربه الليثي والخطاب بن محرز السلمي، في رجال منهم. وكان في وفد قحطان عثمان بن الكرماني ومحمد بن المثنى وسورة بن محمد ابن عزيز الكندي، في رجال منهم؛ فأمر أبو مسلم عثمان بن الكرماني وأصحابه فدخلوا بستان المحتفز، وقد بشط لهم فيه؛ فقعدوا وجلس أبو مسلم في بيت في دار المحتفز، وأذن لعقيل بن معقل وأصحابه من وفد مضر، فدخلوا إليه، ومع أبي مسلم في البيت سبعون رجلًا من الشيعة، قرأ على الشيعة كتابًا كتبه أبو مسلم ليختاروا أحد الفريقين؛ فلما فرغ من قراءة الكتاب، قام سليمان ابن كثير، فتكلم - وكان خطيبًا مفوّهًا - فاختار علي بن الكرماني وأصحابه، وقام أبو منصور طلحة بن رزيق النقيب فيهم - وكان فصيحًا متكلمًا - فقال كمقالة سليمان بن كثير، ثم قام مزيد بن شقيق السلمي، فقال: مضر قتله آل النبي ﷺ وأعوان بني أمية وشيعة مروان الجعدي، ودماؤنا في أعناقهم، وأموالنا في أيديهم، والتّباعات قبلهم، ونصر بن سيار عامل مروان على خراسان ينفذ أموره، ويدعو له على منبره، ويسميّه أمير المؤمنين؛ ونحن من ذلك إلى الله برآء وأن يكون مروان أمير المؤمنين، وأن يكون نصر على هدىً وصواب، وقد اخترنا علي بن الكرماني وأصحابه من قحطان وربيعة. فقال السبعون الذين جمعوا في البيت بقول مزيد بن شقيق. فنهض وفد مضر عليهم الذلة والكآبة؛ ووجّه معهم أبو مسلم القاسم بن مجاشع في خيل حتى بلغوا مأمنهم، ورجع وفد علي بن الكرماني مسرورين منصورين. وكان مقام أبي مسلم بآلين تسعة وعشرين يومًا، فرحل عن آلين راجعًا إلى خندقه بالماخوان، وأمر أبو مسلم الشيعة أن يبتنوا المساكن، ويستعدّوا للشتاء فقد أعفاهم الله من اجتماع كلمة العرب، وصيرهم بنا إلى افتراق الكلمة؛ وكان ذلك قدرًا من الله مقدورًا. وكان دخول أبي مسلم الماخوان منصرفًا عن آلين سنة ثلاثين ومائة، للنصف من صفر يوم الخميس، فأقام أبو مسلم في خندقه بالماخوان ثلاثة أشهر؛ تسعين يومًا، ثم دخل حائط مرو يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة. قال: وكان حائط مرو إذ ذاك في يد نصر بن سيّار لأنّه عامل خراسان، فأرسل علي بن الكرماني إلى أبي مسلم أن أدخل الحائط من قبلك، وأدخل أنا وعشيرتي من قبلي، فنغلب على الحائط. فأرسل إليه أبو مسلم أن لست آمن أن يجتمع يدك ويد نصر على محاربتي؛ ولكن ادخل أنت فانشب الحرب بينك وبينه وبين أصحابه؛ فدخل لعي بن الكرماني فأنشب الحرب، وبعث أبو مسلم أبا علي شبل بن طهمان النقيب في جند، فدخلوا الحائط، فنزل في قصر بخاراخذاه؛ فبعثوا إلى أبي مسلم أن ادخل، فدخل أبو مسلم من خندق الماخوان، وعلى مقدّمته أسيد بن عبد الله الخزاعي، وعلى ميمنته مالك بن الهيثم الخزاعي، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع التميمي؛ حتى دخل الحائط؛ والفريقان يقتتلان. فأمرهما بالكفّ وهو يتلو من كتاب الله: " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه ". ومضى أبو مسلم حتى نزل قصر الإمارة بمرو الذي كان ينزله عمال خراسان؛ وكان ذلك لتسع خلون من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة، يوم الخميس. وهرب نصر بن سيّار عن مرو الغد من يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الأولى من سنة ثلاثين ومائة، وصفت مرو لأبي مسلم. فلما دخل أبو مسلم حائط مرو أمر أبا منصور طلحة بن رزيق بأخذ البيعة على الجند من الهاشميّة خاصّة - وكان أبو منصور جلًا فصيحًا نبيلًا مفوّهًا عالمًا بحجج الهاشمية وغوامض أمورهم؛ وهو أحد النقباء الاثني عشر؛ والنقباء الاثنا عشر هم الذين اختارهم محمد بن علي من السبعين الذين كانوا استجابوا له حين بعث رسوله إلى خراسان سنة ثلاث ومائة أو أربع ومائة - وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمى أحدًا، ومثّل له مثالًا ووصف من العدل صفة، فقدمها فدعا سرًا، فأجابه ناس، فلما صاروا سبعين أخذ منهم اثني عشر نقيبًا. منهم من خزاعة سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وزياد بن صالح وطلحة ابن رزيق وعمرو بن أعين، ومن طيّىء قحطبة - واسمه زياد بن شبيب بن خالد بن معدان - ومن تميم موسى بن كعب أبو عيينة ولاهز بن قريظ والقاسم بن مجاشع، كلهم من بني امرىء القيس، وأسلم بن سلام أبو سلام؛ ومن بكر بن وائل أبو داود خالد بن إبراهيم من بني عمرو بن شيبان أخي سدوس وأبو علي الهروي. ويقال: شبل بن طهمان مكان عمرو بن أعين. وعيسى بن كعب وأبو النجم عمران بن إسماعيل مكان أبي علي الهروي، وهو ختن أبي مسلم. ولم يكن في النقباء أحد والده حي غير أبي منصور طلحة بن رزيق بن أسعد؛ وهو أبو زينب الخزاعي، وقد كان شهد حرب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وصحب المهلب بن أبس صفرة وغزا معه؛ فكان أبو مسلم يشاوره في الأمور، ويسأله عما شهد من الحروب والمغازي، ويسأله عن الكنية بأبي منصور: يا أبا منصور، ما تقول؟ وما رأيك؟ قال أبو الخطاب: فأخبرنا من شهد أبا منصور بأخذ البيعة على الهاشميّة: أبايعكم على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله ﷺ، عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، والطلاق والعتاق، والمشي إلى بيت الله، وعلى ألّا تسألوا رزقًا ولا طمعًا حتى يبدأكم به ولاتك؛ وإن كان عدوّ أحدكم تحت قدمه فلا تهيجوه إلا بأمر ولاتكم. فلما حبس أبو مسلم سلم بن أحوز ويونس بن عبد ربه، وعقيل ابن معقل ومنصور بن أبي الخرقاء وأصحابه، شاور أبا منصور، فقال: اجعل سوطك السيف، وسجنك القبر؛ فأقدمهم أبو مسلم فقتلهم، وكانت عدّتهم أربعة وعشرين رجلًا. وأما علي بن محمد، فإنه ذكر أن الصباح مولى جبريل، أخبره عن مسلمة ابن يحيى، أن أبا مسلم جعل على حرسه خالد بن عثمان، وعلى شرطه مالك ابن الهيثم، وعلى القضاء القاسم بن مجاشع، وعلى الديوان كامل بن مظفر، فرزق كلّ رجل أربعة آلاف، وأنه أقام في عسكره بالماخوان ثلاثة أشهر، ثم سار من الماخوان ليلًا في جمع كبير يريد عسكر ابن الكرماني؛ وعلى ميمنته لاهز بن قريظ، وعلى ميسرته القاسم بن مجاشع، وعلى مقدّمته أبو نصر مالك بن الهيثم. وخلّف على خندقه أبا عبد الرحمن الماخواني، فأصبح في عسكر شيبان؛ فخاف نصر أن يجتمع أبو مسلم وابن الكرماني على قتاله؛ فأرسل إلى أبي مسلم يعرض عليه أن يدخل مدينة مرو ويوادعه، فأجابه، فوادع أبا مسلم نصر، فراسل نصر بن أحوز يومه ذلك كله، وأبو مسلم في عسكر شيبان، فأصبح نصر وابن الكرماني، فغدوا إلى القتال، وأقبل أبو مسلم ليدخل مدينة مرو، فردّ خيل نصر وخيل ابن الكرماني، ودخل المدينة لسبع - أو لتسع - خلون من شهر ربيع الآخر سنة ثلاثين ومائة، وهو يتلو: " ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته.. " إلى آخر الآية. قال علي: وأخبرنا أبو الذيال والمفضل الضبي، قالا: لما دخل أبو مسلم مدينة مرو، قال نصر لأصحابه: أرى هذا الرجل قد قوي أمره، وقد سارع إليه الناس، وقد وادعته وسيتمّ له ما يريد؛ فاخرجوا بنا عن هذه البلدة وخلّوه، فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، فقال: أما إنكم ستذكرون قولي. وقال لخاصته من مضر: انطلقوا إلى أبي مسلم فالقوه، وخذوا بحظّكم منه، وأرسل أبو مسلم إلى نصر لاهز بن قريظ يدعوه فقال لاهز: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك "، وقرأ قبلها آيات، ففطن نصر، فقال لغلامه: ضع لي وضوءًا؛ فقام كأنه يريد الوضوء، فدخل بستانًا وخرج منه، فركب وهرب. قال علي: وأخبرنا أبو الذيال، قال: أخبرني إياس بن طلحة بن طلحة قال: كنت مع أبي وقد ذهب عمّي إلى أبي مسلم يبايعه؛ فأبطأ حتى صلّيت العصر والنهار قصير؛ فنحن ننتظره؛ وقد هيّأنا له الغداء؛ فإني لقاعد مع أبي إذ مرّ نصر على برذون؛ لا أعلم في داره برذونًا اسرى منه، ومعه حاجبه والحكم بن نميلة النميري. قال أبي: إنه لهارب ليس معه أحد، وليس بين يديه حربة ولا راية، فمرّ بنا، فسلم تسليمًا خفيًا، فلما جازنا ضرب برذونه، ونادى الحكم بن نميلة غلمانه، فركبوا واتبعوه. قال علي: قال أبو الّيال: قال إياس: كان بين منزلنا وبين مرو أربعة فراسخ، فمرّ بنا نصر بعد العتمة، فضجّ أهل القرية وهربوا، فقال لي أهلي وأخواني: اخرج لا تقتل؛ وبكوا؛ فخرجت أنا وعمّي المهلب بن إياس فلحقنا نصرًا بعد هدء الليل؛ وهو في أربعين، قد قام برذونه، فنزل عنه، فحمله بشر بن بسطام بن عمران بن الفضل البرجمي على برذونه، فقال نصر: إني لا آمن الطلب، فمن يسوق بنا؟ قال عبد الله بن عرعرة الضبّي: أنا أسوق بكم، قال: أنت لها، فطرد بنا ليلته حتى أصبحنا في بئر في المفازة على عشرين فرسخًا أو أقل، ونحن ستمائة؛ فسرنا يومنا فنزلنا العصر، ونحن ننظر إلى أبيات سرخس وقصورها ونحن ألف وخمسمائة، فانطلقت أنا وعمي إلى صديق لنا من بني حنيفة يقال له مسكين، فبيتنا نحن عنده لم نطعم شيئًا، فأصبحنا، فجاءنا بثريدة فأكلنا منها ونحن جياع لم نأكل يومنا وليلتنا؛ واجتمع الناس فصاروا ثلاثة آلاف، وأقمنا بسرخس يومين؛ فلمّا لم يأتنا أحد صار نصر إلى طوس، فأخبرهم خبر أبي مسلم، وأقام خمسة عشر يومًا، ثم سار وسرنا إلى نيسابور فأقام بها، ونزل أبو مسلم؛ ين هرب نصر دار الإمارة، وأقبل ابن الكرماني، فدخل مسرو مع أبي مسلم، فقال أبو مسلم حين هرب نصر: يزعم نصر أني ساحر؛ هو والله ساحر! وقال غير من ذكرت قوله في أمر نصر وابن الكماني وشيبان الحروري: انتهى أبو مسلم في سنة ثلاثين ومائة من معسكره بقرية سليمان بن كثير إلى قرية تدعى الماخوان فنزلها، وأجمع على الاستظهار بعلي بن جديع ومن معه من اليمن، وعلى دعاء نصر بن سيار ومن معه إلى معاونته، فأرسل إلى الفريقين جميعًا، وعرض على كلّ فريق منهم المسالمة واجتماع الكلمة والدخول في الطاعة، فقبل ذلك علي بن جديع، وتابعه على رأيه، فعاقده عليه، فلما وثق أبو مسلم بمبايعة علي بن جديع إياه، كتب إلى نصر بن سيّار أن يبعث إليه وفدًا يحضرون مقالته ومقالة أصحابه فيما كان وعده أن يميل معه، وأرسل إلى علي بمثل ما أرسل به إلى نصر. ثم وصف من خبر اختيار قوّاد الشيعة اليمانية على المضرّية نحوًا مما وصف من قد ذكرنا الرواية عنه قبل في كتابنا هذا، وذكر أنّ أبا مسلم إذ وجّه شبل ابن طهمان فيمن وجّهه إلى مدينة مرو وأنزله قصر بخاراخذاه؛ إنما وجهه مددًا لعلي بن الكرماني. قال: وسار أبو مسلم من خندقة بالماخوان بجميع من معه إلى علي ابن جديع، ومع علي عثمان وأخوه وأشراف اليمن معهم وحلفاؤهم من ربيعة، فلما حاذى أبو مسلم مدينة مرو استقبله عثمان بن جديع في خيل عظيمة، ومعه أشراف اليمن ومن معه من ربيعة؛ حتى دخل عسكر علي بن الكرماني وشيبان بن سلمة الحروري ومن معه من النقباء، ووقف على حجرة علي بن جديع، فدخل عليه وأعطاه الرضا، وآمنه على نفسه وأصحابه، وخرجا إلى حجرة شيبان، وهو يسلّم عليه يومئذ بالخلافة، فأمر أبو مسلم عليًا بالجلوس إلى جنب شيبان، وأعلمه أنه لا يحلّ له التسليم عليه. وأراد أبو مسلم أن يسلم على علي بالإمرة، فيظنّ شيبان أنه يسلم عليه. ففعل ذلك علي، ودخل عليه أبو مسلم، فسلّم عليه بالإمارة، وألطف لشيبان وعظمه، ثم خرج من عنده فنزل قصر محمد بن الحسن الأزدي، فأقام به ليلتين، ثم انصرف إلى خندقه بالماخوان، فأقام به ثلاثة أشهر، ثم ارتحل من خندقه بالماخوان إلى مرو لسبع خلون من ربيع الآخر؛ وخلّف على جنده أبا عبد الرحمن الماخواني، وجعل أبو مسلم على ميمته لاهز بن قريظ، وعلى ميسرته القاسم ابن مجاشع، وعلى مقدّمته مالك بن الهيثم، وكان مسيره ليلًا، فأصبح على باب مدينة مرو، وبعث إلى علي بن جديع أن يبعث خيله حتى وقف على باب قصر الإمارة، فوجد الفريقين يقتتلان أشدّ القتال في حائط مرو، فأرسل إلى الفريقين أن كفّوا، وليتفرق كلّ قوم إلى معسكرهم، ففعلوا. وأرسل أبو مسلم لاهز بن قريظ وقريش بن شقيق وعبد الله بن البختري، وداود بن كرّاز إلى نصر يدعوه إلى كتاب الله والطاعة للرّضا من آل محمد ﷺ. فلما رأى نصر ما جاءه من اليمانية والربعية والعجم، وأنه لا طاقة له بهم؛ ولا بد إن أظهر قبول ما بعث به إليه أن يأتيه فيبايعه، وجعل يرثيهم لما همّ به من الغدر والهرب إلى أن أمسى، فأمر أصحابه أن يخرجوا من ليلتهم إلى ما يأمنون فيه؛ فما تيسّر لأصحاب نصر الخروج في تلك الليلة. وقال له سلم بن أحوز: إنه لا يتيسّر لنا الخروج الليلة؛ ولكنا نخرج القابلة، فلما كان صبح تلك الليلة عبأ أبو مسلم كتائبه، فلم يزل في تعبيتها إلى بعد الظهر، وأرسل إلى نصر لاهز بن قريظ وقريش بن شقيق وعبد الله بن البختري وداود بن كرّاز وعدّة من أعاجم الشيعة، فدخلوا على نصر، فقال لهم: لشرّ ما عدتم، فقال له لاهز: لا بدّ لك من ذلك؛ فقال نصر: أما إذ كان لا بدّ منه؛ فإني أتوضأ وأخرج إليه، وأرسل إلى أبي مسلم؛ فإن كان هذا رأيه وأمره أتيته ونعمى لعينه، وأتهيأ إلى أن يجىء رسولي، وقام نصر، فلما قام قرأ لاهز هذه الآية: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين "، فدخل نصر منزله، وأعلمهم أنه ينتظر انصراف رسوله من عند أبي مسلم، فلما جنّه الليل، خرج من خلف حجرته، ومعه تميم ابنه والحكم بن نميلة النميري وحاجبه وامرأته؛ فانطلقوا هرابًا، فلما استبطأه لاهز وأصحابه دخلوا منزله، فوجدوه قد هرب؛ فلما بلغ ذلك أبا مسلم سار إلى معسكر نصر، وأخذ ثقات أصحابه وصناديدهم فكتفهم؛ وكان فيهم سلم بن أحوز صاحب شرطة نصر والبختري كاتبه، وابنان له ويونس بن عبد ربّه ومحمد بن قطن ومجاهد بن يحيى بن حضين والنضر بن إدريس ومنصور بن عمر بن أبي الحرقاء وعقيل بن معقل الليثي، وسيار بن عمر السلمي، مع رجال من رؤساء مضر فاستوثق منهم بالحديد، ووكل بهم عيسى بن أعين، وكانوا في الحبس عنده حتى أمر بقتلهم جميعًا، ونزل نصر سرخس فيمن اتّبعه من المضرّية، وكانوا ثلاثة آلاف، ومضى أبو مسلم وعلي بن جديع في طلبه، فطلباه ليلتهما حتى أصبحا في قرية تدعى نصرانيّة؛ فوجدا نصرًا قد خلف امرأته المرزبانة فيها، ونجا بنفسه. ورجع أبو مسلم وعلي بن جديع إلى مرو، فقال أبو مسلم لمن كان وجّه إلى نصر: ما الذي ارتاب به منكم؟ قالوا: لا ندري، قال: فهل تكلم أحد منكم؟ قالوا: لاهز تلا هذه الآية: " إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " قال: هذا الذي دعاه إلى الهرب، ثم قال: يا لاهز؛ أتدغل في الدين! فضرب عنقه. خبر مقتل شيبان بن سلمة الخارجي وفي هذه السنة قتل شيبان بن سلمة الحروري. ذكر الخبر عن مقتله وسببه وكان سبب مقتله - فيما ذكر - أنّ علي بن جديع وشيبان كانا مجتمعين على قتال نصر بن سيار لمخالفة شيبان نصرًا؛ لأنه من عمال مروان بن محمد وأنّ شيبانيرى رأي الخوارج ومخالفة علي بن جديع نصرًا، لأنه يمان ونصر مضري، وأن نصرًا قتل أباه وصلبه، ولما بين الفريقين من العصبية التي كانت بين اليمانية والمضرّية؛ فلما صالح علي بن الكرماني أبا مسلم، وفارق شيبان، تنحّى شيبان عن مرو، إذ علم أنه لا طاقة له بحرب أبي مسلم وعلي ابن جديع مع اجتماعهما على خلافه، وقد هرب نصر من مرو وسار إلى سرخس. فذكر علي بن محمد أن أبا حفص أخبره والحسن بن رشيد وأبا الذيال أن المدة التي كانت بين أبي مسلم وبين شيبان لما انقضت، أرسل أبو مسلم إلى شيبان يدعوه إلى البيعة، فقال شيبان: أنا أدعوك إلى بيعتي؛ فأرسل إليه أبو مسلم: إن لم تدخل في أمرنا فارتحل عن منزلك الذي أنت فيه، فأرسل شيبان إلى ابن الكرماني يستنصره، فأبى. فسار شيبان إلى سرخس، واجتمع إليه جمع كثير من بكر بن وائل. فبعث إليه أبو مسلم تسعةً من الأزد، فيهم المنتجع بن الزبير؛ يدعوه ويسأله أن يكفّ، فأرسل شيبان، فأخذ رسل أبي مسلم فسجنهم، فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث ببيورد، يأمره أن يسير إلى شيبان فيقاتله. ففعل، فهزمه بسّام، واتبعه حتى دخل المدينة، فقتل شيبان وعدّة من بكر بن وائل، فقيل لأبي مسلم: إنّ بسامًا ثائر بأبيه؛ وهو يقتل البرىء والسقيم، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، فقدم، واستخلف على عسكره رجلًا. قال علي: أخبرنا المفضل، قال: لما قتل شيبان مرّ رجل من بكر بن وائل - يقا له خفاف - برسل أبي مسلم الذين كان أرسلهم إلى شيبان، وهم في بيت، فأخرجهم وقتلهم. وقيل: إن أبا مسلم وجّه إلى شيبان عسكرًا من قبله، عليهم خزيمة ابن خازم وبسام بن إبراهيم. ذكر خبر قتل علي وعثمان ابني جديع وفي هذه السنة قتل أبو مسلم عليًا وعثمان ابني جديع الكرماني. ذكر سبب قتل أبي مسلم إياهما وكان السبب في ذلك - فيما قيل - أن أبا مسلم كان وجّه موسى بن كعب إلى أبيورد فافتتحها. وكتب إلى أبي مسلم بذلك، ووجّه أبا داود إلى بلخ وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري، فلما بلغه قصد أبي داود بلخ خرج في أهل بلخ والترمذ وغيرهما من كورطخارستان إلى الجوزجان، فلما دنا أبو داود منهم، انصرفوا منهزمين إلى الترمذ، ودخل أبو داود مدينة بلخ، فكتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه مكانه يحيى بن نعيم أبا الميلاء على بلخ. فخرج أبو داود، فلقيه كتاب من أبي مسلم يأمره بالانصراف، فانصرف، وقدم عليه أبو الميلاء؛ فكاتب زياد بن عبد الرحمن يحيى بن نعيم أبو الميلاء أن يصير أيديهم واحدة، فأجابه، فرجع زياد بن عبد الرحمن القشيري ومسلم ابن عبد الرحمن بن مسلم الباهلي وعيسى بن زرعة السلمي وأهل بلخ والترمذ وملوك طخارستان، وما خلف النهر وما دونه، فنزل زياد وأصحابه على فرسخ من مدينة بلخ، وخرج إليه يحيى بن نعيم بمن معه حتى اجتمعوا، فصارت كلمتهم واحدة، مضريّهم ويمانيهم وربعيهم ومن معهم من الأعاجم على قتال المسوّدة، وجعلوا الولاية عليهم لمقاتل بن حيّان النبطي؛ كراهة أن يكون من الفرق الثلاثة، وأمر أبو مسلم أبا داود بالعود، فأقبل أبو داود بمن معه حتى اجتمعوا على نهر السرجنان. وكان زياد بن عبد الرحمن وأصحابه قد وجّهوا أبا سعيد القرشي مسلحة فيما بين العود وبين قرية يقال لها أمديان؛ لئلا يأتيهم أصحاب أبي داود من خلفهم. وكانت أعلام أبي سعيد وراياته سودًا، فلما اجتمع أبو داود وزياد وأصحابهما، واصطفوا للقتال، أمر أبو سعيد القرشي أصحابه أن يأتوا زيادًا وأصحابه من خلفهم، فرجع وخرج عليهم من سكة العود وراياته سود، فظنّ أصحاب زياد أنهم كمين لأبي داود، وقد نشب القتال بين الفريقين، فانهزم زياد ومن معه، وتبعهم أبو داود، فوقع عامة أصحاب زياد في نهر السرجنان، وقتل عامة رجالهم المتخلفين، ونزل أبو داود عسكرهم، وحوى ما فيه، ولم يتبع زيادًا ولا أصحابه وأكثر من تبعهم سرعان من سرعان خيل أبي داود إلى مدينة بلخ لم يجاوزها ومضى زياد ويحيى ومن معهما إلى الترمذ، وأقام أبو داود يومه ذلك ومن الغد، ولم يدخل مدينة بلخ واستصفى أموال من قتل بالسرجنان ومن هرب من العرب وغيرهم، واستقامت بلخ لأبي داود. ثم كتب إليه أبو مسلم يأمره بالقدوم عليه، ووجّه النضر بن صبيح المري على بلخ. وقدم أبو داود، واجتمع رأى أبي داود وأبي مسلم على أن يفرّقا بين علي وعثمان ابني الكرماني، فبعث أبو مسلم عثمان عاملًا على بلخ، فلما قدمها استخلف الفرافصة بن ظهير العيسي على مدينة بلخ، وأقبلت المضرية من ترمذ، عليهم مسلم بن عبد الرحمن الباهلي، فالتقوا وأصحاب عثمان بن جديع بقرية بين البروقان وبين الدستجرد؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أصحاب عثمان بن جديع، وغلب المضرّية ومسلم بن عبد الرحمن على مدينة بلخ، وأخرجوا الفرافصة منها. وبلغ عثمان بن جديع الخبر والنضر ابن صبيح، وهما بمرو الروذ، فأقبلا نحوهم، وبلغ أصحاب زياد بن عبد الرحمن فهربوا من تحت ليلتهم، وعتّب النضر في طلبهم، رجاء أن يفوتوا، ولقيهم أصحاب عثمان بن جديع، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم أصحاب عثمان بن جديع، وأكثروا فيهم القتل، ومضت المضريّة إلى أصحابها، ورجع أبو داود من مرو إلى بلخ، وسار أبو مسلم ومعه علي بن جديع إلى نيسابور. واتّفق رأي أبي مسلم ورأي أبي داود على أن يقتل أبو مسلم عليًا، ويقتل أبو داود عثمان في يوم واحد. فلما قدم أبو داود بلخ بعث عثمان عاملًا على الختل فيمن معه من يماني أهل مرو وأهل بلخ وربعيّهم. فلما خرج من بلخ خرج أبو داود فاتبع الأثر فلحق عثمان على شاطىء نهر بوخش من أرض الختل، فوثب أبو داود على عثمان وأصحابه، فحبسهم جميعًا ثم ضرب أعناقهم صبرًا. وقتل أبو مسلم في ذلك اليوم علي بن الكرماني، وقد كان أبو مسلم أمره أن يسمّى له خاصته ليوليهم، ويأمر لهم بجوائز وكسًا، فسماهم له فقتلهم جميعًا. قدوم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم وفي هذه السنة قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم خراسان منصرفًا من عند إبراهيم بن محمد بن علي، ومعه لواؤه الذي عقد له إبراهيم، فوجّهه أبو مسلم حين قدم عليه على مقدّمته، وضمّ إليه الجيوش، وجعل له العزل والاستعمال، وكتب إلى الجنود بالسّمع والطاعة. وفيها وجّه قحطبة إلى نيسابور للقاء نضر؛ فذكر علي بن محمد أن أبا الذيال والحسن بن رشيد وأبا الحسن الجشمي أخبروه أن شيبان بن سلمة الحروري لما قتل لحق أصحابه بنصر وهو بنيسابور، وكتب إليه النابي بن سويد العجلي يستغيث، فوجّه إليه نصر ابنه تميم بن نصر في ألفين، وتهيأ نصر على أن يسير إلى طوس، ووجّه أبو مسلم قحطبة بن شبيب في قواد، منهم القاسم ابن مجاشع وجهور بن مرّار، فأخذ القاسم من قبل سرخس، وأخذ جهور من قبل أبيورد، فوجّه تميم عاصم بن عمير السغدي إلى جهور؛ وكان أدناهم منه، فهزمه عاصم بن عمير، فتحصّن في كبادقان، وأطلّ قحطبة والقاسم على النابي، فأرسل تميم إلى عاصم أن ارحل عن جهور وأقبل؛ فتركه، وأقبل فقاتلهم قحطبة. قال أبو جعفر: فأما غير الذين روى عنهم علي بن محمد ما ذكرنا في أمر قحطبة وتوجيه أبي مسلم إياه إلى نصر وأصحابه، فإنه ذكر أن أبا مسلم لما قتل شيبان الخارجي وابني الكرماني، ونفى نصرًا عن مرو. وغلب على خراسان، وجّه عماله على بلادها. فاستعمل سباع بن النعمان الأزدي على سمرقند وأبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان، ووجّه محمد بن الأشعث إلى الطبسين وفارس، وجعل مالك بن الهيثم على شرطته، ووجّه قحطبة إلى طوس، ومعه عدّة من القوّاد؛ منهم أبو عون عبد الملك بن يزيد ومقاتل بن حكيم العكي وخالد بن برمك وخازم بن خزيمة والمنذر بن عبد الرحمن وعثمان ابن نهيك وجهور بن مرار العجلي وأبو العباس الطوسي وعبد الله بن عثمان الطائي وسلمة بن محمد وأبو غانم عبد الحميد بن ربعي وأبو حميد وأبو الجهم - وجعله أبو مسلم كاتبًا لقحطبة على الجند - وعامر بن إسماعيل ومحرز بن إبراهيم، في عدّة من القوّاد، فلقي من بطوس فانهزموا، وكان من مات منهم في الزحام أكثر ممن قتل؛ فبلغ عدّة القتلى يومئذ بضعة عشر ألفًا. ووجه أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق المحجة؛ وكتب إلى قحطبة يأمره بقتال تميم بن نصر بن سيّار والنابي بن سويد، ومن لجأ إليهما من أهل خراسان، وأن يصرف إليه موسى بن كعب من أبيورد. فلما قدم قحطبة أبيورد صرف موسى بن كعب إلى أبي مسلم، وكتب إلى مقاتل بن حكيم يأمره أن يوجّه رجلًا إلى نيسابور، ويصرف منها القاسم بن مجاشع؛ فوجّه أبو مسلم علي بن معقل في عشرة آلاف إلى تميم بن نصر، وأمره إذا دخل قحطبة طوس أن يستقبله بمن معه وينضمّ إليه؛ فسار علي بن معقل حتى نزل قرية يقال لها حلوان، وبلغ قحطبة مسير علي ونزوله حيث نزل، فعجل السير إلى السوذقان، وهو معسكر تميم بن نصر والنابي بن سويد، ووجّه على مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي في ثلاثة آلاف رجل من شيعة أهل نسا وأبيورد، فسار حتى نزل قرية يقال لها حبوسان، فتعبّأ تميم والنابي لقتاله، فكتب أسيد إلى قحطبة يعلمه ما أجمعوا عليه من قتاله، وأنه إن لم يعجل القدوم عليه حاكمهم إلى الله عز وجل، وأخبره أنهما في ثلاثين ألفًا من صناديد أهل خراسان وفرسانهم. فوجّه قحطبة مقاتل بن حكيم العكي في ألف وخالد بن برمك في ألف، فقدما على أسيد؛ وبلغ ذلك تميمًا والنابي فكسرهما. ثم قدم عليهم قحطبة بمن معه، وتعبّأ لقتال تميم، وجعل على ميمنته مقاتل بن حكيم وأبا عون عبد الملك بن يزيد وخالد بن برمك، وعلى ميسرته أسيد بن عبد الله الخزاعي والحسن بن قحطبة والمسيّب بن زهير وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار هو في القلب، ثم زحف إليهم، فدعاهم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ، وإلى الرضا من آل محمد ﷺ فلم يجيبوه، فأمر الميمنة والميسرة أن يحملوا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا أشدّ ما يكون من القتال، فقتل تميم بن نصر في المعركة، وقتل معه منهم مقتلة عظيمة، واستبيح عسكرهم، وأفلت النابي في عدّة، فتحصّنوا في المدينة، وأحاطت بهم الجنود، فنقبوا الحائط ودخلوا إلى المدينة، فقتلوا النابي ومن كان معه، وهرب عاصم بن عمير السمرقندي وسالم بن راوية السعيدي إلى نصر بن سيّار بنيسابور، فأخبراه بمقتل تميم والنابي ومن كان معهما؛ فلما غلب قحطبة على عسكرهم بما فيه صيّر إلى خالد بن برمك قبض ذلك، ووجّه مقاتل بن حكيم العكي على مقدمته إلى نيسابور؛ فبلغ ذلك نصر بن سيار؛ فارتحل هاربًا في أثر أهل إبرشهر حتى نزل قومس وتفرّق عنه أصحابه، فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان، وقدم قحطبة نيسابور بجنوده. ذكر خبر قتل نباتة بن حنظلة وفي هذه السنة قتل نباتة بن حنظلة عامل يزيد بن عمر بن هبيرة على جرجان. ذكر الخبر عن مقتله ذكر علي بن محمد أنّ زهير بن هنيد وأبا الحسن الجشمي وجبلة بن فرّوخ وأبا عبد الرحمن الأصبهاني أخبروه أن يزيد بن عمر بن هبيرة بعث نباتة بن حنظلة الكلابي إلى نصر، فأتى فارس وأصبهان، ثم سار إلى الري، ومضى إلى جرجان، ولم ينضمّ إلى نصر بن سيار، فقالت القيسيّة لنصر: لا تحملنا قومس، فتحوّلوا إلى جرجان. وخندق نباتة؛ فكان إذا وقع الخندق في دار قوم رشّوه فأخّره، فكان خندقه نحوًا من فرسخ. وأقبل قحطبة إلى جرجان في ذي القعدة من سنة ثلاثين ومائة، ومعه أسيد ابن عبد الله الخزاعي وخالد بن برمك وأبو عون عبد الملك بن يزيد وموسى بن كعب المرائي والمسيّب بن زهير وعبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، وعلى ميمنته موسى بن كعب، وعلى مسيرته أسيد بن عبد الله، وعلى مقدّمته الحسن بن قحطبة، فقال قحطبة: يا أهل خراسان، أتدرون إلى من تسيرون، ومن تقاتلون؟ إنما تقاتلون بقيّة قوم أحرقوا بيت الله عز وجل. وأقبل الحسن حتى نزل تخوم خراسان، ووجّه الحسن عثمان بن رفيع ونافعًا المروزي وأبا خالد المروروزي ومسعدة الطائي إلى مسلحة نباتة، وعليها رجل يقال له ذؤيب، فبيّتوه، فقتلوا ذؤيبًا وسبعين رجلًا من أصحابه، ثم رجعوا إلى عسكر الحسن، وقدم قحطبة فنزلا بإزاء نباة وأهل الشأم في عدّة لم ير الناس مثلها. فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلّموا بذلك وأظهروه. وبلغ قحطبة. فقام فيهم خطيبًا فقال: يا أهل خراسان؛ هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين، وكانوا ينصرون على عدوّهم بعدلهم وحسن سيرتهم؛ حتى بدّلوا وظلموا، فسخط الله عز وجل عليهم، فانتزع سلطانهم، وسلط عليهم أذلّ أمة كانت في الأرض عندهم، فغلبوهم على بلادهم، واستنكحوا نساءهم، واسترقّوا أولادهم؛ فكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد. وينصرون المظلوم، ثم بدّلوا وغيّروا وجاروا في الحكم، وأخافوا أهل البرّ والتقوى من عترة رسول الله ﷺ، فسلّطكم عليهم لينتقم منهم بكم لتكونوا أشدّ عقوبة؛ لأنكم طلبتموهم بالثأر. وقد عهد إلي الإمام أنكم تلقونهم في مثل هذه العدّة فينصركم الله عز وجل عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم. وقد قرىء على قحطبة كتاب أبي مسلم. من أبي مسلم إلى قحطبة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد. فناهض عدوّك؛ فإنّ الله عز وجل ناصرك؛ فإذا ظهرت عليهم فأثخن في القتل. فالتقوا في مستهلّ ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة في يوم الجمعة. فقال قحطبة: يا أهل خراسان. إن هذا اليوم قد فضّله الله تبارك وتعالى ة على سائر الأيام والعمل فيه مضاعف؛ وهذا شهر عظيم فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عز وجل، وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم، فالقوه بجدّ وصبر واحتساب؛ فإنّ الله مع الصابرين. ثم ناهضهم وعلى ميمنته الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته خالد بن برمك ومقاتل بن حكيم العكّي، فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض، فقتل نباتة، وانهزم أهل الشأم فقتل منهم عشرة آلاف، وبعث قحطبة إلى أبي مسلم برأس نباتة وابنه حيّة. قال: وأخبرنا شيخ من بني عدي، عن أبيه، قال: كان سالم بن راوية التميمي ممن هرب من أبي مسلم، وخرج مع نصر، ثم صار مع نباتة، فقاتل قحطبة بجرجان، فانهزم الناس، وبقي يقاتل وحده، فحمل عليه عبد الله الطائي - وكان من فرسان قحطبة - فضربه سالم بن راوية على وجهه، فأندر عينه. وقاتلهم حتى اضطر إلى المسجد، فدخله ودخلوا عليه، فكان لا يشدّ من ناحية إلا كشفهم، فجعل ينادي: شربة! فوالله لأنقعنّ لهم شرًا يومي هذا. وحرّقوا عليه سقف المسجد، فرموه بالحجارة حتى قتلوه وجاءوا برأسه إلى قحطبة، وليس في رأسه ولا وجهه مصح؛ فقال قحطبة: ما رأيت مثل هذا قط! ذكر وقعة أبي حمزة الخارجي بقديد قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بقديد بين أبي حمزة الخارجي وأهل المدينة. ذكر الخبر عن ذلك حدثني العباس بن عيسى العقيلي، قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي، قال حدثني غير واحد من أصحابنا، أنّ عبد الواحد بن سليمان استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس، فخرجوا، فلما كان بالحرّة لقيتهم جزر منحورة، فمضوا، فلما كان بالعقيق تعلّق لواؤهم بسمرة، فانكسر الرمح، فتشاءم الناس بالخروج؛ ثم ساروا حتى نزلوا قديد، فنزلوها ليلًا - وكانت قرية قديد من ناحية القصر المبني اليوم، وكانت الحياض هنالك، فنزل قوم مغتترّون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من القصر. وقد زعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم، وأدخلوهم عليهم فقتلوهم؛ وكانت المقتلة على قريش، هم كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة، وأصيب منهم عدد كثير. قال العباس: قال هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أن رجلًا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن وهو يقول: اعلحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش، فقال لابنه: يا بني ابدأ به - وقد كان من أهل المدينة - قال: فدنا منه ابنه فضرب عنقه، ثم قال لابنه: أي بني، تقدم؛ فقاتلا حتى قتلا. ثم ورد فلّال الناس المدينة، وبكى الناس قتلاهم؛ فكانت المرأة تقيم على حميمها النواح؛ فما تبرح النساء حتى تأتيهن الأخبار عن رجالهنّ فتخرج النساء امرأة امرأة؛ كل امرأة تذهب إلى حميمها فتنصرف حتى ما تبقى عندها امرأة. قال: وأنشدني أبو ضمرة هذه الأبيات في قتلي قديد الذين أصيبوا من قومه، رثاهم بعض أصحابهم فقال: يا لهف نفسي ولهفي غير كاذبة ** على فوارس بالبطحاء أنجاد عمرو وعمرو وعبد الله بينههما ** وابناهما خامس والحارث السادي ذكر خبر دخول أبي حمزة المدينة وفي هذه السنة دخل أبو حمزة الخارجي من مدينة رسول الله ﷺ وهرب عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشأم. ذكر الخبر عن دخول أبي حمزة المدينة وما كان منه فيها حدثني العباس بن عيسى، قال: حدثنا هارون بن موسى الفروي، قال: حدثني موسى بن كثير، قال: دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين ومائة، ومضى عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشأم، فرقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أهل المدينة؛ سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم لعمر الله فيهم القول، وسألناكم: هل يقتلون بالظنّ؟ فقلتم لنا: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال اعلحرام والفرج الحرام؟ فقلتم لنا: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأ، تم نناشدهم الله إلّا تنحّوا عنا وعنكم، فقلتم: لا يفعلون، فقلنا لكم تعالوا نحن وأ، تم نقاتلهم؛ فإن نظهر نحن وأ، تم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه محمد ﷺ، فقلتم: لا نقوى، فقلنا لكم: فخلّوا بيننا وبينهم؛ فإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ﷺ ونقسم فيئكم بينكم، فأبيتم، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم. قال محمد بن عمر: حدثني حزام بن هشام، قال: كانت الحرورية أربعمائة، وعلى طائفة من الحروريّة الحارث، وعلى طائفة بكار بن محمد العدوي؛ عدي قريش، وعلى طائفة أبو حمزة، فالتقوا وقد تهيّأ الناس بعد الإعذار من الخوارج إليهم، وقالوا لهم: إنا والله ما لنا حاجة بقتالكم، دعونا نمض إلى عدّونا. فأبى أهل المدينة، فالتقوا لسبع ليال خلون من صفر يوم الخميس سنة ثلاثين ومائة، فقتل أهل المدينة، لم يقلت منهم إلا الشريد، وقتل أميرهم عبد العزيز بن عبد الله، واتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا الحروريّة. فقال لي حزام: والله لقد آويت رجالًا من قريش منهم حتى آمن الناس؛ فكان بلج على مقدّمتهم. وقدمت الحروريّة المدينة لتسع عشرة ليلة خلت من صفر. حدثني العباس بن عيسى، قال: قال هارون بن موسى: أخبرني بعض أشياخنا، أن أبا حمزة لما دخل المدينة قام فخطب فقال في خطبته: يا أهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم وكتبتم إليه تسألونه أن يضع أخراصكم عنكم، فكتب إليكم يضعها عنكم، فزاد الغني غنىً، وزاد الفقير فقرًا، فقلتم: جزاك الله خيرًا؛ فلا جزاكم الله خيرًا ولا جزاه. قال العباس: قال هارون: وأخبرني يحيى بن زكرياء أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة، قال: رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: تعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرًا ولا بطرًا ولا عبثًا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا لثأر قديم نيل منا؛ ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنّف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط: ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيًا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله " ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض "، أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافًا واحدًا، قليلون مشتضعفون في الأرض؛ فآوانا وأيّدنا بنصره، فأصبحنا والله جميعًا بنعمته إخوانًا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم آل مروان؛ فشتّان لعمر الله ما بين الرشد والغي. ثم أقبلوا يهرعون يزفّون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدّق عليهم ظنه، وأقبل أنصار الله عز وجل عصائب وكتائب، بكل مهنّد ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون. وأنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله عز وجل بعذاب من عنده أو بأيدينا. ويشف صدور قوم مؤمنين. يا أهل المدينة، أوّلكم خير أول وآخركم شرّ آخر. يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم؛ إلا مشركًا عابد وثن، أو مشرك أهل الكتاب؛ أو إمامًا جائرًا. يا أهل المدينة من زعم أنّ الله عز وجلّ كلف نفسًا فوق طاقتها، أو سألها ما لم يؤتها، فهو لله عز وجل عدوّ، ولنا حرب. يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله عزّ وجل في كتابه على القويي والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها جميعيها لنفسه، مكابرًا محاربًا لربه. يا أهل المدينة؛ بلغني أنكم تنتقصون أصحابي؛ قلتم: شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويلكم يا أهل المدينة! وهل كان أصحاب رسول الله ﷺ إلا شبابًا أحداثًا! شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضبة عن الشر أعينيهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا الله عز وجل أنفسًا تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفًا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقًا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت والرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفّوا وعيد الكتيبة لوعيد الله عزّ وجل، ولم يستخفّوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما فاضت في جوف الليل من خوف الله عز وجل! وكم من يد زالت عن مفصلها طالما اعتمد بها صاحبها فيي سجوده لله، وكم من خدّ عتيق وجبين رقيق فلق بعمد الحديد. رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان. أقول قولي هذا واستغفر الله من تقصيرنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. حدثني العباس، قال قال هارون: حدثني جدّي أبو علقمة، قال: سمعت أبا حمزة على منبر رسول الله ﷺ، ييقول: من زنى فهو كافر، ومن شكّ فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومن شكّ أنه كافر فهو كافر. قال العباس: قال هارون: وسمعت جدّيي يقول: كان قد أحسن السيرة في أهل المدينة حتى استمال الناس حين سمعوا كلامه، في قوله: " من زنى فهو كافر ". قال العباس: قال هارون: وحدثني بعض أصحابنا: لما رقي المنبر قال: برح الخفاء، أين ما بك يذهب! من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، قال العباس: قال هارون: وأنشدني بعضهم في قديد: ما للزمان وماليه ** أفنت قديد رجاليه فلأبكين سريرة ** ولأبكينّ علانيه ولأبكين إذا شج ** ييت مع الكلاب العاويه فكان دخول أبي حمزة وأصحابه المدينة لثلاث عشرة بقيت من صفر. واختلفوا في قدر مدتهم في مقامهم بها، فقال الواقدي: كان مقامهم بها ثلاثة أشهر. وقال غيره: أقاموا بها بقيّة صفر وشهري ربيع وطائفة من جمادى الأولى. وكانت عدّة من قتل من أهل المدينة بقديد - فيما ذكر الواقدي - سبعمائة. قال أبو جعفر: وكان أبو حمزة - فيما ذكر - قد قدّم طائفة من أصحابه، عليهم أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن عمر القرشي، ثم أحد بني عدي بن كعب، وبلج بن عيينة بن الهيصم الأسدي من أهل البصرة، فبعث مروان بن محمد من الشأم عبد الملك بن محمد بن عطيّة أحد بني سعد في خيول الشأم. فحدثني العباس بن عيسى، قال: حدثني هارون بن موسى، عن موسى بن كثير، قال: خرج أبو حمزة من المدينة، وخلّف بعض أصحابه، فسار حتى نزل الوادي. قال العباس: قال هارون: حدثني بعض أصحابنا ممن أخبرني عنه أبو يحيى الزهري، أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف، واستعمل عليهم ابن عطيّة، وأمره بالجدّ في السير، وأعطى كلّ رجل منهم مائة دينار؛ وفرسًا عربيّة وبغلًا لثقله، وأمره أن يمضى فيقاتلهم؛ فإن هو ظفر مضى حتى بلغ اليمن ويقاتل عبد الله بن يحيى ومن معه؛ فخرج حتى نزل بالعلا - وكان رجل من أهل المدينة يقال له العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث، يقول: لقيني وأنا غلام ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية؛ فسألني: ما اسمك يا غلام؟ قال: فقلت: العلاء، قال: ابن من؟ قلت: ابن أفلح، قال: مولى من؟ قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن؟ قلت بالعلا، قال: فأين نحن غدًا؟ قلت: بغالب، قال: فما كلّمنيي حتى أردفني وراءه، ومضى بي حتى أدخلني على ابن عطية، فقال: سل هذا الغلام: ما اسمه،؟ فسألني، فرددت عليه القول الذي قلت، قال: فسرّ بذلك، ووهب لي دراهم. قال العبّاس: قال هارون: وأخبرني عبد الملك بن الماجشون، قال: لما لقي أبو حمزة وابن عطيّة، قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تخبروهم، قال: فصاحوا بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به؟ قال: فصاح ابن عطية: نضعه في جوف الجوالق، قال: فما تقولون في مال اليتيم؟ قال: نأكل ماله ونفجر بأمّه.. في أشياء بلغني أنهم سألوهم عنها. قال: فلما سمعوا كلامهم، قاتلوهم حتى أمسوا، فصاحوا: ويحك يا بن عطية! إنّ الله عز وجل قد جعل الليل سكنًا، فاسكن نسكن. قال: فأبى فقاتلهم حتى قتلهم. قال العبّاس: قال هارون: وكان أبو حمزة حين خرج ودّع أهل المدينة للخروج إلى مروان يقاتله، قال: يا أهل المدينة، إنا خارجون إلى مروان؛ فإن نظفر نعدل في أحكامكم، ونحملكم على سنة نبيكم محمد ﷺ، ونقسم فيئكم بينكم؛ وإن يكن ما تمنّون؛ فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. قال العباس: قال هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أنّ الناس وثبوا على أصحابه حين جاءهم قتلُه فقتلوهم. قال محمد بن عمر: سار أبو حمزة وأصحابه إلى مروان، فلقيهم خيل مروان بوادي القرى؛ عليها ابن عطيّة السعدي، من قيس، فأوقعوا بهم، فرجعوا منهزمين منهم إلى المدينة، فلقيهم أهل المديينية فقتلوهم. قال: وكان الذي قاد جيش مروان عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي سعد هوازن، قدم المدينة في أربعة آلاف فارس عربي؛ مع كلّ واحد منهم بغل، ومنهم من عليه درعان أو درع وسنّور وتجافيف؛ وعدّة لم ير مثلها في ذلك الزمان، فمضوا إلى مكة. وقال بعضهم: أقام ابن عطية بالمدينة حين دخلها شهرًا، ثم مضى إلى مكة، واستخلف على المدينة الوليد بن عروة بن محمد بن عطية، ثم مضى إلى مكة وإلى اليمن واستخلف على مكة ابن ماعز؛ رجلًا من أهل الشأم. ولما مضى ابن عطيّة بلغ عبد الله بن يحيى - وهو بصنعاء - مسيره إليه، فأقبل إليه بمن معه فالتقى هو وابن عطية، فقتل ابن عطية عبد الله بن يحييى، وبعث ابنه بشير إلى مروان، ومضى ابن عطية فدخل صنعاء وبعث برأس عبد الله بن يحيى إلى مروان، ثم كتب مروان إلى ابن عطيّة يأمره أن يغذ السير، وييحج بالناس، فخرج في نفر من أصحابه - فيما حدثني العباس بن عيسى، عن هارون - حتى نزل الجرف - هكذا قال العباس - ففطن له بعض أهل القرية، فقالوا: منهزميني والله، فشدّوا عليه، فقال: ويحكم! عامل الحجّ؛ والله كتب إلي أمير المؤمنين. قال أبو جعفر: وأما ابن عمر، فإنه ذكر أنّ أبا الزبير بن عبد الرحمن حدثه، قال: خرجت مع ابن عطية السعدي؛ ونحن اثنا عشر رجلًا، بعهد مروان على الحجّ، ومعه أربعون ألف دينار في خرجه، حتى نزل الجرف يريد الحجّ وقد خلف عسكره وخيله وراءه بصنعاء؛ فوالله إنا آمنون مطمئنون؛ إذ سمعت كلمة من امرأة: قاتل الله ابني جمانة ما أشأمهما! فقمت كأني أهريق الماء، وأشرفت على نشز من الأرض؛ فإذا الدهم من الرجال والسلاح والخيل والقذّافات؛ فإذا ابنا جمانة المراديّان واقفان علينا، قد أحدقوا بنا من كلّ ناحية، فقلنا: ما تريدون؟ قالوا: أنتم لصوص؛ فأخرج ابن عطية كتابه، وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين وعهده على الحجّ وأنا ابن عطية، فقالوا: هذا باطل، ولكنكم لصوص؛ فرأينا الشرّ. فركب الصفر بن حبيب فرسه، فقاتل وأحسن حتى قتل؛ ثم ركب ابن عطية فقاتل حتى قتل، ثم قتل من معنا وبقيت، فقالوا: من أنت؟ فقلت: رجل من همدان، قالوا: من أي همدان أنت؟ فاعتزيت إلى بطن منهم - وكنت عالمًا ببطون همدان - فتركوني، وقالوا: أنت آمن؛ وكلّ ما كان لك في هذا الرحل فخذه، فلو ادّعيت المال كله لأعطوني. ثم بعثوا معي فرسانًا حتى بلغوا بي صعدة، وأمنت ومضيت حتى قدمت مكة. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة غزا الصائفة - فيما ذكر - الوليد بن هشام، فنزل العمق وبنى حصن مرعش. وفيها وقع الطاعون بالبصرة. وفي هذه السنة قتل قحطبة بن شبيب من أهل جرجان من قتل من أهلها؛ قيل إنه قتل منهم زهاء ثلاثين ألفًا؛ وذلك أنه بلغه - فيما ذكر - عن أهل جرجان أنه أجمع رأيهم بعد مقتل نباتة بن حنظلة على الخروج على قحطبة، فدخل قحطبة لما بلغه ذلك من أمرهم؛ واستعرضهم، فقتل منهم من ذكرت. ولما بلغ نصر بن سيار قتل قحطبة نباتة ومن قتل من أهل جرجان وهو بقومس، ارتحل حتى نزل خوار الري. وكان سبب نزول نصر قومس - فما ذكر علي بن محمد - أن أبا الذيّال حدثه والحسن بن رشيد وأبا الحسن الجشمي؛ أن أبا مسلم كتب مع المنهال ابن فتّان إلى زياد بن زرارة القشيري بعهده على نيسابور بعدما قتل تميمي بن نصر والنابي بن سويد العجلي، وكتب إلى قحطبة يأمره أن يتيبع نصرًا؛ فوجه قحطبة العكّي على مقدّمته. وسار قحطبة حتى نزل نيسابور، فأقام بها شهرين؛ شهري رمضان وشوال من سنة ثلاثين ومائة، ونصر نازل في يقريية من قى قومس يقال لها بذش، ونزل من كان معه من قيس في قرية يقال لها الممد؛ وكتب نصر إلى ابن هبيرة يستمدّه وهو بواسط مع ناس من وجوه أهل خراسان؛ يعظّم الأمر عليه، فحبس ابن هبيرة رسله، وكتب نصر إلى مروان: إني وجّهت إلى ابن هبيرة قومًا من وجوه أهل خراسان ليعلموه أمر الناس من قبلنا، وسألته المدد فاحتبس رسلي ولم يمدّني بأحد؛ وإنما أنا بمنزلة من أخر من بيته إلى حجرته، ثم أخرج من حجرته إلى داره، ثم أخرج من داره إلى فناء داره؛ فإن أدركه من يعينه فعسى أن يعود إلى داره وتبقى له؛ وإن أخرج من داره إلى الطريق فلا دار له ولا فناء. فكتب مروان إلى ابن هبيرة يأمره أن يمدّ نصرًا، وكتب إلى نصر يعلمه ذلك، فكتب نصر إلى ابن هبيرة مع خالد مولى بني لييث يسأله أن يعجّل إليه الجند، فإنّ أهل خراسان قد كذبتهم حتى ما رجل منهم يصدّق لي قولًا؛ فأمدّني بعشرة آلاف قبل أن تمدّني بمائة ألف، ثم لا تغني شيئًا. وحجّ في هذه السنة بالناس محمد بن عبد الملك بن مروان؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره؛ عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكانت إليه مكة والمدينة والطائف. وكان فيها العراق إلى يزد بن عمر بن هبيرة. وكان على قضاء الكوفة الحجّاج بن عاصم المحاربي، وكان على قضاء البصرة عبّاد بن منصور، وعلى خراسان نصر بن سيار، والأمر بخراسان على ما ذكرت. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث ذكر خبر موت نصر بن سيار فممّا كان فيها من ذلك توجيه قحطبة ابنه اعلحسن إلى نصر وهو بقومس. فذكر علي بن محمد؛ أن زهير بن هنيد والحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ التاجي، قالوا: لما قتل نباتة ارتحل نصر بن سيّار من بذش، ودخل خوار وأميرها أبو بكر العقيلي، ووجّه قحطبة ابنه الحسن إلى قومس قال: يالمحرّم سنة إحدى وثلاثيين ومائة، ثم وجّه قحطبة أبا كامل وأبا القاسم محرز بن إبراهيم وأبا العباس المروزي إلى الحسن في سبعمائة، فلما كانوا قريبًا منه، انحاز أبو كامل وترك عسكره، وأتى نصرًا فصار معه، وأعلمه مكان القائد الذي خلّف، فوجّه إليهم نصر جندًا فأتوهم وهم في حائط فحصروهم، فنقب جميل بن مهران الحائط، وهرب هو وأصحابه، وخلّفوا شيئًا من متاعهم فأخذه أصحاب نصر، فبعث به نصر إلى ابن هبيرة، فعرض له عطيف بالري، فأخذ الكتاب من رسول نصر والمتاع، وبعث به إلى ابن هبيرة، فغضب نصر، وقال: أبي يتلعّب ابن هبيرة! أيشغب علي بضغابس قيس! أما والله لأدعنّه فليعرفنّ أنه ليس بشيء ولا ابنه الذي تربّص له الأشياء. وسار حتى نزل الري - وعلى الري حبيب بن بديل النهشلي - فخرج عطيف من الري حين قدمها نصر إلى همذان، وفيها مالك بن أدهم بن محرز الباهلي على الصحصحية، فلما رأى مالكًا في همذان عدل منها إلى أصبهان إلى عامر بن ضبارة - وكان عطيف في ثلاثة آلاف - وجّهه ابن هبيرة إلى نصر، فنزل الري، ولم يأت نصرًا. وأقام نصر بالري يومين ثم مرض، فكان يحمل حملًا؛ حتى إذا كان بساوة قريبًا من همذان مات بها؛ فلما مات دخل أصحابه همذان وكانت وفاة نصر - فيما قيل - لمضي اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول، وهو ابن خمس وثمانين سنة. وقيل إن نصرًا لما شخص من خوار متوجّهًا نحو الري لم يدخل الري ولكنه أخذ المفازة التي بين الري وهمذان فمات بها. رجع الحديث إلى حديث علي عن شيوخه. قالوا: ولما مات نصر بن سيّار بعث الحسن خازم بن خزيمة إلى قرية ييقال لها سمنان، وأقبل قحطبة من جرجان، وقدّم أمامه زياد بن زرارة القشيري؛ وكان زياد قد ندم على اتباع أبي مسلم، فانخزل عن قحطبة، وأخذ طريق أصبهان يريد أن يأتي عامر بن ضبارة، فوجّه قحطبة المسيّب بن زهير الضبي، فلحقه من غد بعد العصر فقاتله، فانهزم زياد، وقتل عامة من معه، ورجع المسيّب بن زهير إلى قحطبة، ثم سار قحطبة إلى قومس وبها ابنه الحسن، فقدم خازم من الوجه الذي كان وجّهه فيهي الحسن، فقدّم قحطبة ابنه الحسن إلى الري. وبلغ حبيب ابن بديل النهشلي ومن معه من أهل الشأم مسير الحسن، فخرجوا من الري ودخلها الحسن، فأقام حتى قدم أبوه. وكتب قحطبة حين قدم الري إلى أبي مسلم يعلمه بنزوله الري. أمر أبي مسلم مع قحطبة عند نزوله الري قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تحوّل أبو مسلم من مرو إلى نييسابور فنزلها. ذكر الخبر عما كان من أمر أبي مسلم هنالك ومن قحطبة بعد نزوله الري: ولما كتب قحطبة إلى أبي مسلم بنزوله الري ارتحل أبو مسلم - فيما ذكر - من مرو، فنزل نيسابور وخندق بها، ووجّه قحطبة ابنه الحسن بعد نزوله الري بثلاث إلى همذان؛ فذكر علي عن شيوخه وغيرهم أنّ الحسن بن قحطبة لما توجّه إلى همذان؛ خرج منها مالك بن أدهم ومن كان بها من أهل الشأم وأهل خراسان إلى نهاوند، فدعاهم مالك إلى أرزاقهم، وقال: من كان له ديوان فليأخذ رزقه، فترك قوم كثير دواوينهم ومضوا، فأقام مالك ومن بقي معه من أهل الشأم وأهل خراسان ممّن كان مع نصر، فسار الحسن من همذان إلى نهاوند، فنزل على أربعة فراسخ من المدينة، وأمدّه قحطبة بأبي الجهم بن عطية مولى باهلة في سبعمائة، حتى أطاف بالمدينة وحصرها. ذكر خبر قتل عامر بن ضبارة ودخول قحطبة أصبهان قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل عامر بن ضبارة. ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك وكان سبب مقتله أنّ عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر لما هزمه ابن ضبارة مضى هاربًا نحو خراسان، وسلك إليها طريق كرمان، ومضى عامر بن ضبارة فيي أثره لطلبه، وورد على يزيد بن عمر مقتل نباتة بن حنظلة بجرجان؛ فذكر علي بن محمد أن أبا السري وأبا الحسن الجشمّ والحسن ابن رشيد وجبلة بن فرّوج وحفص بن شبيب أخبروه، قالوا: لما قتل نباتة كتب ابن هبيرة إلى عامر بن ضبارة وإلى ابنه داود بن يزيد بن عمر أن يسيرا إلى قحطبة - وكانا بكرمان - فسارا في خمسين ألفًا حتى نزلوا أصبهان بمدينة جي - وكان يقال لعسكر ابن ضبارة عسكر العساكر - فبعث قحطبة إليهم مقاتلًا وأبا حفص المهلبي وأبا حماد المروزي مولى بني سليم وموسى بن عقيل وأسلم بن حسان وذؤيب بن الأشعث وكلثوم بن شبيب ومالك بن طريف والمخارق بن غفار والهيثم بن زياد؛ وعليهم جميعًا العكي، فسار حتى نزل قمّ. وبلغ ابن ضبارة نزول الحسن بأهل نهاوند، فأراد أن يأتيهم معينًا لهم، وبلغ الخبر العَكي من قمّ وخلف بها طريف بن غيلان، فكتب إليه قحطبة يأمره أن يقيم حتى يقدم عليه، وأن يرجع إلى قمّ، وأقبل قحطبة من الري، وبلغه طلائع العسكرين؛ فلما لحق قحطبة بمقاتل بن حكيم العكي ضمّ عسكر العكي إلى عسكره، وسار عامر بن ضبارة إليهم وبينه وبين عسكر قحطبة فرسخ، فأقام أيامًا، ثم سار قحطبة إليهم، فالتقوا وعلى ميمنة قحطبة العكي ومعه خالد بن برمك، وعلى ميسرته عبد الحميد بن ربعي ومعه مالك بن طريف - وقحطبة في عشرين ألفًا وابن ضبارة في مائة ألف، وقيل في خمسين ومائة ألف - فأمر قحطبة بمصحف فنصب على رمح ثم نادى: يا أهل الشأم، إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف، فشتموه وأفحشوا في القول، فأرسل إليهم قحطبة: احملوا عليهم، فحمل عليهم العكي، وتهايج الناس، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم أهل الشأم، وقتلوا قتلًا ذريعًا، وحووا عسكرهم، فأصابوا شيئًا لا يدرى عدده من السلاح والمتاع والرقيق، وبعث بالفتح إلى ابنه الحسن مع شريح بن عبد الله. قال علي: وأخبرنا أبو الذيال، قال: لقي قحطبة عامر بن ضبارة؛ ومع ابن ضبارة ناس من أهل خراسان؛ منهم صالح بن الحجاج النميري وبشر ابن بسطام بن عمران بن الفضل البرجمي وعبد العزيز بن شماس المازني وابن ضبارة في خيل ليست معه رجّالة، وحقحطبة معه خيل ورجّالة. فرموا الخيل بالنّشاب، فانهزم ابن ضبارة حتى دخل عسكره، واتّبعه قحطبة، فترك ابن ضبارة العسكر، ونادى: إلي، فانهزم الناس وقتل. قال علي: وأخبرنا المفضّل بن محمد الضبي، قال: لما لقي قحطبة ابن ضبارة انهزم داود بن يزيد بن عمر، فسأل عنه عامر، فقيل: انهزم، فقال: لعن الله شرّنا منقلبًا! وقاتل حتى قتل. قال علي: وأخبرنا حفص بن شبيب، قال: حدثني من شهد قحطبة وكان معه، قال: ما رأيت عسكرًا قطّ جمع ما جمع أهل الشأم بإصبهان من الخيل والسلاك والرقيق، كأنا افتتحنا مدينة؛ وأصبنا معهم ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير؛ ولقلّ بيت أو خباء ندخله إلا أصبنا فيه زكرة أو زقًا من الخمر، فقال بعض الشعراء: لما رمينا مضرًا بالقبّ ** قرضبهم قحطبة القرضب يدعون مروان كدعوى الربِّ ذكر خبر محاربة قحطبة أهل نهاوند ونهاوند وفي هذه السنة كانت وقعة قحطبة بنهاوند بمن كان لجأ إليها من جنود مروان بن محمد. وقيل: كانت الوقعة بجايلق من أرض أصبهان يوم السبت لسبع بقين من رجب. ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر علي بن محمد أن الحسن بن رشيد وزهير بن الهنيد أخبراه أن ابن ضبارة لما قتل كتب بذلك قحطبة إلى ابنه الحسن، فلما أتاه الكتاب كبّر وكبّر جنده، ونادوا بقتله، فقال عاصم بن عمير السغدي: ما صاح هؤلاء بقتل ابن ضبارة إلا وهو حقّ، فاخرجوا إلى الحسن بن قحطبة وأصحابه؛ فإنكم لا تقومون لهم، فتذهبون حيث شئتم قبل أن يأتيه أبوه أو مدده. فقالت الرجالة: تخرجون وأنتم فرسان على خيول فتذهبون وتتركوننا! فقال لهم مالك ابن أدهم الباهلي: كتب إلي ابن هبيرة ولا أبرح حتى يقدم علي. فأقاموا وأقام قحطبة بأصبهان عشرين يومًا، ثم سار حتى قدم على الحسن نهاوند فحصرهم أشهرًا، ثم دعاهم إلى الأمان فأبوا، فوضع عليهم المجانيق، فلما رأى ذلك مالك طلب الأمان لنفسه ولأهل الشأم - وأهل خراسان لا يعلمون - فأعطاه الأمان فوفى له قحطبة، ولم يقتل منهم أحدًا، وقتل من كان بنهاوند من أهل خراسان، إلا الحكم بن ثابت بن أبي مسعر الحنفي، وقتل من أهل خراسان أبا كامل وحاتم بن الحارث بن شريح وابن نصر بن سيّار وعاصم بن عمير وعلي بن عقيل وبيهس بن بديل من بني سليم؛ من أهل الجزيرة، ورجلًا من قريش يقال له البختري، من أولاد عمر بن الخطاب - وزعموا أن آل الخطاب لا يعرفونه - وقطن بن حرب الهلالي. قال علي: وحدثنا يحيى بن اعلحكم الهمداني، قال: حدثني مولى لنا قال: لمّا صالح مالك بن أدهم قحطبة قال بيهس بن بديل: إنّ ابن أدهم لمصالح علينا؛ والله لأفتكنّ به؛ فوجد أهل خراسان أن قد فتح لهم الأبواب، ودخلوا وأدخل قحطبة من كان معه من أهل خراسان حائطًا. وقال غير علي: أرسل قحطبة إلى أهل خراسان الذين في مدينة نهاوند يدعوهم إلى الخروج إليه، وأعطاهم الأمان، فأبوا ذلك. ثم أرسل إلى أهل الشأم بمثل ذلك فقبلوا، ودخلوا في الأمان بعد أن حوصروا ثلاثة أشهر: شعبان ورمضان وشوّال، وبعث أهل الشأم إلى قحطبة يسألونه أن يشغل أهل المدينية حتى يفتحوا الباب وهم لا يشعرون، ففعل ذلك قحطبة، وشغل أهل المدينة بالقتال، ففتح أهل الشأم الباب الذي كانوا عليه؛ فلما رأى أهل خراسان الذين في المدينة خروج أهل الشأم، سألوهم عن خروجهم، فقالوا: أخذنا الأمان لنا ولكم، فخرج رؤساء أهل خراسان، فدفع قحطبة كلّ رجل منهم إلى رجل من قوّاد أهل خراسان، ثم أمر مناديه فنادى: من كان فيي يده أسير ممّن خرج إلينا من أهل المدينية فلييضرب عنقه، وليأتنا برأسه. ففعلوا ذلك، فلم يبق أحد ممن كان قد هرب من أبي مسلم وصاروا إلى الحصن إلّا قتل، ما خلا أهل الشأم فإنه خلّى سبيلهم، وأخذ عليهم ألا يمالئوا عليه عدوًا. رجع الحديث إلى حديث علي عن شيوخه الذين ذكرت: ولما أدخل قحطبة الذين كانوا بنهاوند من أهل خراسان ومن أهل الشأم الحائط، قال لهم عاصم بن عمير: ويلكمّ ألا تدخلون الحائط! وخرج عاصم فلبس درعه، ولبس سوادًا كان معه، فلقيه شاكري كان له بخراسان فعرفه، فقال: أبو الأسود؟ قال: نعم، فأدخله في سرب، وقال لغلام له: احتفظ به ولا تطلعنّ على مكانه أحدًا، وأمر قحطبة: من كان عنده أسيرًا فليأتنا به. فقال الغلام الذي كان وكل بعاصم: إن عندي أسيرًا أخاف أن أغلب عليه، فسمعه رجل من أهل اليمن، فقال: أرنيه، فأراه إياه فعرفه، فأتى قحطبة فأخبره، وقال: رأس من رءوس الجبابرة، فأرسل إليه فقتله، ووفّى لأهل الشأم فلم يقتل منهم أحدًا. قال علي: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني وجبلة بن فروخ؛ قالا: لما قدم قحطبة نهاوند والحسن محاصرهم، أقام قحطبة عليهم، ووجّه الحسن إلى مرج القلعة، فقدّم الحسن خازم بن خزيمة إلى حلوان، وعليها عبد الله ابن العلاء الكندي، فهرب من حلوان وخلّاها. قال علي: وأخبرنا محرز بن إبراهيم، قال: لما فتح قحطبة نهاوند، أرادوا أن يكتبوا إلى مروان باسم قحطبة، فقالوا: هذا اسم شنيع، اقلبوه فجاء " هبط حقّ "، فقالوا: الأول مع شنعته أيسر من هذا. فردّوه. ذكر وقعة شهرزور وفتحها وفي هذه السنة كانت وقعة أبي عون بشهرزور. ذكر الخبر عنها وعما كان فيها ذكر علي أن أبا الحسن وجبلة بن فروخ، حدثاه قالا: وجّه قحطبة أبا عون عبد الملك بن يزيد الخراساني ومالك بن طريف الخراساني في أربعة آلاف إلى شهرزور، وبها عثمان بن سفياين على مقدّمة عبد الله بن مروان، فقدم أبو عون ومالك، فنزلا على فرسخين من شهرزور، فأقاما به يومًا وليلة، ثم ناهضا عثمان بن سفيان في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين ومائة فقتل عثمان بن سفيان، وبعث أبو عون بالبشارة مع إسماعيل بن المتوكّل، وأقام أبو عون في بلاد الموصل. وقال بعضهم: لم يقتل عثمان بن سفيان، ولكنّه هرب إلى عبد الله بن مروان، واستباح أبو عون عسكره، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة بعد قتال شديد. وقال: كان قحطبة وجه أبا عون إلى شهرزور في ثلاثين ألفًا بأمر أبي مسلم إياه بذلك. قال: ولما بلغ خبر أبي عون مروان وهو بحرّان، ارتحل منها ومعه جنود الشأم والجزيرة والموصل، وحشرت بنو أمية معه أبناءهم مقبلًا إلى أبي عون؛ حتى انتهى إلى الموصل، ثم أخذ في حفر الخنادق من خندق إلى خندق؛ حتى نزل الزاب الأكبر، وأقام أبو عون بشهرزور بقيّة ذي الحجة والمحرّم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وفرض فيها لخمسة آلاف رجل. ذكر خبر مسير قحطبة إلى ابن هبيرة بالعراق وفي هذه السنة سار قحطبة نحو ابن هبيرة؛ ذكر علي بن محمد أن أبا الحسن أخبره وزهير بن هنيد وإسماعيل بن أبي إسماعيل وجبلة بن فرّوخ، قالوا: لما قدم على ابن هبيرة ابنه منهزمًا من حلوان، خرج يزيد بن عمر بن هبيرة، فقاتل قحطبة في عدد كثير لا يحصى مع حوثرة بن سهيل الباهلي، وكان مروان أمدّ ابن هبيرة به، وجعل على الساقة زياد بن سهل الغطفاني، فسار يزيد بن عمر بن هبيرة، حتى نزل جلولاء الوقيعة وخندق، فاحتفر الخندق الذي كانت العجم احتفرته أيام وقعة جلولاء؛ وأقيل قحطبة حتى نزل قرماسين، ثم سار إلى حلوان، فنزل خانقين، فارتحل قحطبة من خانقين، وارتحل ابن هبيرة راجعًا إلى الدسكرة. وقال هشام عن أبي مخنف، قال: أقبل قحطبة، وابن هبيرة مخندق بجلولاء، فارتفع إلى عكبراء، وجاز قحطبة دجلة، ومضى حتى نزل دممًا دون الأنبار، وارتحل ابن هبيرة بمن معه منصرفًا مبادرًا إلى الكوفة لقحطبة، حتى نزل في الفرات في شرقيّه، وقدم حوثرة في خمسة عشر ألفًا إلى الكوفة، وقطع قحطبة الفرات من دممًا، حتى صار من غربيّه، ثم سار يريد الكوفة حتى انتهى إلى الموضع الذيي فيه ابن هبيرة. وفي هذه السنة حجّ بالناس الوليد بن عروة بن محمد بن عطية السعدي؛ سعد هوازن، وهو ابن أخي عبد الملك بن محمد بن عطية الذي قتل أبا حمزة الخارجيّز وكان والي المدينة من قبل عمه، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وغيره. وقد ذكر أن الوليد بن عروة إنما كان خرج خارجًا من المدينة، وكان مروان قد كتب إلى عمه عبد الملك بن محمد بن عطية يأمره أن يحجّ بالناس وهو باليمين؛ فكان من أمره ما قد ذكرت قبل، فلمّا أبطأ عليه عمه عبد الملك افتعل كتابًا من عمه يأمره بالحجّ بالناس، فحجّ بهم. وذكر أن الوليد بن عروة بلغه قتل عمه عبد الملك فمضى إلى الذين قتلوه، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وبقر بطون نسائهم، وقتل الصبيان، وحرّق بالنيران من قدر عليه منهم. وكان عامل مكة والمدينة والطائف في يهذه السنة الوليد بن عروة السعدي من قبل عمه عبد الملك بن محمد، وعامل العراق يزيد بن عمر بن هبيرة. وعلى قضاء الكوفة الحجاج بن عاصم المحاربي، وعلى قضاء البصرة عبّاد ابن منصور الناجي. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن هلاك قحطبة بن شبيب فمما كان فيها هلاك قحطبة بن شبيب. ذكر الخبر عن مهلكه وسبب ذلك فكان السبب في ذلك أنّ قحطبة لما نزل خانقين مقبلًا إلى ابن هبيرة، وابن هبيرة بجلولاء، ارتحل ابن هبيرة من جلولاء إلى الدسكرة، فبعث - فيما ذكر - قحطبة ابنه الحسن طليعةً ليعلم له خبر ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة راجعًا إلى خندقه بجلولاء، فوجد الحسن بن هبيرة في خندقه، فرجع إلى أبيه فأخبره بمكان ابن هبيرة؛ فذكر علّ بن محمد، عن زهير بن هنيد وجبلة ابن فرّوخ وإسماعيل بن أبي إسماعيل والحسن بن رشيد، أنّ قحطبة، قال لأصحابه لما رجع ابنه الحسن إليه وأخبره بما أخبره به من أمر ابن هبيرة: هل تعلمون طريقًا يخرجنا إلى الكوفة، لا نمرّ بابن هبيرة؟ فقال خلف بن المورّع الهمذاني، أحد بني تميم: نعم، أنا أدلّك، فعبر به تامرًا من روستقباذ، ولزم الجادّة حتى نزل بزرج سابور، وأتى عكبراء، فعبر دجلة إلى أوانا. قال علي: وحدثنا إبراهيم بن يزيد الخراساني، قال: نزل قحطبة بخانقين وابن هبيرة بجلولاء؛ بينهما خمسة فراسخ، وأرسل طلائعه إلى ابن هبيرة ليعلم علمه، فرجعوا إليه، فأعلموه أنه مقيم، فبعث قحطبة خازم بن خزيمة، وأمره أن يعبر دجلة، فعبر وسار بين دجلة ودجيل؛ حتى نزل كوثبا؛ ثم كتب إليه قحطبة يأمره بالمسير إلى الأنبار، وأن يحدر إليه ما فيها من السفن وما قدر عليه يعبرها، ويوافيه بها بد ممّا، ففعل ذلك خازم، ووافاه قحطبة بد ممّا، ثم عبر قحطبة الفرات في المحرّم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ووجّه الأثقال في البرّيّة، وصارت الفرسان معه على شاطىء الفرات، وابن هبيرة معسكر على فم الفرات من أرض الفوجة العليا، على رأس ثلاثة وعشرين فرسخًا من الكوفة، وقد اجتمع إليه فل ابن ضبارة، وأمدّه مروان بحوثرة بن سهيل الباهلي في عشرين ألفًا من أهل الشأم. وذكر علي أن الحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ أخبراه أنّ قحطبة لما ترك ابنّ هبيرة ومضى يريد الكوفة، قال حوثرة بن سهيل الباهلي وناس من وجوه أهل الشأم لابن هبيرة: قد مضى قحطبة إلى الكوفة، فاقصد أنت خراسان، ودعه ومروان فإنك تكسره، فبالحري أن يتبعك، فقال: ما هذا برأي، ما كان ليتبعني ويدع الكوفة؛ ولكنّ الرأي أن أبادره إلى الكوفة. ولما عبر قحطبة الفرات، وسار على شاطىء الفرات ارتحل ابن هبيرة من معسكره بأرض الفلّوجة، فاستعمل على مقدّمته حوثرة بن سهيل، وأمره بالمسير إلى الكوفة، والفريقان يسيران على شاطىء الفرات؛ ابن هبيرة بن الفرات وسورا، وقحطبة في غربيه مما يلي البرّ. ووقف قحطبة فعبر إليه رجل أعرابي في زورق، فسلّم على قحطبة، فقال: ممن أنت؟ قال: من طيّىء، فقال الأعرابي لقحطبة: اشرب من هذا واسقني سؤرك، فغرف قحطبة في قصعة فشرب وسقاه، فقال الحمد لله الذي نسأ أجلي حتى رأيتي هذا الجيش يشرب من هذا الماء. قال قحطبة: أتتك الرواية؟ قال: نعم؛ قال: ممن أنت؟ قال: من طيىء، ثم أحد بني نبهان، فقال قحطبة: صدقني إمامي، أخبرني أن لي وقعة على هذا النهر لي فيها النصر، يا أخا بني نبهان، هل ها هنا مخاضة؟ قال: نعم ولا أعرفها، وأدلك على من يعرفها؛ السنديي بن عصم. فأرسل إليه قحطبة، فجاء وأبو السندي وعون، فدلّوه على المخاضة وأمسى ووافته مقدّمة ابن هبيرة في عشرين ألفًا، عليهم حوثرة. فذكر علي، عن ابن شهاب العبدّي، قال: نزل قحطبة الجبارية فقال: صدقني الأمام أخبرني أن النصر بهذا المكان، وأعطى الجند أرزاقهم، فردّ عليه كاتبه ستة عشر ألف درهم، فضل الدرهم والدرهمين وأكثر وأقل، فقال: لا تزالون بخير ما كنتم على هذا. ووافته خيول الشأم، وقد دلّوه على مخاضة فقال: إنما أنتظر شهر حرام وليلة عاشوراء، وذلك سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف أنّ قحطبة انتهى إلى موضع مخاضة ذكرت له، وذلك عند غروب الشمس ليلة الأربعاء؛ لثمان خلون من المحرّم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فلما انتهى قحطبة إلى المخاضة اقتحم في عدة من أصحابه، حتى حمل على ابن هبيرة، ووليي أصحابه منهزمين؛ ثم نزلوا فم النيل، ومضى حوثرة حتى نزل قصر ابن هبيرة، وأصبح أهل خراسان وقد فقدوا أميرهم، فألقوا بأيدهم، وعلى الناس الحسن بن قحطبة. رجع الحديث إلى حديث علي عن ابن شهاب العبدي: فأما صاحب علم قحطبة خيران أو يسار مولاه، فقال له: اعبر، وقال لصاحب رايته مسعود بن علاج رجل من بكر بن وائل: اعبر، وقال لصاحب شرطته عبد الحميد بن ربعي أبي غانم أحد بني نبهان من طيىء: اعبر يا أبا غانم، وأبشر بالغنيمة. وعبر جماعة حتى عبر أربعمائة، فقاتلوا أصحاب حوثرة حتى نحوهم عن الشريعة، ولقوا محمد بن نباة فقاتلوه، ورفعوا النيران، وانهزم أهل الشأم، وفقدوا قحطبة فبايعوا حميد بن قحطبة على كره منه، وجعلوا على الأثقال رجلًا يقال له أبو نصر في مائتين، وسار حميد حتى نزل كربلاء، ثم دير الأعور ثم العباسيّة. قال علي: أخبرنا خالد بن الأصفح وأبو الذيّال، قالوا: وجد قحطبة فدفنه أبو الجهم، فقال رجل من عرض الناس: من كان عنده عهد من قحطبة فلييخبرنا به، فقال مقاتل بن مالك العكي: سمعت قحطبة يقول: إن حدث بي حدث فالحسن أمير الناس، فبايع الناس حميدًا للحسن، وأرسلوا إلى الحسن، فلحقه الرسول دون قرية شاهي، فرجع الحسن فأعطاه أبو الجهم خاتم قحطبة، وبايعوه، فقال الحسن: إن كان قحطبة مات فأنا ابن قحطبة. وقتل في هذه الليلة ابن نبهان السدوسي وحرب بن سلم بن أحوز وعيسى بن إياس العدويي ورجل من الأساورة، يقال له مصعب، وادّعى قتل قحطبة معن بن زائدة ويحييى بن حضين. قال علي: قال أبو الذيّال: وجدوا قحطبة قتيلا في جدول وحرب بن سلم بن أحوز قتيل إلى جنبه، فظنوا أن كلّ واحد منهما قتل صاحبه. قال علي: وذكر عبد الله بن بدر قال: كنت مع ابن هبيرة ليلة قحطبة فعبروا إلينا، فقاتلونا على مسنّاة عليها خمسة فوارس؛ فبعث ابن هبيرة محمد بن نباتة، فتلقاهم فدفعناهم دفعًا، وضرب معن بن زائدة قحطبة على حبل عاتقه، فأسرع فيه السيف، فسقط قحطبة في الماء فأخرجوه، فقال: شدّوا يدي، فشدّوها بعمامة، فقال: إن متّ فألقونيي في الماء لا يعلم أحد بقتلي. وكرّ عليهم أهل خراسان، فانكشف ابن نباتة وأهل الشأم، فاتبعونا وقد أخذ طائفة في وجه، ولحقنا قوم من أهل خراسان، فقاتلناهم طويلًا، فما نجونا إلّا برجلين من أهل الشأم قاتلوا عنا قتالًا شديدًا، فقال بعض الخراسانيّة: دعوا هؤلاء الكلاب بالفارسية فانصرفوا عنا. ومات قحطبة وقال قبل موته: إذا قدمتم الكوفة فوزير الإمام أبو سلمة؛ فسلموا هذا الأمر إليه. ورجع ابن هبيرة إلى واسط. وقد قيل في هلاك قحطبة قول غير الذي قاله من ذكرنا قوله من شيوخ علي بن محمد؛ والذي قيل من ذلك أنّ قحطبة لما صار بحذاء ابن هبيرة من الجانب الغربي من الفرات، وبينهما الفرات، قدّم الحسن ابنه على مقدّمته، ثم أمر عبد الله الطائي ومسعود بن علاج وأسد بن المرزبان وأصحابهم بالعبور على خيولهم في الفرات، فعبروا بعد العصر، فطعن أوّل فارس لقيهم من أصحاب ابن هبيرة، فولّوا منهزمين حتى بلغت هزيمتهم جسر سورا حتى اعترضهم سويد صاحب شرطة ابن هبيرة، فضرب وجوههم ووجوه دوابّهم حتى ردّهم إلى موضعهم؛ وذلك عند المغرب؛ حتى انتهوا إلى مسعود بن علاج ومن معه؛ فكثروهم، فأمر قحطبة المخارق بن غفار وعبد الله بسّام وسلمة ابن محمد - وهم في جريدة خيل - أن يعيبروا، فيكيونوا ردءًا لمسعود بن علاج، فعبروا ولقيهم محمد بن نباتة، فحصر سلمة ومن معه بقرية على شاطىء الفرات، وترجّل سلمة ومن معه، وحميَ القتال، فجعل محمد بن نباتة يحمل على سلمة وأصحابه، فيقتل العشرة والعشرين، ويحمل سلمة وأصحابه على محمد بن نباتة وأصحابه، فيقتل منهم المائة والمائتين، وبعث سلمة إلى قحطبة يستمدّه، فأمدّه بقواده جميعًا، ثم عبر قحطبة بفرسانه، وأمر كل فارس أن يردف رجلًا؛ وذلك ليلة الخميس لليال خلون من المحرّم، ثم واقع قحطبة محمد بن نباتة ومن معه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فهزمهم قحطبة حتى ألحقهم بابن هبيرة، وانهزم ابن هبيرة بهزيمة ابن نباتة، وخلّوا عسكرهم وما فييه من الأموال والسلاح والرّثّة والآنية وغر ذلك؛ ومضت بهم الهزيمة حتى قطعوا جسر الصراة، وساروا لييلتهم حتى أصبحوا بفم النيل، وأصبح أصحاب قحطبة وقد فقدوه؛ فلم يزالوا في رجاء منه إلى نصف النهار، ثم يئسوا منه وعلموا بغرقه، فأجمع القوّاد على الحسن بن قحطبة فولّوه الأمر وبايعوه، فقام بالأمر وتولاه، وأمر بإحصاء ما في عسكر ابن هبيرة، ووكّل بذلك رجلًا من أهل خراسان يكنى أبا النضر في مائتي فارس، وأمر بحمل الغنائم في السفن إلى الكوفة، ثم ارتحل الحسن بالجنود حتى نزل كربلاء، ثم ارتحل فنزل سورا، ثم نزل بعدها دير الأعور، ثم سار منه فنزل العباسيّة. وبلغ حوثرة هزيمة ابن هبيرة، فخرج بمن معه حتى لحق بابن هبيرة بواسط. وكان سبب قتل قحطبة - فيما قال هؤلاء - أنّ أحلم بن إبراهيم بن بسام مولى بني ليث قال: لما رأيت قحطبة في يالفرات، وقد سبحت به دابته حتى كادت تعبر به من الجانب الذي كنت فيه أنا وبسام بن إبراهيم أخي - وكان بسام على مقدّمة قحطبة - فذكرت من قتل من ولد نصر بن سيار وأشياء ذكرتها منه؛ وقد أشفقت على أخي بسام بن إبراهيم لشيء بلغه عنه، فقلت: لا طلبت بثأر أبدًا إن نجوت الليلة. قال: فأتلقاه وقد صعدت به دابّته لتخرج من الفرات وأنا على الشطّ، فضربته بالسيف على جبينه، فوثب فرسه، وأعجله الموت؛ فذهب في الفرات بسلاحه. ثم أخبر ابن حصين السعدي بعد موت أحلم بن إبراهيم بمثل ذلك، وقال: لولا أنه أقرّ بذلك عند موته ما أخبرتُ عنه بشيء. ذكر خبر خروج محمد بن خالد بالكوفة مسودا قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج محمد بن خالد بالكوفة، وسوّد قبل أن يدخلها الحسن بن قحطبة، وخرج عنها عامل ابن هبيرة، ثم دخلها الحسن. ذكر الخبر عما كان من أمر من ذكرت ذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: خرج محمّد بن خالد بالكوفة في ليلة عاشوراء، وعلى الكوفة زياد بن صالح الحارثي، وعلى شرطه عبد الرحمن ابن بشير العجلي؛ وسوّد محمد وسار إلى القصر، فارتحل زياد بن صالح وعبد الرحمن بن بشير العجلي ومن معهم من أهل الشأم، وخلّوا القصر، فدخله محمد بن خالد، فلما أصبنح يوم الجمعة - وذلك صبيحة اليوم الثاني من مهلك قحطبة - بلغه نزول حوثرة ومن معه مدينة ابن هبيرة، وأنه تهيّأ للمسير إلى محمد، فتفرّق عن محمد عامة من معه حيث بلغهم نزول حوثرة مدينة ابن هبيرة، ومسيره إلى محمد لقتاله؛ إلّا فرسانًا من فرسان أهل اليمن، ممن كان هرب من مروان ومواليه. وأرسل إليه أبو سلمة الخلال - ولم يظهر بعد - يأمره بالخروج من القصر واللحاق بأسفل الفرات؛ فإنه يخاف عليه لقلة من معه وكثرة من مع حوثرة - ولم يبلغ أحدًا من الفريقين هلاك قحطبة - فأبى ة محمد بن خالد أن يفعل حتى تعالى النهار، فتهيّأ حوثرة للمسير إلى محمد بن خالد؛ حييث بلغه قلّة من معه وخذلان العامة له، فبينا محمد في القصر إذ أتاه بعض طلائعه، فقال له: خيل قد جاءت من أهل الشأم، فوجّه إليهم عدّة من مواليه، فأقاموا بباب دار عمر بن سعد؛ إذ طلعت الرايات لأهل الشأم، فتهيئوا لقتالهم، فنادى الشأميون: نحن بجيلة، وفينا مليح بن خالد البجلي، جئنا لندخل في طاعة الأمير. فدخلوا، ثم جاءت خيل أعظم منها مع رجل من آل بحدل، فلما رأى ذلك حوثرة من صنيع أصحابه، ارتحل نحو واسط بمن معه، وكتب محمد بن خالد من ليلته إلى قحطبة؛ وهو لا يعلم بهلكه؛ يعلمه أنه قد ظفر بالكوفة، وعجل به مع فارس؛ فقدم على الحسن بن قحطبة، فلما دفع إليه كتاب محمد بن خالد قرأه على الناس، ثم ارتحل نحو الكوفة، فأقام محمد بالكوفة يوم الجمعة والسبت والأحد وصبّحه الحسن يوم الاثنين، فأتوا أبا سلمة وهو في بني سلمة فاستخرجوه، فعسكر بالنخيلة يومين، ثم ارتحل إلى حمّام أعين، ووجّه الحسن ابن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة. وأما علي بن محمد، فإنه ذكر أن عمارة مولى جبرائيل بن يحيى أخبره، قال: بايع أهل خراسان الحسن بعد قحطبة، فأقبل إلى الكوفة، وعليها يومئذ عبد الرحمن بن بشير العجلي، فأتاه رجل من بني ضبّة، فقال: إن الحسن داخل اليوم أو غدًا؛ قال: كأنك جئت ترهبني! وضربه ثلثمائة سوط. ثم هرب فسوّد محمد بن خالد بن عبد الله القسري، فخرج في أحد عشر رجلًا، ودعا الناس إلى البيعة، وضبط الكوفة، فدخل الحسن من الغد، فكانوا يسألون في الطريق: أين منزل أبي سلمة، وزير آل محمد؟ فدلّوهم عليه، فجاءوا حتى وقفوا على بابه، فخرج إليهم، فقدّموا له دابة من دواب قحطبة فركبها، وجاء حتى وقف في جبّانة السبيع، وبايع أهل خراسان، فمكث أبو سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع - يقال له وزير آل محمد - واستعمل محمد بن خالد بن عبد الله القسري على الكوفة - وكان يقال له الأمير - حتى ظهر أبو العباس. وقال علي: أخبرنا جبلة بن فرّوخ وأبو صالح المروزي وعمارة مولى جبرائيل وأبو السري وغيرهم ممّن قد أدرك أوّل دعوة بن يالعباس، قالوا: ثم وجّه الحسن ابن قحطبة إلى ابن هبيرة بواسط، وضمّ إليه قوّادًا، منهم خازم بن خزيمة ومقاتل بن حكيم العكي وخفّاف بن منصور وسعيد بن عمرو وزياد بن مشكان والفضل بن سليمان وعبد الكريم بن مسلم وعثمان بن نهيك وزهير بن محمد والهيثم بن زياد وأبو خالد المروزي وغيرهم، ستة عشر قائدًا وعلى جميعهم الحسن بن قحطبة. ووجّه حميد بن قحطبة إلى المدائن في قوّاد؛ منهم عبد الرحمن بن نعيم ومسعود بن علاج؛ كلّ قائد في أصحابه. وبعث المسيّب بن زهير وخالد بن برمك إلى ديرقني، وبعث المهلبي وشراحيل في أربعمائة إلى عين التمر، وبسّام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز، وبها عبد الواحد ابن عمر بن هبيرة. فلما أتى بسام الأهواز خرج عبد الواحد إلى البصرة، وكتب مع حفص بن السبيع إلى سفيان بن معاوية بعهده على البصرة، فقال له الحارث أبو غسان الحارثي - وكان يتكهّن وهو أحد بني الديّان: لا ينفذ هذا العهد. فقدم الكتاب على سفيان، فقاتله سلم بن قتيبة، وبطل عهد سفيان. وخرج أبو سلمة فعسكر عند حمّام أعين، على نحو من ثلاثة فراسخ من الكوفة، فأقام محمد بن خالد بن عبد الله بالكوفة. وكان سبب قتال سلم بن قتيبة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب - فيما ذكر - أن أبا سلمة الخلال وجّه إذ فرّق العمال في البلدان بسام بن إبراهيم مولى بني ليث إلى عبد الواحد بن عمر بن هبيرة وهو بالأهواز، فقاتله بسام حتى فضّه، فلحق سلم بن قتيبة الباهلي بالبصرة؛ وهو يومئذ عامل ليزيد بن عمر بن هبيرة. وكتب أبو سلمة إلى الحسن بن قحطبة أن يوجّه إلى سلم من أحبّ من قوّاده، وكتب إلى سفياين بن معاوية بعهده على البصرة، وأمره أن يظهر بها دعوة بني العباس، ويدعو إلى القائم منهم؛ وينفي سلم ابن قتيبة. فكتب سفيان إلى سلم يأمره بالتحوّل عن دار الإمارة، ويخبره بما أتاه من رأى أبي سلمة؛ فأبى سلم ذلك، وامتنع منه، وحشد مع سفيان جميع اليمانية وحلفاءهم من ربيعة غيرهم، وجنح إليه قائد من قوّاد ابن هبيرة؛ وكان بعثه مددًا لسلم في ألفي رجل من كلب، فأجمع السير إلى سلم بن قتيبة، فاستعدّ له سلم، وحشد معه من قدر عليه من قيس وأحياء مضر ومن كان بالبصرة من بني أمية ومواليهم، وسارعت بنو أمية إلى نصره. فقدم سفيان يوم الخميس وذلك في صفر؛ فأتى المربد سلم، فوقف منه عند سوق الإبل، ووجّه الخيول في سكة المربد وسائر سكك البصرة للقاء من وجه إليه سفيان، ونادى: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، ومن جاء بأسير فله ألف درهم. ومضى معاوية بن سفيان بن معاوية في ربيعة خاصةً، فلقيه خيل من تميم في السكة التي تأخذ إلى بني عامر في سكّة المربد عند الدار التي صارت لعمر بن حبيب، فطعن رجل منهم فرس معاوية، فشبّ به فصرعه؛ فنزل إليه رجل من بني ضبّة يقال له عياض، فقتله، وحمل رأسه إلى سلم بن قتيبة، فأعطاه ألف درهم، فانكسر سفيان لقتل ابنه، فانهزم ومن معه، وخرج من فوره هو وأهل بيته حتى أتى القصر الأبيض فنزلوه، ثم ارتحلوا منه إلى كسكر. وقدم على سلم بعد غلبته على البصرة جابر بن توبة الكلابي والوليد بن عتبة الفراسي، من ولد عبد الرحمن بن سمرة في أربعة آلاف رجل، كتب إليهم ابن هبيرة أن يصيروا مددًا لسلم وهو بالأهواز، فغدا جابر بمن معه على دور المهلب وسائر الأزد، فأغاروا عليهم، فقاتلهم من بقي من رجال الأزد قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى فيهم؛ فانهزموا، فسبى جابر ومن معه من أصحابه النساء، وهدموا الدور وانتهبوا؛ فكان ذلك من فعلهم ثلاثة أيام؛ فلم يزل سلم مقيمًا بالبصرة حتى بلغه قتل ابن هبيرة، فشخص عنها فاجتمع من البصرة من ولد الحارث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أمرهم فوليهم أيامًا يسيرة، حتى قدم البصرة أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم، فوليها خمسة أيام، فلما قام أبو عباس ولّاها سفيان بن معاوية. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ليلة الجمعة لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر؛ كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال هشام بن محمد. وأما الواقدي فإنه قال: بويع لأبي العباس بالمدينة بالخلافة في جمادى الأولى في سنة ثنتين وثلاثين ومائة. قال الواقدي: وقال لي أبو معشر: في شهر ربيع الأول سنة ثنتين وثلاثين ومائة؛ وهو الثبت. خلافة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ذكر الخبر عن سبب خلافته وكان بدء ذلك - فيما ذكر عن رسول الله ﷺ - أنه أعلم العباس بن عبد المطلب أنه تؤول الخلافة إلى ولده، فلم يزل ولده يتوقّعون ذلك، ويتحدثون به بينهم. وذكر علي بن محمد أن إسماعيل بن الحسن حدثه عن رشيد بن كريب، أنّ أبا هاشم خرج إلى الشأم، فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال: يا بن عمّ، إن عندي علمًا أنبذه إليك فلا تطلعنّ عليه أحدًا؛ إن هذا الأمر الذي يرتجيه الناس، فيكم. قال: قد علمت فلا يسمعنّه منك أحد. قال علي: وأخبرنا سليمان بن داود، عن خالد بن عجلان، قال: لما خالف ابن الأشعث، وكتب الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك، أرسل عبد الملك إلى خالد بن يزيد فأخبره، فقال: أما إذا كان الفتق من سجستان فليس عليك بأس؛ إنما كنا نتخوّف لو كان من خراسان. وقال علي: أخبرنا الحسن بن رشيد وجبلة بن فرّوخ التاجي ويحيى بن طفيل والنعمان بن سري وأبو حفص الأزدي وغيرهم أن الإمام محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس، قال: لنا ثلاثة أوقات: موت الطاغية يزيد بن معاوية، ورأس المائة، وفتق بإفريقية، فعند ذلك يدعو لنا دعاة، ثم يقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب، ويستخرجوا ما كنز الجبّارون فيها. فلمّا قتل يزيد بن أب يمسلم بإفريقية، ونقضت البربر، بعث محمد بن علي رجلًا إلى خراسان، وأمره أن يدعو إلى الرضا، ولا يسمّي أحدًا. وقد ذكرنا قبل خبر محمد بن علي، وخبر الدعاة الذي وجههم إلى خراسان. ثم مات محمد بن علي وجعل وصيّه من بعده ابنه إبراهيم؛ فبعث إبراهيم بن محمد إلى خراسان أبا سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع، وكتب معه إلى النقباء بخراسان، فقبلوا كتبه وقام فيهم، ثم رجع إليه فردّه ومعه أبو مسلم. وقد ذكرنا أمر أبي مسلم قبل وخبره. ثم وقع في يد مروان بن محمد كتاب لإبراهيم بن محمد إلى أبي مسلم، جواب كتاب لأبي مسلم يأمره بقتل كل من يتكلم بالعربيّة بخراسان. فكتب مروان إلى عامله بدمشق يأمره بالكتاب إلى صاحبه بالبلقاء أن يسير إلى الحميمة، ويأخذ إبراهيم بن محمد ويوجّه به إليه. فذكر أبو زيد عمر بن شبّة أن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، حدثه عن عثمان بن عروة ابن محمد بن عمار بن ياسر، قال: إني مع أبي جعفر بالحميمة ومعه ابناه محمد وجعفر، وأنا أرقّصهما، إذ قال لي: ماذا تصنع؟ أما ترى إلى ما نحن فيه! قال: فنظرت فإذا رسل مروان تطلب إبراهيم بن محمد، قال: فقلت: دعني أخرج إليهم، قال: تخرج من بيتي وأنت ابن عمار بن ياسر! قال: فأخذوا أبواب المسجد حين صلوا الصبحح، ثم قالوا للشاميّين الذين معهم: أين إبراهيم بن محمد؟ فقالوا: هو ذا، فأخذوه؛ وقد كان مروان أمرهم بأخذ إبراهيم، ووصف لهم صفة أبي العباس التي كان يجدها في الكتب أنه يقتلهم؛ فلما أتوه بإبراهيم، قال: ليس هذه الصفة التي وصفت لكم، فقالوا: قد رأينا الصفة التي وصفت، فردّهم في طلبه، ونذروا، فخرجوا إلى العراق هرّابًا. قال عمر: وحدثني عبد الله بن كثير بن الحسن العبدي، قال: أخبرني علي بن موسى، عن أبيه، قال: بعث مروان بن محمد رسولًا إلى الحميمة يأتيه بإبراهيم بن محمد، ووصف له صفته، فقدم الرسول فوجد الصفة صفة أبي العباس عبد الله بن محمد، فلما ظهر إبراهيم بن محمد وأمن قيل للرسول: إنما أمرت بإبراهيم؛ وهذا عبد الله! فلما تظاهر ذلك عنده ترك أبا العباس وأخذ إبراهيم، وانطلق به. قال: فشخصت معه أنا وأناس من بني العباس ومواليهم، فانطلق بإبراهيم، ومعه أمّ ولد له كان بها معجبًا، فقلنا له: إنما أتاك رجل، فهلمّ فلنقتله ثم ننكفىء إلى الكوفة، فهم لنا شيعة، فقال: ذلك لكم، قلنا: فأمهل حتى نصير إلى الطريق التي تخرجنا إلى العراق. قال: فسرنا حتى صرنا إلى طريق تتشعّب إلى العراق، وأخرى إلى الجزيرة، فنزلنا منزلًا؛ وكان إذا أراد التعريس اعتزل لمكان أمّ ولده، فأتينا للأمر الذي اجتمعنا عليه، فصرخنا به، فقام ليخرج فتعلقت به أم ولده، وقالت: هذا وقت لم تكن تخرج فيه؛ فما هاجك! فالتوى عليها، فأبت حتى أخبرها، فقالت: أنشدك الله أن تقتله فتشأم أهلك! والله لئن قتلته لا يبقي مروان من آل العباس أحدًا بالحميمة إلّا قتله؛ ولم تفارقه حتى حلف لها ألا يفعل، ثم خرج إلينا وأخبرنا، فقلنا: أنت أعلم. قال عبد الله: فحدثني ابن لعبد الحميدي بن يحيى كاتب مروان، عن أبيه، قال: قلت لمروان بن محمد: أتتّهمني؟ قال: لا، قلت: أفيحطك صهره؟ قال: لا، قلت: فإني أرى أمره ينبغ عليك فأنكحه وأنكح إليه، فإن ظهر كنت قد أعلقت بينك وبينه سببًا لا يريبك معه، وإن كفيته لم يشنك صهره. قال: ويحك! والله لو علمته صاحب ذاك لسبقت إليه؛ ولكن ليس بصاحب ذلك. وذكر أن إبراهيم بن محمد حين أخذ للمضي به إلى مروان نعى إلى أهل بيته حين شيّعوه نفسه، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة مع أخيه أبي العباس عبد الله ابن محمد، وبالسمع له وبالطاعة، وأوصى إلى أبي العباس، وجعله الخليفة بعده؛ فشخص أبو العباس عند ذلك ومن معه من أهل بيته؛ منهم عبد الله ابن محمد وداود بن عيسى، وصالح وإسماعيل وعبد الله وعبد الصمد بنو علي ويحيى ابن محمد وعيسى بن موسى بن محمد بن علي، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم وموسى بن داود ويحيى بن جعفر بن تمام؛ حتى قدموا الكوفة، في صفر، فأنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود، وكتم أمرهم نحوًا من أربعين ليلة من جميع القوّاد والشيعة. وأراد - فيما ذكر - أبو سلمة تحويل الأمر إلى آل أبي طالب لما بلغه الخبر عن موت إبراهيم بن محمد؛ فذكر علي بن محمد أنّ جبلة بن فرّوخ وأبا السري وغيرهما قالا: قدم الإمام الكوفة في ناس من أهل بيته، فاختفوا، فقال أبو الجهم لأبي سلمة: ما فعل الإمام؟ قال: لم يقدم بعد، فألحّ عليه يسأله، قال: قد أكثرت السؤال، وليس هذا وقت خروجه فكانوا بذلك، حتى لقي أبو حميد خادمًا لأبي العباس، ييقال له سابق الخوارزمي، فسأله عن أصحابه، فأخبره أنهم بالكوفة، وأنّ أبا سلمة يأمرهم أن يختفوا، فجاء به إلى أبي الجهم، فأخبره خبرهم، فسرّح أبو الجهم أبا حميد مع سابق حتى عرف منزلهم بالكوفة، ثم رجع وجاء معه إبراهيم بن سلمة رجل كان معهم، فأخبر أبا الجهم عن منزلهم ونزول الإمام في بني أود، وأنه أرسل حين قدموا إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، فلم يفعل، فمشى أبو الجهم وأبو حميد وإبراهيم إلى موسى بن كعب، وقصّوا عليه القصّة، وبعثوا إلى الإمام بمائتي دينار، ومضى أبو الجهم إلى أبي سلمة، فسأله عن الإمام، فقال: ليس هذا وقت خروجه؛ لأن واسطًا لم تفتح بعد، فرجع أبو الجهم إلى موسى بن كعب فأخبره، فأجمعوا على أن يلقوا الإمام، فمضى موشى بن كعب وأبو الجهم وعبد الحميد بن ربعي وسلمة ابن محمد وإبراهيم بن سلمة وعبد الله الطائي وإسحاق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وأبو حمييد محمد بن إبراهيم وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين إلى الإمام، فبلغ أبا سلمة، فسأل عنهم فقيل: ركبوا إلى الكوفة في حاجة لهم. وأتى القوم أبا العباس، فدخلوا عليه فقالوا: أيّكم عبد الله بن محمد ابن الحارثية؟ فقالوا: هذا، فسلموا عليه بالخلافة؛ فرجع موسى بن كعب وأبو الجهم الآخرين؛ فتخلفوا عند الإمام، فأرسل أبو سلمة إلى أبي الجهم: أين كنت؟ قال: ركبت إلى إمامي. فركب أبو سلمة إليهم، فأرسل أبو الجهم إلى أبي حميد أنّ أبا سلمة قد أتاكم؛ فلا يدخلنّ على الإمام إلّا وحده؛ فلما انتهى إليهم أبو سلمة منعوه أن يدخل معه أحد، فدخل وحده، فسلم بالخلافة على أبي العباس. وخرج أبو العباس على برذون أبلق يوم الجمعة، فصلّى بالناس؛ فأخبرنا عمارة مولى جبرئيل وأبو عبد الله السلمي أن أبا سلمة لما سلم على أبي العباس بالخلافة، قال له أبو حميد: على رغم أنفك يا ماصّ بظر أمّه! فقال له أبو العباس: مّهْ! وذكر أنّ أبا العباس لما صعد المنبر حين بويع له بالخلافة، قام في أعلاه، وصعد داود بن علي فقام دونه، فتكلم أبو العباس، فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة، وشرّفه وعظّمه، واختاره لنا وأيّده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوّام به، والذّابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحقّ بها وأهلها، وخصّنا برحم رسول الله ﷺ وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته، واشتقّنا من نبعته؛ جعله من أنفسنا عزيزًا عليه ما عنتنا، حريصًا علينا بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابًا يتلى عليهم، فقال عزّ من قائل فيما أنزل من محكم القرآن: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا "، وقال: " قل لا أسألكم عليه أجرًا إلّا المودّة في القربى " وقال: " وأنذر عشيرتك الأقربين "، وقال: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى " فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا، وأوجب عليهم حقنا ومودّتنا، وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا تكرمةً لنا، وفضلًا علينا، والله ذو الفضل العظيم. وزعمت السبيّئة الضلّال، أن غيرنا أحقّ بالراسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم! بم ولم أيّها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحقّ، وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا، ورفع بنا الخسيسة، وتمّ بنا النقيصة، وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبرّ ومواساة في دينهم ودنياهم، وإخوانًا على سرر متقابلين في آخرتهم؛ فتح الله ذلك منّةً ومنحةً لمحمد ﷺ؛ فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدّلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصًا منها. ثم وثب بنو حرب ومروان، فابتزّوها وتدالولوها بينهم، فجاروا فيها، واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه، فلما آسفون انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقّنا، وتدارك بنا أمّتنا، وولى نصرنا والقيام بأمرنا، ليمنّ بنا على الذين استُضعفوا في الأرض؛ وختم بنا كما افتتح بنا. وإني لأرجو ألّا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح؛ وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم محلّ محبّتنا ومنزل مودّتنا. أنتم الذين لم تتغيّروا عن ذلك، ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم؛ حتى أدركتم زماننا، وأتاكم الله بدولتنا؛ فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا؛ وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا، فأنا السفاح المبيح، والثائر المبير. وكان موعوكًا فاشتدّ به الوعك، فجلس على المنبر، وصعد داود بن علي فقام دونه على مراقي المنبر، فقال: الحمد لله شكرًا شكرًا شكرًا؛ الذي أهلك عدوّنا، وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد ﷺ. أيّها الناس، الآن أقشعت حنادس الدنيا، وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، وطلعت الشمس من مطلعها، وبزغ القمر من مبزغه؛ وأخذ القوس باريها، وعاد السهم إلى منزعه، ورجع الحق إلى نصابه؛ في أهل بيت نبيّكم، أهل الرأفة والرّحمة بكم والعطف علكيم. أهييا الناس، إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينًا ولا عقيانًا، ولا نحفر نهرًا، ولا نبني قصرًا؛ وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقّنا، والغضب لبني عمنا، وما كرثنا من أموركم، وبهظنا من شؤونكم؛ ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا، ويشتدّ علينا سوء سيرة بني أمية فيكم، وخرقهم بكم، واستذلالهم لكم؛ واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم. لكم ذمة الله تبارك وتعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وذمة العبّاس رحمه الله؛ أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل فيكم بكتاب الله، ونسير في العامّة منكم والخاصّة بسيرة رسول الله ﷺ. تبًّا تبًّا لبني حرب بن أمية وبني مروان! آثروا في مدّتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام، وظلموا الأنام، وانتهكوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم فيي العباد؛ وسنّتهم في البلاد التي بها استلذّوا تسربل الأوزار، وتجليبب الآصار، ومرحوا في أعنّة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي؛ جهلًا باستدراج الله، وأمنًا لمكر الله؛ فأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث، ومُزّقوا كلّ ممزّق، فبعدًا للقوم الظالمين! وأدالنا الله من مروان، وقد غرّه بالله الغرور، أرسل لعدوّ الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه، فظنّ عدوّ الله أن لن نقدر علييه، فنادى حزبه، وجمع مكايده، ورمى بكتائبه؛ فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله، من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وجعل دائرة السوء به، وأحيا شرفنا وعزّنا، وردّ إلينا حقنا وإرثنا. أيّها الناس؛ إن أمير المؤمنين نصره الله نصرًا عزييزًا، إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة؛ أنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فييه شدّة الوعك؛ وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدوّ الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد صلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين، الشاب المتكهّل المتمهل، المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار؛ الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها، بمعالم الهدى، ومناهج التقوى. فعجّ الناس له بالدعاء. ثم قال: يا أهل الكوفة؛ إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقّنا، حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان، فأحيا بهم حقّنا، وأفلج بهم حجّتنا، وأظهر بهم دولتنا، وأراكم الله ما كنتم تنتظرون، وإليه تتشوّفون، فأظهر فيكم الخليفة من هاشم، وبيّض به وجوهكم، وأدالكم على أهل الشأم، ونقل إليكم السلطان، وعزّ الإسلام، ومنّ عليكم بإمام منحه العدالة، وأعطاه حسن الإيالة. فخذوا ما آتاكم الله بشكر، والزموا طاعتنا، ولا تخدعوا عن أنفسكم فإن الأمر أمركم، وإنّ لكل أهل بيت مصرًا؛ وإنكم مصرنا. ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله ﷺ إلا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد - وأشار بيده إلى أبي العباس - فاعلموا أنّ هذا الأمر فينا ليس بخارج منّا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا. ثم نزل أبو العباس وداود بن علي أمامه؛ حتى دخل القصر، وأجلس أبا جعفر ليأخذ البيعة على الناس في المسجد، فلم يزل يأخذها عليهم؛ حتى صلى بهم العصر، ثم صلى بهم المغرب، وجنّهم الليل، فدخل. وذكر أن داود بن علي وابنه موسى كانا بالعراق أو بغيرها، فخرجا يريدان الشراة فلقيهما أبو العباس يريد الكوفة، معه أخوه أبو جعفر عبد الله بن محمد وعبد الله بن علي وعيسى بن موسى ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس، ونفر من مواليهم بدومة الجندل، فقال لهم داود: أين تريدون؟ وما قصّتكم؟ فقصّ عليه أبو العباس قصّتهم، وأنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها، ويظهروا أمرهم، فقال له داود: يا أبا العباس، تأتي الكوفة وشيخ بني مروان؛ مروان ابن محمد بحرّان مطلٌ على العراق في أهل الشأم والجزيرة، وشيخ العرب يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق في حلبة العرب! فقال أبو الغنائم: من أحبّ الحياة ذلّ، ثم تمثل بقول الأعشى: فما ميتة إن متها غير عاجز ** بعار إذا ما غالت النفس غولها فالتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، فارجع بنا معه نعش أعزّاء أو نمت كرامًا، فرجعوا جميعًا، فكان عيسى بن موسى يقول إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة: إن نفرًا أربعة عشر رجلًا خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون مطالبنا، لعظيم همّهم كبيرة أنفسهم، شديدة قلوبهم. ذكر بقية الخبر عما كان من الأحداث في سنة اثنتين وثلاثين ومائة تمام الخبر عن سبب البيعة لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي وما كان من أمره: قال أبو جعفر: قد ذكرنا من أمر أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي ما حضرنا ذكره قبل، عمّن ذكرنا ذلك عنه؛ وقد ذكرنا من أمره وأمر أبي سلمة وسبب عقد الخلافة لأبي العباس أيضًا ما أنا ذاكره؛ وهو أنه لما بلغ أبا سلمة قتل مروان بن محمد إبراهيم الذي كان يقال له الإمام، بدا له في الدعاء إلى ولد العباس وأضمر الدعاء لغيرهم؛ وكان أبو سلمة قد أنزل أبا العباس حين قدم الكوفة مع من قدم معه من أهل بيته في دار الوليد بن سعد في بني أود، فكان أبو سلمة إذا سئل عن الإمام يقول: لا تعجلوا، فلم يزل ذلك من أمره وهو في معسكره بحمّام أعين حتى خرج أبو حميد، وهو يريد الكناسة، فلقي خادمًا لإبراهيم يقال له سابق الخوارزمي، فعرفه، وكان يأتيهم بالشأم فقال له: ما فعل الإمام إبراهيم؟ فأخبره أنّ مروان قتله غيلة، وأن إبراهيم أوصى إلى أخيه أبي العباس، واستخلفه من بعده، وأنه قدم الكوفة ومعه عامّة أهل بيته، فسأله أبو حميد أن ينطلق به إليهم، فقال له سابق: الموعد بيني وبينك غدًا في هذا الموضع، وكره سابق أن يدلّه عليهم إلا بإذنهم، فرجع أبو حميد من الغد إلى الموضع الذي وعد فيه سابقًا، فلقيه، فانطلق به إلى أبي العباس وأهل بيته، فلما دخل عليهم سأل أبو حميد: من الخليفة منهم؟ فقال داود بن علي: هذا إمامكم وخليفتكم - وأشار إلى أبي العباس - فسلم عليه بالخلافة، وقبّل يديه ورجليه، وقال: مرنا بأمرك، وعزّاه بالإمام إبراهيم. وقد كان إبراهيم بن سلمة دخل عسكر أبي سلمة متنكرًا، فأتى أبا الجهم فاستأمنه، فأخبره أنه رسول أبي العباس وأهل بيته، وأخبره بمن معه وبموضعهم، وأنّ أبا العباس كان سرّحه إلى أبي سلمة يسأله مائة دينار، يعطيها للجمّال كراء الجمال التي قدم بهم عليها، فلم يبعث بها إليه، ورجع أبو حميد إلى أبي الجهم، فأخبره بحالهم، فمشى أبو الجهم وأبو حميد ومعهما إبراهيم بن سلمة، حتى دخلوا على موسى بن كعب، فقصّ عليه أبو الجهم الخبر، وما أخبره إبراهيم بن سلمة، فقال موسى بن كعب: عجل البعثة إليه بالدّنانير وسرّحه. فانصرف أبو الجهم ودفع الدنانير إلى إبراهيم بن سلمة، وحمله على بغل وسرّح معه رجلين، حتى أدخلاه الكوفة، ثم قال أبو الجهم لأبي سلمة، وقد شاع في العسكر أن مروان بن محمد قد قتل الإمام: فإن كان قد قتل كان أخوه أبو العباس الخليفة والإمام من بعده؛ فردّ عليه أبو سلمة: يا أبا الجهم، اكفف أبا حميد عن دخول الكوفة، فإنهم أصحاب إرجاف وفساد. فلما كانت الليلة الثانية أتى إبراهيم بن سلمة أبا الجهم وموسى بن كعب، فبلّغهما رسالة من أبي العباس وأهل بيته، ومشى في القوّاد والشيعة تلك الليلة، فاجتمعوا في منزل موسى بن كعب؛ منهم عبد الحميد بن ربعي وسلمة بن محمد وعبد الله الطائي وإسحق بن إبراهيم وشراحيل وعبد الله بن بسام وغيرهم من القوّاد. فأتمروا في الدخول إلى أبي العباس وأهل بيته، ثم تسللوا من الغد حتى دخلوا الكوفة وزعيمهم موسى بن كعب وأبو الجهم وأبو حميد الحميري - وهو محمد بن إبراهيم - فانتهوا إلى دار الوليد بن سعد، فدخلوا عليهم، فقال موسى ابن كعب وأبو الجهم: أيّكم أبو العباس؟ فأشاروا إليه، فسلموا عليه وعزّوه بالإمام إبراهيم، وانصرفوا إلى العسكر، وخلّفوا عنده أبا حميد وأبا مقاتل وسليمان بن الأسود ومحمد بن الحصين ومحمد بن الحارث ونهار بن حصين ويوسف بن محمد وأبا هريرة محمد بن فروخ. فبعث أبو سلمة إلى أبي الجهم فدعاه، وكان أخبره بدخوله الكوفة، فقال: أين كنت يا أبا الجهم؟ قال: كنت عند إمامي، وخرج أبو الجهم فدعا حاجب بن صدّان، فبعثه إلى الكوفة، وقال له: ادخل، فسلّم على أبي العباس بالخلافة، وبعث إلى أبي حميد وأصحابه: إن أتاكم أبو سلمة فلا يدخل إلا وحده؛ فإن دخل وبايع فسبيله ذلك؛ وإلا فاضربوا عنقه؛ فلم يلبثوا أن أتاهم أبو سلمة فدخل وحده، فسلم على أبي العباس بالخلافة، فأمره أبو العباس بالانصراف إلى عسكره، فانصرف من ليلته، فأصبح الناس قد لبسوا سلاحهم، واصطفّوا لخروج أبي العباس، وأتوه بالدوابّ، فركب ومن معه من أهل بيته حتى دخلوا قصر الإمارة بالكوفة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر بيع الآخر. ثم دخل المسجد من دار الإمارة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عظمة الربّ تبارك وتعالى وفضل النبي ﷺ، وقاد الولاية والوراثة حتى انتهيا إليه، ووعد الناس خيرًا ثم سكت. وتكلّم داود بن علي وهو على المنبر أسفل من أبي العباس بثلاث درجات، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ، وقال: أيّها الناس، إنه والله ما كان بينكم وبين رسول الله ﷺ خليفة إلا علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا الذي لخفي. ثم نزلا وخرج أبو العباس، فعسكر بحمام أعين في عسكر أبي سلمة، ونزل معه في حجرته، بينهما ستر، وحاجب أبي العباس يومئذ عبد الله بن بسام. واستخلف على الكوفة وأرضها عمّه داود بن علي، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون ابن يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ بواسط محاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام ابن عباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن طريف، وأقام أبو العباس في العسكر أشهرًا ثم ارتحل، فنزل المدينة الهاشميّة في قصر الكوفة، وقد كان تنكّر لأبي سلمة قبل تحوّله حتى عرف ذلك. ذكر هزيمة مروان بن محمد بموقعة الزاب وفي هذه السنة هزم مروان بن محمد بالزّاب. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وما كان سببها وكيف كان ذلك ذكر علي بن محمد أن أبا السري وجبلة بن فرّوخ والحسن بن رشيد وأبا صالح المروزي وغيرهم أخبروه أن أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي وجّهه قحطبة إلى شهرزور من نهاوند، فقتل عثمان بن سفيان، وأقام بناحية الموصل، وبلغ مروان أن عثمان قد قتل، فأقبل من حرّان، فنزل منزلًا في طريقه، فقال: ما اسم هذا المنزل؟ قالوا: بلوى، قال: بل علوى وبشرى. ثم أتى رأس العين، ثم أتى الموصل، فنزل على دجلة، وحفر خندقًا فسار إليه أبو عون، فنزل الزاب، فوجّه أبو سلمة إلى أبي عون عيينة بن موسى والمنهال بن فتّان وإسحاق بن طلحة؛ كلّ واحد في ثلاثة آلاف؛ فلما ظهر أبو العباس بعث سلمة بن محمد في ألفين وعبد الله الطائي في ألف وخمسمائة وعبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين، ووداس بن نضلة في خمسمائة إلى أبي عون. ثم قال: من يسير إلى مروان من أهل بيتي؟ فقال عبد الله بن علي: أنا، فقال: سر على بركة الله، فسار عبد الله بن علي، فقدم على أبي عون، فتحوّل له أبو عون عن سرادقه وخلّاه وما فيه، وصيّر عبد الله بن علي على شرطته حيّاش بن حبيب الطائيي، وعلى حرسه نصير بن المحتفز، ووجّه أبو العباس موسى بن كعب في ثلاثين رجلًا على البريد إلى عبد الله بن علي، فلما كان لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، سأل عبد الله بن علي عن مخاضة، فدلّ عليها بالزّاب، فأمر عيينة بن موسى فعبر في خمسة آلاف، فانتهى إلى عسكر مروان، فقاتلهم حتى أمسوا، ورفعت لهم النيران فتحاجزوا، ورجع عيينة فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله ابن علي؛ فأصبح مروان فعقد الجسر، وسرّح ابنه عبد الله يحفر خندقًا أسفل من عسكر عبد الله بن علي، فبعث عبد الله بن علي المخارق بن غفار في أربعة آلاف، فأقبل حتى نزل على خمسة أميال من عسكر عبد الله بن علي، فسرّح عبد الله بن مروان إليه الوليد بن معاوية، فلقي المخارق، فانهزم أصحابه، وأسروا، وقتل منهم يومئذ عدّة، فبعث بهم إلى عبد الله، وبعث بهم عبد الله إلى مروان مع الرءوس، فقال مروان: أدخلوا علي رجلًا من الأسارى، فأتوه بالمخارق - وكان نحيفًا - فقال: أنت المخارق؟ فقال: لا، أنا عبد من عبيد أهل العسكر، قال: فتعرف المخارق؟ قال: نعم، قال: فانظر في هذه الرءوس هل تراه؟ فنظر إلى رأس منها، فقال: هو هذا، فخلّى سبيله، فقال رجل مع مروان حين نظر إلى المخارق وهو لا يعرفه: لعن الله أبا مسلم حين جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بهم! قال علي: حدثنا شيخ من أهل خراسان قال: قال مروان للمخارق: تعرف المخارق إن رأيته؟ فإنهم زعموا أنه في هذه الرءوس التي أتينا بها، قال: نعم، قال: اعرضوا عليه تلك الرءوس، فنظر فقال: ما أرى رأسه في هذه الرءوس، ولا أراه إلّا وقد ذهب، فخلّى سبيله. وبلغ عبد الله بن علّ انهزام المخارق، فقال له موسى بن كعب: اخرج إلى مروان قبل أن يصل الفلّ إلى العسكر، فيظهر ما لقي المخارق. فدعا عبد الله بن علي محمد بن صول، فاستخلفه على العسكر، وسار على ميمنته أبو عون، وعلى ميسرة مروان الوليد بن معاوية، ومع مروان ثلاثة آلاف من المحمرة ومعه الذكوانية والصحصحية والرّاشدية، فقال مروان لما التقى العسكران لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم؛ وإن قاتلونا قبل الزوال؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأرسل مروان إلى عبد الله بن علي يسأله الموادعة، فقال عبد الله: كذب ابن زريق، ولا تزول الشمس حتى أوطئه الخيل إن شاء الله. فقال مروان لأهل الشأم: قفوا لا تبدءوهم بقتال؛ فجعل ينظر إلى الشمس، فحمل الويد بن معاوية بن مروان وهو ختن مروان على ابنته، فغضب وشتمه. وقاتل ابن معاوية أهل الميمنة، فانحاز أبو عون إلى عبد الله بن علي، فقال موسى. ابن كعب لعبد الله: مر الناس فلينزلوا، فنودي: الأرض، فنزل الناس، وأشرعوا الرماح، وجثوا على الكرب، فقاتلوهم، فجعل أهل الشأم يتأخّرون كأنهم يدفعون؛ ومشى عبد الله قدمًا وهو يقول: يا ربّ، حتى متى نقتل فيك! ونادى: يا أهل خراسان، يا لثارات إبراهيم! يا محمد، يا منصور! واشتدّ بينهم القتال. وقال مروان لقضاعة: انزلوا، فقالوا: قل لبني سليم فلينزلوا، فأرسل إلى السكاسك أن احملوا، فقالوا: قل لبني عامر فليحملوا، فأرسل إلى السكون أن احملوا، فقالوا: قل لغطفان فليحملوا، فقال لصاحب شرطه: انزل، فقال: لا والله ما كنت لأجعل نفسي غرضًا. قال: أما والله لأسوءنّك، قال: وددت والله أنك قدرت على ذلك. ثم انهزم أهل الشأم، وانهزم مروان، وقطع الجسر؛ فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل؛ فكان فيمن غرق يومئذ إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع، وأمر عبد الله بن علي فعقد الجسر على الزاب، واستخرجوا الغرقى فأخرجوا ثلثمائة، فكان فيمن أخرجوا إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، فقال عبد الله بن علي: " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ". وأقام عبد الله بن علي في عسكره سبعة أيام، فقال رجل من ولد سعيد ابن العاص يعيّر مروان: لج الفرار بمروان فقلت له ** عاد الظلوم ظلمًا همّه الهرب أين الفرار وترك الملك إذ ذهبت ** عنك الهوينى فلا دين ولا حسب فراشة الحلم فرعون العقاب وإن ** تطلب نداه فكلب دونه كلب وكتب عبد الله بن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس بالفتح، وهرب مروان وحوى عسكر مروان بما فيه، فوجد فيه سلاحًا كثيرًا وأموالًا؛ ولم يجدوا فيه امرأةً إلا جارية كانت لعبد الله بن مروان؛ فلمّا أتى العباس كتاب عبد الله ابن علي صلى ركعتين، ثم قال: " فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر " إلى قوله: " وعلّمه مما يشاء ". وأمر لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة، ورفع أرزاقهم إلى ثمانين. حدثنا أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: قال عبد الرحمن بن أميّة: كان مروان لما لقيه أهل خراسان لا يدبّر شيئًا إلا كان فيه الخلل والفساد. قال: بلغني أنّه كان يوم انهزم واقفًا، والناس يقتتلون؛ إذ أمر بأموال فأخرجت، وقال للناس: اصبروا وقاتلوا، فهذه الأموال لكم، فجعل ناس من الناس يصيبون من ذلك المال، فأرسلوا إليه: إنّ الناس قد مالوا على هذا المالل، ولا نأمنهم أن يذهبوا به. فأرسل إلى ابنه عبد الله أن سر في أصحابك إلى مؤخّر عسكرك، فاقتل من أخذ من ذلك المال وامنعهم؛ فمال عبد الله برايته وأصحابه، فقال الناس: الهزيمة؛ فانهموا. حدثنا أحمد بن علي، عن أبي الجارود السلمي، قال: حدثني رجل من أهل خراسان، قال: لقينا مروان على الزاب، فحمل علينا أهل الشأم كأنهم جبال حديد، فجثونا وأشرعنا الرماح، فمالوا عنا كأنهم سحابة، ومنحنا الله أكتافهم، وانقطع الجسر مما يليهم حين عبروا، فبقي عليه رجل من أهل الشأم، فخرج عليه رجل منا، فقتله الشأمي، ثم خرج آخر فقتله؛ حتى والى بين ثلاثة؛ فقال رجل منا: اطلبوا لي سيفًا قاطعًا، وترسًا صلبًا، فأعطيناه، فمشى إليه فضربه الشأمي فاتّقاه بالترس، وضرب رجله فقطعها، وقتله ورجع؛ وحملناه وكبّرنا فإذا هو عبيد الله الكابلي. وكانت هزيمة مروان بالزّاب - فيما ذكر - صبيحة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة. ذكر خبر قتل إبراهيم بن محمد بن علي الإمام وفي هذه السنة قتل إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. ذكر الخبر عن سبب مقتله اختلف أهل السير في أمر إبراهيم بن محمد، فقال بعضهم: لم يقتل ولكنه مات في سجن مروان بن محمد بالطاعون. ذكر من قال ذلك حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم بن خالد ابن يزيد بن هريم. قال: حدثنا أبو هاشم مخلّد بن محمد بن صالح، قال: قدم مروان بن محمد الرقة حين قدمها متوجهًا إلى الضحاك بسعيد بن هشام ابن عبد الملك وابنيه عثمان ومروان؛ وهم في وثاقهم معه؛ فسرّح بهم إلى خليفته بحرّان، فحبسهم في حبسها، ومعهم إبراهيم بن علي بن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز والعباس بن الوليد وأبو محمد السفياني - وكان يقال له البيطار -، فهلك في سجن حرّان منهم في وباء وقع بحرّان العباس ابن الوليد وإبراهيم بن محمد وعبد الله بن عمر. قال: فلما كان قبل هزيمة مروان من الزاب يوم هزمه عبد الله بن علي بجمعة، خرج سعيد بن هشام ومن معه من المحبسين، فقتلوا صاحب السجن، وخرج فيمن معه، وتخلف أبو محمد السفياني في الحبس، فلم يخرج فيمن خرج، ومعه غيره لم يستحلّوا الخروج من الحبس، فقتل أهل حرّان ومن كان فيها من الغوغاء سعيد ابن هشام وشراحيل بن مسلمة بن عبد الملك وعبد الملك بن بشر التغلبي، وبطريق أرمينية الرابعة - وكان اسمه كوشان - بالحجارة، ولم يلبث مروان بعد قتلهم إلا نحوًا من خمس عشرة ليلة؛ حتى قدم حرّان منهزمًا من الزاب، فخلّى عن أبي محمد ومن كان في حبسه من المحبّسين. وذكر عمر أن عبد الله بن كثير العبدي حدثه عن علي بن موسى، عن أبيه، قال: هدم مروان على إبراهيم بن محمد بيتًا فقتله. قال عمرو: وحدثني محمد بن معروف بن سويد، قال: حدثني أبي عن المهلهل بن صفوان - قال عمر: ثم حدثني المفضّل بن جعفر بن سليمان بعده؛ قال: حدثني المهلهل بن صفوان - قال: كنت أخدم إبراهيم بن محمد في الحبس؛ وكان معه في الحبس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وشراحيل بن مسلمة بن عبد الملك فكانوا يتزاورون، وخصّ الذي بين إبراهيم وشراحيل فأتاه رسوله يومًا بلبن، فقال: يقول لك أخوك: إنّي شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه، فتناوله فشرب فتوصّب من ساعته وتكسر جسده، وكان يومًا يأتي فيه شراحيل، فأبطأ عليه، فأرسل إليه: جعلت فداك! قد أبطأت فما حبسك؟ فأرسل إليه: إني لما شربت اللبن الذي أرسلته إلي أخلفني، فأتاه شراحيل مذعورًا وقال: لا والله الذي لا إله إلا هو؛ ما شربت اليوم لبنًا، ولا أرسلت به إليك، فإنا لله وإنا إليه راجعون! احتيل لك والله. قال: فوالله ما بات إلّا ليلته وأصح من غد ميتًا؛ فقال إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر ابن هرمة بن هذيل بن الربيع بن عامر بن صبيح بن عدي بن قيس - وقيس هو ابن الحارث بن فهر - يرثيه: قد كنت أحسبني جلدًا فضعضعني ** قبر بحرّان فيه عصمة الدين فيه الإمام وخير الناس كلهم ** بين الصفائح والأحجار والطين فيه الإمام الذي عمّت مصيبته ** وعيّلت كل ذي مال ومسكين فلا عفا الله عن مروان مظلمة ** لكن عفا الله عمّن قال آمين ذكر الخبر عن قتل مروان بن محمد وفي هذه السنة قتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم. ذكر الخبر عن مقتله وقتاله من قاتله من أهل الشأم في طريقه وهو هارب من الطلب حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلد بن محمد، قال: لما انهزم مروان من الزاب كنت في عسكره. قال: كان لمروان في عسكره بالزّاب عشرون ومائة ألف؛ كان في عسكره ستون ألفًا، وكان في عسكر ابنه عبد الله مثل ذلك، والزّاب بينهم، فلقيه عبد الله بن علي فيمن معه وأبي عون وجماعة قوّاد، منهم حميد بن قحطبة؛ فلما هزموا سار إلى حرّان وبها أبان بن يزيد بن محمد بن مروان، ابن أخيه عامله عليها، فأقام بها نيّفًا وعشرين يومًا. فلما دنا منه عبد الله بن علي حمل أهله وولده وعياله، ومضى منهزمًا، وخلّف بمدينة حرّان أبان ابن يزيد؛ وتحته ابنة لمروان يقال لها أمّ عثمان، وقدم عبد الله بن علي، فتلقاه أبان مسوّدًا مبايعًا له، فبايعه ودخل في طاعته، فآمنه ومن كان بحرّان والجزيرة. ومضى مروان حتى مرّ بقنّسرين وعبد الله بن علي متبع له. ثم مضى من قنّسرين إلى حمص، فتلقاه أهلها بالأسواق وبالسمع والطاعة فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها؛ فلما رأوا قلة من معه طمعوا فيه، وقالوا: مرعوب منهزم، فاتّبعوه بعد ما رحل عنهم؛ فلحقوه على أميال، فلما رأى غبرة خيلهم أكمن لهم في واديين قائدين من مواليه، يقال لأحدهما يزيد والآخر مخلّد؛ فلما دنوا منه وجازوا الكمينين ومضى الذراري صافّهم فيمن معه وناشدهم، فأبوا إلا مكاثرته وقتاله، فنشب القتال بينهم؛ وثار الكمينان من خلفهم؛ فهزمهم وقتلتهم خيله حتى انتهوا إلى قريب من المدينة. قال: ومضى مروان حتى مر بدمشق، وعليها الوليد بن معاوية بن مروان؛ وهو ختن لمروان، متزوج بابنة له يقال لها أمّ الوليد، فمضى وخلفه بها حتى قدم عبد الله بن علي عليه، فحاصره أيامًا، ثم فتحت المدينة، ودخلها عنوة معترضًا أهلها. وقتل الوليد بن معاوية فيمن قتل، وهدم عبد الله بن علي حائط مدينتها. ومرّ مروان بالأردنّ، فشخص معه ثعلبة ابن سلامة العاملي، وكان عامله عليها، وتركها ليس عليها وال، حتى قدم عبد الله بن علي فولى عليها، ثم قدم فلسطين وعليها من قبله الرماحس بن عبد العزيز. فشخص به معه؛ ومضى حتى قدم مصر، ثم خرج منها حتى نزل منزلًا منها يقال له بوصير؛ فبيّته عامر بن إسماعيل وشعبة ومعهما خيل أهل الموصل فقتلوه بها، وهرب عبد الله وعبيد الله ابنا مروان ليلة بيّت مروان إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء وقاتلتهم الحبشة، فقتلوا عبيد الله، وأفلت عبد الله في عدّة ممن معه؛ وكان فيهم بكر بن معاوية الباهلي، فسلم حتى كان في خلافة المهدي، فأخذه نصر بن محمد بن الأشعث عامل فلسطين، فبعث به إلى المهدي. وأما علي بن محمد؛ فإنه ذكر أن بشر بن عيسى والنعمان أبا السري ومحرز بن إبراهيم وأبا صالح المروزي وعمارة مولى جبريل أخبروه أنّ مروان لقي عبد الله بن علي في عشرين ومائة ألف وعبد الله في عشرين ألفًا. وقد خولف هؤلاء في عدد من كان مع عبد الله بن علي يومئذ. فذكر مسلم بن المغيرة، عن مصعب بن الربيع الخثعمي وهو أبو موسى ابن مصعب - وكان كاتبًا لمروان - قال: لما انهزم مروان، وظهر عبد الله بن علي على الشأم، طلبت الأمان فآمنني، فإني يومًا جالس عنده؛ وهو متّكىء إذ ذكر مروان وانهزامه، قال: أشهدت القتال؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير! فقال: حدثني عنه؛ قال: قلت: لما كان ذلك اليوم قال لي: احزر القوم، فقلت: إنما أنا صاحب قلم؛ ولست صاحب حرب؛ فأخذ يمنة ويسرة ونظر فقال: هم اثنا عشر ألفًا، فجلس عبد الله، ثم قال: ما له قاتله الله! ما أحصى الديوان يومئذ فضلًا على اثني عشر ألف رجل!. رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد عن أشياخه: فانهزم مروان حتى أتى مدينة الموصل؛ وعليها هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة الأسدي، وقطعوا الجسر، فناداهم أهل الشأم: هذا مروان، قالوا: كذبتم، أمير المؤمنين لا يفرّ، فسار إلى بلد، فعبر دجلة، فأتى حرّان ثم أتى دمشق، وخلّف بها الوليد بن معاوية، وقال: قاتلهم حتى يجتمع أهل الشأم. ومضى مروان حتى أتى فلسطين، فنزل نهر أبي فطرس، وقد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي، فأرسل مروان إلى عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع، فأجازه، وكان بيت المال في يد الحكم. وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن علي يأمره باتباع مروان، فسار عبد الله إلى الموصل، فتلقاه هشام بن عمرو التغلبي وبشر بن خزيمة. وقد سوّدا في أهل الموصل، ففتحوا له المدينة، ثم سار إلى حرّأن، وولّى الموصل محمد بن صول؛ فهدم الدار التي حبس فيها إبراهيم ابن محمد، ثم سار من حرّان إلى منبج وقد سوّدوا، فنزل منبج وولاها أبا حميد المروروذي، وبعث إليه أهل قنّسرين ببيعتهم إياه بما أتاه به عنهم أبو أمية التغلبي. وقدم عليه عبد الصمد بن علي، أمده به أبو العباس في أربعة آلاف، فأقام يومين بعد قدوم عبد الصمد، ثم سار إلى قنسرين، فأتاها وقد سوّد أهلها، فأقام يومين، ثم سار حتى نزل حمص، فأقام بها أيّامًا وبايع أهلها، ثم سار إلى بعلبكّ فأقام يومين ثم ارتحل؛ فنزل بعين الحرّ، فأقام يومين ثم ارتحل، فنزل مزّة قرية من قرى دمشق فأقام. وقدم علييه صالح بن علي مددًا، فنزل مرج عذراء في ثمانية آلاف، معه بسام بن إبراهيم وخفّاف وشعبة والهيثم بن بسام. ثم سار عبد الله بن علي، فنزل علي الباب الشرقي، ونزل صالح بن علي علي باب الجابية، وأبو عون على باب كيسان، وبسام على باب الصغير، وحميد بن قحطبة على باب توما، وعبد الصمد ويحيى بن صفوان والعباس بن يزيد على باب الفراديس - وفي دمشق الوليد بن معاوية - فحصروا أهل دمشق والبلقاء، وتعصّب الناس بالمدينة، فقتل بعضهم بعضًا، وقتلوا الوليد، ففتحوا الأبواب يوم الأربعاء لعشر مضين من رمضان سنة ثنتين وثلاثين ومائة، فكان أوّل من صعد سور المدينة من الباب الشرقي عبد الله الطائي، ومن قبل باب الصغير بسّام بن إبراهيم، فقاتلوا بها ثلاث ساعات، وأقام عبد الله بن علي بدمشق خمسة عشر يومًا، ثم سار ييريد فلسطين، فنزل نهر الكسوة، فوجّه منها يحيى بن جعفر الهاشمي إلى المدينة، ثم ارتحل إلى الأردنّ، فأتوه وقد سوّدوا، ثم نزل بيسان، ثم سار إلى مرج الروم، ثم أتى نهر أبي فطرس، وقد هرب مروان، فأقام بفلسطين، وجاءه كتاب أبي العباس؛ أنْ وجه صالح بن علي في طلب مروان، فسار صالح بن علي من نهر أبي فطرس في ذلك القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة؛ ومعه ابن فتان وعامر بن إسماعيل وأبو عون، فقدّم صالح ابن علي أبا عون على مقدّمته وعامر بن إسماعيل الحارثي، وسار فنزل الرملة، ثم سار فنزلوا ساحل البحر، وجمع صالح بن علي السفن وتجهز يريد مروان، وهو بالفرماء، فسار على الساحل والسفن حذاءه في البحر؛ حتى نزل العريش. وبلغ مروان فأحرق ما كان حوله من علف وطعام وهرب، ومضى صالح ابن علي فنزل الليل، ثم سار حتى نزل الصعيد. وبلغه أن خيلًا لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجّه إليهم قوّادًا، فأخذوا رجالًا، فقدموا بهم على صالح وهو بالفسطاط، فعبر مروان النيل، وقطع الجسر، وحرق ما حوله، ومضى صالح يتبعه، فالتقى هو وخيل لمروان على النيل فاقتتلوا، فهزمهم صالح، ثم مضى إلى خليج، فصادف عليه خيلًا لموان، فأصاب منهم طرفًا وهزمهم، ثم سار إلى خليج آخر فعبروا، ورأوا رهجًا فظنوه مروان، فبعث طليعة عليها الفضل بن دينار ومالك ابن قادم، فلم يلقوا أحدًا ينكرونه، فرجعوا إلى صالح فارتحل، فنزل موضعًا يقال له ذات الساحل؛ ونزل فقدم أبو عون عامر بن إسماعيل الحارثي، ومعه شعبة بن كثير المازني، فلقوا خيلًا لمروان وافوهم، فهزموهم وأسروا منهم رجالًا، فقتلوا بعضهم، واستحيوا بعضًا، فسألوا عن مروان فأخبروهم بمكانه، على أن يؤمنوهم، وساروا فوجدوه نازلًا في كنيسة في بوصير، ووافوهم في آخر الليل، فهرب الجند وخرج إليهم مروان في نفرٍ يسير، فأحاطوا به فقتلوه. قال علي: وأخبرني إسماعيل بن الحسن، عن عامر بن إسماعيل قال: لقينا مروان ببوصير ونحن في جماعة يسيرة فشدوا علينا، فانضوينا إلى نخل ولو يعلمون بقلّتنا لأهلوكنا، فقلت لمن معي من أصحابي: فإن أصبحنا فرأوا قلّتنا وعددنا لم ينج منا أحد؛ وذكرت قول بكير بن ماهان: أنت والله تقتل مروان؛ كأني أسمعك، تقول " دهيد ياجونكثان "؛ فكسرت جفن سيفي، وكسر أصحابي جفون سيوفهم، وقلت: " دهيد ياجونكثان "؛ فكأنها نار صبّت عليهم، فانهزموا وحمل رجل على مروان فضربه بسيفه فقتله. وركب عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علي، فكتب صالح بن علي إلى أمير المؤمنين أبي العباس: إنّا اتّبعنا عدوّ الله الجعدي حتى ألجأناه إلى أرض عدوّ الله شبيهه فرعون، فقتلته بأرضه. قال علي: حدثنا أبو طالب الأنصاري، قال: طعن مروان رجلٌ من أهل البصرة - يقال له المغود، وهو لا يعرفه - فصرعه، فصاح صائح: صرع أمير المؤمنين، وابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان، فاحتزّ رأسه، فبعث عامر بن إسماعيل برأس مروان إلى أبي عون، فبعث بها أبو عون إلى صالح بن علي، وبعث صالح برأسه مع يزيد بن هانىء - وكان على شرطه - إلى أبي العباس يوم الأحد، لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ورجع صالح إلى الفسطاط، ثم انصرف إلى الشأم، فدفع الغنائم إلى أبي عون، والسلاح والأموال والرّقيق إلى الفضل بن دينار، وخلّف أبا عون على مصر. قال علي: وأخبرنا أبو الحسن الخراساني، قال: حدثنا شيخ من بكر ابن وائل، قال: إني لبدير قنّي مع بكير بن ماهان ونحن نتحدث؛ إذ مرّ فتىً معه قربتان؛ حتى انتهى إلى دجلة، فاستقى ماء، ثم رجع فدعاه بكير، فقال: ما اسمك يا فتى؟ قال: عامر، قال: ابن من؟ قال: ابن إسماعيل، من بلحارث، قال: وأنا من بلحارث، قال: فكن من بني مسلية، قال: فأنا منهم، قال: فأنت والله تقتل مروان، لكأني والله أسمعك تقول: " يا جوانكثان دهيد ". قال علي: حدثنا الكناني، قال: سمعت أشياخنا بالكوفة يقولون: بنو مسلية قتلة مروان. وقتل مروان يوم قتل وهو ابن اثنتين وستين سنة في قول بعضهم، وفي قول آخرين: وهو ابن تسع وستين، وفي قول آخرين: وهو ابن ثمان وخمسين. وقتل يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة، وكانت ولايته من حين بويع إلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر وستة عشر يومًا، وكان يكنى أبا عبد الملك. وزعم هشام بن محمد أن أمه كانت أم ولد كرديّة. وقد حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد وأبي سنان الجهني، قالا: كان يقال: إنّ أم مروان بن محمد كانت لإبراهيم بن الأشتر؛ أصابها محمد بن مروان بن الحكم يوم قتل ابن الأشتر، فأخذها من ثقله وهي تتنيّق، فولدت مروان على فراشه، فلما قام أبو العباس دخل عليه عبد الله بن عيّاش المنتوف، فقال: الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابن عمّ رسول الله ﷺ وابن عبد المطلب. وفي هذه السنة قتل عبد الله بن علي من قتل بنهر أبي فطرس من بني أمية، وكانوا اثنين وسبعين رجلًا. وفيها خلع أبو الورد أبا العباس بقنّسرين؛ فبيّض وبيّضوا معه. ذكر الخبر عن تبيض أبي الورد وما آل إليه أمره وأمر من بيض معه وكان سبب ذلك - فيما حدثني أحمد بن زهير - قال: حدثني عبد الوهاب ابن إبراهيم، قال: حدثني أبو هاشم مخلد بن محمد بن صالح، قال: كان أبو الورد - واسمه مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي، من أصحاب مروان وقوّاده وفرسانه - فلما هزم مروان، وأبو الورد بقنّسرين، قدمها عبد الله بن علي فبايعه ودخل فيما دخل فيه جنده من الطاعة. وكان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس والناعورة، فقدم بالس قائد من قوّاد عبد الله ابن علي من الأزار مردين في مائة وخمسين فارسًا، فبعث بولد مسلمة بن عبد الملك ونسائهم، فشكا بعضهم ذلك إلى أبي الورد، فخرج من مزرعة يقال لها زرّاعة بني زفر - ويقال لها خساف - في عدّة من أهل بيته؛ حتى هجم على ذلك القائد وهو نازل في حصن مسلمة؛ فقاتله حتى قتله ومن معه، وأظهر التبييض والخلع لعبد الله بن علي، ودعا أهل قنّسرين إلى ذلك، فبيّضوا بأجمعهم، وأبو العباس يومئذ بالحيرة وعبد الله بن علي يومئذ مشتغل بحرب حبيب بن مرّة المرّي، فقاتله بأرض البلقاء والبثنيّة وحوران. وكان قد لقيه عبد الله بن علي في جموعه فقاتلهم وكان بينه وبينهم وقعات؛ وكان من قوّاد مروان وفرسانه. وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وعلى قومه، فبايعته قيس وغيرهم ممن يليهم من أهل تلك الكور؛ البثنية وحوران. فلما بلغ عبد الله بن علي تبييضهم، دعا حبيب بن مرّة إلى الصلح فصالحه وآمنه ومن معه، وخرج متوجّهًا نحو قنّسرين للقاء أبي الورد، فمرّ بدمشق، فخلف فيها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف رجل من جنده؛ وكان بدمشق يومئذ امرأة عبد الله بن علي أمّ البنين بنت محمد بن عبد المطلب النوفليّة أخت عمرو بن محمد، وأمهات أولاد لعبد الله وثقل له. فلما قدم حمص في وجهه ذلك انتقض عليه بعده أهل دمشق فبيّضوا، ونهضوا مع عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي. قال: فلقوا أبا غانم ومن معه، فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة، وانتهبوا ما كان عبد الله بن علي خلّف من ثقله ومتاعه؛ ولم يعرضوا لأهله، وبيّض أهل دمشق واستجمعوا على الخلاف، ومضى عبد الله بن علي - وقد كان تجمّع مع أبي الورد جماعة أهل قنّسرين، وكاتبوا من يليهم من أهل حمص وتدمر، وقدمهم ألوف، عليهم أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فرأسوا عليهم أبا محمد، ودعوا إليه وقالوا: هو السفياني الذي كان يذكر وهم في نحو من أربعين ألفًا - فلما دنا منهم عبد الله بن علي وأبو محمد معسكر في جماعته بمرج يقال له مرج الأخرم - وأبو الورد المتولي لأمر العسكر والمدبّر له وصاحب القتال والوقائع - وجّه عبد الله أخاه عبد الصمد بن علي في عشرة آلاف من فرسان من معه؛ فناهضهم أبو الورد، ولقيهم فيما بين العسكرين، واشتجر القتل فيما بين الفريقين وثبت القوم، وانكشف عبد الصمد ومن معه، وقتل منهم يومئذ ألوف، وأقبل عبد الله حيث أتاه عبد الصمد ومعه حميد بن قحطبة وجماعة من معه من القوّاد، فالتقوا ثانية بمرج الأخرم، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وانكشف جماعة ممّن كان مع عبد الله، ثم ثابوا، وثبت لهم عبد الله وحميد بن قحطبة فهزموهم، وثبت أبو الورد في ينحو من خمسمائة من أهل بيته وقومه، فقتلوا جميعًا، وهرب أبو محمد ومن معه من الكلبيّة حتى لحقوا بتدمر، وآمن عبد الله أهل قنّسرين، وسوّدوا وبايعوه، ودخلوا في طاعته؛ ثم انصرف راجعًا إلى أهل دمشق، لما كان من تبييضهم عليه، وهزيمتهم أبا غانم. فما دنا من دمشق هرب الناس وتفرقوا، ولم يكن بينهم وقعة، وآمن عبد الله أهلها، وبايعوه ولم يأخذهم بما كان منهم. قال: ولم يزل أبو محمد متغيبًا هاربًا؛ ولحق بأرض الحجاز. وبلغ زياد بن عبيد الله الحارثي عامل أبي جعفر مكانه الذي تغيّب فيه، فوجّه إليه خيلًا، فقاتلوه حتى قتل، وأخذ ابنين له أسيرين، فبعث زياد برأس أبي محمد وابنيه إلى أبي جعفر أمير المؤمنين، فأمر بتخلية سبيلهما وآمنهما. وأما علي بن محمد فإنه ذكر أنّ النعمان أبا السري حدثه وجبلة بن فرّوخ وسليمان بن داود وأبو صالح المروزي. قالوا: خلع أبو الورد بقنّسرين، فكتب أبو العباس إلى عبد الله بن علي وهو بفطرس أن يقاتل أبا الورد، ثم وجّه عبد الصمد إلى قنّسرين في سبعة آلاف، وعلى حرسه مخارق بن غفار، وعلى شرطه كلثوم بن شبيب؛ ثم وجّه بعده ذؤيب بن الأشعث في خمسة آلاف، ثم جعل يوجه الجنود، فلقي عبد الصمد أبا الورد في جمع كثير، فانهزم الناس عن عبد الصمد حتى أتوا حمص؛ فبعث عبد الله بن علي العباس بن يزيد بن زياد ومروان الجرجاني وأبا المتوكل الجرجاني؛ كلّ رجل في أصحابه إلى حمص؛ وأقبل عبد الله بن علي بنفسه، فنزل على أربعة أميال من حمص - وعبد الصمد بن علي بحمص - وكتب عبد الله إلى حميد ابن قحطبة، فقدم عليه من الأردنّ، وبايع أهل قنسرين لأبي محمد السفياني زياد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية وأبو الورد بن.. وبايعه الناس، وأقام أربعين يومًا، وأتاهم عبد الله بن علي ومعه عبد الصمد وحميد بن قحطبة، فالتقوا فاقتتلوا أشدّ القتال بينهم، واضطرهم أبو محمد إلى شعب ضيّق، فجعل الناس يتفرّقون، فقال حميد بن قحطبة لعبد الله بن علي: علام نقيم؟ هم يزيدون وأصحابنا ينقصون! ناجزهم؛ فاقتتلوا يوم الثلاثاء في آخر يوم من ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وعلى ميمنة أبي محمد أبو الورد وعلى مييسرته الأصبغ بن ذؤالة، فجرح أبو الورد، فحمل إلى أهله فمات. ولجأ قوم من أصحاب أبي الورد إلى أجمة فأحرقوها عليهم؛ وقد كان أهل حمص نقضوا، وأرادوا إيثار أبي محمد؛ فلما بلغهم هزيمته أقاموا. ذكر خبر خلع حبيب بن مرة المري وفي هذه السنة خلع حبيب بن مرّة المرّي وبيّض هو ومن معه من أهل الشأم. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي عن شيوخه، قال: بيّض حبيب بن مرّة المري وأهل البثنيّة وحوران، وعبد الله بن علي في عسكر أبي الورد الذي قتل فيه. وقد حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن محمد، قال: كان تبييض حبيب بن مرة وقتاله عبد الله بن علي قبل تبييض أبي الورد، وإنما بيّض أبو الورد وعبد الله مشتغل بحرب حبيب بن مرة المري بأرض البلقاء أو البثنية وحوران، وكان قد لقيه عبد الله بن علي في جموعه فقاتله، وكان بينه وبينه وقعات، وكان من قوّاد مروان وفرسانه؛ وكان سبب تبييضه الخوف على نفسه وقومه، فبايعه قيس وغيرهم ممّن يليهم من أهل تلك الكور؛ البثنية وحوران، فلما بغل عبد الله ابن علي تبييض أهل قنّسرين، دعا حبيب بن مرّة إلى الصلح فصالحه، وآمنه ومن معه، وخرج متوجهًا إلى قنّسرين للقاء أبي الورد. ذكر خبر تبييض أهل الجزيرة وخلعهم أبا العباس وفي هذه السنة بيّض أيضًا أهل الجزيرة وخلعوا أبا العباس. ذكر الخبر عن أمرهم وما آل إليه حالهم فيه حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الوهاب بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو هاشم مخلد بن محمد، قال: كان أهل الجزيرة بيّضوا ونقضوا؛ حيث بلغهم خروج أبي الورد وانتقاض أهل قنّسرين، وساروا إلى حرّان، وبحرّان يومئذ موسى بن كعب في ثلاثة آلاف من الجند، فتشبّث بمدينتها، وساروا إليه مبيّضين من كلّ وجه، وحاصروه ومن معه؛ وأمرهم مشتت؛ ليس عليهم رأس يجمعهم. وقدم على تفيئة ذلك إسحاق بن مسلم من أرمينية - وكان شخص عنها حين بلغه هزيمة مروان - فرأسه أهل الجزيرة عليهم. وحاصر موسى بن كعب نحوًا من شهرين، ووجّه أبو العباس أبا جعفر فيمن كان معه من الجنود التي كانت بواسط محاصرة ابن هبيرة، فمضى حتى مرّ بفرقيسيا وأهلها مبيّضون، وقد غلّقوا أبوابها دونه. ثم قدم مدينة الرقة وهم على ذلك، وبها بكار بن مسلم، فمضى نحو حرّان، ورحل إسحاق بن مسلم إلى الرهاء - وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وخرج موسى بن كعب فيمن معه من مدينة حرّان، فلقوا أبا جعفر. وقدم بكار على أخيه إسحاق بن مسلم، فوجّهه إلى جماعة ربيعة بدارا وماردين - ورئيس ربيعة يومئذ رجل من الحروريّة يقال له بريكة - فصمد إليه أبو جعفر، فلقيهم فقاتلوه بها قتالًا شديدًا، وقتل بريكة في المعركة، وانصرف بكار إلى أخيه إسحاق بالرهاء فخلفه إسحاق بها، ومضى في عظم العسكر إلى سميساط، فخندق على عسكره. وأقبل أبو جعفر في جموعه حتى قابله بكار بالرّهاء؛ وكانت بينهما وقعات. وكتب أبو العباس إلى عبد الله بن علي في المسير بجنوده إلى إسحاق بسميساط، فأقبل من الشأم حتى نزل بإزاء إسحاق بسميساط؛ وهم في ستين ألفًا أهل الجزيرة جميعها، وبينهما الفرات، وأقبل أبو جعفر من الرهاء فكاتبهم إسحاق وطلب إليهم الأمان، فأجابوا إلى ذلك وكتبوا إلى أبي العباس، فأمرهم أن يؤمنوه ومن معه، ففعلوا وكتبوا بينهم كتابًا، ووثقوا له فيه، فخرج إسحاق إلى أبي جعفر، وتمّ الصلح بينهما؛ وكان عنده من آثر أصحابه. فاستقام أهل الجزيرة وأهل الشأم، وولّى أبو العباس أبا جعفر الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، فلم يزل على ذلك حتى استخلف. وقد ذكر أن إسحاق بن مسلم العقيلي هذا أقام بسمييساط سبعة أشهر، وأبو جعفر محاصره، وكان يقول: في عنقي بيعة، فأنا لا أدعها حتى أعلم أنّ صاحبها قد مات أو قتل. فأرسل إليه أبو جعفر: إنّ مروان قد قتل، فقال: حتى أتيقن، ثم طلب الصلح، وقال: قد علمت أن مروان قد قتل، فآمنه أبو جعفر وقد قيل: إن عبد الله بن علي هو الذي آمنه. ذكر خبر شخوص أبي جعفر إلى خراسان وفي هذه السنة شخص أبو جعفر إلى أبي مسلم بخراسان لاستطلاع رأيه في قتل أبي سلمة حفص بن سليمان. ذكر الخبر عن سبب مسير أبي جعفر في ذلك وما كان من أمره وأمر أبي مسلم في ذلك قد مضى ذكري قبل أمر أبي سلمة، وما كان من فعله فيي أمر أبي العباس ومن كان معه من بني هاشم عند قدومهم الكوفة، الذي صار به عندهم متّهمًا؛ فذكر علي بن محمد أنّ جبلة بن فرّوخ قال: قال يزيد بن أسيد: قال أبو جعفر: لما ظهر أبو العباس أمير المؤمنين سمرنا ذات ليلة، فذكرنا ما صنع أبو سلمة، فقال رجل منا: ما يدريكم، لعلّ ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم! فلم ينطق منّا أحد، فقال: أمير المؤمنين أبو العباس: لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم إنا لبعرض بلاء؛ إلّا أن يدفعه الله عنّا. وتفرّقنا. فأرسل إلي أبو العباس، فقال: ما ترى؟ فقلت: الرأي رأيك، فقال: ليس منا أحد أخص بأبي مسلم منك، فاخرج إليه حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفى عليك؛ فلو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا. فخرجت على وجل؛ فلما انتهيت إلى الري، إذا صاحب الري قد أتاه كتاب أبي مسلم: إنه بلغني أن عبد الله بن محمد توجّه إليك، فإذا قدم فأشخصه ساعة قدومه عليك. فلما قدمت أتاني عامل الري فأخبرني بكتاب أبي مسلم، وأمرني بالرّحيل، فازددت وجلًا، وخرجت من الري وأنا حذرٌ خائف فسرت؛ فلما كنت بنيسابور إذا عاملها قد أتاني بكتاب أبي مسلم: إذا قدم عليك عبد الله بن محمد فأشخصه ولا تدعه يقيم، فإن أرضك أرض خوارج ولا آمن عليه. فطابت نفسي وقلت: أراه يعنى بأمري. فسرت، فلما كنت من مرو على فرسخين، تلقاني أبو مسلم في الناس، فلما دنا منّي أقبل يمشيإلي؛ حتى قبّل يدي، فقلت: اركب، فركب فدخل مرو، فنزلت دارًا فمكثت ثلاثة أيام، لا يسألني عن شيء، ثم قال لي في اليوم الرابع: ما أقدمك؟ فأخبرته، فقال: فعلها أبو سلمة! أكفيكموه! فدعا مرّارا ابن أنس الضبي، فقال: انطلق إلى الكوفة، فاقتل أبا سلمة حيث لقيته؛ وانته في ذلك إلى رأي الإمام. فقدم مرار الكوفة؛ فكان أبو سلمة يسمر عند أبي العباس، فقعد في يطريقه، فلما خرج قتله فقالوا: قتله الخوارج. قال علي: فحدثني شيخ من بني سليم، عن سالم، قال: صحبت أبا جعفر من الري إلى خراسان، وكنت حاجبه، فكان أبو مسلم يأتيه فينزل على باب الدار ويجلس في اعلدهليز، ويقول: استأذن لي، فغضب أبو جعفر علي، وقال: ويلك! إذا رأيته فافتح له الباب، وقل له يدخل على دابته. ففعلت وقلت لأبي مسلم: إنه قال كذا وكذا، قال: نعم، أعلم، واستأذن لي عليه. وقد قيل: إنّ أبا العباس قد كان تنكّر لأبي سلمة قبل ارتحاله من عسكره بالنخيلة، ثم تحوّل عنه إلى المدينة الهاشميّة، فنزل قصر الإمارة بها، وهو متنكر له، قد عرف ذلك منه، وكتب إلى أبي مسلم يعلمه رأيه، وما كان همّ به من الغشّ، وما يتخوّف منه، فكتب أبو مسلم إلى أمير المؤمنين: إن كان اطلع على ذلك منه فليقتله؛ فقال داود بن علي لأبي العبااس: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فيحتجّ عليك بها أبو مسلم وأهل خراسان الذين معك، وحاله فيهم حاله؛ ولكن اكتب إلى أبي مسلم فليبعث إليه من يقتله، فكتب إلى أبي مسلم بذلك، فبعث بذلك أبو مسلم مرّار بن أنس الضبي، فقدم على أبي أبي العباس في المدينة الهاشميّة، وأعلمه سبب قدومه، فأمر أبو العباس مناديًا فنادى: إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة ودعاه وكساه، ثم دخل عليه بعد ذلك ليلةً، فلم يزل عنده حتى ذهب عامّة الليل، ثم خرج منصرفًا إلى منزله يمشي وحده؛ حتى دخل الطاقات، فعرض له مرّار بن أنس ومن كان معه من أعوانه فقتلوه، وأغلقت أبواب المدينة، وقالوا: قتل الخوارج أبا سلمة. ثم أخرج من الغد؛ فصلى عليه يحيى بن محمد بن علي، ودفن في المدينة الهاشميّة، فقا سليمان بن المهاجر البجلي: إن الوزير وزير آل محمد ** أودى فمن يشناك كان وزيرا وكان يقال لأبي سلمة: وزير آل محمد، ولأبس مسلم: أمين آل محمد. فلما قتل أبو سلمة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر في ثلاثين رجلًا إلى أبي مسلم؛ فيهم الحجاج بن أرطاة وإسحاق بن الفضل الهاشمي. ولما قدم أبو جعفر على أبي مسلم سايره عبيد الله بن الحسين الأعرج وسليمان بن كثير معه، فقال سليمان بن كثير للأعرج: يا هذا؛ إنا كنّا نرجو أن يتمّ أمركم؛ فإذا شئتم فادعونا إلى ما تريدون، فظنّ عبيد الله أنه دسيس من أبي مسلم، فخاف ذلك. وبلغ أبا مسلم مسايرة سليمان بن كثير إياه، وأتى عبيد الله أبا مسلم، فذكر له ما قال سليمان، وظنّ أنه إن لم يفعل ذلك اغتاله فقتله، فبعث أبو مسلم إلى سليمان بن كثير، فقال له: أتحفظ قول الإمام لي: من اتهمته فاقتله؟ قال: نعم، قال: فإني قد اتّهمتك، فقال: أنشدك الله! قال: لا تناشدني الله وأ، ت منطوٍ على غشّ الإمام؛ فأمر بضرب عنقه. ولم ير أحدًا ممن كان يضرب عنقه أبو مسلم غيره، فانصرف أبو جعفر من عند أبي مسلم، فقال لأبي العباس: لست خليفة ولا أمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله، قال: وكيف؟ قال: والله ما يصنع إلا ما أراد، قال أبو العباس: اسكت فاكتمها. ذكر الخبر عن حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بواسط وفي هذه السنة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى واسط لحرب يزيد بن عمر بن هبيرة؛ وقد ذكرنا ما ككان من أمر الجيش الذين لقوه من أهل خراسان مع قحطبة، ثم مع ابنه الحسن بن قحطبة وانهزامه ولحاقه بمن معه من جنود الشأم بواسط متحصّنًا بها؛ فذكر علي بن محمد عن أبي عبد الله السلمي عن عبد الله بن بدر وزهير بن هنيد وبشر بن عيسى وأبي السري أنّ ابن هبيرة لما انهزم تفرّق الناس عنه، وخلّف على الأثقال قومًا، فذهبوا بتلك الأموال فقال له حوثرة: أين تذهب وقد قتل صاحبهم! امض إلى الكوفة ومعك جند كثير، فقاتلهم حتى تقتل أو تظفر، قال: بل نأتي واسطًا فننظر، قال: ما تزيد على أن تمكّنه من نفسك وتقتل، فقال له يحيى بن حضين: إنك لا تأتي مروان بشيء أحبّ إليه من هذه الجنود، فالزم الفرات حتى تقدم عليه؛ وإياك وواسطًا؛ فتصير في حصار، وليس بعد الحصار إلا القتل. فأبى. وكان يخاف مروان لأنه كان يكتب إليه في الأمر فيخالفه؛ فخافه إن قدم عليه أن يقتله، فأتى واسطًا فدخلها، وتحصّن بها. وسرّح أبو سلمة الحسن بن قحطبة، فخندق الحسن وأصحابه، فنزلوا فيما بين الزاب ودجلة؛ وضرب الحسن سرادقه حيال باب المضمار، فأوّل وقعة كانت بينهم يوم الأربعاء، فقال أهل الشأم لابن هبيرة: ائذن لنا فيي قتالهم، فأذن لهم، فخرجوا وخرج ابن هبيرة، وعلى ميمنته ابنه داود، ومعه محمد بن نباتة في ناس من أهل خراسان، فيهم أبو العود الخراساني، فالتقوا وعلى ميمنته الحسن خازم بن خزيمة، وابن هبيرة قبالة باب المضمار، فحمل خازم على ابن هبيرة، فهزموا أهل الشأم حتى ألجئوهم إلى الخنادق، وبادر الناس باب المدينة حتى غصّ باب المضمار، ورمى أصحاب العرّادات بالعرّادات والحسن واقف. وأقبل يسير في الخيل فيما بين النهر والخندق، ورجع أهل الشأم، فكرّ عليهم الحسن، فحالوا بينه وبين المدينة، فاضطروهم إلى دجلة، فغرق منهم ناس كثير، فتلقّوه هم بالسفن، فحملوهم، وألقى ابن نابة يومئذ سلاحه واقتحم، فتبعوه بسفينة فركب وتحاجزوا، فمكثوا سبعة أيام، ثم خرجوا إليهم يوم الثلاثاء فاقتتلوا، فحمل رجل من أهل الشام على أبي حفص هزار مرد، فضربه وانتمى: أنا الغلام السلمي، وضربه أبو حفص وانتمى: أنا الغلام العتكي، فصرعه، وانهزم أهل الشأم هزيمة قبيحة، فدخلوا المديينة؛ فمكثوا ما شاء الله لا يقتتلون إلا رميًا من وراء الفصيل. وبلغ ابن هبيرة وهو في الحصار أن أبا أميّة التغلبي قد سوّد، فأرسل أبا عثمان إلى منزله، فدخل على أبي أمية في قبّته، فقال: إنّ الأمير أرسلني إليك لأفتّش قبتك، فإن كان فيها سواد علقته في عنقك وحبلًا، ومضيت بك إليه؛ وإن لم يكن في بيتك سواد فهذه خمسون ألفًا صلة لك. فأبى أن يدعه أن يفتش قبّته، فذهب به إلى ابن هبيرة فحبسه، فتكلّم في ذلك معن ابن زائدة وناس من ربيعة، وأخذوا ثلاثة من بني فزارة؛ فحبسوهم وشتموا ابن هبيرة، فجاءهم يحيى بن حضين، فكلّمهم فقالوا: لا نخلي عنهم حتى يخلى عن صاحبنا؛ فأبى ابن هبيرة، فقال له: ما تفسد إلّا على نفسك وأنت محصور؛ خلّ سبيل هذا الرجل، قال: لا ولا كرامة؛ فرجع ابن حضين إليهم فأخبرهم، فاعتزل معن وعبد الرحمن بن بشير العجلي، فقال ابن حضين لابن هبيرة: هؤلاء فرسانك قد أفسدتهم؛ وإن تماديت في ذلك كانوا أشدّ عليك ممّن حصرك؛ فدعا أبا أميّة فكساه، وخلى سبيله، فاصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه. وقدم أبو نصر مالك بن الهيثم من ناتحية سجستان، فأوفد الحسن بن قحطبة وفدًا إلى أبي العباس بقدوم أبي نصر عليه، وجعل على الوفد غيرلان ابن عبد الله الخزاعي - وكان غيلان واجدًا على الحسن لأنه سرّحه إلى روح ابن حاتم مددًا له - فلما قدم على أبي العباس قال: أشهد أنك أمير المؤمنين، وأنك حبل الله المتين، وأنك إمام المتقين؛ فقال: حاجتك يا غيلان؟ قال: أستغفرك، قال: غفر الله لك، فقال داود بن علي: وفّقك الله يا أبا فضالة، فقال له غيلان: يا أميير المؤمنين، مُنّ علينا برجل من أهل بيتك، قال: أوليس عليكم رجل من أهل بيتي! الحسن بن قحطبة؛ قال: يا أمير المؤمنين، مُنّ علينا برجل من أهل بيتك ننظر إلى وجهه، وتقرّ أعيننا به، قال: نعم يا غيلان؛ فبعث أبا جعفر، فجعل غيلان على شرطه فقدم واسطًا، فقال أبو نصر لغيلان: ما أردت لا ما صنعت؟ قال: " به بود "، فمكث أيامًا على الشرط، ثم قال لأبي جعفر: لا أقوى على الشرط؛ ولكني أدلك على مَن هو أجلد مني، قال: من هو؟ قال: جهور بن مرار، قال: لا أقدر على عزلك؛ لأن أمير المؤمنين استعملك، قال: اكتب إليه فأعلمه، فكتب إليه، فكتب إليه أبو العباس: أن اعمل برأي غيلان، فولّى شرطه جهورًا. وقال أبو جعفر للحسن: ابغني رجلًا أجعله على حرسي، قال: من قد رضيته لنفسي؛ عثمان بن نهيك، فولّى الحرس. قال بشر بن عيسى: ولما قدم أبو جعفر واسطًا، تحوّل له الحسن عن حجرته، فقاتلهم وقاتلوه، فقاتلهم أبو نصر يومًا، فانهزم أهل الشأم إلى خنادقهم؛ وقد كمن لهم معن وأبو يحيى الجذامي، فلما جاوزهم أهل خراسان، خرجوا عليهم؛ فقاتلوهم حتى أمسوا، وترجّل لهم أبو نصر؛ فاقتتلوا عند الخنادق، ورفعت لهم النيران وابن هبيرة على برج باب الخلّالين، فاقتتلوا ما شاء الله من الليل. وسرّح ابن هبيرة إلى معن أن ينصرف. فانصرف ومكثوا أيامًا. وخرج أهل الشأم أيضًا مع محمد بن نباتة ومعن بن زائدة وزياد بن صالح وفرسان من فرسان أهل الشأم، فقاتلهم أهل خراسان، فهموهم إلى دجلة، فجعلوا يتساقطون في دجلة، فقال أبو نصر: يا أهل خراسان مردمان خائنه بيابان هستيدوبرخزيد، فرجعوا وقد صرع ابنه، فحماه روح بن حاتم، فمرّ به أبوه، فقال له بالفارسية: قد قتلوك يا بني؛ لعن الله الدنيا بعدك! وحملوا على أهل الشأم فهزموهم حتى أدخلوهم مدينة واسط، فقال بعضهم لبعض: لا والله لا تفلح بعد عيشتنا أبدًا؛ خرجنا عليهم ونحن فرسان أهل الشأم، فهزمونا حتى دخلنا المدينة. وقتل تلك العشيّة من أهل خراسان بكار الأنصاري ورجل من أهل خراسان؛ كانا من فرسان أهل خراسان؛ وكان أبو نصر في حصار ابن هبيرة يملأ السفن حطبًا، ثم يضرمها بالنار لتحرق ما مرّت به؛ فكان ابن هبيرة يهيّىء حرّاقات كان فيها كلاليب تجرّ تلك السفن؛ فمكثوا بذلك أحد عشر شهرًا، فلما طال ذلك عليهم طلبوا الصلح؛ ولم يطلبوه حتى جاءهم خبر قتل مروان، أتاهم به إسماعيل بن عبد الله القسري، وقال لهم: علام تقتلون أنفسكم، وقد قتل مروان! وقد قيل: إنّ أبا العباس وجّه أبا جعفر عند مقدمه من خراسان منصرفًا من عند أبي مسلم إلى ابن هبيرة لحربه، فشخص أبو جعفر حتى قدم على الحسن ابن قحطبة؛ وهو محاصر ابن هبيرة بواسط، فتحوّل له الحسن عن منزله، فنزله أبو جعفر، فلما طال الحصار على ابن هبيرة وأصحابه تحنّى عليه أصحابه فقالت اليمانية: لا نعين مروان وآثاره فينا آثاره. وقالت النزاريّة: لا نقاتل حتى تقاتل معنا اليمانية؛ وكان إنما يقاتل معه الصعاليك والفتيان؛ وهمّ ابن هبيرة أن يدعو إلى محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن؛ فكتب إليه فأبطأ جوابه؛ وكاتب أبو العباس اليمانية من أصحاب ابن هبيرة؛ وأطمعهم. فخرج إليه زياد بن صالح وزياد بن عبيد الله الحارثيان؛ ووعدا ابن هبيرة أن يصلحا له ناحية أبي العباس فلم يفعلا؛ وجرت السفراء بين أبي جعفر وبين ابن هبيرة حتى جعل له أمانًا، وكتب به كتابًا، مكث يشاور فيه العلماء أربعين يومًا حتى رضيه ابن هبيرة، ثم أنفذه إلى أبي جعفر، فأنفذه أبو جعفر إلى أبي العباس، فأمره بإمضائه؛ وكان رأي أبي جعفر الوفاء له بما أعطاه، وكان أبو العباس لا يقطع أمرًا دون أبي مسلم، وكان أبو الجهم عينًا لأبي مسلم على أبي العباس، فكتب غليه بأخباره كلها، فكتب أبو مسلم إلى أبي العباس: إنّ الطريق السهل إذا ألقيت فيه الحجارة فسد؛ لا والله لا يصلح طريق فيه ابن هبيرة. ولما تمّ الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلثمائة من البخاريّة؛ فأراد أن يدخل الحجرة على دابته، فقام إليه الحاجب سلّام بن سليم، فقال: مرحبًا بك أبا خالد! انزل راشدًا؛ وقد أطاف بالحجرة نحو من عشرة آلاف من أهل خراسان، فنزل، ودعا له بوسادة ليجلس عليها، ثم دعا بالقوّاد فدخلوا، ثم قال سلّام: ادخل أبا خالد؛ فقال له: أنا ومن معي؟ فقال: إنما استأذنت لك وحدك، فقام فدخل، ووضعت له وسادة، فجلس عليها، فحادثه ساعة، ثم قام وأتبعه أبو جعفر بصره حتى غاب عنه؛ ثم مكث يقيم عنه يومًا، ويأتيه يومًا في خمسمائة فارس وثلثمائة راجل؛ فقال يزيد بن حاتم لأبي جعفر: أيّها الأمير؛ إنّ ابن هبيرة ليأتي فيتضعضع له العسكر؛ وما نقص من سلطانه شيء، فإذا كان يسير في هذه الفرسان والرّجالة، فما يقول عبد الجبار وجهور! فقال أبو جعفر لسلام: قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا في يحاشيته نحوًا من ثلاثين. فقال له سلّام: كأنك تأتي مباهيًا! فقال: إن أمرتم أن نمشي إليكم مشينا، فقال: ما أردنا بك استخفافًا، ولا أمر الأمير بما أمر به إلا نظرًا لك؛ فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة. وذكر أبو زيد أنّ محمد بن كثير حدثه، قال: كلّم ابن هبيرة يومًا أبا جعفر، فقال: يا هناه - أو يأيّها المرء - ثم رجع، فقال: أيها الأمير؛ إنّ عندي بكلام الناس بمثل ما خاطبتك به حديث، فسبقني لساني إلى ما لم أرده. وألحّ أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه؛ حتى كتب إليه: والله لتقتلنّه أو لأرسلنّ إليه من يخرجه من حجرتك، ثم يتولى قتله. فأزمع على قتله، فبعث خازم بن خزيمة والهيثم بن شعبة بن ظهير؛ وأمرهما بختم بيوت الأموال. ثم بعث إلى وجوه من معه من القيسيّة والمضرّية، فأقبل محمد ابن نباة وحوثرة بن سهيل وطارق بن قدامة وزياد بن سويد وأبو بكر بن كعب العقيلي وأبان وبشر ابنا عبد الملك بن بشر؛ في اثنين وعشرين رجلًا من قيس، وجعفر بن حنظلة وهزّان بن سعد. قال: فخرج سلّام بن سليم، فقال: أين حوثرة ومحمد بن نباتة؟ فقاما، فدخلا، وقد أجلس عثمان بن نهيك والفضل بن سليمان وموسى بن عقيل في مائة في حجرة دون حجرته، فنزعت سيوفهما وكتّفا، ثم دخل بشر وأبان ابنا عبد الملك بن بشر، ففعل بهما ذلك؛ ثمّ دخل أبو بكر بن كعب وطارق ابن قدامة، فقام جعفر بن حنظلة، فقال: نحن رؤساء الأجناد، ولم يكون هؤلاء يقدّمون علينا؟ فقال: ممن أنت؟ قال: من بهراء، فقال: وراءك أوسع لك، ثم قام هزّان، فتكلم فأخّر، فقال روح بن حاتم: يا أبا يعقوب، نزعت سيوف القوم، فخرج عليهم موسى بن عقيل، فقالوا له: أعطيتمونا عهد الله ثم خستم به! إنا لنرجو أن يدرككم الله؛ وجعل ابن نباتة يضرط في لحية نفسه، فقال له حوثرة: إنّ هذا لا يغني عنك شيئًا؛ فقال: كأني كنت أنظر إلى هذا، فقتلوا. وأخذت خواتيمهم. وانطلق خازم والهيثم بن شعبة والأغلب بن سالم في نحو من مائة، فأرسلوا إلى ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة: إنا نريد حمل المال، فقال ابن هبيرة لحاجبه: يا أبا عثمان، انطلق فدلّهم عليه، فأقاموا عند كلّ بيت نفرًا، ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار، ومع ابن هبيرة ابنه داود وكاتبه عمرو بن أيّوب وحاجبه وعدّة من مواليه، وبنيٌّ له صغير في حجره؛ فجعل ينكر نظرهم فقال: أقسم بالله إنّ في وجوه القوم لشرًا، فأقبلوا نحوه، فقام حاجبه في وجوههم، فقال: ما وراءكم؟ فضربه الهيثم بن شعبة على حبل عاتقه فصرعه، وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه، ونحّى الصبي من حجره، وقال: دونكم هذا الصبي، وخرّ ساجدًا فقتل وهو ساجد، ومضوا برءوسهم إلى أبي جعفر، فنادى بالأمان للناس إلّا للحكم بن عبد الملك بن بشر وخالد بن سلمة المخزومي وعمر بن ذرّ، فاستأمن زياد بن عبيد الله لابن ذرّ فآمنه أبو العباس، وهرب الحكم، وآمن أبو جعفر خالدًا، فقتله أبو العباس، ولم يجز أمان أبي جعفر، وهرب أبو علاقة وهشام ابن هشيم بن صفوان بن مزيد الفزاريّان، فلحقهما حجر بن سعيد الطائي فقتلهما على الزاب، فقال أبو عطاء السندي يرثيه: ألا إنّ عينًا لم تجد يوم واسط ** عليك بجاري دمعها لجمود عشيّة قام النائحات وشققت ** جيوب بأيدي مأتمٍ وخدود فإن تمس مهجور الفناء فربّما ** أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهّد ** بلى كل من تحت التراب بعيد وقال منقذ بن عبد الرحمن الهلالي يرثيه: منع العزاء حرارة الصدر ** والحزن عقد عزيمة الصبر لما سمعت بوقعة شملت ** بالشييب لون مفارق الشعر أفنى الحماة الغرّ أن عرضت ** دون الوفاء حبائل الغدر مالت حبائل أمرهم بفتىً ** مثل النجوم حففن بالبدر عالى نعيهم فقلت له ** هلّا أتيت بصيحة الحشر! لله درّك من زعمت لنا ** أن قد حوته حوادث الدهر من للمنابر بعد مهلكهم ** أو من يسد مكارم الفخر! فإذا ذكرتهم شكا ألمًا ** قلبي لفقد فوارس زهر قتلى بدجلة ما يغمّهم ** إلا عباب زواخر البحر فلتبك نسوتنا فوارسها ** خير الحماة ليالي الذعر وذكر أبو زيد أن أبا بكر الباهلي حدثه، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان، قال: كان هشام بن عبد الملك خطب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة ابنته على ابنه معاوية، فأبى أن يزوجّه، فجرى بعد ذلك بين يزيد بن عمر وبين الوليد بن القعقاع كلام؛ فبعث به هشام إلى الوليد بن القعقاع، فضربه وحبسه، فقال ابن طيسلة: يا قل خير رجال لا عقول لهم ** من يعدلون إلى المحبوس في حلب إلى امرىء لم تصبه الدهر معضلة ** إلا استقلّ بها مسترخي اللبب وقيل: إن أبا العباس لما وجّه أبا جعفر إلى واسط لقتال ابن هبيرة، كتب إلى الحسن بن قحطبة: إن العسكر عسكرك، والقوّاد قوّادك؛ ولكن أحببت أن يكون أخي حاضرًا، فاسمع له وأطع، وأحسن مؤازرته. وكتب إلى أبي نصر مالك بن الهيثم بمثل ذلك؛ فكان الحسن المدبر لذلك العسكر بأمر المنصور. وفي هذه السنة وجّه أبو مسلم محمد بن الأشعث على فارس، وأمره أن يأخذ عمال أبي سلمة فيضرب أعناقهم. ففعل ذلك. وفي هذه السنة وجّه أبو العباس عمّه عيسى بن علي على فارس، وعليها محمد بن الأشعث، فهمّ به، فقيل له: إن هذا لا يسوغ لك، فقال: بلى، أمرني أبو مسلم ألا يقدم علي أحد يدّعي الولاية من غيره إلا ضربت عنقه. ثم ارتدع عن ذلك لما تخوّف من عاقبته، فاستحلف عيسى بالأيمان المحرجة ألّا يعلو منبرًا، ولا يتقلد سيفًا إلّا في جهاد؛ فلم يل عيسى بعد ذلك عملًا، ولا تقلد سيفًا إلّا في غزو. ثم وجه أبو العباس بعد ذلك إسماعيل بن علي واليًا على فارس. وفي هذه السنة وجّه أبو العباس أخاه أبا جعفر واليًا على الجزيرة وأذربيجان وأرمينية، ووجه أخاه يحيى بن محمد بن علي واليًا على الموصل. وفيها عزل عمّه داود بن علي عن الكوفة وسوادها، وولّاه المدينة ومكة واليمن واليمامة، وولّى موضعه وما كان إليه من عمل الكوفة وسوادها عيسى بن موسى. وفيها عزل مروان - وهو بالجزيرة عن المدينة - الوليد بن عروة، وولاها أخاه يوسف بن عروة؛ فذكر الواقدي أنه قدم المدينة لأربع خلون من شهر ربيع الأول. وفيها استقضى عيسى بن موسى على الكوفة ابن أبي ليلى. وكان العامل على البصرة في هذه السنة سفيان بن معاوية المهلبي. وعلى قضائها الحجاج بن أرطاة، وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان عبد الله بن محمد، وعلى الموصل يحيى بن محمد، وعلى كور الشأم عبد الله بن علي، وعلى مصر أبو عون عبد الملك بن يزيد، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك. وحجّ بالناس في هذه السنة داود بن علي بن عبد الله بن العباس. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة ذكر ما كان في هذه السنة من الأحداث فمن ذلك ما كان من توجيه أبي العباس عمّه سليمان بن علي واليًا على البصرة وأعمالها، وكور دجلة والبحرين وعمان ومهرجانقذق، وتوجيهه أيضًا عمه إسماعيل بن علي على كور الأهواز. وفيها قتل داود بن علي من كان أخذ من بني أميّة بمكة والمدينة. وفيها مات داود بن علي بالمدينة في شهر ربيع الأول؛ وكانت ولايته - فيما ذكر محمد بن عمر - ثلاثة أشهر. واستخلف داود بن علي حين حضرته الوفاة على عمله ابنه موسى؛ ولما بلغت أبا العباس وفاته وجّه على المدينة ومكة والطائف واليمامة خاله زياد بن عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي، ووجّه محمد بن يزيد بن عبد الله ابن عبد المدان على اليمن، فقدم اليمن في جمادى الأولى، فأقام زياد بالمدينة ومضى محمد إلى اليمن. ثم وجّه زياد بن عبيد الله من المدينة إبراهيم بن حسان السلمي؛ وهو أبو حماد الأبرص - إلى المثنّى بن يزيد بن عمر بن هبيرة وهو باليمامة، فقتله وقتل أصحابه. وفيها كتب أبو العباس إلى أبي عون بإقراره على مصر واليًا عليها، وإلى عبد الله وصالح ابني علي على أجناد الشأم. وفيها توجّه محمد بن الأشعث إلى إفريقيّة فقاتلهم قتالًا شديدًا حتى فتحها. وفيها خرج شريك بن شيخ المهري بخراسان على أبي مسلم ببخارى ونقم عليه، وقال: ما على هذا اتّبعنا آل محمد، على أن نسفك الدماء، ونعمل بغير الحقّ. وتبعه على رأيه أكثر من ثلاثين ألفًا، فوجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله فقتله. وفيها توجّه أبو داود خالد بن إبراهيم من الوخش إلى الختّل، فدخلها ولم يمتنع عليه حنش بن السبل ملكها، وأتاه ناس من دهاقين الختل، فتحصّنوا معه؛ وامتنع بعضهم في الدروب والشعاب والقلاع. فلما ألحّ أبو داود على حنش، خرج من الحصن لييلًا ومعه دهاقينه وشاكريّته حتى انتهوا إلى أرض فرغانة؛ ثم خرج منها في أرض الترك، حتى وقع إلى ملك الصين؛ وأخذ أبو داود من ظفر به منهم، فجاوز بهم إلى بلخ، ثم بعث بهم إلى أبي مسمل. وفيها قتل عبد الرحمن بن يزييد بن المهلب؛ قتله سليمان الذي يقال له الأسود، بأمان كتبه له. وفيها وجّه صالح بن علي سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة؛ وراء الدروب. وفيها عزل يحيى بن محمد عن الموصل، واستعمل مكانه إسماعيل بن علي. وحجّ بالناس في هذه السنة زياد بن عبيد الله الحارثي؛ كذلك حدثني أحمد ابن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان علي الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وأعمالها وكوردجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان ابن علي، وعلى قضائها عبّاد بن منصور، وعلى الأهواز إسماعييل بن علي وعلى فارس محمد بن الأشعث، وعلى السند منصور بن جمهور، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى قنّسرين وحمص وكور دمشق والأردّن عبد الله بن علي، وعلى فلسطين صالح بن علي. وعلى مصر عبد الملك بن يزيد أبو عون، وعلى الجزيرة عبد الله بن محمد المنصور، وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية صالح بن صبيح، وعلى أذربيجان مجاشع بن يزيد. وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة ذكر ما كان فييها من الأحداث ذكر خبر خلع بسام بن إبراهيم ففيها خالف بسام بن إبراهيم بن بسام، وخلع، وكان من فرسان أهل خراسان. وشخص - فيما ذكر - من عسكر أبي العباس أمير المؤمنين مع جماعة ممّن شاييعه على ذلك من رأيه؛ مستسرّين بخروجهم، ففحص عن أمرهم وإلى أين صاروا، حتى وقف على مكانهم بالمدائن، فوجّه إليهم أبو العباس خازم بن خزيمة، فلما لقي بسامًا ناجزه القتال، فانهزم بسام وأصحابه وقتل أكثرهم، واستبيح عسكره، ومضى خازم وأصحابه في طلبهم، في أرض جوخي إلى أن بلغ ماه، وقتل كلّ من لحقه منهزمًا، أو ناصبه القتال؛ ثم انصرف من وجهه ذلك؛ فمرّ بذات المطامير - أو بقرية شبيهة بها - وبها من بني الحارث بن كعب من بني عبد المدان؛ وهم أخوال أبي العباس ذنبة فمرّ بهم وهم في مجلس لهم - وكانوا خمسة وثلاثين رجلًا منهم ومن غيرهم ثمانية عشر رجلًا، ومن مواليهم سبعة عشر رجلًا - فلم يسلّم عليهم، فلما جاز شتموه؛ وكان في قلبه عليهم ما كان لما بلغه عنهم من حال المغرة بن الفزع، وأنه لجأ إليهم، وكان من أصحاب بسام بن إبراهيم فكرّ راجعًا، فسألهم عما بلغه من نزول المغيرة بهم؛ فقالوا: مرّ بنا رجل مجتاز لا نعرفه؛ فأقام في قريتنا ليلة ثم خرج عنها، فقال لهم: أنتم أخوال أمير المؤمنين ويأتيكم عدوّه، فيأمن في قريتكم! فهلا اجتمعتم فأخذتموه! فأغلظوا له الجواب، فأمر بهم فضربت أعناقهم جميعًا، وهدمت دورهم، وانتهبت أموالهم، ثم انصرف إلى أبي العباس؛ وبلغ ما كان من فعل خازم اليمانية، فأعظموا ذلك؛ واجتمعت كلمتهم، فدخل زياد بن عبيد الله الحارثي على أبي العباس مع عبد الله بن الربيع الحارثي وعثمان بن نهيك، وعبد الجبار بن عبد الرحمن؛ وهو يومئذ على شرطة أبي العباس؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ إن خادمًا اجترأ عليك بأمر لم يكن أحد من أقرب ولد أبيك ليجترىء عليك به؛ من استخفافه بحقّك؛ وقتل أخوالك الذين قطعوا البلاد، وأتوك معتزّين بك، طالبين معروفك؛ حتى إذا صاروا إلى دارك وجوارك، وثب عليهم خازم فضرب أعناقهم، وهدم دورهم، وأنهب أموالهم، وأخرب ضياعهم؛ بلا حدث أحدثوه. فهمّ بقتل خازم؛ فبلغ ذلك موسى بن كعب وأبا الجهم بن عطيّة، فدخلا على أبي العباس، فقالا: بلغنا يا أمير المؤمنين ما كان من تحميل هؤلاء القوم إياك على خازم؛ وإشارتهم عليك بقتله؛ وما هممت به من ذلك؛ وإنا نعيذك بالله من ذلك؛ فإنّ له طاعة وسابقة؛ وهو يحتمل له ما صنع؛ فإنّ شيعتكم من أهل خراسان قد آثروكم على الأقارب من الأولاد والآباء والإخوان؛ وقتلوا من خالفكم، وأنت أحقّ من تعمد إساءة مسيئهم؛ فإن كنت لا بد مجمعًا على قتله فلا تتولّ ذلك بنفسك، وعرّضه من المباعث لما إن قتل فيه كنت قد بلغت الذي أردت، وإن ظفر كان ظفره لك. وأشاروا عليه بتوجيهه إلى من بعمان من الخوارج إلى الجلندي وأصحابه، وإلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري، فأمر أبو العباس بتوجيهه مع سبعمائة رجل؛ وكتب إلى سليمان بن علي وهو على البصرة بحملهم في السفن إلى جزيرة ابن كاوان وعمان فشخص. أمر الخوارج مع خزيمة بن خازم وقتل شيبان بن عبد العزيز وفي هذه السنة شخص خازم بن خزيمة إلى عمان، فأوقع بمن فيها من الخوارج، وغلب عليها وعلى ما قرب منها من البلدان وقتل شيبان الخارجي. ذكر الخبر عما كان منه هنالك ذكر أن خازم بن خزيمة شخص في السبعمائة الذين ضمّهم إليه أبو العباس، وانتخبمن أهل بيته وبني عمه ومواليه ورجال من أهل مرو الروذ، قد عرفهم ووثق بهم؛ فسار إلى البصرة، فحملهم سليمان بن علي، وانضمّ إلى خازم بالبصرة عدّة من بني تميم، فساروا حتى أرسوا بجزيرة ابن كاوان، فوجّه خازم نضلة بن نعيم النهشلي في خمسمائة رجل من أصحابه إلى شيبان، فالتقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فركب شيبان وأصحابه السفن، فقطعوا إلى عمّان - وهم صفرّية - فلما صاروا إلى عمان نصب لهم الجلندي وأصحابه - وهم إباضية - فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل شيبان ومن معه، ثم سار خازم في البحر بمن معه؛ حتى أرسوا إلى ساحل عمان، فخرجوا إلى صحراء، فلقيهم الجلندي وأصحابه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكثر القتل يومئذ في أصحاب خازم؛ وهم يومئذ على ضفة البحر، وقتل فيمن قتل أخ لخازم لأمه يقال له إسماعيل، في تسعين رجلًا من أهل مرو الروذ، ثم تلاقوا في اليوم الثاني؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وعلى ميمنته رجل من أهل مرو الروذ، يقال له حميد الورتكاني، وعلى ميسرته رجل من أهل مرو الروذ يقال له مسلم الأرغدي، وعلى طلائعه نضلة بن نعيم النهشلي، فقتل يومئذ من الخوارج تسعمائة رجل، وأحرقوا منهم نحوًا من تسعين رجلًا. ثم التقوا بعد سبعة أيام من مقدم خازم على رأي أشار به عليه رجل من أهل الصغد، وقع بتلك البلاد، فأشار عليه أن يأمر أصحابه فيجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة ويرووها بالنفط، ويشعلوا فيها النيران؛ ثم يمشوا بها حتى يضرموها في بيوت أصحاب الجلندي. وكانت من خشب وخلاف؛ فلما فعل ذلك وأضرمت بيوتهم بالنيران وشغلوا بها وبمن فيها من أولادهم وأهاليهم شدّ عليهم خازم وأصحابه؛ فوضعوا فيهم السيوف وهم غير ممتنعين منهم، وقتل الجلندي فيمن قتل، وبلغ عدّة من قتل عشرة آلاف؛ وبعث خازم برءوسهم إلى البصرة، فمكثت بالبصرة أيامًا، ثم بعث بها إلى أبي العباس، وأقام خازم بعد ذلك أشهرًا؛ حتى أتاه كتاب أبي العباس بإقفاله فقفلوا. ذكر غزوة كس وفي هذه السنة غزا أبو داود خالد بن إبراهيم أهل كسّ فقتل الأخريد ملكها؛ وهو سامع مطيع قدم عليه قبل ذلك بلخ، ثم تلقاه بكندك ممايلي كسّ؛ وأخذ أبو داود من الأخريد وأصحابه حين قتلهم من الأواني الصيينيّة المنقوشة المذهبة التي لم ير مثلها، ومن السروج الصينيّة ومتاع الصين كله من الديباج وغيره، ومن طرف الصين شيئًا كثيرًا، فحمله أبو داود أجمع إلى أب مسلم وهو بسمرقند، وقتل أبو داود دههقان كسّ في عدّة من دهاقينها واستحيا طاران أخا الأخريد وملكه على كسّ، وأخذ ابن النجاح وردّه إلى أرضه، وانصرف أبو مسلم إلى مرو بعد أن قتل في أهل الصغد وأهل بخارى، وأمر ببناء حائط سمرقند، واستخلف زياد بن صالح على الصغد وأهل بخارى، ثم رجع أبو داود إلى بلخ. ذكر قتال منصور بن جمهور وفي هذه السنة وجه أبو العباس موسى بن كعب إلى الهند لقتال منصور ابن جمهور، وفرض لثلاثة آلاف رجل من العرب والموالي بالبصرة ولألف من بني تميم خاصّة، فشخص واستخلف مكانه على شرطة أبي العباس المسيّب ابن زهير حتى ورد السِّند، ولقي منصور بن جمهور في اثني عشر ألفًا، فهزمه ومن معه، ومضى فمات عطشًا في الرمال. وقد قيل: أصابه بطن، وبلغ خليفة منصور وثقله، وخرج بيهم في عدّة من ثقاته، فدخل بهم بلاد الخزر. وفيها توفّي محمد بن يزيد بن عبد الله وهو على اليمن، فكتب أبو العباس إلى علي بن الربيع بن عبيد الله الحارثي، وهو عامل لزياد بن عبيد الله على مكة بولايته على اليمن فسار إليها. وفي هذه السنة تحوّل أبو العباس من الحيرة إلى الأنبار - وذلك فيما قال الواقدي وغيره - في ذي الحجة. وفيها عزل صالح بن صبيح عن أرمينية، وجعل مكانه يزيد بن أسيد. وفيها عزل مجاشع بن يزيد عن أذربيجان، واستعمل عليها محمد بن صول. وفيها ضرب المنار من الكوفة إلى مكة والأميال. وحجّ بالناس في هذه السنة عيسى بن موسى، وهو على الكوفة وأرضها. وكان على قضاء الكوفة ابن أبي ليلى، وعلى المدينة ومكة والطائف واليمامة زياد بن عبيد الله، وعلى اليمن علي بن الربيع الحارثي، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والعرض ومهرجانقذق سليمان بن علي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى السند موسى بن كعب، وعلى خراسان والجبال أبو مسلم، وعلى فلسطين صالح ابن علي، وعلى مصر أبو عوان، وعلى موصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول. وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك، وعلى الجزيرة عبد الله بن محمد أبو جعفر وعلى قنّسرين وحمص وكور دمشق والأردنّ عبد الله بن علي. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث ذكر خبر خروج زياد بن صالح فمما كان فيها من ذلك خروج زياد بن صالح وراء نهر بلخ، فشخص أبو مسلم من مرو مستعدًا للقائه، وبعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى الترمذ، وأمره أن ينزل مدينتها، مخافة أن يبعث زياد بن صالح إلى الحصن والسفن فيأخذها؛ ففعل ذلك نصر، وأقام بها أيامًا، فخرج عليه ناس من الراونديّة من أهل الطالقان مع رجل يكنى أبا إسحاق، فقتلوا نصرًا، فلما بلغ ذلك أبا داود بعث عيسى بن ماهان في تتبّع قتلة نصر، فتتبعهم فقتلهم، فمضى أبو مسلم مسرعًا؛ حتى انتهى إلى آمل، ومعه سباع بن أبي النعمان الأزدي، وهو الذي كان قدم بعهد زياد بن صالح من قبل أبي العباس، وأمره إن رأى فرصة أن يثب على أبي مسلم فيقتله. فأخبر أبو مسلم بذلك، فدفع سباع بن النعمان إلى الحسن بن الجنيد عامله على آمل، وأمره بحبسه عنده، وعبر أبو مسلم إلى بخارى، فلما نزلها أتاه أبو شاكر وأبو سعد الشروي في قوّاد قد خلعوا زيادًا، فسألهم أبو مسلم عن أمر زياد ومن أفسده، قالوا: سباع بن النعمان، فكتب إلى عامله على آمل أن يضرب سباعًا مائة سوط، ثم يضرب عنقه، ففعل. ولما أسلم زيادًا قوّاده ولحقوا بأبي مسلم لجأ إلى دهقان باركث، فوثب عليه الدهقان، فضرب عنقه، وجاء برأسه إلى أبي مسلم، فأبطأ أبو داود على أبي مسلم لحال الراونديّة الذين كانوا خرجوا، فكتب إليه أبو مسلم: أما بعد فليفرخ روعك، ويأمن سربك، فقد قتل الله زيادًا، فاقدم، فقدم أبو داود، كسّ، وبعث عيسى بن ماهان إلى بسام، وبعث ابن النجاح إلى الإصبهبذ إلى شاوغر، فحاصر الحصن فأما أهل شاوغر فسألوا الصلح، فأجيبوا إلى ذلك. وأما بسام فلم يصل عيسى بن ماهان إلى شيء منه؛ حتى ظهر أبو مسلم بستة عشر كتابًا وجدها من عيسى بن ماهان إلى كامل بن مظفّر صاحب أبي مسلم، يعيب فيها أبا داود، وينسبه فيها إلى العصبيّة وإيثاره العرب وقومه على غيرهم من أهل هذه الدعوة، وأن في عسكره ستة وثلاثين سرادقًا للمستأمنة، فبعث بها أبو مسلم إلى أبي داود، وكتب إليه: إنّ هذه كتب العلج الذي صيّرته عدل نفسك، فشأنك به. فكتب أبو داود إلى عيسى ابن ماهان يأمره بالانصراف إليه عن بسّام، فلما قدم عليه حبسه ودفعه إلى عمر النغم؛ وكان في يده محبوسًا، ثم دعا به بعد يومين أو ثلاثة فذكّره صنيعته به وإيثاره إياه على ولده، فأقرّ بذلك، فقال أبو داود: فكان جزاء ما صنعت بك أن سعيت بي وأردت قتلي، فأنكر ذلك، فأخرج كتبه فعرفها، فضربه أبو داود يومئذ حدّين: أحدهما للحسن بن حمدان. ثم قال أبو داود: أمّا إني قد تركت ذنبك لك؛ ولكن الجند أعلم. فأخرج في القيود، فلما أخرج من السرّادق وثب عليه حرب بن زياد وحفص بن دينار مولى يحيى بن حضين، فضرباه بعمود وطبرزين، فوقع إلى الأرض، وعدا عليه أهل الطالقان وغيرهم، فأدخلوه في جوالق، وضربوه بالأعمدة، حتى مات ورجع أبو مسلم إلى مرو. وحجّ بالناس في هذه السنة سليمان بن علي، وهو على البصرة وأعمالها. وعلى فضائها عباد بن منصور. وكان على مكة العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، وعلى المدينة رياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى الجزيرة أبو جعفر المنصور، وعلى مصر أبو عون، وعلى حمص وقنّسرين وبعلبك والغوطة وحوران والجولان والأردنّ عبد الله ابن علي، وعلى البلقاء وفلسطين صالح بن علي، وعلى الموصل إسماعيل بن علي، وعلى أرمينية يزيد بن أسيد، وعلى أذربيجان محمد بن صول، وعلى ديوان الخراج خالد بن برمك. ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر قدوم أبي مسلم على أبي العباس ففي هذه السنة قدم أبو مسلم العراق من خراسان على أبي العباس أمير المؤمنين. ذكر الخبر عن قدومه عليه وما كان من أمره في ذلك ذكر علي بن محمد أن الهيثم بن عدّي أخبره والوليد بن هشام، عن أبيه، قالا: لم يزل أبو مسلم مقيمًا بخراسان، حتى كتب إلى أبي العباس يستأذنه في القدوم عليه، فأجابه إلى ذلك، فقدم على أبي العباس في جماعة من أهل خراسان عظيمة ومن تبعه من غيرهم من الأنبار؛ فأمر أبو العباس الناس يتلقونه، فتلقاه الناس، وأقبل إلى أبي العباس، فدخل عليه فأعظمه وأكرمه؛ ثم استأذن أبا العباس في الحجّ فقال: لولا أن أبا جعفر يحجّ لاستعملتك على الموسم. وأنزله قريبًا منه، فكان يأتيه في كلّ يوم يسلم عليه، وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدًا؛ لأن أبا العباس كان بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور. بعد ما صفت له الأمور بعهده على خراسان وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر من بعده؛ فبايع له أبو مسلم وأهل خراسان. وأقام أبو جعفر أيامًا حتى فرغ من البيعة، ثم انصرف. وكان أبو مسلم قد استخفّ بأبي جعفر في مقدمه ذلك، فلما قدم على أبي العباس أخبره بما كان من استخفافه به. قال علي: قال الوليد عن أبيه: لما قدم أبو مسلم على أبي العباس، قال أبو جعفر لأبي العباس: يا أمير المؤمنين، أطعني واقتل أبا مسلم؛ فوالله إنّ في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي، قد عرفت بلاءه وما كان منه، فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما كان بدولتنا؛ والله لو بعثت سنّورًا لقام مقامه. وبلغ ما بلغ في هذه الدولة. فقال له أبو العباس: فكيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليكي دخلت فتغفلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه، فقال أبو العباس: فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قال: يئول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنه قد قتل تفرّقوا وذلّوا، قال: عزمت عليك إلّا كففت عن هذا، قال: أخاف والله إن لم تتغدّه اليوم أن يتعشاك غدًا، قال: فدونكه، أنت أعلم. قال: فخرج أبو جعفر من عنده عازمًا على ذلك، فندم أبو العباس وأرسل إلى أبي جعفر: لا تفعل ذلك الأمر. وقيل: إن أبا العباس لما أذن لأبي جعفر في قتل أبي مسلم، دخل أبو مسلم على أبي العباس، فبعث أبو العباس خصيًّا له، فقال: اذهب فانظر ما يصنع أبو جعفر؛ فأتاه فوجده محتبيًا بسيفه، فقال للخصي: أجالسٌ أمير المؤمنين؟ فقال له: قد تهيّأ للجلوس، ثم رجع الخصي إلى أبي العباس فأخبره بما رأى منه، فردّه إلى أبي جعفر وقال له: قل له الأمر الذي عزمتَ عليه لا تنفذه فكفّ أبو جعفر. حج أبي جعفر المنصور وأبي مسلم وفي هذه السنة حجّ أبو جعفر المنصور وحجّ معه أبو مسلم. ذكر الخبر عن مسيرهما وعن وصفة مقدمهما على أبي العباس أما أبو مسلم فإنه - فيما ذكر عنه - لما أراد القدوم على أبي العباس، كتب يستأذنه في القدوم للحجّ، فأذن له، وكتب إليه أن اقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إنّي قد وترتُ الناس ولست آمن على نفسي. فكتب إليه أن أقبل في ألف؛ فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكة لا تحتمل العسكر؛ فشخص في ثمانية آلاف فرّقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم بالأموال والخزائن فخلّفها بالري، وجمع أيضًا أموال الجبل، وشخص منها في ألف وأقبل؛ فلما أرد الدخول تلقاه القوّاد وسائر الناس، ثم استأذن أبا العباس في الحجّ فأذن له، وقال: لولا أنّ أبا جعفر حاجّ لوليتك الموسم. وأما أبو جعفر فإنه كان أميرًا على الجزيرة، وكان الواقدي يقول: كان إليه مع الجزيرة أرمينية وأذربيجان، فاستخلف على عمله مقاتل بن حكيم العكّي، وقدم على أبي العباس فاستأذنه في الحج؛ فذكر علي بن محمد عن الوليد بن هشام عن أبيه أن أبا جعفر سار إلى مكة حاجًا، وحجّ معه أبو مسلم، سنة ست وثلاثين ومائة، فلما انقضى الموسم أقبل أبو جعفر وأبو مسلم، فلما كان بين البستان وذات عرق أتى أبا جعفر كتاب بموت أبي العباس؛ وكان أبو جعفر قد تقدّم أبا مسلم بمرحلة، فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر فالعجل العجل، فأتاه الرسول فأخبره، فأقبل حتى لحق أبا جعفر، وأقبلا إلى الكوفة. وفي هذه السنة عقد أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي لأخيه أبي جعفر الخلافة من بعده، وجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعد أبي جعفر عيسى ابن موسى بن محمد بن علي. وكتب العهد بذلك، وصيّره في ثوب، وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بن موسى. ذكر الخبر عن موت أبي العباس السفاح وفيها توفي أبو العباس أمير المؤمنين بالنبار يوم الأحد، لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة. وكانت وفاته فيميا قيل بالجدَري. وقال هشام بن محمد: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ذي الحجة. واختلف في مبلغ سنه يوم وفاته، فقال بعضهم: كان له يوم توفّي ثلاث وثلاثون سنة. وقال هشام بن محمد: كان يوم توفي ابن ست وثلاثين سنة، وقال بعضهم: كان له ثمان وعشرون سنة. وكانت ولايته من لدن قتل مروان بن محمد إلى أن توفيَ أربع سنين، ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثمانية أشهر. وقال بعضهم: وتسعة أشهر. وقال الواقدي: أربع سنين وثمانية أشهر منها ثمانية أشهر وأربعة أيام يقاتل مروان. وملك بعد مروان أربع سنين. وكان - فيما ذكر - ذا شعرة جعدة، وكان طويلًا أبيض أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية. وأمه ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله بن عبد المدان بن الديان الحارثي وكان وزيره أبو الجهم بن عطيّة. وصلى عليه عمه عيسى بن علي، ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره. وكان - فيما ذكر - خلّف تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمسة سراويلات، وأربعة طيالسة، وثلاثة مطارف خزّ. خلافة أبي جعفر المنصور وهو عبد الله بن محمد وفي هذه السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة؛ وذلك في اليوم الذي توفي فيه أخوه أبو العباس، وأبو جعفر يومئذ بمكة؛ وكان الذي أخذ البيعة بالعراق لأبي جعفر بعد موت أبي العباس عيسى بن موسى، وكتب إليه عيسى يعلمه بموت أخيه أبي العباس وبالبيعة له. وذكر علي بن محمد، عن الهيثم، عن عبد الله بن عيّاش، قال: لما حضرت أبا العباس الوفاة، أمر الناس بالبيعة لعبد الله بن محمد أبي جعفر، فبايع الناس له بالأنبار في اليوم الذي مات فيه أبو العباس. وقام بأمر الناس عيسى بن موسى، وأرسل عيسى بن موسى إلى أبي جعفر وهو بمكة محمد بن الحصين العبدي بموت أبي العباس، وبالبيعة له، فلقيه بمكان من الطريق يقال له زكيّة، فلما جاءه الكتاب دعا الناس فبايعوه، وبايعه أبو مسلم، فقال أبو جعفر: أين موضعنا هذا؟ قالوا: زكيّة، فقال: أمر يزكي لنا إن شاء الله تعالى. وقال بعضهم: ورد على أبي جعفر البيعة له بعد ما صدر من الحجّ، في منزل من منازل طريق مكة؛ يقال له صفيّة، فتفاءل باسمه، وقال: صفت لنا إن شاء الله تعالى. رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فقال علي: حدثني الوليد، عن أبيه، قال: لما أتى الخبر أبا جعفر كتب إلى أبي مسلم وهو نازل بالماء، قد تقدّمه أبو جعفر، فأقبل أبو مسلم حتى قدم عليه. وقيل إن أبا مسلم كان هو الذي تقدّم أبا جعفر، فعرف الخبر قبله، فكتب إلى أبي جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. عافاك الله وأمتع بك؛ إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغًا لم يبلغه شيء قطّ، لقيني محمد بن الحصين بكتاب من عيسى بن موسى إليك بوفاة أبي العباس أمير المؤمنين رحمه الله، فنسأل الله أن يعظم أجرك، ويحسن الخلافة عليك؛ ويبارك لك فيما أنت فيه؛ إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيمًا لحقك وأصفى نصيحة لك، وحرصًا على ما يسرّك مني. وأنفذ الكتاب إليه، ثم مكث أبو مسلم يومه ومن الغد، ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة؛ وإنما أراد ترهيب أبي جعفر بتأخيرها. رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فلما جلس أبو مسلم، ألقى إليه الكتاب، فقرأه وبكى واسترجع. قال: ونظر أبو مسلم إلى أبي جعفر، وقد جزع جزعًا شديدًا فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال: أتخوّف شرّ عبد الله بن علي وشيعة علي، فقال: لا تخفه؛ فأنا أكفيك أمره إن شاء الله؛ إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان؛ وهم لا يعصونيي. فسرّي عن أبي جعفر ما كان فيه. وبايع له أبو مسلم وبايع الناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة، وردّ أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان قبل ذلك واليًا عليها وعلى المدينة لأبي العباس. وقيل: إن أبا العباس كان قد عزل قبل موته زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة، وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس. وفي هذه السنة قدم عبد الله بن علي على أبي العباس الأنبار، فعقد له أبو العباس على الصائفة في أهل خراسان وأهل الشأم والجزيرة والموصل، فسار فبلغ دلوك، ولم يدرب حتى أتته وفاة أبي العباس. وفي هذه السنة بعث عيسى بن موسى وأبو الجهم يزيد بن زياد أبا غسان إلى عبد الله بن علي ببيعة المنصور، فانصرف عبد الله بن علي بمن معه من الجيوش، قد بايع لنفسه حتى قدم حرّان. وأقام الحجّ للناس في هذه السنة أبو جعفر المنصور؛ وقد ذكرنا ما كان إليه من العمل في هذه السنة؛ ومن استخلف عليه حين شخص حاجًا. وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرى وعملها سليمان بن علي، وعلى قضائها عبّاد بن المنصور، وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد، وعلى مصر صالح ابن علي. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث ذكر خبر خروج عبد الله بن علي وهزيمته فمما كان فيها من ذلك قدوم المنصور أبي جعفر من مكة ونزوله الحيرة، فوجد عيسى بن موسى قد شخص إلى الأنبار، واستخلف على الكوفة طلحة ابن إسحاق بن محمد بن الأشعث، فدخل أبو جعفر الكوفة فصلّى بأهلها الجمعة يوم الجمعة، وخطبهم وأعلمهم أنه راحل عنهم؛ ووافاه أبو مسلم بالحيرة، ثم شخص أبو جعفر إلى الأنبار وأقام بها، وجمع إليه أطرافه. وذكر علي بن محمد عن الوليد، عن أبيه، أنّ عيسى بن موسى كان قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدّواوين؛ حتى قدم عليه أبو جعفر الأنبار، فبايع الناس له بالخلافة، ثم لعيسى بن موسى من بعده؛ فسلم عيسى بن موسى إلى أبي جعفر الأمر؛ وقد كان عيسى بن موسى بعث أبا غسّان - واسمه يزيد بن زياد، وهو حاجب أبي العباس - إلى عبد الله بن علي ببيعة أبي جعفر؛ وذلك بأمر أبي العباس قبل أن يموت حين أمر الناس بالبيعة لأبي جعفر من بعده، فقدم أبو غسان على عبد الله بن علي بأفواه الدروب، متوجّهًا يريد الروم؛ فلما قدم عليه أبو غسان بوفاة أبي العباس وهو نازل بموضع يقال له دلوك، أمر مناديًا فنادى: الصلاة جامعة فاجتمع إليه القوّاد والجند، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة أبي العباس، ودعا الناس إلى نفسه؛ وأخبرهم أن أبا العباس حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه؛ فأرادهم على المسير إلى مروان بن محمد، وقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي، فلم ينتدب له غيري؛ فعلى هذا خرجت من عنده، وقتلت من قتلت. فقام أبو غانم الطائي وخفاف المروروذي في عدّة من قوّاد أهل خراسان، فشهدوا له بذلك؛ فبايعه أبو غانم وخفاف وأبو الأصبغ وجميع من كان معه من أولئك القوّاد، فيهم حميد بن قحطبة وخفاف الجرجاني وحيّاش بن حبيب ومخارق بن غفار وترارخدا وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة، وقد نزل تلّ محمد، فلما فرغ من البيعة ارتحل فنزل حرّان، وبها مقاتل العكي - وكان أبو جعفر استخلفه لما قدم على أبي العباس - فأراد مقاتلًا على البعية فلم يجبه، وتحصّن منه، فأقام عليه وحصره حتى استنزله من حصنه فقتله. وسرّح أبو جعفر لقتال عبد الله بن علي أبا مسلم؛ فلما بلغ عبد الله إقبال أبي مسلم أقام بحرّان، وقال أبو جعفر لأبي مسلم: إنما هو أنا أو أنت؛ فسار أبو مسلم نحو عبد الله بحرّان، وقد جمع إليه الجنود والسلاح، وخندق وجمع إليه الطعام والعلوفة وما يصلحه، ومضى أبو مسلم سائرًا من الأنبار؛ ولم يتخلّف عنه من القوّاد أحد، وبعث على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي؛ وكان معه الحسن وحميد ابنا قحطبة، وكان حميد قد فارق عبد الله بن علي، وكان عبد الله أراد قتله، وخرج معه أبو إسحاق وأخوه وأبو حميد وأخوه وجماعة من أهل خراسان؛ وكان أبو مسلم استخلف على خراسان حيث شخص خالد بن إبراهيم أبا داود. قال الهيثم: كان حصار عبد الله بن علي مقاتلًا العكي أربعين ليلة، فلما بلغه مسير أبي مسلم إليه، وأنه لم يظفر بمقاتل، وخشي أن يهجم عليه أبو مسلم أعطى العكي أمانًا، فخرج إليه فيمن كان معه، وأقام معه أيامًا يسيرة، ثم وجّهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي إلى الرقة ومعه ابناه، وكتب إليه كتابًا دفعه إلى العكي، فلما قدموا على عثمان قتل العكي وحبس ابنيه، فلما بلغه هزيمة عبد الله بن علي وأهل الشأم بنصيبين أخرجهما فضرب أعناقهما. وكان عبد الله بن علي خشي ألا يناصحه أهل خراسان، فقتل منهم نحوًا من سبعة عشر ألفًا؛ أمر صاحب شرطه فقتلهم؛ وكتب لحميد بن قحطبة كتابًا ووجّهه إلى حلب، وعليها زفر بن عاصم وفي الكتاب: إذا قدم عليك حميد بن قحطبة فاضرب عنقه، فسار حميد حتى إذا كان ببعض الطريق فكّر في كتابه، وقال: إنّ ذهابي بكتاب ولا أعلم ما فيه لغرر، ففكّ الطومار فقرأه، فلما رأى ما فيه دعا أناسًا من خاصته فأخبرهم الخبر، وأفشى إليهم أمره، وشاورهم، وقال: من أراد منكم أن ينجو ويهرب فليسر معي؛ فإني أريد أن آخذ طريق العراق، وأخبرهم ما كتب به عبد الله بن علي في أمره، وقال لهم: من لم يرد منكم أن يحمل نفسه على الير فلا يفشينّ سرّي، وليذهب حيث أحبّ. قال: فاتبعه على ذلك ناس من أصحابه، فأمر حميد بدوابّه فأنعلت، وأنعل أصحابه دوابّهم، وتأهبوا للمسير معه، ثم فوّز بهم وبهرج الطريق فأخذ على ناحية من الرصافة؛ رصافة هشام بالشأم، وبالرّصافة يومئذ مولى لعبد الله بن علي يقال له سعيد البربري، فبلغه أنّ حميد بن قحطبة قد خالف عبد الله بن علي، وأخذ في المافزة، فسار في طلبه فيمن معه من فرسانه؛ فلحقه ببعض الطريق، فلما بصر به حميد ثنى فرسه نحوه حتى لقيه، فقال له: ويحك! أما تعرفني! والله ما لك في قتالي من خير فارجع؛ فلا تقتل أصحابي وأصحابك، فهو خير لك. فلما سمع كلامه عرف ما قال له، فرجع إلى موضعه بالرصافة، ومضى حميد ومن كان معه، فقال له صاحب حرسه موسى بن ميمون: إن لي بالرصافة جارية، فإن رأيت أن تأذن لي فآتيها فأوصيها ببعض ما أريد، ثم ألحقك! فأذن له فأتاها، فأقام عندها، ثم خرج من الرصافة يريد حميدًا، فلقيه سعيد البربري مولى عبد الله بن علي، فأخذه فقتله؛ وأقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين، وخندق عليه. وأقبل أبو مسلم. وكتب أبو جعفر إلى الحسن بن قحطبة - وكان خليفته بأرمينية - أن يوافي أبا مسلم، فقدم الحسن بن قحطبة على أبي مسلم وهو بالموصل، وأقبل أبو مسلم، فنزل ناحية لم يعرض له، وأخذ طريق الشأم، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، ولم أوجّه له، ولكن أمير المؤمنين ولّاني الشأم؛ وإنما أريدها؛ فقال من كان مع عبد الله من أهل الشأم لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا، وفيها حرمنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا، ويسبي ذراريّنا! ولكنا نخرج إلى بلادنا فنمنعه حرمنا وذراريّنا ونقاتله إن قاتلنا، فقال لهم عبد الله بن علي: إنه والله ما يريد الشأم، وما وجّه إلا لقتالكم، ولئن أقمتم ليأتينّكم. قال: فلم تطب أنفسهم، وأبوا إلا المسير إلى الشأم. قال: وأقبل أبو مسلم فعسكر قريبًا منهم، وارتحل عبد الله بن علي من عسكره متوجّهًا نحو الشأم، وتحوّل أبو مسلم حتى نزل في معسكر عبد الله ابن علي في موضعه، وعوّر ما كان حوله من المياه، وألقى فيها الجيف. وبلغ عبد الله بن علي نزول أبي مسلم معسكره، فقال لأصحابه من أهل الشأم: ألم أقل لكم! وأقبل فوجد أبا مسلم قد سبقه إلى معسكره، فنزل في موضع عسكر أبي مسلم الذي كان فيه، فاقتتلوا أشهرًا خمسة أو ستة، وأهل الشأم أكثر فرسانًا وأكمل عدّة، وعلى ميمنة عبد الله بكار بن مسلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب بن سويد الأسدي، وعلى الخيل عبد الصمد بن علي، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى الميسرة أبو نصر خازم بن خزيمة، فقاتلوه أشهرًا. قال علي: قال هشام بن عمرو التغلبي: كنت في عسكر أبي مسلم، فتحدث الناس يومًا، فقيل: أيي الناس أشدّ؟ فقال: قولوا حتى أسمع، فقال رجل: أهل خراسان. وقال آخر: أهل الشأم، فقال أبو مسلم: كلّ قوم في دولتهم أشدّ الناس. قال: ثم التقينا، فحمل علينا أصحاب عبد الله بن علي فصدمونا صدمةً أزالونا بها عن مواضعنا، ثم انصرفوا. وشدّ علينا عبد الصمد في خيل مجرّدة، فقتل منا ثمانية عشر رجلًا، ثم رجع في أصحابه، ثم تجمعوا فرموا بأنفسهم: فأزالوا صفّنا وجلنا جولة، فقلت لأبي مسلم: لو حرّكت دابتي حتى أشرف على هذا التلّ فأصبح بالناس، فقد انهزموا! فقال: افعل، قال: قلت: وأنت أيضًا فتحرّك دابتك، فقال: إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال، ناد: يا أهل خراسان ارجعوا؛ فإن العاقبة لمن اتقى. قال: ففعلت، فتراجع الناس، وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال: من كان ينوي أهله فلا رجع ** فرّ من الموت وفي الموت وقع قال: وكان قد عمل لأبي مسلم عريش، فكان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللًا في الميمنة أو في الميسرة أرسل إلى صاحبها: إنّ في ناحيتك انتشارًا، فاتّق ألّا نؤتى من قبلك؛ فافعل كذا، قدّم خيلك كذا، أو تأخّر كذا إلى موضع كذا، فإنما رسله تختلف إليهم برأيه حتى ينصرف بعضهم عن بعض. قال: فلما كان يوم الثلاثاء - أو الأربعاء - لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ومائة - أو سبع وثلاثين ومائة - التقوا فاقتتقوا قتالًا شديدًا. فلما رأى ذلك أبو مسلم مكر بهم، فأرسل إلى الحسن بن قحطبة - وكان على ميمنته - أن أعر الميمنة، وضمّ أكثرها إلى الميسرة، وليكن في الميمنة حماة أصحابك وأشدّاؤهم. فلما رأى ذلك أهل الشأم أعروا ميسرتهم، وانضموا إلى ميمنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم. ثم أرسل أبو مسلم إلى الحسن أن مر أهل القلب فليحملوا مع من بقي في الميمنة على ميسرة أهل الشأم، فحملوا عليهم فحطموهم، وجال أهل القلب والميمنة. قال: وركبهم أهل خراسان، فكانت الهزيمة، فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي - وكان معه: يا بن سراقة، ما ترى؟ قال: أرى والله أن تصبر وتقاتل حتى تموت؛ فإنّ الفرار قبيح بمثلك، وقبل عبته على مروان، فقلت: قبح الله مروان! جزع من الموت ففرّ! قال: فإني آتي العراق، قال: فأنا معك، فانهزموا وتركوا عسكرهم، فاحتواه أبو مسلم، وكتب بذلك إلى أبي جعفر. فأرسل أبو جعفر أبا الخصيب مولاه يحصى ما أصابوا في عسكر عبد الله بن علي، فغضب من ذلك أبو مسلم. ومضى عبد الله بن علي وعبد لصمد بن علي؛ فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فآمنه أبو جعفر، وأما عبد الله بن علي فأتى سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده. وآمن أبو مسلم الناس فلم يقتل أحدًا، وأمر بالكفّ عنهم. ويقال: بل استأمن لعبد الصمد بن علي إسماعيل بن علي. وقد قيل: إن عبد الله بن علي لما انهزم مضى هو وعبد الصمد أخوه إلى رصافة هشام، فأقام عبد الصمد بها حتى قدمت عليه خيول المنصور، وعليها جهور بن مرّار العجلي، فأخذه فبعث به إلى المنصور مع أبي الخصيب مولاه موثقًا، فلما قدم عليه أمر بصرفه إلى عيسى بن موسى، فآمنه عيسى وأطلقه وأكرمه، وحباه وكساه. وأما عبد الله بن علي فلم يلبث بالرّصافة إلا ليلة، ثم أدلج في قواده ومواليه حتى قدم البصرة على سليمان بن علي وهو عاملها يومئذ، فآواهم سليمان وأكرمهم وأقاموا عنده زمانًا متوارين. ذكر خبر قتل أبي مسلم الخراساني وفي هذه السنة قتل أبو مسلم. ذكر الخبر عن مقتله وعن سبب ذلك حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا سلمة بن محارب ومسلم بن المغيرة وسعيد بن أوس وأبو حفص الأزدي والنعمان أبو السري ومحرز بن إبراهيم وغيرهم، أن أبا مسلم كتب إلى أبي العباس يستأذنه في الحجّ - وذلك في سنة ست وثلاثين ومائة - وإنما أراد أن يصلي بالناس. فأذن له، وكتب أبو العباس إلى أبي جعفر وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: إن أبا مسلم كتب إلي يستأذن في الحجّ وقد أذنت له؛ وقد ظننت أنه إذا قدم يريد أن يسألني أن أولّيه إقامة الحجّ للناس، فاكتب إلي تستأذنني في الحج؛ فإنك إذا كنت بمكة لم يطمع أن يتقدّمك. فكتب أبو جعفر إلى أبي العباس يستأذنه في اعلحجّ فأذن له، فوافى الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عامًا يحجّ فيه غير هذا! واضطغنها عليه. قال علي: قال مسلم بن المغيرة: استخلف أبو جعفر على أرمينية في تلك السنة الحسن بن قحطبة. وقال غيره: استعمل رضيعه يحيى بن مسلم بن عروة - وكان أسود مولىً لهم - فخرجا إلى مكة فكان أبو مسلم يصلح العقاب ويكسو الأعراب في كلّ منزل، ويصل من سأله، وكسا الأعراب البتوت والملاحف، وحفر الآبار، وسهل الطرق؛ فكان الصوت له؛ وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه؛ حتى قدم مكة فنظر إلى اليمانية فقال لنيزك - وضرب جنبه -: يا نيزك، أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان سريع الدمعة!. ثم رجع الحديث إلى حديث الأولين. قالوا: لما صدر الناس عن الموسم، نفر أبو مسلم قبل أبي جعفر، فكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يعزّيه بأمير المؤمنين؛ ولم يهنّئه بالخلافة، ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع؛ فغضب أبو جعفر فقال لأبي أيوب: اكتب إليه كتابًا غليظًا؛ فلما أتاه كتاب أبي جعفر كتب إليه يهنئه بالخلافة، فقال يزيد بن أسيد السلمي لأبي جعفر: إني أكره أن تجامعه في الطريق والناس جنده؛ وهم له أطوع، وله أهيب، وليس معك أحد. فأخذ برأيه، فكان يتأخّر ويتقدّم أبو مسلم، وأمر أبو جعفر أصحابه فقدموا، فاجتمعوا جميعًا وجمع سلاحهم؛ فما كان في عسكره إلّا ستة أذرع، فمضى أبو مسلم إلى الأنبار، ودعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له؛ فأتى عيسى، فقدم أبو جعفر فنزل الكوفة؛ وأتاه أن عبد الله بن علي، فقال له أبو مسلم: إن عبد الجبار بن عبد الرحمن وصالح بن الهيثم يعيبانني فاحبسهما، فقال أبو جعفر: عبد الجبار على شرطي - وكان قبل على شرط أبي العباس - وصالح بن الهيثم أخو أمير المؤمنين من الرضاعة، فلم أكن لأحبسهما لظنك بهما؛ قال: أراهما آثر عندك مني! فغضب أبو جعفر، فقال أبو مسلم: لم أرد كلّ هذا. قال علي: قال مسلم بن المغيرة: كنت مع الحسن بن قحطبة بأرمينية فلما وجّه أبو مسلم إلى الشأم كتب أبو جعفر إلى الحسن أن يوافيه ويسير معه فقدمنا على أبي مسلم وهو بالموصل فأقام أيامًا، فلما أراد أن يسير، قلت للحسن: أنتم تسيرون إلى القتال وليس بك إلي حاجة، فلو أذنت لي فأتيت العراق، فأقمت حتى تقدموا إن شاء الله! قال: نعم؛ لكن أعلمني إذا أردت الخروج، قلت: نعم، فلما فرغت وتهيأت أعلمته، وقلت: أتيتك أودّعك، قال: قف لي بالباب حتى أخرج إليك، فخرجت فوقفت وخرج، فقال: إنّي أريد أن ألقي إليك شيئًا لتبلغه أبا أيوب، ولولا ثقتي بك لم أخبرك، ولولا مكانك من أبي أيوب لم أخبرك؛ فأبلغ أبا أيوب أني قد ارتبت بأبي مسلم منذ قدمت عليه، إنّه يأتيه الكتاب من أمير المؤمنين فيقرؤه، ثم يلوي شدقه، ويرمي بالكتاب إلى أبي نصر، فيقرؤه ويضحكان استهزاء؛ قلت: نعم قد فهمت؛ فلقيت أبا أيوب وأنا أرى أن قد أتيته بشيء، فضحك، وقال: نحن لأبي مسلم أشدّ تهمةً منّا لعبد الله بن علي إلّا أنا نرجو واحدةً؛ نعلم أنّ أهل خراسان لا يحبون عبد الله بن علي، وقد قتل منهم من قتل؛ وكان عبد الله بن علي حين خلع خاف أهل خراسان، فقتل منهم سبعة عشر ألفًا؛ أمر صاحب شرطته حيّاش بن حبيب فقتلهم. قال علي: فذكر أبو حفص الأزدي أن أبا مسلم قاتل عبد الله بن علي فهزمه، وجمع ما كان في عسكره من الأموال فصيّره في حظيرة، وأصاب عينًا ومتاعًا وجوهرًا كثيرًا؛ فكان منثورًا في تلك الحظيرة؛ ووكّل بها وبحفظها قائدًا من قوّاده، فكنت في أصحابه، فجعلها نوائب بيننا، فكان إذا خرج رجل من الحظيرة فتّشه، فخرج أصحابي يومًا من الحظيرة وتخلفت، فقال لهم الأمير: ما فعل أبو حفص؟ فقالوا: هو في الحظيرة، قال: فجاء فاطلع من الباب، وفطنت له فنزعت خفّي وهو ينظر، فنفضتهما وهو ينظر، ونفضت سراويلي وكمّي، ثم لبست خفي وهو ينظر، ثم قام فقعد في مجلسه وخرجت، فقال لي: ما حبسك؟ قلت: خير، فخلّاني، فقال: قد رأيت ما صنعت فلم صنعت هذا؟ قلت: إنّ في الحظيرة لؤلؤًا منثورًا ودراهم منثورة؛ ونحن نتقلب عليها، فخفت أن يكون قد دخل في خفي منها شيء، فزعت خخفي وجوربي؛ فأعجبه ذلك وقال: انطلق، فكنت أدخل الحظيرة مع من يحفظ فآخذ من الدراهم ومن تلك الثياب الناعمة فأجعل بعضها في خفي وأشدّ بعضها على بطني، ويخرج أصحابي فيفتشّون ولا أفتش، حتى جمعت مالًا، قال: وأما اللؤلؤ فإنّي لم أكن أمسّه. ثم رجع الحديث إلى حديث الذين ذكر علي عنهم قصة أبي مسلم في أول الخبر. قالوا: ولما انهزم عبد الله بن علي بعث أبو جعفر أبا الخصيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال، فافترى أبو مسلم على أبي الخصيب وهمّ بقتله، فكلّم فيه؛ وقيل: إنما هو رسول، فخلّ سبيله. فرجع إلى أبي جعفر، وجاء القوّاد إلى أبي مسلم، فقالوا: نحن ولينا أمر هذا الرجل، وغنمنا عسكره، فلم يسأل عما في أيدينا؛ إنما لأمير المؤمنين من هذا الخمس. فلما قدم أبو الخصيب على أبي جعفر أخبره أنّ أبا مسلم همّ بقتله. فخاف أن يمضى أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه كتابًا مع يقطين؛ أن قد وليتك مصر والشأم؛ فهي خير لك من خراسان، فوجّه إلى مصر من أحببت، وأقم بالشأم فتكون بقرب أمير المؤمنين؛ فإن أحبّ لقاءك أتيته من قريب. فلما أتاه الكتاب غضب، وقال: هو يوليني الشأم ومصر، وخراسان لي! واعتزم بالمضي إلى خراسان، فكتب يقطين إلى أبي جعفر بذلك. وقال غير من ذكرت خبره: لما ظفر أبو مسلم بعسكر عبد الله بن علي بعث المنصور يقطين بن موسى، وأمره أن يحصيَ ما في العسكر، وكان أبو مسلم يسميه يك دين، فقال أبو مسلم: يا يقطين، أمين على الدماء خائن في الأموال! وشتم أبا جعفر، فأبلغه يقطين ذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعًا على الخلاف؛ وخرج من وجهه معارضًا يريد خراسان؛ وخرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن؛ وكتب إلى أبي مسلم في المصير إليه. فكتب أبو مسلم، وقد نزل الزاب وهو على الرواح إلى طريق حلوان: إنه لم يبق لأمير المؤمنين أكرمه الله عدوّ إلا أمكنه الله منه؛ وقد كنّا نروي عن ملوك آل ساسان: أنّ أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء؛ فنحن نافرون من قربك، حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة؛ غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذاك فأنا كأحسن عبيدك؛ فإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت من عهدك، ضنًا بنفسي. فلما وصل الكتاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمت كتابك؛ وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم، الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم؛ فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة؛ فلم سوّيت نفسك بهم، وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به! وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سمع ولا طاعة. وحمّل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت إليها، وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك؛ فإنه لم يجد بابًا يفسد به نيتك أوكد عنده، وأقرب من طبّه من الباب الذي فتحه عليك. ووجه إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي؛ وكان واحد أهل زمانه، فخدعه وردّه، وكان أبو مسلم يقول: والله لأقتلنّ بالروم؛ وكان المنجمون يقولون ذلك؛ فأقبل والمنصور في الرومية في مضارب، وتلقاه الناس وأنزله وأكرمه أيامًا. وأما علي فإنه ذكر عن شيوخه الذين تقدّم ذكرنا لهم أنهم قالوا: كتب أبو مسلم إلى أبي جعفر: أما بعد؛ فإني اتخذت رجلًا إمامًا ودليلًا على ما افترضه الله على خلقه؛ وكان في محلّة العلم نازلًا، وفي يقرابته من رسول الله ﷺ قريبًا؛ فاستجهلني بالقرآن فحرّفه عن مواضعه، طمعًا في قليل قد تعافاه الله إلى خلقه؛ فكان كالذي دلّيَ بغرور؛ وأمرني أن أجرّد السيف، وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة، ولا أقيل العثرة، ففعلت توطيدًا لسلطانكم حتى عرّفكم الله من كان جهلكم، ثم استنقذني الله بالتوبة؛ فإن يعف عني فقدمًا عرف به ونسب إليه؛ وإن يعاقبني فبما قدمّت يداي وما الله بظلام للعبيد. وخرج أبو مسلم يريد خراسان مراغما مشاقًّا، فلما دخل أرض العراق. ارتحل المنصور من الأنبار، فأقبل حتى نزل المدائن، وأخذ أبو مسلم طرييق حلوان؛ فقال: رب أمر لله دون حلوان. وقال أبو جعفر لعيسى بن علي وعيسى بن موسى ومن حضره من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم؛ فكتبوا إليه يعظمون أمره، ويشكرون له ما كان منه، ويسألونه أن يتمّ على ما كان منه وعليه من الطاعة، ويحذّرونه عاقبة الغدر، ويأمرونه بالرجوع إلى أمير المؤمنين؛ وأن يلتمس رضاه. وبعث بالكتاب أبو جعفر مع أبي حميد المروروذي. وقال له: كلم أبا مسلم بألين ما تكلّم به أحدًا، ومنّه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه أحد، إن هو صلح وراجع ما أحبّ؛ فإن أبى أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لست للعباس وأنا برىء من محمد، إن مضيت مشاقًا ولم تأتني، إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي؛ ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك. ولا تقولنّ له هذا الكلام حتى تأيس من رجوعه. ولا تطمع منه في خير. فسار أبو حميد في ناس من أصحابه ممن يثق بهم؛ حتى قدموا على أبي مسلم بحلوان. فدخل أبو حميد وأبو مالك وغيرهما، فدفع إليه الكتاب، وقال له: إنّ الناس يبلّغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله، وخلاف ما عليه رأيه فيك؛ حسدًا وبغيًا؛ يريدون إزالة النعمة وتغييرها؛ فلا تفسد ما كان منك؛ وكلّمه. وقال: يا أبا مسلم، إنك لم تزل أمين آل محمد؛ يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من دنياك، فلا تحبط أجرك، ولا يستهوينّك الشيطان، فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلّمني بهذا الكلام! قال: إنك دعوتنا إلى هذا وإلى طاعة أهل بيت النبي ﷺ بني العباس، وأمرتنا بقتال من خالف ذلك؛ فدعوتنا من أرضين متفرّقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم، وألف بين قلوبنا بمحبّتهم، وأعزّنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلًا إلا بما قذف الله في قلوبنا، حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة؛ أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتتهى أملنا أن تفسد أمرنا، وتفرّق كلمتنا؛ وقد قلت لنا: من خالفكم فاقتلوه. وإن خالفتكم فاقتلوني! فأقبل على أبي نصر، فقال: يا مالك، أما تسمع ما يقول لي هذا! ما هذا بكلامه يا مالك! قال: لا تسمع كلامه، ولا يهولنك هذا منه؛ فلعمري لقد صدقت ما هذا كلامه؛ ولما بعد هذا أشدّ منه؛ فامض لأمرك ولا ترجع؛ فوالله لئن أتيته ليقتلنك؛ ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبدًا. فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك، وقال: يا نيزك، إني والله ما رأيت طويلًا أعقل منك، فما ترى، فقد جاءت هذه الكتب، وقد قال القوم ما قالوا؟ قال: لا أرى أن تأتيه، وأرى أن تأتي الري فنقيم بها، فيصير ما بين خراسان والرّي لك؛ وهم جندك ما يخالفك أحد؛ فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جندك، وكانت خراسان من ورائك، ورأيت رأيك. فدعا أبا حميد، فقال: ارجع إلى صاحبك، فليس من رأيي أن آتيه. قال: قد عزمت على خلافه؟ قال: نعم، قال: لا تفعل، قال: ما أريد أن ألقاه؛ فلما آيسه من الرجوع، قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلًا، ثم قال: قم. فكسره ذلك القول ورعبّه. وكان أبو جعفر قد كتب إلى أبي داود - وهو خليفة أبي مسلم بخراسان - حين اتّهم أبا مسلم إنّ لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيّه ﷺ، فلا تخالفنّ إمامك ولا ترجعنّ إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال؛ فزاده رعبًا وهمًا، فأرسل إلى أبي حميد وأبي مالك فقال لهما: إني قد كنت معتزمًا على المضي إلى خراسان، ثم رأيت أن أوجّه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه؛ فإنه ممن أثق به فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكلّ ما يحبّ، وقال له أبو جعفر: اصرفه عن وجهه؛ ولك ولاية خراسان؛ وأجازه. فرجع أبو إسحاق إلى أبي مسلم، فقال له: ما أنكرت شيئًا، رأيتهم معظمين لحقك، يرون لك ما يرون لأنفسهم. وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين، فيعتذر إليه مما كان منه، فأجمع على ذلك، فقال له نيزك: قد أجمعت على الرجوع؟ قال: نعم، وتمثّل: ما للرجال مع القضاء محالة ** ذهب القضاء بحيلة الأقوام فقال: أمّا إذ اعتزمت على هذا فخار الله لك؛ واحفظ عني واحدة؛ إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع لمن شئت؛ فإنّ الناس لا يخالفونك. وكتب أبو مسلم إلى أبي جعفر يخبره أنه منصرف إليه. قالوا: قال أبو أيوب: فدخلت يومًا على أبي جعفر وهو في خباء شعر الروميّة جالسًا على مصلّىً بعد العصر، وبين يديه كتاب أبي مسلم، فرمى به إلي فقرأته، ثم قال: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنّه، فقلت في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون! طلبت الكتابة حتى إذا بلغت غايتها فصرت كاتبًا للخليفة، وقع هذا بين الناس! والله ما أرى أنا إن قتل يرض أصحابه بقتله ولا يدعون هذا حيًا؛ ولا أحدًا ممن هو بسبيل منه؛ وامتنع مني النوم، ثم قلت: لعلّ الرجل يقدم وهو آمن؛ فإن كان آمنًا فعسى أن ينال ما يريد وإن قدم وهو حذر لم يقدر عليه إلا في شر، فلو التمست حيلة! فأرسلت إلى سلمة بن سعيد بن جابر، فقلت له: هل عندك شكر؟ فقال: نعم، فقلت: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق، تدخل معك حاتم بن أبي سلمان أخي؟ قال: نعم، فقلت - وأردت أن يطلع ولا ينكر: وتجعل له النصف؟ قال: نعم، قلت: إنّ كسكر كالت عام أوّل كذا وكذا، ومنها العام أضعاف ما كان عام أوّل؛ فإن دفعتها إليك بقبالتها عامًا أوّل أو بالأمانة أصبت ما تضيق به ذرعًا، قال: فكيف لي بهذا المال؟ قلت: تأتي أبا مسلم، فتلقاه وتكلمه غدًا، وتسأله أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه أن تتولّاها أنت بما كانت في العام الأوّل؛ فإنّ أمير المؤمنين يريد أن يولّيه إذا قدم ما وراء بابه، ويستريح ويريح نفسه، قال: فكيف لي أن يأذن أمير المؤمنين في لقائه؟ قلت: أنا أستأذن لك؛ ودخلت إلى أبي جعفر؛ فحدثته الحديث كله، قال: فادع سلمة، فدعوته، فقال: إن أبا أيوب استأذن لك، أفتحب أن تلقى أبا مسلم؟ قال: نعم، قال: فقد أذنت لك، فأقرئه السلام، وأعلمه بشوقنا إليه. فخرج سلمة فلقيه، فقال: أمير المؤمنين أحسن الناس فيك رأيًا، فطابت نفسه؛ وكان قبل ذلك كئيبًا. فلما قدم عليه سلمة سرّه ما أخبره به وصدّقه، ولم يزل مسرورًا حتى قدم. قال أبو أيوب: فلما دنا أبو مسلم من المدائن أمر أمير المؤمنين الناس فتلقوه؛ فلما كان عشية قدم، دخلت على أمير المؤمنين وهو في خباء على مصلّىً، فقلت: هذا الرجل يدخل العشيّة، فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أقتله حين أنظر إليه، قلت: أنشدك الله؛ إنه يدخل معه الناس؛ وقد علموا ما صنع؛ فإن دخل عليك ولم يخرج لم آمن البلاء؛ ولكن إذا دخل عليك فأذن له أن ينصرف؛ فإذا غدا عليك رأيت رأيك. وما أردت بذلك إلا دفعه بها، وما ذاك إلّا من خوفي عليه وعلينا جميعًا من أصحاب أبي مسلم. فدخل عليه من عشيته وسلم، وقام قائمًا بين يديه، فقال: انصرف يا عبد الرحمن فأرح نفسك، وادخل الحمام؛ فإن للسفر قشفًا، ثم اغد علي، فانصرف أبو مسلم وانصرف الناس. قال: فافترى علي أمير المؤمنين حين خرج أبو مسلم؛ وقال: متى أقدر على مثل هذه الحال منه التي رأيته قائمًا على رجليه، ولا أدري ما يحدث في ليلتي! فانصرفت وأصبحت غاديًا عليه؛ فلما رآني قال: يا بن اللخناء؛ لا مرحبًا بك! أنت منعتني منه أمس؛ والله ما غمضت الليلة، ثم شتمني حتى خفت أن يأمر بقتلي، ثم قال: ادع لي عثمان بن نهيك، فدعوته، فقال: يا عثمان، كيف بلاء أمير المؤمنين عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين إنما أنا عبدك؛ والله لو امرتني أن اتّكىء على سيفي حتى يخرج من ظهري لفعلت، قال: كيف أنت إن أمرتك بقتل أبي مسلم؟ فوجم ساعة لا يتكلم، فقلت: مالك لا تتكلم! فقال قولة ضعيفة: أقتله؛ قال: انطلق فجىء بأربعة من وجوه الحرس جلد، فمضى؛ فلما كان عند الرواق، ناداه: يا عثمان يا عثمان؛ ارجع؛ فرجع، قال: اجلس؛ وأرسل إلى من تثق به من الحرس؛ فأحضر منهم أربعة، فقال لوصييف له انطلق: فادع شبيب بن واج، وادع أبا حنيفة ورجلين آخرين؛ فدخلوا، فقال لهم أمير المؤمنين نحوًا مما قال لعثمان، فقالوا: نقتله، فقال: كونوا خلف الرواق؛ فإذاع صفّقت فاخرجوا فاقتلوه. وأرسل إلى أبي مسلم رسلًا بعضهم على إثر بعض، فقالوا: قد ركب، وأتاه وصيف، فقال: أتى عيسى بن موسى، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أخرج فأطوف في العسكر، فأنظر ما يقول الناس؟ هل ظن أحد ظنًا، أو تكلم أحد بشيء؟ قال: بلى، فخرجت، وتلقاني أبو مسلم داخلًا، فتبسّم وسلمت عليه ودخل، فرجعت؛ فإذا هو منبطح لم ينتظر به رجوعي. وجاء أبو الجهم، فلما رآه مقتولًا قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! فأقبلت على أبي الجهم، فقلت له: أمرته بقتله حين خالف، حتى إذا قتل قلت هذه المقالة! فنبّهت به رجلًا غافلًا، فتكلم بكلام أصلح ما جاء منه، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ ألا أردّ الناس؟ قال: بلى، قال: فمر بمتاع يحوّل إلى رواق آخر من أرواقك هذه، فأمر بفرش فأخرجت؛ كأنه يريد أن يهيّىء له رواقًا آخر. وخرج أبو الجهم، فقال: انصرفوا، فإن الأمير يريد أن يقيل عند أمير المؤمنين، ورأوا المتاع ينقل، فظنوه صادقًا، فانصرفوا ثم راحوا، فأمر لهم أبو جعفر بجوائزهم، وأعطى أبا إسحاق مائة ألف. قال أبو أيوب: قال لي أمير المؤمنين: دخل علي أبو مسلم فعاتبته ثم شتمته، فضربه عثمان فلم يصنع شيئًا، وخرج شبيب بن واج وأصحابه فضربوه فسقط، فقال وهم يضربونه: العفو، فقلت: يا بن اللخناء، العفو والسيوف قد اعتورتك! وقلت: اذبحوه، فذبحوه. قال علي عن أبي حفص الأزدي، قال: كنت مع أبي مسلم، فقدم عليه أبو إسحاق من عند أبي جعفر بكتب من بني هاشم، وقال: رأيت القوم على غير ما ترى؛ كلّ القوم يرون لك ما يرون للخليفة، ويعرفون ما أبلاهم الله بك. فسار إلى المدائن، وخلف أبا نصر في ثقله، وقال: أقم حتى يأتيك كتابي، قال: فاجعل بيني وبينك آية أعرف بها كتابك، قال: إن أتاك كتابي مختومًا بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كلّه؛ فلم أكتبه ولم أختمه. فلما دنا من المدائن تلقاه رجل من قوّااده، فسلّم عليه، فقال له أطعني وارجع؛ فإنه إن عاينك قتلك، قال: قد قربت من القوم فأكره أن أرجع. فقدم المدائن في ثلاثة آلاف، وخلّف الناس بحلوان، فدخل على أبي جعفر، فأمره بالانصراف في يومه؛ وأصبح يريده، فتلقاه أبو الخصيب فقال: أمير المؤمنين مشغول، فاصبر ساعة حتى تدخل خاليًا، فأتى منزل عيسى بن موسى - وكان يحبّ عيسى - فدعا له بالغداء. وقال أمير المؤمنين للربيع - وهو يومئذ وصيف يخدم أبا الخصيب: انطلق إلى أبي مسلم؛ ولا يعلم أحد، فقل له: قال لك مرزوق: إن أردت أمير المؤمنين خاليًا فالعجل، فقام فركب؛ وقال له عيسى: لا تعجل بالدّخول حتى أدخل معك، فأبطأ عيسى بالوضوء، ومضى أبو مسلم فدخل فقتل قبل أن يجىء عيسى، وجاء عيسى وهو مدرج في عباءة، فقال: أين أبو مسلم؟ قال: مدرج في الكساء؛ قال: إنا لله! قال: اسكت، فما تمّ سلطانك وأمرك إلّا اليوم، ثم رمى به في دجلة. قال علي: قال أبو حفص: دعا أمير المؤمنين عثمان بن نهيك وأربعة من الحرس، فقال لهم: إذا ضربت بيدي إحداهما على الآخرى؛ فاضربوا عدوّ الله، فدخل عليه أبو مسلم، فقال له: أخبرني عن نصلين أصبتهما في متاع عبد الله بن علي، قال: هذا أحدهما الذي علي، قال: أرنيه فانتضاه، فناوله، فهزّه أبو جعفر، ثم وضعه تحت فراشه، وأقبل عليه يعاتبه، فقال: أخبرني عن كتابك إلى أبي العباس تنهاه عن الموات، أردت أن تعلّمنا الدين! قال: ظننت أخذه لا يحلّ، فكتب إلي، فلما أتاني كتابه علمت أن أمير المؤمنين وأهل بيته معدن العلم، قال: فأخبرني عن تقدّمك إياي في الطريق؟ قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضرّ ذلك بالناس؛ فتقدّمتك التماس الرفق، قال: فقولك حين أتاك الخبر بموت أبي العباس لمن أشار عليك أن تنصرف إلي: نقدم فنرى من رأينا؛ ومضيت فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي! قال: منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت: نقدم الكوفة فليس عليه مني خلاف، قال: فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها؟ قال: لا؛ ولكني خفت أن تضيع، فحملتها في قبّة، ووكلتُ بها من يحفظها، قال: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء، فقلت: آتي خراسان، فأكتب إليك بعذري؛ وإلى ذلك ما قد ذهب ما في نفسك علي، قال: تالله ما رأيت كاليوم قطّ، والله ما زدتني إلا غضبًا؛ وضرب بيده، فخرجوا عليه؛ فضربه عثمان وأصحابه حتى قتلوه. قال علي: قال يزيد بن أسيد: قال أمير المؤمنين: عاتبت عبد الرحمن، فقلت: المال الذي جمعته بحرّان؟ قال: أنفقته وأعطيته الجند تقويةً لهم واستصلاحًا، قلت: فرجوعك إلى خراسان مراغمًا؟ قال: دع هذا فما أصبحت أخاف أحدًا إلا الله؛ فغضبت فشتمته، فخرجوا فقتلوه. وقال غير من ذكرت في أمر أبي مسلم: إنه لما أرسل إليه يوم قتل، أتى عيسى بن موسى، فسأله أن يركب معه، فقال له: تقدّم وأنت في ذمتي؛ فدخل مضرب أبي جعفر؛ وقد أمر عثمان بن نهيك صاحب الحرس، فأعدّ له شبيب بن واج المروروذي رجلًا من الحرس وأبا حنيفة حرب بن قيس، وقال لهم: إذا صفقت بيدي فشأنكم؛ وأذن لأبي مسلم، فقال لمحمد البواب النجّاري: ما الخبر؟ قال: خير؛ يعطينني الأمير سيفه، فقال: ما كان يصنع بي هذا! قال: وما عليك! فشكا ذلك إلى أبي جعفر، قال: ومن فعل بك هذا قبحه الله! ثم أقبل يعاتبه: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك، والكاتب إلي تخطب أمينة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس! ما دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا؛ وهو أحد نقبائنا قبل أن ندخلك في شيء من هذا الأمر؟ قال: أراد الخلاف وعصاني فقتلته، فقال المنصور: وحاله عندنا حاله فقتلته، وتعصيني وأنت مخالف علي! قتلني إلله إن لم أقتلك! فضربه بعمود، وخرج شبيب وحرب فقتلاه، وذلك لخمس ليال بقين من شعبان من سنة سبع وثلاثين ومائة. فقال المنصور: زعمت أنّ الدين لا يقتضى ** فاستوف بالكيل أبا مجرم سقيت كأسًا كنت تسقي بها ** أمرّ في الحلق من العلقم قال: وكان أبو مسلم قد قتل في دولته وحروبه ستمائة ألف صبرًا. وقيل: إن أبا جعفر لما عاتب أبا مسلم، قال له: فعلت وفعلت، قال له أبو مسلم: ليس يقال هذا لي بعد بلائي، وما كان منّي؛ فقال: يا بن الخبيثة؛ والله لو كانت أمةٌ مكانك لأجزت ناحيتها؛ إنما عملت ما عملت في دولتنا وبريحنا؛ ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلًا، ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك، والكاتب إلي تخطب أمينة بنت علي، وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس! لقد ارتقيت لا أمّ لك مرتقىً صعبًا! فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبّلها ويعتذر إليه. وقيل: إن عثمان بن نهيك ضرب أبا مسلم أوّل ما ضرب ضربة خفيفة بالسيف؛ فلم يزد على أن قطع حمائل سيفه؛ فاعتقل بها أبو مسلم. وضرب شبيب بن واج رجله، واعتوره بقية أصحابه حتى قتلوه، والمنصور يصيح بهم: اضربوا قطع الله أيديكم! وقد كان أبو مسلم قال - فيما قيل - عند أول ضربة أصابته: يا أمير المؤمنين، استبقني لعدوّك قال: لا أبقاني الله إذًا! وأي عدوٍّ لي أعدى منك! وقيل: إن عيسى بن موسى دخل بعد ما قتل أبو مسلم، فقال: يا أمير المؤمنين، أين أبو مسلم؟ فقال: قد كان ها هنا آنفًا، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين، قد عرفت طاعته ونصيحته ورأى الإمام إبراهيم كان فيه؛ فقال: يا أنوك؛ والله ما أعلم في الأرض عدوًا أعى لك منه؛ ها هو ذاك في البساط، فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون! وكان لعيسى رأى في أبي مسلم، فقال له المنصور: خلع الله قلبك؛ وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهيي مع أبي مسلم! قال: ثم دعا أبو جعفر جعفر بن حنظلة، فدخل عليه، فقال: ما تقول في أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أخذت شعرة من رأسه فاقتل ثم اقتل ثم اقتل؛ فقال المنصور: وفّقك الله! ثم أمره بالقيام والنظر إلى أبي مسلم مقتولًا، فقال: يا أمير المؤمنين، عد من هذا اليوم لخلافتك. ثم استؤذن لإسماعيل بن علي، فدخل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي رأيت في ليلتي هذه كأنك ذبحت كبشًا وأني توّطأته برجلي، فقال: نامت عينك يا أبا الحسن؛ قم فصدّق رؤياك؛ قد قتل الله الفاسق، فقام إسماعيل إلى الموضع الذي فيه أبو مسلم، فتوطّأه. ثم إنّ المنصور همّ بقتل أبي إسحاق صاحب حرس أبي مسلم وقتل أبي نصر مالك - وكان على شرط أبي مسلم - فكلّمه أبو الجهم، فقال: يا أمير المؤمنين، جنده جندك، أمرتهم بطاعته فأطاعوه. ودعا المنصور بأبي إسحاق، فلما دخل عليه ولم ير أبا مسلم، قال له أبو جعفر: أنت المتابع لعدوّ الله أبي مسلم على ما كان أجمع؛ فكفّ وجعل يلتفت يمينًا وشمالًا تخوّفًا من أبي مسلم، فقال له المنصور: تكلم بما أردت، فقد قتل الله الفاسق؛ وأمر بإخراجه إليه مقطعًا؛ فلما رآه أبو إسحاق خرّ ساجدًا، فأطال السجود، فقال له المنصور: ارفع رأسك وتكلم؛ فرفع رأسه وهو يقول: الحمد لله الذي آمنني بك اليوم، والله ما أمنته يومًا واحدًا منذ صحبته، وما ئجته يومًا قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت؛ ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها ثياب كتان جدد. وقد تحنّط. فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه. ثم قال: استقبل طاعة خليفتك. واحمد الله اليذ أراحك من الفاسق، ثم قال له أبو جعفر: فرّق عني هذه الجماعة. ثم دعا بمالك من الهيثم فحدثه بمثل ذلك، فاعتذر إليه بأنه أمره بطاعته؛ وإنما خدمه وخفّ له الناس بمرضاته. وأنه قد كان في طاعتهم قبل أن يعرف أبا مسلم، فقبل منه وأمره بمثل ما أمر به أبا إسحاق من تفريق جند أبي مسلم. وبعث أبو جعفر إلى عدّة من قوّاد أبي مسلم بجوائز سنيّة. وأعطى جميع جنده حتى رضوا، روجع أصحابه وهم يقولون: بعنا مولانا بالدراههم. ثم دعا أبو جعفر بعد ذلك أبا إسحاق، فقال: أقسم بالله لئن قطعوا طنبًا من أطنابي لأضربنّ عنقك ثم لأجاهدنّهم. فخرج إليهم أبو إسحاق فقال: يا كلاب انصفرفوا. قال علي: قال أبو حفص الأزدي: لما قتل أبو مسلم كتب أبو جعفر إلى أبي نصر كتابًا عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلّف عنده، وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر نقش الخاتم تامًا، علم أن أبا مسلم لم يكتب الكتاب، فقال: أفعلتموها! وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان، فكتب أبو جعفر لأبي نصر عهده على شهرزور، ووجّه رسولًا إليه بالعهد؛ فأتاه حين مضى الرسول بالعهد أنه قد توجّه إلى خراسان، فكتب إلى زهير بن التركي - وهو على همذان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه، فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فأخذه فحبسه في القصر، وكان زهير مولىً لخزاعة، فأشرف أبو نصر على إبراهيم بن عريف - وهو ابن أخي أبي نصر لأمه - فقال: يا إبراهيم، تقتل عمّك! قال: لا والله أبدًا، فأشرف زهير فقال لإبراهيم: إني مأمور والله، إنه لمن أعزّ الخلق علي؛ ولكني لا أستطيع ردّ أمر أمير المؤمنين. ووالله لئن رمى أحدكم بسهم لأرمينّ إليكم برأسه. ثم كتب أبو جعفر كتابًا آخر إلى زهير: إن كنت أخذت أبا نصر فاقتله. وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده فخلّى زهير سبيله لهواه فيه؛ فخرج، ثم جاء بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتله، فقال: جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله. وقدم أبو نصر على أبي جعفر، فقال: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ كانت له عندي أيادٍ وصنائع فاستشارني فنصحت له، وأنت يا أمير المؤمنين إن اصطنعتني نصحت لك وشكرت. فعفا عنه؛ فلما كان يوم الراونديّة قام أبو نصر على باب القصر، وقال: أنا اليوم البوّاب، لا يدخل أحد القصر وأنا حي. فقال أبو جعفر: أين مالك بن الهيثم؟ فأخبروه عنه، فرأى أنه قد نصح له. وقيل: إن أبا نصر مالك بن الهيثم لما مضى إلى همذان كتب أبو جعفر إلى زهير بن التركي: إنّ لله دمك إن فاتك مالك؛ فأتى زهير مالكًا، فقال له: إني قد صنعت لك طعامًا، فلو أكرمتني بدخول منزلي! فقال: نعم، وهيّأ زهير أربعين رجلًا تخيّرهم، فجعلهم في بيتين يفضيان إلى المجلس الذي هيأه، فلما دخل مالك قال: يا أدهم، عجّل طعامك؛ فخرج أولئك الأربعون إلى مالك، فشدّوه وثاقًا، ووضع في رجليه القيود. وبعث به إلى المنصور فمنّ عليه وصفح عنه واستعمله على الموصل. وفي هذه السنة ولّى أبو جعفر المنصور أبا داود خالد بن إبراهيم خراسان وكتب إليه بعهده. ذكر خروج سنباذ للطلب بدم أبي مسلم ثم قتله وفيها خرج سنباذ بخراسان يطلب بدم أبي مسلم. ذكر الخبر عن سنباذ ذكر أن سنباذ هذا كان مجوسيًا من أهل قرية من قرى نيسابور يقال لها أهن، وأنه كثر أتباعه لما ظهر، وكان خروجه غضبًا لقتل أبي مسلم - فيما قيل - وطلبًا بثأره، وذلك أنه كان من صنائعه، وغلب حين خرج على نيسابور وقومس والرّي، وتسمّى فيروز أصبههبذ. فلما صار بالرّي قبض خزائن أبي مسلم؛ وكان أبو مسلم خلف بها خزائنه حين شخص متوجهًا إلى أبي العباس؛ وكان عامّة أصحاب سنباذ أهل الجبال. فوجّه إليهم أبو جعفر جهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف، فالتقوا بين همذان والرّي على طرف المفازة؛ فاقتتلوا، فهزم سنباذ، وقتل من أصحابه في الهزيمة نحو من ستين ألفًا، وسبى ذراريّهم ونساءهم. ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس؛ قتله لونان الطبري، فصير المنصور أصبهبذة طبرستان إلى ونداهرمز بن الفرخان، وتوجّه. وكان بين مخرج سنباذ إلى قتله سبعون ليلة. خروج ملبد بن حرملة الشيباني وفي هذه السنة خرج ملبّد بن حرملة الشيباني، فحّكم بناحية الجزيرة، فسارت إليه روابط اجزيرة؛ وهم يومئذ فيما قيل ألف، فقاتلهم ملبّد فهزمهم، وقتل من قتل منهم. ثم سارت إليه روابط الموصل فهزمهم، ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي، فهزمه ملبد بعد قتال شديد كان بينهما؛ وأخذ ملبّد جارية ليزيد كان يطؤها، وقتل قائد من قواده، ثم وجّه إليه أبو جعفر مولاه المهلهل بن صفوان في ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبّد، واستباح عسكرهم ثم وجّه إليه نزارًا قائدًا من قوّاد أهل خراسان. فقتله ملبّد، وهزم أصحابه، ثم وجه إليه زياد بن مشكان في جمع كثير، فلقيهم ملبّد فهزمهم. ثم وجّه إليه صالح بن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدّة، فهزمهم. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو يومئذ على الجزيرة، فلقيه الملبّد فهزمه، وتحصّن منه حميد، وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكفّ عنه. وأما الواقدي فإنه زعم أن ظهور ملبّد وتحكيمه كان في سنة ثمان وثلاثين ومائة، ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة لتشغل السلطان بحرب سنباذ. وحجّ بالناس في هذه السنة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس، كذلك قال الواقدي وغيره؛ وهو على الموصل. وكان على المدينة زياد بن عبيد الله، والعباس بن عبد الله بن معبد على مكة. ومات العباس عند انقضاء الموسم؛ فضمّ إيماعيل عمله إلى زياد بن عبيد الله؛ فأقرّه عليها أبو جعفر. وكان على الكوفة في هذه السنة عيسى بن موسى. وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي، وعلى قضائها عمر بن عامر السلمّي. وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم. وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة. وعلى مصر صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث فما كان فيها من ذلك دخول قسطنطين طاغية الروم ملطية عنوة وقهرًا لأهلها وهدمه سورها، وعفوه عمّن فيها من المقاتلة والذّريّة. ومنها غزو العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس - في قول الواقدي - الصائفة، مع صالح بن علي بن عبد الله، فوصله صالح بأربعين ألف دينار، وخرج معهم عيسى بن علي بن عبد الله، فوصله أيضًا بأربعين ألف دينار، فبنى صالح بن علي ما كان صاحب الروم هدمه من ملطية. وقد قيل: إن خروج صالح والعباس إلى ملطية للغزو كان في سنة تسع وثلاثين ومائة. وفي هذه السنة بايع عبد الله بن علي لأبي جعفر وهو مقيم بالبصرة مع أخيه سليمان بن علي. ذكر خلع جهور بن مرار المنصور وفيها خلع جهور بن مرّار العجلي المنصور. ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن جهور لما هزم سنباذ حوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم التي كان خلفها بالرّي، فلم يوجّهها إلى أبي جعفر، وخاف فخلع، فوجّه إليه أبو جعفر محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش عظيم، فلقيه محمد، فاقتتلوا قتالا شديدًا، ومع جهور نخب فرسان العجم؛ زياد والأشتاخنج، فهزم جهور وأصحابه، وقتل من أصحابه خلق كثير، وأسر زياد والأشتاخنج، وهرب جهور فلحق بأذربيجان فأخذ بعد ذلك باسباذر وفقتل. ذكر خبر قتل ملبد الخارجي وفي هذه السنة قتل الملبّد الخارجي. ذكر الخبر عن مقتله ذكر أن أبا جعفر لما هزم الملبّد حميد بن قحطبة، وتحصّن منه حميد، وجّه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار بن عبد الرحمن، وضمّ إليه زياد بن مشكان، فأكمن له الملبّد مائة فارس، فلما لقيه عبد العزيز خرج عليه الكمين؛ فهزموه، وقتلوا عامّة أصحابه. فوجّه أبو جعفر إليه خازم بن خزيمة في نحو من ثمانية آلاف من المروروذيّة. فسار خازم حتى نزل الموصل وبعث إلى الملبّد بعض أصحابه وبعث معهم الفعلة، فسار إلى بلد فخندقوا، وأقاموا له الأسواق؛ وبلغ ذلك الملبد، وخرج حتى نزل ببلدٍ في خندق خازم؛ فلما بلغ ذلك خازم خرج إلى مكان من أطراف الموصل حريز فعسكر به، فلما بلغ ذلك الملبّد عبر دجلة من بلد، وتوجه إلى خازم من ذلك الجانب يريد الموصل فلما بلغ خازمًا ذلك، وبلغ إسماعيل ابن علي - وهو على الموصل - أمر إسماعيل خازمًا أن يرجع من معسكره حتى يعبر من جسر الموصل؛ فلم يفعل، وعقد جسرًا من موضع معسكره، وعبر إلى الملبد، وعلى مقدمته وطلائعقه نضلة بن نعيم بن خازم بن عبد الله النهشلي، وعلى ميمنته زهير بن محمد العامري، وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص مولى بني سليم. وسار خازم في القلب، فلم يزل يساير الملبّد وأصحابه حتى غشيهم الليل ثم تواقفوا ليلتهم، وأصبحوا يوم الأربعاء، فمضى الملبّد وأصحابه متوجّهين إلى كورة حزّة، وخازم وأصحابه يسايرونهم حتى غشيهم الليل، وأصبحوا يوم الخميس، وسار الملبّد وأصحابه، كأنه يريد الهرب من خازم، فخرج خازم وأصحابه في أثرهم، وتركوا خندقهم، وكان خازم تخندق عليه وعلى أصحابه بالحسك، فلما خرجوا من خندقهم كرّ عليهم الملبّد وأصحابه؛ فلما رأى ذلك خازم ألقى الحسك بين يديه وبين يدي أصحابه، فحملوا على ميمنة خازم وطووها، ثم حملوا على الميسرة وطووها، ثم انتهوا إلى القلب، وفيه خازم، فلما رأى ذلك خازم نادى في أصحابه: الأرض، فنزلوا ونزل الملبد وأصحابه، وعقروا عامة دوابّهم، ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت، وأمر خازم نضلة بن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بغضنا بعضًا فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها، ثم ارموا بالنشاب. ففعل ذلك، وتراجع أصحاب خازم من الميمنة إلى الميسرة، ثم رشقوا الملبّد وأصحابه بالنشاب، فقتل الملبّد في ثمانمائة رجل ممن ترجّل، وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلثمائة، وهرب الباقون، وتبعهم نضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلًا. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، كذلك قال الواقدي وغيره. وذكر أنه كان خرج من عند أبيه من الشأم حاجًا، فأدركته ولايته على الموسم والحجّ بالناس في الطريق، فمرّ بالمدينة فأحرم منها. وزياد بن عبيد الله على المدينة ومكة والطائف، وعلى الكوفة وسوادها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وأبو داود خالد بن إبراهيم على خراسان، وعلى مصر صالح بن علي. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من إقامة صالح بن علي والعباس بن محمد بملطية؛ حتى استتما بناء ملطية، ثم غزوا الصائفة من درب الحديث، فوغلا في أرض الروم - وغزا مع صالح أختاه: أم عيسى ولبابة ابنتا علي؛ وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أميّة أن تجاهدا في سبيل الله. وغزا من درب ملطية جعفر بن حنظلة البهراني. وفي هذه السنة كان الفداء الذي جرى بين المنصور وصاحب الروم؛ فاستنقذ المنصور منهم أسراء المسلمين، ولم يكن بعد ذلك - فيما قيل - للمسلمين صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة، لاشتغال أبي جعفر بأمر ابني عبد الله بن الحسن؛ إلّا أن بعضهم ذكر أن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام في سنة أربعيين. وأقبل قسطنطين صاحب الروم في مائة ألف، فنزل جيحان، فبلغه كثرة المسلمين فأحجم عنهم؛ ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين ومائة. وفي هذه السنة سار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس، فلمّكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها إلى اليوم. وفيها وسّع أبو جعفر المسجد الحرام، وقيل إنها كانت سنة خصبة فسميت سنة الخصب. وفيها عزل سليمان بن علي عن ولاية البصرة، وعمّا كان إليه من أعمالها. وقد قيل إنه عزل عن ذلك في سنة أربعين ومائة. وفيها ولّى المنصور ما كان إلى سليمان بن علي من عمل البصرة سفيان بن معاوية، وذلك - فيما قيل - يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان، فلما عزل سليمان وولّى سفيان توارى عبد الله بن علي وأصحابه خوفًا على أنفسهم؛ فبلغ ذلك أبا جعفر، فبعث إلى سليمان وعيسى ابني علي، وكتب إليهما في إشخاص عبد الله بن علي، وعزم عليهما أن يفعلا ذلك ولا يؤخّراه، وأعطاهما من الأمان لعبد الله بن علي ما رضياه له ووثقا به، وكتب إلى سفيان بن معاوية يعلمه ذلك، ويأمره بإزعاجهما واستحثاثهما بالخروج بعبد الله ومن معه من خاصّته، فخرج سليمان وعيسى بعبد الله وبعامّة قوّاده وخواصّ أصحابه ومواليه، حتى قدموا على أبي جعفر؛ يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة. ذكر خبر حبس عبد الله بن علي وفيها أمر أبو جعفر بحبس عبد الله بن علي وبحبس من كان معه من أصحابه وبقتل بعضهم. ذكر الخبر عن ذلك ولما قدم سليمان وعيسى ابنا علي على أبي جعفر أذن لهما، فدخلا عليه، فأعلماه حضور عبد الله بن علي، وسألاه الإذن له. فأنعم لهما بذلك، وشغلهما بالحديث، وقد كان هيّأ لعبد الله بن علي محبسًا في قصره، وأمر به أن ينصرف إليه بعد دخول عيسى وسليمان عليه، ففعل ذلك به؛ ونهض أبو جعفر من مجلسه، فقال لسليمان وعيسى: سارعا بعبد الله، فلما خرجا افتقدا عبد الله من المجلس الذي كان فيه، فعلما أنه قد حبس، فانصرفا راجعلين إلى أبي جعفر، فحيل بينهما وبين الوصول إليه، وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحاب عبد الله بن علي من عواتقهم وحبسوا. وقد كان خفاف بن منصور حذّرهم ذلك وندم على مجيئه، وقال لهم: إن أنتم أطعتموني شددنا شدّة واحدة على أبي جعفر؛ فوالله لا يحول بيننا وبينه حائل حتى نأتي على نفسه، ونشدّ على هذه الأبوب مصلتين سيوفنا، ولا يعرض لنا عارض إلّا أفاتنا نفسه حتى نخرج وننجو بأنفسنا، فعصوه. فلما أخذت السيوف وأمر بحبسهم جعل خفاف يضرط في لحيته، ويتفل في وجوه أصحابه. ثم أمر أبو جعفر بقتل بعضهم بحضرته؛ وبعث بالبقيّة إلى أبي داود خالد بن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها. وقد قيل إن حبس أبي جعفر عبد الله بن علي كان في سنة أربعين ومائة. وحجّ بالناس في هذه السنة العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان على مكة والمدينة والطائف زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى خراسان أبو داود خالد بن إبراهيم. ثم دخلت سنة أربعين ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث ذكر هلاك أبي داود عامل خراسان وولاية عبد الجبار فمن ذلك ما كان فيها من مهلك عامل خراسان. ذكر الخبر عن ذلك وسبب هلاكه ذكر أن ناسًا من الجند ثاروا بأبي داود خالد بن إبراهيم بخراسان وهو عامل أبي جعفر المنصور عليها في هذه السنة ليلًا، وهو نازل بباب كشماهن من مدينة مرو، حتى وصلوا إلى المنزل الذي هو فيه، فأشرف أبو داود من الحائط على حرف آجرّة خارجة، وجعل نادي أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرّة عند الصبح، فوقع على سترة صفة كانت قدّام السطح فانكسر ظهره، فمات عند صلاة العصر، فقام عصام صاحب شرطة أبي داود بخلافة أبي داود، حتى قدم عليه عبد الجبّار بن عبد الرحمن الأزدي. وفيها ولّى أبو جعفر عبد الجبار بن عبد الرحمن خراسان فقدمها، فأخذ بها ناسًا من القوّاد ذكر أنه اتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب؛ منهم مجاشع بن حريث الأنصاري صاحب بخارى وأبو المغيرة، مولى بني تميم واسمه خالد بن كثير وهو صاحب قوهستان، والحريش بن محمد الذهلي، ابن عمّ داود، فقتلهم، وحبس الجنيد بن خالد بن هريم التغلبي ومعبد بن الخليل المزني بعد ما ضربهما ضربًا مبرّحًا، وحبس عدّة من وجوه قوّاد أهل خراسان، وألحّ على استخراج ما على عمال أبي داود من بقايا الأموال. وفيها خرج أبو جعفر المنصور حاجًا، فأحرم من الحيرة، ثم رجع بعد ما قضى حجه إلى المدينة، فتوجّه منها إلى بيت المقدس. وكان عمّال الأمصار في هذه السنة عمالها في السنة التي قبلها، إلّا خراسان فإن عاملها كان عبد الجبار. ولما قدم أبو جعفر بيت المقدس صلى في مسجدها، ثم سلك الشأم فإن عاملها كان عبد الجبار. ولما قدم أبو جعفر بيت المقدس صلّى في مسجدها؛ ثم سلك الشأم منصرفًا حتى انتهى إلى الرقة، فنزلها، فأتى بمنصور بن جعونة بن الحارث العامريّن من بني عامر بن صعصعة، فقتله، ثم شخص منها، فسلك الفرات حتى أتى الهاشميّة، هاشميّة الكوفة. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن خروج الراوندية فمن ذلك خروج الراونديّة، وقد قال بعضهم: كان أمر الراونديّة وأمر أبي جعفر الذي أنا ذاكره، في سنة سبع وثلاثين ومائة أو ستّ وثلاثين ومائة. ذكر الخبر عن أمرهم وأمر أبي جعفر المنصور معهم والرّاوندية قوم - فيما ذكر عن علي بن محمد - كانوا من أهل خراسان على رأي أبي مسلم صاحب دعوة بني هاشم، يقولون - فيما زعم - بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو أبو جعفر المنصور، وأن الهيثم بن معاوية جبرئيل. قال: وأتوا قصر المنصور، فجعلوا يطوفون به، ويقولون: هذا قصر ربّنا؛ فأرسل المنصور إلى رؤسائهم، فحبس منهم مائتين، فغضب أصحابهم وقالوا: علام حبسوا! وأمر المنصور ألّا يجتمعوا، فأعدّوا نعشًا وحملوا السرير - وليس في النعش أحد - ثم مروا في المدينة، حتى صاروا على باب السجن، فرموا بالنعش، وشدوا على الناس - ودخلوا السجن، فأخرجوا أصحابهم، وقصدوا نحو المنصور وهم يومئذ ستمائة رجل، فتنادى الناس، وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد، فخرج المنصور من القصر ماشيًا، ولم يكن في القصر دابة، فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط فرسًا يكون فيي دار الخلافة معه في قصره. قال: ولما خرج المنصور أتيَ بدابّة فركبها وهو يريدهم؛ وجاء معن ابن زائدة، فانتهى إلى أبي جعغفر، فرمى بنفسه وترجّل، وأدخل بركة قبائه في منطقته، وأخذ بلجام دابة المنصور، وقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين إلّا رجعت؛ فإنك تكفى. وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب القصر، وقال: أنا اليوم بوّاب، ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم حتى أثخنوهم، وفتح باب المدينة، فدخل الناس. وجاء خازم بن خزيمة على فرس محذوف؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أقتلهم؟ قال: نعم، فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى ظهر حائط، ثم كرّوا على خازم فكشفوه وأصحابه، ثم كرّ خازم عليهم فاضطرهم إلى حائط المدينة. وقال للهيثم بن شعبة: إذا كروا علينا فاسبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فاقتلهم. فحملوا على خازم، فاطّرد لهم، وصار الهيثم بن شعبة من وورائهم. فقتلوا جميعًا. وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك؛ فكلمهم، فرجع فوموه بنشابة فوقعت بين كتفيه؛ فمرض أيامًا ومات منها، فصلى عليه أبو جعفر، وقام على قبره حتى دفن، وقال: رحمك الله أبا يزيد! وصيّر مكانه على حرسه عيسى بن نهيك، فكان على الحرس حتى مات؛ فجعل على الحرس أبا العباس الطوسي. وجاء يومئذ إسماعيل بن علي، وقد أغلقت الأبواب، فقال للبواب: افتح ولك ألف درهم؛ فأبى. وكان القعقاع بن ضرار يومئذ بالمدينة؛ وهو على شرط عيسى بن مسوى، فأبلى يومئذ؛ وكان ذلك كله في المدينة الهاشميّة بالكوفة. قال: وجاء يومئذ الربيع ليأخذ بلجام المنصور، فقال له معن: ليس هذا من أيامك، فأبلى أبرويز بن المصمغان ملك دنباوند - وكان خالف أخاه، فقدم على أبي جعفر فأكرمه، وأجرى علهي رزقًا؛ فلما كان يومئذ أتى المنصور فكفّر له، وقال: أقاتل هؤلاء؟ قال له: نعم، فقاتلهم؛ فكان إذا ضرب رجلًا فصرفعه تأخّر عنه - فلما قتلوا وصلى المنصور الظهر دعا بالعشاء، وقال: أطلعوا معن بن زائدة، وأمسك عن الطعام حتى جاءه معن؛ فقال لقثم: تحوّل إلى هذا الموضع، وأجلس معنًا مكان قثم، فلما فرغوا من العشاء قال لعيسى بن علي: يا أبا العباس، أسمعت بأشدّ الرجال؟ قال: نعم، قال: لو رأيت اليوم معنًا علمت أنه من تلك الآساد، قال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأييت ما عندك من الاستهانة بهم وشدّة الإقدام عليهم، رأيت أمرًا لم أره من خلق في حرب؛ فشدّ ذلك من قلبي وحملني على ما رأيت مني. وقال أبو خزيمة: يا أمير المؤمنين، إنّ لهم بقيّة، قال: فقد ولّيتك أمرهم فاقتلهم، قال: فأقتل زرامًا فإنه منهم، فعاذ رزام بجعفر بن أبي جعفر، فطلب فيه فآمنه. وقال علي عن أبيي بكر الهذلي، قال: إني لواقف بباب أمير المؤمنين إذ طلع فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزّة! هذا الذي يطعمنا ويسقينا؛ فلما رجع أمير المؤمنين ودخل عليه الناس دخلت وخلا وجهه، فقلتُ له: سمعت اليوم عجبًا، وحدثته؛ فنكت في الأرض، وقال: يا هذلي، يدخلهم الله النار في طاعتنا ويعتلهم، أحب إلي من أن يدخلهم الجنة بمعصيتنا. وذكر عن جعفر بن عبد الله، قال: حدثني الفضل بين الربيع، قال: حدثني أبي، قال: سمعت المنصور يقول: أخطأت ثلاث خطيّات وقاني الله شرّها: قتلت أبا مسلم وأنا في خرق ومن حولي يقدّم طاعته ويؤثرها ولو هتكت الخرق لذهبت ضياعًا، وخرجت إلى الشأم ولو اختلف سيفان بالعراق ذهبت الخلافة ضياعًا. وذكر أنّ معن بن زائدة كان مختفيًا من أبي جعفر، لما كان منه من قتاله المسوّدة مع ابن هبيرة مرّة بعد مرّة؛ وكان اختفاؤه عند مرزوق أبي الخصيب، وكان على أن يطلب له الأمان، فلما خرج الراونديّة أتى الباب فقام عليه، فسأل المنصور أبا الخصيب - وكان يلي حجابة المنصور يومئذ: من بالباب؟ فقال: معن بن زائدة، فقال المنصور: رجل من العرب، شديد النفس، عالم بالحرب كريم الحسب؛ أدخله، فلما دخل قال: إيه يا معن! ما الرأي؟ قال: الرأي أن تنادي في الناس وتأمر لهم بالأموال، قال: وأين الناس والأموال؟ ومن يقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج! لم تصنع شيئًا يا معن؛ الرأي أن أخرج فأقف؛ فإنّ الناس إذا رأوني قاتلوا وأبلوا وثابوا إلي، وتراجعوا، وإن أقمت تخاذلوا وتهاونوا. فأخذ معن بيده وقال: يا أمير المؤمنين، إذًا والله تقتل الساعة، فأنشدك الله في نفسك! فأتاه أبو الخصيب فقال مثلها، فاجتذب ثوبه منهما، ثم دعا بدابته، فركب ووثب عليها من غير ركاب ثم سوّى ثيابه، وخرج ومعن آخذ بلجامه وأبو الخصيب مع ركابه فوقف. وتوجّه إليه رجل فقال: يا معن دونك العلج؛ فشدّ عليه معن فقتله، ثم والى بين أربعة، وثاب إليه الناس وتراجعوا؛ ولم يكن إلّا ساعة حتى أفنوهم، وتغيّب معن بعد ذلك، فقال أبو جعفر لأبي الخصيب: ويلك! أين معن؟ قال: والله ما أدري أين هو من الأرض! فقال: أيظن أنّ أمير المؤمنين لا يغفر ذنبه بعد ما كان من بلائه! أعطه الأمان وأدخله علي، فأدخله، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وولّاه اليمن، فقال له أبو الخصيب: قد فرّق صلته وما يقدر على شيء، قال: له لو أراد مثل ثمنك ألف مرّة لقدر عليه. وفي هذه السنة وجه أبو جعفر المنصور ولده محمدًا - وهو يومئذ ولي عهد - إلى خراسان في الجنود، وأمره بنزول الري، ففعل ذلك محمد. ذكر خلع عبد الجبار بخراسان ومسير المهدي إليه وفيها خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل أبي جعفر على خراسان؛ ذكر علي بن محمد، عمن حدثه، عن أبي أيوب الخوزي، أن المنصور لما بلغه أن عبد الجبار يقتل رؤساء أهل خراسان، وأتاه من بعضهم كتاب فيه: قد نغل الأديم، قال لأبي أيوب الخزاعي: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل هذا إلّا وهو يريد أن يخلع، فقال له: ما أيسر حيلته! اكتب إليه: إنك تريد غزو الروم؛ فيوجّه إلك الجنود من خراسان، وعليهم فرسانهم ووجوههم، فإذا خرجوا منها فابعث إليهم من شئت؛ فليس به امتناع. فكتب بذلك إليه، فأجابه: إنّ الترك قد جاشت؛ وإن فرّقت الجنود ذهبت خراسان، فألقى الكتاب إلى أبي أيّوب، وقال له: ما ترى؟ قال: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: إن خراسان أهمّ إلي من غيرها، وأنا موجّه إليك الجنود من قبلي. ثم وجّه إليه الجنود ليكونوا بخراسان؛ فإن هم بخلع أخذوا بعنقه. فلما ورد على عبد الجبار الكتاب كتب إليه: إنّ خراسان لم تكن قط أسوأ حالًا منها في هذا العام؛ وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من غلاء السعر. فلما أتاه الكتاب ألقاه إلى أبي أيوب، فقال له: قد أبدى صفحته، وقد خلع فلا تناظره. فوجّه إليه محمد بن المنصور، وأمره بنزول الري؛ فسار إليها المهدي، ووجّه لحربه خازم بن خزيمة مقدمةً له، ثم شخص المهدي فنزل نيسابور. ولما توجّه خازم بن خزيمة إلى عبد الجبار، وبلغ ذلك أهل مرو الروذ؛ ساروا إلى عبد الجبار من ناحيتهم فناصبوه الحرب، وقاتلوه قتالًا شديدًا حتى هزم، فانطلق هاربًا حتى لجأ إلى مقطنة، فتوارى فيها، فعبر إليه المجشر بن مزاحم من أهل مرو الروذ؛ فأخذه أسيرًا؛ فلما قدم خازم أتاه به، فألبسه خازم مدرّعة صوف، وحمله على بعير، وجعل وجهه من قبل عجز البعير؛ حتى انتهى به إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه؛ فبسط عليهم العذاب، وضربوا بالسياط حتى استخرج منهم ما قدر عليه من الأموال. ثم أمر المسيب بن زهير بقطع يدي عبد الجبار ورجليه وضرب عنقه؛ ففعل ذلك المسيّب، وأمر المنصور بتسيير ولده إلى دهلك - وهي جزيرة على ضفّة البحر بناحية اليمن - فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند، فسبوهم فيمن سبوا حتى فودوا بعد، ونجا منهم من نجا، فكان ممن نجا منهم واكتتب في الديوان وصحب الخلفاء عبد الرحمن بن عبد الجبار، وبقي إلى أن توفّيَ بمصر في خلافة هارون، في سنة سبعين ومائة. وفي هذه السنة فرغ من بناء المصّيصة على يدي جبرئيل بن يحيى الخراساني، ورابط محمد بن إبراهيم الإمام بملطية. واختلفوا في أمر عبد الجبار وخبره، فقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثنتين وأربعين ومائة، وقال غيره: كان ذلك في سنة إحدى وأربعين ومائة. وذكر عن علي بن محمد أنه قال: كان قدوم عبد الجبار خراسان لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، ويقال لأربع عشرة ليلة، وكانت هزيمته يوم السبت لست خلون من ربيع الأول سنة ثنتين وأربعين ومائة. وذكر عن أحمد بن الحارث، أن خليفة بن خياط حدثه، قال: لما وجّه المنصور المهدي إلى الري - وذلك قبل بناء بغداد؛ وكان توجيهه إياه لقتال عبد الجبار بن عبد الرحمن، فكفى المهدي أمر عبد الجبار بمن حاربه وظفر به - كره أبو جعفر أن تبطل تلك النفقات التي أنفقت على المهدي؛ فكتب إليه أن يغزو طبرستان، وينزل الري، ويوجّه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الأصبهبذ؛ وكان الأصبهبذ يومئذ محاربًا للمصمغان ملك دنباوند معسكرًا بإزائه؛ فبلغه أن الجنود دخلت بلاده، وأن أبا الخصيب دخل سارية، فساء المصمغان ذلك؛ وقال له: متى صاروا إليك صاروا إلي؛ فاجتمعا على محاربة المسلمين؛ فانصرف الأصبهبذ إلى بلاده، فحارب المسلمين، وطالت تلك الحروب، فوجّه أبو جعفر عمر بن العلاء الذي يقول فيه بشار: فقل للخليفة إن جئته ** نصيحًا ولا خير في يالمتهم إذا أيقظتك حروب العدا ** فنبّه لها عمرًا ثم نم فتىً لا ينام على دمنة ** ولا يشرب الماء إلا بدم وكان توجيهه إياه بمشورة أبرويز أخي المصمغان، فإنه قال له: يا أمير المؤمنين؛ إن عمر أعلم الناس ببلاد طبرستان، فوجّهه؛ وكان أبرويز قد عرف عمر أيام سنباذ وأيام الروانديّة، فضمّ إليه أبو جعفر خازم بن خزيمة، فدخل الرويان ففتحها، وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب، فألحّ خازم على القتال، ففتح طبّرستان، وقتل منهم فأكثر، وصار الأصبهبذ إلى قلعته، وطلب الأمان على أن يسلم القلعة بما فيها من ذخائره، فكتب المهدي بذلك إلى أبي جعفر، فوجّه أبو جعفر بصالح صاحب المصلى وعدّة معه، فأحصوا ما في الحصن، وانصرفوا. وبدا للأصبهبذ، فدخل بلاد جيلان من الديلم، فمات بها؛ وأخذت ابنته - وهي أمّ إبراهيم بن العباس بن محمد - وصمدت الجنود للمصمغان؛ فظفروا به وبالبحترية أم منصور بن المهدي، وبصيمر أم ولد علي بن ريطة بنت المصمغان. فهذا فتح طبرستان الأول. قال: ولما مات المصمغان تحوّز أهل ذلك الجبل فصارواا حوزيّة لأنهم توحّشوا كما توحّش حمر الوحش. وفي هذه السنة عزل زياد بن عبيد الله الحارثي عن المدينة ومكة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري، فقدمها في رجب. وعلى الطائف ومكة الهيثم بن معاوية العتكي من أهل خراسان. وفيها توفّيَ موسى بن كعب؛ وهو على شرط المنصور، وعلى مصر والهند وخليفته على الهند عيينة ابنه. وفيها عزل موسى بن كعب عن مصر، ووليها محمد بن الأشعث ثم عزل عنها، ووليها نوفل بن الفرات. وحجّ بالناس في هذه السنة صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على قنّسرين وحمص ودمشق. وعلى المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية. وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى خراسان المهدي وخليفته عليها السري بن عبد الله، وعلى مصر نوفل بن الفرات. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خلع عيينة بن موسى بن كعب بالسند فمما كان فيها خلع عيينة بن موسى بن كعب بالسند. ذكر الخبر عن سبب خلعه ذكر أن سبب خلعه كان أن المسيّب بن زهير كان خليفة موسى بن كعب على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيّب على ما كان يلي من الشرط، وخاف المسيب أن بكتب المنصور إلى عيينة في القدوم عليه فيوليه مكانه؛ وكتب إليه ببيت شعر ولم ينسب الكتاب إلى نفسه: فأرضك أرضك إن تأتنا ** فنم نومةً ليس فيها حلم وخرج أبو جعفر لما أتاه الخبر عن عيينة بخلعه حتى نزل بعسكره من البصرة عند جسرها الأكبر، ووجّه عمر بن حفص بن أبي صفرة العتكي عاملًا على السند والهند، محاربًا لعيينة بن موسى؛ فسار حتى ورد السند والهند، وغلب عليها. ذكر خبر نكث إصبهبذ طبرستان العهد وفي هذه السنة نقض إصبهبذ طبرستان العهد بينه وبين المسلمين، وقتل من كان ببلاده من المسلمين. ذكر الخبر عن أمره وأمر المسلمين ذكر أن أبا جعفر لما انتهى إليه خبر الإصبهبذ وما فعل بالمسلمين، وجّه إليه خازم بن خزيمة وروح بن حاتم ومعهم مرزوق أبو الخصيب مولى أبي جعفر، فأقاموا على حصنه محاصرين له ولمن معه في حصنه، وهم يقاتلونهم حتى طال عليهم المقام، فاحتال أبو الخصيب في ذلك فقال لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي؛ ففعلوا ذلك به، ولحق بالإصبهبذ صاحب الحصن فقال له: إني ركب مني أمر عظيم؛ ضربت وحلق رأسي ولحيتي. وقال له: إنما فعلوا ذلك بي تهمةً منهم لي أن يكون هواي معك، وأخبره أنه معه، وأنه دليل له على عورة عسكرهم. فقبل منه ذلك الإصبهبذ، وجعله في خاصّته وألطفه؛ وكان باب مدينتهم من حجر يلقى إلقاء يرفعه الرجال، وتضعه عند فتحه وإغلاقه؛ وكان قد وكّل به الإصبهبذ ثقات أصحابه، وجعل ذلك نوبًا بينهم، فقال له أبو الخصيب: ما أراك وثقت بي، ولا قبلت نصيحتي! قال: وكيف ظننت ذلك؟ قال: لتركك الاستعانة بي فيما يعنيك، وتوكيلي فيما لا تثق به إلّا بثقاتك؛ فجعل يستعين به بعد ذلك، فيرى منه ما يحبّ إلى أن وثق به، فجعله فيمن ينوب في فتح باب مدينته وإغلاقه؛ فتولّى له ذلك حتى أنس به ثم كتب أبو الخصيب إلى روح بن حاتم وخازم بن خزيمة، وصيّر الكتاب في نشّابة، ورماها إليهم، وأعلمهم أن قد ظفر بالحيلة، ووعدهم ليلة، سمّاها لهم في فتح الباب. فلما كان في تلك الليلة فتح لهم، فقتلوا من فيها من المقاتلة، وسبوا الذراري، وظفر بالبحترّية. وهي أم منصور بن المهدي، وأمّها باكند بنت الإصبهبذ الأصمّ - وليس بالإصبهبذ الملك؛ ذاك أخو باكند - وظفر بشكلة أم إبراهيم بن المهدي، وهي بنت خونادان قهرمان المصمغان، فمصّ الإصبهبذ خاتمًا له فيه سمّ فقتل نفسه. وقد قيل: إن دخول روح بن حاتم وخازم بن خزيمة طبرستان كان في سنة ثلاث وأربعين ومائة. وفي هذه السنة بنى المنصور لأهل البصرة قبلتهم التي يصلون إليها في عيدهم بالحمّان، وولي بناءه سلمة بن سعيد بن جابر؛ وهو يومئذ على الفرات والأبلة من قبل أبي جعفر، وصام أبو جعفر، وصام أبو جعفر شهر رمضان وصلى بها يوم الفطر. وفيها توفّي سليمان بن علي بن عبد الله بالبصرة ليلة السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة، وهو ابن تسع وخمسين سنة، وصلّى عليه عبد الصمد ابن علي. وفيها عزل عن مصر نوفل بن الفرات، ووليها محمد بن الأشعث، ثم عزل عنها محمد ووليها نوفل بن الفرات، ثم عزل نوفل ووليها حميد ابن قحطبة. وحجّ بالناس في هذه السنة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس. وكان العامل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله، وعلى مكة والطائف الهيثم بن معاوية، وعلى الكوفة وأرضها عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى مصر حميد بن قحطبة. وفيها - في قول الواقدي - ولّى أبو جعفر أخاه العباس بن محمد الجزيرة والثغور وضمّ إليه عدّة من القوّاد، فلم يزل بها حينًا. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث غزو الديلم ففي هذه السنة ندب المنصور الناس إلى غزو الديلم. ذكر الخبر عن ذلك ذكر أن أبا جعفر اتصل به عن الديّلم إيقاعهم بالمسلمين وقتلهم منهم مقتلة عظيمة، فوجّه إلى البصرة حبيب بن عبد الله بن رغبان، وعليها يومئذ إسماعيل ابن علي، وأمره بإحصاء كل من له فيها عشرة آلاف درهم فصاعدًا، وأن يأخذ كلّ من كان ذلك له بالشخوص بنفسه لجهاد الديلم، ووجّه آخر لمثل ذلك إلى الكوفة. عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف وفيها عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف، ووللّى ما كان إليه من ذلك السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب، وأتى السري عهده على ذلك وهو باليمامة، فسار إلى مكة، ووجّه أبو جعفر إلى اليمامة قشم ابن العباس بن عبد الله بن عباس. عزل حميد بن قحطبة عن مصر وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر، ووليها نوفل بن الفرات، ثم عزل نوفل ووليها يزيد بن حاتم. وحجّ بالناس في هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبيد الله ابن عباس، وكان يومئذ إليه ولاية الكوفة وسوادها. وكان والي مكة فيها السري بن عبد الله بن الحارث، ووالي البصرة وأعمالها سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم. ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك غزو محمد بن أبي العباس بن عبد الله بن محمد ابن علي الديلم في أهل الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة. وفيها انصرف محمد بن أبي جعفر المهدي عن خراسان إلى العراق، وشخص أبو جعفر إلى قرماسين، فلقيه بها ابنه محمد منصرفًا من خراسان، فانصرفا جميعًا إلى الجزيرة. وفيها بنى محمد بن أبي جعفر عند مقدمه من خراسان بابنة عمه ريطة بنت أب يالعباس. وفيها حجّ بالناس أبو جعفر المنصور، وخلف على عسكره والميرة خازم ابن خزيمة. ولاية رباح بن عثمان على المدينة وأمر ابني عبد الله بن حسن وفي هذه السنة ولّى أبو جعفر رياح بن عثمان المرّي المدينة، وعزل محمد ابن خالد بن عبد الله القسري عنها. ذكر الخبر عن سبب عزله محمد بن خالد واستعماله رياح بن عثمان وعزله زياد بن عبيد الله الحازرثي من قيبل محمد خالد: وكان سبب عزل زياد عن المدينة، أنّ أبا جعفر همّه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب وتخلّفهما عن حضوره، مع من شهده من سائر بني هاشم عام حجّ في حياة أخيه أبي العباس، ومعه أبو مسلم. وقد ذكر أن محمدًا كان يذكر أنّ ابا جعفر ممّن بايع له ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر بني مروان مع سائر المعتزلة الذيين كانوا معهم هنالك. فسأل عنهما، فقال له زياد بن عبيد الله: ما يهمّك من أمرهما! أنا آتيك بهما؛ وكان زياد يومئذ مع أبي جعفر عند مقدمه مكة سنة ست وثلاثين ومائة، فردّ أبو جعفر زيادًا إلى عمله، وضمنه محمدًا وإبراهيم. فذكر أبو زيد عمر بن شبة أن محمد بن إسماعيل حدثه، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد ابن عمار بن ياسر، قال: لما استُخلف أبو جعفر لم تكن له همة إلا طلب محمد والمسألة عنه وما يريد؛ فدعا بني هاشم رجلًا رجلًا؛ كلهم يخليه فيسألهم عنه، فييقولون: يا أمير المؤمنين؛ قد علم أنك قد عرفته يطلب هذا الشأن قبل اليوم؛ فهو يخافك على نفسه؛ وهو لا يريد لك خلافًا، ولا يحبّ لك معصية؛ وما أشبه هذه المقالة إلا حسن بن زيد، فإنه أخبره خبره، فقال: والله ما آمن وثوبه عليك؛ فإنه للذي لا ينام عنك، فر رأيك. قال ابن أبي عبيدة: فأيقظ من لا ينام. وقال محمد: سمعت جدي موسى بن عبد الله، يقول: اللهمّ اطلب حسن ابن زيد بدمائنا. قال موسى: وسمعت والله أبي يقول: أشهد لعرّفني أبو جعفر حديثًا ما سمعه مني إلا حسن بن زيد. وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: سمعت القاسم بن محمد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان، قال: أخبرني محمد بن وهب السلمي، عن أبي، قال: عرّفني أبو جعفر حديثًا ما سمعه مني إلا أخي عبد الله بن حسن وحسن بن زيد؛ فأشهد ما أخبره به عبد الله؛ ولا كان يعلم الغيب. قال محمد: وسأل عنه عبد الله بن حسن عام حجّ، فقال له مقالة الهاشميّين، فأخبره أنه غير راضٍ أو يأتيه به. قال محمد: وحدثتني أمي عن أبيها، قال: قال أبي: قلت لسليمان بن علي: يا أخي صهري بك صهري، ورحمي بك رحمي، فما ترى؟ قال: والله لكأني أنظر إلى عبد الله بن علي حين حال الستر بيننا وبينه؛ وهو يشير إلينا أنّ هذا الذي فعلتم بي، فلو كان عافيًا عفا عن عمّه. قال: فقيل رأيه، قال: فكان آل عبد الله يرونها صلة من سليمان لهم. قال أبو زيد: وحدثني سعيد بن هريم، قال: أخبرني كلثوم المرائي، قال: سمعت يحيى بن خالد بن برمك يقول: اشترى أبو جعفر رقيقًا من رقيق الأعراب، ثم أعطى الرجل منهم البعير، والرجل البعيرين، والرجل الذوذ، وفرّقهم في طلب محمد في ظهر المدينة؛ فكان الرجل منهم يرد الماء كالمارّ وكالضالّ، فيفرّون عنه ويتجسسون. قال: وحدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي، قال: قال لي السندي مولى أمير المؤمنين: أتدري ما رفع عقبة بن سلم عند أمير المؤمنين؟ قلت: لا، قال: أوفد عمّي عمر بن حفص وفدًا من السند فيهم عقبة، فدخلوا على أبي جعفر، فلما قضوا حوائجهم نهضوا، فاستردّ عقبة، فأجلسه، ثم قال له: من أنت؟ قال: رجل من جند أمير المؤمنين وخدمه، صحبت عمر ابن حفص، قال: وما اسمك؟ قال: عقبة بن سلم بن نافع، قال: ممّن أنت؟ قال: من الأزد ثم من بني هناءة، قال: إني لأرى لك هيئة وموضعًا، وإني لأريدك لأمر أنا به معنىّ، لم أزل أرتاد له رجلًا، عسى أن تكونه إن كفيتنيه رفعتك، فقال: أرجو أن أصدّق ظنّ أمير المؤمنين في، قال: فأخف شخصك، واستر أمرك، وأتني في يوم كذا وكذا في وقت كذا وكذا؛ فأتاه في ذلك الوقت، فقال له: إن بني عمّنا هؤلاء قد أبوا إلّا كيدًا لملكنا واغتيالًا له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا، يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطاف بلادهم، فاخرج بكسًا وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكرًا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية، ثم تسير ناحيتهم؛ فإن كانوا قد نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك، وكنت على حذر واحتراس منهم؛ فاشخص حتى تلقى عبد الله ابن حسن متقشّفًا متخشعًا؛ فإن جبهك - وهو فاعل - فاصبر وعاوده؛ فإن عاد فاصبر حتى يأنس بك وتلين لك ناحيته؛ فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل علي. قال: فشخص حتى قدم على عبد الله، فلقيه بالكتاب، فأنكره ونهره، وقال: ما أعرف هؤلاء القوم؛ فلم يزل ينصرف ويعود إليه حتى قبل كتابه وألطافه، وأنس به؛ فسأله عقبة الجواب، فقال: أمذا الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني خارجان لوقت كذا وكذا. قال: فشخص عقبة حتى قدم على أن جعفر، فأخبره الخبر. قال أبو زيد: حدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: ولّى أبو جعفر الفضل ابن صالح بن علي الموسم في سنة ثمان وثلاثين ومائة، فقال له: إن وقعت عيناك على محمد وإبراهيم، ابني عبد الله بن حسن، فلا يفارقانك؛ وإن لم ترهما فلا تسأل عنهما. فقدم المدينة، فتلقاه أهلها جميعًا؛ فيهم عبد الله بن حسن وسائر بني حسن إلّا محمدًا وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن. فسكت حتى صدر عن الحجّ، وصار إلى السيّالة، فقال لعبد الله بن حسن: ما منع ابنيك أن يلقياني بالصّيد واتّباعه، لا يشهدان مع أهليهما خيرًا ولا شرًا. فسكت الفضل عنه، وجلس على دكان قد بنى له بالسيالة. فأمر عبد الله رعاته فسرّحوا عليه ظهره، فأمر أحدهم فحلب لبنًا على عسل في عسّ عظيم، ثم رقي به الدكان، فأومأ إليه عبد الله أن اسق الفضل بن صالح، فقصد قصده؛ فلما دنا منه صاح به الفضل صيحةً مغضبًا: إليك يا ماصّ بظر أمّه! فأدبر الراعي، فوثب عبد الله - وكان من أرفق الناس - فتناول القعب، ثم أقبل يمشي به إلى الفضل، فلما رآه يمشي إليه استحيا منه، فتناوله فشرب. قال أبو زيد: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال: كان لزياد بن عبيد الله كاتب يقال له حفص بن عمر من أهل الكوفة يتشيّع، وكان يثبّط زيادًا عن طلب محمد، فكتب فيه عبد العزيز بن سعد إلى أبي جعفر فحدره إليه، فكتب فيه زياد إلى عيسى بن علي وعبد الله بن الربيع الحارثي فخلّصاه حتى رجع إلى زياد. قال علي بن محمد: قدم محمد البصرة مختفيًا في أربعين، فأتوا عبد الرحمن ابن عثمان بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فقال له عبد الرحمن: أهلكتني وشهرتني؛ فانزل عندي وفرّق أصحابك، فأبى، فقال: ليس لك عندي منزل؛ فانزل في بني راسب، فنزل في بني راسب. وقال عمر: حدثني سليمان بن محمد الساري، قال: سمعت أبا هبّار المزني يقول: أقمنا مع محمد بن عبد الله بالبصرة يدعو الناس إلى نفسه. قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: قال أبو جعفر: ما طمعت في بغيه لي قطّ إذا ذكرت مكان بني راسب بالبصرة. قال: وحدثني أبو عاصم النبيل، قال: حدثني ابن جشيب اللهبي، قال: نزلت في بني راسب في أيام ابن معاوية، فسألني فتىً منهم يومًا عن اسمي، فلطمه شيخ منهم، فقال: وما أنت وذاك! ثم نظر إلى شيخ جالس بين يديه، فقال: أترى هذا الشيخ نزل فينا أبوه أيام الحجاج، فأقام حتى ولد له هذا الولد، وبلغ هذا المبلغ، وهذه السنّ! لا والله ما ندري ما اسمه ولا اسم أبيه، ولا ممن هو! قال: وحدثني محمد بن الهذيل، قال: سمعت الزعفراني يقول: قدم محمد، فنزل على عبد الله بن شيبان أحد بني مرّة بن عبيد، فأقام ستة أيام، ثم خرج فبلغ أبا جعفر مقدمه البصرة، فأقبل مغذًا حتى نزل الجسر الأكبر، فأردنا عمرًا على لقائه، فأبى حتى غلبناه، فلقيه فقال: يا أبا عثمان، هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ قال: لا قال: فأقتصر على قولك وانصرف؟ قال: نعم؛ فانصرف، وكان محمد قد خرج قبل مقدم أبي جعفر. قال علي بن محمد: حدثني عامر بن أبي محمد، قال: قال أبو جعفر لعمرو بن عبيد: أبايعت محمدًا؟ قال: أنا والله لو قلدتني الأمّة أمورها ما عرفت لهما موضعًا. قال علي: وحدثني أيوب القزّاز، قال: قلت لعمرو: ما تقول في رجل رضي بالصبر على ذهاب دينه؟ قال: أنا ذاك، قلت: وكيف؛ ولو دعوت أجابك ثلاثون ألفًا! قال: والله ما أعرف موضع ثلاثة إذا قالوا وفّوا، ولو عرفتهم لكنت لهم رابعًا. قال أبو زيد: حدثني عبيد الله بن محمد بن حفص، قال: حدثني أبي، قال: وجل محمد وإبراهيم بن أبي جعفر، فأتيا عدن، ثم سارا إلى السند ثم إلى الكوفة، ثم إلى المدينة. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: تكفّل زياد لأمير المؤمنين بابني عبد الله أن يخرجهما له، فأقرّه على المدينة، فكان حسن بن زيد إذا علم من أمرهما علمًا كفّ حتى يفارقا مكانهما ذلك؛ ثم يخبر أبا جعفر، فيجد الرسم الذي ذكر، فيصدقه بما رفع إليه؛ حتى كانت سنة أربعين ومائة، فحجّ فقسّم قسومًا خصّ فيها آل أبي طالب فلم يظهر له ابنا عبد الله؛ فبعث إلى عبد الله فسأله عنهما، فقالل: لا علم لي بهما؛ حتى تغالظا، فأمصّه أبو جعفر، فقال: يا أبا جعفر، بأي أمهاتي تُمصّني! أبفاطمة بنت رسول الله ﷺ، أم بفاطمة بنت أسد، أم بفاطمة بنت حسين، أم أمّ إسحاق بنت طلحة، أم خديجة بنت خويلد؟ قال: لا بواحدة منهنّ؛ ولكن بالجرباء بنت قسامة بن زهير - وهي امرأة من طيّىء - قال: فوثب المسيّب بن زهير، فقال: دعني يا أمير المؤمنين أضرب عنق ابن الفاعلة. قال: فقام زياد بن عبيد الله، فألقى عليه رداءه، وقال: هبه لي يا أمير المؤمنين؛ فأنا أستخرج لك ابنيه فتخلّصه منه. قال عمر: وحدثني الوليد بن هشام بن قحذم، قال: قال الحزين الديلي لعبد الله بن الحسن ينعي عليه ولادة الجرباء: لعلّك بالجرباء أو بحكاكة ** تفاخر أم الفضل وابنة مشرح وما منهما إلا حصان نجيبة ** لها حسب في قومها مترجّح قال عمر: وحدثني محمد بن عبّاد، قال: قال لي السندي مولى أمير المؤمنين: لما أخبر عقبة بن سلم أبا جعفر، أنشأ الحجّ وقال لعقبة: إذا صرت بمكان كذا وكذا لقيني بنو حسن، فيهم عبد الله، فأنا مبجّله ورافعٌ مجلسه وداع بالغداء؛ فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائمًا، فإنه سيصرف بصره عنك، فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ثم حسبك؛ وإياك أن يراك ما دام يأكل. فخرج حتى إذا تدفّع في البلاد لقيه بنو حسن، فأجلس عبد الله إلى جانبه، ثم دعا بالطعام فأصابوا منه؛ ثم أمر به فرفع، فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألّا تبغيني سوءًا، ولا تكيد لي سلطانًا، قال: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين؛ قال: فلحظ أبو جعفر عقبة، فاستدار حتى قام بين يديه، فأعرض عنه، فرفع رأسه حتى قام من وراء ظهره؛ فغمزه بأصبعه، فرفع رأسه فملأ عينه منه، فوثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله! قال: لا أقالني الله إن أقلتك، ثم أمر بحبسه. قال عمر: وحدثني بكر بن عبد الله بن عاصم مولى قريبة بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، قال: حدثني علي بن رباح بن شبيب، أخو إبراهيم، عن صالح صاحب المصلّى، قال: إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدّى بأوْطاس؛ وهو متوجّه إلى مكة، ومعه على مائدته عبد الله بن حسن وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس؛ فأقبل على عبد الله، فقال: يا أبا محمد، محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي؛ وإني لأحبّ أن يأنسا بي، وأن يأتياني فأصليهما وأخلطهما بنفسي - قال وعبد الله مطرق طويلًا ثم رفع رأسه - فقال: وحقّك يا أمير المؤمنين، فما لي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم؛ ولقد خرجا من يدي؛ فيقول أبو جعفر: لا تفعل يا أبا محمد، اكتب إليهما وإلى من يوصّل كتابك إليهما. قال: فامتنع أبو جعفر ذلك اليوم من عامة غدائه إقبالًا على عبد الله، وعبد الله يحلف ما يعرف موضعهما وأبو جعفر يكرّر عليه: لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد، لا تفعل يا أبا محمد. قال: فكان شدّة هرب محمد من أبي جعفر أنّ أبا جعفر كان عقد له بمكة في أناس من المعتزلة. قال عمر: حدثني أيوب بن عمر - يعني ابن أبي عمرو - قال: حدثني محمد بن خالد بن إسماعيل بن أيوب بن سلمة المخزومي، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: لما حجّ أبو جعفر في سنة أربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن؛ فإنهما وإياي لعنده؛ وهو مشغول بكتاب ينظر فيه؛ إذ تكلم المهدي فلحن، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، ألا تأمر بهذا من يعدّل لسانه؛ فإنه يغفل غفل الأمة! فلم يفهم؛ وغمزت عبد الله فلم ينتبه لها، وعاد لأبي جعفر فاحتفظ من ذلك، وقال: أين ابنك؟ فقال: لا أدري، قال: لتأتينّي به؛ قال: لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، قال: يا ربيع قم به إلى الحبس. قال عمر: حدثني موسى بن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، قال: لما تمثّل عبد الله بن حسن لأبي العباس: ألم تر حوشبًا أمسى يبنّي ** بيوتًا نفعها لبنى بقيله لم تزل في نفس أبي جعفر عليه؛ فلما أمر بحبسه، قال: ألست القائل لأبي العباس: ألم تر حوشبًا أمسى يبنِّى ** بيوتًا نفعها لبنى بقيله وهو آمن الناس عليك، وأحسنهم إليك صنيعًا! قال عمر: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق عن أبي حنين، قال: دخلت على عبد الله بن حسن وهو محبوس؛ فقال: هل حدث اليوم من خير؟ قلت: نعم، قد أمر ببيع متاعك ورقيقك، ولا أرى أحدًا يقدم على شرائه، فقال: ويحك يا أبا حنين! والله لو خرج بي وببناتي مسترقّين لاشترينا! قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق قال: شخص أبو جعفر، وعبد الله بن حسن محبوس، فأقام في الحبس ثلاث سنين. قال عمر: وحدثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، قال: حدثني أبو حرملة محمد بن عثمان، مولى آل عمرو بن عثمان، قال: حدثني أبو هبّار المزني، قال: لما حجّ أبو جعفر سنة أربعين ومائة، حجّ تلك السنة محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، وهما متغيبان، فاجتمعوا بمكة، فأرادوا اغتيال أبي جعفر، فقال لهم الأشتر: عبد الله بن محمد بن عبد الله، أنا أكفيكموه، فقال محمد: لا والله لا أقتله أبدًا غيلةً حتى أدعوه؛ قال: فنقض أمرهم ذلك وما كانوا أجمعوا عليه؛ وقد كان دخل معهم في أمرهم قائد من قوّاد أبي جعفر من أهل خراسان. قال: فاعترض لأبي جعفر إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرض، فنمّى إليه أمرهم، فأرسل في طلب القائد فلم يظفر به، وظفر بجماعة من أصحابه، وأفلت الرجل وغلام له بمال زهاء ألفي دينار كانت مع الغلام، فأتاه بها وهو مع محمد، فقسمها بين أصحابه. قال أبو هبّار: فأمرني محمد، فاشتريت للرّجل أباعر وجهّزته وحملته في قبّة وقطرته، وخرجت أريد به المدينة حتى أوردته إياها. وقدم محمد فضمّه إلى أبيه عبد الله، ووجّههما إلى ناحية من خراسان. قال: وجعل أبو جعفر يقتل أصحاب ذلك القائد الذي كان من أمره ما ذكرت. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى بن محمد، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: غدوت على زياد بن عبيد الله وأبو جعفر بالمدينة، قال: فقال: أخبركم عجبًا مما لقيته الليلة؛ طرقني رسل أمير المؤمنين نصف الليل - وكان زياد قد تحوّل لقدوم أمير المؤمنين إلى داره بالبلاط - قال: فدّقت علي رسله، فخرجت ملتحفًا بإزاري، ليس علي ثوب غيره، فنبهت غلمانًا لي وخصيانًا في سقيفة الدا، فقلت لهم: إن هدموا الدار فلا يكلمهم منكم أحد؛ قال: فدقوا طويلًا ثن انصرفوا، فأقاموا ساعة، ثم طلعوا بجرز شبيه أن يكون معهم مثله؛ مرّة أو مرّتين، فدقوا الباب بجرزة الحديد، وصيّحوا فلم يكلمهم أحد، فرجعوا فأقاموا ساعة، ثم جاءوا بأمر ليس عليه صبر؛ فظننت والله أن قد هدموا الدار علي، فأمرت بفتحها، وخرجت إليهم فاستحثوني وهمّوا أن يحملوني، وجعلت أسمع العزاء من بعضهم حتى أسلموني إلى دار مروان، فأخذ رجلان بعضدي، فخرّجاني على حال الدفيف على الأرض أو نحوه؛ حتى أتيا بي حجرة القبّة العظمى؛ فإذا الربيع واقف، فقال: ويحك يا زياد! ماذا فعلت بنا وبنفسك منذ الليلة! ومضى بي حتى كشف ستر باب القبّة، فأدخلني ووقف خلفي بين البابين؛ فإذا الشمع في نواحي القبّة، فهي تزهر، ووصيف قائم في ناحيتها، وأبو جعفر محتب بحمائل سيفه على بساط ليس تحته وسادة ولا مصلّى، وإذا هو منكس رأسه ينقر بجرز في يده. قال: فأخبرني الربيع أنها حاله من حين صلى العتمة إلى تلك الساعة. قال: فما زلت واقفًا حتى إني لأنتظر نداء الصبح، وأجد لذلك فرجًا؛ فما يكلمني بكلمة، ثم رفع رأسه إلي، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قال: نم نكس رأسه، ونكت أطول مما مضى له، ثم رفع رأسه الثانية، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قتلني الله إن لم أقتلك! قال: قلت له: اسمع مني ودعني أكلّمك، قال: قل لي: أنت نفّرتهما عنك؛ بعثت رسولًا بالمال الذي أمرت بقسمه على بني هاشم، فنزل القادسيّة، ثم أخرج سكينًا يحدّه، وقال: بعثني أمير المؤمنين لأذبح محمدًا وإبراهيم، فجاءتهما بذلك الأخبار، فهربا. قال: فصرفني فانصرفت. قال عمر: وحدثني عبد الله بن راشد بن يزيد - وكان يلقب الأكّار، من أهل فيد - قال: سمعت نصر بن قادم مولى بني محول الحنّاطين: قال: كان عبدويه وأصحاب له بمكة في سنة حجّها أبو جعفر. قال: فقال لأصحابه: إني أريد أن أوجر أبا جعفر هذه الحربة بين الصفا والمروة. قال: فبلغ ذلك عبد الله بن حسن فنهاه، وقال: أنت في موضع عظيم؛ فما أرى أن تفعل. وكان قائد لأبي جعفر يدعى خالد بن حسان، كان يدعى أبا العساكر على ألف رجل، وكان قد مالأ عبدويه وأصحابه؛ فقال له أبو جعفر: أخبرني عنك وعن عبدويه والعطاردي، ما أردتم أن تصنعوا بمكة؟ قال: أردنا كذا وكذا، قال: فما منعكم؟ قال: عبد الله بن حسن، قال: فطمره فلم ير حتى الساعة. قال عمر: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: جدّ أبو جعفر حين حبس عبد الله في طلب ابنيه، فبعث عينًا له، وكتب معه كتابًا على ألأسن الشيعة إلى محمد، يذكرون طاعتهم ومسارعتهم؛ وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة، فدخل على عبد الله بن حسن، فسأله عن محمد، فذكر له أنه في جبل جهينة، وقال: امرر بعلي بن حسن، الرجل الصالح الذي يدعى الأغر؛ وهو بذي الأبر؛ فهو يرشدك. فأتاه فأرشده. وكان لأبي جعفر كاتب على سرّه، كان متشيعًا، فكتب إلى عبد الله ابن حسن يأمر ذلك العين، وما بعث له، فقدم الكتاب على عبد الله فارتاعوا، وبعثوا أبا هبّار إلى علي بن الحسن وإلى محمد، فيحذرّهم الرجل؛ فخرج أبو هبّار حتى نزل بعلي بن حسن، فسأله فأخبره أن قد أرشده إليه. قال أبو هبّار: فجئت محمدًا في موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس في كهف، معه عبد الله بن عامر الأسلمي وابنا شجاع وغيرهم، والرجل معهم أعلاهم صوتًا، وأشدّهم انبساطًا؛ فلما رآني ظهر عليه بعض النكرة، وجلست مع القوم؛ فتحدثت مليًا، ثم أصغيت إلى محمد، فقلت: إنّ لي حاجةً، فنهض ونهضت معه، فأخبرته بخبر الرجل، فاسترجع، وقال: فما الرأي؟ فقلت: إحدى ثلاث أيها شئت فافعل؛ قال: وما هي؟ قلت: تدعني فأقتل الرجل، قال: ما أنا بمقارف دمًا إلّا مكرهًا، أو ماذا؟ قلت: توقره حديدًا وتنقله معك حيث انتقلت، قال: وهل بنا فراغ له مع الخوف والإعجال! أو ماذا؟ قلت: تشدّه وتوثقه وتودعه بعض أهل ثقتك من جهينة؛ قال: هذه إذًا؛ فرجعنا وقد نذر الرجل فهرب، فقلت: أين الرجل؟ قالوا: قام بركوة فاصطبّ ماء؛ ثم توارى بهذا الظرب يتوضّأ، قال: فجلنا في الجبل وما حوله؛ فكأن الأرض التأمت عليه. قال: وسعى على قدميه حتى شرع على الطريق، فمرّ به أعراب معهم حمولة إلى المدينة، فقال لبعضهم: فرّغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلًا لصاحبتها ولك كذا وكذا، قال: نعم؛ ففرّغها وحمله حتى أقدمه بالمدينة. ثم قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر كلّه، وعمى عن اسم أبي هبار وكنيته، وعلّق وبرًا. فكتب أبو جعفر في طلب وبر المزني، فحمل إليه رجل منهم يدعى وبرًا، فسأله عن قصّة محمد وما حكى له العين؛ فحلف أنه ما يعرف من ذلك شيئًا؛ فأمر به فضرب سبعمائة سوط، وحبس حتى مات أبو جعفر. قال عمر: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: ألحّ أبو جعفر في طلب محمد، وكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي يتنجزّه ما كان ضمن له، فقدم محمد المدينة قدمةً، فبلغ ذلك زيادًا، فتلطّف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس معه، فوعده ذلك محمد، فركب زياد مغلّسًا، ووعد محمدًا سوق الظهر، فالتقيا بها، ومحمد معلن غير مختفٍ، ووقف زياد إلى جنبه، وقال: يأيها الناس؛ هذا محمد بن عبد الله ابن حسن، ثم أقبل عليه، فقال: الحق بأن بلاد الله شئت، وتوارى محمد، وتواترت الأخبار بذلك على أبي جعفر. قال عمر: حدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني من أصدّق، قال: دخل إبراهيم بن عبد الله على زياد، وعليه درع حديد تحت ثويه، فلمسها زياد. ثم قال: يا أبا إسحاق؛ كأنك اتّهمتني! ذلك والله ما ينالك مني أبدًا. قال عمر: حدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: ركب زياد بمحمد؛ فأتى به السوق فتصايح أهل المدينة: المهدي المهدي! فتوارى فلم يظهر؛ حتى خرج. قال عمر: حدثني محمد بن يحيى. قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لمّا أن تتابعت الأخبار على أبي جعفر بما فعل زياد بن عبيد الله، وجّه أبا الأزهر رجلًا من أهل خراسان إلى المدينة، وكتب معه كتابًا، ودفع إليه كتبًا، وأمره ألّا يقرأ كتابه إليه حتى ينزل الأعوص، على بريد من المدينة، فلما أن نزله قرأه؛ فإذا فيه تولية عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المدينة - وكان قاضيًا لزياد بن عبيد الله - وشد زياد في الحدي، واصطفاء ماله، وقبض جميع ما وجد له، وأخذ عمّاله وإشخاصه وإياهم إلى أبي جعفر. فقدم أبو الأزهر المدينة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة، فوجد زيادًا في موكب له، فقال: أين الأمير؟ فقيل: ركب، وخرجت الرسل إلى زياد بقدومه، فأقبل مسرعًا حتى دخل دار مروان، فدخل عليه أبو الأزهر، فدفع إليه كتابًا من أبي جعفر في ثلث يأمره أن يسمع ويطيع؛ فلما قرأه قال: سمعًا وطاعة، فمر يا أبا الأزهر بما أحببت؛ قال: ابعث إلى عبد العزيز بن المطلب. فبعث إليه، فدفع إليه كتابًا أن يسمع لأبي الأزهر؛ فلما قرأه قال: سمعًا وطاعة؛ ثم دفع إلى زياد كتابًا يأمره بتسليم العمل إلى ابن المطلب، ودفع إلى ابن المطلب كتابًا بتوليته، ثم قال لابن المطلب: ابعث إلي اربعة كبول وحدّادًا، فأتيَ بهما فقال: اشدد أبا يحيى، فشدّ فيها وقبض ماله - ووجد في بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار - وأخذ عماله، فلم يغادر منهم أحدًا؛ فشخص بهم وبزياد، فلما كانوا في طرف المدينة وقف له عماله يسلّمون عليه، فقال: بأبي أنتم! والله ما أبالي إذا رآكم أبو جعفر ما صنع بي! أي من هيئتهم ومروّتهم. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، عن خاله علي بن عبد الحميد، قال: شيّعنا زيادًا، فسرت تحت محمله ليلة، فأقبل علي فقال: والله ما أعرف لي عند أمير المؤمنين ذنبًا؛ غير أني أحسبه وجد علي في ابني عبد الله، ووجد دماء بني فاطمة علي عزيزة. ثم مضوا حتى كانوا بالشقراء؛ فأفلت منهم محمد بن عبد العزيز، فرجع إلى المدينة، وحبس أبو جعفر الآخرين، ثم خلّى عنهم. قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني من أصدّق، قال: لما أن وجّه أبو جعفر مبهوتًا وابن أبي عاصية في طلب محمد، كان مبهوت الذي أخذ زيادًا، فقال زياد: أكلّف ذنب قوم لست منهم ** وما جنت الشمال على اليمين قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال، حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: كنت أنا والشعباني - قائد كان لأبي جعفر - مع زياد بن عبيد الله نختلف إلى أبي الأزهر أيام بعثه أبو جعفر في طلب بني حسن، فإني لأسير مع أبي الأزهر يومًا إذ أتاه آتٍ فلصق به، فقال: إنّ عندي نصيحة في محمد وإبراهيم، قال: اذهب عنا، قال: إنها نصيحة لأمير المؤمنين، قال: اذهب عنا، ويلك قد قتل الخلق! قال: فأبى أن ينصرف، فتركه أبو الأزهر حتى خلا الطريق، ثم بعج بسيفه بطنه بعجةً ألقاه ناحية. ثمّ استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بن خالد بعد زياد؛ فذكر عمر أن محمد بن يحيى حدثه، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بن خالد بعد زياد، وأمره بالجدّ في طلب محمد، وبسط يده في النفقة في طلبه. فأغذ السير حتّى قدم المدينة هلال رجب سنة إحدى وأربعين ومائة، ولم يعلم به أهل المدينة حتى جاء رسوله من الشقرة - وهى بين الأعوص والطرّف على ليلتين من المدينة - فوجد فى بيت المال سبعين ألف دينار وألف ألف درهم، فاستغرق ذلك المال؛ ورفع فى محاسبته أموالًا كثيرة أنفقها فى طلب محمد، فاستبطأه أبو جعفر واتّهمه، فكتب إليه أبو جعفر يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فأمر محمد بن خالد أهل الديوان أن يتجاعلوا لمن يخرج، فتجاعلوا رباع الغاضرىّ المضحك - وكان يداين الناس بألف دينار - فهلكت وتويت، وحرجوا إلى الأعراض لكشفها عن محمد، وأمر القسرىّ أهل المدينة؛ فلزموا بيوتهم سبعة أيام، وطافت رسله والجند ببيوت الناس يكشفونها؛ لا يحسون شيئًا، وكتب القسرىّ لأعوانه صكاكًا يتعزّزون بها، لئلا يعرض لهم أحد؛ فلمّا استبطأه أبو جعفر ورأى ما استغرق من الأموال عزله. قال: وحدثنى عيسى بن عبد الله، قال: أخبرنى حسين بن يزيد، عن ابن ضبّة، قال: اشتد أمر محمد وإبراهيم على أبى جعفر؛ فبعث فدعا أبا السعلاء من قيس بن عيلان، فقال: ويلك! أشر علىّ فى أمر هذين الرجلين؛ فقد غمنّى أمرهما، قال: أرى لك أن تستعمل رجلًا من ولد الزبير أو طلحة، فإنهم يطلبونهما بذحل؛ فأشهد لا يلبثونهما إليك قال: قاتلك الله؛ ماأجود رأيًّا جئت به! والله ما غبى هذا علىّ؛ ولكنى أعاهد الله ألّا أثّئر من أهل بيتى بعدوى وعدوّهم؛ ولكنى أبعث عليهم صعيليكًا من العرب، فيفعل ما قلت، فبعث رياح بن عثمان بن حيّان. قال: وحدثنى محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد الله بن يحيى، عن موسى بن عبد العزيز؛ قال: لما أراد أبو جعفر عزل محمد بن خالد عن المدينة ركب ذات يوم؛ فلما خرج من بيته استقبله يزيد بن أسيد السلمى، فدعاه فسايره. ثم قال: أما تدلنّى على فتى من قيس مقلّ أغنيه وأشرّفه وأمكّنه من سيد اليمن يلعب به؟ يعني ابن القسرىّ؛ قال: بلى، قد وجدته يا أمير المؤمنين، قال: من هو؟ قال: رياح بن عثمان بن حيّان المري، قال: فلا تذكرنّ هذا لأحد، ثم انصرف فأمر بنجائب وكسوة ورحال؛ فهيئت للمسير؛ فلما انصرف من صلاة العتمة دعا برياح، فذكر له ما بلا من غشّ زياد وابن القسري في ابني عبد الله، وولاه المدينة؛ وأمر بالمسير من ساعته قبل أن يصل إلى منزله، وأمره بالجدّ في طلبهما؛ فخرج مسرعًا، حتى قدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة. قال: وحدثني محمد بن معروف، قال: أخبرني الفضل بن الربيع، عن أبيه، قال: لما بلغ أمر محمد وإبراهيم من أبي جعفر ما بلغ خرجت يومًا من عنده - أو من بيتي - أريده؛ فإذا أنا برجل قد دنا مني، فقال: أنا رسول رياح بن عثمان إليك، يقول لك: قد بلغني أمر محمد وإبراهيم وإدْهان الولاة في أمرهما؛ وإنْ ولّاني أمير المؤمنين المدينة ضمنت له أحدهما، وألّا أظهرهما. قال: فأبلغت ذلك أمير المؤمنين. فكتب إليه بولايته. وليس بشاهد. ذكر عمر بن شبّة، عن محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يحيى، عن موسى ابن عبد العزيز، قال: لما دخل رباح دار مروان، فصار في سقيفتها، أقبل على بعض من معه، فقال: هذه دار مروان؟ قالوا: نعم، قال: هذه المحلال المظعان، ونحن أوّل من يظعن منها. قال عمر: حدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني الزبير بن المنذر مولى عبد الرحمن بن العوّام، قال: قدم رياح بن عثمان، فقدم معه حاجب له يكنى أبا البختري - وكان لأبي صديقًا زمان الوليد بن يزيد. قال: فكنت آتيه لصداقته لأبي - فقال لي يومًا: يا زبير، إن رياحًا لما دخل دار مروان قال لي: هذه دار مروان؟ أما والله إنها لمحلال مظعان؛ فلما تكشف الناس عنه - وعبد الله محبوس في قبة الدار التي على الطريق إلى المقصورة، حبسه فيها زياد بن عبيد الله - قال لي: يا أبا البختري، خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، فأقبل متّكئًا علي حتى وقف على عبد الله بن حسن، فقال: أيّها الشيخ؛ إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة، ولا يد سلفت إليه؛ والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم! قال: فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة. قال أبو البختري: فانصرف رياح والله آخذًا بيدي، أجد برد يده، وإنّ رجليه لتخطّان مما كلّمه، قال: قلت: والله إنّ هذا ما اطّلع على الغيب قال: إيهًا ويلك! فوالله ما قال إلا ما سمع؛ قال: فذبح والله فيها ذبح الشاة. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: قدم رياح المدينة، فدعا بالقسري، فسأله عن الأموال، فقال: هذا كاتبي هو أعلم بذلك مني، قال: أسألك وتحيلني على كاتبك! فأمر به فوجئت عنقه، وقنّع أسواطًا، ثم أخذ رزامًا كاتب محمد بن خالد القسري ومولاه فبسط عليه العذاب، وكان يضربه في كل غبّ خمسة عشر سوطًا، مغلولة يده إلى عنقه من بكرة إلى الليل؛ يتبع به أفناء المسجد والرّحبة، ودسّ إليه في الرفع على ابن خالد فلم يجد عنده في ذلك مساغًا، فأخرجه عمر بن عبد الله الجذامي - وكان خليفة صاحب الشرط يومًا من الأيام - وهو يريد ضربه، وما بين قدميه إلى قرنه قرحة، فقال له: هذا يوم غبّك، فأين تحبّ أن نجلدك؟ قال: والله ما في بدني موضع لضرب؛ فإن شئت فبطون كفي، فأخرج كفّيه فضرب في بطونهما خمسة عشر سوطًا. قال: فجعلت رسل رياح تختلف إليه، تأمره أن يرفع على ابن خالد ويخلّى سبيله، فأرسل إليه: مر بالكفّ عني حتى أكتب كتابًا، فأمر بالكفّ عنه، ثم ألحّ عليه وبعث إليه: أن رح بالكتاب العشيّة على رءوس الناس، فادفعه إلي. فلما كان العشي أرسل إليه فأتاه وعنده جماعة فقال: أيّها الناس؛ إن الأمير أمرني أن أكتب كتابًا، وأرفع على ابن خالد؛ وقد كتبت كتابًا أتنجّي به، وأنا أشهدكم أن كلّ ما فيه باطل. فأمر به رياح فضرب مائة سوط، وردّ إلى السجن. قال عمر: حدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني عمي عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي، قال: لما أهبط الله آدم من الجنّة رفعه على أبي قبيس، فرفع له الأرض جميعًا حتى رآها وقال: هذه كلها لك، قال: أي ربّ، كيف أعلم ما فيها؟ فجعل له النجوم، فقال: إذا رأيت نجم كذا وكذا كان كذا وكذا، وإذا رأيت نجم كاذ وكذا كان كذا وكذا؛ فكان يعلم ذلك بالنجوم. ثم إن ذلك اشتدّ عليه، فأنزل الله عز وجل مرآة من السماء يرى بها ما في الأرض حتى إذا ما مات آدم عمد إليها شيطان يقال له فقطس فكسرها، وبنى عليها مدينة بالمشرق يقال لها جابرت؛ فلما كان سليمان بن داود سأل عنها، فقيل له: أخذها فقطس. فدعاه فسأله عنها، فقال: هي تحت أواسي جابرت، قال: فأتني بها، قال ومن يهدمها؟ فقالوا لسليمان: قل له: أنت، فقال سليمان: أنت، فأتى بها سليمان، فكان يجبر بعضها إلى بعض ثم يشدّها في أقطارها بسير، ثم ينظر فيها؛ حتى هلك سليمان؛ فوثبت عليها الشياطين؛ فذهبت بها وبقيت منها بقية، فتوارثتها بنو إسرائيل حتى صارت إلى رأس الجالوت؛ فأتيَ بها مروان بن محمد؛ فكان يحكّها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، ودفعها إلى جارية له، فجعلتها في كرسفة، ثم جعلتها في حجر؛ فلما استخلف أبو جعفر سأل عنها فقيل له: هي عند فلانة؛ فطلبها حتى وجدها، فكانت عنده؛ فكان يحكّها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها؛ وكان يرى محمد ابن عبد الله؛ فكتب إلى رياح بن عثمان: إنّ محمدًا ببلاد فيها الأترجّ والأعناب فاطلبه بها. وقد كتب إلى محمد بعض أصحاب أبي جعفر: لا تقيمنّ في موضع إلّا بقدر مسير البريد من العراق إلى المدينة؛ فكان يتنقّل فيراه بالبيضاء، وهي من وراء الغابة على نحو من عشرين ميلًا؛ وهي لأشجع. فكتب إليه: إنه ببلاد بها الجبال والقلّات؛ فيطلبه فلا يجده. قال: فكتب إليه إنه بجبل به الحبّ الأخضر والقطران، قال: هذه رضوى؛ فطلبه فلم يجده. قال أبو زيد: حدثني أبو صفوان نصر بن قديد بن نصر بن سيار، أنه بغله أنه كان عند أبي جعفر مرآة يرى فيها عدوّه من صديقه. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: جدّ رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى - جبل جهينة، وهي من عمل ينبع - فاستعمل عليها عمرو بن عثمان بن مالك الجهني أحد بني جشم، وأمره بطلب محمد، فطلبه فذكر له أنه بشعب من رضوى، فخرج إليه بالخيل والرّجال، ففزع منه محمد، فأحضر شدًا، فأقلت وله ابن صغير، ولد في خوفه ذلك؛ وكان مع جارية له؛ فهوى من الجبل فتقطّع، وانصرف عمرو بن عثمان. قال: وحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي، قال: لما سقط ابن محمد فمات ولقي محمد ما لقي، قال: منخرق السربال يشكو الوجى ** تنكبه أطراف مرو حداد شرّده الخوف فأزرى به ** كذاك من يكره حر الجلاد قد كان في الموت له راحة ** والموت حتم في رقاب العباد قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني عمتي عبيد الله بن محمد، قال: قال محمد بن عبد الله: بينا أنا في رضوى مع أمة لي أمّ ولد، معها بنّى لي ترضعه؛ إذا ابن سنوطي مولى لأهل المدينة، قد هجم علي في الجبل يطلبني؛ فخرجت هاربًا، وهربت الجارية. فسقط الصبي منها فتقطّع، فقال عبيد الله: فأتيَ بابن سنوطي إلى محمد بعد حين ظهر، فقال: يا بن سنوطي، أتعرف حديث الصبي؟ قال: إي والله؛ إني لأعرفه، فأمر به فحبس؛ فلم يزل محبوسًا حتى قتل محمد. قال: وحدثني عبد العزيز بن زياد، قال: حدثني أبي قال: قال محمد: إني بالحرّة مصعد ومنحدر، إذا أنا برياح والخيل، فعدلت إلى بئر فوقفت بين قرنيها، فجعلت أستقي، فلقيني رياح صفحًا، فقال: قاتله الله أعرابيًا ما أحسن ذراعه! قال: وحدثني ابن زبالة، قال: حدثني عثمان بن عبد الرحمن الجهني عن عثمان بن مالك، قال: أذلق رياح محمدًا بالطلب؛ فقال لي: اغد بنا إلى مسجد الفتح ندع الله فيه. قال: فصليت الصبح، ثم انصرفت إليه، فغدونا وعلى محمد قميص غليظ ورداء قرقبي مفتول؛ فخرجنا من موضع كان فيه؛ حتى إذا كان قريبًا التفت، فإذا رياح في جماعة من أصحابه ركبان، فقلت له: هذا رياح؛ إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال غير مكترث به: امض؛ فمضيت وما تنقلني رجلاي، وتنحّى هو عن الطريق؛ فجلس وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب ردائه على وجهه - وكان جسيمًا - فلما حاذاه رياح التفت إلى أصحابه، فقال: امرأة رأتنا فاستحيت. قال: ومضيت حتى طلعت الشمس، وجاء رياح فصعد وصلى ركعتين، ثم انصرف من ناحية بطحان، فأقبل محمد حتى دخل المسجد، فصلى ودعا، ولم يزل محمد بن عبد الله ينتقل من موضع إلى موضع إلى حين ظهوره. ولما طال على المنصور أمره؛ ولم يقدر عليه وعبد الله بن حسن محبوس، قال عبد العزيز بن سعيد - فيما ذكر عن عيسى بن عبد الله، عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة - قال لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، أتطمع أن يخرج لك محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلّون! والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد. قال: فكان ذلك الذي هاجه على حبسهم. قال؛ ثم دعاه فقال: من أشار عليك بهذا الرأي؟ قال: فليح بن سليمان، فلما مات عبد العزيز ابن سعد - وكان عينًا لأبي جعفر وواليًا على الصدقات - وضع فليح بن سليمان في موضعه، وأمر أبو جعفر بأخذ بني حسن. قال عيسى: حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: أمر أبو جعفر رياحًا يأخذ بني حسن، ووجّه في ذلك أبا الأزهر المهري - قال: وقد كان حبس عبد الله بن حسن فلم يزل محبوسًا ثلاث سنين؛ فكان حسن بن حسن قد نصل خضابه تسلّيًا على عبد الله؛ فكان أبو جعفر يقول: ما فعلت الحادّة؟ قال: فأخذ رياح حسنًا وإبراهيم ابني حسن بن حسن، وحسن بن جعفر بن حسن بن حسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، ومحمدًا وإسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، أخذوه على بابه؛ فقالت أمه عائشة ابنة طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر: دعوني أشمّه، قالوا: لا والله؛ ما كنت حيةً في الدنيا؛ وعلي بن حسن بن حسن بن حسن العابد. قال: وحدثني إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم، قال: حبس معهم أبو جعفر عبد الله بن حسن بن حسن أخا علي. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: جهر رياح بشتم محمد وإبراهيم ابني عبد الله، وشتم أهل المدينة. قال: ثم قال يومًا وهو على المنبر يذكرهما: الفاسقين الخالعين الحاربين. قال: ثم ذكر ابنة أبي عبيدة أمهما، فأفحش لها، فسبّح الناس وأعظموا ما قال، فأقبل عليهم، فقال: إنكم لا كلنا عن شتمهما، ألصق الله بوجوهكم الذلّ والهوان! أما والله لأكتبنّ إلى خليفتكم فلأعلمنّه غشكم وقلة نصحكم. فقال الناس: لا نسمع منك يا بن المحدود؛ وبادروه بالحصى، فبادر واقتحم دار مروان وأغلق عليه الباب، وخرج الناس حتى صفّوا وجاهه، فرموه وشتموه ثم تناهوا وكفّوا. قال: وحدثني محمد بن يحيى؛ قال: حدثني الثقة عندي، قال: حبس معهم موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي وعلي بن محمد ابن عبد الله بن حسن بن حسن عند مقدمه من مصر. قال: وحدثني عبد الله بن عمر بن حبيب، قال: وجّه محمد بن عبد الله ابنه عليًّا إلى مصر، فدلّ عليه عاملها، وقد همّ بالوثوب، فشدّه وأرسل به إلى أبي جعفر؛ فاعترف له، وسمّى أصحاب أبيه، فكان فيمن سمّى عبد الرحمن ابن أبي الموالي وأبو حنين؛ فأمر بهما أبو جعفر فحبسا، وضرب أبو حنين مائة سوط. قال: وحدثني عيسى، قال: مرّ حسن بن حسن بن حسن على إبراهيم ابن حسن وهو يعلف إبلًا له؛ فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس! أطلق عقلها يا غلام، فأطلقها، ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها واحدة. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني علي بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، قال: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان هاهنا من بني حسين فليدخل؛ فقال لي عمتي عمر بن محمد: انظر ما يصنع القوم، قال: فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدّادون من باب مروان، فدعيَ بالقيود. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: كان رياح إذا صلى الصبح أرسل إلى وإلى قدامة بن موسى فيحدثنا ساعة؛ فإنا لعنده يومًا؛ فلما أسفرنا إذا برجل متلفّف في ساجٍ له؛ فقال له رياح: مرحبًا بك وأهلا، ما حاجتك؟ قال: جئت لتحبسني مع قومي؛ فإذا هو علي بن حسن بن حسن بن حسن، فقال: أما والله ليعرفنّها لك أمير المؤمنين، ثم حبسه معهم. قال: وحدثني يعقوب بن القاسم، قال: حدثني سعيد بن ناشرة مولى جعفر بن سليمان، قال: بعث محمد ابنه عليًّا، فأخذ بمصر، فمات في سجن أبي جعفر. قال: وحدثني موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن، قال: حدثني أبي، عن أبيه موسى بن عبد الله، قال: لما حبسنا ضاق الحبس بنا، فسأل أبي رياحًا أن يأذن له فيشتري دارًا، فيجعل حبسنا فيها، ففعل، فاشترى أبي دارًا فنقلنا إليها، فلما امتدّ بنا الحبس أتى محمد أمه هندًا فقال: إني قد حمّلت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به؛ ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم؛ فعسى أن يخلّى عنهم. قال: فتنكرت ولبست أطمارًا، ثم جاءت السجن كهيئة الرسول، فأذن لها، فلما رآها أبي أثبتها، فنهض إليها فأخبرته عن محمد، فقال: كلّا بل نصبر؛ فوالله إني لأرجو أن يفتح الله به خيرًا، قولي له: فليدع إلى أمره، وليجدّ فيه، فإن فرجنا بيد الله. قال: فانصرفت وتمّ محمد على بغيته. ذكر حمل ولد حسن بن حسن إلى العراق وفي هذه السنة حمل ولد حسن بن حسن بن علي من المدينة إلى العراق. ذكر الخبر عن سبب حملهم إلى العراق وما كان من أمرهم إذ حملوا ذكر عمر، قال: حدثني موسى بن عبد الله، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما حجّ أبو جعفر أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة ومالك بن أنس إلى أصحابنا، فسألهم أن يدفعوا محمدًا وإبراهيم ابني عبد الله، قال: فدخل علينا الرجلان وأبي قائم يصلّي، فأبلغاهم رسالته، فقال حسن بن حسن: هذا عمل ابني المشئومة، أما والله ما هذا برأينا، ولا عن ملأ منا؛ ولا لنا فيه حيلة. قال: فأقبل عليه إبراهيم، فقال: علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه؟ قال: وانصرف أبي من صلاته؛ فأبلغاه، فقال: لا والله لا أردّ عليكما حرفًا؛ إن أحب أن يأذن لي فألقاه فليفعل؛ فانصرف الرجلان فأبلغه، فقال: أراد أن يسخّرني؛ لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه. قال: وحدثني ابن زبالة، قال: سمعت بعض علمائنا يقول: ما سارّ عبد الله بن حسن أحدًا قطّ إلا فتله عن رأيه. قال: وحدثني موسى بن عبد الله، عن أبيه عن جده، قال: ثم سار أمير المؤمنين أبو جعفر لوجهه حاجًا، ثم رجع فلم يدخل المدينة؛ ومضى إلى الربذة حتى أتى ثنى رهوتها. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لم يزل بنو حسن محبوسين عند رياح حتى حجّ أبو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فتلقّاه رياح بالرّبذة، فردّه إلى المدينة، وأمره بإشخاص بني حسن إليه، وبإشخاص محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - وهو أخو بني حسن لأمهم. أمهم جميعًا فاطمة بنت حسين بن علي بن أبي طالب - فأرسل إليه رياح - وكان بماله ببدر - فحدرهم إلى المدينة، ثم خرج رياح ببني حسن ومحمد بن عبد الله بن عمرو إلى الربذة، فلما صار بقصر نفيس على ثلاثة أميال من المدينة، دعا بالحدّادين والقيود والأغلال، فألقى كلّ رجل منهم في كبل وغلّ، فضاقت حلقتا قيد عبد الله بن حسن بن حسن، فعضّتاه فتأوّه؛ فأقسم عليه أخوه علي بن حسن ليحوّلنّ حلقتيه عليه إن كانتا أوسع، فحوّلنا عليه، فمضى بهم رياح إلى الربذة. قال: وحدثني إبراهيم بن خالد، ابن أخت سعيد بن عامر، عن جويرية بن أسماء - وهو خال أمه - قال: لما حمل بنو حسن إلى أبي جعفر أتى بأقياد يقيدون بها، وعلي بن حسن بن حسن قائم يصلي. قال: وكان في الأقياد قيد ثقيل، فكلّما قرب إلى رجل منهم تفادى منه واستعفى. قال: فانقتل علي من صلاته، فقال: لشدّ ما جزعتم، شرعه هذا، ثم مدّ رجليه فقيّد به. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني عبد الله بن عمران، قال: الذي حدّرهم إلى الربّذة أبو الأزهر. قال عمر: حدثني ابن زبالة، قال: حدثني حسين بن زيد بن علي ابن حسين، قال: غدوت إلى المسجد، فرأيت بني حسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فانصرفت، فأرسل إلي جعفر ابن محمد فجئته، فقال: ما وراءك؟ فقلت: رأيت بني حسن يخرج بهم في محامل، قال: اجلس، فجلست، فدعا غلامًا له، ثم دعا ربه دعاء كثيرًا، ثم قال لغلامه: اذهب؛ فإذا حملوا فأت فأخبرني، فأتاه الرسول، فقال: قد أقبل بهم. قال: فقام جعفر بن محمد، فوقف من وراء ستر شعر يبصر من وراءه ولا يبصره أحد؛ فطلع بعبد الله بن حسن في محمل معادله مسود، وجميع أهل بيته كذلك. قال: فلما نظر إليهم جعفر هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا أبا عبد الله؛ والله لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء. قال: وحدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني مصعب بن عثمان، قال: لما ذهب ببني حسن لقيهم الحارث بن عامر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بالرّبذة، فقال: الحمد لله الذي أخرجكم من بلادنا، قال: فاشرأبّ له حسن بن حسن، فقال له عبد الله: عزمت عليك إلا سكتّ! قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني ابن أبرود حاجب محمد بن عبد الله قال: لما حمل بنو حسن، كان محمد وإبراهيم يأتيان معتمّين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويسائلانه ويستأذنانه في الخروج؛ فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك؛ ويقول: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين؛ فلا يمنعكما أن تموتا كريمين. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لما صار بنو حسن إلى الربّذة دخل محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على أبي جعفر، وعليه قميص وساج وإزار رقيق تحت قميصه؛ فلما وقف بين يديه، قال: إيهًا يا ديّوث! قال محمد: سبحان الله! والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرًا وكبيرًا، قال: فممّ حملت ابنتك؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن - وقد أعطيتني الأيمان بالطلاق والعتاق ألا تغشني ولا تمالىء علي عدوًا، ثم أنت تدخل على ابنتك متخضبّة متعطّرة، ثم تراها حاملًا فلا يروعك حملها! فأنت بين أن تكون حانثًا أو ديوثًا؛ وأيم الله إني لأهمّ برجمها، فقال محمد: أما أيماني فهي علي إن كنت دخلت لك في أمر غشّ علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية، فإن الله قد أكرمها عليه السلام ذلك بولادة رسول الله ﷺ إياها؛ ولكني قد ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين غفلة منا، فاحتفظ أبو جعفر من كلامه، وأمر بشق ثيابه، فشق قميصه عن إزاره، فأشفّ عن عورته، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط؛ فبلغت منه كلّ مبلغ، وأبو جعفر يفتري عليه ولا يكنى؛ فأصاب سوط منها وجهه. فقال له: ويحك! اكفف عن وجهي فإنّ له حرمةً من رسول الله ﷺ؛ قال: فأغرى أبو جعفر، فقال للجلاد: الرأس الرأس. قال: فضرب على رأسه نحوًا من ثلاثين سوطًا، ثم دعا بساجور من خشب شبيه به في طوله - وكان طويلًا - فشدّ في عنقه، وشدّت به يده؛ ثم أخرج به ملبّبًا، فلما طلع به من حجرة أبي جعفر؛ وثب إليه مولى له، فقال: بأبي أنت وأمي ألا ألوثك بردائي! قال: بلى جزيت خيرًا؛ فوالله لشفوف إزاري أشدّ علي من الضرب الذي نالني؛ فألقى عليه المولى الثوب، ومضى به إلى أصحابه المحبّسين. قال: وحدثني الوليد بن هشام، قال: حدثني عبد الله بن عثمان، عن محمد بن هاشم بن البريد، مولى معاوية، قال: كنت بالرّبذة، فأتيَ ببني حسن مغلولين، معهم العثماني كأنه خلق من فضّة، فأقعدوا، فلم يلبثوا حتى خرج رجل من عند أبي جعفر، فقال: أين محمد بن عبد الله العثماني؟ فقام فدخل، فلم يلبث أن سمعنا وقع السياط، فقال أيوب بن سلمة المخزومىّ لبنيه: يا بنىّ؛ إني لأرى رجلًا ليس لأحد عنده هوادة، فانظروا لأنفسكم؛ لا تسقطوا بشىء. قال: فأخرج كأنه زنجى قد غيّرت السياط لونه، وأسالت دمه، وأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت، فأقعد إلى جنب أخيه عبد الله بن حسن بن حسن، فعطش فاستسقّى ماء، فقال عبد الله بن حسن: يا معشر الناس، من يسقي ابن رسول الله شربة ماء؟ فتحاماه الناس فما سقوه حتى جاء خراساني بماء، فسلّه إليه فشرب، ثم لبثنا هنيهةً، فخرج أبو جعفر في يشقّ محمل، معادله الربيع في شقّه الأيمن، على بغلة شقراء، فناداه عبد الله: يا أبا جعفر؛ والله ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر! قال: فأخسأه أبو جعفر؛ وتفل عليه، ومضى ولم يعرّج. وذكر أن أبا جعفر لما دخل عليه محمد بن عبد الله العثماني سأله عن إبراهيم، فقال: ما لي به علم، فدقّ أبو جعفر وجهه بالجرز. وذكر عمر عن محمد بن أبي حرب، قال: لم يزل أبو جعفر جميل الرأي في محمد حتى قال له رياح: يا أمير المؤمنين؛ أمّا أهل خراسان فشيعتك وأنصارك، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، وأما أهل الشأم فوالله ما علي عندهم إلا كافر، وما يعتدّون بأحد من ولده؛ ولكنّ أخاهم محمد بن عبد الله ابن عمرو، ولو دعا أهل الشأم ما تخلف عنه منهم رجل. قال: فوقعت في نفس أبي جعفر، فلما حجّ دخل عليه محمد، فقال: يا محمد، أليس ابنتك تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن؟ قال: بلى؛ ولا عهد لي به إلا بمنىً في سنة كذا وكذا، قال: فهل رأيت ابنتك تختضب وتمتشط؟ قال: نعم، قال: فهي إذًا زانية، قال: مَهْ يا أمير المؤمنين! أتقول هذا لابنة عمّك! قال: يا بن اللخناء، قال: أي أمهاتي تلخّن! قال: يا بن الفاعلة، ثم ضرب وجهه بالجرز وحدده؛ وكانت رقية ابنة محمد تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن، ولها يقول: خليلي من قيس دعا اللوم واقعدا ** يسرّكما ألّا أنام وترقدا أبيت كأنّي مسعرٌ من تذكري رقية جمرًا من غضًا متوقدًا قال: وحدثني عيسى بن عبد الله بن محمد، قال: حدثني سليمان بن داود بن حسن؛ قال: ما رأيت عبد الله بن حسن جزع من شيء مما ناله إلّا يومًا واحدًا؛ فإنّ بعير محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان انبعث وهو غافل، لم يتأهّب له، وفي رجليه سلسلة، وفي عنقه زمّارة، فهوى، وعلقت الزمارة بالمحمل، فرأيته منوطًا بعنقه يضطرب؛ فرأيت عبد الله بن حسن قد بكى بكاء شديدًا. قال: وحدثني موسى بن عبد الله بن موسى، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما صرنا بالرّبذة، أرسل أبو جعفر إلى أبي أن أرسل إلي أحدكم؛ واعلم أنه غير عائد إليك أبدًا، فابتدره بنو إخوته يعرضون أنفسهم عليه، فجزاهم خيرًا، وقال: أنا أكره أن أفجعهم بكم؛ ولكن اذهب أنت يا موسى، قال: فذهبت وأنا يومئذ حديث السنّ، فلما نظر إلي قال: لا أنعم الله بك عينًا؛ السياط يا غلام قال: فضربت والله حتى غشيَ علي، فما أدرى بالضرب، فرفعت السياط عني، ودعاني فقرّبت منه واستقربني. فقال: أتدري ما هذا؟ هذا فيض فاض مني، فأفرغت منه سجلًا لم أستطع ردّه؛ ومن ورائه الموت أو تفتدي منه. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين؛ والله إن ما لي ذنب؛ وإني لبمعزل عن هذا الأمر. قال: فانطلق فأتني بأخويك، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، تبعثني إلى رياح بن عثمان فيضع علي العيون والرّصد، فلا أسلك طريقًا إلا تبعني له رسول، ويعلم ذلك أخواي فيهربان مني! قال: فكتب إلى رياح: لا سلطان لك على موسى، قال: وأرسل معي حرسًا أمرهم أن يكتبوا إليه بخبري، قال: فقدمت المدينة، فنزلت دار ابن هشام بالبلاط، فأقمت بها أشهرًا، فكتب إليه رياح: إنّ موسى مقيم بمنزله يتربّص بأمير المؤمنين الدوائر؛ فكتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فاحدره إلي، فحدرني. قال: وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني موسى، قال: أرسل أبي إلى أبي جعفر: إني كاتب إلى محمد وإبراهيم؛ فأرسل موسى عسى أن يلقاهما؛ وكتب إليهما أن يأتياه، وقال لي: أبلغهما عنّي فلا يأتياه أبدًا. قال: وإنما أراد أن يفلتني من يده - وكان أرقّ الناس علي، وكنت أصغر ولد هند - وأرسل إليهما: يا بني أميّة إني عنكما غان ** وما الغنى غير أني مرعش فان يا بني أمية إلّا ترحما كبري ** فإنما أنتما والثكل مثلان قال: فأقمت بالمدينة مع رسل أبي جعفر إلى أن استبطأني رياح، فكتب إلى أبي جعفر بذلك، فحدرني إليه. قال: وحدثني يعقوب بن القاسم بن محمد، قال: أخبرني عمران بن محرز من بني البكّاء، قال: خرج ببني حسن إلى الربذة، فيهم علي وعبد الله ابنا حسن بن حسن بن حسن، وأمّهما حبابة ابنة عامر بن عبد الله بن عامر ابن بشر بن عامر ملاعب الأسنة؛ فمات في السجن حسن بن حسن وعباس ابن حسن، وأمّه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله وعبد الله بن حسن وإبراهيم بن حسن. قال عمر: حدثني المدائني، قال: لما خرج ببني حسن، قال إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، قال عمر: وقد أنشدني غير أبي الحسن هذا الشعر لغالب الهمداني: ما ذكرك الدمنة القفار وأه ** ل الدار إمّا نأوك أو قربوا إلّا سفاهًا وقد تفرّعك الشّ ** يب بلونٍ كأنّه العطب ومر خمسون من سنيك كما ** عدّ لك الحاسبون إذا حسبوا فعد ذكر الشباب لست له ** ولا إليك الشباب منقلب إني عرتني الهموم فاحتضر ال ** همّ وسادى فالقلب منشعب واستخرج الناس للشقاء وخل ** فت لدهر بظهره حدب أعوج يستعذب اللئام به ** ويحتويه الكرام إن سربوا نفسي فدت شيبةً هناك وظن ** بوبًا به من قيوده ندب والسادة الغر من بنيه فما ** روقب فيه الإله والنسب يا حلق القيد ما تضمّن من ** حلم وبرّ يشوبه حسب وأمهات من العواتك أخ ** لصنك بيض عقائل عرب كيف اعتذاري إلى الإله ولم ** يشهرن فيك المأثورة القضب! ولم أقد غارة ململمة ** فيها بنات الصريح تنتحب والسابقات الجياد والأسل الذّ ** بّل فيهيا أسنة ذرب حتى نوفّى بني نتيلة بال ** قسط بكيل الصاع الذي احتلبوا بالقتل قتلًا وبالأسير الذي ** في القد أسرى مصفودة سلب أصبح آل الرسول أحمد في الن ** اس كذي عرّة به جرب بؤسًا لهم ما جنت أكفهم ** وأي حبل من أمّة قضبوا! وأي حبل خانوا المليك به ** شد بميثاق عقده الكذب وذكر عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: سمعت الجرّاح بن عمر وخاقان ابن زيد وغيرهما من أصحابنا يقولون: لما قدم بعبد الله بن حسن وأهله مقيّدين فأشرف بهم على النجف، قال لأهله: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية؟ قال: فلقيه ابنا أخي الحسن وعلي مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يا بن رسول الله، فمرنا بالذي تريد، قال: قد قضيتما، ولن تغنيا في هؤلاء شيئًا فانصرفا. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: أمر أبو جعفر أبا الأزهر فحبس بني حسن بالهاشميّة. قال: وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدثني محمد بن إبراهيم، قال: أتى بهم أبو جعفر، فنظر إلى محمد بن إبراهيم بن حسن، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قال: نعم، قال: أما والله لأقتلنّك قتلة ما قتلتها أحدًا من أهل بيتك، ثم أمر بأسطوانة مبنيّة ففرقت، ثم أدخل فيها فبنى عليه وهو حي. قال محمد بن الحسن: وحدثني الزبير بن بلال، قال: كان الناس يختلفون إلى محمد ينظرون إلى حسنه. قال عمر: وحدثني عيسى، قال: حدثني عبد الله بن عمران، قال: أخبرني أبو الأزهر، قال: قال لي عبد الله بن حسن: ابغني حجّامًا، فقد احتجت إليه، فاستأذنت أمير المؤمنين، فقال: آتيه بحجام مجيد. قال: وحدثني الفضل بن دكين أبو نعيم، قال: حبس من بني حسن ثلاثة عشر رجلًا، وحبس معهم العثماني وابنان له في قصر ابن هبيرة؛ وكان في شرقي الكوفة مما يلي بغداد؛ فكان أوّل من مات منهم إبراهيم ابن حسن، ثم عبد الله بن حسن، فدفن قريبًا من حيث مات؛ وإلا يكن بالقبر الذي يزعم الناس أنه قبره؛ فهو قريب منه. وحدثني محمد بن أبي حرب، قال: كان محمد بن عبد الله بن عمرو محبوسًا عند أبي جعفر، وهو يعلم براءته؛ حتى كتب إليه أبو عون من خراسان: أخبر أمير المؤمنين أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا عنّي، وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله؛ فأمر أبو جعفر عند ذلك بمحمّد بن عبد الله بن عمرو، فضربت عنقه، وأرسل برأسه إلى خراسان؛ وأقسم لهم أنه رأس محمد بن عبد الله، وأنّ أمه فاطمة بنت رسول الله ﷺ. قال عمر: فحدثني الوليد بن هشام، قال: حدثني أبي، قال: لما صار أبو جعفر بالكوفة، قال: ما أشتفي من هذا الفاسق من أهل بيت فسق، فدعا به، فقال: أزوّجت ابنتك ابن عبد الله؟ قال: لا، قال: أفليست بامرأته؟ قال: بلى زوّجها إيّاه عمّها وأبوه عبد الله بن حسن فأجزت نكاحه، قال: فأين عهودك التي أعطيتني؟ قال: هي علي، قال: أفلم تعلم بخضاب! ألم تجد ريح طيب! قال: لا علم لي؛ قد علم القوم ما لك علي من المواثيق فكتموني ذلك كله، قال: هل لك أن تستقيلني فأقيلك، وتحدث لي أيمانًا مستقبلة؟ قال: ما حنثت بأيماني فتجدّدها علي، ولا أحدثت ما أستقيلك منه فتقيلني؛ فأمر به فضرب حتى مات، ثم احتزّ رأسه؛ فبعث به إلى خراسان؛ فلما بلغ ذلك عبد الله بن حسن، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله إن كنّا لنأمن به في سلطانهم، ثم قد قتل بنا في سلطاننا. قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني مسكين بن عمرو، قال: لما ظهر محمد بن عبد الله بن حسن، أمر أبو جعفر بضرب عنق محمد ابن عبد الله بن عمرو، ثم بعث به إلى خراسان؛ وبعث معه الرجال يحلفون بالله إنه لمحمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله ﷺ. قال عمر: فسألت محمد بن جعفر بن إبراهيم، في أي سبب قتل محمد بن عمرو؟ قال: احتيج إلى رأسه. قال عمر: وحدثني محمد بن أبي حرب، قال: كان عون بن أبي عون خليفة أبيه بباب أمير المؤمنين؛ فلما قتل محمد بن عبد الله بن حسن وجّه أبو جعفر برأسه إلى خراسان، إلى أبي عون مع محمد بن عبد الله بن أبي الكرام وعون بن أبي عون؛ فلما قدم به ارتاب أهل خراسان، وقالوا: أليس قد قتل مرّة وأتينا برأسه! قال: ثم تكشّف لهم الخبر حتى علموا حقيقته؛ فكانوا يقولون: لم يطّلَع من أبي جعفر على كذبةٍ غيرها. قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: كنا نأتي أبا الأزهر ونحن بالهاشميّة أنا والشعباني، فكان أبو جعفر يكتب إليه: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي الأزهر مولاه، ويكتب أبو الأزهر إلى أبي جعفر: من أبي الأزهر مولاه وعبده؛ فلما كان ذات يوم ونحن عنده - وكان أبو جعفر قد ترك له ثلاثة أيام لا ينوبها؛ فكنّا نخلو معه في تلك الأيام - فأتاه كتاب من أبي جعفر، فقرأه ثم رمى به، ودخل إلى بني حسن وهم محبوسون.. قال: فتناولت الكتاب وقرأته؛ فإذا فيه: انظر يا أبا الأزهر ما أمرتك به في مدلّهٍ فعجّله وأنفذه. قال: وقرأ الشعباني الكتاب فقال: تدري من مدلّه؟ قلت: لا، قال: هو والله عبد الله بن حسن، فانظر ما هو صانع. قال: فلم نلبث أن جاء أبو الأزهر، فجلس فقال: قد والله هلك عبد الله بن حسن، ثم لبث قليلًا ثم دخل وخرج مكتئبًا، فقال: أخبرني عن علي بن حسن، أيُّ رجل هو؟ قلت: أمصدّقٌ أنا عندك؟ قال: نعم، وفوق ذلك؛ قال: قلت: هو والله خير من تقلّه هذه وتظلّه هذه! قال: فقد والله ذهب. قال: وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: سمعت جدّي موسى بن عبد الله يقول: ما كنّا نعرف أوقات الصلاة في الحبس إلا بأحزاب كان يقرؤها علي بن حسن. قال عمر: وحدثني ابن عائشة، قال: سمعت مولىً لبني دارم، قال: قلت لبشير الرحال ما يسرعك إلى الخروج على هذا الرجل؟ قال: إنه أرسل إلي بعد أخذه عبد الله بن حسن فأتيته، فأمرني يومًا بدخول بيت فدخلته، فإذا بعبد الله بن حسن مقتولًا، فسقطت مغشيًا علي، فلما أفقت أعطيت الله عهدًا ألّا يختلف في أمره سيفان إلا كنت مع الذي عليه منهما. وقلت للرسول الذي معي من قبله: لا تخبره بما لقيت؛ فإنه إن علم قتلني. قال عمر: فحدثت به هشام بن إبراهيم بن هشام بن راشد من أهل همذان. وهو العباسي أن أبا جعفر أمر بقتله، فحلف بالله ما فعل ذلك؛ ولكنّه دسّ إليه من أخبره أن محمدًا قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه، فمات. قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: قال من بقي منهم: إنهم كانوا يسقون؛ فماتوا جميعًا إلا سليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن وإسحاق وإسماعيل ابني إبراهيم بن حسن بن حسن، وجعفر بن حسن، فكان من قتل منهم إنما قتل بعد خروج محمد. قال عيسى: فنظرت مولاة لآل حسن إلى جعفر بن حسن، فقالت: بنفسي أبو جعفر! ما أبصره بالرجال حيث يطلقك وقتل عبد الله بن حسن! ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت في سنة أربع وأربعين ومائة فمن ذلك ما كان من حمل أبي جعفر المنصور بني حسن بن حسن بن علي من المدينة إلى العراق. ذكر الخبر عن سبب حمله إياهم إلى العراق حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: لما ولّى أبو جعفر رياح بن عثمان بن حيّان المري المدينة، أمره بالجدّ في طلب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن وقلة الغفلة عنهما. قال محمد بن عمر: فأخبرني عبد الرحمن بن أبي الموالي؛ قال: فجدّ رياح في طلبهما ولم يداهن، واشتدّ في ذلك كلّ الشدّة حتى خافا؛ وجعلا ينتقلان من موضع إلى موضع، واغتمّ أبو جعفر من بغّيهما؛ وكتب إلى رياح ابن عثمان: أن يأخذ أباهما عبد الله بن حسن وإخوته: حسن بن حسن وداود ابن حسن وإبراهيم بن حسن، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان - وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت حسين - في عدّة منهم، ويشدّهم وثاقًا، ويبعث بهم إليه حتى يوافوه بالرّبذة. وكان أبو جعفر قد حجّ تلك السنة وكتب إليه أن يأخذني معهم فيبعث بي إليه أيضًا. قال: فأدركت وقد أهللت بالحجّ، فأخذت فطرحت في الحديد، وعورض بي الطريق حتى وافيتهم بالرّبذة. قال محمد بن عمر: أنا رأيت عبد الله بن حسن وأهل بيته يخرجون من دار مروان بعد العصر وهم في الحديد؛ فيحملون في المحامل؛ ليس تحتهم وطاء؛ وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام، أحفظ ما أرى. قال محمد بن عمر: قال عبد الرحمن بن أبي الموالي: وأخذ معهم نحو من أربعمائة، من جهينة ومزينة وغيرهم من القبائل؛ فأراهم بالرّبذة مكتّفين في الشمس. قال: وسجنت مع عبد الله بن حسن وأهل بيته. ووافى أبو جعفر الربذة منصرفًا من الحجّ، فسأل عبد الله بن حسن أبا جعفر أن يأذن له في الدخول عليه، فأبى أبو جعفر؛ فلم يره حتى فارق الدنيا. قال: ثم دعاني أبو جعفر من بينهم، فأقعدت حتى أدخلت - وعنده عيسى بن علي - فلما رآني عيسى، قال: نعم؛ هو هو يا أمير المؤمنين؛ وإنْ أنت شددت عليه أخبرك بمكانهم. فسلّمت، فقال أبو جعفر: لا سلّم الله عليك! أين الفاسقان ابنا الفاسق الكذابان ابنا الكذاب؟ قال: قلت: هل ينفعني الصدق يا أمير المؤمنين عندك؟ قال: وما ذاك؟ قال: امرأته طالق، وعلي وعلي، إن كنت أعرف مكانهما! قال: فلم يقبل ذلك مني، وقال: السياط! وأقمت بين العقابين، فضربني أربعمائة سوط؛ فما عقلت بها حتى رفع عني، ثم حملت إلى أصحابي على تلك الحال، ثم بعث إلى الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان؛ وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فلما أدخل عليه قال: أخبرني عن الكذّابين ما فعلا؟ وأين هما؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم، قال: لتخبرنّي، قال: قد قلت لك وإني والله لصادق؛ ولقد كنت أعلم علمهما قبل اليوم؛ وأما اليوم فمالي والله بهما علم. قال: جرّدوه، فجُرّد فضربه مائة سوط، وعليه جامعة حديد في يده إلى عنقه؛ فلمّا فرغ من ضربه أخرج فألبس قميصًا له قوهيًّا على الضرب، وأتيَ به إلينا؛ فوالله ما قدروا على نزع القميص من لصوقه بالدم، حتى حلبوا عليه شاة، ثم انتزع القميص ثم داووه. فقال أبو جعفر: احدروا بهم إلى العراق، فقدم بنا إلى الهاشميّة، فحبسنا بها؛ فكان أوّل من مات في الحبس عبد الله ابن حسن؛ فجاء السجان فقال: ليخرج أقربكم به فليصلّ عليه؛ فخرج أخوه حسن بن حسن بن حسن بن علي عليهم السلام، فصلّى عليه. ثم مات محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فأخذ رأسه، فبعث به مع جماعة من الشيعة إلى خراسان؛ فطافوا في كورخراسان، وجعلوا يحلفون بالله أنّ هذا رأس محمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله ﷺ؛ يوهمون الناس أنه رأس محمد بن عبد الله بن حسن؛ الذي كانوا يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية. وكان والي مكة في هذه السنة السري بن عبد الله، ووالي المدينة رياح ابن عثمان المرّي، ووالي الكوفة عيسى بن موسى، ووالي البصرة سفيان بن معاوية. وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم. ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك خروج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة، وخروج أخيه إبراهيم بن عبد الله بعده بالبصرة ومقتلهما. ذكر الخبر عن مخرج محمد بن عبد الله ومقتله ذكر عمر أنّ محمد بن يحيى حدثه، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لما انحدر أبو جعفر ببني حسن، رجع رياح إلى المدينة، فألحّ في الطلب، وأخرج محمدًا حتى عزم على الظهور. قال عمر: فحدثت إبراهيم بن محمد بن عبد الله الجعفري أن محمدًا أحرج، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم، فأنكر ذلك، وقال: ما زال محمد يطلب أشدّ الطلب حتى سقط ابنه فمات وحتى رهقه الطلب، فتدلّى في بعض آبار المدينة يناول أصحابه الماء، وقد انغمس فيه إلى رأسه، وكان بدنه لا يخفى عظمًا؛ ولكن إبراهيم تأخّر عن وقته لجدرىً أصابه. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: تحدث أهل المدينة بظهور محمد؛ فأسرعنا في شراء الطعام حتى باع بعضهم حلي نسائه؛ وبلغ رياحًا أنّ محمدًا أتى المذاد، فركب في جنده يريده وقد خرج قبله محمد يريده، ومعه جبير بن عبد الله السلمي وجبير ابن عبد الله بن يعقوب بن عطاء وعبد الله بن عامر الأسلمي؛ فسمعوا سقّاءةً تحدث صاحبتها أنّ رياحًا قد ركب يطلب محمدًا بالمذاد، وأنه قد سار إلى السوق، فدخلوا دارًا لجهينة وأجافوا بابها عليهم، ومرّ رياح على الباب لا يعلم بهم، ثم رجع إلى دار مروان؛ فلما حضرت العشاء الأخيرة صلى في الدار ولم يخرج. وقيل: إنّ الذي أعلم رياحًا بمحمد سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة من بني عامر بن لؤي. وذكر عن الفضل بن دكين، قال: بلغني أن عبيد الله بن عمرو بن أبي ذؤيب وعبد الحميد بن جعفر دخلوا على محمد قبل خروجه، فقالوا له: ما ننتظر بالخروج! والله ما نجد في هذه الأمة أحدًا أشأم عليها منك. ما يمنعك أن تخرج وحدك! قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: بعث إلينا رياح فأتيته أنا وجعفر بن محمد بن علي بن حسين، وحسين بن علي بن حسين بن علي، وعلي بن عمر بن علي بن حسين بن علي، وحسن بن علي بن حسين ابن علي بن حسين بن علي ورجال من قريش؛ منهم إسماعيل بن أيوب ابن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة، ومعه ابنه خالد، فإنّا لعنده في دار مروان إذ سمعنا التكبير قد حال دون كلّ شيء، فظنناه من عند الحرس، وظنّ الحرس أنه من الدار. قال: فوثب ابن مسلم بن عقبة - وكان مع رياح - فاتّكأ على سيفه، فقال: أطعني في هؤلاء فاضرب أعناقهم؛ فقال علي بن عمر: فكدنا والله تلك الليلة أن نطيح حتى قام حسين بن علي، فقال: والله ما ذاك لك؛ إنّا على السمع والطاعة. قال: وقام رياح ومحمد بن عبد العزيز، فدخلا جنبذًا في دار يزيد؛ فاختفيا فيه، وقمنا فخرجنا من دار عبد العزيز ابن مروان حتى تسوّرنا على كبًا كانت في زقاق عاصم بن عمرو، فقال إسماعيل بن أيوب لابنه خالد: يا بني، والله ما تجيبني نفسي إلى الوثوب، فارفعني، فرفعه. وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني أبي قال: جاء الخبر إلى رياح وهو في دار مروان أنّ محمدًا خارج الليلة، فأرسل إلى أخي محمد بن عمران وإلى العباس بن عبد الله بن الحارث ابن العباس وإلى غير واحد. قال: فخرج أخي وخرجت معه؛ حتى دخلنا عليه بعد العشاء الآخرة، فسلمنا عليه فلم يردّ علينا، فجلسنا فقال أخي: كيف أمسى الأمير أصلحه الله! قال: بخير - بصوت ضعيف - قال: ثم صمت طويلًا ثم تنبّه، فقال: إيهًا يأهل المدينة! أمير المؤمنين يطلب بغيته في شرق الأرض وغربها؛ وهو ينتفق بين أظهركم! أقسم بالله لئن خرج لا أترك منكم أحدًا إلا ضربت عنقه. فقال أخي: أصلحك الله! أنا عذيرك منه. هذا والله الباطل، قال: فأنت أكثر من ها هنا عشيرة؛ وأنت قاضي أمير المؤمنين، فادعُ عشيرتك. قال: فوثب أخي ليخرج، فقال: اجلس، اذهب أنت يا ثابت، فوثبت، فأرسلت إلى بني زهرة ممن يسكن حشّ طلحة ودار سعد ودار بني أزهر: أن أحضروا سلاحكم. قال: فجاء منهم بشر، وجاء إبراهيم بن يعقوب بن سعد بن أبي وقاص متنكبًا قوسًا - وكان من أرمى الناس - فلما رأيت كثرتهم، دخلت على رياح، فقلت: هذه بنو زهرة في السلاح يكونون معك، ائذن لهم. قال: هيهات! تريد أن تدخل علي الرجال طروقًا في السلاح، قل لهم: فليجلسوا في الرحبة؛ فإن حدث شيء فليقاتلوا، قال: قلت لهم: قد أبى أن يأذن لكم، لا والله ما ها هنا شيء، فاجلسوا بنا نتحدث. قال: فمكثنا قليلًا، فخرج العباس بن عبد الله بن الحارث في خيل يعس حتى جاء رأس الثنيّة، ثم انصرف إلى منزله وأغلقه عليه؛ فوالله إنا لعلى تلك الحال إذ طلع فارسان من قبل الزوراء يركضان؛ حتى وقفا بين دار عبد الله بن مطيع ورحبة القضاء في موضع السقاية. قال: قلنا: شرّ الأمر والله جدّ. قال: ثم سمعنا صوتًا بعيدًا، فأقمنا ليلًا طويلًا، فأقبل محمد بن عبد الله من المذاد ومعه مائتان وخمسون رجلًا، حتى إذا شرع على بني سلمة وبطحان، قال: اسلكوا بني سلمة إن شاء الله. قال: فسمعنا تكبيرًا؛ ثم هدأ الصوت فأقبل حتى إذا خرج من زقاق ابن حبين استبطن السوق حتى جاء على التمارين؛ حتى دخل من أصحاب الأقفاص، فأتى السجن وهو يومئذ في دار ابن هشام، فدّقه، وأخرج من كان فيه، ثم أقبل حتى إذا كان بين دار يزيد ودار أويس نظرنا إلى هول من الهؤل. قال: فنزل إبراهيم بن يعقوب، ونكب كنانته وقال: أرمي؟ فقلنا: لا تفعل، ودار محمد بالرحبة، حتى جاء بيت عاتكة بنت يزيد، فجلس على بابها، وتناوش الناس حتى قتل رجل سندي كان يستصبح في المسجد، قتله رجل من أصحاب محمد. قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، أخبرني جهم بن عثمان؛ قال: خرج محمد من المذاد على حمار ونحن معه، فولّى خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير الرجالة، وولّى عبد الحميد بن جعفر الحربة، وقال: اكفنيها، فحملها ثم استعفاه منها فأعفاه؛ ووجّهه مع ابنه حسن بن محمد. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني جعفر بن عبد الله بن يزيد بن ركانة قال: بعث إبراهيم بن عبد الله إلى أخيه بحملي سيوف، فوضعها بالمذاد، فأرسل إلينا ليلة خرج: وما نكون؟ مائة رجل! وهو على حمار أعرابي أسود، فافترق طريقان: طريق بطحان وطريق بني سلمة، فقلنا له: كيف نأخذ؟ قال: على بني سلمة، يسلمكم الله؛ قال: فجئنا حتى صرنا بباب مروان. قال: وحدثني محمد بن عمرو بن رتبيل بن نهشل أحد بني يربوع، عن أبي عمرو المديني - شيخ من قريش - قال: أصابتنا السماء بالمدينة أيامًا، فلما أقلعت خرجت في غبّها متمطّرًا، فانتسأت عن المدينة؛ فإنّي لفي رحلي إذا هبط علي رجل لا أدري من أين أتى، حتى جلس إلي، وعليه أطمار له درنة وعمامة رثّة، فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من غنيمة لي أوصيت راعيها بحاجة لي، ثم أقبلت أريد أهلي. قال: فجعلت لا أسلك من العلم طريقًا إلا سبقني إليه وكثّرني فيه، فجعلت أعجب له ولما يأتي به، قلت: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، قلت: أجل، فمن أيهم أنت؟ قال: لا عليك؛ ألا تريد؟ قلت: بلى علي ذلك؛ فمن أنت؟ قال: فوثب وقال: منخرق الخفّين يشكو الوجى الأبيات الثلاثة. قال: ثم أدبر فذهب؛ فوالله ما فات مدى بصري حتى ندمت على تركه قبل معرفته؛ فاتبعته لأسأله؛ فكأنّ الأرض التأمت عليه، ثم رجعت إلى رحلي، ثم أتيت المدينة فما غبرت إلّا يومي وليلتي؛ حتى شهدت صلاة الصبح بالمدينة، فإذا رجل يصلّي بنا، لا أعرف صوته، فقرأ: " إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا "، فلما انصرف صعد المنبر، فإذا صاحبي، وإذا هو محمد بن عبد الله بن حسن. قال: وحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن هود مولى قريش، قال: سمعت إسماعيل بن الحكم بن عوانة يخبر عن رجل قد سمّاه بشبيهة بهذه القصة. قال إسماعيل: فحدثت بها رجلًا من الأنبار يكنى أبا عبيد؛ فذكر أن محمدًا - أو إبراهيم - وجّه رجلًا من بني ضبة - فيما يحسب إسماعيل بن إبراهيم بن هود - ليعلم له بعض علم أبي جعفر، فأتى الرجل المسيّب وهو يومئذ على الشرط، فمتّ إليه برحمه، فقال المسيّب: إنه لا بدّ من رفعك إلى أمير المؤمنين. فأدخله على أبي جعفر فاعترف، فقال: ما سمعته يقول؟ قال: شرّده الخوف فأزرى به ** كذاك من يكره حرّ الجلاد قال أبو جعفر: فأبلغه أنا نقول: وخطّة ذلّ نجعل الموت دونها ** نقول لها للموت أهلًا ومرحبا وقال: انطلق فأبلغه. قال عمر: وحدثني أزهر بن سعيد بن نافع - وقد شهد ذلك - قال: خرج محمد في أول يوم من رجب سنة خمس وأربعين ومائة، فبات بالمذاد هو وأصحابه، ثم أقبل في الليل، فدقّ السجن وبيت المال، وأمر برياح وابن مسلم فحبسا معًا في دار ابن هشام. قال: وحدثني يعقوب بن القاسم، قال: حدثني علي بن أبي طالب، قال: خرج محمد لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة. وحدثني عمر بن راشد، قال: خرج لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، فرأيت عليه ليلة خرج قلنسوة صفراء مضريّة وجبّة صفراء، وعمامة قد شدّ بها حقويه وأخرى قد اعتمّ بها، متوشحًا سيفًا، فجعل يقول لأصحابه: لا تقتلوا، لا تقتلوا. فلما امتنعت منهم الدار، قال: ادخلوا من باب المقصورة، قال: فاقتحموا وحرّقوا باب الخوخة التي فيها، فلم يستطع أحد أن يمرّ، فوضع رزام مولى القسري ترسه على النار، ثم تخطّى عليه، فصنع الناس ما صنع، ودخلوا من بابها، وقد كان بعض أصحاب رياح مارسوا على الباب، وخرج من كان مع رياح في الدار من دار عبد العزيز من الحمام، وتعلّق رياح في مشربة في دار مروان، فأمر بدرجها فهدمت، فصعدوا إليه، فأنزلوه وحبسوه في دار مروان، وحبسوا معه أخاه عباس بن عثمان. وكان محمد بن خالد وابن أخيه النذير بن يزيد ورزام في الحبس، فأخرجهم محمد، وأمر النذير بالاستيثاق من رياح وأصحابه. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: حبس محمد رياحًا وابن أخيه وابن مسلم بن عقبة في دار مروان. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت، عن خاله راشد بن حفص، قال: قال رزام للنذير: دعني وإياه فقد رأيت عذابه إياي. قال: شأنك وإياه، ثم قام ليخرج، فقال له رياح: يا أبا قيس؛ قد كنت أفعل بكم ما كنت أفعل؛ وأنا بسؤددكم عالم. فقال له النذير: فعلت ما كنت أهله، ونفعل ما نحن أهله، وتناوله رزام فلم يزل به رياح يطلب إليه حتى كفّ، وقال: والله إن كنت لبطرًا عند القدرة، لئيمًا عند البلية. قال: وحدثني موسى بن سعيد الجمحي، قال: حبس رياح محمد ابن مروان بن أبي سليط من الأنصار، ثم أحد بني عمرو بن عوف، فمدحه وهو محبوس، فقال: وما نسي الذمام كريم قيس ** ولا ملقى الرجال إلى الرجال إذا ما الباب قعقعه سعيد ** هدجنا نحوه هدج الرئال دبيب الذر تصبح حين يمشي ** قصار الخطو غير ذوي اختيال قال: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني إسماعيل بن يعقوب التيمي قال: صعد محمد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس؛ فإنه كان من أمر هذا الطاغية عدوّ الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم؛ من بنائه القبّة الخضراء التي بناها معاندًا لله في ملكه، وتصغيرًا للكعبة الحرام؛ وإنما أخذ الله فرعون حين قال: " أنا ربكم الأعلى " وإن أحقّ الناس بالقيام بهذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين. اللهمّ إنّهم قد أحلّوا حرامك، وحرّموا حلالك، وآمنوا من أخفت، وأخافوا من آمنت. اللهمّ فأحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا. أيّها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوّة ولا شدّة. ولكني اخترتكم لنفسي؛ والله ما جئت هذه وفي الأرض مصرٌ يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة. قال: وحدثني موسى بن عبد الله، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما وجّهني رياح بلغ محمدًا فخرج من ليلته؛ وقد كان رياح تقدّم إلى الأجناد الّذين معي، إن اطّلع عليهم من ناحية المدينة رجل أن يضربوا عنقي؛ فلما أتي محمد برياح، قال: أين موسى؟ قال: لا سبيل إليه، والله لقد حدرته إلى العراق. قال: فأرسل في أثره فرّده. قال: قد عهدت إلى الجند الذين معه إن رأوا أحدًا مقبلًا من المدينة أن يقتلوه. قال: فقال محمد لأصحابه: من لي بموسى؟ فقال ابن خضير: أنا لك به. قال: فانظر رجالًا؛ فانتخب رجالًا ثم أقبل. قال: فوالله ما راعنا إلّا وهو بين أيدينا؛ كأنما أقبل من العراق، فلما نظر إليه الجند قالوا: رسل أمير المؤمنين، فلما خالطونا شهروا السلاح، فأخذني القائد وأصحابه، وأناخ بي وأطلقني من وثاقي، وشخص بي حتى أقدمني على محمد. قال عمر: حدثني علي بن الجعد، قال: كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسن قوّاده يدعونه إلى الظهور، ويخبرونه أنهم معه؛ فكان محمد يقول: لو التقينا مال إلي القوّاد كلهم. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق. قال: لما أخذ محمد المدينة استعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى الشرط أبا القلمّس عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وبعث إلى محمد بن عبد العزيز: إني كنت لأظنك ستنصرنا، وتقيم معنا. فاعتذر إليه وقال: أفعل؛ ثم انسلّ منه فأتى مكة. قال: وحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن هود، قال: حدثني سعيد بن يحيى أبو سفيان اعلحميري، قال: حدثني عبد الحميد بن جعفر، قال: كنت على شُرط محمد بن عبد الله حتى وجّهني وجهًا، وولى شرطه الزبيري. قال: وحدثني أزهر بن سعيد بن نافع، قال: لم يتخلّف عن محمد أحد من وجوه الناس إلّا نفر؛ منهم الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام، وأبو سلمة بن عبيد الله ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب وخبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير. قال: وحدثني يعقوب بن القاسم، قال: حدثتني جدّتي كلثم بنت وهب، قالت: لما خرج محمد تنحّى أهل المدينة، فكان فيمن خرج زوجي عبد الوهاب بن يحيى بن عباد بن عبد هه بن الزبير إلى البقيع، فاختبأت عند أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبد الله بن عباس. قالت: فكتب إلي عبد الوهاب بأبيات قالها، فكتبت إليه: رحم الله شبابًا ** قاتلوا يوم الثنيّهْ قاتلوا عنه: بُنيَّا ** تٌ وأحسابٌ نقيّهْ فرّ عنه الناس طُرًّا ** غير خيل أسديّهْ قالت: فزاد الناس: قتل الرحمن عيسى ** قاتل النفس الزكيّه قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم ابن سنان الحكمي أخو الأنصار، قال: أخبرني غير واحد أنّ مالك بن أنس استفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: إنّ في أعناقنا بيعةً لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على كل مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته. وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني ابن أبي مليكة مولى عبد الله ابن جعفر، قال: أرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر - وقد كان بلغ عمرًا - فدعاه محمد حين خرج إلى البيعة، فقال: يا بن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك! فارتدع الناس عنه قليلًا، وكان بنو معاوية قد أسرعوا إلى محمد، فأتته حمادة بنت معاوية، فقالت: يا عمّ، إن أخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبّطت عنه الناس، فيقتل ابن خالي وإخوتي. قال: فأبى الشيخ إلّا النهي عنه؛ فيقال: إنّ حمّادة عدت عليه فقتلته؛ فأراد محمد الصلاة عليه، فوثب عليه عبد الله بن إسماعيل، فقال: تأمر بقتل أبي ثم تصلي عليه! فنحّاه الحرس، وصلى عليه محمد. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: أتيَ محمد بعبيد الله ابن الحسيين بن علي بن الحسين بن علي مغمضًا عينيه، فقال: إن علي يمينًا إن رأيته لأقتللنّه. فقال عيسى بن زيد: دعني أضرب عنقه، فكفّه عنه محمد. قال: وحدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني محمد بن معن، قال: حدثني محمد بن خال القسري، قال: لما ظهر محمد وأنا في حبس ابن حيّان أطلقنيي؛ فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حقّ؛ والله لأبلينّ الله فيها بلاء حسنًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد خرجت في هذا البلد؛ والله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعًا وعطشًا؛ فانهض معي؛ فإنما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف. فأبى علي؛ فإني لعنده يومًا إذ قال لي: ما وجدنا من حرّ المتاع شيئًا أجود من شيء وجدناه عند ابن أبي فروة، ختن أبي الخصيب - وكان انتهبه - قال: فقلت: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع! فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلة من معه، فعطف علي، فحبسني حتى أطلقني عيسى بن موسى بعد قتله إياه. قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني أختي بريكة بنت عبد الحمييد، عن أبيها، قال: إني لعند محمد يومًا ورجله في حجري؛ إذ دخل عليه خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير، فسلم عليه، فردّ عليه سلامًا ليس بالقوي، ثم دخل عليه شابٌ من قريش، فسلّم عليه فأحسن الردّ عليه، فقلت: ما تدع عصبيّتك بعد! قال: وما ذلك؟ قلت: دخل عليك سيد الأنصار فسلم فرددت عليه ردًا ضعيفًا، ودخل عليك صعلوك من صعاليك قريش فسلّم فاحتفلت في الردّ عليه! فقال: ما فعلت ذاك؛ ولكنّك تفقدت مني ما لا يتفقد أحد من أحد. قال: وحدثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: استعمل محمد الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على مكة، ووجّه معه القاسم بن إسحاق واستعمله على اليمن. قال: وحدثني محمد بن إسماعيل عن أهله، أن محمدًا استعمل القاسم ابن إسحاق على اليمن وموسى بن عبد الله على الشأم، يدعوان إلهي؛ فقُتل قبل أن يصلا. قال: وحدثني أزهر بن سعيد، قال: استعمل محمد حين ظهر عبد العزيز ابن الدراوردي على السلاح. قال: وأخبرني محمد بن يحيى ومحمد بن الحسن بن زبالة وغيرهما، قالوا: لما ظهر محمد، قال ابن هرمة - وقد أنشد بعضهم ما لم ينشد غيره لأبي جعفر: غلبت على الخلافة من تمنّى ** ومنّاه المضلّ بها الضلول فأهلك نفسه سفهًا وجبنًا ** ولم يقسم له منها فتيل ووازره ذوو طمع فكانوا ** غثاء السيل يجمعه السيول دعوا إبليس إذ كذبوا وجاروا ** فلم يصرخهم المغوي الخذول وكانوا أهل طاعته فولّى ** وسار وراءه منهم قبيل وهم لم يقصروا فيها بحقّ ** على أثر المضلّ ولم يطيلوا وما الناس احتبوك بها ولكن ** حباك بذلك الملك الجليل تراث محمد لكم وكنتم ** أصول الحقّ إذ نفي الأصول قال: وحدثني محمود بن معمر بن أبي الشدائد الفزاري وموهوب بن رشيد ابن حيان الكلابي، قال: قال أبو الشدائد لما ظهر محمد وتوجّه إليه عيسى: أتتك النجائب والمقربات ** بعيسى بن موسى فلا تعجل قال: وحدثني عيسى، قال: كان محمد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيمًا عظيميًا؛ وكان يلقب القاري من أدمته، حتى كان أبو جعفر يدعوه محمّمًا. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني إبراهيم بن زياد بن عنبسة، قال: ما رأيت محمدًا رقيَ المنبر قطّ إلا سمعت بقعقعة من تحته؛ وإني لبمكاني ذلك. قال: وحدثني عبد الله بن عمر بن حبيب، قال: حدثني من حضر محمدًا على المنبر يخطب؛ فاعترض بلغم في حلقه فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، ثم عاد فتنحنح ثم نظر فلم ير موضعًا؛ فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به. قال: وحدثني عبد الله بن نافع، قال: حدثني إبراهيم بن علي من آل أبي رافع، قال: كان محمد تمتامًا، فرأيته على المنبر يتلجلج الكلام في صدره، فيضرب بيده على صدره، ويستخرج الكلام. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: دخل عيسى بن موسى يومًا على أبي جعفر، فقال: سرّك الله يا أمير المؤمنين! قال: فيم؟ قال: ابتعت وجه دار عبد الله بن جعفر من بني معاوية؛ حسن ويزيد وصالح، قال: أتفرح! أما والله ما باعوها إلّا ليثبوا عليك بثمنها. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن عبد المدان بن عبيد الله، قال: خرج محمد بالمدينة، وقد خطّ المنصور مدينته بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة وسرت معه، فصيّح بي فلحقته، فسمت طويلًا ثم قال: يا بن الربيع، خرج محمد، قلت: أين؟ قال: بالمدينة، قلت: هلك والله وأهلك؛ خرج والله في غير عدد ولا رجال يا أمير المؤمنين؛ ألا أحدثك حديثًا حدثنيه سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي؟ قال: كنت مع مروان يوم الزاب واقفًا فقال: يا سعيد، من هذا الذي قاتلني في هذه الخيل؟ قلتُ: عبد الله ابن علي بن عبد الله بن عباس، قال: أيهم هو؟ عرّفه، قلت: نعم، رجل أصفر حسن الوجه رقيق الذراعين، رجل دخل عليك يشتم عبد الله بن معاوية حين هزم؛ قال: قد عرفته، والله لوددت أن علي بن أبي طالب يقاتلني مكانه؛ إن عليًّا وولده لا حظّ لهم في هذا الأمر؛ وهذا رجل من بني هاشم وابن عمّ رسول الله ﷺ وابن عباس، معه ريح الشأم ونصر الشأم. يا بن جعدة، تدري ما حملني على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله؟ قلت: لا، قال: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله؛ وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك؛ فعقدت له. فقال: أنشدك الله! أحدثك هذا ابن جعدة! قلت: ابنة سفيان بن معاوية طالق البتّة إن لم يكن حدثني ما حدثتك. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج إلى أبي جعفر في الليلة التي ظهر فيها محمد رجل من آل أويس ابن أبي سرح من بني عامر بن لؤي، فسار تسعًا من المدينة، فقدم ليلًا، فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى نذر به، فأدخل، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم! قال: لا بدّ لي منه، قال: أعلمنا نعلمه، فأبى، فدخل الربيع عليه فأعلمه، فقال: سله عن حاجته ثم أعلمني؛ قال: قد أبى الرجل إلا مشافهتك. فأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، قال: قتلته والله إن كنت صادقًا! أخبرني من معه؟ فسمّى له من خرج معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قال: أنت رأيته وعاينته؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله ﷺ جالسًا. فأدخله أبو جعفر بيتًا، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بن دينار؛ غلام عيسى بن موسى كان يلي أموال عيسى بالمدينة، فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسي فقال: لأوطئنّ الرجال عقبيك ولأغنينّك؛ وأمر له بتسعة آلاف، لكلّ ليلة سارها ألفًا. قال: وحدثني ابن أبي حرب، قال: لما بلغ أبا جعفر ظهوره أشفق منه؛ فجعل الحارث المنجّم يقول له: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه! فوالله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يومًا. قال: وحدثني سهل بن عقيل بن إسماعيل، عن أبيه، قال: لما بلغ أبا جعفر خبره بادر إلى الكوفة، وقال: أنا أبو جعفر؛ استخرجت الثعلب من جحره. قال: وحدثني عبد الملك بن سليمان، عن حبيب بن مرزوق، قال: حدثني تسنيم بن اعلحواري، قال: لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، أرسل أبو جعفر إلى عبد الله بن علي وهو محبوس عنده: إنّ هذا الرجل قد خرج؛ فإن كان عندك رأي فأشر به علينا - وكان ذا رأي عندهم - فقال: إنّ المحبوس محبوس الرأي، فأخرجني حتى يخرج رأيي؛ فأرسل إليه أبو جعفر: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك؛ وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك فأرسل إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتيَ الكوفة، فاجثم على أكبادهم؛ فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح؛ فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه؛ وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر عليك - وكان بالرّي - واكتب إلى أهل الشأم فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجّههم مع سلم. ففعل. قال: وحدثني العباس بن سفيان بن يحيى بن زياد، قال: سمعت أشياخنا يقولون: لما ظهر محمد ظهر وعبد الله بن علي محبوس، فقال أبو جعفر لإخوته: إن هذا الأحمق لا يزال يطلع له الرأي الجيّد في الحرب؛ فادخلوا عليه فشاوروه ولا تعلموه أني أمرتكم. فدخلوا عليه، فلما رآهم قال: لأمر ما جئتم؛ ما جاء بكم جميعًا وقد هجرتموني منذ دهر! قالوا: استأذنّا أمير المؤمنين فأذن لنا، قال: ليس هذا بشيء؛ فما الخبر؟ قالوا: خرج ابن عبد الله، قال: فما ترون ابن سلامة صانعًا؟ يعني أبا جعفر - قالوا: لا ندري والله، قال: إنّ البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، فليعط الأجناد، فإن غلب فما أوشك أن يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم واحد. قال: وحدثني عبد الملك بن شيبان، قال: أخبرني زيد مولى مسمع بن عبد الملك، قال: لما ظهر محمد دعا أبو جعفر عيسى بن موسى، فقال له: قد ظهر محمد فسر إليه، قال: يا أمير المؤمنين؛ هؤلاء عمومتك حولك، فادعهم فشاورهم، قال: فأين قول ابن هرمة: ترون أمرأً لا يمحض القوم سرّه ** ولا ينتجي الأذنين فيما يحاول إذا ما أتى شيئًا مضى كالذي أبى ** وإن قال إني فاعل فهو فاعل قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: نسخت هذه الرسائل من محمد ابن بشير؛ وكان بشير ييصححها؛ وحدثنيها أبو عبد الرحمن من كتّاب أهل العراق والحكم بن صدقة بن نزار، وسمعت ابن أبي حرب يصحّحُها؛ ويزعم أن رسالة محمد لما وردت على أبي جعفر، قال أبو أيوب: دعني أجبه عليها، فقال أبو جعفر: لا بل أنا أجيبه عنها؛ إذ تقارعنا على الأحساب فدعني وإيّاه. قالوا: لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله المدينة كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: " إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم " ولك علي عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله ﷺ إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمّن كلّ من جاءك وبايعك واتبعك، أو دخل معك في شيء من أمرك، ثم لا أتبع أحدًا منهم بشيء كان منه أبدًا. فإن أردت أن تتوثّق لنفسك، فوجّه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تثق به. وكتب على العنوان: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله. فكتب إليه محمد بن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله إلى عبد الله بن محمد: " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ". وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت علي، فإنّ الحقّ حقّنا؛ وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا؛ وإنّ أبانا عليًّا كان الوصي وكان الإمام؛ فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا؛ لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل؛ وإنا بنو أمّ رسول الله ﷺ فاطمة بنت عمرو في الجاهليّة ونبو بنته فاطمة في الإسلام دونك. إن الله اختارنا واختار لنا؛ فوالدنا من النبيين محمد ﷺ، ومن السلف أوّلهم إسلامًا علي، ومن الأزواج أفضلهنّ خديجة الطاهرة، وأوّل من صلّى القبلة، ومن البنات خيرهنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنة؛ وإنّ هاشمًا ولد عليًا مرتين؛ وإن عبد المطلب ولد حسنًا مرتين وإن رسول الله ﷺ ولدني مرّتين من قبل حسن وحسين؛ وإني أوسط بني هاشم نسبًا، وأصرحهم أبًان لم تعرّق في العجم، ولم تنازع في أمهات الأولاد؛ فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في النار؛ فأنا ابن أرفع الناس درجةً في الجنة، وأهونهم عذابًا في النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك الله علي إن دخلت في طاعتي، وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك؛ وعلى كل أمر أحدثته؛ إلا حدًا من حدود الله أو حقًا لمسلم أو معاهد؛ فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد؛ لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالًا قبلي؛ فأي الأمانات تعطيني! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمّك عبد الله بن علي، أم أمان أبي مسلم! فكتب إليه أبو جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء؛ لتضلّ به الجفاة والغوغاء؛ ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء؛ لأن الله جعل العمّ أبًا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا. ولو كان اختيار الله لهنّ على قدر قرابتهنّ كانت آمنة أقربهنّ رحمًا، وأعظمهن حقًا؛ وأوّل من يدخل الجنة غدًا؛ ولكن اختيار الله لخلقه على علمه لما مضى منهم، واصطفائه لهم. وأما ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب وولادتها؛ فإن الله لم يرزق أحدًا من ولدها الإسلام لا بنتًا ولا ابنًا؛ ولو أن أحدًا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله أولاهم بكلّ خير في الدنيا والآخرة؛ ولكنّ الأمر لله يختار لدينه من يشاء؛ قال: الله عز وجل: " إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين "؛ ولقد بعث الله محمدًا عليه السلام وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل: " وأنذر عشيرتك الأقربين ". فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك؛ فقطع الله ولايتهما منه؛ ولم يجعل بينه وبينهما إلًّا ولا ذزّةً ولا ميراثًا. وزعمت أنك ابن أخفّ أهل النار عذابًا وابن خير الأشرار؛ وليس في الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير؛ وليس في الشرّ خيار؛ ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ". وأما ما فخرت به من فاطمة أمّ علي وأنّ هاشمًا ولده مرتين، ومن فاطمة أمّ حسن، وأن عبد المطلب ولده مرتين؛ وأن النبي ﷺ ولدك مرتين؛ فخير الأوّلين والآخرين رسول الله ﷺ ولم يلده هاشم إلّا مرةً ولا عبد المطلب إلا مرّة. وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسبًا، وأصرحهم أمًا وأبًا؛ وأنه لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمّهات الأولاد؛ فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرًا؛ فانظر ويحك أين أنت من الله غدًا! فإنك قد تعدّيت طورك، وفخرت على من هو خير منك نفسًا وأبًا وأولًا وآخرًا، إبراهيم بن رسول الله ﷺ وعلى والد ولده؛ وما خيار بني أبيك خاصّة وأهل الفضل منهم إلّا بنو أمهات أولاد، وما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله ﷺ أفضل من علي ابن حسين؛ وهو لأمّ ولد؛ ولهو خير من جدّك حسن بن حسن؛ وما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي، وجدّته أمّ ولد؛ ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدّته أمّ ولد؛ ولهو خير منك. وأما قولك: إنكم بنو رسول الله ﷺ؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم "، ولكنكم بنو ابنته؛ وإنها لقرابة قريبة؛ ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة؛ فكيف تورث بها! ولقد طلبها أبوك بكلّ وجه فأخرجها نهارًا، ومرّضها سرًا، ودفنها ليلًا؛ فأبى الناس إلا الشيخين وتفضيلهما؛ ولقد جاءت السنّة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجدّ أبا الأم والخال والخالة لا يرثون. وأما ما فخرت به من علي وسابقته، فقد حضرت رسول الله ﷺ الوفاة، فأمر غيره بالصّلاة، ثم أخذ الناس رجلًا بعد رجل فلم يأخذوه؛ وكان في الستّة فتركوه كلهم دفعًا له عنها، ولم يروا له حقًا فيها؛ أما عبد الرحمن فقدّم عليه عثمان، وقتل عثمان وهو له متّهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبى سعد بيعته، وأغلق دونه بابه، ثم بايع معاوية بعده. ثم طلبها بكلّ وجه وقاتل عليها، وتفرّق عنه أصحابه، وشكّ فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكّم حكمين رضي بهما، وأعطاهما عهده وميثاقه، فاجتمعا على خلعه. ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز؛ وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله؛ وأخذ مالًا من غير ولائه ولا حلّه؛ فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه. ثم خرج عمّك حسين بن علي على ابن مرجانة، فكان الناس معه عليه حتى قتلوه، وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أميّة، فقتلوكم وصلّبوكم على جذوع النخل، وأحرقوكم بالنيران، ونفوكم من البلدان؛ حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان؛ وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء، وحملوهم بلا وطاء في المحافل كالسبّي المجلوب إلى الشأم؛ حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم، وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم، وسنينا سلفكم وفضّلناه، فاتخذت ذلك علينا حجة. وظننت أنا إنما ذكرنا أباك وفضّلناه للتقدمة منّا له على حمزة والعباس وجعفر؛ وليس ذلك كما ظننت؛ ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين، متسلّمًا منهم، مجتمعًا عليهم بالفضل، وابتُلي أبوك بالقتال والحرب؛ وكانت بنو أميّة تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتجبنا له، وذكّرناهم فضله، وعنّفناهم وظلّمناهم بما نالوا منه. ولقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم، وولاية زمزم؛ فصارت للعباس من بين إخوته؛ فنازعنا فيها أبوك، فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام؛ ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربّه ولم يتقرّب إليه إلا بأبينا، حتى نعشهم الله وسقاهم الغيث، وأبوك حاضر لم يتوسّل به؛ ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبي ﷺ غيره؛ فكان وراثه من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده؛ فالسقاية سقايته وميراث النبي له، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في دنيا ولا آخرة إلّا والعباس وارثه ومورّثه. وأما ما ذكرت من بدر؛ فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله، وينفق عليهم للأزمة التي أصابته؛ ولولا أنّ العباس أخرج إلى بدر كارهًا لمات طالب وعقيل جوعًا، وللحساجفان عتبة وشيبة؛ ولكنه كان عقيلًا يوم بدر؛ فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر، وفديناكم من الأسر، وحزنا عليكم مكارم الآباء، وورثنا دونكم خاتم الأنبياء، وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه؛ ولم تدركوا لأنفسكم! والسلام عليك ورحمة الله. قال عمر بن شبّة: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: أجمع ابن القسري على الغدر بمحمد، فقال له: يا أمير المؤمنين، ابعث موسى بن عبد الله ومعه رزامًا مولايَ إلى الشأم يدعوان إليك. فبعثهما فخرج رزام بموسى إلى الشأم، وظهر محمد على أن القسري كتب إلى أبي جعفر في أمره، فحبسه في نفر ممن كان معه في دار ابن هشام التي في قبلة مصلى الجنائز - وهي اليوم لفرج الخصي - وورد رزام بموسى الشأم، ثم انسلّ منه، فذهب إلى أبي جعفر، فكتب موسى إلى محمد: إني أخبرك أني لقيت الشأم وأهله، فكان أحسنهم قولًا الذي قال: والله لقد مملنا البلاء، وضقنا به ذرعًا؛ حتى ما فينا لهذا الأمر موضع، ولا لنا به حاجة؛ ومنهم طائفة تحلف: لئن أصبحنا من ليلتنا أو مسّينا من غد ليرفعنّ أمرنا وليدلنّ علينا؛ فكتب إليك وقد غيبت وجهي، وخفت على نفسي. قال الحارث: ويقال إنّ موسى ورزامًا وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور توجهوا إلى الشأم في جماعة؛ فلما ساروا بتيماء، تخلّف رزام ليشتري لهم زادًا، فركب إلى العراق، ورجع موسى وأصحابه إلى المدينة. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني موسى بن عبد الله ببغداد ورزام معنا، قال: بعثني محمد ورزامًا في رجال معنا إلى الشأم، لندعو له؛ فإنا لبدومة الجندل؛ إذ أصابنا حرّ شديد؛ فنزلنا عن رواحلنا نغتسل في غدير، فاستلّ رزام سيفه، ثم وقف على رأسي، وقال: يا موسى، أرأيت لو ضربت عنقك ثم مضيت برأسك إلى أبي جعفر؛ أيكون أحد عنده في منزلتي! قال: قلت: لا تدع هزلك يا أبا قيس! شم سيفك غفر الله لك. قال: فشام سيفه، فركبنا. قال عيسى: فرجع موسى قبل أن يصل إلى الشأم، فأتى البصرة هو وعثمان بن محمد، فدلّ عليهما، فأخذا. قال: وحدثني عبد الله بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، قال: حدثني أخي عبد الله بن نافع الأكبر، قال: لما ظهر محمد لم يأته أبي نافع ابن ثابت، فأرسل إليه، فأتاه وهو في دار مروان، فقال: يا أبا عبد الله، لم أرك جئتنا! قال: ليس في ما تريد، فألحّ عليه محمد؛ حتى قال: البس السلاح يتأسّ بك غيرك، فقال: أيها الرجل؛ إني والله ما أراك في شيء؛ خرجت في بلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح؛ وما أنا بمهلك نفسي معك، ولا معين على دمي. قال: انصرف؛ فلا شيء فيك بعد هذا. قال: فمكث يختلف إلى المسجد إلى أن قتل محمد، فلم يصلّ في مسجد رسول الله ﷺ يوم قتل إلا نافع وحده. ووجّه محمد بن عبد الله لما ظهر - فيما ذكر عمر عن أزهر بن سعيد بن نافع - الحسن بن معاوية إلى مكة عاملًا عليها، ومعه العباس بن القاسم - رجل من آل أبي لهب - فلم يشعر بهم السري بن عبد الله حتى دنوا من مكة فخرج إليهم، فقال له مولاه: ما رأيك؟ قد دنونا منهم، قال: انهزموا على بركة الله، وموعدكم بئر ميمون. فانهزموا؛ ودخلها الحسن بن معاوية. وخرج الحسين بن صخر - رجل من آل أويس - من ليلته، فسار إلى أبي جعفر تسعًا فأخبره فقال: قد أنصف القارة من راماها، وأجازه بثلثمائة درهم. قال: وحدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني محمد بن صالح بن معاوية، قال: حدثني أبي، قال: كنت عند محمد حين عقد للحسن بن معاوية على مكة، فقال له الحسن: أرأيت إن التحم القتال بيننا وبينهم، ما ترى في السري؟ قال: يا حسن، إن السري لم يزل مجتنبًا لما كرهنا، كارهًا للذي صنع أبو جعفر؛ فإن ظفرت به فلا تقتله؛ ولا تحركنّ له أهلًا، ولا تأخذنّ له متاعًا، وإن تنحّى فلا تطلبنّ له أثرًا. قال: فقال له الحسن: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبك تقول هذا في أحد من آل العباس، قال: بلى، إن السري لم يزل ساخطًا لما صنع أبو جعفر. قال: وحدثني عمر بن راشد مولى عنج، قال: كنت بمكة، فبعث إلينا محمد حين ظهر الحسن بن معاوية والقاسم بن إسحاق ومحمد بن عبد الله ابن عنبسة يدعى أبا جبرة، أميرهم الحسن بن معاوية؛ فبعث إليهم السري بن عبد الله كاتبه مسكين بن هلال في ألف، ومولى له يدعى مسكين بن نافع في ألف، ورجلًا من أهل مكة يقال له ابن فرس - وكان شجاعًا - في سبعمائة، وأعطاه خمسمائة دينار، فالتقوا ببطن أذاخر بين الثنيّتين وهي الثنيّة التي تهبط على ذي طُوىً، منها هبط النبي ﷺ وأصحابه إلى مكة، وهي داخلة في الحرم، فتراسلوا؛ فأرسل حسن إلى السري أن خلّ بيننا وبين مكة، ولا تهريقوا الدماء في حرم الله. وحلف الرسولان للسري: ما جئناك حتى مات أبو جعفر. فقال لهما السري: وعلي مثل ما حلفتما به؛ إن كانت مضت لي أربعة؛ منذ جاءني رسول من عند أمير المؤمنين، فأنظروني أربع ليال؛ فإني أنتظر رسولًا لي آخر، وعلي ما يصلحكم، ويصلح دوابكم، فإن يكن ما تقولونه حقًا سلّمتها إليكم؛ وإن يكن باطلًا أجاهدكم حتى تغلبوني أو أغلبكم؛ فأبى الحسن، وقال: لا نبرح حتى نناجزك، ومع الحسن سبعون رجلًا وسبعة من الخيل، فلما دنوا منه، قال لهم الحسن: لا يقدمنّ أحد منكم حتى ينفخ في البوق؛ فإذا نفخ فلتكن حملتكم حملة رجل واحد. فلما رهقناهم وخشي الحسن أن يغشاه وأصحابه، ناداه: انفخ ويحك في البوق! فنفخ ووثبوا وحملوا علينا حملة رجل واحد. فانهزم أصحاب السري، وقتل منهم سبعة نفسر. قال: واطلع عليهم بفرسان من أصحابه وهم من وراء الثنيّة في نفر من قريش قد خرج بهم، وأخذ عليهم لينصرنّه، فلمما رآهم القرشيوّن قالوا: هؤلاء أصحابك قد انهزموا، قال: لا تعجلوا، إلى أن طلعت الخيل والرجال في الجبال؛ فقيل له: ما بقي؟ فقال: انهزموا على بركة الله، فانهزموا حتى دخلوا دار الإمارة، وطرحوا أداة الحرب، وتسوّروا على رجل من الجند يكنى أبا الرزام. فدخلوا بيته فكانوا فيه. ودخل الحسن بن معاوية المسجد، فخطب الناس ونعى إليهم أبا جعفر ودعا لمحمد. قال: وحدثني يعقوب بن القاسم، قال: حدثني الغمر بن حمزة بن أبي رملة، مولى العباس بن عبد المطلب، قال: لما أخذ الحسن بن معاوية مكة. وفرّ السري بلغ الخبر أبا جعفر، فقال: لهفي على ابن أبي العضل. قال: وحدثني ابن أبي مساور بن عبد الله بن مساور مولى بني نائلة من بني عبد الله بن معيص، قال: كنت بمكة مع السري بن عبد الله، فقدم عليه الحسن بن معاوية قبل مخرج محمد - والسري يومئذ بالطائف وخليفته بمكة ابن سراقة من بني عدي بن كعب - قال: فاستعدى عتبة بن أبي خداش اللهبي على الحسن بن معاوية في دينٍ عليه فحبسه، فكتب له السري إلى ابن أبي خداش: أما بعد فقد أخطأت حظّك، وساء نظرك لنفسك حين تحبس ابن معاوية؛ وإنما أصبت المال من أخيه. وكتب إلى ابن سراقة يأمره بتخليته، وكتب إلى ابن معاوية يأمره بالمقام إلى أن يقدم فيقضي عنه. قال: فلم يلبث أن ظهر محمد، فشخص إليه الحسن بن معاوية عاملًا على مكة، فقيل للسري: هذا ابن معاوية قد أقبل إليك، قال: كلّا ما يفعل وبلائي عنده بلائي، وكيف يخرج إلي أهل المدينة! فوالله ما بها دار إلا وقد دخلها لي معروف، فقيل له: قد نزل فجاء. قال: فشخص إليه ابن جريج، فقال له: أيها الرجل، إنك والله ما أنت بواصل إلى مكة وقد اجتمع أهلها مع السري، أتراك قاهرًا قريشًا وغاصبها على دارها! قال: يا بن الحائك، أبأهل مكة تخوّفني! والله ما أبيت إلا بها أو أموت دونها. ثم وثب في أصحابه، وأقبل إليه السري، فلقيه بفخّ، فضرب رجل من أصحاب الحسن مسكين بن هلال كاتب السري على رأسه فشجّه، فانهزم السري وأصحابه، فدخلوا مكة، والتفّ أبو الرزام - رجل من بني عبد الدار ثم أحد آل شيبة - على السري، فواراه في بيته، ودخل الحسن مكة. ثم إن الحسن أقام بمكة يسيرًا، ثم ورد كتاب محمد عليه يأمره باللحاق به. وذكر عمر عن عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكر أنّ الحسن والقاسم لما أخذا مكة، تجهّزا وجمعا جمعًا كثيرًا، ثم أقبلا يريدان محمدًا ونصرته على عيسى بن موسى؛ واستخلفا على مكة رجلًا من النصار؛ فلما كانا بقديد لقيهما قتل محمد، فتفرّق الناس عنهما، وأخذ الحسن على بسقة - وهي حرّة في الرمل تدعى بسقة قديد - فلحق بإبراهيم؛ فلم يزل مقيمًا بالبصرة حتى قتل إبراهيم. وخرج القاسم بن إسحاق يريد إبراهيم؛ فلما كان بيديع من أرض فدك، لقيه قتل إبراهيم، فرجع إلى المدينة، فلم يزل مختفيًا حتى أخذت ابنة عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر؛ زوجة عيسى بن موسى، له ولإخوته الأمان فظهر بنو معاوية، وظهر القاسم. قال: وحدثني عمر بن راشد مولى عنج، قال: لما ظهر الحسن بن معاوية على السري أقام قليلًا حتى أتاه كتاب محمد يأمره بالشخوص إليه؛ ويخبره أن عيسى قد دنا من المدينة، ويستعجله بالقدوم. قال: فخرج من مكة يوم الاثنين في مطر شديد - زعموا أنه اليوم الذي قتل فيه محمد - فتلقاه بريد لعيسى بن موسى بأمج - وهو ماء لخزاعة بين عسفان وقديد - بقتل محمد، فهرب وهرب أصحابه. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن أبي سيار، قال: كنت حاجب محمد بن عبد الله، فجاءني راكب من الليل، قال: قدمت من البصرة، وقد خرج بها إبراهيم، فأخذها. قال: فجئت دار مروان، ثم جئت المنزل الذي فيه محمد، فدققت الباب، فصاح بأعلى صوته: من هذا؟ قلت: أبو سيّار، قال: لا حول ولا قوّة إلا بالله؛ اللهم إني أعوذ بك من شرّ طوارق الليل؛ إلا طارق يطرق منك بخير، قال: خير! قلت: خير، قال: ما وراءك؟ قلت: أخذ إبراهيم البصرة - قال: وكان محمد إذا صلى المغرب والصبح صاح صائح: ادعوا الله لإخوانكم من أهل البصرة، وللحسن بن معاوية واستنصروه على عدوّكم. قال: وحدثني عيسى، قال: قدم علينا رجل من أهل الشأم، فنزل دارنا - وكان يكنى أبا عمرو - فكان أبي يقول له: كيف ترى هذا الرجل؟ فيقول: حتى ألقاه فأسبره ثم اخبرك. قال عيسى: فلقيه أبي بعد، فسأله فقال: هو والله الرجل كلّ الرجل؛ ولكن رأيت شحم ظهره ذراعًا، وليس هكذا يكون صاحب الحرب. قال: ثم بايعه بعد، وقاتل معه. قال: وحدثني عبد الله بن محمد بن سلم - يدعى ابن البواب مولى المنصور - قال: كتب أبو جعفر إلى الأعمش كتابًا على لسان محمد، يدعوه إلى نصرته، فلما قرأه قال: قد خبرناكم يا بني هاشم؛ فإذا أنتم تحبّون الثريد. فلما رجع الرسول إلى أبي جعفر فأخبره، قال: أشهد أنّ هذا كلام الأعمش. وحدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: غلب محمد بن عبد الله على المدينة، فبلغنا ذلك، فخرجنا ونحن شباب؛ أنا يومئذ ابن خمس عشرة سنة، فانتهينا إليه؛ وهو قد اجتمع إليه الناس ينظرون إليه؛ ليس يصدّ عنه أحد؛ فدنوت حتى رأيته وتأملته؛ وهو على فرس، وعليه قميص أبيض محشوّ وعمامة بيضاء؛ وكان رجلًا أحزم؛ قد أثّر الجدري في وجهه، ثم وجّه إلى مكة فأخذت له، وبيّضوا؛ ووجّه أخاه إبراهيم بن عبد الله إلى البصرة، فأخذها وغلبها وبيّضوا معه. رجع الحديث إلى حديث عمر. قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: ندب أمير المؤمنين أبو جعفر عيسى بن موسى لقتال محمد، وقال: لا أبالي أيّهما قتل صاحبه؛ وضمّ إليه أربعة آلاف من الجند، وبعث معه محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين. قال: وحدثني عبد الملك بن شيبان. عن زيد مولى مسمع، قال: لما أمر أبو جعفر عيسى بن موسى بالشخوص، قال: شاور عمومتك، فقال له: امضِ أيها الرجل؛ فوالله ما يراد غيري وغيرك؛ وما هو إلّا أن تشخص أو أشخص؛ قال: فسار حتى قدم علينا ونحن بالمدينة. قال: وحدثني عبد الملك بن شيبان، قال: دعا أبو جعفر بن حنظلة البهراني - وكان أبرص طوالا، أعلم الناس بالحرب، وقد شهد مع مروان حروبه - فقال: يا جعفر، قد ظهر محمد، فما عندك؟ قال: وأين ظهر؟ قال: بالمدينة، قال: فاحمد الله، ظهر حيث لا مال ولا رجال ولا سلاح ولا كراع؛ ابعث مولىً لك تثق به فليسر حتى ينزل بوادي القرى؛ فيمنعه ميرة الشأم، فيموت مكانه جوعًا، ففعل. قال: وحدثني عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: سمعت أصحابنا إسماعيل بن موسى وعيسى بن النضر وغيرهما يذكرون أنّ أبا جعفر قدّم كثير ابن حصين العبدّي، فعسكر بفيد، وخندق عليه خندقًا؛ حتى قدم عليه عيسى بن موى، فخرج به إلى المدينة. قال عبد الله: فأنا رأيت الخندق قائمًا دهرًا طويلًا، ثم عفا ودرس. قال: وحدثني يعقوب بن القاسم، قال: حدثني علي بن أبي طالب - ولقيته بصنعاء - قال: قال أبو جعفر لعيسى حين بعثه إلى محمد: عليك بأبي العسكر مسمع بن محمد بن شيبان بن مالك بن مسمع، فسر به معك؛ فإني رأيته منع سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة من أهل البصرة؛ وهم محلبون عليه؛ وهو يدعو إلى مروان؛ وهو عند أبي العسكر يأكل المخّ بالطّبرزد، فخرج به عيسى؛ فلما كان ببطن نخل، تخلّف هو والمسعودي بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود حتى قتل محمد، فبلغ ذلك أبا جعفر، فقال لعيسى بن موسى: ألّا ضربت عنقه! وحدثني عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، قال: أخبرني أبي، قال: قال أبو جعفر لعيسى بن موسى حين ودّعه: يا عيسى؛ إنّي أبعثك إلى ما بين هذين - وأشار إلى جنبيه - فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك، وابذل الأمان؛ وإن تغيّب فضمنهم إياه حتى يأتوك به، فإنهم يعرفون مذاهبه. قال: فلما دخلها عيسى فعل ذلك. فحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر: وجّه أبو جعفر إلى محمد بن عبد الله بالمدينة عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس، ووجّه معه محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين وعدّة من قوّاد أهل خراسان وجندهم، وعلى مقدّمة عيسى بن موسى حميد بن قحطبة الطائي، وجهّزهم بالخيل والبغال والسلاح والميرة، فلم ينزل، ووجّه مع عيسى ابن موسى بن أبي الكرام الجعفري؛ وكان في صحابة أبي جعفر؛ وكان مائلًا إلى بني العباس، فوثق به أبو جعفر فوجّهه.. رجع الحديث إلى حديث عمر بن شبّة. قال عمر: وحدثني عيسى، عن أبيه، قال: كتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى: من لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله. قال: فقبض عين أبي زياد - وكان جعفر بن محمد تغيّب عنه - فلما قدم أبو جعفر كلمه جعفر، وقال: مالي، قال: قد قبضه مهديُّكم. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لما صار عيسى بفيد، كتب إلى رجال من أهل المدينة في خرق الحرير؛ منهم عبد العزيز بن المطّلب المخزومي وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي، فلما وردت كتبه المدينة، تفرّق ناسٌ كثير عن محمد؛ منهم عبد العزيز بن المطلب؛ فأخذ فردّ، فأقام يسيرًا؛ ثم خرج، فردّ مرّة أخرى؛ وكان أخوه علي بن المطلب من أشدّ الناس مع محمد؛ فكلم محمّدًا في أخيه حتى كفّه عنه. قال: وحدثني عيسى، قال: كتب عيسى بن موسى إلى أبي في حريرة صفراء جاء بها أعرابيٌ بين خصافي نعله، قال: عيسى: فرأيت الأعرابي قاعدًا في دارنا، وإني لصبي صغير؛ فدفعها إلى أبي فإذا فيها: إن محمدًا تعاطى ما ليس يعطيه الله، وتناول ما لم يؤته الله، قال: عزّ وجل في كتابه: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ". فعجّل التخلص وأقلّ التربص، وادعُ من أطاعك من قومك إلى الخروج معك. قال: فخرج وخرج معه عمر بن محمد بن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: ودعوا الأفطس حسن بن علي بن أبي طالب إلى الخروج معهم فأبى، وثبت مع محمد؛ وذكر خروجهم لمحمد فأرسل إلى ظهرهم فأخذه؛ فأتاه عمر بن محمد، فقال: أنت تدعو إلى العدل ونفي عالجور؛ فما بال إبلي تؤخذ! فإنما أعددتها لحجّ أو عمرة. قال: فدفعها إليه - فخرجوا من تحت ليلتهم؛ فلقوا عيسى على أربع - أو خمس - من المدينة. قال: وحدثني أيوب بن عمر بن أبي عمرو بن نعيم بن ماهان، قال: كتب أبو جعفر إلى رجال من قريش وغيرهم كتبًا، وأمر عيسى: إذا دنا من المدينة أن يبعث بها إليهم، فلما دنا بعث بها إليهم؛ فأخذ حرس محمد الرسول والكتب، فوجد فيها كتابًا إلى إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد الله ابن معمر وإلى جماعة من رؤساء قريش. فبعث محمد إلينا جميعًا ما خلا ابن عمر وأبا بكر بن سبرة، فحبسنا في دار ابن هشام التي في المصلّى. قال أبي: وبعث إلي وإلى أخي، فأتيَ بنا فضربنا ثلثمائة. قال: فقلت له وهو يضربني ويقول: أردت أن تقتلني! تركتك وأنت تستتر بحجر وببيت شعر؛ حتى إذا صارت المدينة في يدك، وغلظ أمرك، قمت عليك فبمن أقوم! أبطاقتي، أم بمالي، أم بعشيرتي! قال: ثم أمر بنا إلى الحبس، وقيّدنا بكبول وسلاسل تبلغ ثمانين رطلًا، قال: فدخل عليه محمد بن عجلان، فقال: إني ضربت هذين الرجلين ضربًا فاحشًا، وقيّدتهما بما منعهما من الصلاة. قال: فلم يزالا محبوسين حتى قدم عيسى. قال: وحدثني محمد بن يحيى. قال: حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت، عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، قال: إنا لعند محمد ليلة - وذلك عند دنوّ عيسى من المدينة - إذ قال محمد: أشيروا علي في الخروج والمقام، قال: فاختلفوا. فأقبل علي فقال: أشرْ علي يا أبا جعفر، قلت: ألست تعلم أنك أقلّ بلاد الله فرسًا وطعامًا وسلاحًا، وأضعفها رجالًا؟ قال: بلى، قلت: تعلم أنك تقاتل أشدّ بلاد الله رجلًا وأكثرها مالًا وسلاحًا؟ قال: بلى، قلت: فالرأي أن تسير بمن معك حتى تأتي مصر، فوالله لا يردّك رادّ، فتقاتل الرجل بمثل سلاحه وكراعه ورجاله وماله. فصاح حنين بن عبد الله: أعوذ بالله أن تخرج من المدينة! وحدثه أن النبي ﷺ قال: " رأيتني في درع حصينة فأوّلتها المدينة ". قال: وحدثني محمد بن إسماعيل بن جعفر، عن الثقة عنده، قال: أجاب محمدًا لما ظهر أهل المدينة وأعراضها وقبائل من العرب؛ منهم جهينة ومزينة وسليم وبنو بكر وأسلم وغفار؛ فكان يقدّم جهينة؛ فغضبت من ذلك قبائل قيس. قال محمد: فحدثني عبد الله بن معروف أحد بني رياح بن مالك بن عصيّة بن خفاف - وقد شهد ذاك - قال: جاءت محمدًا بنو سليم على رؤسائها، فقال متكلّمهم جابر بن أنس الرياحي: يا أمير المؤمنين؛ نحن أخوالك وجيرانك، وفينا السلاح والكراع؛ والله لقد جاء الإسلام والخيل في بني سليم أكثر منها بالحجاز؛ لقد بقي فينا منها ما إن بقي مثله عند عربي تسكن إليه البادية، فلا تخندق الخندق؛ فإن رسول الله خندق خندقه لما الله أعلم به؛ فإنك إن خندقته لم يحسن القتال رجّالة، ولم توجّه لنا الخيل بين الأزقّة؛ وإن الذين يخندق دونهم هم الذين يقاتلون فيها؛ وإن الذين يخندق عليهم يحول الخندق دونهم. فقال أحد بني شجاع: خندق رسول الله فاقتد برأيه؛ أو تريد أنت أن تدع رأي رسول الله ﷺ لرأيك! قال: إنه يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم؛ ولا شيء أحبّ إلي وإلى أصحابي من مناجزتهم. فقال محمد: إنما اتّبعنا في الخندق أثر رسول الله ﷺ، فلا يردّني عنه أحد، فلست بتاركه. قال: وحدثني محمد بن يحيى، عن الحارث بن إسحاق، قال: لما تيقن محمد أن عيسى قد أقبل حفر الخندق، خندق النبي ﷺ الذي كان حفره للأحزاب. قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني محمد ابن عطيّة مولى المطلبيّين، قال: لما حفر محمد الخندق ركب إليه وعليه قباء أبيض ومنطقة، وركب الناس معه؛ فلما أتى الموضع نزل فيه؛ بدأ هو فحفر بيده؛ فأخرج بنةً من خندق النبي ﷺ، فكبّر وكبّر الناس معه، وقالوا: أبشر بالنّصر؛ هذا خندق جدّك رسول الله ﷺ. قال: وحدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني مصعب بن عثمان بن مصعب بن عروة بن الزبير، قال: لما نزل عيسى الأعوص رقي محمد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عدوّ الله وعدوّكم عيسى بن موسى قد نزل الأعوص؛ وإن أحقّ الناس بالقيام بهذا الدين، أبناء المهاجرين الأوّلين والأنصار المواسين. قال: وحدثني إبراهيم بن أبي إسحاق العبسي - شيخ من غطفان - قال: أخبرني أبو عمرو مؤدب محمد بن عبد الرحمن بن سليمان، قال: سمعت الزبيري الذي قتله أبو جعفر - يعني عثمان بن محمد بن خالد - قال: اجتمع مع محمّد جمع لم أر مثله ولا أكثر منه؛ إني لأحسب أنا قد كنا مائة ألف؛ فلما قرب عيسى خطبنا، فقال: يأيها الناس؛ إنّ هذا الرجل قد قرب منكم في عدد وعدّة؛ وقد حللتكم من بيعتي؛ فمن أحبّ المقام فليقم، ومن أحبّ الانصراف فلينصرف. فتسللوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة. قال: وحدثني موهوب بن رشيد بن حيّان بن أبي سليمان بن سمعان؛ أحد بني قريط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، قال: حدثني أبي، قال: لما ظهر محمّد جمع الناس وحشرهم، وأخذ عليهم المناقب فلا يخرج أحد؛ فلما سمع بعيسى وحميد بن قحطبة قد أقبلا، صعد المنبر، فقال: يأيها الناس؛ إنّا قد جمعناكم للقتال؛ وأخذنا عليكم المناقب؛ وإن هذا العدوّ منكم قريب؛ وهو في عدد كثير، والنصر من الله والأمر بيده؛ وإنه قد بدا لي أن آذن لكم وأفرج عنكم المناقب؛ فمن أحبّ أن يقيم أقام، ومن أحبّ أن يظعن ظعن. قال أبي: فخرج عالمٌ من الناس؛ كنت فيهم؛ فلما كنا بالعريض - وهو على ثلاثة أميال من المدينة - لقيتنا مقدّمة عيسى بن موسى دون الرُّحبة؛ فما شبّهت رجالهم إلّا رجلًا من جراد. قال: فمضينا وخالفونا إلى المدينة. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج ناس كثير من أهل المدينة بذراريّهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، فأمر محمد أبا القلمس، فردّ من قدر عليه منهم، فأعجزه كثير منهم، فتركهم. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني الغاضري، قال: قال لي محمد: أعطيك سلاحًا وتقاتل معي؟ قلت: نعم؛ إن أعطيتني رمحًا أطعنهم به؛ وهم بالأعوص وسيفًا أضربهم به وهم بهيفا. قال: ثمّ مكث غير كثير، ثم بعث إلي فقال: ما تنتظر؟ قلت: ما أهون عليك - أبقاك الله - أن أقتل وتمرّوا؛ فيقال: والله إن كان لباديًا! قال: ويحك! قد بيّض أهل الشأم وأهل العراق وخراسان، قال: قلت: اجعل الدنيا زبدةً بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة، ما ينفعني هذا وعيسى بالأعوص! قال: وحدثني عيسى، عن أبيه، عن جدّه، قال: وجّه أبو جعفر مع عيسى بن موسى بابن الأصمذ ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من مسجد رسول الله ﷺ، فقال ابن الأصمّ: ألا إنّ الخيل لا عمل لها مع الرجالة؛ وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكرهم. فرفعهم إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف، وهي على أربعة أميال من المدينة - وقال: لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني محمد بن أبي الكرام، قال: لمّا نزل عيسى طرف القندوم أرسل إلي نصف الليل، فوجدته جالسًا والشمع والأموال بين يديه، فقال: جاءتني العيون تخبرني أنّ هذا الرجل في ضعف؛ وأنا أخاف أن ينكشف؛ وقد ظننت ألّا مسلك له إلّا إلى مكة، فاضمم إليك خمسمائة رجل؛ فامض بهم معاندًا عن الطريق حتى تأتيَ الشجرة فتقيم بها. قال: فأعطاهم على الشمع، فخرجت بهم حتى مررت بالبصرة بالبطحاء - وهي بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة - فخاف أهلها؛ فقلت: لا بأس عليكم؛ أنا محمد بن عبد الله، هل من سويق؟ قال: فأخرجوا إلينا سويقًا، فشربنا وأقمنا بها حتى قتل محمد. قال: وحدثني محمد بن إسماعيل؛ عن الثقة عنده، قال: لما قرب عيسى أرسل إلى محمد القاسم بن الحسن بن زيد يدعوه إلى الرجوع عمّا هو عليه، ويخبره أنّ أمير المؤمنين قال آمنه وأهل بيته، فقال محمد للقاسم: والله لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت عنقك؛ لأني لم أرك منذ كنت غلامًا في فرقتين؛ خير وشرّ، إلّا كنت مع الشرّ على الخير. وأرسل محمد إلى عيسى: يا هذا؛ إنّ لك برسول الله قرابةً قريبةً، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذّرك نقمته وعذابه؛ وإني والله ما أنا بمنصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه؛ فإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله، فتكون شرّ قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك، وأكثر لمأثمك. فأرسل هذه الرسالة مع إبراهيم بن جعفر، فبلّغه، فقال: ارجع إلى صاحبك، فقل له: ليس بيننا إلّا القتال. قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر، قال: أخبرني أبي، قال: لما قرب عيسى من المدينة، أرسلني إلى محمد بأمانه، فقال لي محمد: علام تقاتلونني وتستحلّون دمي، وإنما أنا رجل فرّ من أن يقتل! قال: قلت: إنّ القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلّا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك عليّق طلحة والزبير؛ على نكث بيعتهم وكيد ملكهم، والسعي عليهم. قال: فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال: والله ما سرّني أنك قلت له غير ذلك، وأن لي كذا وكذا. قال: وحدثني هشام بن محمد بن عروة بن هشام بن عروة، قال: أخبرني ماهان بن بخت مولى قحطبة، قال: لما صرنا بالمدينة أتانا إبراهيم بن جعفر بن مصعب طليعة، فطاف بعسكرنا حتى حسّه كله، ثم ولّى ذاهبًا. قال: رعبنا منه والله رعبًا شديدًا؛ حتى جعل عيسى وحميد بن قحطبة يعجبان فيقولان: فارس واحد طليعةً لأصحابه! فلما ولّى مدى أبصارننا نظرنا إليه مقيمًا بموضع واحد، فقال حميد: ويحكم! انظروا ما حال الرجل؛ فإني أرى دابته واقفًا لا تزول؛ فوجّه إليه حميد رجلين من أصحابه، فوجدا دابته قد عثر به؛ فصرعه فقوّس التنور عنقه. فأخذا سلبه، فأتينا بتنور - قيل إنه كان لمصعب بن الزبير - مذهب لم ير مثله قطّ. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، فف نزل عيسى بقصر سليمان بالجرف، صبيحة ثنتي عشرة من رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، يوم السبت، ويوم الأحد وغدا يوم الاثنين، حتى استوى على سلع، فنظر إلى المدينة وإلى من دخلها وخرج منها، وشحن وجوهها كلها بالخيل والرّجال إلا ناحية مسجد أبي الجرّاح؛ وهو على بطحان؛ فإنه تركه لخروج من هرب، وبرز محمد في أهل المدينة. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثنا محمد بن زيد، قال: قدمنا مع عيسى، فدعا محمدًا ثلاثًا: الجمعة والسبت والأحد. قال: وحدثني عبد الملك بن شيبان، قال: حدثني زيد مولى مسمع، قال: لما عسكر عيسى أقبل عى دابة يمشي حواليه نحو من خمسمائة، وبين يديه راية يسار بها معه؛ فوقف على الثنيّة ونادى: يا أهل المدينة؛ إن الله قد حرّم دماء بعضنا على بعض؛ فهلمّوا إلى الأمان؛ فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن؛ ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن. خلّوا بيننا وبين صاحبنا فإمّا لنا أو له. قال: فشتموه وأقذعوا له، وقالوا: يا بن الشاة، يا بن كذا، يا بن كذا. فانصرف يومه ذاك، وعاد من الغد ففعل مثل ذلك، فشتموه؛ فلما كان اليوم الثالث أقبل بما لم أر مثله قطّ من الخيل والرجال والسلاح؛ فوالله ما لبثنا أن ظهر علينا ونادى بالأمان، فانصرف إلى معسكره. قال: وحدثني إبراهيم الغفاني، قال: سمعت أبا عمرو مؤدّب محمد ابن عبد الرحمن يحدث عن الزبيري - يعني عثمان بن محمد بن خالد - قال: لما التقينا نادى عيسى بنفسه: أيا محمد، إن أمير المؤمنين أمرني ألّا أقاتلك حتى أعرض عليك الأمان، فلك علي نفسك وأهلك وولدك وأصحابك، وتعطى من المال كذا وكذا، ويقضى عنك دينك، ويفعل بك ويفعل! قال: فصاح: محمد أله عن هذا، فوالله لو علمت أنه لا يثنيني عنكم فزع، ولا يقرّبني منكم طمع ما كان هذا. قال: ولجّ القتال، وترجّل محمد؛ فإني لأحسبه قتل بيده يومئذ سبعين رجلًا. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني محمد بن زيد، قال: لما كان يوم الاثنين، وقف عيسى على ذباب، ثم دعا مولى لعبد الله بن معاوية كان معه؛ وكان على مجفّفته، فقال: خذ عشرة من أصحابك؛ أصحاب التجافيف؛ فجاء بهم، فقال لنا: ليقم معه عشرة منكم يا آل أبي طالب. قال: فقمنا معه، ومعنا ابنا محمد بن عمر بن علي: عبد الله وعمر، ومحمد بن عبد الله بن عقيل، والقاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي، وعبد الله ابن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر؛ في عشرة منّا. فقال: انطلقوا إلى القوم، فادعوهم وأعطوهم أمانًا؛ وبقي أمان الله. قال: فخرجنا حتى جئنا سوق الخطّابين؛ فدعوناهم فسبّونا ورشقونا بالنبل، وقالوا: هذا ابن رسول الله معنا ونحن معه؛ فكلمهم القاسم بن الحسن بن زيد، فقال: وأنا ابن رسول الله؛ وأكثر من ترون بنو رسول الله؛ ونحن ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وحقن دمائكم والأمان لكم؛ فجعلوا يسبّوننا ويرشقوننا بالنبل، فقال القاسم لغلامه: القط هذه النبل، فلقطها فأخذها قاسم بيده، ثم دخل بها إلى عيسى، فقال: ما تنتظر! انظر ما صنعوا بنا، فأرسل عيسى بن حميد قحطبة في مائة. قال: حدثني أزهر بن سعيد بن نافع، قال: حدثني أخواي عثمان ومحمد ابنا سعيد - وكانا مع محمد - قالا: وقف القاسم بن الحسن ورجل معه من آل أبي طالب على رأس ثنيّة الوداع، فدعوا محمدًا إلى الأمان، فسبّهما فرجعا، وأقبل عيسى وقد فرّق القواد فجعل هزارمرد عند حمّام بن أبس الصعبة، وكثير بن حصين عند دار ابن أفلح التي ببقيع الغرقد، ومحمد بن أبي العباس على باب بني سلمة، وفرّق سائر القوّاد على أنقاب المدينة، وصار عيسى في أصحابه على رأس الثنيّة، فرموا بالنشاب والمقاليع ساعة. وحدثني أزهر، قال: جعل محمد ستور المسجد دراريع لأصحابه. قال: وحدثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: حدثني عمر؛ شيخ من الأنصار، قال: جعل محمد ظلال المسجد خفاتين لأصحابه، فأتاه رجلان من جهينة، فأعطى أحدهما خفتانًا ولم يعط الآخر، فقاتل صاحب الخفتان، ولم يقاتل الآخر معه؛ فلما حضرت الحرب أصابت صاحب الخفتان نشابة، فقتلته، فقال صاحبه: يا رب لا تجعلني كمن خان ** وباع باقي عيشه بخفتان قال: وحدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني إسماعيل بن أبي عمرو، قال: إنا لوقوف على خندق بني غفار؛ إذ أقبل رجل على فرس؛ ما يُرى منه إلّا عيناه، فنادى: الأمان، فأعطى الأمان، فدنا حتى لصق بنا، فقال: أفيكم من يبلّغ عني محمدًا؟ قلت: نعم، أنا، قال: فأبلغه عني - وحسر عن وجهه؛ فإذا شيخ مخضوب - فقال: قل له: يقول لك فلان التميمي، بآية أنّي وإياك جلسنا في ظل الصخرة في جبل جهينة في سنة كذا، اصبر إلى الليل؛ فإن عامة الجند معك. قال: فأتيته قبل أن يغدو - وذلك يوم الاثنين في اليوم الذي قتل فيه - فوجدت بين يديه قربة عسل أبيض قد شقّت من وسطها، ورجل يتناول من العسل ملء كفّه ثم يغمسه في الماء، ثم يلقمه إياه، ورجل يحزم بطنه بعمامة؛ فأبلغته الرسالة فقال: قد أبلغت؛ فقلت: أخواي في يدك، قال: مكانهما خير لهما. قال: وحدثني إبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، قال: حدثني محمد بن عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، قال: كانت راية محمد إلى أبي، فكنت أحملها عنه. قال: وحدثني عيسى، عن أبيه، قال: كان مع الأفطس حسن بن علي بن حسين علم أصفر، فيه صورة حيّة، ومع كلّ رجل من أصحابه من آل علي بن أبي طالب علم، وشعارهم: أحد أحد، قال: وكذلك كان شعار النبي ﷺ يوم حنين. قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم، قال: أخبرنا جهم بن عثمان مولى بني سليم، ثم أحد بني بهز، قال: قال لي عبد الحميد بن جعفر يوم لقينا أصحاب عيسى: نحن اليوم على عدّة أهل بدر يوم لقوا المشركين - قال: وكنا ثلثمائة ونيّفًا. قال: وحدثني إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس، قال: سمعت أبي قول: ولد عيسى بن موسى في سنة ثلاث ومائة، وشهد حرب محمد وإبراهيم وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وعلى مقدّمته حميد بن قحطبة، وعلى ميمنته محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين، وعلى ميسرته داود بن كرّاز من أهل خراسان، وعلى ساقته الهيثم بن شعبة. قال: وحدثني عيسى، عن أبيه، قال: لقي أبو القلمّس محمد بن عثمان، أخا أسد بن المرزبان بسوق الحطابين، فاجتلدا بسيفيهما حتى تقطّعا ثم تراجعا إلى مواقفهما، فأخذ أخو أسد سيفًا، وأخذ أبو القلّمس بأثفيّة، فوضعها على قربوس سرجه، وسترها بدرعه، ثم تعاودا، فلما تدانيا قام أبو القلمّس في ركائبه؛ ثم ضرب بها صدره فصرعه، ونزل فاحتزّ رأسه. قال: وحدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني عبد الله بن عمر بن القاسم بن عبد الله العمري، قال: كنا مع محمد، فبرز رجل من أهل المدينة؛ مولى لآل الزبير يدعى القاسم بن وائل، فدعا للبراز، فبرز إليه رجل لم أر مثل كماله وعدّته؛ فلما رآه ابن وائل انصرف. قال: فوجدنا من ذلك وجدًا شديدًا، فإنا لعلى ذلك إذ سمعت خشف رجل وراثي، فالتفتّ فإذا أبو القلمّس، فسمعته يقول: لعن الله أمير السفهاء، أن ترك مثل هذا اجترأ علينا! وإن خرج رجل خرج إلى أمر عسى ألّا يكون من شأنه. قال: ثم برز له فقتله. قال: وحدثني أزهر بن سعيد بن نافع، قال: خرج القاسم بن وائل يومئذ من الخندق، ثم دعا للبراز، فبرز له هزارمرد، فلما رآه القاسم هابه، فرجع فبرز له أبو القلمّس، فقال: ما انتفع في مثل هذا اليوم بسيفه قطّ، ثم ضربه على حبل عاتقه فقتله، فقال: خذها وأنا ابن الفاروق، فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيرًا من ألف فاروق. قال: وحدثني علي أبو الحسن الحذّاء من أهل الكوفة، قال: حدثني مسعود الرحال، قال: شهدت مقتل محمد بالمدينة، فإنّي لأنظر إليهم عند أحجار الزيت، وأنا مشرف عليهم من الجبل - يعني سلعًا - إذ نظرت إلى رجل من أصحاب عيسى قد أقبل ممستلئمًا في الحديد؛ لا يرى منه إلّا عيناه، على فرس؛ حتى فصل من صفّ أصحابه، فوقف بين الصفين، فدعا للبراز؛ فخرج إليه رجل من أصحاب محمد، عليه قباء أبيض، وكمّة بيضاء، وهو راجل، فكلمه مليًّا، ظننت أنه استرجله لتستوي حالاهما، فنظرت إلى الفارس ثنى رجله، فنزل، ثم التقيا فضربه صاحب محمد ضربة على خوذة حديدعلى رأسه، فأقعده على استه وقيذًا لا حراك به، ثم انتزع الخوذة، فضرب رأسه فقتله، ثم رجع فدخل في أصحابه، فلم ينشب أن خرج من صفّ عيسى آخر؛ كأنه صاحبه، فبرز له الرجل الأوّل، فصنع به مثل ما صنع بصاحبه، ثم عاد إلى صفّه، وبرز ثالث فدعاهه، فبرز له فقتله، فلما قتل الثالث ولّى يريد أصحابه، فاعتوره أصحاب عيسى فرموه فأثبتوه، وأسرع يريد أصحابه، فلم يبلغهم حتى خرّ صريعًا فقتلوه دونهم. وحدثني عيسى، قال: أخبرني محمد بن زيد، قال: لما أخبرنا عيسى برميهم إيانا، قال لحميد بن قحطبة: تقدّم، فتقدّم في مائة كلهم راجل غيره معهم النشاب والترسة، فلم يلبثوا أن زحفوا إلى جدار دون الخندق، عليه أناس من أصحاب محمد، فكشفوهم ووقفوا عند الجدار، فأرسل حميد إلى عيسى بهدم الجدار. قال: فأرسل إلى فعلة فهدموه، وانتهوا إلى الخندق، فأرسل إلى عيسى: إنا قد انتهينا إلى الخندق. فأرسل إليه عيسى بأبواب بقدر الخندق، فعبروا عليها؛ حتى كانوا من ورائه، ثم اقتتلوا أشدّ القتال من بكرة حتى صار العصر. وحدثني الحارث، قال: أخبرنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر: أقبل عيسى بن موسى بمن معه، حتى أناخ على المدينة، وخرج إليه محمد ابن عبد الله ومن معه، فاقتتلوا أيامًا قتالًا شديدًا، وصبر نفر من جهينة، يقال لهم بنو شجاع مع محمد بن عبد الله، حتى قتلوا وكان لهم غناء. رجع الحديث إلى حديث عمر: حدثني أزهر، قال: أمرهم عيسى فطرحوا حقائب الإبل في الخندق فأمر ببابي دار سعد بن مسعود التي في الثنيّة فطرحا على الخندق؛ فجازت الخيل، فالتقوا عند مفاتح خشرم، فاقتتلوا حتى كان العصر. حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت، قال: انصرف محمد يومئذ قبل الظهر حتى جاء دار مروان، فاغتسل وتحنّط، ثم خرج. قال عبد العزيز بن أبي ثابت: فحدثني عبد الله بن جعفر، قال: دنوت منه، فقلت له: بأبي أنت! إنه والله ما لك بما رأيت طاقة، وما معك أحد يصدق القتال؛ فاخرج الساعة حتى تلحق بالحسن بن معاوية بمكة؛ فإنّ معه جلّة أصحابك، فقال: يا أبا جعفر؛ والله لو خرجت لقتل أهل المدينة؛ والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل؛ وأنت مني في سعة؛ فاذهب حيث شئت. فخرجت معه حتى إذا جاء دار ابن مسعود في سوق الظهر ركضت فأخذت على الزيّاتين، ومضى إلى الثنيّة، وقتل من كان معه بالنّشاب وجاءت العصر فصلّى. حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني إبراهيم بن محمد، قال: رأيت محمدًا بين داري بني سعد، عليه جبّة ممشّقة، وهو على برذون، وابن خضير إلى جانبه يناشده الله إلّا مضى إلى البصرة أو غيرها؛ ومحمد يقول: والله لا تبتلون بي مرتين؛ ولكن اذهب حيث شئت فأنت في حلّ. قال ابن خضير: وأين المذهب عنك! ثم مضى فأحرق الديوان، وقتل رياحًا ثم لحقه بالثنيّة، فقاتل حتى قتل. وحدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: خرج مع محمد بن عبد الله ابن خضير؛ رجل من ولد مصعب بن الزبير؛ فلما كان اليوم الذي قتل فيه محمد، ورأى الخلل في أصحابه، وأنّ السيف قد أفناهم؛ استأذن محمدًا في دخول المدينة فأذن له؛ ولا يعلم ما يريد؛ فدخل على رياح بن عثمان بن حيّان المرّي وأخيه، فذبحهما ثم رجع؛ فأخبر محمدًا، ثم تقدّم فاتل حتى قتل من ساعته. رجع الحديث إلى حديث عمر: حدثني أزهر، قال: حدثني أخي، قال: لما رجع ابن خضير قتل رياحًا وابن مسلم بن عقبة. وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: ذبح ابن خضير رياحًا ولم يجهز عليه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى مات؛ وقتل معه عباسًا أخاه؛ وكان مستقيم الطريقة، فعاب الناس ذلك عليه؛ ثم مضى إلى ابن القسري وهو محبوس في دار ابن هشام، فنذر به فردم بابي الدار دونه، فعالج البابين، فاجتمع من في الحبس فسدّوهما، فلم يقدر عليهم؛ فرجع إلى محمد، فقاتل بين يديه حتى قتل. حدثني مسكين بن حبيب بن محمد، قال: لما جاءت العصر صلّاها محمد في مسجد بني الديل، في الثنيّة، فلما سلّم استسقى، فسقته ربيحة بنت أبي شاكر القرشية، ثم قالت له: جعلت فداك! انج بنفسك، قال: إذًا لا يبقى بها ديك يصرخ؛ ثم مضى فلما كان ببطن مسيل سلع، نزل فعرقب دابته، وعرقب بنو شجاع دوابهم، ولم يبق أحد إلا كسر غمد سيفه. قال مسكين: فلقد رأيتني وأنا غلام، جمعت من حليها نحوًا من ثلثمائة درهم؛ ثم قال لهم: قد بايعتموني ولست بارحًا حتى أقتل، فمن أحبّ أن ينصرف فقد أذنت له، ثم أقبل على ابن خضير، فقال له: قد أحرقت الديوان؟ قال: نعم؛ خفت أن يؤخذ الناس عليه؟ قال: أصبت. حدثني أزهر، قال: حدثني أخواي، قالا: لقد هزمنا يومئذ أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثًا، ولكنا لم نكن نعرف الهزيمة؛ ولقد سمعنا يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، يقول، وقد هزمناهم: ويل أمه فتحًا لو كان له رجال! حدثني عيسى، قال: كان ممّن انهزم يومئذ وفّر عن محمد عبد العزيز ابن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فأرسل محمد وراءه، فأتيَ به، فجعل الصبيان يصيحون وراءه: " ألا باقة بقبقبة "، فكان عبد العزيز يقول بعد ذلك: إن أشدّ ما أتى عليَّ لصياح الصبيان. وحدثني عيسى، قال: حدثنا مولى لهشام بن عمارة بن الوليد بن عدي ابن الخيار، قال: كنا مع محمد، فتقدّم هشام بن عمارة إليه وأنا معه، فقال: إني لا آمن أن يخذلك من ترى، فأشهد أنّ غلامي هذا حرٌّ لوجه الله إن رمت أبدأ أو تقتل أو أقتل أو نغلب؛ فقلت: فوالله إنّي لمعه إذ وقعت بترسه نشابة، ففلقته باثنتين، ثم خسفت في درعه، فالتفت إلي فقال: فلان! قلت: لبيك! قال: ويلك! رأيت مثل هذا قطّ يا فلان! أيما أحبّ إليك؛ نفسي أم أنت؟ قلت: لا بل نفسك، قال: فأنت حرّ لوجه الله، فانطلق هاربًا. وحدثني متوكل بن أبي الفحوة، قال: حدثني محمد بن عبد الواحد بن عبد الله بن أبي فروة، قال: إنّا لعلى ظهر سلع ننظر، وعليه أعاريب جهينة، إذ صعد إلينا رجل بيده رمح، قد نصب عليه رأس رجل متّصل بحلقومه وكبده وأعفاج بطنه، قال: فرأيت منه منظرًا هائلًا، وتطيّرت منه الأعاريب، وأجفلت هاربة حتى أسهلت، وعلا الرجل الجبل، ونادى على الجبل رطانة لأصحابه بالفارسية كوهبان؛ فصعد إليه أصحابه حتى علوا سلعًا فنصبوا عليه راية سوداء، ثم انصبّوا إلى المدينة، فدخلوها، وأمرت أسماء بنت حسن ابن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب - وكانت تحت عبد الله ابن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس - بخمار أسود، فنصب على منارة مسجد رسول الله ﷺ؛ فلمّا رأى ذلك أصحاب محمد تنادوا: دخلت المدينة، وهربوا. قال: وبلغ محمدًا دخول الناس من سلع، فقال: لكلّ قوم جبل يعصمهم؛ ولنا جبل لا نؤتى إلّا منه. وحدثني محمد بن إسماعيل، عن الثقة عنده، قال: فتح بنو أبي عمرو الغفاريون للمسوّدة طريقًا في بني غفار، فدخلوا منه حتى جاءوا من وراء أصحاب محمد. وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال: نادى محمد يومئذ حميد بن قحطبة: إن كنت فارسًا وأنت تعتدّ ذاك على أهل خراسان فابرز لي، فأنا محمد بن عبد الله، قال: قد عرفتك وأنت الكريم ابن الكريم، الشريف ابن الشريف؛ لا والله يا أبا عبد الله لا أبرز لك وبين يدي من هؤلاء الأغمار إنسان واحد؛ فإذا فرغت منهم فسأبرز لك لعمري. وحدثني عثمان بن المنذر بن مصعب بن عروة بن الزبير، قال: حدثني رجل من بني ثعلبة بن سعد، قال: كنت بالثنيّة يوم قتل محمد بن عبد الله ابن حسن ومعه ابن خضير، قال: فجعل ابن قحطبة يدعو ابن خضير إلى الأمان، ويشحّ به عن الموت، وهو يشدّ على الناس بسيفه مترجّلًا، يتمثل: لا تسقه حزرًا ولا حليبًا ** إن لم تجده سابحًا يعبوبا ذا ميعة يلتهم الجبوبا ** كالذئب يتلو طمعًا قريبا يبادر الآثار أن تئوبا ** وحاجب الجونة أن يغيبا قال: فخالط الناس، فضربه ضارب على أليته فخلّها، فرجع إلى أصحابه، فشقّ ثوبًا فعصّبها إلى ظهره، ثم عاد إلى القتال، فضربه ضارب على حجاج عينه، فأغمض السيف في عينه، وخرّ فابتدره القوم، فحزوا رأسه؛ فلما قتل ترجّل محمد، فقاتل على جيفته حتى قتل. وحدثني مخلد بن يحيى بن حاضر بن المهاجر الباهلي، قال: سمعت الفضل بن سليمان مولى بني نمير يخبر عن أخيه - وكان قد قتل له أخ مع محمد - قال: كان الخراسانية إذا نظروا إلى ابن خضير تنادوا: " خضير آمد، خضير آمد! "، وتصعصعوا لذلك. وحدثني هشام بن محمد بن عروة بن هشام بن عروة، قال: أخبرني ماهان بن بخت مولى قحطبة، قال: أتينا برأس ابن خضير؛ فوالله ما جعلنا نستطيع حمله لما كان به من الجراح؛ والله لكأنه باذنجاتة مفلّقة، وكنا نضمّ أعظمه ضمّا. وحدثني أزهر بن سعيد، قال: لما نظر أصحاب محمد إلى العلم الأسود على منارة المسجد فتّ ذلك في أعضادهم، ودخل حميد بن قحطبة من زقاق أشجع على محمد فقتله وهو لا يشعر، وأخذ رأسه فأتيَ به عيسى، وقتل معه بشرًا كثيرًا. قال: وحدثني أبو الحسن الحذّاء، قال: أخبرني مسعود الرحال، قال: رأيت محمدًا يومئذ باشر القتال بنفسه، فأنظر إليه حين ضربه رجل بسيف دون شحمة أذنه اليمنى، فبرك لركبتيه وتعاوروا عليه، وصاح حميد بن قحطبة: لا تقتلوه، فكفّوا، وجاء حميد فاحتزّ رأسه. وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: برك محمد يومئذ لركبتيه وجعل يذبّ عن نفسه ويقول: ويحكم! أنا ابن نبيكم، محرج مظلوم! وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني ابن أبي ثابت؛ عن عبد الله بن جعفر، قال: طعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل فاحتزّ رأسه، فأتى به عيسى. وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني أبو الحجاج المنقري، قال: رأيت محمدًا يومئذ وإن أشبه ما خلق الله به لما ذكر عن حمزة بن عبد المطلب، يهذّ الناس بسيفه هذًا؛ ما يقاربه أحد إلا قتله، ومعه سيف، لا والله ما يليق شيئًا؛ حتى رماه إنسان بسهم كأني أنظر إليه، أحمر أزرق، ثم دهمتنا الخيل، فوقف إلى ناحية جدار، فتحاماه الناس، فوجد الموت، فتحامل على سيفه فكسره؛ قال: فسمعت جدّي يقول: كان معه سيف رسول الله ﷺ ذو الفقار. وحدثني هرمز أبو علي مولى باهلة، قال: حدثني عمرو بن المتوكل - وكانت أمّه تخدم فاطمة بنت حسين - قال: كان مع محمد يوم قتل سيف النبي ﷺ ذو الفقار، فلما أحسّ الموت أعطى سيفه رجلًا من التجار كان معه - وكان له عليه أربعمائة دينار - فقال له: خذ هذا السيف؛ فإنك لا تلقى به أحدًا من آل أبي طالب إلّا أخذه وأعطاك حقك. قال: فكان السيف عنده، حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة فأخبر عنه، فدعا الرجل وأخذ السيف منه، وأعطاه أربعمائة دينار، فلم يزل عنده حتى قام المهدي، ووليَ جعفر المدينة، وبلغه مكان السيف؛ فأخذه، ثم صار إلى موسى، فجرّب به على كلب، فانقطع السيف. وحدثني عبد الملك بن قريب الأصمعي، قال: رأيت الرشيد أمير المؤمنين بطوس، متقلدًا سيفًا، فقال لي: يا أصمعي، ألا أريك ذا الفقار؟ قلت: بلى، جعلني الله فداك! قال: استلّ سيفي، فاستللته، فرأيت فيه ثمان عشرة فقارة. وحدثني أبو عاصم النبيل، قال: حدثني أخو الفضل بن سليمان النميري قال: كنا مع محمد، فأطاف بنا أربعون ألفًا، فكانوا حولنا كالحرّة السوداء، فقلت له: لو حملت فيهم لانفرجوا عنك، فقال: إنّ أمير المؤمنين لا يحمل، إنه إن حمل لم تكن له بقيّة. قال: فجعلنا نعيد ذلك عليه؛ فحمل، فالتفّوا عليه فقتلوه. وحدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سلم - ويدعى ابن البوّاب؛ وكان خليفة الفضل بن الربيع يحجب هارون، من أدباء الناس وعلمائهم - قال: حدثني أبي عن الأسلمي - يعني عبد الله بن عامر - قال: قال لي محمد ونحن نقاتل معه عيسى: تغشانا سحابة؛ فإن أمطرتنا ظفرنا، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي على أحجار الزيت؛ قال: فوالله ما لبثنا أن أطلّتنا سحابة فأحالت حتى قلت: تفعل، ثم جاوزتنا فأصابت عيسى وأصحابه، فما كان إلا كلا ولا؛ حتى رأيته قتيلًا بين أحجار الزيت. وحدثني إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن أبي الكرام، قال: قال عيسى لحميد بن قحطبة عند العصر: أراك قد أبطأت في أمر هذا الرجل، فولّ حمزة بن مالك حربَه، فقال: والله لو رمت أنت ذاك ما تركتك؛ أحين قتلت الرجال ووجدت ريح الفتح! ثم جدّ في القتال حتى قتل محمد. وحدثني جوّاد بن غالب بن موسى مولى بني عجل، قال: أخبرني حميد مولى محمد بن أبي العباس، قال: اتّهم عيسى حميد بن قحطبة يومئذ - وكان على الخيل - فقال: يا حميد، ما أراك تبالغ، قال: أتتهمني! فوالله لأضربنّ محمدًا حين أراه بالسيف أو أقتل دونه. قال: فمرّ به وهو مقتول؛ فضربه بالسيف ليبرّ يمينه. وحدثني يعقوب بن القاسم، قال: حدثني علي بن أبي طالب، قال: قتل محمد بعد العصر، يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وحدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني أبي، قال: بعث عيسى فدقّ السجن، فحملنا إليه والقتال دائب بينهم؛ فلم نزل مطّرحين بين يديه، حين أتيَ برأس محمد، فقلت لأخي يوسف: إنه سيدعونا إلى معرفته، ولا نعرفه له؛ فإنا نخاف أن نخطىء؛ فلما أتيَ به قال: أتعرفانه؟ قلنا: نعم، قال: انظرا، أهو هذا؟ قال أبي: فبدرت يوسف، فقلت: أرى دمًا كثيرًا وأرى ضربًا؛ فوالله ما أثبته، قال: فأطلقنا من الحديد، وبتنا عنده ليلتنا كلها حتى أصبحنا. قال: ثم ولّاني ما بين مكة والمدينة، فلم أزل واليًا عليه حتى قدم جعفر بن سليمان، فحدرني إليه، وألزمني نفسه. وحدثني علي بن إسماعيل بن صالح بن ميثم، قال: حدثني أبو كعب، قال: حضرت عيسى حين قتل محمدًا، فوضع رأسه بين يديه، فأقبل على أصحابه، فقال: ما تقولون في هذا؟ فوقعوا فيه، قال: فأقبل عليهم قائد له، فقال: كذبتم والله وقلتم باطلًا، لما على هذا قاتلناه؛ ولكنه خالف أمير المؤمنين، وشقّ عصا المسلمين؛ وإن كان لصوّامًا قوّامًا. فسكت القوم. وحدثني ابن البوّاب عبد الله بن محمد، قال: حدثني أبي، عن الأسلمي، قال: قدم على أبي جعفر قادم، فقال: هرب محمد، فقال: كذبت! نحن أهل البيت لا نفرّ. وحدثني عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: حدثني أبو الحجاج الجمّال، قال: إني لقائم على رأس أبي جعفر، وهو مسائلي عن مخرج محمد، إذ بلغه أن عيسى قد هُزم - وكان متّكئًا فجلس - فضرب بقضيب معه مصلّاه، وقال: كلّا، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء! ما أني لذلك بعد!. قال: وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدثني بعض أصحابنا، قال: أصاب أبا القلمّس نشابة في ركبته، فبقي نصلها، فعالجها فأعياه، فقيل له: دعه حتى يقيح فيخرج، فتركه، فلما طلب بعد الهزيمة لحق بالحرّة، وأبطأ به ما أصاب ركبته، فلم يزل بالنّصل حتى استخرجه ثم جثا لركبتيه، ونكب كنانته، فرماهم فتصدّعوا عنه، فلحق بأصحابه فنجا. وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدثني عبد الله بن عمر بن القاسم، قال: لما انهزمنا يومئذ كنت في جماعة، فيهم أبو القلمّس، فالتفتّ إليه، فإذا هو مستغرب ضحكًا، قال: فقلت: والله ما هذا بموضع ضحك، وخفضت بصري؛ فإذا برجل من المنهزمة قد تقطع قميصه، فلم يبق منه إلا جربّانه وما يستر صدره إلى ثدييه، وإذا عورته بادية وهو لا يشعر؛ قال: فجعلت أضحك لضحك أبي القلمّس. فحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: لم يزل أبو القمّس مختفيًا بالفرع، وبقي زمانًا ثم عدا عليه عبد له، فشدخ رأسه بصخرة فقتله، ثم أتى أمّ ولد كانت له، فقال: إني قد قتلت سيّدك فهلمّي أتزوّجك؟ قالت: رويدًا أتصنّع لك، فأمهلها، فأتت السلطان فأخبرته، فأخذ العبد فشدخ رأسه. حدثني محمود بن معمر بن أبي الشدائد، قال: أخبرني أبي، قال: لما دخلت خيل عيسى من شعب بني فزارة، فقتل محمد، اقتحم نفر على أبي الشدائد فقتلوه، وأخذوا رأسه، فنادت ابنته الناعمة بنت أبي الشدائد: وارجالاه! فقال لها رجل من الجند: ومن رجالك؟ قالت: بنو فزارة، قال: والله لو علمت ما دخلت بيتك، فلا بأس عليك، أنا امرؤ من عشيرتك من باهلة؛ وأعطاها قطعة من عمامته فعلقتها على بابها. قال: وأتي عيسى برأسه، وعنده ابن أبي الكرام ومحمد بن لوط بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، فاسترجعا وقالا: والله ما بقي من أهل المدينة أحد، هذا رأس أبي الشدائد، فالح بن معمر - رجل من بني فزارة مكفوف - قال: فأمر مناديًا فنادى: من جاء برأس ضربنا رأسه. وحدثني علي بن زادان، قال: حدثني عبد الله بن برقي، قال: رأيت قائدًا من قوّاد عيسى، جاء في جماعة يسأل عن منزل ابن هرمز؛ فأرشدناه إليه. قال: فخرج وعليه قميص رياط، قال: فأنزلوا قائدهم، وحملوه على برذونه وخرجوا به يزفّونه، حتى أدخلوه على عيسى، فما هاجه. حدثني قدامة بن محمد، قال: خرج عبد الله بن يزيد بن هرمز ومحمد ابن عجلان مع محمد، فلما حضر القتال، تقلد كلّ واحد منهما قوسًا، فظننّا أنهما أرادا أن يريا الناس أنهما قد صلحا لذلك. وحدثني عيسى، قال: حدثني حسين بن يزيد، قال: أتيَ بابن هرمز إلى عيسى بعد ما قتل محمد، فقال: أيها الشيخ، أما وزعك فقهك عن الخروج مع من خرج! قال: كانت فتنةً شملت الناس، فشملتنا فيهم، قال: اذهب راشدًا. وحدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: سمعت مالك بن أنس، يقول: كنت آتي ابن هرمز فيأمر الجارية فتغلق الباب، وترخي الستر، ثم يذكر أوّل هذه الأمّة، ثم يبكي حتى تخضلّ لحيته. قال: ثم خرج مع محمد فقيل له: والله ما فيك شيء، قال: قد علمت؛ ولكن يراني جاهل فيقتدي بي. حدثني عيسى، قال: حدثني محمد بن زيد، قال: لمّا قتل محمد انخرقت السماء بالمطر بما لم أر مثله انخرق قطّ منها، فنادى منادي عيسى: لا يبيتنّ بالمدينة أحدّ من الجند إلا كثير بن حصين وجنده، ولحق عيسى بعسكره بالجرف؛ فكان به حتى أصبح، ثم بعث بالبشارة مع القاسم بن حسن بن زيد، وبعث بالرأس مع ابن أبي الكرام. وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لما أصبح محمد في مصرعه، أرسلت أخته زينب بنت عبد الله وابنته فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتم هذا الرجل، وقضيتم منه حاجتكم، فلو أذنتم لنا فواريناه! فأرسل إليهما: أما ما ذكرتما يا بنّي عمي مما نيل منه فوالله ما أمرت ولا علمت؛ فوارياه راشدتين. فبعثتا إليه فاحتمل، فقيل: إنه حشي في مقطع عنقه عديله قطنًا، ودفن بالبقيع، وكان قبره وجاه زقاق دار علي بن أبي طالب، شارعًا على الطريق أو قريبًا من ذلك؛ وبعث عيسى بألوية فوضع على باب أسماء بنت حسن بن عبد الله واحد، وعلى باب العباس بن عبد الله بن الحارث آخر، وعلى باب محمد بن عبد العزيز الزهري آخر، وعلى باب عبيد الله بن محمد بن صفوان آخر، وعلى باب دار أبي عمرو الغفاري آخر، وصاح مناديه: من دخل تحت لواء منها، أو دخل دارًا من هذه الدور فهو آمن؛ ومطرت السماء مطرًا جودًا، فأصبح الناس هادئين في أسواقهم؛ وجعل عيسى يختلف إلى المسجد من الجرف، فأقام بالمدينة أيامًا، ثم شخص صبح تسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان يريد مكة. حدثني أزهر بن سعيد، قال: لما كان الغد من قتل محمد أذن عيسى في دفنه، وأمر بأصحابه فصلبوا ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر رن عبد العزيز. قال أزهر: فرأيتهم صفين؛ ووكل بخشبة ابن خضير من يحرسها، فاحتمله قومٌ في الليل فواروه، ولم يقدر عليهم، وأقام الآخرون مصلّبين ثلاثًا، ثم تأذّى بهم الناس، فأمر عيسى بهم فألقوا على المفرح من سلع، وهي مقبرة اليهود، فلم يزالوا هنالك، ثم ألقوا في خندق بأصل ذباب. حدثني عيسى بن عبد الله قال: حدثتني أمي أم حسين بنت عبد الله بن محمد بن علي بن حسين، قالت: قلت لعمّي جعفر بن محمد: إني - فديتك - ما أمر محمد بن عبد الله هذا؟ قال: فتنته يقتل فيها محمد عند بيت رومي، ويقتل أخوه لأبيه وأمّه بالعراق وحوافر فرسه في ماء. حدثني عيسى، عن أبيه، قال: خرج مع محمد حمزة بن عبد الله بن محمد بن علي - وكان عمه جعفر يقول له: هو والله مقتول، قال: فتنحّى جعفر. حدثني عيسى، قال: حدثنا ابن أبي الكرام، قال: بعثني عيسى برأس محمد، وبعث معي مائة من الجند، قال: فجئنا حتى إذا أشرفنا على النجف كبّرنا - قال: وعامر بن إسماعيل يومئذ بواسط محاصر هارون ابن سعد العجلي - فقال أبو جعفر للربيع: ويحك! ما هذا التكبير! قال: هذا ابن أبي الكرام، جاء برأس محمد بن عبد الله، قال: ائذن له ولعشرة ممن معه، قال: فأذن لي، فوضعت الرأس بين يديه في ترس، فقال: من قُتل معه من أهل بيته؟ قلت: لا والله ولا إنسان، قال: سبحان الله! هو ذاك. قال: فرفع رأسه إلى الربيع، فقال: ما أخبرنا صاحبه الذي كان قبله؟ قال الربيع: زعم أنه قتل منهم عدد كثير، قلت: لا والله ولا واحد. حدثني علي بن إسماعيل بن صالح بن ميثم، قال: لما قدم برأس محمد على أبي جعفر وهو بالكوفة، أمر به فطيف في طبق أبيض، فرأيته آدم أرقط، فلما أمسى من يومه بعث به إلى الآفاق. وحدثني عبد الله بن عمر بن حبيب من أهل ينبع، قال: لما أتيَ أبو جعفر برءوس بني شجاع، قال: هكذا فليكن الناس، طلبت محمدًا فاشتمل هؤلاء عليه، ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه فصبروا حتى قتلوا. قال عمر: أنشدني عيسى بن إبراهيم وإبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب، ومحمد بن يحيى ومحمد بن الحسن بن زبالة وغيرهم لعبد الله ابن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يرثي محمدًا: تبكي مدلّه أن تقنّص حبلهم ** عيسى وأقصد صائبًا عثمانا هلّا على المهدي وابني مصعب ** أذريت دمعك ساكبًا تهتانًا! ولفقد إبراهيم حين تصدّعت ** عنه الجموع فواجه الأقرانا سالت دموعك ضلّة قد هجت لي ** برحاء وجد تبعث الأحزانا والله ما ولد الحواضن مثلهم ** أمضى وأرفع محتدًا ومكانا وأشد ناهضةً وأقول للّتي ** تنفي مصادر عدلها البهتانا فهناك لو فقّأت غير مشوّه ** عينيك من جزع عذرت علانا رزء لعمرك لو يصاب بمثله ** مبطان صدّع رزؤه مبطانا وقال ابن مصعب: يا صاحبي دعا الملامة واعلما ** أن لست في هذا بألوم منكما وقفا بقبر ابن النبي فسلّما ** لا بأس أن تقفا به فتسلّما قبر تضمّن خير أهل زمانه ** حسبًا وطيب سجيّةٍ وتكرّما رجل نفي بالعدل جور بلادنا ** وعفا عظيمات الأمور وأنعما لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر ** عنه، ولم يفتح بفاحشة فما لو أعظم الحدثان شيئًا قبله ** بعد النبي به لكنت المعظما أو كان أمتع بالسلامة قبله ** أحدًا لكان قصاره أن يسلما ضحّوا بإبراهيم خير ضحيّة ** فتصرّمت أيامه وتصرّما بطلًا يخوض بنفسه غمراتها ** لا طائشًا رعشًا ولا مستسلما حتى مضت فيه السيوف وربّما ** كانت حتوفهم السيوف وربّما أضحى بنو حسن أبيح حريمهم ** فينا وأصبح نهبهم متقسما ونساؤهم في دورهنّ نوائح ** سجع الحمام إذا الحمام ترنّما يتوسّلون بقتلهم ويرونه ** شرفًا لهم عند الإمام ومغنما والله لو شهد النبي محمّدٌ ** صلّى الإله على النبي وسلّما إشراع أمّته الأسنّة لابنه ** حتى تقطّر من ظباتهم دما حقًا لأيقن أنهم قد ضيّعوا ** تلك القرابة واستحلّوا المحرما وحدثني إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم، قال: حدثني موسى بن عبد الله ابن حسن، قال: خرجت من منازلنا بسويقة في الليل، وذلك قبل مخرج محمد ابن عبد الله؛ فإذا بنسوة كأنما خرجن من ديارنا؛ فأخذتني عليهنّ غيرة، فإني لأتبعهنّ أنظر أين يردن؛ حتى إذا كنّ بطرف الحميراء من جانب الغرس؛ التفتت إلي إحداهنّ، فقالت: سويقة بعد ساكنها يباب ** لقد أمست أجدّبها الخراب فعرفت أنهنّ من ساكني الأرض، فرجعت. وحدثني عيسى، قال: لما قتل عيسى بن موسى محمدًا قبض أموال بني حسن كلّها، فأجاز ذلك أبو جعفر. وحدثني أيوب بن عمر، قال: لقيَ جعفر بن محمد أبا جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، ردّ علي قطيعتي عين أبي زياد آكل من سعفها، قال: إياي تكلم بهذا الكلام! والله لأزهقنّ نفسك. قال: فلا تعجل علي؛ قد بلغت ثلاثًا وستين، وفيها مات أبي وجدّي علي بن أبي طالب؛ وعلي كذا وكذا إن ربتك بشيء أبدًا، وإن بقيت بعدك إن ربت الذي يقوم بعدك. قال: فرقّ له وأعفاه. وحدثني هشام بن إبراهيم بن هشام بن راشد، قال: لم يرد أبو جعفر عين أبي زياد حتى مات فردّها المهدي على ولده. وحدثني هشام بن إبراهيم، قال: لما قتل محمد أمر أبو جعفر بالبحر فأقفل على أهل المدينة، فلم يحمل إليهم من ناحية البحار شيء؛ حتى كان المهدي فأمر بالبحر ففتح لهم، وأذن في الحمل. وحدثني محمد بن جعفر بن إبراهيم، قال: حدثتني أمّي أمّ سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر زوجة موسى بن عبد الله، قالت: خاصم بنو المخزومية عيسى وسليمان وإدريس بنو عبد الله بن حسن بن محمد بن عبد الله بن حسن في ميراث عبد الله، وقالوا: قتل أبوكم محمد فورثه عبد الله؛ فتنازعوا إلى الحسن بن زيد؛ فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين أبي جعفر، فكتب إليه: أما بعد؛ فإذا بلغك كتابي هذا فورّثهم من جدّهم، فإني قد رددت عليهم أموالهم صلةً لأرحامهم، وحفظًا لقرابتهم. وحدثني عيسى، قال: خرج مع محمد من بني هاشم الحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وحسين وعيسى ابنا زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب؛ قال: فحدثني عيسى، قال: بلغني أن أبا جعفر كان يقول: واعجبا لخروج ابني زيد بن علي وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه، وأحرقناه كما أحرقه، وحمزة ابن عبد الله بن محمد بن علي بن حسين بن أبي طالب، وعلي وزيد ابنا حسن ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب! قال عيسى: قال أبو جعفر للحسن بن زيد: كأني أنظر إلى ابنيك واقفين على رأس محمد بسيفين، عليهما قباءان. قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أشكو إليك عقوقهما قبل اليوم، قال: أجل فهذا من ذاك. والقاسم ابن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والمرجّى علي بن جعفر بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال عيسى: قال أبو جعفر لجعفر بن إسحاق: من المرجّى هذا؟ فعل الله به وفعل! قال: يا أمير المؤمنين؛ ذاك ابني، والله لئن شئت أن أنتفي منه لأفعلنّ. ومن بني عبد شمس محمد بن عبد الله بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس. قال: وحدثني أبو عاصم النبيل، قال: حدثني عبّاد بن كثير، قال: خرج ابن عجلان مع محمد، وكان على ثقله، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة قيّده، فدخلت عليه، فقلت: كيف ترى رأي أهل البصرة في رجل قيّد الحسن؟ قال: سيّئًا والله، قال: قلت: فإن ابن عجلان بهذه كالحسن ثمّ، فتركه. ومحمد بن عجلان مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله، أنّ عبيد الله بن عمر ابن حفص بن عاصم خرج معه؛ فأتى به أبو جعفر بعد قتل محمد، فقال له: أنت الخارج علي مع محمد؟ قال: لم أجد إلّا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد ﷺ، قال عمر: هذا وهمٌ. قال: وحدثني عبد العزيز بن أبي سلمة بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، قال: كان عبيد الله قد أجاب محمدًا إلى الخروج معه؛ فمات قبل أن يخرج، وخرج معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة بن أبي رهم بن عبد العزّى ابن أبي قيس بن عبد وُدّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وخرج معه عبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن ابن المسور بن مخرمة وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وعبد الحميد بن جعفر وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بنى سباع، وابن سباع من خزاعة حليف بني زهرة، وبنو إبراهيم وإسحاق وربيعة وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقو وعثمان وعبد العزيز؛ بنو عبد الله بن عطاء. وحدثني إبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير. قال: وحدثني الزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، قال: إنا لبالمُرّ من بطن إضم، وعندي زوجتي أمينة بنت خضير؛ إذ مرّ بنا رجل مصعد من المدينة، فقالت له: ما فعل محمد؟ قال: قتل، قالت: فما فعل ابن خضير؟ قال: قتل، فخرّت ساجدة، فقلت: أتسجدين أن قُتِل أخوك! قالت: نعم، أليس لم يفرّ ولم يؤسر! قال عيسى: حدثني أبي، قال: قال أبو جعفر لعيسى بن موسى: من استنصر مع محمد؟ قال: آل الزبير، قال: ومن؟ قال: وآل عمر، قال: أما والله لعن غير مودّة بهما له ولا محبّة له ولا لأهل بيته. قال: وكان أبو جعفر يقول: لو وجدت ألفًا من آل الزبير كلهم محسن وفيهم مسىء واحدٌ لقتلتهم جميعًا، ولو وجدت ألفًا من آل عمر كلهم مسيء وفيهم محسنٌ واحد لأعفيتهم جميعًا. قال عمر: وحدثني إبراهيم بن مصعب بن عمارة بن حمزة بن مصعب، قال: حدثني محمد بن عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، قال: لما قتل محمد، هرب أبي موسى بن عبد الله بن حسن وأنا معهما وأبو هبّار المزني، فأتينا مكة، ثم انحدرنا إلى البصرة، فاكترينا من رجل يدعى حكيمًا، فلما وردنا البصرة - وذلك بعد ثلث الليل - وجدنا الدروب مغلقة، فجلسنا عندها حتى طلع الفجر؛ ثم دخلنا فنزلنا المربد، فلما أصبحنا أرسلنا حكيمًا يبتاع لنا طعامًا؛ فجاء به على رجل أسود، في رجله حديدة، فدخل به علينا فأعطاه جُعْله، فتسخّط علينا، فقلنا: زده، فتسخّط، فقلنا له: ويلك! أضعف له، فأبى، فاستراب بنا، وجعل يتتصفّح وجوهنا. ثم خرج فلم ننشب أن أحاطت بمنزلنا الخيل، فقلنا لربّة المنزل: ما بال الخيل؟ فقالت: لا بأس فيها، تطلب رجلًا من بني سعد يدعى نميلة بن مرّة، كان خرج مع إبراهيم، قال: فوالله ما راعنا إلّا بالأسود قد دخل به علينا، قد غطّي رأسه ووجهه. فلما دُخل به كشف عنه، ثم قيل: أهؤلاء؟ قال: نعم هؤلاء؛ هذا موسى بن عبد الله، وهذا عثمان بن محمد، وهذا ابنه؛ ولا أعرف الرابع غير أنه من أصحابهم. قال: فأخذنا جميعًا، فدخل بنا على محمد بن سليمان فلما نظر إلينا أقبل على موسى، فقال: لا وصل الله رحمك! أتركت البلاد جميعًا وجئتني! فإما أطلقتك فتعرّضت لأمير المؤمنين، وإمّا أخذتك فقطعت رحمك. ثم كتب إلى أمير المؤمنين بخبرنا. قال: فجاء الجواب أن احملهم إلي، فوجّهنا إليه ومعنا جند، فلما صرنا بالبطيحة وجدنا بها جندًا آخر ينتظروننا؛ ثم لم نزل نأتي على المسالح من الجند في طريقنا كله، حتى وردنا بغداد، فدُخل بنا على أبي جعفر، فلما نظر إلى أبي قال: هيه! أخرجت علي مع محمد! قال: قد كان ذاك؛ فأغلظ له أبو جعفر؛ فراجعه مليًّا، ثم أمر به فضربت عنقه. ثم أمر بموى س فضرب بالسياط، ثم أمر بي فقرّبت إليه، فقال: اذهبوا به فأقيموه على رأس أبيه؛ فإذا نظر إليه فاضربوا عنقه على جيفته. قال: فكلمه عيسى بن علي، وقال: والله ما أحسبه بلغ؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، كنت غلامًا حدثًا غرًا أمرني أبي فأطعته، قال: فأمر بي فضربت خمسين سوطًا، ثم حبسني في المطبق وفيه يومئذ يعقوب بن داود، فكان خير رفيق أرافقه وأعطفه، يطعمني من طعامه، ويسقيني من شرابه، فلم نزل كذلك حتى توفّي أبو جعفر، وقام المهدي وأخرج يعقوب، فكلمه في فأخرجني. قال: وحدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني محمد بن خالد، قال: أخبرني محمد بن عروة بن هشام بن عروة، قال: إني لعند أبي جعفر، إذ أتى فقيل له: هذا عثمان بن محمد بن خالد قد دخل به، فلما رآه أبو جعفر، قال: أين المال الذي عندك؟ قال: دفعته إلى أمير المؤمنين رحمه الله، قال: ومن أمير المؤمنين؟ قال: محمد بن عبد الله، قال: أبايعته؟ قال: نعم كما بايعته، قال: يا بن اللخناء! قال: ذاك من قامت عنه الإماء، قال: اضرب عنقه، قال: فأخذ فضربت عنقه. قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني محمد ابن عثمان بن خالد الزبيري، قال: لما خرج محمد خرج معه رجلٌ من آل كثير بن الصلت، فلما قتل وهزم أصحابه تغيّبوا؛ فكان أبي والكثيري فيمن تغيّب، فلبثوا بذلك؛ حتى قدم جعفر بن سليمان واليًا على المدينة، فاشتدّ في طلب أصحاب محمد، فاكترى أبي من الكثيري إبلًا كانت له، فخرجنا متوجّهين نحو البصرة؛ وبلغ الخبر جعفرًا، فكتب إلى أخيه محمد يعلمه بتوجّهنا إلى البصرة، ويأمره بالترصّد لنا والتيقظ لأمرنا ومقدمنا، فلما قدمنا علم محمد بمقدمنا ومكاننا، فأرسل إلينا فأخذنا، فأتيَ بنا، فأقبل عليه أبي، فقال: يا هذا، اتّق الله في كريّنا هذا؛ فإنه أعرابي لا علم له بنا، إنما أكرانا ابتغاء الرزق، ولو علم بجريرتنا ما فعل؛ وأنت معرّضه لأبي جعفر؛ وهو من قد علمت؛ فأنت قاتله ومتحمّل مأثمه. قال: فوجم محمد طويلًا، ثم قال: هو والله أبو جعفر، والله ما أتعرّض له، ثم حُملنا جميعًا فدخلنا على أبي جعفر؛ وليس عنده أحد يعرف الكثيري غير الحسن بن زيد، فأقبل على الكثيري، فقال: يا عدوّ الله، أتكرِي عدوّ المؤمنين، ثم تنقله من بلد إلى بلد، تواريه مرة وتظهره أخرى! قال: يا أمير المؤمنين، وما علمي بخبره وجريرته وعداوته إياك! إنما أكريته جاهلًا به، ولا أحسبه إلّا رجلًا من المسلمين، برىء الساحة؛ سليم الناحية؛ ولو علمت حاله لم أفعل. قال: وأكبّ الحسن بن زيد ينظر إلى الأرض، لا يرفع رأسه. قال: فأوعد أبو جعفر الكثيري وتهدده، ثم أمر بإطلاقه، فخرج فتغيّب، ثم أقبل على أبي، فقال: هيه يا عثمان! أنت الخارج على أمير المؤمنين، والمعين عليه! قال: بايعت أنا وأنت رجلًا بمكة، فوفيت ببيعتي وغدرت ببيعتك. قال: فأمر به فضربت عنقه. قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: أتيَ أبو جعفر بعبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فنظر إليه فقال: إذا قتلتُ مثل هذا من قريش فمن أستبقي! ثم أطلقه، وأتي بعثمان بن محمد ابن خالد فقتله، وأطلق ناسًا من القرشيّين، فقال له عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين، ما أشقى هذا بك من بينهم! فقال: إن هذا يدي. قال: وحدثني عيسى، قال: سمعت حسن بن زيد يقول: غدوت يومًا على أبي جعفر؛ فإذا هو قد أمر بعمل دكان، ثم أقام عليه خالدًا، وأتيَ بعلي بن المطلب بن عبد الله بن حنطب، فأمر به فضرب خمسمائة سوط، ثم أتيَ بعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع فأمر به فجُلِد خمسمائة سوط؛ فما تحرّك واحد منهما، فقال لي: هل رأيت أصبر من هذين قطّ! والله إنا لنؤتي بالذين قد قاسوا غلظ المعيشة وكدّها، فما يصبرون هذا الصبر، وهؤلاء أهل الخفض والكنّ والنعمة، قلت: يا أمير المؤمنين، هؤلاء قومك أهل الشرف والقدر، قال: فأعرض عني، وقال: أبيت إلا العصبيّة! ثم أعاد عبد العزيز بن إبراهيم بعد ذلك ليضربه، فقال: يا أمير المؤمنين، الله الله فينا! فوالله إني لمكبّ على وجهي منذ أربعين ليلة، ما صلّيت لله صلاة! قال: أنتم صنعتم ذلك بأنفسكم، قال: فأين العفو يا أمير المؤمنين؟ قال: فالعفو والله إذًا، ثم خلّى سبيله. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن منحمد بن عمر، قال: كثروا محمدًا وألحّوا في القتال حتى قتل محمد في النصف من شهر رمضان سنة خمسة وأربعين ومائة، وحمل رأسه إلى عيسى بن موسى، ودخل المدينة، وآمن الناس كلهم. وكان مكث محمد بن عبد الله من حين ظهر إلى أن قتل شهرين وسبعة عشر يومًا. وفي هذه السنة: استخلف عيسى بن موسى على المدينة كثير بن حصين حين شخص عنها بعد مقتل محمد بن عبد الله بن حسن؛ فمكث واليًا عليها شهرًا، ثم قدم عبد الله بن الربيع الحارثي واليًا عليها من قبل أبي جعفر المنصور. وفي هذه السنة ثارت السودان بالمدينة بعبد الله بن الربيع، فهرب منهم. ذكر الخبر عن وثوب السودان بالمدينة في هذه السنة والسبب الذي هيج ذلك ذكر عمر بن شبة أنّ محمد بن يحيى حدثه، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: كان رياح بن عثمان استعمل أبا بكر بن عبد الله بن أبي سبرة على صدقة أسد وطيّىء فلما خرج محمد أقبل إليه أبو بكر بما كان جبا وشمر معه، فلما استخلف عيسى كثير بن حصين على المدينة أخذ أبا بكر، فضربه سبعين سوطًا وحّدده وحبسه. ثم قدم عبد الله بن الربيع واليًا من قِبل أبي جعفر يوم السبت لخمس بقين من شوّال سنة خمس وأربعين ومائة، فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم، فخرجت طائفة من التجار حتى جاءوا دار مروان، وفيها ابن الربيع، فشكوا ذلك إليه، فنهرهم وشتمهم، وطمع فيهم الجند، فتزايدوا في سوء الرأي. قال: وحدثني عمر بن راشد، قال: انتهب الجند شيئًا من متاع السوق، وغدوا على رجل من الصرّافين يدعى عثمان بن زيد، فغالبوه على كيسه؛ فاستغاث، فخلّص ماله منهم، فاجتمع رؤساء أهل المدينة فشكوا ذلك إلى ابن الربيع فلم ينكره ولم يغيّره، ثم جاء رجل من الجند فاشترى من جزّار لحمًا يوم الجمعة، فأبى أن يعطيه ثمنه، وشهر عليه السيف؛ فخرج عليه الجزّار من تحت الوضم بشفرة، فطعن بها خاصرته، فخرّ عن دابته، واعتوره الجزّارون فقتلوه، وتنادى السودان عن الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد في كلّ ناحية، فلم يزالوا على ذلك حتى أمسوا؛ فلما كان الغد هرب ابن الربيع. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: نفخ السودان في بوق لهم؛ فذكر لي بعض من كان في العالية وبعض من كان في السافلة، أنه كان يرى الأسود من سكّانهما في بعض عمله يسمع نفخ البوق، فيصغي له حتى يتيقّنه ثم يوحّش بما في يده، ويأتمّ الصوت حتى يأتيه. قال: وذلك يوم الجمعة لسبع بقين من ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائة، ورؤساء السودان ثلاثة نفر: وثيق ويعقل ورمقة. قال: فغدوا على ابن الربيع، والناس في الجمعة فأعجلوهم عن الصلاة، وخرج إليهم فاستطردوا له؛ حتى أتى السوق فمّر بمساكين خمسة يسألون في طريق المسجد، فحمل عليهم بمن معه حتى قتلوهم، ثم مر بأصيبية على طنف دار، فظنّ أن القوم منهم؛ فاستنزلهم واختدعهم وآمنهم؛ فلما نزلوا ضرب أعناقهم، ثم مضى ووقف عند الحنّاطين، وحمل عليه السودان، فأجلى هاربًا فاتّبعوه حتى صار إلى البقيع، ورهقوه فنثر لهم دارهم؛ فشغلهم بها، ومضى على وجهه حتى نزل ببطن نخل، عن ليلتين من المدينة. قال: وحدثني عيسى، قال: خرج السوّدان على ابن الربيع، ورؤساؤهم: وثيق وحديا وعنقود وأبو قيس؛ فقاتلهم فهزموه، فخرج حتى أتى بطن نخل فأقام بها. وحدثني عمر بن راشد، قال: لما هرب ابن الربيع وقع السودان في طعام لأبي جعفر من سويق ودقيق وزيت وقسب، فانتهبوه، فكان حمل الدقيق بدرهمين، وراوية زيت بأربعة دراهم. وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: أغاروا على دار مروان ودار يزيد؛ وفيهما طعام كان حمل للجند في البحر، فلم يدعوا فيهما شيئًا. قال: وشخص سليمان بن فليح ين سليمان في ذلك اليوم إلى أبي جعفر، فقدم عليه فأخبره الخبر. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: وقتل السودان نفرًا من الجند، فهابهم الجند حتى أن كان الفارس ليلقى الأسود وما عليه إلا خرقتان على عورته ودرّاعة، فيولّيه دبره احتقارًا له، ثم لم ينشب أن يشدّ عليه بعمود من عمد السوق فيقتله: فكانوا يقولون: ما هؤلاء السودان إلا سحرة أو شياطين! قال: وحدثني عثامة بن عمرو السهمي، قال: حدثني المسور بن عبد الملك، قال: لما حبس ابن الربيع أبا بكر بن أبي سبرة، وكان جاء بجباية طيّىء وأسد، فدفعها إى ل محمد، أشفق القرشيّون على ابن أبي سبرة، فلما خرج السودان على ابن الربيع، خرج ابن أبي سبرة من السجن، فخطب الناس، ودعاهم إلى الطاعة، وصلّى بالناس حتى رجع ابن الربيع. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج ابن أبي سبرة من السجن والحديد عليه، حتى أتى المسجد، فأرسل إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما، فاجتمعوا عنده، فقال: أنشدكم الله وهذه البليّة التي وقعت! فوالله لئن تمّت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى، إنه لاصطلام البلد وأهله، والعبيد في السوق بأجمعهم؛ فأنشدكم الله إلّا ذهبتم إليهم فكلمتموهم في الرجعة والفيئة إلى رأيكم، فإنهم لا نظام لهم. ولم يقوموا بدعوة؛ وإنما هم قوم أخرجتهم الحميّة! قال: فذهبوا إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحبًا بكم يا موالينا؛ والله ما قمنا إلا أنفةً لكم مما عمل بكم، فأيدينا مع أيديكم وأمرنا إليكم، فأقبلوا بهم إلى المسجد. وحدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني الحسين بن مصعب، قال: لما خرج السودان وهرب ابن الربيع، جئتهم أنا وجماعة معي، وقد عسكروا في السوق، فسألناهم أن يتفرّقوا، وأخبرناهم أنّا وإياهم لا نقوى على ما نصبو له، قال: فقال لنا وثيق: إنّ الأمر قد وقع بما ترون؛ وهو غير مبقٍ لنا ولا لكم، فدعونا نشفكم ونشتف أنفسنا، فأبينا، ولم نزل بهم حتى تفرّقوا. وحدثني عمر بن راشد، قال: كان رئيسهم وثيق وخليفته يعقل الجزّار. قال: فدخل عليه ابن عمران، قال: إلى من تعهد يا وثيق؟ قال: إلى أربعة من بني هاشم، وأربعة من قريش، وأربعة من الأنصار، وأربعة من الموالي؛ ثم الأمر شورى بينهم. قال: أسأل الله إن ولاك شيئًا من أمرنا أن يرزقنا عدلك، قال: قد والله ولّانيه الله. قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: حضر السوُّدان المسجد مع ابن أبي سبرة، فرقيَ المنبر في كبل حديد حتى استوى في مجلس رسول الله ﷺ، وتبعه محمد بن عمران، فكان تحته، وتبعهم محمد بن عبد العزيز فكان تحتهما، وتبعهم سليمان ابن عبد الله بن أبي سبرة، فكان تحتهم جميعًا؛ وجعل الناس يلغطون لغطًا شديدًا، وابن أبي سبرة جالسٌ صامتٌ. فقال ابن عمران: أنا ذاهب إلى السوق، فانحدر وانحدر من دونه، وثبت ابن أبي سبرة، فتكلّم فحثّ على طاعة أمير المؤمنين؛ وذكر أمر محمد بن عبد الله فأبلغ. ومضى ابن عمران إلى السوق، فقام على بلاسٍ من بلس الحنطة، فتكلم هناك، فتراجع الناس؛ ولم يصلّ بالناس يومئذ إلا المؤذّن، فلما حضرت العشاء الآخرة وقد ثاب الناس، فاجتمع القرشيّون في المقصورة، أقام الصلاة محمد بن عمار المؤذن، الذي يلقب كساكس، فقال للقرشيين: من يصلّي بكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: ألا تسمعون! فلم يجيبوه، فقال: يا بن عمران، ويا بن فلان، فلم يجبه أحد، فقام الأصبغ بن سفيان بن عاصم ابن عبد العزيز بن مروان، فقال: أنا أصلي، فقام في المقام، فقال للناس: استووا، فلما استوت الصفوف أقبل عليهم بوجهه، ونادى بأعلى صوته: ألا تسمعون! أنا الأصبغ بن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، أصلّي بالناس على طاعة أبي جعفر، فردّد ذلك مرتين أو ثلاثًا، ثم كبّر فصلى، فلما أصبح الناس قال ابن أبي سبرة: إنه قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم؛ نهبتم ما في دار عاملكم وطعام جند أمير المؤمنين، فلا يبقينّ عند أحد منكم شيء إلا ردّه، فقد أقعدت لكم الحكم بن عبد الله بن المغيرة بن موهب؛ فرفع الناس إليه ما انتهبوا، فقيل: إنه أصاب قيمة ألف دينار. وحدثني عثامة بن عمرو، قال: حدثني المسور بن عبد الملك، قال: ائتمر القرشيون أن يدعو ابن الربيع يخرج ثم يكلموه في استخلاف ابن أبي سبرة على المدينة، ليتحلّل ما في نفس أمير المؤمنين عليه؛ فلما أخرجه السودان، قال له ابن عبد العزيز: أتخرج بغير وال استخلف! ولّها رجلًا، قال: من؟ قال: قدامة بن موسى، قال: فصيح بقدامة، فدخل فجلس بين ابن الربيع وبين ابن عبد العزيز، فقال: ارجع يا قدامة، فقد وليتك المدينة وأعمالها، قال: والله ما قال لك هذا من نصحك، ولا نظر لمن وراءه، ولا أراد إلّا الفساد، ولأحقّ بهذا مني ومنه من قام بأمر الناس وهو جالس في بيته - يعني ابن أبي سبرة - ارجع أيّها الرجل؛ فوالله ما لك عذر في الخروج، فرجع ابن الربيع. قال وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: ركب ابن عبد العزيز في نفر من قريش إلى ابن الربيع، فناشدوه وهو ببطن نخل إلّا رجع إلى عمله، فتأبّى. قال: فخلا به ابن عبد العزيز، فلم يزل به حتى رجل وسكن الناس وهدءوا. قال: وحدثني عمر بن راشد، قال: ركب إليه ابن عمران وغيره وقد نزل الأعوص، فكلّموه فرجع، فقطع يد وثيق وأبي النار ويعقل ومسعر. ذكر الخبر عن بناء مدينة بغداد وفي هذه السنة أسست مدينة بغداد، وهي التي تدعى مدينة المنصور. ذكر الخبر عن سبب بناء أبي جعفر إياها وكان سبب ذلك أنّ أبا جعفر المنصور بنى - فيما ذكر - حين أفضى الأمر إليه الهاشميّة، قبالة مدينة ابن هبيرة، بينهما عرض الطريق، وكانت مدينة ابن هبيرة التي بحيالها مدينة أبي جعفر الهاشميّة إلى جانب الكوفة. وبنى المنصور أيضًا مدينة بظهر الكوفة سماها الرصافة، فلما ثارت الراوندية بأبي جعفر في مدينته التي تسمّى الهاشميّة؛ وهي التي بحيال مدينة ابن هبيرة، كره سكناها لاضطراب من اضطرب أمره عليه من الراوندية، مع قرب جواره من الكوفة، ولم يأمن أهلها على نفسه، فأراد أن يبعد من جوارهم؛ فذكر أنه خرج بنفسه يرتاد لها موضعًا يتخذه مسكنًا لنفسه وجنده، ويبتنى به مدينة، فبدأ فانحدر إلى جرجرايًا ثم صار إلى بغداد، ثم مضى إلى الموصل، ثم عاد إلى بغداد، فقال: هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كلّ ما في البحر، وتأتينا الميرة من الجزيرة وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه كلّ شيء من الشأم والرّقّة وما حول ذلك. فنزل وضرب عسكره على الصراة، وخطّ المدينة، ووكل بكل ربع قائدًا. وذكر عمر بن شبّة أنّ محمد بن معروف بن سويد حدثه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان بن مجالد، قال: أفسد أهل الكوفة جند أمير المؤمنين المنصور عليه، فخرج نحو الجبل يرتاد منزلًا، والطريق يومئذ على المدائن، فخرجنا على ساباط، فتخلف بعض أصحابي لرمد أصابه، فأقام يعالج عينيه، فسأله الطبيب: أين يريد أمير المؤمنين؟ قال: يرتاد منزلًا؛ قال: فإنا نجد في كتاب عندنا، أن رجلًا يدعى مقلاصًا، يبنى مدينة بين دجلة والصّراة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى عرقًا منها أتاه فتق من الحجاز، فقطع بناءها، وأقبل على إصلاح ذلك الفتق، فإذا كاد يلتئم أتاه فتق من البصرة هو أكبر عليه منه؛ فلا يلبث الفتقان أن يلتئما، ثم يعود إلى بنائها فيتمّه، ثم يعمّر عمرًا طويلًا، ويبقى الملك في عقبه. قال سليمان: فإنّ أمير المؤمنين لبأطراف الجبال في ارتياد منزل؛ إذ قدم علي صاحبي فأخبرني الخبر فأخبرت به أمير المؤمنين، فدعا الرجل فحدثه الحديث، فكرّ راجعًا عوده على بدئه، وقال: أنا والله ذاك! لقد سميّت مقلاصًا وأنا صبي، ثم انقطعت عني. وذكر عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش، قال: لمّا أراد أبو جعفر الانتقال من الهاشمية بعث روّادًا يرتادون له موضعًا ينزله واسطًا، رافقًا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من بارما، وذكر له عنه غذاء طيّب، فخرج إليه بنفسه حتى ينظر إليه، وبات فيه، وكرّر نظره فيه، فرآه موضعًا طيبًا، فقال لجماعة من أصحابه؛ منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب الخوزي وعبد الملك بن حميد الكاتب وغيرهم: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: ما رأينا مثله، هو طيّب صالح موافق، قال: صدقتم؛ هو هكذا؛ ولكنه لا يحمل الجند والناس والجماعات، وإنما أريد موضعًا يرتفق الناس به ويوافقهم مع موافقته لي، ولا تغلو عليهم فيه الأسعار، ولا تشتدّ فيه المؤونة، فإني إن أقمت في موضع لا يجلب إليه من البرّ والبحر شيء غلت الأسعار، وقلّت المادّة، واشتدّت المؤونة، وشقّ ذلك على الناس؛ وقد مررت في طريقي على موضع فيه مجتمعة هذه الخصال؛ فأنا نازل فيه، وبائت به؛ فإذا اجتمع لي فيه ما أريد من طيب الليل والموافقة مع احتماله للجند والناس أبتنيه. قال الهيثم بن عدي: فخبّرت أنه أتى ناحية الجسر، فعبر في موضع قصر السلام، ثمّ صلى العصر - وكان في صيف، وكان في موضع القصر بيعة قس - ثم بات ليلةً حتى أصبح، فبات أطيب مبيت في الأرض وأرفقه، وأقام يومه فلم ير إلا ما يحبّ، فقال: هذا موضع أبني فيه؛ فإنه تأتيه المادّة من الفرات ودجلة وجماعة من الأنهار، ولا يحمل الجند والعامّة إلّا مثله، فخطّها وقدّر بناءها، ووضع أوّل لَبنة بيده، وقال: بسم الله والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله. وذكر عن بشر بن ميمون الشروي وسليمان بن مجالد، أنّ المنصور لما رجع من ناحية الجبل، سأل عن خبر القائد الذي حدثه عن الطبيب الذي أخبره عمّا يجدون في كتبهم من خبر مقلاص، ونزل الدير الذي هو حذاء قصره المعروف بالخلد، فدعا بصاحب الدير، وأحضر البطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرّم وصاحب الدير المعروف ببستان القسّ وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم، وكيف هي في الحرّ والبرد والأمطار والوحول والبقّ والهوامّ؟ فأخبره كلّ واحد بما عنده من العلم، فوجّه رجالًا من قبله، وأمر كلّ واحد منهم أن يبيت في قرية منها، فبات كلّ رجل منهم في قرية منها، وأتاه بخبرها. وشاور المنصور الذين أحضرهم، وتنحّر أخبارهم؛ فاجتمع اختيارهم على صاحب بغداد، فأحضره وشاوره، وساء له - فهو الدهقان الذي قريته قائمة إلى اليوم في المربّعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي، وقباب القرية قائم بناؤها إلى اليوم، وداره ثابتة على حالها - فقال: يا أمير المؤمنين، سألتني عن هذه الأمكنة وطيبها وما يختار منها؛ فالذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج فى الجانب الغربىّ طسوجين وهما قطربّل وبادوريا، وفى الجانب الشرقىّ طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى، فأنت تكون بين نخل وقرب الماء، فإن أجدب طسّوج وتأخّرت عمارته كان فى الطسّوج الآخر العمارات وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة، تجيئك الميرة قى السفن من المغرب فى الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشأم، وتجيئك الميرة فى السفن من الصين والهند والبصرة وواسط فى دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها فى تأمرّا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل فى دجلة، وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوّك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لم يصل إليك عدّوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلّا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسّواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل. فازداد المنصور عزمًا على النزول في الموضع الذي اختاره. وقال له: يا أمير المؤمنين؛ ومع هذا فإنّ الله قد منّ على أمير المؤمنين بكثرة جيوشه وقوّاده وجنده؛ فليس أحد من أعدائه يطمع في الدنوّ منه، والتدبير في المدن أن تتخذ لها الأسوار والخنادق، والحصون، ودجلة والفرات خنادق لمدينة أمير المؤمنين. وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن حمادًا التركي، قال: بعث المنصور رجالًا في سنة خمس وأربعين ومائة، يطلبون له موضعًا يبني فيه مدينته، فطلبوا وارتادوا، فلم يرض موضعًا، حتى جاء فنزل الدير على الصراة، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ومن هذه الصراة. وذكر عن محمد بن صالح بن النطاح عن محمد بن جابر، عن أبيه، قال: لما أراد أبو جعفر أن يبني مدينته ببغداد رأى راهبًا، فناداه فأجابه، فقال: تجدون في كتبكم أنه تبنى ها هنا مدينة؟ قال الراهب: نعم، يبنيها مقلاص؛ قال أبو جعفر: أنا كنت أدعى مقلاصًا في حداثتي. قال: فأنت إذًا صاحبها، قال: وكذلك لما أراد أن يبني الرافقة بأرض الروم امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطّل علينا أسواقنا، وتذهب بمعاشنا، وتضيق منازلنا، فهمّ بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة، فقال: هل عندك علم أن يبني ها هنا مدينة؟ فقال له: بلغني أنّ رجلًا يقال له مقلاص يبنيها، قال: أنا مقلاص؛ فبناها على بناء مدينة بغداد، سوى السور وأبواب الحديد وخندق منفرد. وذكر عن السري، عن سليمان بن مجالد، أنّ المنصور وجّه في حشر الصنّاع والفعلة من الشأم والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة، فأحضروا، وأمر باختيار قوم من ذوي الفصل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة؛ فكان ممّن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وأمر بخطّ المدينة وحفر الأساسات، وضرب اللبن وطبخ الآجرّ، فبدىء بذلك؛ وكان أول ما ابتدىء به في عملها سنة خمس وأربعين ومائة. وذكر أن المنصور لما عزم على بنائها أحبّ أن ينظر إليها عيانًا، فأمر أن يخطّ بالرّماد، ثم أقبل يدخل من كلّ باب، ويمرّ في فصلانها وطاقاتها ورحابها؛ وهي مخطوطة بالرماد، ودار عليهم ينظر إليهم وإلى ما خطّ من خنادقها؛ فلما فعل ذلك أمر أن يجعل على تلك الخطوط حبّ القطن، وينصب عليه النفط، فنظر إليها والنار تشتعل، ففهمها وعرف رسمها، وأمر أن يحفر أساس ذلك على الرسم، ثم ابتدىء في عملها. وذكر عن حمّاد التركي أنّ المنصور بعث رجالًا يطلبون له موضعًا يبني فيه المدينة، فطلبوا ذلك في سنة أربع وأربعين ومائة، قبل خروج محمد بن عبد الله بسنة أو نحوها، فوقع اختيارهم على موضع بغداد؛ قرية على شاطىء الصراة؛ مما يلي الخلد، وكان في موضع بناء الخلد دير، وكان في قرن الصراة مما يلي الخلد من الجانب الشرقي أيضًا قرية ودير كبير كانت تسمّى سوق البقر؛ وكانت القرية تسمى العتيقة؛ وهي التي افتتحها المثنّى بن حارثة الشيباني، قال: وجاء المنصور، فنزل الدير الذي في موضع الخلد على الصراة، فوجده قليل البقّ، فقال: هذا موضع أرضاه، تأتيه الميرة من الفرات ودجلة، ويصلح أن تبتنى فيه مدينة؛ فقال للراهب الذي في الدير: يا راهب، أريد أن أبني ها هنا مدينة، فقال: لا يكون، إنما يبنى ها هنا ملك يقال له أبو الدوانيق؛ فضحك المنصور في نفسه، وقال: أنا أبو الدوانيق. وأمر فخطّت المدينة، ووكّل بها أربعة قوّاد، كلّ قائد بربع. وذكر عن سليمان بن مجالد، أنّ المنصور أراد أبا حنيفة النعمان بن ثابت على القضاء، فامتنع من ذلك، فحلف المنصور أن يتولّى له، وحلف أبو حنيفة ألّا يفعل، فولّاه القيام ببناء المدينة وضرب اللبن وعدّه، وأخذ الرجال بالعمل. قال: وإنما فعل المنصور ذلك ليخرج من يمينه؛ قال: وكان أبو حنيفة المتولّي لذلك، حتى فرغ من استتمام بناء حائط المدينة ممايلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة. وذكر عن الهيثم بن عدي، أن المنصور عرض على أبي حنيفة القضاء والمظالم فامتنع، فحلف ألّا يقلع عنه حتى يعمل، فأخبر بذلك أبو حنيفة، فدعا بقصبة، فعدّ اللبن على رجل قد لبّنه، وكان أبو حنيفة أوّل من عد اللبن بالقصب؛ فأخرج أبا جعفر عن يمينه، واعتل فمات ببغداد. وقيل: إنّ أبا جعفر لما أمر بحفر الخندق وإنشاء البناء وإحكام الأساس؛ أمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعًا، وقدّر أعلاه عشرين ذراعًا، وجعل في البناء جوائز قصب مكان الخشب، في كل طرقة؛ فلمّا بلغ الحائط مقدار قامة - وذلك في سنة خمس وأربعين ومائة - أتاه خبر خروج محمد فقطع البناء. وذكر عن أحمد بن حميد بن جبلة، قال: حدثني أبي، عن جدّي جبلة، قال: كانت مدينة أبي جعفر قبل بنائها مزرعة للبغداديّين، يقال لها المباركة، وكانت لستين نفسًا منهم، فعوّضهم منها وأرضاهم، فأخذ جدّي قسمة منها. وذكر عن إبراهيم بن عيسى بن المنصور، أنّ حمادًا التركي قال: كان حول مدينة أبي جعفر قرى قبل بنائها؛ فكان إلى جانب باب الشأم قرية يقال لها الخطابية، على باب درب النورة، إلى درب الأقفاص، وكان بعض نخلها في شارع باب الشأم، إلى أيام المخلوع في الطريق، حتى قطع في أيام الفتنة، وكانت الخطّابية هذه لقوم من الدهاقين، يقال لهم بنو فروة وبنو قنورا؛ منهم إسماعيل بن دينار ويعقوب بن سليمان وأصحابهم. وذكر عن محمد بن موسى بن الفرات أنّ القرية التي في مربّعة أبي العباس كانت قرية جدّه من قبل أمّه، وأنهم من دهاقين يقال لهم بنو زرارى؛ وكانت القرية تسمى الوردانيّة، وقرية أخرى قائمة إلى اليوم ممايلي مربعة أبي فروة. وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن المعروفة اليوم بدار سعيد الخطيب كانت قرية يقال لها شرفانيّة، ولها نخيل قائم إلى اليوم مما يلي قنطرة أبي الجون، وأبو الجون من دهاقين بغداد من أهل هذه القرية. وذكر أن قطيعة الربيع كانت مزارع للناس من قرية يقال لها بناورى من رستاق الفروسيج من بادوريا. وذكر عن محمد بن موسى بن الفرات، أنه سمع أباه أو جدّه - شك راوي ذلك عنه - يقول: دخل علي رج من دهاقين بادوريا وهو مخرّق الطيلسان؛ فقلت له: من خرّق طيلسانك؟ قال: خرق والله في زحمة الناس اليوم، في موضع طالما طردت فيه الأرانب والظباء - يريد باب الكرخ. ويقال: إن قطيعة الربيع الخارجة إنما هي أقطاع المهدي للربيع، وأنّ المنصور إنما كان أقطعه الداخلة. وقيل: إن نهر طابق كسروي، وأنه نهر بابك من بهرام بن بابك، وأن بابك هذا هو الذي اتّخذ العقر الذي عليه قصر عيسى بن علي، واحتفر هذا النهر. وذكر أنّ فرضة جعفر إقطاع من أبي جعفر لابنه جعفر، وأن القنطرة العتيقة من بناء الفرس. وذكر عن حماد التركي، قال: كان المنصور نازلًا بالدّير الذي على شاطىء دجلة بالموضع المعروف بالخلد، ونحن في يوم صائف شديد الحرّ في سنة خمس وأربعين ومائة؛ وقد خرجت فجلست مع الربيع وأصحابه، إذ جاء رجل، فجاوز الحرس إلى المقصورة، فاستأذن فآذنّا المنصور به، وكان معه سلم بن أبي سلم، فأذن له فخبّره بخروج محمد، فقال المنصور: نكتب الساعة إلى مصر أن يقطع عن الحرمين المادة، ثم قال: إنما هم في مثل حرجة، إذا انقطعت عنهم المادّة والميرة من مصر. قال: وأمر بالكتاب إلى العباس بن محمد - وكان على الجزيرة يخبره بخبر محمد - وقال: إني راحل ساعة كتبت إلى الكوفة، فأمدّني في كلّ يوم بما قدرت عليه من الرجال من أهل الجزيرة. وكتب بمثل ذلك إلى أمراء الشأم، ولو أن يرد علي في كل يوم رجل واحد أكثر به من معي من أهل خراسان، فإنه إن بلغ الخبر الكذّاب انكسر. قال: ثم نادى بالرّحيل من ساعته، فخرجنا في حرّ شديد حتى قدم الكوفة، ثم لم يزل بها حتى انقضت الحرب بينه وبين محمد وإبراهيم، فلما فرغ منهما رجع إلى بغداد. وذكر عن أحمد بن ثابت، قال: سمعت شيخًا من قريش يحدث أنّ أبا جعفر لما فصل من بغداد، متوجّهًا نحو الكوفة، وقد جاءه البريد بمخرج محمد بن عبد الله بالمدينة، نظر إليه عثمان بن عمارة بن حريم وإسحاق بن مسلم العقيلي وعبد الله بن الربيع المداني - وكانوا من صحابته - وهو يسير على دابّته وبنو أبيه حوله. فقال عثمان: أظنّ محمدًا خائبًا ومن معه من أهل بيته؛ إنّ حشو ثياب هذا العباسي لمكرٌ ونكر ودهاء؛ وإنه فيما نصب له محمد من الحرب لكما قال ابن جذل الطعان: فكم من غارة ورعيل خيل ** تداركها وقد حميَ اللقاء فردّ مخيلها حتّى ثناها ** بأسمر ما يرى فيه التواء قال: فقال إسحاق بن مسلم: قد والله سبرته ولمست عوده فوجدته خشنًا، وغمزته فوجدته صليبًا، وذقته فوجدته مرًا؛ وأنه ومن حوله من بني أبيه لكما قال ربيعة بن مكدّم: سما لي فرسان كأن وجوههم ** مصابيح تبدو في الظلام زواهر يقودهم كبش أخو مصمئلة ** عبوس السري قد لوّحته الهواجر قال: وقال عبد الله بن الربيع: هو ليث خيس، ضيغم شموس، للأقران مفترس، وللأرواح مختلس؛ وأنه يهيج من الحرب كما قال أبو سفيان بن الحارث: وإن لنا شيخًا إذا الحرب شمّرت ** بديهته الإقدام قبل النوافر قال: فمضى حتى سار إلى قصر ابن هبيرة، فنزل الكوفة ووجّه الجيوش، فلما انقضت الحرب، رجع إلى بغداد فاستتمّ بناءها. ذكر الخبر عن ظهور إبراهيم بن محمد ومقتله وفي هذه السنة ظهر إبراهيم بن عبد الله بن حسن، أخو محمد بن عبد الله ابن حسن بالبصرة؛ فحارب أبا جعفر المنصور. وفيها قتل أيضًا. ذكر الخبر عن سبب مخرجه وعن مقتله وكيف كان فذكر عن عبد الله بن محمد بن حفص، قال: حدثني أبي، قال: لما أخذ أبو جعفر عبد الله بن حسن، أشفق محمد وإبراهيم من ذلك، فخرجا إلى عدن، فخافا بها، وركبا البحر حتى صارا إلى السِّند، فسعى بهما إلى عمر بن حفص، فخرجا حتى قدما الكوفة وبها أبو جعفر. وذكر عمر بن شبّه أنّ سعيد بن نوح الضبعي؛ ابن ابنة أبي الساج الضبعي، حدثه قال: حدثتني منة بنت أبي المنهال، قالت: نزل إبراهيم في الحي من بني ضبيعة في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكانت معه أم ولد له؛ فكنت أتحدث إليها، ولا ندري من هم؛ حتى ظهر فأتيتها، فقلت: إنك لصاحبتي؟ فقالت: أنا هي؛ لا والله ما أقرّتنا الأرض منذ خمس سنين؛ مرّة بفارس، ومرّة بكرمان، ومرّة بالحجاز، ومرّة باليمن. قال عمر: حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثني مطهر ابن الحارث، قال: أقبلنا مع إبراهيم من مكة نريد البصرة؛ ونحن عشرة، فصحبنا أعرابي في بعض الطريق، فقلنا له: ما اسمك؟ قال: فلان بن أبي مصاد الكلبي، فلم يفارقنا حتى قربنا من البصرة؛ فأقبل علي يومًا، فقال: أليس هذا إبراهيم بن عبد الله بن حسن؟ فقلت: لا، هذا رجل من أهل الشأم؛ فلما كنّا على ليلة من البصرة، تقدّم إبراهيم وتخلّفنا عنه، ثم دخلنا من غدٍ. قال عمر: وحدثني أبو صفوان نصر بن قديد بن نصر بن سيار؛ قال: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، منصرف الناس من الحجّ؛ فكان الذي أقدمه وتولّى كراءه وعادله في محمله يحيى بن زياد ابن حسان النبطي، فأنزله في داره في بني ليث، واشترى له جارية أعجمية سنديّة، فأولدها ولدًا في دار يحيى بن زياد؛ فحدثني ابن قديد ابن نصر؛ أنه شهد جنازة ذلك المولود، وصلى عليه يحيى بن زياد. قال: وحدثني محمد بن معروف، قال: حدثني أبي، قال: نزل إبراهيم بالخيار من أرض الشأم على آل القعقاع بن خليد العبسي، فكتب الفضل بن صالح بن علي - وكان على قنّسرين - إلى أبي جعفر في رقعة أدرجها في أسفل كتابه، يخبره خبر إبراهيم، وأنه طلبه فوجده قد سبقه منحدرًا إلى البصرة؛ فورد الكتاب على أبي جعفر، فقرأ أوّله فلم يجد إلّا السلامة، فألقى الكتاب إلى أبي أيّوب المورياني، فألقاه في ديوانه؛ فلما أرادوا أن يجيبوا الولاة عن كتبهم فتح أبان بن صدقة - وهو يومئذ كاتب أبي أيوب - كتاب الفضل؛ لينظر في تأريخه، فأفضى إلى الرقعة؛ فلما رأى أوّلها: أخبر أمير المؤمنين، أعادها في الكتاب، وقام إلى أبي جعفر، فقرأ الكتاب؛ فأمر بإذكاء العيون ووضع المراصد والمسالح. قال: وحدثني الفضل بن عبد الرحمن بن الفضل، قال: أخبرني أبي قال: سمعت إبراهيم يقول: اضطرّني الطلب بالموصل حتى جلست على موائد أبي جعفر، وذلك أنه قدمها يطلبني، فتحيّرت؛ فلفظتني الأرض؛ فجعلت لا أجد مساغًا، ووضع الطلب والمراصد؛ ودعا الناس إلى غدائه، فدخلت فيمن دخل، وأكلت فيمن أكل؛ ثم خرجت وقد كفّ الطلب. قال: وحدثني أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: قال رجل لمطهر بن الحارث: مرّ إبراهيم بالكوفة ولقيته، قال: لا والله ما دخلها قطّ؛ ولقد كان بالموصل، ثم مرّ بالأنبار، ثم ببغداد، ثم بالمدائن والنّيل وواسط. قال: وحدثني نصر بن قديد بن نصر، قال: كاتب إبراهيم قومًا من أهل العسكر كانوا يتشيّعون؛ فكتبوا يسألونه الخروج إليهم، ووعدوه الوثوب بأبي جعفر؛ فخرج حتى قدم عسكر أبي جعفر، وهو يومئذ نازل ببغداد في الدير، وقد خطّ بغداد، وأجمع على البناء؛ وكانت لأبي جعفر مرآة ينظر فيها، فيرى عدوّه من صديقه. قال: فزعم زاعمٌ أنه نظر فيها، فقال: يا مسيّب؛ قد والله رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض عدوّ أعدى لي منه، فانظر ما أنت صانع! قال: وحدثني عبد الله بن محمد بن البوّاب، قال: أمر أبو جعفر ببناء قنطرة الصراة العتيقة، ثم خرج ينظر إليها، فوقعت عينه على إبراهيم، وخنس إبراهيم، فذهب في الناس، فأتى فاميًا فلجأ إليه فأصعده غرفة له وجدّ أبو جعفر في طلبه، ووضع الرصد بكل مكان، فنشب إبراهيم بمكانه الذي هو به، وطلبه أبو جعفر أشدّ الطلب، وخفيَ عليه أمره. قال: وحدثني محمد بن معروف، قال: حدثني أبي - وحدثني نصر ابن قديد، قال: حدثني أبي قال؛ وحدثني عبد الله بن محمد بن البواب وكثير بن النضر بن كثير وعمر بن إدريس وابن أبي سفيان العمي؛ واتفقوا على جلّ الحديث، واختلفوا في بعضه - أنّ إبراهيم لما نشب وخاف الرصد كان معه رجل من بني العمّ - قال عمر: فقال لي أبو صفوان، يدعى روح بن ثقف، وقال لي ابن البوّاب: يكنى أبا عبد الله، وقال لي الآخرون: يقال له سفيان بن حيّان بن موسى: قال عمر: وهو جد العمّي الذي حدثني - قال: قلت لإبراهيم: قد نزل ما ترى، ولا بدّ من التغرير والمخاطرة، قال: فأنت وذاك! فأقبل إلى الربيع، فسأله الإذن، قال: ومن أنت؟ قال: أنا السفيان العمّي، فأدخله على أبي جعفر؛ فلما رآه شتمه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا أهلٌ لما تقول؛ غير أني أتيتك نازعًا تائبًا، ولك عندي كل ما تحب إن أعطيتني ما أسألك، قال: وما لي عندك؟ قال: آتيك بإبراهيم ابن عبد الله بن حسن؛ إني قد بلوته وأهل بيته؛ فلم أجد فيهم خيرًا، فما لي عندك إن فعلت؟ قال: لّ ما تسأل؛ فأين إبراهيم؟ قال: قد دخل بغداد - أو هو داخلها عن قريب - قال عمر: وقال لي أبو صفوان، قال: هو بعبدسي، تركته في منزل خالد بن نهيك، فاكتب لي جوازًا ولغلام لي ولفرانق واحملني على البريد. قال عمر: وقال بعضهم: وجّه معي جندًا واكتب لي جوازًا ولغلام لي آتيك به. قال: فكتب له جوازًا، ودفع إليه جندًا، وقال: هذه ألف دينار فاستعن بها، قال: لا حاجة لي فيها فيها كلّها؛ فأخذ ثلثمائة دينار، وأقبل بها حتى أتى إبراهيم وهو في بيت، عليهه مدرّعة صوف وعمامة - وقيل بل عليه قباء كأقبية العبيد - فصاح به: قم؛ فوثب كالفزع؛ فجعل يأمره وينهاه حتى أتى المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع إليه جوازه، فقال: أين غلامك؟ قال: هذا؛ فلما نظر في وجهه، قال: والله ما هذا غلامك؛ وإنه لإبراهيم بن عبد الله بن حسن، ولكن اذهب راشدًا. فأطلقهما وهرب. قال عمر: فقال بعضهم: ربكا البريد حتى صارا بعبدسي، ثم ركبا السفينة حتى قدما البصرة فاختفيا بها. قال: وقد قيل: إنه خرج من عند أبي جعفر حتى قدم البصرة، فجعل يأتي بهم الدار، لها بابان، فيقعد العشرة منهم على أحد البابين، ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرّق الجند عن نفسه، وبقي وحده، فاختفى حتى بلغ الخبر سفيان بن معاوية، فأرسل إليهم فجمعهم، وطلب العمّي فأعجزه. قال عمر: وحدثني ابن عائشة، قال: حدثني أبي، قال: الذي احتال لإبراهيم حتى أنجاهما منه عمرو بن شداد. قال عمر: وحدثني رجل من أهل المدائن، عن الحسن بن عمرو بن شدّاد، قال: حدثني أبي، قال: مرّ بي إبراهيم بالمدائن مستخفيًا، فأنزلته دارًا لي على شاطىء دجلة، وسعي بي إلى عامل المدائن؛ فضربني مائة سوط، فلم أقرر له؛ فلما تركني أتيت إبراهيم فأخبرته، فانحدر. قال: وحدثني العباس بن سفيان بن يحيى بن زياد مولى الحجاج بن يوسف - وكان يحيى بن زياد ممّن سبي من عسكر قطري بن الفجاءة - قال: لما ظهر إبراهيم كنت غلامًا ابن خمس سنين، فسمعت أشياخنا يقولون: إنه مرّ منحدرًا يريد البصرة من الشأم؛ فخرج إليه عبد الرحيم بن صفوان من موالي الحجاج، ممن سبي من عسكر قطري؛ قال: فمشى معه حتى عبّره المآصر؛ قال: فأقبل بعض من رآه، فقال: رأيت عبد الرحيم مع رجل شاطر، محتجز بإزار مورّد، في يده قوس جلاهق يرمي به؛ فلما رجع عبد الرحيم سئل عن ذلك فأنكره، فكان إبراهيم يتنكّر بذلك. قال: وحدثني نصر بن قديد، قال: لما قدم إبراهيم منصرفه من بغداد، نزل على أبي فروة في كندة فاختفى، وأرسل إلى الناس يندبهم للخروج. قال عمر: وحدثني علي بن إسماعيل بن صالح بن ميثم الأهوازي، قال: حدثني عبد الله بن الحسن بن حبيب، عن أبيه، قال: كان إبراهيم مختفيًا عندي على شاطىء دجيل، في ناحية مدينة الأهواز؛ وكان محمد ابن حصين يطلبه، فقال يومًا: إنّ أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أنّ المنجّمين يخبرونه أن إبراهيم بالأهواز نازل في جزيرة بين نهرين، فقد طلبته في الجزيرة حتى وثقت أنه ليس هناك - يعني بالجزيرة التي بين نهر الشاه جرد ودجيل - فقد اعتزمت أن أطلبه غدًا في المدينة، لعلّ أمير المؤمنين يعني بين دجيل والمسرقان، قال: فأتيت إبراهيم، فقلت له: أنت مطلوب غدًا في هذه الناحية، قال: فأقمت معه بقيّة يومي، فلما غشيني الليل، خرجت به حتى أنزلته في أداني دشت أربك دون الكثّ؛ فرجعت من ليلتي، فأقمت أنتظر محمدًا أن يغدو لطلبه؛ فلم يفعل حتى تصرّم النهار، وقربت الشمس تغرب، فخرجت حتى جئت إبراهيم، فأقبلت به حتى وافينا المدينة مع العشاء الآخرة ونحن على حمارين؛ فلما دخلنا المدينة فصرنا عند الجبل المقطوع؛ لقينا أوائل خيل ابن حصين، فرمى إبراهيم بنفسه عن حماره وتباعد؛ وجلس يبول، وطوتني الخيل، فلم يعرّج علي منهم أحد؛ حتى صرت إلى ابن حصين؛ فقال لي: أبا محمد؛ من أين في مثل هذا الوقت؟ فقلت: تمسّيت عند أهلي، قال: ألا أرسل معك من يبلغك؟ قلت: لا، قد قربت من أهلي؛ فمضى يطلب، وتوجّهت على سنني حتى انقطع آخر أصحابه، ثم كررت راجعًا إلى إبراهيم؛ فالتمست حماره حتى وجدته، فركب، وانطلقنا حتى بتنا في أهلنا، فقال إبراهيم: تعلم والله لقد بلت البارحة دمًا؛ فأرسل من ينظر، فأتيت الموضع الذي بال فيه، فوجدته قد بال دمًا. قال: وحدثني الفضل بن عبد الرحيم بن سليمان بن علي، قال: قال أبو جعفر: غمض علي أمر إبراهيم لمّا اشتملت عليه طفوف البصرة. قال: وحدثني محمد بن مسعر بن العلاء، قال: لما قدم إبراهيم البصرة، دعا الناس، فأجابه مرسعي بن عمر بن موسى بن عبد الله بن خازم، ثم ذهب بإبراهيم إلى النضر بن إسحاق بن عبد الله بن خازم مختفيًا، فقال للنضر بن إسحاق: هذا رسول إبراهيم، فكلّمه إبراهيم ودعاه إلى الخروج، فقال له النضر: يا هذا، كيف أبايع صاحبك وقد عند جدّي عبد الله بن خازم عن جده علي بن أبي طالب، وكان عليه فيمن خالفه، فقال له إبراهيم: دع سيرة الآباء عنك ومذاهبهم؛ فإنما هو الدين؛ وأنا أدعوك إلى حقّ. قال: إني والله ما ذكرت لك ما ذكرت إلا مازحًا، وما ذاك الذي يمنعني من نصرة صاحبك، ولكني لا أرى القتال ولا أدين به. قال: وانصرف إبراهيم، وتخلّف موسى، فقال: هذا والله إبراهيم نفسه، قال: فبئس لعمر الله ما صنعت! لو كنت أعلمتني كلّمته غير هذا الكلام! قال: وحدثني نصر بن قديد، قال: دعا إبراهيم الناس وهو في دار أبي فروة، فكان أوّل من بايعه نميلة بن مرّة وعفو الله بن سفيان وعبد الواحد ابن زياد وعمر بن سلمة الهجيمي وعبيد الله بن يحيى بن حضين الرقاشي، وندبوا الناس له، فأجاب بعدهم فتيان من العرب؛ منهم المغيرة بن الفزع وأشباه له؛ حتى ظنوا أنه قد أحصى ديوانه أربعة آلاف؛ وشهر أمره، فقالوا: لو تحوّلت إلى وسط البصرة أتاك من أتاك وهو مريح؛ فتحوّل ونزل دار أبي مروان مولى بني سليم - رجل من أهل نيسابور. قال: وحدثني يونس بن نجدة؛ قال: كان إبراهيم نازلًا في بني راسب على عبد الرحمن بن حرب؛ فخرج من داره في جماعة من أصحابه؛ منهم عفو الله بن سفيان وبرد بن لبيد؛ أحد بني يشكر، والمضاء التغلبي والطهوي والمغيرة بن الفزع ونميلة بن مرّة ويحيى بن عمرو الهمانّي، فمرّوا على جفرة بني عقيل حتى خرجوا على الطفاوة، ثم مرّوا على دار كرزم ونافع إبليس، حتى دخلوا دار أبي مروان في مقبرة بني يشكر. قال: وحدثني ابن عفو الله بن سفيان، قال: سمعت أبي يقول: أتيت إبراهيم يومًا وهو مرعوب؛ فأخبرني أن كتاب أخيه أتاه يخبره أنه قد ظهر، ويأمره بالخروج. قال: فوجم من ذلك واغتمّ له، فجعلت أسهّل عليه الأمر وأقول: قد اجتمع لك أمرك، معك المضاء والطّهوي والمغيرة؛ وأنا وجماعة، فنخرج إلى السجن في الليل فنفتحه؛ فتصبح حين تصبح ومعك عالم من الناس؛ فطابت نفسه. قال: وحدثني سهل بن عقيل بن إسماعيل، قال: حدثني أبي، قال: لما ظهر محمد أرسل أبو جعفر إلى جعفر بن حنظلة البهراني - وكان ذا رأي - فقال: هات رأيك؛ قد ظهر محمد بالمدينة. قال: وجّه الأجنّاد إلى البصرة. قال: انصرف حتى أرسل إليك. فلما صار إبراهيم إلى البصرة، أرسل إليه، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، فقال: إيّاها خفت! بادره بالجنود، قال: وكيف خفت البصرة؟ قال: لأن محمدًا ظهر بالمدينة، وليسوا بأهل حرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشأم أعداء آل أبي طالب؛ فلم يبق إلا البصرة. فوجّه أبو جعفر ابني عقيل - قائدين من أهل خراسان من طيّىء - فقدما، وعلى البصرة سفيان بن معاوية فأنزلهما. قال: وحدثني جوّاد بن غالب بن موسى مولى بني عجل، عن يحيى بن بديل بن يحيى بن بديل، قال: لما ظهر محمد، قال أبو جعفر لأبي أيوب وعبد الملك بن حميد: هل من رجل ذي رأي تعرفانه، نجمع رأيه على رأينا؟ قالا: بالكوفة بديل بن يحيى - وقد كان أبو العباس يشاوره - فأرسل إليه، فأرسل إليه، فقال: إنّ محمدًا قد ظهر بالمدينة، قال: فاشحن الأهواز جندًا، قال: قد فهمت؛ ولكن الأهواز بابهم الذي يؤتون منه، قال: فقبل أبو جعفر رأيه. قال: فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إلى بديل، فقال: قد صار إبراهيم إلى البصرة، قال: فعاجله بالجند وأشغل الأهواز عنه. وحدثني محمد بن حفص الدمشقي، مولى قريش قال: لما ظهر محمد شاور أبو جعفر شيخًا من أهل الشأم ذا رأي، فقال: وجّه إلى البصرة أربعة آلاف من جند أهل الشأم. فلها عنه، وقال: خرف الشيخ؛ ثم أرسل إليه، فقال: قد ظهر إبراهيم بالبصرة، قال: فوجّه إليه جندًا من أهل الشأم، قال: ويلك! ومن لي بهم! قال: اكتب إلى عاملك عليها يحمل إليك في كلّ يوم عشرة على البريد؛ قال: فكتب بذلك أبو جعفر إلى الشأم. قال عمر بن حفص: فإنّي لأذكر أبي يعطي الجند حينئذ، وأنا أمسك له المصباح، وهو يعطيهم ليلًا، وأنا يومئذ غلام شابّ. قال: وحدثني سهل بن عقيل، قال: أخبرني سلم بن فرقد، قال: لما أشار جعفر بن حنظلة على أبي جعفر بحدر جند الشأم إليه، كانوا يقدمون أرسالًا؛ بعضهم على أثر بعض؛ وكان يريد أن يروّع بهم أهل الكوفة؛ فإذا جنّهم الليل في عسكره أمرهم فرجعوا منكبين عن الطريق، فإذا أصبحوا دخلوا، فلا يشك أهل الكوفة أنهم جند آخرون سوى الأولين. حدثني عبد الحميد - وكان من خدم أبي العباس - قال: كان محمد بن يزيد من قوّاد أبي جعفر؛ وكان له دابّة شهري كميت، فربما مرّ بنا ونحن بالكوفة وهو راكبه، قد ساوى رأسه رأسه، فوجّهه أبو جعفر إلى البصرة، فلم يزل بها حتى خرج إبراهيم فأخذه فحبسه. حدثني سعيد بن نوح بن مجالد الضبعي، قال: وجّه أبو جعفر مجالدًا ومحمدًا ابني يزيد بن عمران من أهل أبيورد قائدين، فقدم مجالد قبل محمد، ثم قدم محمد في الليلة التي خرج فيها إبراهيم، فثبّطهما سفيان وحبسهما عنده في دار الإمارة حتى ظهر إبراهيم فأخذهما، فقيّدهما؛ ووجّه أبو جعفر معهما قائدًا من عبد القيس يدعى معمرًا. حدثني يونس بن نجدة، قال: قدم على سفيان مجالد بن يزيد الضبعي من قبل أبي جعفر في ألف وخمسمائة فارس وخمسمائة راجل. حدثني سعيد بن الحسن بن تسنيم بن الحواري بن زياد بن عمرو بن الأشرف، قال: سمعت من لا أحصي من أصحابنا يذكرون أنّ أبا جعفر شاور في أمر إبراهيم، فقيل له: إن أهل الكوفة له شيعة، والكوفة قدر تفور؛ أنت طبقها، فاخرج حتى تنزلها. ففعل. حدثني مسلم الخصي مولى محمد بن سليمان، قال: كان أمر إبراهيم وأنا ابن بضع عشرة سنة؛ وأنا يومئذ لأبي جعفر، فأنزلنا الهاشميّة بالكوفة ونزل هو بالرّصافة في ظهر الكوفة؛ وكان جميع جنده الذين في عسكره نحوًا من ألف وخمسمائة؛ وكان المسيّب بن زهير على حرسه، فجزّأ الجند ثلاثة أجزاء: خمسمائة، خمسمائة، فكان يطوف الكوفة كلّها في كلّ ليلة، وأمر مناديًا فنادى: من أخذناه بعد عتمة فقد أحلّ بنفسه؛ فكان إذا أخد رجلًا بعد عتمة لفّه في عباءة وحمله، فبيّته عنده، فإذا أصبح سأل عنه، فإن علم براءته أطلقه، وإلا حبسه. قال: وحدثني أبو الحسن الحذّاء، قال: أخذ أبو جعفر الناس بالسّواد، فكنت أراهم يصبغون ثيابهم بالمداد. وحدثني علي بن الجعد، قال: رأيت أهل الكوفة أيامئذ أخذوا بلبس الثياب السود حتى البقّالين، إنّ أحدهم ليصبغ الثوب بالأنقاس ثم يلبسه. وحدثني جوّاد بن غالب، قال: حدثني العباس بن سلم مولى قحطبة، قال: كان أمير المؤمنين أبو جعفر إذا اتّهم أحدًا من أهل اعلكوفة بالميل إلى إبراهيم أمر أبي سلمًا بطلبه؛ فكان يمهل حتى إذا غسق الليل، وهدأ الناس، نصب سلمًا على منزل الرجل فطرقه في بيته حتى يخرجه فيقتله؛ ويأخذ خاتمه. قال أبو سهل جوّاد: فسمعت جميلًا مولى محمد بن أبي العباس يقول للعباس بن سلم: والله لو لم يورّثك أبوك إلا خواتيم من قتل من أهل الكوفة كنت أيسر الأبناء. حدثني سهل بن عقيل، قال: حدثني سلم بن فرقد حاجب سليمان بن مجالد، قال: كان لي بالكوفة صديق، فأتاني - فقال: أيا هذا، اعلم أن أهل الكوفة معدّون للوثوب بصاحبكم، فإن قدرت على أن تبوّىء أهلك مكانًا حريزًا فافعل، قال: فأتيت سليمان بن مجالد، فأخبرته الخبر؛ فأخبر أبا جعفر - ولأبي جعفر عين من أهل الكوفة من الصيّارفة يدعى ابن مقرّن - قال: فأرسل إليه، فقال: ويحك! قد تحرّك أهل الكوفة، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، أنا عذيرك منهم، قال: فركن إلى قوله، وأضرب عنهم. وحدثني يحيى بن ميمون من أهل القادسيّة، قال: سمعت عدّة من أهل القادسية يذكرون أن رجلًا من أهل خراسان، يكنى أبا الفضل، ويسمّى فلان ابن معقل، وللِّيَ القادسية ليمنع أهل الكوفة إتيان إبراهيم؛ وكان الناس قد رصدوا في طريق البصرة، فكانوا يأتون القادسيّة ثم العذيب، ثم وادي السباع، ثم يعدلون ذات اليسار في البرّ، حتى يقدموا البصرة. قال: فخرج نفرٌ من الكوفة اثنا عشر رجلًا؛ حتى إذا كانوا بوادي السباع لقيهم رجل من موالي بني أسد، يسمّى بكرًا. من أهل شراف، دون واقصة بميلين من أهل المسجد الذي يدعى مسجد الموالي - فأتى ابن معقل فأخبره، فاتّبعهم فأدركهم بخفّان - وهي على أربعة فراسخ من القادسيّة - فقتلهم أجمعين. حدثني إبراهيم بن سلم، قال: كان الفرافصة العجلي قد همّ بالوثوب بالكوفة، فامتنع لمكان أبي جعفر ونزوله بها؛ وكان ابن ماعز الأسدي يبايع لإبراهيم فيها سرًا. حدثني عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: سمعت إسماعيل بن موسى البجلي وعيسى بن النضر السمّانين وغيرهما يخبرون أن غزوان كان لآل القعقاع بن ضرار، فاشتراه أبو جعفر، فقال له يومًا: يا أمير المؤمنين؛ هذه سفن منحدرة من الموصل فيها مبيّضة تريد إبراهيم بالبصرة، قال: فضمّ إليه جندًا، فلقيهم بباحمشا بين بغداد والموصل فقتلهم أجمعين؛ وكانوا تجارًا فيهم جماعة من العبّاد من أهل الخير وغيرهم، وفيهم رجل يدعى أبا العرفان من آل شعيب السمّان، فجعل يقول: ويلك يا غزوان! ألست تعرفني! أنا أبو العرفان جارك؛ إنما شخصت برقيق فبعتهم؛ فلم يقبل وقتلهم أجمعين وبعث برءوسهم إلى الكوفة، فنصبت ما بين دار إسحاق الأزرق إلى جانب دار عيسى بن موسى إلى مدينة ابن هبيرة. قال أبو أحمد عبد الله بن راشد: فأنا رأيتها منصوبة على كوم التراب. قال: وحدثنا أبو علي القدّاح، قال: حدثني داود بن سليمان ونيبخت وجماعة من القدّاحين، قالوا: كنّا بالموصل، وبها حرب الراوندي رابطة في ألفين، لمكان الخوارج بالجزيرة، فأتاه كتاب أبي جعفر يأمره بالقفل إليه؛ فشخص؛ فلما كان بباحمشا اعترض له أهلها، وقالوا: لا ندعك تجوزنا لتنصر أبا جعفر على إبراهيم، فقال لهم: ويحكم! إني لا أريد بكم سوءًا؛ إنما أنا مارٌ، دعوني. قالوا: لا والله لا تجوزنا أبدًا، فقاتلهم فأبارهم، وحمل منهم خمسمائة رأس، فقدم بها على أبي جعفر، وقصّ عليه قصتهم. قال أبو جعفر: هذا أوّل الفتح. وحدثني خالد بن خداش بن عجلان مولى عمر بن حفص، قال: حدثني جماعة من أشياخنا أنهم شهدوا دفيف بن راشد مولى بني يزيد بن حاتم، أتى سفيان بن معاوية قبل خروج إبراهيم بليلة، فقال: ادفع إلي فوارس آتك بإبراهيم أو برأسه. قال أوما لك عمل! اذهب إلى عملك. قال: فخرج دفيف من ليلته فلحق بيزيد بن حاتم وهو بمصر. وحدثني خالد بن خداش، قال: سمعت عدّة من الأزد يحدثون عن جابر بن حماد - وكان على شرطة سفيان - أنه قال لسفيان قبل خروج إبراهيم بيوم: إني مررت في مقبرة بني يشكر، فصيّحوا بي ورموني بالحجارة، فقال له: أما كان لك طريق! وحدثني أبو عمر الحوضي حفص بن عمر، قال: مرّ عاقب صاحب شرط سفيان يوم الأحد قبل ظهور إبراهيم بيوم، في مقبرة بني يشكر، فقيل له: هذا إبراهيم يريد الخروج، فقال: كذبتم، ولم يعرّج على ذلك! قال أبو عمر الحوضّي: جعل أصحاب إبراهيم ينادون سفيان وهو محصور: اذكر بيعتك في دار المخزوميّين. قال أبو عمر: وحدثني محارب بن نصر، قال: مرّ سفيان بعد قتل إبراهيم في سفينة وأبو جعفر مشرف من قصره، فقال: إنّ هذا لسفيان؟ قالوا: نعم، قال: والله للعجب! كيف يفلتني ابن الفاعلة! قال الحوضي: قال سفيان لقائد من قوّاد إبراهيم: أقم عندي، فليس كل أصحابك يعلم ما كان بيني وبين إبراهيم. قال: وحدثني نصر بن فرقد، قال: كان كرزم السدوسي يغدو على سفيان بخبر إبراهيم ويروح، ويعلمه من يأتيه فلا يعرض له، ولا يتبع له أثرًا. وذكر أن سفيان بن معاوية كان عامل المنصور أيّامئذ على البصرة، وكان قد مالأ إبراهيم بن عبد الله على أمره فلا ينصح لصاحبه. اختلف في وقت قدوم إبراهيم البصرة فقال بعض: كان قدومه إياها أول يوم من شهر رمضان في سنة خمس وأربعين ومائة. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر: لما ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن، وغلب على المدينة ومكة، وسلِّم عليه بالخلافة، وجّه أخاه إبراهيم بن عبد الله إلى البصرة، فدخلها في أوّل يوم من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، فغلب عليها، وبيّض بها وبيّض بها أهل البصرة معه، وخرج معه عيسى بن يونس ومعاذ بن معاذ بن العوّام وإسحاق بن يوسف الأزرق ومعاوية بن هشام، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم؛ فلم يزل بالبصرة شهر رمضان وشوّالًا، فلما بلغه قتل أخيه محمد بن عبد الله تأهّب واستعدّ، وخرج يريد أبا جعفر بالكوفة. وقد ذكرنا قول من قال: كان مقدم إبراهيم البصرة في أول سنة ثلاث وأربعين ومائة، غير أنه كان مقيمًا بها، مختفيًا يدعو أهلها في السرّ إلى البيعة لأخيه محمد، فذكر سهل بن عقيل، عن أبيه، أنّ سفيان كان يرسل إلى قائدين كانا قدما عليه من عند أب يجعفر مددًا له قبل ظهور إبراهيم، فيكونان عنده؛ فلما وعده إبراهيم بالخروج أرسل إليهما فاحتبسهما عنده تلك الليلة حتى خرج، فأحاط به وبهما فأخذهم. وحدثت معن محمد بن معروف بن سويد، قال: حدثني أبي، قال: وجّه أبو جعفر مجالدًا ومحمدًا ويزيد؛ قوّادًا ثلاثة كانوا إخوة قبل ظهور إبراهيم، فقدّموا جندهم، فجعلوا يدخلون البصرة تترى، بعضهم على أثر بعض، فأشفق إبراهيم أن يكثروا بها، فظهر. وذكر نصر بن قديد، أنّ إبراهيم خرج ليلة الاثنين لغرّة شهر رمضان من سنة خمس وأربعين ومائة، فصار إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر رجلًا فارسًا، فيهم عبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي. قال: وقدم تلك الليلة أبو حمّاد الأبرص مددًا لسفيان في ألفي رجل، فنزل الرحبة إلى أن ينزلوا. فسار إبراهيم فكان أوّل شيء أصاب دوابّ أولئك الجند وأسلحتهم، وصلّى بالناس الغداة في المسجد الجامع، وتحصّن سفيان في الدار، ومعه فيها جماعة من بني أبيه، وأقبل الناس إلى إبراهيم من بين ناظر وناصر حتى كثروا، فلما رأى ذلك سفيان طلب الأمان، فأجيب إليه، فدسّ إلى إبراهيم مطهّر بن جويرية السدوسي، فأخذ لسفيان الأمان، وفتح الباب، ودخل إبراهيم الدار؛ فلما دخلها ألقى له حصير في مقدّم الإيوان، فهبّت ريح فقلبته ظهرًا لبطن؛ فتطيّر الناس لذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطيّر، ثم جلس عليه مقلوبًا والكراهة ترى في وجهه؛ فلما دخل إبراهيم الدار خلّى عن كلّ من كان فيها - فيما ذكر - غير سفيان بن معاوية؛ فإنه حبسه في القصر وقيّده قيدًا خفيفًا، فأراد إبراهيم - فيما ذكر - بذلك من فعله أن يرى أبا جعفر أنه عنده محبوس، وبلغ جعفرًا ومحمدًا ابني سليمان بن علي - وكانا بالبصرة يومئذ - مصير إبراهيم إلى دار الإمارة وحبسه سفيان، فأقبلا - فيما قيل - في ستمائة من الرجالة والفرسان والنّاشبة يريدانه، فوجّه إبراهيم إليهما المضاء بن القاسم الجزري في ثمانية عشر فارسًا وثلاثين راجلًا؛ فهزمهم المضاء. ولحق محمدًا رجل من أصحاب المضاء فطعنه في فخذه، ونادى مناد لإبراهيم: لا يتبع مدبر؛ ومضى هو بنفسه حتى وقف على باب زينب بنت سليمان، فنادى بالأمان لآل سليمان، وألّا يعرض لهم أحد. وذكر بكر بن كثير؛ أنّ إبراهيم لما ظهر على جعفر ومحمد وأخذ البصرة، وجد في بيت المال ستمائة ألف، فأمر بالاحتفاظ بها - وقيل إنه وجد في بيت المال ألفي درهم - فقوى بذلك، وفرض لكلّ رجل خمسين خمسين؛ فلما غلب إبراهيم على البصرة وجّه - فيما ذكر - إلى الأهواز رجلًا يدعى الحسين ابن ثولاء، يدعوهم إلى البيعة، فخرج فأخذ بيعتهم؛ ثم رجع إلى إبراهيم. فوجه إبراهيم المغيرة في خمسين رجلًا، ثم اجتمع إلى المغيرة لمّا صار إلى الأهواز تمام مائتي رجل. وكان عامل الأهواز يومئذ من قبل أبي جعفر محمد ابن الحصين، فلما بلغ ابن الحصين دنو المغيرة منه خرج إليه بمن معه، وهم - فيما قيل - أربعة آلاف، فالتقوا على ميل من قصبة الأهواز بموضع يقال له دشت أربك، فانكشف ابن حصين وأصحابه، ودخل المغيرة الأهواز. وقد قيل: إنّ المغيرة صار إلى الأهواز بعد شخوص إبراهيم عن البصرة إلى باخمري. ذكر محمد بن خالد المربّعي، أنّ إبراهيم لما ظهر على البصرة ثم أراد الخروج إلى ناحية الكوفة، استخلف على البصرة نميلة بن مرّة العبشمي، وأمر بتوجيه المغيرة بن الفزع أحد بني بهدلة بن عوف إلى الأهواز، وعليها يومئذ محمد بن الحصين العبدي، ووجّه إبراهيم إلى فارس عمرو بن شدّاد عاملًا عليها، فمرّ برام هرمز بيعقوب بن الفضل وهو بها، فاستتبعه؛ فشخص معه حتى قدم فارس، وبها إسماعيل بن علي بن عبد الله عاملًا عليها من قبل أبي جعفر، ومعه أخوه عبد الصمد بن علي، فلما بلغ إسماعيل بن علي وعبد الصمد إقبال عمرو بن شداد ويعقوب بن الفضل - وكانا بإصطخر - بادرا إلى دارابجرد، فتحصّنا بها، فصارت فارس في يد عمرو بن شداد ويعقوب بن الفضل، فصارت البصرة والأهواز وفارس في سلطان إبراهيم. وحدثت عن سليمان بن أبي شيخ، قال: لما ظهر إبراهيم بالبصرة، أقبل الحكم بن أبي غيلان اليشكري في سبعة عشر ألفًا حتى دخل واسطًا؛ وبها هارون بن حميد الإيادي من قبل أبي جعفر، فدخل هارون تنورًا في القصر حتى أخرج منه، وأتى أهل واسط حفص بن عمر بن حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، فقالوا له: أنت أولى من هذا الهجيمي؛ فأخذها حفص، وخرج منها اليشكري، وولّى حفص شرطه أبا مقرن الهجيمي. وذكر عمر بن عبد الغفار بن عمرو الفقيمي، ابن أخي الفضل بن عمرو الفقيمي، قال: كان إبراهيم واجدًا على هارون بن سعد، لا يكلّمه، فلما ظهر إبراهيم قدم هارون بن سعد، فأتى سلم بن أبي واصل، فقال له: أخبرني عن صاحبك، أما به إلينا حاجة في أمره هذا! قال: بلى لعمر الله. ثم قام فدخل على إبراهيم، فقال: هذا هارون بن سعد قد جاءك، قال: لا حاجة لي به، قال: لا تفعل؛ في هارون تزهّد؛ فلم يزل به حتى قبله، وأذن له فدخل عليه؛ فقال له هارون: استكفني أهمّ أمورك إليك، فاستكفاه واسطًا، واستعمله عليها. قال سليمان بن أبي شيخ: حدثني أبو الصعدي، قال: أتانا هارون بن سعد العجلي من أهل الكوفة، وقد وجهه إبراهيم من البصرة، وكان شيخًا كبيرًا، وكان أشهر من معه من أهل البصرة الطهوي، وكان معه ممنّ يشبه الطهوي في نجدته من أهل واسط عبد الرحيم الكلبي، وكان شجاعًا؛ وكان ممن قدم به - أو قدم عليه - عبدويه كردام الخراساني. وكان من فرسانهم صدقة بن بكار، وكان منصور بن جمهور يقول: إذا كان معي صدقة بن بكار فما أبالي من لقيت! فوجّه أبو جعفر إلى واسط لحرب هارون بن سعد عامر بن إسماعيل المسلّي في خمسة آلاف في قول بعضهم، وقال بعضهم: في عشرين ألفًا، وكانت بينهم وقعات. وذكر عن ابن أبي الكرام، أنه قال: قدمت على أبي جعفر برأس محمد، وعامر بن إسماعيل بواسط محاصر هارون بن سعد، وكانت الحرب بين أهل واسط وأصحاب أبي جعفر قبل شخوص إبراهيم من البصرة، فذكر سليمان بن أبي شيخ، قال: عسكر عامر بن إسماعيل من وراء النيل، فكانت أول حرب جرت بينه وبين هارون، فضربه عبد سقّاء وجرحه وصرعه وهو لا يعرفه، فأرسل إليه أبو جعفر بظبية فيها صمغ عربي؛ وقال: داو بها جراحتك، فالتقوا غير مرّة، فقتل من أهل البصرة وأهل واسط خلق كثير؛ وكان هارون ينهاهم عن القتال، ويقول: لو لقي صاحبنا صاحبهم تبيّن لنا الأمر، فاستبقوا أنفسكم؛ فكانوا لا يفعلون. فلما شخص إبراهيم إلى باخمري كفّ الفريقان من أهل واسط وعامر بن إسماعيل؛ بعضهم عن بعض، وتوادعوا على ترك الحرب إلى أن يلتقى الفريقان، ثم يكونوا تبعًا للغالب؛ فلما قتل إبراهيم أراد عامر بن إسماعيل دخول واسط، فمانعه أهلها الدخول. قال سليمان: لما جاء قتل إبراهيم هرب هارون بن سعد، وصالح أهل واسط عامر بن إسماعيل على أن يؤمنهم، فلم يثق كثير منهم بأمانه، فخرجوا منها، ودخلها عامر بن إسماعيل، وأقام بواسط فلم يهج أحدًا. وكان عامر - فيما ذكر - صالح أهل واسط على ألّا يقتل أحدًا بواسط، فكانوا يقتلون كلّ من يجدونه من أهل واسط خارجًا منها؛ ولما وقع الصلح بين أهل واسط وعامر بعد قتل إبراهيم هرب هارون بن سعد إلى البصرة، فتوفي قبل أن يبلغها فيما ذكر. وقيل إن هارون بن سعد اختفى، فلم يزل مختفيًا حتى ولى محمد بن سليمان الكوفة، فأعطاه الأمان، واستدرجه حتى ظهر، وأمره أن يفرض لمائتين من أهل بيته؛ فهمّ أن يفعل، وركب إلى محمّد، فلقيه ابن عمّ له، فقال له: أنت مخدوع، فرجع فتوارى حتى مات، وهدم محمد بن سليمان داره. قال: ولم يزل إبراهيم مقيمًا بالبصرة بعد ظهوره بها، يفرّق العمال في النواحي ويوجّه الجيوش إلى البلدان؛ حتى أتاه نعي أخيه محمد؛ فذكر نصر بن قديد؛ قال: فرض إبراهيم فروضًا بالبصرة، فلما كان قبل الفطر بثلاثة أيام، أتاه نعي أخيه محمد؛ فخرج بالناس إلى العيد، وهم يعرفون فيه الانكسار، وأخبر الناس بقتل محمد؛ فازدادوا في قتال أبي جعفر بصيرة، وأصبح من الغد فعسكر، واستخلف نميلة على البصرة، وخلّف ابنه حسنًا معه. قال سعيد بن هريم: حدثني أبي، قال: قال علي بن داود: لقد نظرت إلى الموت في وجه إبراهيم حين خطبنا يوم الفطر، فانصرفت إلى أهلي فقلت: قتل والله الرجل! وذكر محمد بن معروف، عن أبيه أن جعفرًا ومحمدًا ابني سليمان لما شخصًا من البصرة، أرسلاه إلى أبي جعفر ليخبره خبر إبراهيم، قال: فأخبرته خبرهما، فقال: والله ما أدري كيف أصنع! والله ما في عسكري إلا ألفا رجل؛ فرّقت جندي، فمع المهدي بالرّي ثلاثون ألفًا، ومع محمد بن الأشعث بإفريقيّة أربعون ألفًا والباقون مع عيسى بن موسى؛ والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفًا. وقال عبد الله بن راشد: ما كان في عسكر أبي جعفر كثير أحد؛ ما هم إلا سودان وناس يسير؛ وكان يأمر بالحطب فيحزم ثم يوقد باللّيل، فيراه الرائي فيحسب أن هناك ناسًا؛ وما هي إلّا نار تضرم، وليس عندها أحد. قال محمد بن معروف بن سويد: حدثني أبي، قال: لما ورد الخبر على أبي جعفر، كتب إلى عيسى بن موسى وهو بالمدينة: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل ودع كلّ ما أنت فيه؛ قال: فلم ينشب أن قدم، فوجّهه على الناس. وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الري، فضمّه إلى جعفر ابن سليمان. فذكر عن يوسف بن قتيبة بن مسلم، قال: أخبرني أخي سلم بن قتيبة ابن مسلم، قال: لما دخلت على أبي جعفر قال لي: اخرج؛ فإنه قد خرج ابنا عبد الله، فاعمد لإبراهيم ولا يروعنّك جمعه؛ فوالله إنهما جملا بني هاشم المقتولان جميعًا؛ فابسط يدك، وثق بما أعلمتك، وستذكر مقالتي لك. قال: فوالله ما هو إلا أن قتل إبراهيم، فجعلت أتذكر مقالته فأعجب. قال سعيد بن سلم: فاستعمله على ميسرة الناس، وضمّ إليه بشار بن سلم العقيلي وأبا يحيى بن خريم وأبا هراسة سنان بن مخيّس القشيري، وكتب سلم إلى البصرة فلحقت به باهلة؛ عربها ومواليها، وكتب المنصور إلى المهدي وهو يومئذ بالرّي يأمره بتوجيه خازم بن خزيمة إلى الأهواز، فوجّهه المهدي - فيما ذكر - في أربعة آلاف من الجند، فصار إليها، وحارب بها المغيرة، فانصرف إلى البصرة، ودخل خازم الأهواز، فأباحها ثلاثًا. وذكر عن الفضل بن العبّاس بن موسى وعمر بن ماهان، أنهما سمعا السندي يقول: كنت وصيفًا أيام حرب محمد، أقوم على رأس المنصور بالمذبّة، فرأيته لما كثف أمر إراهيم وغلظ، أقام على مصلى نيّفًا وخمسين ليلة، ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبّة ملوّنة قد اتّسخ جيبها وما تحت لحيته منها؛ فما غيّر الجبّة، ولا هجر المصلّى حتى فتح الله عليه؛ إلّا أنه كان إذا ظهر للناس علا الجبّة بالسواد، وقعد على فراشه؛ فإذا بطن عاد إلى هيئته. قال: فأتته ريسانة في تلك الأيام، وقد أهديت له امرأتان من المدينة؛ إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله والأخرى أمة الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد بن أبي العيص؛ فلم ينظر إليهما، فقالت: يا أمير المؤمنين؛ إن هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما، وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك لهما؛ فنهرها، وقال: ليست هذه الأيام من أيام النساء؛ لا سبيل لي إليهما حتى أعلم: أرأس إبراهيم لي أم رأسي لإبراهيم! وذكر أن محمدًا وجعفرًا ابني سليمان كتبا إلى أبي جعفر يعلمانه بعد خروجهما من البصرة الخبر في قطعة جراب، ولم يقدرا على شيء يكتبان فيه غير ذلك؛ فلما وصل الكتاب إليه؛ فرأى قطعة جراب بيد الرسول، قال: خلع والله أهل البصرة مع إبراهيم، ثم قرأ الكتاب، ودعا بعبد الرحمن الختّلي وبأبي يعقوب ختن مالك بن الهيثم، فوجّههما في خيل كثيفة إليهما، وأمرهما أن يحبساهما حيث لقياهما، وأن يعسكرا معهما، ويسمعا ويطيعا لهما؛ وكتب إليهما يعجّزهما ويضعّفهما ويوبخهما على طمع إبراهيم في الخروج إلى مصرٍ هما فيه، واستتار خبره عنهما، حتى ظهر وكتب في آخر كتابه: أبلغ بني هاشم عنّي مغلغلةً ** فاستيقظوا إنّ هذا فعل نوّام تعدو الذئاب على من لا كلاب له ** وتتّقي مربض المستنفر الحامي وذكر عن جعفر بن ربيعة العامري عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم، قال: دخلت على المنصور أيام حرب محمد وإبراهيم، وقد جاءه فتق البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد، وهو ينكت الأرض بمخصرته ويتمثّل: ونصبت نفسي للرّماح دريّة ** إن الرئيس لمثل ذاك فعول قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أدام إعزازك ونصرك على عدوّك! أنت كما قال الأعشى: وإن حربهم أوقدت بينهم ** فحرّت لهم بعد إبرادها وجدت صبورًا على حرّها ** وكر الحروب وتردادها فقال: يا حجاج، إنّ إبراهيم قد عرف وعورة جانبي وصعوبة ناحيتي، وخشونة قرني؛ وإنما جرّأه على المسير إلي من البصرة اجتماع هذه الكور المطلّة على عسكر أمير المؤمنين وأهل السواد معه على الخلاف والمعصية، وقد رميت كلّ كورة بحجرها وكلّ ناحية بسهمها، ووجّهت إليهم الشهم النجد الميمون المظفّر عيسى بن موسى، في كثرة من العدد والعدّة، واستعنت بالله عليه، واستكفيته إياه؛ فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به. قال جعفر بن ربيعة: قال الحجاج بن قتيبة: لقد دخلت على أمير المؤمنين المنصور في ذلك اليوم مسلمًا، وما أظنّه يقدر على ردّ السلام لتتابع الفتوق والخروق عليه والعساكر المحيطة به، ولمائة ألف سيف كامنة له بالكوفة بإزاء عسكره ينتظرون به صيحة واحدة فيثبون؛ فوجدته صقرًا أحوزيًا مشمّرًا، قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها ويمرسها، فقام بها ولم تقعد به نفسه؛ وإنه لكما قال الأوّل: نفس عصام سوّدت عاصما ** وعلّمته الكر والإقداما وصيّرته ملكًا هماما وذكر أبو عبيدة أنه كان عند يونس الجرمي، وقد وجّه محمد بن عبد الله أخاه لحرب أبي جعفر، فقال يونس: قدم هذا يريد أن يزيل ملكًا، فألهته ابنة عمر بن سلمة عمّا حاوله، ولقد أهديت التيميّة إلى أبي جعفر في تلك الأيام، فتركها بمزجر الكلب، فما نظر إليها حتى انقضى أمر إبراهيم. وكان إبراهيم تزّوج بعد مقدمه البصرة بهكنة بنت عمر بن سلمة، فكانت تأتيه في مصبّغاتها وألوان ثيابها. فلما أراد إبراهيم الشخوص نحو أبي جعفر، دخل - فيما ذكر بشر بن سلم - عليه نميلة الطهوي وجماعة من قوّاده من أهل البصرة، فقالوا له: أصلحك الله! إنك قد ظهرت على البصرة والأهواز وفارس وواسط، فأقم بمكانك، ووجّه الأجناد، فإن هزم لك جند أمددتهم بجند، وإن هزم لك قائد أمددته بقائد، فخيف مكانك، واتّقاك عدوّك، وجبيت الأموال، وتبتت وطأتك؛ ثم رأيك بعد. فقال الكوفيّون: أصلحك الله! إن بالكوفة رجالًا لو قد رأوك ماتوا دونك، وإلّا يروك تقعد بهم أسباب شتى فلا يأتونك، فلم يزالوا به حتى شخص. وذكر عن عبد الله بن جعفر المديني، قال: خرجنا مع إبراهيم إلى باخمري، فلمّا عسكرنا أتانا ليلة من الليالي، فقال: انطلق بنا نطف في عسكرنا. قال: فسمع أصوات طنابير وغناء فرجع، ثم أتاني ليلة أخرى فقال: انطلق بنا، فانطلقت معه، فسمع مثل ذلك فرجع وقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا. وذكر عن عفان بن مسلم الصفار، قال: لمّا عسكر إبراهيم افترض معه رجال من جيراننا، فأتيت معسكره، فحزرت أنّ معه أقلّ من عشرة آلاف. فأما داود بن جعفر بن سليمان، فإنه قال: أحصيَ في ديوان إبراهيم من أهل البصرة مائة ألف. ووجّه أبو جعفر عيسى بن موسى - فيما ذكر إبراهيم بن موسى بن عيسى - في خمسة عشر ألفًا، وجعل على مقدّمته حميد بن قحطبة على ثلاثة آلاف. فلما شخص عيسى بن موسى نحو إبراهيم سار معه - فيما ذكر - أبو جعفر حتى بلغ نهر البصريّين، ثم رجع أبو جعفر، وسار إبراهيم من معسكره بالماخور من خريبة البصرة نحو الكوفة. فذكر بعض بني تيم الله عن أوس بن مهلهل القطعي، قال: مرّ بنا إبراهيم في طريقه ذلك، ومنزلنا بالقباب التي تدعى قباب أوس، فخرجت أتلقّاه مع أبي وعمّي، فانتهينا إليه وهو على برذون له يرتاد منزلًا من الأرض، قال: فسمعته يتمثّل أبياتًا للقطامي: أمور لو تدبّرها حليم ** إذًا لنهى وهيب ما استطاعا ومعصية الشفيق عليك ممّا ** يزيدك مرة منه استماعا وخبر الأمر ما استقبلت منه ** وليس بأن تتبعه اتّباعا ولكن الأديم إذا تفرّى ** بلىً وتعيّبًا غلب الصناعا فقلت للذي معي: إني لأسمع كلام رجل نادم على مسيره. ثم سار فلما بلغ كرخثا قال له - فيما ذكر عن سليمان بن أبي شيخ عن عبد الواحد بن زياد بن لبيد - إن هذه بلاد قومي، وأنا أعلم بها، فلا تقصد قصد عيسى بن موسى، وهذه العساكر التي وجّهت إليك، ولكني أسلك بك إن تركتني طريقًا لا يشعر بك أبو جعفر إلا وأنت معه بالكوفة. فأبى عليه. قال: فإنا معشر ربيعة أصحاب بيات، فدعني أبيّت أصحاب عيسى بياتًا، قال: إني أكره البيات. وذكر عن سعيد بن هريم أنّ أباه أخبره، قال: قلت لإبراهيم: إنك غير ظاهر على هذا الرجل حتى تأخذ الكوفة، فإن صارت لك مع تحصّنه بها لم تقم له بعدها قائمة، ولي بعد بها أهيل، فدعني أسر إليها مختفيًا فأدعو إليك في السرّ ثم أجهر؛ فإنهم إن سمعوا داعيًا إليك أجابوه، وإن سمع أبو جعفر الهيعة بأرجاء الكوفة لم يردّ وجهه شيء دون حلوان. قال: فأقبل على بشير الرحّال، فقال: ما ترى يا أبا محمد؟ قال: إنا لو وثقنا بالذي تصف لكان رأيًا؛ ولكنّا لا نأمن أن تجيبك منهم طائة، فيرسل إليهم أبو جعفر خيلًا فيطأ البريء والنّطف والصّغير والكبير؛ فتكون قد تعرّت لمأثم ذلك، ولم تبلغ منه ما أمّلت. فقلت لبشير: أخرجت حين خرجت لقتال أبي جعفر وأصحابه؛ وأنت تتوقّى قتل الضعيف والصغير والمرأة والرجل؛ أو ليس قد كان رسول الله ﷺ يوجّه السرّية فيقاتل فيكون في ذلك نحو ما كرهت! فقال: إنّ أولئك كانوا مشركين كلهم، وهؤلاء أهل ملّتنا ودعوتنا وقبلتنا، حكمهم غير حكم أولئك؛ فاتبع إبراهيم رأيه ولم يأذن له، وسار إبراهيم حتى نزل باخمري. وذكر خالد بن أسيد الباهلي أنه لما نزلها أرسل إليه سلم بن قتيبة حكيم ابن عبد الكريم: إنك قد أصحرت، ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتي إلا من مأتىً واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أعرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذ بقفاه. قال: فدعا إبراهيم أصحابه، فعرض ذلك عليهم، فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن ظاهرون عليهم! لا والله لا نفعل. قال: فنأتيه؟ قالوا: ولم وهو في أيدينا متى أردناه! فقال إبراهيم لحكيم: قد تسمع، فارجع راشدًا. فذكر إبراهيم بن سلم أنّ أخاه حدثه عن أبيه، قال: لما التقينا صف لهم أصحابنا، فخرجت من صفهم، فقلت لإبراهيم: إن الصفّ إذا انهزم بعضه تداعى، فلم يكن لهم نظام، فاجعلهم كراديس، فإن انهزم كردوس ثبت كردوس، فتنادوا: لا، إلا قتال أهل الإسلام يريدون قوله تعالى: " يقاتلون في سبيله صفًا ". وذكر يحيى بن شكر مولى محمد بن سليمان، قال: قال المضاء: لما نزلنا باخمري أتيت إبراهيم فقلت له: إن هؤلاء القوم مصبّحوك بما يسدّ عليك مغرب الشمس من السلاح والكراع، وإنما معك رجال عراة من أهل البصرة، فدعني أبيّته، فوالله لأشتّتنّ جموعه، فقال: إني أكره القتل، فقلت: تريد الملك وتكره القتل! وحدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: لما بلغ إبراهيم قتل أخيه محمد بن عبد الله، خرج يريد أبا جعفر المنصور بالكوفة، فكتب أبو جعفر إلى عيسى بن موسى يعلمه ذلك، ويأمره أن يقبل إليه؛ فوافاه رسول أبي جعفر وكتابه - وقد أحرم بعمرة - فرفضها، وأقبل إلى أبي جعفر، فوجّهه في القوّاد والجند والسلاح إلى إبراهيم بن عبد الله، وأقبل إبراهيم ومعه جماعة كثيرة من أفناء الناس؛ أكثر من جماعة عيسى ابن موسى، فالتقوا بباخمري - وهي على ستة عشر فرسخًا من الكوفة - فاقتتلوا بها قتالًا شديدًا، وانهزم حميد بن قحطبة - وكان على مقدّمة عيسى بن موسى - وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى بن موسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه، ومرّوا منهزمين. وأقبل حميد بن قحطبة منهزمًا، فقال له عيسى بن موسى: يا حميد، الله الله والطاعة! فقال: لا طاعة في الهزيمة. ومرّ الناس كلهم حتى لم يبق منهم أحد بين يدي عيسى بن موسى، وعسكر إبراهيم بن عبد الله، فثبت عيسى بن موسى في مكانه الذي كان فيه لا يزول، وهو في مائة رجل من خاصّته وحشمه، فقيل له: أصلح الله الأمير! لو تنحّيت عن هذا المكان حتى يثوب إليك الناس فتكرّبهم! فقال: لا أزول عن مكاني هذا أبدًا حتى أقتل أو يفتح الله على يدي؛ ولا يقال: انهزم. وذكر عبد الرحيم بن جعفر بن سليمان بن علي أنّ إسحاق بن عيسى بن علي حدثه أنه سمع عيسى بن موسى يحدث أباه أنه قال: لما أراد أمير المؤمنين توجيهي إلى إبراهيم، قال: إنّ هؤلاء الخبثاء - يعني المنجّمين - يزعمون أنك لاقٍ الرجل، وأن لك جولةً حين تلقاه، ثم يفيء إليك أصحابك، وتكون العاقبة لك. قال: فوالله لكان كما قال؛ ما هو إلّا أن التقينا فهزمونا، فلقد رأيتني وما معي إلا ثلاثة أو أربعة؛ فأقبل علي مولىً لي - كان ممسكًا بلجام دابتي - فقال: جعلت فداك! علام تقيم وقد ذهب أصحابك! فقلت: لا والله، لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبدًا وقد انهزمت عن عدّوهم. قال: فوالله لكان أكثر ما عندي أن جعلت أقول لمن مرّ بي ممن أعرف من المنهزمين: أقرئوا أهل بيتي مني السلام، وقولوا لهم: إني لم أجد فداء أفديكم به أعزّ علي من نفسي، وقد بذلتها دونكم. قال: فوالله إنا لعلى ذلك والناس منهزمون ما يلوي أحدٌ على أحد. وصمد ابنا سليمان: جعفر ومحمد لإبراهيم، فخرجا عليه من ورائه، ولا يشعر من بأعقابنا من أصحاب إبراهيم؛ حتى نظر بعضهم إلى بعض؛ وإذا القتال من ورائهم، فكرّوا نحوه، وعقّبنا في آثارهم راجعين؛ فكانت إياها. قال: فسمعت عيسى بن موسى يومئذ يقول لأبي: فوالله يا أبا العباس؛ لولا ابنا سليمان يومئذ لافتضحنا؛ وكان من صنع الله أنّ أصحابنا لما انهزموا يومئذ اعترض لهم نهر ذو ثنيّتين مرتفعتين، فحالتا بينهم وبين الوثوب؛ ولم يجدوا مخاضة، فكرّوا راجعين بأجمعهم. فذكر عن محمد بن إسحاق بن مهران، أنه قال: كان بباخمري ناس من آل طلحة فمخروها على إبراهيم وأصحابه، وبثقوا الماء، فأصبح أهل عسكره مرتطمين في الماء. وقد زعم بعضهم أن إبراهيم هو الذي مخر ليكون قتاله من وجه واحد؛ فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، فلما انهزم أصحاب إبراهيم ثبت إبراهيم وثبت معه جماعة من أصحابه يقاتلون دونه، اختلف في مبلغ عددهم، فقال بعضهم: كانوا خمسمائة، وقال بعضهم: كانوا أربعمائة، وقال بعضهم: بل كانوا سبعين. فحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعيد، قال: قال محمد بن عمر: لما انهزم أصحاب عيسى بن موسى وثبت عيسى مكانه، أقبل إبراهيم بن عبد الله في عسكره يدنو ويدنو غبار عسكره؛ حتى يراه عيسى ومن معه؛ فبيناهم على ذلك إذا فارس قد أقبل وكرّ راجعًا يجري نحو إبراهيم، لا يعرّج على شيء؛ فإذا هو حميد بن قحطبة قد غيّر لأمته، وعصب رأسه بعصابة صفراء، فكرّ الناس يتبعونه حتى لم يبق أحد ممن كان انهزم إلا كرّ راجعًا، حتى خالطوا القوم، فقاتلوهم قتالًا شديدًا حتى قتل الفريقان بعضهم بعضًا، وجعل حميد بن قحطبة يرسل بالرءوس إلى عيسى بن موسى إلى أن أتيَ برأس ومعه جماعة كثيرة وضجة وصياح، فقالوا: رأس إبراهيم بن عبد الله؛ فدعا عيسى ابن موسى بن أبي الكرام الجعفري، فأراه إياه، فقال: ليس هذا؛ وجعلوا يقتتلون يومهم ذلك؛ إلى أن جاء سهم عائر لا يدرى من رمى به، فوقع في حلق إبراهيم بن عبد الله فنحره، فتنحّى عن موقفه، فقال: أنزلوني، فأنزلوه عن مركبه، وهو يقول: " وكان أمر الله قدرًا مقدورًا "، أردنا أمرًا وأراد الله غيره؛ فأنزل إلى الأرض وهو مثخن، واجتمع عليه أصحابه وخاصّته يحمونه ويقاتلون دونه، ورأى حميد بن قحطبة اجتماعهم، فأنكرهم فقال لأصحابه: شدّوا على تلك اعلجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم، وتعلموا ما اجتمعوا عليه، فشدّوا عليهم، فقاتلوهم أشدّ القتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم، وخلصوا إليه فحزّوا رأسه؛ فأتوا به عيسى بن موسى، فأراه ابن أبي الكرام الجعفري، فقال: نعم؛ هذا رأسه، فنزل عيسى إلى الأرض فسجد، وبعث برأسه إلى أبي جعفر المنصور، وكان قتلُه يوم الاثنين لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة. وكان يوم قتل ابن ثمان وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام. وذكر عبد الحميد أنه سأل أبا صلابة: كيف قتل إبراهيم؟ قال: إني لأنظر إليه واقفًا على دابّة ينظر إلى أصحاب عيسى قد ولّوا ومنحوه أكتافهم، ونكص عيسى بدابته القهقري وأصحابه يقتلونهم، وعليه قباء زرد، فآذاه الحرّ، فحلّ أزرار قبائه، فشال الزرد حتى سال عن ثدييه، وحسر عن لّبته، فأتته نشّابة عائرة، فأصابته في لبّته، فرأيته اعتنق فرسه، وكرّ راجعًا، وأطافت به الزيديّة. وذكر إبراهيم بن محمد بن أبي الكرام؛ قال: حدثني أبي، قال: لما انهزم أصحاب عيسى تبعتهم رايات إبراهيم في آثارهم، فنادى منادي إبراهيم: ألا لا تتّبعوا مدبرًا؛ فكرّت الرايات راجعةً، ورآها أصحاب عيسى فخالوهم انهزموا، فكرّوا في آثارهم؛ فكانت الهزيمة. وذكر أن أبا جعفر لما بلغته جولة أصحاب عيسى عزم على الرحيل إلى الري، فذكر سلم بن فرقد حاجب سليمان بن مجالد، أنه قال: لما التقوا هزم أصحاب عيسى هزيمة قبيحة حتى دخل أوائلهم الكوفة، فأتاني صديق لي كوفي، فقال: أيّها الرجل، تعلّم والله لقد دخل أصحابك الكوفة؛ فهذا أخو أبي هريرة في دار فلان، وهذا فلان في دار فلان؛ فانظر لنفسك وأهلك ومالك؛ قال: فأخبرت بذلك سليمان بن مجالد، فأخبر به أبا جعفر، فقال: لا تكشفنّ من هذا شيئًا ولا تلتفتنّ إليه؛ فإنّي لا آمن أن يهجم علي ما أكره، وأعدد على كلّ باب من أبواب المدينة إبلًا ودوابّ؛ فإن أتينا من ناحية صرنا إلى الناحية الأخرى. فقيل لسلم: إلى أين أراد أبو جعفر يذهب إن دهمه أمر؟ قال: كان عزم على إتيان الري، فبلغني أن نيبخت المنجّم دخل على أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين، الظفر لك، وسيُقتل إبراهيم، فلم يقبل ذلك منه، فقال له: احبسني عندك، فإن لم يكن الأمر كما قلت لك فاقتلني، فبينا هو كذلك إذ جاءه الخبر بهزيمة إبراهيم، فتمثّل ببيت معقّر بن أوس ابن حمار البارقي: فألقت عصاها واستقرّت بها النوى ** كما قرّ عينًا بالإياب المسافر فأقطع أبو جعفر نيبخت ألفى جريب بنهر جوبر؛ فذكر أبو نعيم الفضل ابن دكين أن أبا جعفر لما أصبح من الليلة التي أتيَ فيها برأس إبراهيم - وذلك ليلة الثلاثاء لخمس بقين من ذي القعدة - أمر برأسه فنُصب رأسه في السوق. وذكر أن أبا جعفر لما أتيَ برأسه فوضع بين يديه بكى حتى قطرت دموعه على خدّ إبراهيم، ثم قال: أما والله إن كنت لهذا لكارهًا، ولكنّك ابتليت بي وابتليت بك. وذكر عن صالح مولى المنصور أنّ المنصور لما أتيَ برأس إبراهيم بن عبد الله وضعه بين يديه، وجلس مجلسًا عامًا، وأذن للناس، فكان الداخل يدخل فيسلّم ويتناول إبراهيم فيسىء القول فيه، ويذكر منه القبيح، التماسًا لرضا أبي جعفر، وأبو جعفر ممسك متغيّر لونه؛ حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني، فوقف سلّم، ثم قال: عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك، وغفر له ما فرّط فيه من حقك! فاصفرّ لون أبي جعفر وأقبل عليه، فقال: أبا خالد، مرحبًا وأهلًا ها هنا! فعلم الناس أن ذلك قد وقع منه، فدخلوا فقالوا مثل ما قال جعفر بن حنظلة. وفي هذه السنة خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة. وحجّ بالناس في هذه السنة السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس بن عبد المطلب. وكان عامل أبي جعفر على مكة. وكان والي المدينة في هذه السنة عبد الله بن الربيع الحارثي، ووالي الكوفة وأراضيها عيسى بن موسى، ووالي البصرة سلم بن قتيبة الباهلي. وكان على قضائها عبّاد بن منصور، وعلى مصر يزيد بن حاتم. ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر استتمام بناء بغداد وتحول أبي جعفر إليها فممّا كان فيها من ذلك استتمام أبي جعفر مدينته بغداد؛ ذكر محمد بن عمر أنّ أبا جعفر تحوّل من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد في صفر سنة ستّ وأربعين ومائة، فنزلها وبنى مدينتها. ذكر الخبر عن صفة بنائه إياها قد ذكرنا قبل السبب الباعث كان لأبي جعفر على بنائها، والسبب الذي من أجله اختار البقعة التي بنى فيها مدينته، ونذكر الآن صفة بنائه إياها. ذكر عن رشيد أبي داود بن رشيد أنّ أبا جعفر شخص إلى الكوفة حين بلغه خروج محمد بن عبد الله، وقد هيّأ لبناء مدينة بغداد ما يحتاج إليه من خشب وساج وغير ذلك؛ واستخلف حين شخص على إصلاح ما أعدّ لذلك مولىً له يقال له أسلم؛ فبلغ أسلم أنّ إبراهيم بن عبد الله قد هزم عسكر أبي جعفر، فأحرق ما كان خلّفه عليه أبو جعفر من ساج وخشب؛ خوفًا أن يؤخذ منه ذلك؛ إذا غلب مولاه؛ فلما بلغ أبا جعفر ما فعل من ذلك مولاه أسلم كتب إليه يلومه على ذلك؛ فكتب إليه أسلم يخبر أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه، فلم يقل له شيئًا. وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن أبيه، قال: لما أراد المنصور بناء مدينة بغداد، شاور أصحابه فيها؛ وكان ممّن شاوره فيها خالد بن برمك، فأشار بها؛ فذكر عن علي بن عصمة أن خالد بن برمك خطّ مدينة أبي جعفر له، وأشار بها عليه؛ فلما احتاج إلى الأنقاض، قال له: ما ترى في نقض بناء مدينة إيوان كسرى بالمدائن وحمل نقضه إلى مدينتي هذه؟ قال: لا أرى ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولمَ؟ قال: لأنه علمٌ من أعلام الإسلام، يستدلّ به الناظر إليه على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر دنيا؛ وإنما هو على أمر دين؛ ومع هذا يا أمير المؤمنين؛ فإن فيه مصلّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: هيهات يا خالد! أبيت إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمر أن ينقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه، وحمل نقضه، فنظر في مقدار ما يلزمهم للنقض والحمل فوجدوا ذلك أكثر من ثملن الجديد لو عمل، فرُفع ذلك إلى المنصور، فدعا بخالد بن برمك، فأعلمه ما يلزمهم في نقضه وحمله، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أرى قبل ألّا تفعل، فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم الآن حتى تلحق بقواعده؛ لئلا يقال: إنك قد عجزت عن هدمه. فأعرض المنصور عن ذلك، وأمر ألّا يهدم. فقال موسى بن داود المهندس: قال لي المأمون - وحدثني بهذا الحديث: يا موسى إذا بنيت لي بناء فاجعله ما يعجز عن هدمه ليبقى طلله ورسمه. وذكر أنّ أبا جعفر احتاج إلى الأبواب للمدينة؛ فزعم أبو عبد الرحمن الهماني أن سليمان بن داود كان بني مدينةً بالقرب من موضع بناء الحجاج واسطًا يقال لها الزندورد، واتّخذت له الشياطين لها خمسة أبواب من حديد لا يمكن الناس اليوم عمل مثلها، فنصبها عليها، فلم تزل عليها إلى أن بنى الحاج واسطًا، وخربت تلك المدينة، فنقل الحجاج أبوابها فصيّرها على مدينته بواسط، فلمّا بنى أبو جعفر المدينة أخذ تلك الأبواب فنصبها على المدينة؛ فهي عليها إلى اليوم. وللمدينة ثمانية أبواب: أربعة داخلة وأربعة خارجة؛ فصار على الداخلة أربعة أبواب من هذه الخمسة، وعلى باب القصر الخارج الخامس منها، وصيّر على باب خراسان الخارج بابًا جىء به من الشأم من عمل الفراعنة، وصيّر على باب الكوفة الخارج بابًا جيء به من الكوفة، كان عمله خالد بن عبد الله القسري، وأمر باتّخاذ باب لباب الشأم، فعمل ببغداد، فهو أضعف الأبواب كلها. وبنيت المدينة مدوّرة لئلا يكون الملك إذا نزل وسطها إلى موضع منها أقرب منه إلى موضع، وجعل أبوابها أربعة؛ على تدبير العساكر في الحروب، وعمل لها سورين، فالسور الداخل أطول من السور الخارج، وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع حول القصر. وذكر أنّ الحجاج بن أرطاة هو الذي خطّ مسجد جامعها بأمر أبي جعفر، ووضع أساسه. وقيل إن قبلتها على غير صواب وإنّ المصلّى فيه يحتاج أن ينحرف إلى باب البصرة قليلًا، وإن قبلة مسجد الرصافة أصوب من قبلة مسجد المدينة؛ لأنّ مسجد المدينة بُني على القصر، ومسجد الرصافة بُني قبل القصر وبُني القصر عليه؛ فلذلك صار كذلك. وذكر يحيى بن عبد الخالق أنّ أباه حدثه أن أبا جعفر ولّى كلّ ربع من المدينة قائدًا يتولى الاستحثاث على الفراغ من بناء ذلك الربع. وذكر هارون بن زياد بن خالد بن الصلت، قال: أخبرني أبي، قال: وليَ المنصور خالد بن الصلت النفقة على ربع من أرباع المدينة وهي تبنى. قال خالد: فلما فرغت من بناء ذلك الربع رفعت إليه جماعة النفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي علي خمسة عشر درهمًا، فحبسني بها في حبس الشرقية أيامًا حتى أدّيتها، وكان اللبن الذي صنع لبناء المدينة اللبنة منها ذراع في ذراع. وذكر عن بعضهم أنه هدم من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجد فيها لبنة مكتوبًا عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلًا. قال: فوزنّاها فوجدناها على ما كان مكتوبًا عليها من الوزن. وكانت مقاصير جماعة من قوّاد أبي جعفر وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة المسجد. وذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق؛ خال الفضل بن الربيع، أنّ عيسى بن علي شكا إلى أبي جعفر، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن المشي يشقّ علي من باب الرحبة إلى القصر، وقد ضعفت. قال: فتحمل في محفّة، قال: إني أستحيي من الناس، قال: وهل بقي أحد يستحيا منه! قال: يا أمير المؤمنين، فأنزلني منزلة راوية من الروايا، قال: وهل يدخل المدينة راوية أو راكب؟ قال: فأمر الناس بتحويل أبوابهم إلى فصلان الطاقات؛ فكان لا يدخل الرحبة أحد إلّا ماشيًا. قال: ولمّا أمر المنصور بسدّ الأبواب ممّايلي الرحبة وفتحها إلى الفصلان صيرت الأسواق في طاقات المدينة الأربع، في كلّ واحد سوق، فلم تزل على ذلك مدّة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة الروم وافدًا، فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة وما حولها ليرى العمران والبناء، فطاف به الربيع، فلمّا انصرف قال: كيف رأيت مدينتي - وقد كان أصعد إلى سور المدينة وقباب الأبواب؟ قال: رأيت بناء حسنًا؛ إلّا أني قد رأيت أعداءك معك في مدينتك، قال: ومن هم؟ قال: السوقة، قال: فأضبّ عليها أبو جعفر، فلما انصرف البطريق أمر بإخراج السوق من المدينة، وتقدّم إلى إبراهيم بن حبيش الكوفي، وضمّ إليه جوّاس بن المسيّب اليماني مولاه، وأمرهما أن يبنيا الأسواق ناحية الكرخ، ويجعلاها صفوفًا وبيوتًا لكل صنف؛ وأن يدفعاها إلى الناس. فلما فعلا ذلك حوّل السوق من المدينة إليها، ووضع عليهم الغلة على قدر الذرع؛ فلما كثر الناس بنوا في مواضع من الأسواق لم يكن رغب في البناء فيها إبراهيم بن حبيش وجوّاس، لأنها لم تكن على تقديم الصفوف من أموالهم؛ فألزموا من الغلة أقلّ مما ألزم الذين ننزلوا في بناء السلطان. وذكر بعضهم أن السبب في نقل أبي جعفر التجار من المدينة إلى الكرخ وما قرب منها مما هو خارج المدينة، أنه قيل لأبي جعفر: إنّ الغرباء وغيرهم يبيتون فيها، ولا يؤمن أن يكون فيهم جواسيس، ومن يتعرّف الأخبار، أو أن يفتح أبواب المدينة ليلًا لموضع السوق، فأمر بإخراج السوق من المدينة وجعلها للشُّرَط والحرس، وبنى للتجار بباب طاق الحرّاني وباب الشأم والكرخ. وذكر عن الفضل بن سليمان الهاشمي، عن أبيه، أنّ سبب نقله الأسواق من مدينة السلام ومدينة الشرقيّة إلى باب الكرخ وباب الشعير وباب المحوّل؛ أنّ رجلًا كان يقال له أبو زكرياء يحيى بن عبد الله، ولّاه المنصور حسبة بغداد والأسواق سنة سبع وخمسين ومائة، والسوق في المدينة؛ وكان المنصور يتبع من خرج مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن، وقد كان لهذا المحتسب معهم سبب، فجمع على المنصور جماعة استغواهم من السفلة، فشغبوا واجتمعوا، فأرسل المنصور إليهم أبا العباس الطوسي فسكّنهم، وأخذ أبا زكرياء فحبسه عنده، فأمره أبو جعفر بقتله، فقتله بيده حاجب كان لأبي العباس الطوسي يقال له موسى، على باب الذهب في الرحبة بأمر المنصور، وأمر أبو جعفر بهدم ما شخص من الدور في طريق المدينة، ووضع الطريق على مقدار أربعين ذراعًا، وهدم ما زاد على ذلك المقدار، وأمر بنقل الأسواق إلى الكرخ. وذكر عن أبي جعفر أنه لما أمر بإخراج التجار من المدينة إلى الكرخ كلمه أبان بن صدقة في بقّال، فأجابه إليه على ألّا يبيع إلا الخلّ والبقل وحده، ثم أمر أن يجعل في كلّ ربع بقّال واحد على ذلك المثال. وذكر عن علي بن محمد أن الفضل بن الربيع، حدثه أن المنصور لما فرغ من بناء قصره بالمدينة، دخله فطاف فيه، واستحسنه واستنظفه، وأعجبه ما رأى فيه؛ غير أنه استكثر ما أنفق عليه. قال: ونظر إلى موضع فيه استحسنه جدًا، فقال لي: اخرج إلى الربيع فقل له: اخرج إلى المسيّب، فقل له: يحضرني الساعة بنّاء فارهًا. قال: فخرجت إلى المسيّب فأخبرته، فبعث إلى رئيس البنائين فدعاه، فأدخله على أبي جعفر؛ فلمّا وقف بين يديه قال له: كيف عملت لأصحابنا في هذا القصر؟ وكم أخذت من الأجرة لكل ألف آجرّة ولبنة؟ فبقي البنّاء لا يقدر على أن يردّ عليه شيئًا، فخافه المسيّب، فقال له المنصور: مالك لا تكلّم! فقال: لا علم لي يا أمير المؤمنين، قال: ويحك! قل وأنت آمن من كلّ ما تخافه. قال: يا أمير المؤمنين، لا والله ما أقف عليه ولا أعلمه. قال: فأخذ بيده، وقال له: تعال، لا علّمك الله خيرًا! وأدخله الحجرة التي استحسنها، فأراه مجلسًا كان فيها، فقال له: انظر إلى هذا المجلس وابنِ لي بإزائه طاقًا يكون شبيهًا بالبيت، لا تدخل فيه خشبًا، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأقبل البنّاء وكل من معه يتعجّبون من فهمه بالبناء والهندسة، فقال له البنّاء: ما أحسن أن أجيء به على هذا، ولا أقوم به على الذي تريد! فقال له: فأنا أعينك عليه، قال: فأمر بالآجرّ والجصّ، فجيء به، ثم أقبل يحصي جميع ما دخل في بناء الطاق من الآجر والجصّ؛ ولم يزل كذلك حتى فرغ منه في يومه وبعض اليوم الثاني، فدعا بالمسيّب، فقال له: ادفع إليه أجره على حسب ما عمل معك، قال: فحاسبه المسيّب، فأصابه خمسة دراهم؛ فاستكثر ذلك المنصور، وقال: لا أرضي بذلك؛ فلم يزل به حتى نقصه درهمًا، ثم أخذ المقادير، ونظر مقدار الطاق من الحجرة حتى عرفه، ثم أخذ الوكلاء والمسيّب بحملان النفقات، وأخذ معه الأمناء من البنائين والمهندسين حتى عرّفوه قيمة ذلك؛ فلم يزل يحسبه شيئًا شيئًا، وحملهم على ما رفع في أجرة بناء الطاق؛ فخرج على المسيّب مما في يده ستة آلاف درهم ونيّف، فأخذه بها واعتقله، فما برح من القصر حتى أدّاها إليه. وذكر عن عيسى بن المنصور أنه قال: وجدت في خزائن أبي المنصور في الكتب، أنه أنفق على مدينة السلام وجامعها وقصر الذهب بها والأسواق والفصلان والخنادق وقبابها وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثلاثين درهمًا، ومبلغها من الفلوس مائة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرون ألف فلس؛ وذلك أن الأستاذ من البنّائين كان يعمل يومه بقيراط فضّة، والروزكاري بحبّتين إلى ثلاث حبّات. ذكر الخبر عن عزل سلم بن قتيبة عن البصرة وفي هذه السنة عزل المنصور عن البصرة سلم بن قتيبة، وولّاها محمد بن سليمان بن علي. ذكر الخبر عن سبب عزله إياه ذكر عبد الملك بن شيبان أنّ يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي، قال: كتب أبو جعفر إلى سلم بن قتيبة لما ولاه البصرة: أما بعد، فاهدم دور من خرج مع إبراهيم، واعقر نخلهم. فكتب إليه سلم: بأي ذلك أبدأ؟ أبالدّور أم بالنخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: أما بعد، فقد كتبت إليك آمرك بإفساد تمرهم، فكتبت تستأذنني في أيّةٍ تبدأ به بالبرني أم بالشهريز! وعزله وولّى محمد بن سليمان، فقدم فعاث. وذكر عن يونس بن نجدة، قال: قدم علينا سلم بن قتيبة أميرًا بعد الهزيمة وعلى شرطه أبو برقة يزيد بن سلم، فأقام بها سلم أشهرًا خمسة، ثم عزل، وولّى علينا محمد بن سليمان. قال عبد الملك بن شيبان: هدم محمد بن سليمان لما قدم دار يعقوب بن الفضل، ودار أبي مروان في بني يشكر، ودار عون بن مالك، ودار عبد الواحد ابن زياد، ودار الخليل بن الحصصين في بني عدي، ودار عفو الله بن سفيان؛ وعقر نخلهم. وغزا الصائفة في هذه السنة جعفر بن حنظلة البهراني. وفي هذه السنة عزل عن المدينة عبد الله بن الربيع، وولّيَ مكانه جعفر ابن سليمان، فقدمها في شهر ربيع الأول. وعزل أيضًا في هذه السنة عن مكة السري بن عبد الله، ووليها عبد الصمد ابن علي. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، كذلك قال محمد بن عمر وغيره. تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث | الجزء الرابع | الجزء الخامس | الجزء السادس | الجزء السابع | الجزء الثامن | الجزء التاسع | الجزء العاشر | فهرس تصنيف: تاريخ الطبري آخر تعديل للصفحة في 23:10، 26 فبراير 2010. النصوص منشورة وفق هذه الرخصة وشروط الاستخدام. سياسة الخصوصية حول ويكي مصدر إخلاء مسؤولية القواعد السلوكية مطورون إحصائيات بيان تعريف الارتباطات نسخة للأجهزة المحمولة المقدمة ثم دخلت سنة أربع ومائة ثم دخلت سنة خمس ومائة ثم دخلت سنة ست ومائة ثم دخلت سنة سبع ومائة ثم دخلت سنة ثمان ومائة ثم دخلت سنة تسع ومائة ثم دخلت سنة عشر ومائة ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائة ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائة ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائة ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائة ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائة ثم دخلت سنة ست عشرة ومائة ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائة ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائة ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة ثم دخلت سنة عشرين ومائة ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائة ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائة ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائة ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة ثم دخلت سنة ثلاثين ومائة ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة ثم دخلت سنة أربعين ومائة ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائة ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة  =============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان

  إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم اكتفي بالرد علي معظم الفقهاء في مسائل الطلاق با دونته في مدومة النخبة في شرعة الطلاق ومدون دي...