الجمعة، 29 مارس 2024

تاريخ الطبري/الجزء الرابع تاريخ الرسل والملوك للطبري ►الجزء الثالث الجزء الرابع الجزء الخامس

 

ج4 وج5. الطبري

المحتويات تاريخ الطبري/الجزء الرابع تاريخ الرسل والملوك للطبري الجزء الثالث الجزء الرابع الجزء الخامس ثم دخلت سنة ست عشرة قال أبو جعفر: ففيها دخل المسلمون مدينة بهر سير، وافتتحوا المدائن، وهرب منها يزد جرد بن شهريار. ذكر بقية خبر دخول المسلمين مدينة بهر سير كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: لما نزل سعد على بهر سير بثّ الخيول، فأغارت على ما بين دجلة إلى عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلّاح، فحسبوا، فأصاب كلّ منهم فلاحا؛ وذلك أنّ كلهم فارس ببهرسير. فخندق لهم، فقال له شيرزاذ دهقان ساباط: إنك لا تصنع بهؤلاء شيئا؛ إنما هؤلاء علوج لأهل فارس لم يجرّوا إليك، فدعهم إلىّ حتى يفرق لكم الرأي. فكتب عليه بأسمائهم، ودفعهم إليه، فقال شيرزاذ: انصرفوا إلى قراكم. وكتب سعد إلى عمر: إنّا وردنا بهر سير بعد الذي لقينا فيما بين القادسيّة وبهر سير، فلم يأتنا أحد لقتال؛ فبثثت الخيول، فجمعت الفلاحين من القرى والآجام؛ فر رأيك. فأجابه: إنّ من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به. فلما جاء الكتاب خلّى عنهم. وراسله الدهاقين، فدعاهم إلى الإسلام والرجوع، أو الجزاء ولهم الذمّة والمنعة، فتراجعوا على الجزاء والمنعة ولم يدخل في ذلك ما كان لآل كسرى، ومن دخل معهم؛ فلم يبق في غربي دجلة إلى أرض العرب سوادىّ إلّا أمن واغتبط بملك الإسلام. واستقبلوا الخراج؛ وأقاموا على بهر سير شهرين يرمونها بالمجانيق ويدبّون إليهم بالدبّابات، ويقاتلونهم بكلّ عدّة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام بن شريح الحارثي، عن أبيه، قال: نزل المسلمون على بهرسير، وعليها خنادقها وحرسها وعدّة الحرب، فرموهم بالمجانيق والعرادات، فاستصنع سعد شيرزاذ المجانيق، فنصب على أهل بهرسير عشرين منجنيقا، فشغلوهم بها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: فلما نزل سعد على بهرسير، كانت العرب مطيفة بها، والعجم متحصّنة فيها، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنّيات المشرفة على دجلة في جماعتهم وعدّتهم لقتال المسلمين؛ فلا يقومون لهم، فكان آخر ما خرجوا في رجّالة وناشبة، وتجرّدوا للحرب، وتبايعوا على الصبر، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم، فكذّبوا وتولوا؛ وكانت على زهرة بن الجويّة درع مفصومة، فقيل له: لو أمرت بهذا الفصم فسرد! فقال: ولم؟ قالوا: نخاف عليك منه، قال: إنّي لكريم على الله، أن ترك سهم فارس الجند كلّه ثم أتاني من هذا الفصم، حتى يثبت في! فكان أول رجل من المسلمين أصيب يومئذ بنشّابة، فثبتت فيه من ذلك الفصم؛ فقال بعضهم: انزعوها عنه، فقال: دعوني، فإنّ نفسي معي ما دامت في، لعلّي أن أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدوّ، فضرب بسيفه شهربراز من أهل إصطخر، فقتله، وأحيط به فقتل وانكشفوا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد، عن عائشة أمّ المؤمنين، قالت: لما فتح الله عز وجل وقتل رستم وأصحابه بالقادسيّة وفضّت جموعهم، اتّبعهم المسلمون حتى نزلوا المدائن، وقد ارفضّت جموع فارس، ولحقوا بجبالهم، وتفرّقت جماعتهم وفرسانهم، إلّا أنّ الملك مقيم في مدينتهم، معه من بقي من أهل فارس على أمره. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سماك بن فلان الهجيمىّ، عن أبيه ومحمد بن عبد الله، عن أنس بن الحليس، قال: بينا نحن محاصرو بهرسير بعد زحفهم وهزيمتهم، أشرف علينا رسول فقال: إنّ الملك يقول لكم: هل لكم إلى المصالحة على أنّ لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم! فبدر الناس أو مفزّر الأسود بن قطبة، وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو ولا نحن؛ فرجع الرجل ورأيناهم يقطعون إلى المدائن، فقلنا: يا أبا مفزّر، ما قلت له؟ فقال: لا والذي بعث محمدا بالحقّ ما أدري ما هو؛ إلّا أنّ علىّ سكينة، وأنا أرجو أن أكون قد أنطقت بالذي هو خير؛ وانتاب الناس يسألونه حتى سمع بذلك سعد؛ فجاءنا فقال: يا أبا مفزّر، ما قلت؟ فو الله إنهم لهرّاب؛ فحدثه بمثل حديثه إيّانا، فنادى في الناس، ثم نهد بهم؛ وإنّ مجانيقنا لتخطر عليهم؛ فما ظهر على المدينة أحد، ولا خرج إلينا إلّا رجل نادى بالأمان فآمنّاه، فقال: إن بقي فيها أحد فما يمنعكم! فتسوّرها الرجال، وافتتحناها، فما وجدنا فها شيئا ولا أحدا؛ إلّا أسارى أسرناهم خارجا منها، فسألناهم وذلك الرجل: لأي شئ هربوا؟ فقالوا: بعث الملك إليكم يعرض عليكم الصلح، فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل أفريذين بأترجّ كوثى؛ فقال الملك: وايله ألا إنّ الملائكة تكلّم على ألسنتهم، تردّ علينا وتجيبنا عن العرب، والله لئن لم يكن كذلك؛ ما هذا إلّا شئ ألقى على في هذا الرجل لننتهي؛ فأرزوا إلى المدينة القصوى. كتب إلي السري عن سيف، عن سعيد بن المرزبان، عن مسلم بمثل حديث سماك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما دخل سعد والمسلمون بهرسير أنزل سعد الناس فيها، وتحوّل العسكر إليها، وحاول العبور فوجدوهم قد ضمّوا السفن فيما بين البطائح وتكريت. ولما دخل المسلمون بهرسير - وذلك في جوف الليل - لاح لهم الأبيض، فقال ضرار بن الخطاب: الله أكبر؟! أبيض كسرى؛ هذا ما وعد الله ورسوله، وتابعوا التكبير حتى أصبحوا. فقال محمد وطلحة: وذلك ليلة نزلوا على بهرسير. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: دفعنا إلى المدائن - يعني بهرسير - وهي المدينة الدنيا، فحصرنا ملكهم وأصحابه، حتى أكلوا الكلاب والسنانير. قال: ثمّ لم يدخلوا حتى ناداهم مناد: والله ما فيها أحد؛ فدخلوها وما فيها أحد. حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى قال سيف: وذلك في صفر سنة ست عشرة، قالوا: ولما نزل سعد بهرسير، وهي المدينة الدنيا؛ طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى، فلم يقدر على شئ، ووجدهم قد ضمّوا السفن، فأقاموا ببهرسير أياما من صفر يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين، حتى أتاه أعلاج فدلّواه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي، فأبى وتردّد عن ذلك، وفجئهم المدّ، فرأى رؤيا؛ أنّ خيول المسلمين اقتحمتها فعبرت وقد أقبلت من المدّ بأمر عظيم؛ فعزم لتأويل رؤياه على العبور؛ وفي سنة جود صيفها متتابع. فجمع سعد الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ عدوّكم قد اعتصم منكم بهذا البحر، فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاءوا، فيناوشونكم في سفنهم، وليس وراءكم شئ تخافون أن تؤتوا منه؛ فقد كفاكموهم أهل الأيام، وعطّلوا ثغورهم، وأفنوا ذادتهم، وقد رأيت من الرأى أن تبادروا جهاد العدوّ بنيّاتكم قبل أن تحصركم الدنيا. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم. فقالوا جميعا: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل. فندب سعد الناس إلى العبور، ويقول: من يبدأ ويحمى لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو ذو البأس، وانتدب بعده ستّمائة من أهل النجدات، فاستعمل عليهم عاصما، فسار فيهم حتة وقف على شاطئ دجلة، وقال: من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوّكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فانتدب له ستون؛ منهم أصمّ بنى ولّاد وشرحبيل، في أمثالهم، فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكورة، ليكون أساسا لعوم الخيل. ثم اقتحموا دجلة، واقتحم بقيّة الستمائة على أثرهم، فكان أوّل من فصل من الستين أصمّ التيم، والكلج، وأبو مفزّر، وشرحبيل، وجحل العجلى. ومالك بن كعب الهمدانىّ، وغلام من بنى الحارث بن كعب؛ فلما رآهم الأعاجم وما صنعوا أعدّوا للخيل التي تقدمت سعدا مثلها، فاقتحموا عليهم دجلة، فأعاموها إليهم، فلقوا عاصما في السرعان، وقد دنا من الفراض، فقال عاصم: الرماح الرماح! أشرعوها وتوخّوا العيون؛ فالتقوا فاطّعنوا، وتوخّى المسلمون عيونهم، فولّوا نحو الجدّ، والمسلمون يشمّصون بهم خيلهم. ما يملك رجالها منع ذلك منها شيئا. فلحقوا بهم في الجدّ، فقتلوا عامّتهم، ونجا من نجا منهم عورانا، وتزلزلت بهم خيولهم، حتى انتقضت عن الفراض، وتلاحق الستمائة بأوائلهم الستين غير متعتعين. ولما رأى سعد عاصما على الفراض قد منعها، أذن للناس في الاقتحام، وقال: قولوا نستعين بالله، ونتوكّل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتلاحق عظم الجند، فركبوا اللجّة، وإنّ دجلة لترمى بالزّبد، وإنها لمسودّة، إنّ الناس ليتحدثون في عومهم وقد اقتربوا ما يكترثون، كما يتحدثون في مسيرهم على الأرض، ففجئوا أهل فارس بأمر لم يكن في حسابهم، فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم، ودخلها المسلمون في صفر سنة ست عشرة، واستولوا على ذلك كلّه مما بقى في بيوت كسرى من الثلاثة آلاف ألف ألف، ومما جمع شيرى ومن بعده. وفي ذلك يقول أبو بجيد نافع بن الأسود: وأسلنا على المدائن خيلا ** بحرها مثل برّهنّ أريضا فانتثلنا خزائن المرء كسرى ** يوم ولّوا وحاص منّا جريضا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة، عن أبيه، قال: لما أقام سعد على دجلة أتاه علج، فقال: ما يقيمك! لا يأتي عليك ثالثة حتى يذهب يزدجرد بكل شئ في المدائن؛ فذلك مما هيّجه على القيام بالدّعاء إلى العبور. كتب إلي السري، عن شعيب، عن رجل، عن أبي عثمان النهدىّ في قيام سعد في الناس في دعائهم إلى العبور بمثله، وقال: طبّقنا دجلة خيلا ورجلا ودوابّ حتى ما يرى الماء من الشاطئ أحد، فخرجت بنا خيلنا إليهم تنفض أعرافها، لها صهيل. فلما رأى القوم ذلك انطلقوا لا يلوون على شئ، فانتهينا إلى القصر الأبيض، وفيه قوم قد تحصّنوا، فأشرف بعضهم فكلمنا، فدعوناهم وعرضنا عليهم، فقلنا: ثلاث تختارون منهنّ أيّتهن شئتم، قالوا: ما هنّ؟ قلنا: الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فأجابنا مجيبهم: لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة، ولكن الوسطى. كتب إلي السري، عن شعيب، عن عطيّة بمثله. قال: والسفير سليمان. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، قال: لما هزموهم في الماء وأخرجوهم إلى الفراض، ثم كشفوهم عن الفراض أجلوهم عن الأموال، إلّا ما كانوا تقدّموا فيه - وكان في بيوت أموال كسرى ثلاثة آلاف ألف ألف - فبعثوا مع رستم بنصف ذلك، وأقرّوا نصفه في بيوت الأموال. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن أبي بكر بن حفص بين عمر، قال: قال سعد يومئذ وهو واقف قبل أن يقحم الجمهور، وهو ينظر إلى حماة الناس وهو يقاتلون على الفراض: والله أن لو كانت الخرساء - يعني الكتيبة التي كان فيها القعقاع بن عمرو وحمّال بن مالك والرّبيل بن عمرو، فقاتلوا قتال هؤلاء القوم هذه الخيل - لكانت قد أجزأت وأغنت؛ وكتيبة عاصم هي كتيبة الأهوال؛ فشبّه كتيبة الأهوال - لما رأى منهم في الماء والفراض - بكتيبة الخرساء. قال: ثمّ إنهم تنادوا بعد هنات قد اعتوروها عليهم ولهم. فخرجوا حتى لحقوا بهم، فلما استووا على الفراض هم وجميع كتيبة الأهوال بأسرهم، أقتحم سعد الناس - وكان الذي يساير سعدا في الماء سلمان الفارسي - فعامت بهم الخيل، وسعد يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل! والله لينصرنّ الله وليّه، وليظهرنّ الله دينه، وليهزمنّ الله عدوّه؛ إن لم يكن في الجيش بغى أو ذنوب تغلب الحسنات. فقال له سلمان: الإسلام جديد، ذلّلت لهم والله البحور كما ذلّل لهم البرّ، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا كما دخلوه أفواجا. فطبّقوا الماء حتى ما يرى الماء من الشاطئ، ولهم فيه أكثر حديثا منهم في البرّ لو كانوا فيه، فخرجوا منه - كما قال سلمان - لم يفقدوا شيئا، ولم يغرق منهم أحد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمر دثار، عن أبي عثمان النهدي، أنهم سلموا من عند آخرهم إلّا رجلا من بارق يدعى غرقدة، زال عن ظهر فرس له شقراء، كأني أنظر إليها تنفض أعرافها عريا والغرق طاف، فثنى القعقاع بن عمرو عنان فرصه إليه، فأخذ بيده فجرّه حتى عبر، فقال البارفىّ - وكان من أشدّ الناس: أعجز الأخوات أن يلدن مثلك يا قعقاع! وكان للقعقاع فيهم خؤولة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: فما ذهب لهم في الماء يومئذ إلّا قدح كانت علاقته رثّة، فانقطعت، فذهب به الماء، فقال الرجل الذي كان يعاوم صاحب القدح معيّرا له: أصابه القدر فطاح، فقال: والله إني لعلى جديلة ما كان الله ليسلبني قدحي من بين أهل العسكر. فلما عبروا إذا رجل ممن كان يحمى الفراض، قد سفل حتى طلع عليه أوائل الناس، وقد ضربته الرياح والأمواج حتى وقع إلى الشاطئ، فتناوله برمحه، فجاء به إلى العسكر فعرفه، فأخذه صاحبه، وقال للذي كان يعاومه: ألم أقل لك! وصاحبه حليف لقريش من عنز، يدعى مالك بن عامر، والذي قال: طاح يدعى عامر بن مالك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد، عن عمير الصائدي، قال: لما أقحم سعد الناس في دجلة اقترنوا، فكان سلمان قرين سعد إلى جانبه يسايره في الماء، وقال سعد: ذلك تقدير العزيز العليم؛ والماء يطمو بهم، وما يزال فرس يستوي قائما إذا أعيا ينشز له تلعة فيستريح عليها؛ كأنه على الأرض، فلم يكن بالمدائن أمر أعجب من ذلك، وذلك يوم الماء، وكان يدعى يوم الجراثيم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو وسعيد، قالوا: كان يوم ركوب دجلة يدعى يوم الجراثيم، لا يعيا أحد إلا أنشزت له جرثومة يريح عليها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بين أبي حازم، قال: خضنا دجلة وهي تطفح، فلما كنّا في أكثرها ماء لم يزل فارس واقف ما يبلغ الماء حزامه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما دخل سعد المدينة الدنيا، وقطع القوم الجسر، وضموا السفن، قال المسلمون: ما تنتظرون بهذه النطفة! فاقتحم رجل، فخاض الناس فما غرق منهم إنسان ولا ذهب لهم متاع، غير أنّ رجلا من المسلمين فقد قدحا له انقطعت علاقته، فرأيته يطفح على الماء. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة، قالوا: وما زالت حماة أهل فارس يقاتلون على الفراض حتى أتاهم آت فقال: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن أحد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى المشركون المسلمين وما يهمون به بعثوا من يمنعهم من العبور، وتحمّلوا فخرجوا هرّابا، وقد أخرج يزدجرد - قبل ذلك وبعد ما فتحت بهرسير - عياله إلى حلوان، فخرج يزدجرد بعد حتى ينزل حلوان، فلحق بعياله، وخلّف مهران الرازي والنّخيرجان - وكان على بيت المال - بالنهروان، وخرجوا معهم بما قدروا عليه من حرّ متاعهم وخفيفة، وما قدروا عليه من بيت المال، وبالنساء والذّرارىّ، وتركوا في الخزائن نم الثياب والمتاع والآنية والفضول والألطاف والأدهان مالا يدري ما قيمته، وخلّفوا ما كانوا أعدّوا للحصار من البقر والغنم والأطعمة والأشربة، فكان أوّل من دخل المدائن كتيبة الأهوال، ثم الخرساء، فأخذوا في سككها لا يلقون فيها أحدا ولا يحسّونه إلّا من كان في القصر الأبيض، فأحاطوا بهم ودعوهم، فاستجابوا لسعد على الجزاء والذمّة، وتراجع إليهم أهل المدائن على مثل عهدهم؛ ليس في ذلك ما كان لآل كسرى ومن خرج معهم، ونزل سعد القصر الأبيض، وسرّح زهرة في المقدّمات في آثار القوم إلى النهروان، فخرج حتى انتهى إلى النهروان، وسرّح مقدار ذلك في طلبهم من كلّ ناحية. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان أبي مالك، قال: لما عبر المسلمون يوم المدائن دجلة، فنظروا إليهم يعبرون، جعلوا يقولون بالفارسيّة: ديوان آمد. وقال بعضهم لبعض: والله ما تقاتلون الإنس وما تقاتلون إلّا الجنّ. فانهزموا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة بن الحارث وعطاء بن السائب، عن أبي البختري، قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمّروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثا. قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إيّاهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرقّ لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلمو فإخواننا لكم مالنا وعليكم ما علينا، وإلا الجزية، وإلّا نابذناكم على سواء؛ إنّ الله لا يحب الخائنين. قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شئ، فقاتلهم المسلمون حين أبوا. ولما كان اليوم الثالث في المدائن قبل أهل القصر الأبيض وخرجوا، ونزل سعد القصر الأبيض واتّخذ الإيوان مصلى، وإنّ فيه لتماثيل جصّ فما حرّكها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، وشاركهم سماك الهجيمي، قالوا: وقد كان الملك سرّب عياله حين أخذت بهرسير إلى حلوان، فلما ركب المسلمون الماء خرجوا هرّابا، وخيلهم على الشاطئ يمنعون المسلمون وخيلهم من العبور، فاقتتلوا هم والمسلمون قتالا شديدا، حتى ناداهم مناد: علام تقتلون أنفسكم! فوالله ما في المدائن من أحد. فانهزموا واقحمتها الخيول عليهم، وعبر سعد في بقيّة الجيش. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: أدرك أوائل المسلمين أخريات أهل فارس، فأدرك رجل من المسلمين يدعى ثقيفا أحد بنى عدىّ ابن شريف؛ رجلا من أهل فارس، معترضا على طريق من طرقها يحمى أدبار أصحابه، فضرب فرسه على الأقدام عليه، فأحجم ولم يقدم، ثم ضربه للهرب فتقاعس حتى لحقه المسلم، فضرب عنقه وسلبه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية وعمرو ودثار أبي عمر، قالوا: كان فارس من فرسان العجم في المدائن يومئذ مما يلي جازر، فقيل له: قد دخلت العرب وهرب أهل فارس؛ فلم يلتفت إلى قولهم، وكان واثقا بنفسه، ومضى حتى دخل بيت أعلاج له، وهم ينقلون ثيابا لهم، قال: ما لكم؟ قالوا: أخرجتنا الزنابير، وغلبتنا على بيوتنا، فدعا بجلاهق وبطين، فجعل يرميهنّ حتى ألزقهنّ بالحيطان، فأفناهنّ. وانتهى إليه الفزع، فقام وأمر علجا فأسرج له، فانقطع حزامه، فشدّه على عجل، وركب، ثم خرج فوقف. ومرّ به رجل فطعنه، وهو يقول: خذها وأنا ابن المخارق! فقتله ثم مضى ما يلتفت إليه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن المرزبان بمثله، وإذا هو ابن المخارق بن شهاب. قالوا: وأدرك رجل من المسلمين رجلا منهم معه عصابة يتلاومون، ويقولون: من أي شئ فررنا! فرماها لا يخطئ، فلما رأى ذلك عاج عاجوا معه وهو أمامهم؛ فانتهى إلى ذلك الرجل، فرماه من أقرب مما كان يرمى منه الكرة ما يصيبه، حتى وقف عليه الرجل، ففلق هامته، وقال: أنا ابن مشرّط الحجارة. وتفارّ عن الفارسي أصحابه. وقالوا جميعا؛ محمد والمهلب وطلحة وعمرو وأبو عمر وسعيد، قالوا: ولما دخل سعد المدائن، فرأى خلوتها، وانتهى إلى إيوان كسرى، أقبل يقرأ: " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأوثناها قوما آخرين ". وصلّى فيه صلاة الفتح - ولا تصلّى جماعة - فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهنّ، واتخذه مسجدا، وفيه تماثيل الجصّ رجال وخيل، ولم يمتنع ولا المسلمون لذلك، وتركوها على حالها. قالوا: وأتمّ سعد الصلاة يوم دخلها، وذلك أنه أراد المقام فيها. وكانت أوّل جمعة بالعراق جمعت جماعة بالمدائن، في صفر سنة ستّ عشرة. ذكر ما جمع من فيء أهل المدائن كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وعقبة وعمرو وأبي عمر وسعيد، قالوا: نزل سعد إيوان كسرى، وقدّم زهرة، وأمره أن يبلغ النهروان. فبعث في كلّ وجه مقدار ذلك لنفي المشركين وجمع الفيوء، ثمّ تحوّل إلى القصر بعد ثالثة، ووكّل بالأقباض عمرو بين عمرو ابن مقرّن، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدّور وإحصاء ما يأتيه به الطلب؛ وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة، ثم طاروا في كلّ وجه، فما أفلت أحد منهم بشئ لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط. وألحّ عليهم الطلب فتنقّذوا ما في أيديهم، ورجعوا بما أصابوا من الأقباض، فضمّوه إلى ماقدجمع؛ وكان أوّل شئ جمع يومئذ ما في القصر الأبيض ومنازل كسرى وسائر دور المدائن. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأعمش، عن حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن، فأتينا على قباب تركيّة مملوءة سلالا مختّمة بالرصاص، فما حسبناها إلّا طعاما، فإذا هي آنية الذهب والفضة فقسمت بعد بين الناس. وقال حبيب: وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير، فما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر بن السري، عن ابن الرفيل، عن أبيه الرفيل بن ميسور، قال: خرج زهرة في المقدّمة يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان، وهم عليه، فازدحموا، فوقع بغل في الماء فعجلوا وكلبوا عليه، فقال زهرة: إني أقسم بالله إنّ لهذا البغل لشأنا! ما كلب القوم عليه ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك إلّا لشئ بعد ما أرادوا تركه، وإذا الذي عليه حلية كسرى؛ ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي كان فيها الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة؛ وترجّل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاءوا بما عليه، حتى ردّه إلى الأقباض، ما يدرون ما عليه، وارتجز يومئذ زهرة: فدى لقومي اليوم أخوالي وأعمامي ** هم كرهوا بالنهر خذلاني وإسلامي هم فلجوا بالبغل في الخصام ** بكلّ قطّاع شئون الهام وصرّعوا الفرس على الآكام ** كأنّهم نعم من الأنعام كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عنت جدّه الكلج، قال: كنت فيمن خرج في الطلب، فإذا أنا ببغّالين قد ردا الخيل عنهما بالنّشاب، فما بقي معهما غير نشّابتين، فألظظت بهما، فاجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: ارمه وأحميك، أو أرميه وتحميني! فحمى كلّ واحد منهما صاحبه حتى رميا بها. ثم إني حملت عليهما فقتلتهما وجئت بالبغلين ما أدري ما عليهما، حتى أبلغتهما صاحب الأقباض، وإذا هو يكتب ما يأتيه به الرجال وما كان في الخزائن والدّور، فقال: على رسلك حتى ننظر ما معك! فحططت عنهما، فإذا سفطان على أحد البغلين فيهما تاج كسرى مفسّخا - وكان لا يحمله إلّا أسطوانتان - وفيهما الجوهر، وإذا على الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذّهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجا منظوما. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: وخرج القعقاع بن عمرو يومئذ في الطلب، فلحق بفارسّ يحمى الناس؛ فاقتتلا فقتله؛ وإذا مع المقتول جنيبة عليها عيبتان وغلافان في أحدهما خمسة أسياف وفي الآخر ستّة أسياف؛ وإذا في العيبتين أدراع، فإذا في الأدراع درع كسرى ومغفره وساقاه وساعداه، ودرع هرقل، ودرع خاقان ودرع داهر ودرع بهرام شوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان؛ وكانوا استلبوا ما لم يرثوا، استلبوها أيام غزاتهم خاقان وهرقل وداهر؛ وأمّا النعمان وبهرام فحين هربا وخالفا كسرى، وأما أحد الغلافين ففيه سيف كسرى وهرمز وقباذوفيروز، وإذا السيوف الأخر، سيف هرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش والنعمان. فجاء به إلى سعد، فقال: اختر أحد هذه الأسياف، فاختار سيف هرقل، وأعطاه درع بهرام، وأما سائرها فنفّلها في الخرساء إلّا سيف كسرى والنعمان - ليبعثوا بهما إلى عمر لتسمع بذلك العرب لمعرفتهم بهما، وحبسوهما في الأخماس - وحلىّ كسرى وتاجه وثيابه؛ ثم بعثوا بذلك إلى عمر ليراه المسلمون، ولتسمع بذلك العرب، وعلى هذا الوجه سلب خالد بن سعيد عمرو بن معد يكرب سيفه الصمصامة في الردة والقوم يستحيون من ذلك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيدة بن معتّب، عن ردل من بني الحارث بن طريف، عن عصمة بن الحارث الضبىّ، قال: خرجت فيمن خرج يطلب، فأخذت طريقا مسلوكا وإذا عليه حمّار، فلما رآني حثّه فلحق بآخر قدّامه، فمالا، وحثّا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فثبتا حتى أتيتهما، ثم تفرّقا، ورماني أحدهما فألظظت به فقتلته وأفلت الآخر، ورجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر فيما على أحدهما، فإذا سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج من فضة، على ثفره ولببه الياقوت، والزّمرّد منظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضّة مكلّل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضّة، عليها شليل من ذهب، وبطان من ذهب ولها شناق - أو زمام - من ذهب، وكلّ ذلك منظوم بالياقوت؛ وإذا عليها رجل من ذهب مكلّل بالجوهر، كان كسرى يضعهما إلى أسطوانتي التاج. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هبيرة بن الأشعث، عن أبي عبيدة العنبرىّ، قال: لما هبط المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحقّ معه، فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال والذين معه: ما رأينا مثل هذا قطّ، ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه؛ فقالوا: هل أخذت منه شيئا؟ فقال: أما والله لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أنّ للرّجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا والله لا أخبركم لتحموني، ولا غيركم لبقرّظوني، ولكنّي أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى أنتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محممد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: قال سعد: والله إنّ الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر لقلت: وايم الله - على فضل أهل بدر - لقد تتبّعت من أقوام منهم هنات وهنات فيما أحرزوا، ما أحسبها ولا أسمعها من هؤلاء القوم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن جابر بن عبد الله، قال: والله الذي لا إله إلّا هو؛ ما أطّلعنا على أحد من أهل القادسيّة، أنه يريد الدنيا مع الآخرة، ولقد اتّهمنا ثلاثة نفر، فما رأينا كالذي هجمنا عليه من أمانتهم وزهدهم: طليحة بن خويلد، وعمرو بن معد يكرب، وقيس بن الكشوح. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس العجلىّ، عن أبيه، قال: لما قدم بسيف كسرى على عمر ومنطقته وزبرجه، قال: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! فقال علىّ: إنّك عففت فعفّت الرعيّة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو والمجالد، عن الشعبي، قال: قال عمر حين نظر إلى سلاح كسرى: إن أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة. ذكر صفة قسم الفيء الذي أصيب بالمدائن بين أهله وكانوا فيما زعم سيف ستين ألفا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد والمهلّب، قالوا: ولما بعث سعد بعد نزوله المدائن في طب الأعاجم، بلغ الطلب النهروان؛ ثمّ تراجعوا، ومضى المشركون نحو حلوان، فقسّم سعد الفئ بين الناس بعد ما خمّسه؛ فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وكلّهم كان فارسا ليس فيهم راجل؛ وكانت الجنائب في المدائن كثيرة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبىّ بمثله، وقالوا جميعا: ونفّل من الأخماس ولم يجهدها في أهل البلاء. وقالوا جميعا: قسم سعد دور المدائن بين الناس، وأوطنوها، والذي ولى القبض عمرو بن عمرو المزنىّ، والذي ولى القسم سلمان بن ربيعة؛ وكان فتح المدائن في صفر سنة ستّ عشرة. قالوا: ولما دخل سعد المدائن أتمّ الصلاة وصام، وأمر الناس بإيوان كسرى فجعل مسجدا للأعياد، ونصب فيه منبرا، فكان يصلّى فيه - وفيه التماثيل - ويجمّع فيه، فلما كان الفطر قيل: ابرزوا، فإنّ السنّة في العيدين البراز. فقال سعد: صلّوا فيه؛ قال: فصلّى فيه، وقال: سواء في عقر القرية أو في بطنها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما نزل سعد المدائن، وقسم المنازل، بعث إلى العيالات، فأنزلهم الدور وفيها المرافق، فأقاموا بالمدائن حتى فرغوا من جولاء وتكريت والموصل، ثم تحوّلوا إلى الكوفة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وزياد والمهلب، وشاركهم عمرو وسعيد: وجمع سعد الخمس، وأدخل فيه كلّ شئ أراد أن يعجب منه عمر؛ من ثياب كسرى وجليّه وسيفه ونحو ذلك، وما كان يعجب العرب أن يقع إليهم، ونفّل من الأخماس، وفضل بعد القسم بين الناس وإخراج الخمس القطف، فلم تعتدل قسمته، فقال للمسلمين: هل لكم في أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماسه، فنبعث به إلى عمر فيضعه حيث يرى، فإنا لا نراه يتفق قسمه؛ وهو بيننا قليل؛ وهو يقع من أهل المدينة موقعا! فقالوا: نعم ها الله إذا؛ فبعث به على ذلك الوجه، وكان القطف ستين ذراعا في ستين ذراعا، بساطا واحدا مقدار جريب؛ فيه طرق كالصّور وفصوص كالأنهار؛ وخلال ذلك كالدّير، وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع من الحرير على قضبان الذهب ونوّاره بالذهب والفضة وأشباه ذلك. فلما قدم على عمر نفّل من الخمس أناسا، وقال: إنّ الأخماس ينفل منها من شهد ومن غاب من أهل البلاء فيما بين الخمسين؛ ولا أرى القوم جهدوا الخمس بالنفل؛ ثم قسم الخمس في مواضعه، ثمّ قال: أشيروا علىّ في هذا القطف! فأجمع ملؤهم على أن قالوا: قد جعلوا ذلك لك، فر رأيك، إلّا ما كان من علىّ فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الأمر كما قالوا، ولم يبق إلى التروية؛ إنك إن تقبله على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحقّ به ما ليس له، قال: صدقتني ونصحتني. فقطّعه بينهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الملك بن عمير، قال: أصاب المسلمون يوم المدائن بهار كسرى، ثقل عليهم أن يذهبوا به، وكانوا يعدّونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه؛ فكأنهم في رياض بساط ستين في ستين؛ أرضه بذهب، ووشيه بفصوص، وثمره بجوهر، وورقه بحرير وماء الذهب؛ وكانت العرب تسمّية القطف، فلما قسم سعد فيئهم فضل عنهم، ولم يتّفق قسمته، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن الله قد ملأ أيديكم، وقد عسر قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به نفسا لأمير المؤمنين يضعه حيث شاء؛ ففعلوا. فلما قدم على عمر المدينة رأى رؤيا فجمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه، واستشارهم في البساط، وأخبرهم خبره؛ فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوّض إليه، وآخر مرقّق، فقام علىّ حين رأى عمر يأبى حتّى انتهى إليه، فقال: لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكّا! إنه ليس لك من الدنيا إلّا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت. قال: صدقتني. فقطّعه فقسمه بين الناس، فأصاب علياّ قطعة منه، فباعها بعشرين ألفا؛ وما هي بأجود تلك القطّع. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: وكان الذي ذهب بالأخماس؛ أخماس المدائن، بشير بن الخصاصيّة، والذي ذهب بالفتح خنيس بن فلان الأسدي، والذي ولىّ القبض عمرو، والقمس سلمان. قالوا: ولما قسم البساط بين الناس أكثر الناس في فضل أهل القادسيّة، فقال عمر: أولئك أعيان العرب وغررها، اجتمع لهم مع الأخطار الدين، هم أهل الأيام وأهل القوادس. قالوا: ولما أتى بحلىّ كسرى وزيّه في المباهاة وزيّه في غير ذلك - وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زي - قال: علىّ بمحلّم - وكان أجسم عربي يومئذ بأرض المدينة - فألبس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأجلس للناس؛ فنظر إليه عمر، ونظر إليه الناس، فرأوا أمرا عظيما من أمر الدنيا وفتنتها، ثم قام عن ذلك، فألبس زيّه الذي يليه، فنظروا إلى مثل ذلك في غير نوع، حتى أتى عليها كلها؛ ثم ألبسه سلاحه، وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك، ثم وضعه ثم قال: والله إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة. ونفّل سيف كسرى محلّما، وقال: أحمق بامرئ من المسلمين غرّته الدنيا! هل يبلغنّ مغرور منها إلّا دون هذا أو مثله! وما خير امرئ مسلم سبقه كسرى فيم يضرّه ولا ينفعه! إنّ كسرى لم يزد على أن تشاغل بما أوتى عن آخرته، فجمع لزج امرأته أو زوج ابنته، أو امرأة ابنه، ولم يقدّم لنفسه، فقدّم امرؤ لنفسه ووضع الفضول مواضعها تحصل له، وإلّا حصلت للثلاثة بعده؛ وأحمق بمن جمع لهم أو لعدوّ جارف! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عمر مقدم الأخماس عليه حين نظر إلى سلاح كسرى وثيابه وحليّه، مع ذلك سيف النعمان بن المنذر، فقال لجبير: إنّ أقواما أدّوا هذا لذوو أمانة! إلى من كنتم تنسبون النعمان؟ فقال جبير: كانت العرب تنسبه إلى الأشلاء، أشلاء قنص، وكان أحد بني عجم بن قنص، فقال: خذ سيفه فنفّله إياه، فجهل الناس عجم، وقالوا لخم. وقالوا جميعا: وولّى عمر سعد بن مالك صلاة ما غلب عليه وحربه، فولى ذلك؛ وولّى الخراج النعمان وسويدا ابنى عمرو بن مقرّن؛ سويدا على ما سقى الفرات، والنعمان على ما سقت دجلة، وعقدوا الجسور، ثم ولّى عملهما، واستعفيا حذيفة بن أسيد وجابر بن عمرو المزنّى، ثم ولّى عملهما بعد حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف. قال: وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ عشرة - كانت وقعة جلولاء، وكذلك حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق. وكتب إلىّ السري يذكر أن شعيبا حدثه عن سيف بذلك. ذكر الخبر عن وقعة جلولاء الوقيعة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: لما أقمنا بالمدائن حين هبطناها واقتسمنا ما فيها، وبعثنا إلى عمر بالأخماس، وأوطنّاها، أتانا الخبر بأنّ مهران قد عسكر بجلولاء، وخندق عليه؛ وأنّ أهل الموصل قد عسكروا بتكريت. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة البجلّى، عن أبيه بمثله؛ وزاد فيه: فكتب سعد بذلك إلى عمر، فكتب إلى سعد: أن سرّح هاشم بن عتبة إلى جلولاء في اثني عشر ألفا، واجعل على مقدّمته القعقاع بن عمرو، وعلى ميمنته سعر بن مالك، وعلى ميسرته عمرو بن مالك بن عتبة، واجعل على ساقته عمرو بن مرّة الجهنىّ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وزياد، قالوا: وكتب عمر إلى عمر إلى سعد: إن هزم الله الجندين: جند مهران وجند الأنطاق؛ فقدّم القعقاع حتى يكون بين السواد وبين الجبل على حدّ سوادكم وشاركهم عمرو وسعيد. قالوا: وكان من حديث أهل جلولاء، أنّ الأعاجم لما انتهوا بعد الهرب من المدائن إلى جلولاء، وافترقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس، تذامروا وقالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، وهذا مكان يفرّق بيننا، فهلمّوا فلنجتمع للعرب به ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا الذي علينا، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق، واجتمعوا فيه على مهران الرازىّ، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرّجال؛ وخلّف فيهم الأموال، فأقاموا في خندقهم، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلّا طرقهم. قال عمرو، عن عامر الشعبىّ: كان أبو بكر لا يستعين في حربه بأحد من أهل الردّة حتى مات، وكان عمر قد استعان بهم؛ فكان لا يؤمّر منهم أحدا إلى على النفر وما دون ذلك؛ وكان لا يعدل أن يؤمّر الصحابة إذا وجد من يجزى عنه في حربه؛ فإن لم يجد ففي التابعين بإحسان؛ ولا يطمع من انبعث في الردّة في الرياسة؛ وكان رؤساء أهل الردّة في تلك الحروب حشوة إلى أن ضرب الإسلام بجرانه. ثم اشترك عمرو ومحمد والمهلب وطلحة وسعيد، فقالوا: ففصل هاشم ابن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ستّ عشرة، في اثني عشر ألفا؛ منهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتدّ وممن لم يرتدّ؛ فسار من المدائن إلى جلولاء أربعا، حتى قدم عليهم، وأحاط بهم، فحاصرهم وطاولهم أهل فارس، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلّا إذا أرادوا؛ وزاحفهم المسلمون بجلولاء ثمانين زحفا، كلّ ذلك يعطى الله المسلمين عليهم الظفر، وغلبوا المشركين على حسك الخشب، فاتّخذوا حسك الحديد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عقبة بن مكرم، عن بطان بن بشر، قال: لما نزل هاشم على مهران بجلولاء حصرهم في خندقهم، فكانوا يزاحفون المسلمين في زهاء وأهاويل، وجعل هاشم يقوم في الناس، ويقول: إنّ هذا المنزل منزل له ما بعده؛ وجعل سعد يمدّه بالفرسان حتى إذا كان أخيرا احتفلوا للمسلمين؛ فخرجوا عليهم، فقام هاشم في الناس، فقال: أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم، واعملوا لله. فالتقوا فاقتتلوا، وبعث الله عليهم ريحا أظلمت عليهم البلاد فلم يستطيعوا إلا المحاجزة، فتهافت فرسانهم في الخندق؛ فلم يجدوا بدّا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم؛ تصعد منه خيلهم؛ فأفسدا حصنهم؛ وبلغ ذلك المسلمين، فنظروا إليه، فقالوا: أننهض إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه! فلما نهد المسلمون الثانية خرج القوم، فرموا حول الخندق مما يلي المسلمين بحسك الحديد لكيلا يقدم عليهم الخيل، وتركوا للمجال وجها، فخرجوا على المسلمين منه، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله إلا ليلة الهرير، إلا أنه كان أكمش وأعجل؛ وانتهى القعقاع بن عمرو في الوجه الذي زاحف فيه إلى باب خندقهم، فأخذ به، وأمر مناديا فنادى: يا معشر المسلمين، هذا أميركم قد دخل خندق القوم وأخذ به فأقبلوا إليه؛ ولا يمنعنّكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما أمر بذلك ليقوّى المسلمين به، فحمل المسلمون ولا يشكّون إلا أن هاشما فيه، فلم يقم لحملتهم شئ، حتى انتهوا إلى باب الخندق، فإذا هم بالقعقاع بن عمرو، وقد أخذ به؛ وأخذ المشركون في هزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم؛ فهلكوا فيما أعدّوا للمسلمين فعقرت دوابّهم، وعادوا رجّالة؛ وأتبعهم المسلمون، فلم يفلت منهم إلا من لا يعدّ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه، فسمّيت جلولاء بما جللها من قتلاهم؛ فهي جلولاء الوقيعة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن محفّز، عن أبيه، قال: إني لفي أوائل الجمهور، مدخلهم ساباط ومظلمها، وإني لفي أوائل الجمهور حين عبروا دجلة، ودخلوا المدائن؛ ولقد أصبت بها تمثالا لو قسم في بكر بن وائل لسدّ منهم مسداّ، عليه جوهر، فأدّيته؛ فما لبثنا بالمدائن إلّا قليلا حتى بلغنا أنّ الأعاجم قد جمعت لنا بجلولاء جمعا عظيما، وقدّموا عيالاتهم إلى الجبال، وحبسوا الأموال؛ فبعث إليهم سعد عمرو بن مالك بن عتبة بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وكان جند جلولاء اثنى عشر ألفا من المسلمين، على مقدّمتهم القعقاع بن عمرو، وكان قد خرج فيهم وجوه الناس وفرسانهم؛ فلما مرّوا ببابل مهروذ صالحه دهقانها، على أن يفرش له جريب أرض دراهم؛ ففعل وصالحه. ثم مضى حتى قدم عليهم بجلولاء، فوجدهم قد خندقوا وتحصنوا في خندقهم، ومعهم بيت مالهم، وتواثقوا وتعاهدوا بالنيران ألّا يفرّوا، ونزل المسلمون قريبا منهم، وجعلت الأمداد تقدم على المشركين كلّ يوم من حلوان، وجعل يمدّهم بكلّ من أمدّه من أهل الجبال، واستمدّ المسلمون سعدا فأمدّهم بمائتي فارس، ثم مائتين، ثم مائتين. ولما رأى أهل فارس أمداد المسلمين بادروا بقتال المسلمين. وعلى خيل المسلمين يومئذ طليحة بن فلان، أحد بنى عبد الدار، وعلى خيل الأعاجم خرّ زاذ بن خرّ هرمز - فاقتتلوا قتالا شديدا، لم يقاتلوا المسلمين مثله في موطن من المواطن، حتى أنفذوا النبل؛ وحتى أنفدوا النشّاب، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطّبرزينات. فكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهر؛ ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة وجاءت أخرى فوقفت مكانها، فأقبل القعقاع بن عمرو على الناس، فقال: أهالتكم هذه؟ قالوا: نعم؛ نحن مكلّون وهم مريحون، والكالّ يخاف العجز إلا أن يعقب؛ فقال: إنا حاملون عليهم ومجادّوهم وغير كافّين ولا مقلعين حتى يحكم الله بيننا وبينهم فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى تخالطوهم، ولا يكذبنّ أحد منكم. فحمل فانفرجوا، فما نهنه أحد عن باب الخندق، وألبسهم الليل رواقه، فأخذوا يمنة ويسرة؛ وجاء في الأمداد طليحة وقيس بن المكشوح وعمرو بن معد يكرب وحجر بن عدىّ، فوافقوهم قد تحاجزوا مع الليل، ونادى منادى القعقاع بن عمرو: أين تحاجزون وأميركم في الخندق! فتفارّ المشركون، وحمل المسلمون، فأدخل الخندق، فآتى فسطاطا فيه مرافق وثياب؛ وإذا فرش على إنسان فأنبشه، فإذا امرأة كالغزال في حسن الشمس، فأخذتها وثيابها، فأدّيت الثياب، وطلبت في الجارية حتى صارت إلىّ فاتخذتها أمّ ولد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حماد بن فلان البرجمىّ، عن أبيه، أنّ خارجة بن الصلت أصاب يومئذ ناقة من ذهب أو فضة موشحة بالدرّ والياقوت مثل الجفرة إذا وضعت على الأرض، وإذا عليها رجل من ذهب موشّح كذلك، فجاء بها وبه حتّى أدّاهما. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد والوليد بن عبد الله والمجالد وعقبة بن مكرم، قالوا: وأمر هاشم القعقاع بن عمرو بالطلب، فطلبهم حتى بلغ خانقين، ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبال، وقدم القعقاع حلوان، وذلك أنّ عمر كان كتب إلى سعد: إن هزم الله الجندين؛ جند مهران وجند الأنطاق، فقدّم القعقاع؛ حتى يكون بين السواد والجبل، على حدّ سوادكم. فنزل القعقاع بحلوان في جند من الأفناء ومن الحمراء، فلم يزل بها إلى أن تحوّل الناس من المدائن إلى الكوفة؛ فلما خرج سعد من المدائن إلى الكوفة لحق به القعقاع؛ واستعمل على الثغر قباذ - وكان من الحمراء، وأصله من خراسان - ونفّل منها من شهدها، وبعض من كان بالمدائن نائيا. وقالوا - واشتركوا في ذلك: وكتبوا إلى عمر بفتح جلولاء وبنزول القعقاع حلوان واستأذنوه في إتباعهم، فأبى، وقال: لوددت أنّ بين السواد وبين الجبل سداّ لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم؛ حسبنا من الريف السواد، إنىّ آثرت سلامة المسلمين على الأنفال. قالوا: ولما بعث هاشم القعقاع في آثار القوم، أدرك مهران بخانقين، فقتله وأدرك الفيرزان فنزل، وتوقّل في الظراب، وخلّى فرسه، وأصاب القعقاع سبايا، فبعث بهم إلى هاشم من سباياهم، واقتسموهم فيما اقتسموا من الفئ، فاتّخذن، فولدن في المسلمين. وذلك السبي ينسب إلى جلولاء، فيقال: سبي جلولاء. ومن ذلك السبي أم الشعبي، وقعت لرجل من بني عبس، فولدت فمات عنها فخلف عليها شراحيل، فولدت له عامرا، ونشأ في بني عبس. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب، قالوا: واقتسم في جلولاء على كلّ فارس تسعة آلاف، تسعة آلاف؛ وتسعة من الدواب، ورجع هاشم بالأخماس إلى سعد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: أفاء الله على المسلمين ما كان في عسكرهم بحلولاء وما كان عليهم، وكلّ دابة كانت معهم إلّا اليسير لم يفلتوا بشئ من الأموال، وولى قسم ذلك بين المسلمين سلمان بن ربيعة؛ فكانت إليه يومئذ الأقباض والأقسام، وكانت العرب تسمّيه لذلك سلمان الخيل؛ وذلك أنه كان يقسم لها ويقصّر بما دونها، وكانت العتاق عنده ثلاث طبقات، وبلغ سهم الفارس بجلولاء مثل سهمه بالمدائن. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد وعمرو، عن الشعبي، قال: اقتسم الناس فئ جلولاء على ثلاثين ألف ألف، وكان الخمس ستة آلاف ألف. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والمهلب وسعيد، قالوا: ونفّل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها ومن أعظم البلاء ممن كان نائيا بالمدائن، وبعث بالأخماس مع قضاعىّ ابن عمرو الدؤلي من الأذهاب والأوراق والآنية والثياب، وبعث بالسبي مع أبي مفزّر الأسود، فمضيا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زهرة ومحمد بن عمرو، قالا: بعث الأخماس مع قضامىّ وأبى مفزّر، والحساب مع زياد ابن أبى سفيان، وكان الذي يكتب للناس ويدوّنهم، فلما قدموا على عمر كلم زياد عمر فيما جاء له، ووصف له، فقال عمر: هل تستطيع أن تقوم في الناس بمثل الذي كلمتني به؟ فقال: والله ما على الأرض شخص أهيب في صدري منك، فكيف لا أقوى على هذا من غيرك! فقام بالناس بما أصابوا وبما صنعوا، وبما تستأذنون فيه من الانسياح في البلاد. فقال عمر: هذا الخطيب المصقع، فقال: إنّ جندنا أطلقوا بالفعال لساننا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زهرة ومحمد، عن أبي سلمة، قال: لما قدم على عمر بالأخماس من جلولاء، قال عمر: والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه في صحن المسجد، فلما أصبح جاء في الناس فكشف عن جلابيبه - وهي الأنطاع - فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى، فقال: عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلّا ألقي بأسهم بينهم. وأشكل على عمر في أخماس القادسيّة حتى خطر عليه ما أفا الله - يعني من الخمس - فوضع ذلك في أهله، فأجرى خمس جلولاء مجرى خمس القادسيّة عن ملإ وتشاور وإجماع من المسلمين، ونفّل من ذلك بعض أهل المدينة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وسعيد وعمرو، قالوا: وجمع سعد من وراء المدائن، وأمر بالإحصاء فوجدهم بضعة وثلاثين ومائة ألف، ووجدهم بضعة وثلاثين ألف أهل بيت، ووجد قسمتهم ثلاثة لكلّ رجل منهم بأهلهم؛ فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن أقرّ الفلاحين على حالهم؛ إلّا من حارب أو هرب منك إلى عدوّك فأدركته، وأجر لهم ما أجريت للفلاحين قبلهم؛ وإذا كتبت إليك في قوم فأجروا أمثالهم مجراهم. فكتب إليه سعد فيمن لم يكن فلاحا فأجابه: أما من سوى الفلّاحين فذاك إليكم ما لم تغنموه - يعني تقتسموه - ومن ترك أرضه من أهل الحرب فخلّاها فهي لكم؛ فإن دعوتموهم وقبلتم منهم الجزاء ورددتموهم قبل قسمتها فذّمة؛ وإن لم تدعوهم ففئ لكم لمن أفاء الله ذلك عليه. وكان أحظى بفئ الأرض أهل جلولاء؛ استأثروا بفئ ما وراء النهروان، وشاركوا الناس فيما كان قبل ذلك، فأقرّوا الفلاحين ودعوا من لجّ، ووضعوا الخراج على الفلاحين وعلى من رجع وقبل الذمة، واستصفوا ما كان لآل كسرى ومن لجّ معهم فيئا لمن أفاء الله عليه، لا يجاز بيع شئ من ذلك فيما بين الجبل إلى الجبل من أرض العرب إلّا من أهله الذين أفاء الله عليهم، ولم يجيزوا بيع ذلك فيما بين الناس - يعني فيمن لم يفئه الله تعالى عليه ممن يعاملهم من لم يفئه الله عز وجل عليه - فأقرّه المسلمون؛ لم يقتمسوه؛ لأن قسمته لم تتأتّ لهم؛ فمن ذلك الآجام ومغيض المياه وما كان لمن قتل، والأرحاء؛ فكان بعض من يرقّ يسأل الولاة قسم ذلك؛ فيمنعهم من ذلك الجمهور، أبوا ذلك، فانتهوا إلى رأيهم ولم يجيبوا، وقالوا: لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لفعلنا؛ ولو كان طلب ذلك منهم عن ملإ لقسمها بينهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة بن الأعلم، عن ماهان، قال: لم يثبت أحد من أهل السواد على العهد فيما بينهم وبين أهل الأيام إلّا أهل قريات، أخذوها عنوة، كلهم نكث؛ ما خلا أولئك القريات، فلما دعوا إلى الرجوع صاروا ذمّة، وعليهم الجزاء، ولهم المنعة، إلا ما كان لآل كسرى ومن معهم، فإنه صافية فيما بين حلوان والعراق؛ وكان عمر قد رضى بالسّواد من الريف. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كتبوا إلى عمر في الصوافى، فكتب إليهم: أن اعمدوا إلى الصوافى التي أصفاكموها الله، فوزّعوها على من أفاءها الله عليه؛ أربعة أخماس للجند، وخمس في مواضعه إلىّ، وإن أحبّوا أن ينزلوها فهو الذي لهم. فلما جعل ذلك إليهم رأوا ألّا يفترقوا في بلاد العجم، وأقرّوها حبيسا لهم يولونها من تراضوا عليه، ثم يقتسمونها في كلّ عام، ولا يولونها إلا من أجمعوا عليه بالرّضا، وكانوا لا يجمعون إلّا على الأمراء، كانوا بذلك في المدائن؛ وفي الكوفة حين تحوّلوا إلى الكوفة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله ابن أبي طيبة، عن أبيه، قال: كتب عمر: أن احتازوا فيئكم فإنكم إن لم تفعلوا فتقادم الأمر يلحج؛ وقد قضيت الذي علىّ. اللهمّ إنّي أشهدك عليهم فاشهد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله، عن أبيه، قال: فكان الفلّاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدّلالة مع الجزاء عن أيديهم على قدر طاقتهم؛ وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين، وكانت الضيافة لمن أفاءها الله خاصّة ميراثا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت بنحو منه، وقالوا جميعا: كان فتح جلولاء في ذي القعدة سنة ستّ عشرة في أولها، بينها وبين المدائن تسعة أشهر. وقالوا جميعا: كان صلح عمر الذي صالح عليه أهل الذمة؛ أنهم إن غشّوا المسلمين لعدوّهم برئت منهم الذمة، وإن سبّوا مسلما أن ينهكوا عقوبة، وإن قاتلوا مسلما أن يقتلوا؛ وعلى عمر منعتهم؛ وبرئ عمر إلى كلّ ذي عهد من معرّة الجيوش. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله والمستنير، عن إبراهيم بمثله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان أشفى أهل فارس بجلولاء أهل الرى؛ كانوا بها حماة أهل فارس ففنى أهل الرى يوم جلولاء. وقالوا جميعا: ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم، وصار السواد ذمة لهم إلا ما أصفاهم الله به من مال الأكاسرة، ومن لجّ معهم. وقالوا جميعا: ولما بلغ أهل فارس قول عمر ورأيه في السواد وما خلفه، قالوا: ونحن نرضى بمثل الذي رضوا به، لا يرضى أكراد كلّ بلد أن ينالوا من ريفهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير بن يزيد وحكيم بن عمير، عن إبراهيم بن يزيد، قال: لا يحلّ اشتراء أرض فيما بين حلوان والقادسيّة؛ والقادسيّة من الصوافى، لأنه لمن أفاءه الله عليه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي مثله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن المغيرة بن شبل، قال: اشترى جرير من أرض السواد صافية على شاطئ الفرات، فأتى عمر فأخبره، فردّ ذلك الشراء وكرهه، ونهى عن شراء شئ لم يقتسمه أهله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، قال: قلت للشعبي: أخذ السواد عنوة؟ قال: نعم، وكلّ أرض إلّا بعض القلاع والحصون؛ فإن بعضهم صالح وبعضهم غلب، قلت: فهل لأهل السواد ذمّة اعتقدوها قبل الهرب؟ قال: لا، ولكنهم لما دعوا ورضوا بالخراج وأخذ منهم صاروا ذمّة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد العزيز، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: ليس لأحد من أهل السواد عقد إلّا بني صلوبا وأهل الحيرة وأهل كلواذى وقرى من قرى الفرات، ثم غدروا، ثم دعوا إلى الذمّة بعد ما غدروا. وقال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء: يوم جلولاء ويوم رستم ** ويوم زحف الكوفة المقدّم ويوم عرض النهر المحرّم ** من بين أيّام خلون صرّم شيّبن أصداغى فهنّ هرّم ** مثل ثغام البلد المحرّم وقال أبو بجيذ في ذلك: ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت ** كتائبنا تردى بأسد عوابس ففضّت جموع الفرس ثمّ أنمتهم ** فتبا لأجساد المجوس النجائس! وأفلتهنّ الفيرزان بجرعة ** ومهران أردت يوم حزّ القوانس أقاموا بدار للمنّية موعد ** وللتّرب تحثوها خجوج الروامس كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب ومرو وسعيد، قالوا: وقد كان عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد: إن فتح الله عليكم جلولاء فسرّح القعقاع بن عمرو في آثار القوم حتى ينزل بحلوان، فيكون ردءا للمسلمين ويحرز الله لكم سوادكم. فلما هزم الله عز وجل أهل جلولاء، أقام هاشم بن عتبة بجلولاء، وخرج القعقاع بن عمرو في آثار القوم إلى خانقين في جند من أفناء الناس ومن الحمراء، فأدرك سبيا من سبيهم؛ وقتل مقاتلة من أدرك، وقتل مهران وأفلت الفيرزان؛ فلما بلغ يزدجرد هزيمة أهل جلولاء ومصاب مهران، خرج من حلوان سائرا نحو الري، وخلف بحلوان خيلا عليها خسروشنوم؛ وأقبل القعقاع حتى إذا كان بقصر شيرين على رأس فرسخ من حلوان خرج إليه خسروشنوم، وقدم الزينبي دهقان حلوان، فلقيه القعقاع فاقتتلوا فقتل الزينبي، واحتقّ فيه عميرة بن طارق وعبد الله، فجعله وسلبه بينهما، فعدّ عميرة ذلك حقرة وهرب خسروشنوم، واستولى المسلمون على حلوان وأنزلها القعقاع الحمراء، وولّى عليهم قباذ، ولم يزل القعقاع هنالك على الثغر والجزاء بعد ما دعاهم، فتراجعوا وأقرّوا بالجزاء إلى أن تحوّل سعد من المدائن إلى الكوفة، فلحق به، واستخلف قباذ على الثغر، وكان أصله خراسانياّ. ذكر فتح تكريت وكان في هذه السنة - أعني سنة عشرة في رواية سيف - فتح تكريت، وذلك في جمادى منها. ذكر الخبر عن فتحها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والملهب وسعيد، وشاركهم الوليد بن عبد الله بن أبي طيبة، قالوا: كتب سعد في اجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق وإقاله حتى نزلت بتكريت، وخندق فيه عليه ليحمى أرضه، وفي اجتماع أهل جلولاء على مهران معه؛ فكتب في جلولاء ما قد فرغنا منه، وكتب في تكريت واجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق بها: أن سرّح إلى الأنطاق عبد الله بن المعتمّ، واستعمل على مقدّمته ربعىّ ابن الأفكل العنزىّ، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلىّ، وعلى ميسرته فرات بن حيّان العجلىّ، وعلى ساقته هانئ بن قيس، وعلى الخيل عرفجة ابن هرثمة؛ ففصل عبد الله بن المعتمّ في خمسة آلاف من المدائن، فسار إلى تكريت أربعا؛ حتى نزل على الأنطاق؛ ومعه الروم وإياد وتغلب النمر ومعه الشهارجة وقد خندقوا بها، فحصرهم أربعين يوما، فتزاحفوا فيها أربعة وعشرين زحفا؛ وكانوا أهون شركة، وأسرع أمرا من أهل جلولاء، ووكّل عبد الله بن المعتمّ بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الروم؛ فهم لا يخفون عليه شيئا؛ ولما رأت الروم أنهم لا يخرجون خرجة إلّا كانت عليهم، ويهزمون في كلّ ما زاحفوهم؛ تركوا أمراءهم، ونقلوا متاعهم إلى السفن، وأقبلت العيون من تغلب وإياد والنّمر إلى عبد الله بن المعتمّ بالخبر، وسألوه للعرب السلم، وأخبروه أنهم قد استجابوا له؛ فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين بذلك فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأقرّوا بما جاء به من عند الله؛ ثم أعلمونا رأيكم. فرجعوا إليهم بذلك، فردّوهم إليه بالإسلام؛ فردّهم إليهم، وقال: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التي تلينا لندخل عليهم منها، فخذوا بالأبواب التي تلي دجلة، وكبّروا واقتلوا من قدرت عليه؛ فانطلقوا حتى تواطئوهم على ذلك. ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبّروا، وكبّرت تغلب وإياد والنّمر؛ وقد أخذوا بالأبواب، فحسب القوم أنّ المسلمين قد أتوهم من خلفهم، فدخلوا عليهم مما يلي دجلة، فبادروا الأبواب التي عليها المسلمون، فأخذتهم السيوف؛ سيوف المسلمين مستقبلتهم، وسيرف الربعيّين الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم؛ فلم يفلت من أهل الخندق إلّا من أسلم من تغلب وإياد والنّمر. وقد كان عمر عهد إلى سعد؛ إن هم هزموا أن يأمر عبد الله بن المعتمّ ابن الأفكل العنزي إلى الحصنين؛ فسّرح عبد الله بن المعتمّ ابن الأفكل العنزي إلى الحصنين، فأخذ بالطريق، وقال: اسبق الخبر، وسر ما دون القيل، وأحى الليل. وسرّح معه تغلب وإياد والنّمر، فقدمهم وعليهم عتبة بن الوعل؛ أحد بنى جشم بن سعد وذو القرط وأبو وداعة بن أبي كرب وابن ذي السنينة قتيل الكلاب وبان الحجير الإيادي وبشر بن أبي حوط متساندين، فسبقوا الخبر إلى الحصنين. ولما كانوا منها قريبا قدّموا عتبة ابن الوعل فادّعى بالظفر والنّفل والقفل، ثم ذو القرط، ثم ابن ذي السنينة، ثم ابن الحجير، ثمّ بشر؛ ووقفوا بالأبواب، وقد أخذوا بها، وأقبلت سرعان الخيل مع ربعىّ بن الأفكل حتى اقتحمت عليهم الحصنين، فكانت إيّاها، فنادوا بالإجابة إلى الصلح، فأقام من استجاب، وهرب من لم يستجب، إلى أن أتاهم عبد الله بن المعتمّ، فلما نزل عليهم عبد الله دعا من لجّ وذهب، ووفّى لمن أقام، فتراجع الهرّاب واغتبط المقيم، وصارت لهم جميعا الذمة والمنعة، واقتسموا في تكريت على كلّ سهم ألف درهم، للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيّان، وبالفتح مع الحارث بن حسان وولى حرب الموصل ربعىّ بن الأفكل، والخراج عرفجة ابن هرثمة. ذكر فتح ماسبذان وفي هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - كان فتح ماسبذان أيضا. ذكر الخبر عن فتحها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والملهب وعمرو وسعيد قالوا: ولما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى المدائن، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان قد جمع جمعا، فخرج بهم إلى السهل، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: ابعث إليهم ضرار بن الخطاب في جند واجعل على مقدّمته ابن الهذيل الأسدىّ، وعلى مجنّبتيه عبد الله بن وهب الراسبي حليف بجيلة، والمضارب بن فلان العجلىّ؛ فخرج ضرار بن الخطاب، وهو أحد بنى محارب بن فهر في الجند، وقدّم ابن الهذيل حتى انتهى إلى سهل ماسبذان، فالتقوا بمكان يدعى بهندف، فاقتتلوا بها، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين سلما، فأسره فانهزم عنه جيشه فقدّمه فضرب عنقه. ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان فأخذ ماسبذان عنوة فتطاير أهلها في الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد من المدائن فأرسل إليه، فنزل الكوفة استخلف ابن الهذيل على ماسبذان فكانت إحدى فروج الكوفة. ذكر وقعة قرقيسياء وفيها كانت وقعة قرقيسياء في رجب. ذكر الخبر عن الوقعة بها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة ومحمد والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: ولما رجع هاشم بن عتبة عن جلولاء إلى المدائن وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة، فأمدّوا هرقل على أهل حمص، وبعثوا جندا إلى أهل هيت، وكتب بذلك سعد إلى عمر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليهم عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند، وابعث على مقدّمته الحارث بن يزيد العامري، وعلى مجنّبتيه ربعىّ بن عامر ومالك ابن حبيب، فخرج عمر بن مالك في جنده سائرا نحو هيت، وقدّم الحارث ابن يزيد حتى نزل على من بهيت، وقد خندقوا عليهم. فلما رأى عمر ابن مالك امتناع القوم بخندقهم واعتصامهم به، استطال ذلك، فترك الأخبية على حالها وخلّف عليهم الحارث بن يزيد محاصرهم، وخرج في نصف الناس يعارض الطريق حتى يجئ قرقيسياء في عرّة، فأخذها عنوة، فأجابوا إلى الجزاء، وكتب إلى الحارث بن يزيد إن هم استجابوا فخلّ عنهم فليخرجوا، وإلّا فخندق على خندقهم خندقا أبوابه ممّا يليك حتى أرى من رأي. فسمحوا بالاستجابة، وانضمّ الجند إلى عمر والأعاجم إلى أهل بلادهم. أخبار متفرقة وقال الواقدي: وفي هذه السنة غرّب عمر أبا محجن الثقفي إلى باضع. قال: وفيها تزوّج ابن عمر صفيّة بنت أبي عبيدة. قال: وفيها ماتت مارية أمّ ولد رسول الله ﷺ، أمّ إبراهيم، وصلّى عليها عمر، وقبرها بالبقيع، في المحرّم. قال: وفيها كتب التأريخ في شهر ربيع الأول. قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، عن ابن المسيّب، قال: أوّل من كتب التأريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لستّ عشرة من الهجرة بمشورة علي بن أبي طالب. حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم ابن حمّاد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم من أي يوم نكتب؟ فقال علىّ: من يوم هاجر رسول الله ﷺ، وترك أرض الشرك. ففعله عمر. وحدثني عبد الرحمن، قال: حدثني يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله ﷺ المدينة. وفيها ولد عبد الله بن الزبير. وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب، واستخلف على المدينة فيما زعم الواقدي - زيد بن ثابت. وكان عامل عمر في هذه السنة على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى ابن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشأم كلها أبو عبيدة بن الجرّاح، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها المغيرة بن شعبة، وعلى حرب الموصل ربعىّ بن الأفكل، وعلى الخراج بها عرفجة بن هرثمة في قول بعضهم، وفي قول آخرين عتبة بن فرقد على الحرب والخراج - وقبل ذلك كلّه كان إلى عبد الله بن المعتمّ - وعلى الجزيرة عياض بن عمرو الأشعري. ثم دخلت سنة سبع عشرة ففيها اختطّت الكوفة، وتحولّ سعد بالناس من المدائن إليها في قول سيف بن عمر وروايته. ذكر سبب تحول من تحول من المسلمين من المدائن إلى الكوفة وسبب اختطاطهم الكوفة في رواية سيف كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما جاء فتح جلولاء وحلوان ونزول القعقاع بن عمرو بحلوان فيمن معه، وجاء فتح تكريت والحصنين، ونزول عبد الله بن المعتمّ وابن الأفكل الحصنين فيمن معه؛ وقدمت الوفود بذلك على عمر، فلمّا رآهم عمر قال: والله ما هيئتكم بالهيئة التي أبدأتم بها؛ ولقد قدمت وفودالقادسيّة والمدائن وإنهم لكما أبدءوا، ولقد انتكيّم فما غيّركم؟ قالوا: وخومة البلاد. فنظر في حوائجهم، وعجل سراحهم؛ وكان في وفود عبد الله بن المعتمّ عتبة بن الوعل، وذو القرط، وابن ذي السنينة، وابن الحجير وبشر، فعاقدوا عمر على بنى تغلب، فعقد لهم؛ على أنّ من أسلم منهم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبى فعليه الجزاء؛ وإنما الإجبار من العرب على من كان في جزيرة العرب. فقالوا: إذا يهربون وينقطعون فيصيرون عجما؛ فأمر أجمل الصدقة؛ فقال: ليس إلّا الجزاء، فقالوا: تجعل جزيتهم مثل صدقة المسلم، فهو مجهودهم، ففعل على ألّا ينصّروا وليدا ممن أسلم آباؤهم، فقالوا: لك ذلك، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمريّين والأدياديّين إلى سعد بالمدائن وخطّوا معه بعد بالكوفة، وأقام من أقام في بلاده على ما أخذوا لهم على عمر مسلمهم وذميّهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: كتب حذيفة إلى عمر: إنّ العرب قد أترفت بطونها، وخفّت أعضادها، وتغيّرت ألوانها. وحذيفة يومئذ مع سعد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأصحابهما، قالوا: كتب عمر إلى سعد: أنبئني ما الذي غيّر ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه: إنّ العرب خدّدهم وكفى ألوانهم وخومة المدائن ودجلة؛ فكتب إليه: إن العرب لا يوافقها إلّا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان رائدا وحذيفة - وكانا رائدي الجيش - فليرتادا منزلا برّيّا بحريّا، ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر، ولم يكن بقى من أمر الجيش شئ إلا وقد أسنده إلى رجل، فبعث سعد حذيفة وسلمان، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار، فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئا، حتى أتى الكوفة. وخرج حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئا حتى أتى الكوفة، والكوفة على حصباء - وكلّ رملة حمراء يقال لها سلهة، وكلّ حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة - فأتيا عليها، وفيها ديرات ثلاثة: دير حرقة، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصليّا، وقال كلّ واحد منهما: اللهمّ ربّ السماء وما أظلّت، وربّ الأرض وما أقلت، والريح وما ذرت، والنجوم وما هوت، والبحار وما جرت، والشياطين وما أضلّت، والخصائص وما أجنّت؛ بارك لنا في هذه الكوفة، واجعله منزل ثبات. وكتب إلى سعد بالخبر. حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان، قال: حدثنا أميّة بن خالد، قال: حدثنا أو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: لما هم الناس يوم جلولاء، رجع سعد بالناس، فلمّا قدم عمار خرج بالناس إلى المدائن فاجتووها؛ قال عمّار: هل تصلح بها الإبل؟ قالوا: لا؛ إنّ بها البعوض، قال: قال عمر: إنّ العرب لا تصلح بأرض لا تصلح بها الإبل. قال: فخرج عمار بالناس حتى نزل الكوفة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس، عن أبيه، عن النسير بن ثور، قال: ولما اجتوى المسلمون المدائن بعد ما نزلناها وآذاهم الغبار والذّباب، وكتب إلى سعد في بعثه روّادا يرتادون منزلا بريّا بحريّا، فإن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح البعير والشاة؛ سأل من قبله عن هذه الصفة فيما بينهم، فأشار عليه من رأى العراق من وجوه العرب باللّسان - وظهر الكوفة يقال له اللسان، وهو فيما بين النهرين إلى العين، عين بنى الحذاء، كانت العرب تقول: أدلع البرّ لسانه في الريف، فما كان يلي الفرات منه فهو الملطاط، وما كان يلي الطين منه فهو النجاف - فكتب إلى سعد يأمره به: كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: ولما قدم سلمان وحذيفة على سعد، وأخبراه عن الكوفة، وقدم كتاب عمر بالذي ذكرا له، كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو: أن خلّف على الناس بجلولاء قباذ فيمن تبعكم إلى من كان معه من الحمراء. ففعل وجاء حتى قدم على سعد في جنده، وكتب سعد إلى عبد الله بن المعتمّ: أن خلّف على الموصل مسلم بن عبد الله الذي كان أسر أيام القادسيّة فيمن استجاب لكم من الأساورة، ومن كان معكم منهم. ففعل، وجاء حتى قدم على سعد في جنده، فارتحل سعد بالناس من المدائن حتى عسكر بالكوفة في المحرّم سنة سبع عشرة. وكان بين وقعة المدائن ونزول الكوفة سنة وشهران، وكان بين قيام عمر واختطاط الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر؛ اختطّت سنة أربع من إمارة عمر في المحرّم سنة سبع عشرة من التأريخ، وأعطوا العطايا بالمدائن في المحرّم من هذه السنة قبل أن يرتحلوا. وفي بهرسير، في المحرّم سنة ستّ عشرة، واستقرّ بأهل البصرة منزلهم اليوم بعد ثلاث نزلات قبلها، كلها ارتحلوا عنها في المحرّم سنة سبع عشرة، واستقرّ باقي قرارهما اليوم في شهر واحد. وقال الواقدي: سمعت القاسم بن معن يقول: نزل الناس الكوفة في آخر سنة سبع عشرة. قال: وحدثني ابن أبي الرقاد، عن أبيه، قال: نزلوها حين دخلت سنة ثماني عشرة، في أوّل السنة. رجع الحديث إلى حديث سيف. قالوا: وكتب عمر إلى سعد بن مالك وإلى عتبة بن غزوان أن يتربّعا بالناس في كلّ حين ربيع في أطيب أرضهم، وأمر لهم بمعاونهم في الربيع من كلّ سنة، وبإعطائهم في المحرّم من كلّ سنة، وبفيئهم عند طلوع الشعرى في كلّ سنة؛ وذلك عند إدراك الغلّات، وأخذوا قبل نزول الكوفة عطاءين. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن قيس، عن رجل من بني أسد يدعى المغرور، قال: لما نزل سعد الكوفة، كتب إلى عمر: إنىّ قد نزلت بكوفة منزلا بين الحيرة والفرات برّيا بحريا، ينبت الحلّى والنّصىّ، وخيّرت المسلمين بالمدائن، فمن أعجبه المقام فيها تركته فيها كالمسلحة. فبقى أقوام من الأفناء، وأكثرهم بنو عبس. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد والمهلب، قالوا: ولما نزل أهل الكوفة الكوفة، واستقرّت بأهل البصرة الدار، عرف القوم أنفسهم، وثاب إليهم ما كانوا فقدوا. ثمّ إنّ أهل الكوفة استأذنوا في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة، فقال عمر: العسكر أجدّ لحربكم وأذكى لكم، وما أحبّ أن أخالفكم، وما القصب؟ قالوا: العكرش إذا روى قصّب فصار قصبا، قال: فشأنكم؛ فابتنى أهل المصرين بالقصب. ثم إنّ الحريق وقع بالكوفة وبالبصرة، وكان أشدّهما حريقا الكوفة، فاحترق ثمانون عريشا، ولم يبق فيها قصبة في شوّال، فما زال الناس يذكرون ذلك. فبعث سعد منهم نفرا إلى عمر يستأذنون في البناء باللبن، فقدموا عليه بالخبر عن الحريق، وما بلغ منهم - وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلّا وآمروه فيه - فقال: افعلوا؛ ولا يزيدنّ أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنّة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك. وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك؛ وعلى تنزيل أهل الكوفة أو الهيّاج بن مالك، وعلى تنزيل أهل البصرة عاصم ابن الدلف أبو الجرباء. قال: وعهد عمر إلى الوقد وتقدّم إلى الناس إلّا يفعوا بنيانا فوق القدر. قالوا: وما القدر؟ قال: ما لا يقرّبكم من السرف، ولا يخرجكم من القصد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما أجمعوا على أن يضعوا بنيان الكوفة، أرسل سعد إلى أبي الهيّاج فأخبره بكتاب عمر في الطرق، أنه أمر بالمناهج أربعين ذراعا، وما يليها ثلاثين ذراعا، وما بين ذلك عشرين، وبالأزّفة سبع أذرع، ليس دون ذلك شئ، وفي القطائع ستين ذراعا إلّا الذي لبنى ضبّة. فاجتمع أهل الرأى للتقدير؛ حتى إذا أقاموا على شئ قسّم أبو الهيّاج عليه؛ فأوّل شئ خطّ بالكوفة وبنى حين عزموا على البناء المسجد، فوضع في موضع أصحاب الصابون والتّمارين من السوق، فاختطوه، ثم قام رجل في وسطه، رام شديد النزع، فرمى عن يمينه فأمر من شاء أن يبنى وراء موقع السهمين. فترك المسجد في مرّبعة غلوة من كلّ جوانبه، وبنى ظلّة في مقدمه، ليست لها مجنّبات ولا مواخير، والمربعة لاجتماع الناس لئلا يزدحموا - وكذلك كامن المساجد ما خلا المسجد الحرام، فكانوا لا يشبّهون به المساجد تعظيما لحرمته، وكانت ظلّته مائتى ذراع على أساطين رخام كانت للأكاسرة، سماؤها كأسمية الكنائس الرومية، وأعلموا على الصحن بخندق لئلا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد دارا بحياله بينهما طريق منقب مائتى ذراع، وجعل فيها بيوت الأموال، وهي قصر الكوفة اليوم، بنى ذلك له بوزبه من آجرّ بنيان الأكاسرة بالحيرة، ونهج في الودعة من الصحن خمسة مناهج، وفي قبلته أربعة مناهج، وفي شرقيّه ثلاثة مناهج، وفي غربيّه ثلاثة مناهج، وعلّمها، فأنزل في ودعة الصحن سليما وثقيفا مما يلي الصحن على طريقين، وهمدان على طريق، وبجيلة على طريق آخر، وتيم اللات على آخرهم وتغلب، وأنزل في قبلة الصحن بنى أسد على طريق، وبين بنى أسد والنّخع طريق، وبي النخع وكندة طريق، وبين كندة والأزد طريق، وأنزل في شرقىّ الصحن الأنصار، ومزينة على طريق، وتميما ومحاربا على طريق، وأسدا وعامرا على طريق، وأنزل في غربىّ الصحن بجالة وبجلة على طريق، وجديلة وأخلاطا على طريق، وجهينة وأخلاطا على طريق، فكان هؤلاء الذين يلون الصحن وسائر الناس بين ذلك ومن وراء ذلك. واقتسمت على السهمان؛ فهذه مناهجها العظمى. وبنوا مناهج دونها تحاذى هذه ثم تلاقيها، وأخر تتبعها، وهي دونها في الذرع، والمحالّ من ورائها؛ وفيما بينها، وجعل هذه الطرقات من وراء الصحن، ونزل فيها الأعشار من أهل الأيّام والقوادس، وحمى لأهل الثغور والموصل أماكن حتى يوافوا إليها؛ فلما ردفتهم الروادف؛ البدء والثّناء، وكثروا عليهم، ضيّق الناس المحالّ فمن كانت رادفته كثيرة شخص إليهم وترك محلّته، ومن كانت رادفته قليلة أنزلوهم منازل من شخص إلى رافته لقلته إذا كانوا جيرانهم؛ وإلّا وسعوا على روادفهم وضيّقوا على أنفسهم؛ فكان الصحن على حاله زمان عمر كله، لا تطمع في القبائل؛ ليس فيه إلا المسجد والقصر، والأسواق في غير بنيان ولا أعلام. وقال عمر: الأسواق على سنّة المساجد، من سبق إلى مقعد فهو له؛ حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه؛ وقد كانوا أعدّوا مناخا لكل رادف؛ فكان كلّ من يجئ سواء فيه - وذلك المناخ اليوم دور بنى البكّاء - حتى يأتوا بالهيّاج، فيقوم في أمرهم حتى يقطع لهم حيث أحبّوا. وقد بنى سعدفي الذين خطّوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم، فشيّده، وجعل فيه بيت المال، وسكن ناحيته. ثم إنّ بيت المال نقب عليه نقبا، وأخذ من المال، وكتب سعد بذلك إلى عمر، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن مما يلي ودعة الدار. فكتب إليه عمر: أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جنب الدار، واجعل الدار قبلته؛ فإنّ للمسجد أهلا بالنهار وبالليل؛ وفيهم حصن لما لهم، فنقل المسجد وأراغ بنيانه، فقال له دهقان من أهل همذان؛ يقال له روزيبه بن بزرجمهر: أنا أبنيه لك، وأبنى لك قصرا فأصلهما، ويكون بنيانا واحدا. فخطّ قصر الكوفة على ما خطّ عليه، ثم أنشأه من نقض آجرّ قصر كان للأكاسرة في ضواحى الحيرة على مساحته اليوم، ولم يسمح به، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال منه إلى منتهى القصر، يمنة على القبلة، ثم مدّ به عن يمين ذلك إلى منقطع رحبة علي بن أبي طالب عليه السلام، والرحبة قبلته، ثم مدّ به فكانت قبلة المسجد إلى الرحبة وميمنة القصر، وكان بنيانه على أساطين من رخام كانت لكسرى بكنائس بغير مجنّبات؛ فلم يزل على ذلك حتى بنى أزمان معاوية بن أبي سفيان بنيانه اليوم؛ على يدى زياد. ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنّائين من بنّائي الجاهليّة، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهى من طوله في السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته؛ فقال له بنّاء قد كان بنّاء لكسرى: لا يجئ هذا إلا بأساطين من جبال أهواز، تنقر ثم تثقب، ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء، ثم تسقّفه، وتجعل له مجنّبات ومواخير؛ فيكون أثبت له. فقال: هذه الصفة التي كانت نفسي تنازعني إليها ولم تعبرها. وغلّق باب القصر، وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث؛ فلمّا بنى ادّعى الناس عليه ما لم يقل، وقالوا: قال سعد: سكّن عنى الصويت. وبلغ عمر ذلك، وأنّ الناس سيمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة، فسّرحه إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك؛ فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطبا، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، وأتى سعد فأخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا من الشأن، وبعث لينظر من هو؟ فإذا هو محمد بن مسلمة، فأرسل إليه رسولا بأن ادخل، فأبى فخرج إليه سعد، فأراده على الدخول النزول، فأبى، وعرض عليه نفقة فلم يأخذ، ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرا اتخذته حصنا، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا؛ فليس بقصرك؛ ولكنه قصر الخبال؛ انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت؛ فحلف له سعد ما قال الذي قالوا. ورجع محمد بن مسلمة من فوره؛ حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده، فتبلّغ بلحاء نمت لحاء الشجر، فقدم على عمر، وقد سنق فأخبره خبره كله، فقال: فهلا قبلت من سعد! فقال: لو أردت ذلك كتبت لي به، أو أذنت لي فيه، فقال عمر: إنّ أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم، أو قال به، ولم ينكل؛ وأخبره بيمين سعد وقوله، فصدّق سعدا وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني. وية بن أبي سفيان بنيانه اليوم؛ على يدى زياد. ولما أراد زياد بنيانه دعا ببنّائين من بنّائي الجاهليّة، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يشتهى من طوله في السماء، وقال: أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته؛ فقال له بنّاء قد كان بنّاء لكسرى: لا يجئ هذا إلا بأساطين من جبال أهواز، تنقر ثم تثقب، ثم تحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد، فترفعه ثلاثين ذراعا في السماء، ثم تسقّفه، وتجعل له مجنّبات ومواخير؛ فيكون أثبت له. فقال: هذه الصفة التي كانت نفسي تنازعني إليها ولم تعبرها. وغلّق باب القصر، وكانت الأسواق تكون في موضعه بين يديه، فكانت غوغاؤهم تمنع سعدا الحديث؛ فلمّا بنى ادّعى الناس عليه ما لم يقل، وقالوا: قال سعد: سكّن عنى الصويت. وبلغ عمر ذلك، وأنّ الناس سيمّونه قصر سعد، فدعا محمد بن مسلمة، فسّرحه إلى الكوفة، وقال: اعمد إلى القصر حتى تحرق بابه، ثم ارجع عودك على بدئك؛ فخرج حتى قدم الكوفة، فاشترى حطبا، ثم أتى به القصر، فأحرق الباب، وأتى سعد فأخبر الخبر، فقال: هذا رسول أرسل لهذا من الشأن، وبعث لينظر من هو؟ فإذا هو محمد بن مسلمة، فأرسل إليه رسولا بأن ادخل، فأبى فخرج إليه سعد، فأراده على الدخول النزول، فأبى، وعرض عليه نفقة فلم يأخذ، ودفع كتاب عمر إلى سعد: بلغني أنك بنيت قصرا اتّخذته حصنا، ويسمى قصر سعد، وجعلت بينك وبين الناس بابا؛ فليس بقصرك؛ ولكنه قصر الخبال؛ انزل منه منزلا مما يلي بيوت الأموال وأغلقه، ولا تجعل على القصر بابا يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم، ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت؛ فحلف له سعد ما قال الذي قالوا. ورجع محمد بن مسلمة من فوره؛ حتى إذا دنا من المدينة فنى زاده، فتبلّغ بلحاء نمت لحاء الشجر، فقدم على عمر، وقد سنق فأخبره خبره كله، فقال: فهلا قبلت من سعد! فقال: لو أردت ذلك كتبت لي به، أو أذنت لي فيه، فقال عمر: إنّ أكمل الرجال رأيا من إذا لم يكن عنده عهد من صاحبه عمل بالحزم، أو قال به، ولم ينكل؛ وأخبره بيمين سعد وقوله، فصدّق سعدا وقال: هو أصدق ممن روى عليه ومن أبلغني. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطاء أبي محمد، مولى إسحاق بن طلحة، قال: كنت أجلس في المسجد الأعظم قبل أن يبنيه زياد؛ وليست له مجنّبات ولا مواخير، فأرى منه دير هند وباب الجسر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: كان الرجل يجلس في المسجد فيرى منه باب الجسر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر بن عيّاش، أخى أبي بكر بن عيّاش، عن أبي كثير، أن روزبه بن بزرجمهر بن ساسان كان همذانيّا، وكان على فرج من فروج الروم، فأدخل عليهم سلاحا، فأخافه الأكاسرة، فلحق بالرّوم، فلم يأمن حتى قدم سعد بن مالك، فبنى له القصر والمسجد. ثم كتب معه إلى عمر، وأخبره بحاله، فأسلم، وفرض له عمر وأعطاه، وصرفه إلى سعد مع أكريائه - والأكرياء يومئذ هو العباد - حتى إذا كان بالمكان الذي يقال له قبر العبادىّ مات، فحفروا له ثم انتظروا به من يمرّ بهم ممن يشهدونه موته، فمرّ قوم من الأعراب، وقد حفروا له على الطريق، فأروهموه ليبرءوا من دمه، وأشهدوهم ذلك، فقالوا: قبر العبادىّ - وقيل قبر العبادىّ لمكان الأكرياء - قال أبو كثير: فهو والله أبى، قال: فقلت: أفلا تخبر الناس بحاله! قال: لا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد وزياد، قالوا: ورجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا، فكتب سعد إلى عمر في تعديلهم، فكتب إليه: أن عدّ لهم، فأرسل إلى قوم من نسّاب العرب وذوى رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران ومشعلة ابن نعم، فعدّلوهم عن الأسباع، فجعلوهم أسباعا، فصارت كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم، وجديلة - وهم بنو عمرو بن قيس عيلان - سبعا، وصارت قضاعة - ومنهم يومئذ غسان بن شبام - وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت، والأزد سبعا، وصارت مذحج وحمير وهمدان وحلفاؤهم سبعا، وصارت تميم وسائر الرباب وهوزان سبعا، وصارت أسد وغطفان ومحارب والنّمر وضبيعة وتغلب سبعا، وصارت إياد وعكّ وعبد القيس وأهل هجر والحمراء سبعا، فلم يزالوا بذلك زمان عمر وعثمان وعلىّ، وعامّة إمارة معاوية، حتى ربّعهم زياد. إعادة تعريف الناس وعرّفوهم على مائة ألفة درهم، فكانت كل عرافة من القادسيّة خاصّة ثلاثة وأربعين رجلا وثلاثا وأربعين امرأة وخمسين من العيال؛ لهم مائة ألف درهم، وكلّ عرافة من أهل الأيّام عشرين رجلا على ثلاثة آلاف وعشرين امرأة، وكلّ عيّل على مائة، على مائة ألف درهم، وكلّ عرافة من الرادفة الأولى ستّين رجلا وستين امرأة وأربعين من العيال ممن كان رجالهم ألحقوا على ألف وخمسمائة على مائة ألف درهم، ثم على هذا من الحساب. وقال عطيّة بن الحارث: قد أدركت مائة عريف، وعلى مثل ذلك كان أهل البصرة، كان العطاء يدفع إلى أمراء الأسباع وأصحاب الرايات، والرّايات على أيادى العرب، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه إلى أهله في دورهم. فتوح المدائن قبل الكوفة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو وسعيد، قالوا: فتوح المدائن السواد وحلوان وماسبذان وقرقيسياء؛ فكانت الثغور ثغور الكوفة أربعة: حلوان عليها القعقاع بن عمرو، وماسبذان عليها ضرار بن الخطاب الفهرىّ، وقرقيسياء عليها عمر بن مالك أو عمرو بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف، والموصل عليها عبد الله بن المعتمّ، فكانوا بذلك، والناس مقيمون بالمدائن بعد ما تحوّل سعد إلى تمصير الكوفة، وانضمام هؤلاء النفر إلى الكوفة واستخلافهم على الثغور من يمسك بها ويقوم عليها؛ فكان خليفة القعقاع على حلوان قباذ بن عبد الله، وخليفة عبد الله على الموصل مسلم بن عبد الله، وخليفة ضرار رافع بن عبد الله، وخليفة عمر عشنّق بن عبد الله، وكتب إليهم عمر أن يستعينوا بمن احتاجوا إليه من الأساورة، ويرفعوا عنهم الجزاء، ففعلوا. فلما اختّطت الكوفة وأذن للناس بالبناء، نقل الناس أبوابهم من المدائن إلى الكوفة فعلّقوها على ما بنوا وأوطنوا الكوفة. وهذه ثغورهم، وليس في أيديهم من الريف إلا ذلك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد عن عامر، قال: كانت الكوفة وسوادها والفروج: حلوان، والموصل، وماسبذان وقرقيسياء. ثم وافقهم في الحديث عمرو بن الريان، عن موسى بن عيسى الهمدانىّ بمثل حديثهم، ونهاهم عمّا وراء ذلك، ولم يأذن لهم في الانسياح. وقالوا جميعا: ولى سعد بن مالك على الكوفة بعد ما اختّطت ثلاث سنين ونصفا سوى ما كان بالمدائن قبلها، وعمالته ما بين الكوفة وحلوان والموصل وماسبذان وقرقيسياء إلى البصرة، ومات عتبة بن غزوان وهو على البصرة فظع بعمله، وسعد على الكوفة فولّى عمر أبا سبرة مكان عتبة بن غزوان، ثم عزل أبا سبرة عن البصرة، واستعمل المغيرة، ثم عزل المغيرة، واستعمل أبا موسى الأشعرىّ. ذكر خبر حمص حين قصد من فيها من المسلمين صاحب الروم وفي هذه السنة قصدت الروم أبا عبيدة بن الجرّاح ومن معه من جند المسلمين بحمص لحربهم؛ فكان من أمرهم وأمر المسلمين ما ذكر أبو عبيدة؛ وهو فيما كتب به إلىّ السري عن شعيب، عن سيف عن محمد وطلحة وعمرو وسعيد - قالوا: أوّل ما أذن عمر للجند بالانسياج؛ أن الروم خرجوا، وقد تكاتبوا هم وأهل الجزيرة يريدون أبا عبيدة والمسلمين بحمص، فضّم أبو عبيدة إليه مسالحه، وعسكروا بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضّم إليهم فيمن انضم من أمراء المسالح، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصّن إلى مجئ الغياث، فكان خالد يأمره أن يناجزهم، وكان سائرهم يأمرونه بأن يتحصّن ويكتب إلى عمر، فأطاعهم وعصى خالدا، وكتب إلى عمر يخبره بخروجهم عليه، وشغلهم أجناد أهل الشأم عنه، وقد كان عمر اتّخذ في كلّ مصر عل قدره خيولا من فضول أموال المسلمين عدّة لكون إن كان، فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس. فلمّا وقع الخبر لعمر كتب إلى سعد ابن مالك: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرّحهم من يومهم الذي يأتيك في كتابي إلى حمص؛ فإنّ أبا عبيدة قد أحيط به، وتقدّم إليهم في الجدّ والحثّ. وكتب أيضا إليه أن سرّح سهيل بن عدي إلى الجزيرة في الجند وليأت الرقة فإنّ أهل الجزيرة. هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص؛ وإن أهل قرقيسياء لهم سلف. وسرّح عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، فإن أهل قرقيسياء لهم سلف، ثم لينفضا حرّان والرّهاء. وسرّح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ وسرّح عياضا؛ فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض بن غنم - وكان عياض من أهل العراق الذين خرجوا مع خالد بن الوليد ممدّين لأهل الشأم، وممّن انصرف أيام انصرف أهل العراق ممدّين لأهل القادسيّة، وكان يرافد أبا عبيدة - فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص؛ وخرج عياض بن غنم وأمراء الجزيرة فأخذوا طريقة الجزيرة على الفراض وغير الفراض؛ وتوجّه كلّ أمير إلى الكورة التي أمّر عليها. فأتى الرقة، وخرج عمر من المدينة مغيثا لأبى عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية. ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص واستثاروهم وهم معهم مقيمون عن حديث من بالجزيرة منهم بأنّ الجنود قد ضربت من الكوفة، ولم يدروا: ألجزيرة يريدون أم حمص! فتفرّقوا إلى بلدانهم وإخوانهم، وخلّوا الروم. ورأى أبو عبيدة أمرا لما انفضّوا غير الأوّل، فاستشار خالدا في الخروج، فأمره بالخروج، ففتح الله عليهم. وقدم القعقاع بن عمرو في أهل الكوفة في ثلاث من يوم الوقعة، وقدم عمر فنزل الجابية، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم في ثلاث، وبالحكم في ذلك. فكتب إليهم أن أشركوهم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيرا! يكفون حوزتهم ويمدّون أهل الأمصار. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء بن سياه، عن الشعبىّ، قال: استمدّ أبو عبيدة عمر، وخرجت عليه الروم، وتابعهم النصارى فحصروه، فخرج وكتب إلى أهل الكوفة، فنفر إليهم في غداة أربعة آلاف على البغال يجنبون الخيل، فقدموا على أبى عبيدة في ثلاث بعد الوقعة، فكتب فيهم إلى عمر، وقد انتهى إلى الجابية، فكتب إليه: أن أشركهم، فإنهم قد نفروا إليكم، وتفرّق لهم عدوّكم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن طلحة، عن ماهان، قال: كان لعمر أربعة آلاف فرس عدّة لكون إن كان، يشتّيها في قبلة قصر الكوفة وميسرته؛ ومن أجل ذلك يسمّى ذلك المكان الآرىّ إلى اليوم، ويربّعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة مما يلي العاقول، فسمّته الأعاجم آخر الشاهجان، يعنون معلف الأمراء، وكان قيّمه عليها سلمان ابن ربيعة الباهلىّ في نفر من أهل الكوفة، يصنّع سوابقها، ويجريها في كلّ عام، وبالبصرة نحو منها، وقيّمه عليها جزء بن معاوية، وفي كلّ مصر من الأمصار الثمانية على قدرها، فإن نابتهم نائبة ركب قوم وتقدّموا إلى أن يستعدّ الناس. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حلّام، عن شهر ابن مالك بنحو منه. فلما فرغوا رجعوا. ذكر فتح الجزيرة وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - افتتحت الجزيرة في رواية سيف. وأما ابن إسحاق، فإنه ذكر أنها افتتحت في سنة تسع عشرة من الهجرة، وذكر من سبب فتحها ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه؛ أن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إنّ الله قد فتح على المسلمين الشام والعراق، فابعث من عندك جندا إلى الجزيرة، وأمّر عليهم أحد الثلاثة: خالد بن عرفطة، أو هاشم بن عتبة، أو عياض بن غنم. فلما انتهى إلى سعد كتاب عمر، قال: ما أخّر أمير المؤمنين عياض بن غنم آخر القوم إلا أنه له فيه هوى أن أولّيه؛ وأنا موليه. فبعثه وبعث معه جيشا، وبعث أبا موسى الأشعرى، وابنه عمر بن سعد - وهو غلام حدث السنّ ليس إليه من الأمر شئ - وعثمان بن أبى العاص بن بشر الثقفي، وذلك في سنة تسع عشرة. فخرج عياض إلى الجزيرة، فنزل بجنده على الرهاء فصالحه أهلها على الجزية، وصالحت حرّان حين صالحت الرهاء، فصالحه أهلها على الجزية. ثمّ بعث أبا موسى الأشعرىّ إلى نصيبين، ووجّه عمر بن سعد إلى رأس العين في خيل ردءا للمسلمين، وسار بنفسه في بقيّة الناس إلى دارا، فنزل عليها حتى افتتحها، فافتتح أبو موسى نصيبين، وذلك في سنة تسع عشرة. ثمّ وجه عثمان بن أبى العاص إلى أرمينية الرابعة فكان عندها شئ من قتال؛ أصيب فيه صفوان بن المعطّل السلمى شهيدا. ثمّ صالح أهلها عثمان بن أبى العاص على الجزية، على كلّ أهل بيت دينار. ثم كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل. وأما في رواية سيف؛ فإن الخبر في ذلك، فيما كتب به إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلب وطلحة وعمرو وسعيد؛ قالوا: خرج عياض بن غنم في أثر القعقاع، وخرج القوّاد - يعنى حين كتب عمر إلى سعد بتوجيه القعقاع في أربعة آلاف من جنده مددا لأبى عبيدة حين قصدته الروم وهو بحمص - فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها، فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرقة، وقد ارفضّ أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بمقبل أهل الكوفة، فنزل عليهم، فأقام محاصرهم حتى صالحوه؛ وذلك أنهم قالوا فيما بينهم: أنتم بين أهل العراق وأهل الشأم؛ فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء! فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل واسط من الجزيرة؛ فرأى أن يقبل منهم؛ فبايعوه وقبل منهم؛ وكان الذي عقد لهم سهيل بن عدي عن أمر عياض، لأنه أمير القتال وأجروا ما أخذوا عنوة، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة، وخرج الوليد بن عقبة حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلّا إياد ابن نزار، فإنهم ارتحلوا بقلّيّتهم، فاقتحموا أرض الروم، فكتب بذلك الوليد إلى عمر بن الخطاب. ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضمّ عياض سهيلا وعبد الله إليه فسار بالناس إلى حرّان، فأخذ ما دونها. فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، وأجرى من أجاب بعد غلبه مجرى أهل الذمة. ثم إنّ عياضا سرّح سهيلا وعبد الله إلى الرهاء، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية، وأجرى من دونهم مجراهم؛ فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا، وأيسره فتحا، فكانت تلك السهولة مهجنة عليهم وعلى من أقام فيهم من المسلمين، وقال عياض بن غنم: من مبلغ الأقوام أنّ جموعنا ** حوت الجزيرة يوم ذات زحام جمعوا الجزيرة والغياث فنفّسوا ** عمّن بحمص غيابة القدّام إنّ الأعزّة والأكارم معشر ** فضّوا الجزيرة عن فراخ الهام غلبوا الملوك على الجزيرة فانتهوا ** عن غزو من يأوى بلاد الشام ولما نزل عمر الجابية، وفرغ أهل حمص أمدّ عياض بن غنم بحبيب ابن مسلمة، فقدم على عياض مددًا، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضمّ إليه عياض بن غنم إذ ضمّ خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه، وصرف سهيل بن عدىّ وعبد الله بن عبد الله إلى الكوفة ليصرفهما إلى المشرق، واستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عرب الجزيرة، فأقاما بالجزيرة على أعمالهما. قالوا: ولما قدم الكتاب من الوليد على عمر كتب عمر إلى ملك الروم: إنه بلغني أن حيّا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك؛ فو الله لتخرجنّه أو لننبذنّ إلى النصارى؛ ثم لنخرجنّهم إليك. فأخرجهم ملك الروم، فخرجوا فتمّ منهم على الخروج أربعة آلاف مع أبى عدىّ بن زياد، وخنس بقيّتهم، فتفرّقوا فيما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم؛ فكلّ إيادىّ في أرض العرب من أولئك الأربعة الآلاف؛ وأبى الوليد بن عقبة أن يقبل من بنى تغلب إلّا الإسلام؛ فقالوا له: أمّا من نقّب على قومه في صلح سعد ومن كان قبله فأنتم وذاك، وأمّا من لم ينقب عليه أحد ولم يجر ذلك لمن نقب فما سبيلك عليه! فكتب فيهم إلى عمر، فأجابه عمر: إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلّا الإسلام، فدعهم على ألّا ينصّروا وليدا، وأقبل منهم إذا أسلموا. فقبل منهم على ألّا ينصّروا وليدا، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام، فأعطى بعضهم ذلك فأخذوا به، وأبى بعضهم إلى الجزاء، فرضى منهم بما رضى من العباد وتنوخ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن أبي سيف التغلبي، قال: كان رسول الله ﷺ قد عاهد وفدهم على ألّا ينصّروا وليدا، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفّدهم، ولم يكن على غيرهم، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم: لا تنفّروهم بالخراج فيذهبوا، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم فيكون جزاء؛ فإنهم يغضبون من ذكر الجزاء على ألّا ينصّروا مولودا إذا أسلم آباؤهم. فخرج وفدهم في ذلك إلى عمر؛ فلما بعث الوليد إليه برءوس النصارى وبديّانيهم، قال لهم عمر: أدّوا الجزية، فقالوا لعمر: أبلغنا مأمننا، والله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلنّ أرض الروم، والله لتفضحنا من بين العرب، فقال لهم: أنتم فضحتم أنفسكم، وخالفتم أمّتكم فيمن خالف وافتضح من عرب الضاحية، وتالله لتؤدّنّه وأنتم صغرة قمأة، ولئن هربت إلى الروم لأكتبنّ فيكم، ثمّ لأسبينّكم. قالوا: فخذ منا شيئا ولا تسمّه جزاء، فقال: أمّا نحن فنسمّيه جزاء، وسمّوه أنتم ما شئتم. فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال: بلى، وأصغى إليه، فرضى به منهم جزاء، فرجعوا على ذلك، وكان في بنى تغلب عزّ وامتناع، ولا يزالون ينازعون الوليد، فهمّ بهم الوليد، وقال في ذلك: إذا ما عصبت الرأس منّى بمشوذ ** فغيّك منّى تغلب ابنة وائل وبلغت عنه عمر، فخاف أن يحرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم، فعزله وأمّر عليهم فرات بن حيّان وهند بن عمرو الجملىّ، وخرج الوليد واستودع إبلا له حريث بن النعمان، أحد بنى كنانة بن تيم من بنى تغلب، وكانت مائة من الإبل فاختانها بعد ما خرج الوليد. خروج عمر بن الخطاب إلى الشام وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - خرج عمر من المدينة يريد الشام حتى بلغ سرغ، في قول ابن إسحاق، حدثنا بذلك ابن حميد عن سلمة عنه، وفي قول الواقدي. ذكر الخبر عن خروجه إليها حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: خرج عمر إلى الشأم غازيا في سنة سبع عشرة؛ حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، فأخبروه أنّ الأرض سقيمة، فرجع بالناس إلى المدينة. وقد كان عمر - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، نعبد الله ابن عباس - خرج غازيا، وخرج معه المهاجرون والأنصار. وأوعب الناس معه، حتى إذا نزل بسرغ، لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة ابن الجرّاح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة؛ فأخبروه أنّ الأرض سقيمة، فقال عمر: اجمع إلىّ المهاجرين الأولين، قال: فجمعنهم له، فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه تريد فيه الله وما عنده، ولا نرى أن يصدّك عن بلاء عرض لك. ومنهم القائل: إنه لبلاء وفناء ما نرى أن تقدم عليه؛ فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عنى، ثم قال: اجمع لي مهاجرة الأنصار، فجمعتهم له، فاستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين، فكأنما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عنى، ثم قال: اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش، فجمعتهم له، فاستشارهم فلم يختلف عليه منهم اثنان، وقالوا: ارجع بالناس، فإنه بلاء وفناء. قال: فقال لي عمر: يابن عباس، اصرخ في الناس فقل: إنّ أمير المؤمنين يقول لكم أني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه قال: فأصبح عمر على ظهر، وأصبح الناس عليه، فلما اجتمعوا عليه قال: أيّها الناس؛ إني راجع فارجعوا، فقال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله! قال: نعم فرارا من قدر الله إلى قدر الله؛ أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان: إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس يرعى من رعى الجدبة بقدر الله، ويرعى من رعى الخصبة بقدر الله! ثم قال: لو غيرك يقول هذا يا أبو عبيدة! ثم خلا به بناحية دون الناس؛ فبينا الناس على ذلك إذ أتى عبد الرحمن بن عوف - وكان مخلّفا عن الناس لم يشهدهم بالأمس - فقال: ما شأن الناس؟ فأخبر الخبر، فقال: عندي من هذا علم، فقال عمر: فأنت عندنا الأمين المصدّق، فماذا عندك؟ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فرارا منه "؛ ولا يخرجنّكم إلّا ذلك، فقال عمر: فلله الحمد! انصرفوا أيها الناس، فانصرف بهم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهرىّ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة وسالم بن عبد الله بن عمر؛ أنهما حدثاه أنّ عمر إنما رجع بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف؛ فلما رجع عمّال الأجناد إلى أعمالهم. وأما سيف، فإنه روى في ذلك ما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبى عثمان والربيع، قالوا: وقع الطاعون ومصر والعراق، واستقرّ بالشام، ومات فيه الناس الذين هم في كلّ الأمصار في المحرّم وصفر، وارتفع عن الناس وكتبوا بذلك إلى عمر ما خلا الشام، فخرج حتى إذا كان منها قريبا بلغه أنه أشدّ ما كان، فقال وقال الصحابة: قال رسول الله ﷺ: " إذا كان بأرض وباء فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها "، فرجع حتى ارتفع عنها؛ وكتبوا بذلك إليه وبما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس في جمادى الأولى سنة سبع عشرة، فاستشارهم في البلدان، فقال: إني قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم، فأشيروا علىّ - وكعب الأحبار في القوم، وفي تلك السنة من إمارة عمر أسلم - فقال كعب: بأيّها تريد أن تبدأ يا أمير المؤمنين؟ قال: بالعراق، قال: فلا تفعل؛ فإن الشرّ عشرة أجزاء والخير عشرة أجزاء، فجزء من الخير بالمشرق وتسعة بالمغرب، وإنّ جزءا من الشرّ بالمغرب وتسعة بالمشرق، وبها قرن الشيطان، وكلّ داء عضال. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد، عن الأصبغ، عن علىّ، قال: قام إليه علىّ، فقال: يا أمير المؤمنين، والله إنّ الكوفة للهجرة بعد الهجرة، وإنها لقبّه الإسلام، وليأتينّ عليها يوم لا يبقى مؤمن إلّا أتاها وحنّ إليها؛ والله لينصرنّ بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المطرّح، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: وقال عثمان: يا أمير المؤمنين؛ إنّ المغرب أرض الشرّ، وأن الشرّ قسم مائة جزء؛ فجزء في الناس وسائر الأجزاء بها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي يحيى التميمي، عن أبي ماجد، قال: قال عمر: الكوفة رمح الله، وقبّة الإسلام، وجمجمة العرب، يكفون ثغورهم، ويمدّون الأمصار، فقد ضاعت مواريث أهل عمواس، فأبدأ بها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والربيع بن النعمان، قالوا: قال عمر: ضاعت مواريث الناس بالشأم؛ أبدأ بها فأقسم المواريث، وأقيم لهم ما في نفسي، ثمّ أرجع فأتقلّب في البلاد، وأنبذ إليهم أمري. فأتى عمر الشام أربع مرّات، مرّتين في سنة ست عشرة، ومرّتين في سنة سبع عشرة، لم يدخلها في الأولى من الآخرتين. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بكر بن وائل، عن محمد بن مسلم، قال: قال رسول الله ﷺ: " قسّم الحفظ عشرة أجزاء، فتسعة في الترك وجزء في سائر الناس، وقسّم البخل عشرة أجزاء، فتسعة في فارس، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم السخاء عشرة أجزاء، فتسعة في السودان، وجزء في سائر الناس، وقسّم الشبق عشرة أجزاء، فتسعة في الهند، وجزء في سائر الناس؛ وقسّم الحياء عشرة أجزاء، فتسعة في النساء، وجزء في سائر الناس، قسّم الحسد عشرة أجزاء، فتسعة في العرب وجزء في سائر الناس، وقسم الكبر عشرة أجزاء، فتسعة في الروم وجزء في سائر الناس. خبر طاعون عمواس واختلف في خبر طاعون عمواس وفي أي سنة كان، فقال ابن إسحاق ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه، قال: ثم دخلت سنة ثماني عشرة؛ ففيها كان طاعون عمواس، فتفانى فيها الناس، فتوفي أبو عبيدة ابن الجرح؛ وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وأشراف الناس.. وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كان طاعون عمواس والجابية في سنة ثماني عشرة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن شعبة بن الحجاج، عن المخارق بن عبد الله البجلي، عن طارق بن شهاب البجلي، قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا عليكم أن تخفّوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزّهوا عن هذه القرية، فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء؛ سأخبركم بما يكره مما يتّقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظنّ من أقام فأصابه ذلك لو أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظنّ هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج، وأن يتنزّه عنه؛ إني كنت مع أبى عبيدة بن الجرّاح بالشأم عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع، وبلغ ذلك عمر، كتب إلى أبى عبيدة ليستخرجه منه: أن سلام عليك، أمّا بعد، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألّا تضعه من يدك حتى تقبل إلىّ. قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، قال: يغفر الله لأمير المؤمنين! ثمّ كتب إليه: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إلىّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضى الله في وفيهم أمره وقضاءه؛ فحلّلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي. فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأن قد. قال: ثم كتب إليه: سلام عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضا غمقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة. فلما أتاه كتابه دعاني فقال: يا أبا موسى، إنّ كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج صاحبتى قد أصيبت، فرجعت إليه، فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدث، فقال: لعلّ وضع رجله في غرزه طعن، فقال: والله لقد أصبت. ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، ورفع عن الناس الوباء. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب الأشعري، عن رابة - رجل من قومه، وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، كان شهد طاعون عمواس - قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة في الناس خطيبا، فقال: أيّها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم محمد ﷺ، وموت الصالحين قبلكم، وإنّ أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له من حظّه. فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل. قال: فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ، فمات. ثمّ قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته؛ فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحبّ أنّ لي بما فيك شيئا من الدنيا، فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام خطيبا في الناس، فقال: أيها الناس، إنّ هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبّلوا منه في الجبال. فقال أبو وائلة الهذلي: كذبت؛ والله لقد صحبت رسول الله ﷺ وأنت شرّ من حماري هذا! قال: والله ما أردّ عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه. ثم خرج وخرج الناس فتفرّقوا، ورفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأى عمرو بن العاص، فوالله ما كرهه. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن رجل، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمىّ، أنه كان يقول: بلغني هذا من قول أبى عبيدة وقول معاذ بن جبل: إنّ هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم؛ فكنت أقول: كيف دعا به رسول الله ﷺ لأمّته، حتى حدثني بعض من لا أتّهم عن رسول الله أنّه سمعه منه، وجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن فناء أمتك يكون بالطعن أو الطاعون؛ فجعل رسول الله ﷺ يقول: اللهمّ فناء الطاعون! فعرفت أنها التي كان قال أبو عبيدة ومعاذ. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبى عبيدة ويزيد بن أبى سفيان، أمّر معاوية ابن أبى سفيان على جند دمشق وخراجها، وأمّر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها. وأما سيف، فإنه زعم أن طاعون عمواس كان في سنة سبع عشرة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والربيع بإسنادهم، قالوا: كان ذلك الطاعون يعنون طاعون عمواس موتانا لم ير مثله طمع له العدوّ في المسلمين، وتخوّفت له قلوب المسلمينّ كثر موته، وطال مكثه، مكث أشهرا حتى تكلّم في ذلك الناس. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن أبي سعيد، قال: أصاب البصرة من ذلك موت ذريع، فأمر رجل من بنى تميم غلاما له أعجميّا أن يحمل ابنا له صغيرا ليس له ولد غيره على حمار، ثم يسوق به إلى سفوان، حتى يلحقه. فخرج في آخر الليل ثم اتّبعه، وقد أشرف على سفوان، ودنا من ابنه وغلامه، فرفع الغلام عقيرته يقول: لن يعجزوا الله على حمار ** ولا على ذي غرّة مطار قد يصبح الموت أمام السارى فسكت حتى انتهى إليهم، فإذا هم هم، قال: ويحك، ما قلت! قال: ما أدرى، قال: ارجع، فرجع بابنه، وعلم أنه قد أسمع آية وأريها. قال: وعزم رجل على الخروج إلى أرض بها الطاعون فتردد بعد ما طعن، فإذا غلام له أعجمي يحدو به: يا أيّها المشعر همّا لا تهمّ ** إنّك إن تكتب لك الحمّى تحمّ وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - كان خروج عمر إلى الشأم الخرجة الأخيرة فلم يعد إليها بعد ذلك قي قول سيف؛ وأما ابن إسحاق فقد مضى ذكره. ذكر الخبر عن سيف في ذلك والخبر عما ذكره عن عمر في خرجته تلك أنه أحدث في مصالح المسلمين كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والرّبيع، قالوا: وخرج عمر وخلف عليّا في المدينة، وخرج معه الصحابة وأغذّوا السير واتّخذ أيلة طريقا؛ حتى إذا دنى منها تنحّى عن الطريق، واتّبعه غلامه، فنزل فبال، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فروة مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلمّا تلقّاه أوائل الناس، قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم - يعنى نفسه - وذهبوا هم إلى أمامهم، فجاوزه حتى انتهى هو إلى أيلة فنزلها وقيل للمتلقّين: دخل أمير المؤمنين أيلة ونزلها. فرجعوا إليه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، قال: لما قدم عمر بن الخطاب أيلة، ومعه المهاجرون والأنصار دفع قميصا له كرابيس قد انجاب مؤخّره عن قعدته من طول السير إلى الأسقفّ، وقال: اغسل هذا وارقعه، فانطلق الأسقفّ بالقميص، ورقعه، وخاط له آخر مثله، فراح به إلى عمر، فقال: ما هذا؟ قال الأسقفّ: أمّا هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذا فكسوة لك منّي. فنظر إليه عمر ومسحه، ثم لبس قميصه، وردّ عليه ذلك القميص، وقال: هذا أنشفهما العرق. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة وهلال، عن رافع بن عمر، قال: سمعت العباس بالجابية يقول لعمر: أربع من عمل بهنّ استوجب العدل: الأمانة في المال، والتسوية في القسم، والوفاء بالعدة، والخروج من العيوب؛ نظّف نفسك وأهلك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان والربيع وأبي حارثة بإسنادهم، قالوا: قسم عمر الأرزاق، وسمّى الشواتي والصوائف، وسدّ فروج الشأم ومسالحها، وأخذ يدور بها، وسمّى ذلك في كلّ كورة، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كلّ كورة، وعزل شرحبيل، واستعمل معاوية، وأمّر أبا عبيدة وخالدا تحته، فقال له شرحبيل: أعن سخطة عزلتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، إنك لكما أحبّ ولكني أريد رجلا أقوى من رجل، قال: نعم، فاعزرني في الناس لا تدركني هجنة، فقام في الناس، فقال: أيّها الناس، إني والله ما عزلت شرحبيل عن سخطة، ولكني أردت رجلا أقوى من رجل. وأمّر عمرو بن عبسة على الأهراء، وسمى كلّ شئ، ثم قام في الناس بالوداع. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي ضمرة وأبي عمرو، عن المستورد، عن عدي بن سهيل، قال: لما فرغ عمر من فروجه وأموره قسم المواريث، فورّث بعض الورثة من بعض، ثم أخرجها إلى الأحياء من ورثة كلّ امرئ منهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي: وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته، فلم يرجع منهم إلا أربعة، فقال المهاجر بن خالد بن الوليد: من يسكن الشأم يعرّس به ** والشأم إن لم يفننا كارب أفنى بنى ريطة فرسانهم ** عشرون لم يقصص لهم شارب ومن بني أعمامهم مثلهم ** لمثل هذا أعجب العاجب طعنا وطاعونا مناياهم ** ذلك ما خطّ لنا الكاتب قال: وقفل عمر من الشأم إلى المدينة في ذي الحجة، وخطب حين أراد القفول، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا أني قد ولّيت عليكم وقضيت الذي علي في الذي ولّاني الله من أمركم، إن شاء الله قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغنا ما لديكم، فجنّدنا لكم الجنود، وهيّأنا لكم الفروج، وبوّأناكم ووسّعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شأمكم، وسمّينا لكم أطماعكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم، وأرزاقكم ومغانمكم فمن علم شئ ينبغي العمل به فبلّغنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوّة إلّا بالله. وحضرت الصلاة، وقال الناس: لو أمرت بلالًا فأذّن! فأره فأذّن، فما بقي أحد كان أدرك رسول الله ﷺ وبلال يؤذّن له إلّا بكى حتى بلّ لحيته، وعمر أشدّهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم، ولذكره ﷺ. ذكر خبر عزل خالد بن الوليد كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة، قالا: فمازال خالد على قنّسرين حتى غزا غوته التي أصاب فيها، وقسم فيها ما أصاب لنفسه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي المجالد مثله. قالوا: وبلغ عمر أنّ خالدا دخل الحمام، فتدلّك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر؛ فكتب إليه: بلغني أنك تدلّكت بخمر؛ وإنّ الله قد حرّم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرّم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرّم مسّ الخمر إلّا أن تغسل كما حرّم شربها، فلا تمسّوها أجسادها فإنّها نجس، وإن فعلتم فلا تعودوا. فكتب إليه خالد: إنّا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب إليه عمر: إنّي أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه! فانتهى إليه ذلك. وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - أدرب خالد بن الوليد وعياض بن غنم في رواية سيف عن شيوخه. ذكر من قال ذلك كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبى حارثة والمهلّب، قالوا: وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض، فسارا فأصابا أموالا عظيمة، وكانا توجّها من الجابية، مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يديه على قنّسرين، وعلى دمشق يزيد بن أبي سفيان، وعلى الأردنّ معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزّز، وعلى الأهراء عمرو بن عبسة، وعلى السواحل عبد الله بن قيس، وعلى كلّ عمل عامل. فقامت مسالح الشأم ومصر والعراق على ذلك إلى اليوم لم تجز أمّة إلى أخرى عملها بعد؛ إلّا أن يقتحموا عليهم بعد كفر منهم، فيقدّموا مسالحهم بعد ذلك، فاعتدل ذلك سنة سبع عشرة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي المجالد وأبى عثمان والربيع وأبى حارثة، قالوا: ولما قفل خالد وبلغ الناس ما أصابت تلك الصائبة انتجعه رجال، فانتجع خالد رجال من أهل الآفاق، فكان الأشعث بن قيس ممّن انتجع خالدا بقنّسرين، فأجازه بعشرة آلاف. وكان عمر لا يخفى عليه شئ في علمه، كتب إليه من العراق بخروج من خرج، ومن الشأم بجائزة من أجيز فيها - فدعا البريد، وكتب معه إلى أبى عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلونسوته حتى يعلمهم من أين إجازة الأشعث؛ أمن ماله أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد أقرّ بخيانة، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف. وأعزله على كلّ حال، وأضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه حتى أكثر عليه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئا، فقام بلال إليه، فقال: إنّ أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ثم تناول قلنسوته فعقله بعمامته وقال: ما تقول! أمن مالك أم من إصابة؟ قال: لا بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده، ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونفخّم ونخدم موالينا. قالوا: وأقام خالد متحيّرا لا يدري أمعزول أم غير معزول؟ وجعل أبو عبيدة لا يخبره حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ الذي قد كان. فكتب إليه بالإقبال، فأتى خالد أبا عبيدة، فقال: رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت! كتمتني أمرا كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم! فقال أبو عبيدة: إنّي والله ما كنت لأروعك ما وجدت لذلك بداّ، وقد علمت أن ذلك يروعك. قال: فرجع خالد إلى قنّسرين، فخطب أهل علمه وودّعهم وتحمّل، ثم أقبل إلى حمص فخطبهم وودعهم، ثمّ خرج نحو المدينة حتى قدم على عمر، فشكاه وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين؛ وبالله أنّك في أمري غير مجمل يا عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسّهمان، ما زاد عن الستين ألفا فهو لك ما زاد على الستين ألفا فلك. فقوّم عمر عروضه فخرجت إليه عشرون ألفا، فأدخلها بيت المال. ثم قال: يا خالد، والله إنك علىّ لكريم، وإنك إلي لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شئ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المستورد، عن أبيه، عن عدىّ بن سهيل، قال: كتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا خيانة، ولكنّ الناس فتنوا به، فخفت أن يوكّلوا إليه ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أنّ الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، عن سالم، قال: لما قدم خالد على عمر قال عمر متمثّلا: صنعت فلم يصنع كصنعك صانع ** وما يصنع الأقوام فالله يصنع فأغرمه شيئا، ثمّ عوّضه، وكتب فيه إلى الناس بهذا الكتاب ليعذره عندهم وليبصّرهم. ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعة فيه وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - اعتمر عمر، وبنى المسجد الحرام - فيما زعم الواقدي - ووسّع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على أقوام أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها. قال: وكان ذلك الشهر الذي اعتمر فيه رجب، وخلّف على المدينة زيد بن ثابت. قال الواقدي: وفي عمرته هذه أمر بتجديد أنصاب الحرم، فأمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزّى وسعيد بن يربوع. قال: وحدثني كثير بن عبد الله المزنىّ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قدمنا مع عمر مكة في عمرته سنة سبع عشرة، فمرّ بالطريق فكلّمه أهل المياه أن يبتنوا منازل بين مكة والمدينة - ولم يكن قبل ذلك بناء - فأذن لهم، وشرط عليهم أنّ ابن السبيل أحقّ الظلّ والماء. قال: وفيها تزوّج عمر بن الخطاب أمّ كلثوم ابنة علي بن أبى طالب، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله ﷺ، ودخل بها في ذي القعدة. ذكر خبر عزل المغيرة عن البصرة وولاية أبي موسى قال: وفي هذه السنة ولىّ عمر أبا موسى البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة في ربيع الأول - فشهد عليه - فيما حدثني معمر، عن الزهرىّ، عن ابن المسيّب - أبو بكرة، وشبل بن معبد البجلىّ، ونافع بن كلدة، وزياد. قال: وحدثني محمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، قال: كان يختلف إلى أمّ جميل، امرأة من بنى هلال؛ وكان لها زوج هلك قبل ذلك من ثقيف، يقال له الحجّاج بن عبيد، فكان يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوما من الأيام حتى دخل عليها، وقد وضعوا عليها الرصد، فانطلق القوم الذين شهدوا جميعا، فكشفوا الستر، وقد واقعها. فوفد أبو بكرة إلى عمر، فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم، قال: لقد جئت لشرّ، قال: إنما جاء بي المغيرة، ثم قصّ عليه القصّة، فبعث عمر أبا موسى الأشعري عاملا، وأمره أن يبعث إليه المغيرة، فأهدى المغيرة لأبى موصى عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر. قال الواقدي: وحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: حضرت عمر حين قدم بالمغيرة، وقد تزوّج امرأة من بنى مرّة، فقال له: إنك لفارغ القلب، طويل الشبق، فسمعت عمر يسأل عن المرأة. فقال: يقال لها الرقطاء، وزوجها من ثقيف، وهو من بنى هلال. قال أبو جعفر: وكان سبب ما كان بين أبى بكرة والشهادة عليه - فيما كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد والمهلّب وطلحة وعمرو بإسنادهم، قالوا: كان الذي حدث بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة أنّ المغيرة كان يناغيه، وكان أبو بكر ينافره عند كلّ ما يكون منه، وكانا بالبصرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين متقابلتين لهما في داريهما في كلّ واحدة منهما كوّة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبى بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبّت ريح، ففتحت باب الكوّة، فقام أبو بكرة ليصفقه، فبصر بالمغيرة، وقد فتحت الريح باب كوّة مشربته، وهو بين رجلى امرأة، فقال: للنّفر: قوموا فانظروا، فقاموا فنظروا، ثم قال: اشهدوا، قالوا: من هذه؟ قال أمّ جميل ابنة الأفقم - وكانت أمّ جميل إحدى بنى عامر بن صعصعة، وكانت غاشية للمغيرة، وتغشى الأمراء والأشراف - وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها - فقالوا: إنما رأينا أعجازا، ولا ندرى ما الوجه؟ ثم إنهم صمّموا حين قامت، فلما خرج المغيرة إلى الصلاة حال أبو بكرة بينه وبين الصلاة وقال: لا تصلّ بنا. فكتبوا إلى عمر بذلك، وتكاتبوا، فبعث عمر إلى أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، إني مستعملك؛ إني أبعثك إلى أرض قد باض بها الشيطان وفرّخ، فالزم ما تعرف؛ ولا تستبدل فيستبدل الله بك. فقال: يا أمير المؤمنين، أعني بعدّة من أصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار، فإنّي وجدتهم في هذه الأمة وهذه الأعمال كالملح لا يصلح الطعام إلّا به، فاستعن بمن أحببت. فاستعان بتسعة وعشرين رجلًا؛ منهم أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر. ثمّ خرج أبو موسى فيهم حتى أناخ بالمربد، وبلغ المغيرة أنّ أبا موسى قد أناخ بالمربد فقال: والله ما جاء أبو موسى زائرًا، ولا تاجرًا، ولكنّه جاء أميرًا. فإنهم لفي ذلك، إذ جاء أبو موسى حتى دخل عليهم، فدفع إليه أو موسى كتابا من عمر، وإنه لأوجز كتاب كتب به أحد من الناس؛ أربع كلم عزل فيها، وعاتب، واستحثّ، وأمّر: أما بعد، فإنه بلغني نبأ عظيم، فبعثت أبا موسى أميرًا، فسلّم إليه ما في يدك، والعجل. وكتب إلى أهل البصرة: أمّا بعد، فإني قد بعثت أبا موسى أميرًا عليكم، ليأخذ لضعيفكم من قويّكم، وليقاتل بكم عدوّكم، وليدفع عن ذمّتكم، وليحصى لكم فيئكم ثم ليقسمه بينكم، ولينقّى لكم طرقكم. وأهدى له المغيرة وليدة من مولّدات الطائف تدعى عقيلة، وقال: إني قد رضيتها لك - وكانت فارهة - وارتحل المغيرة وأبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد وشبل بن معبد البجلىّ حتى قدموا على عمر، فجمع بينهم وبين المغيرة، فقال المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني؛ مستقبلهم أو مستدبرهم؟ وكيف رأوا المرأة أو عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلىّ فكيف لم أستتر، أو مستدبرىّ فبأي شئ استحلّوا النظر إلىّ في منزلي على امرأتي! والله ما أتيت إلّا امرأتي - وكانت شبهها - فبدأ بأبي بكرة، فشهد عليه أنه رآه بين رجلي أمّ جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، قال: كيف رأيتهما؟ قال: فكيف استثبتّ رأسها؟ قال: تحاملت. ثم دعا بشبل بن معبد، فشهد بمثل ذلك، فقال: استدرتهما أو استقبلتهما؟ قال: استقبلتهما. وشهد نافع بمثل شهادة أبي بكرة، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم؛ قال: رأيته جالسًا بين رجلي امرأة، فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفتين، وسمعت حفزانًا شديدًا. قال: هل رأيت الميل في المكحلة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال: لا، ولكن أشبّهها، قال: فتنحّ، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحدّ وقرأ: " فإذ لم يأتوا بالشّهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " فقال المغيرة: اشفني من الأعبد، فقال: اسكت أسكت الله نأمتك! أما والله لو تمّت الشهادة لرجمتك بأحجارك. فتح سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري في قول بعضهم، وفي قول آخرين: كان ذلك في سنة ستّ عشرة من الهجرة. ذكر الخبر عن سبب فتح ذلك وعلى يدي من جرى كتب إلي السري، يذكر أن شعيبا حدثه عن سيف بن عمر، عن محمد وطلحة والمهلّب وعمرو، قالوا: كان الهرمزان أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمتّه مهرجان قذق وكور الأهواز، فهؤلاء بيوتات دون سائر أهل فارس، فلما انهزم يوم القادسيّة كان وجهه إلى أمّته، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من وجهين، من مناذر ونهرتيرى، فاستمدّ عتبة بن غزوان سعدا، فأمدّه سعد بنعيم بن مقرّن ونعيم بن مسعود، وأمرهما أن يأتيا على ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى. ووجّه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة - وكانا من المهاجرين مع رسول الله ﷺ، وهما من بني العدوية من بني حنظلة - فنزلا على حدود أرض ميسان ودستميسان، بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكلبي، فتركا نعيما ونعيما ونكبا عنهما، وأتيا سلمى وحرملة، وقالا: أنتما من العشيرة، وليس لكما مترك؛ فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإنّ أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى؛ فنقتل المقاتلة، ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك. قال: وكان من حديث العمى؛ والعمى مرّة بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - أنه تنخت عليه وعلى العصيّة بن امرئ القيس أفناء معدّ فعمّاه عن الرشد من لم ير نصره فارس على آل أردوان، فقال في ذلك كعب بن مالك أخوه - ويقال: صدي بن مالك: لقد عم عنها مرّة الخير فانصمى ** وصمّ فلم يسمع دعاء العشائر ليتنخ عنّا رغبة عن بلاده ** ويطلب ملكا عاليا في الأساور فبهذا البيت سمى العم؛ فقيل بنو العم؛ عمّوه عن الصواب بنصره أهل فارس كقول الله تبارك وتعالى: " عموا وصمّوا "؛ وقال يربوع بن مالك: لقد علمت عليا معدّ بأنّنا ** غداة التباهى غرّ ذاك التبادر تنخنا على رغم العداة ولم ننخ ** بحي تميم والعديد الجماهر نفينا عن الفرس النبيط فلم يزل ** لنا فيهم إحدى الهنات والبهاتر إذ العرب العلياء جاشت بحورها ** فخرنا على كلّ البحور الزواخر وقال أيّوب بن العصية بن امرئ القيس: لنحن سبقنا بالتّنوخ القبائلا ** وعمدا تنخنا حيث جاءوا قنابلا وكنّا ملوكا قد عززنا الأوائلا ** وفي كلّ قرن قد ملكنا الحلائلا فلما كانت تلك الليلة من ليلة الموعد من سلمى وحرملة وغالب وكليب، والهرمزان يومئذ بين نهر تيرى بين دلث، خرج سلمى وحرملة صبيحتها في تعبية، وأنهضا نعيمًا ونعيمًا فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى ابن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرّن على أهل الكوفة. فاقتتلوا فبيناهم في ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأنّ مناذر نهر تيرى قد أخذتا، فكسر الله في ذرعه وذرع جنده، وهزمه وأيّاهم، فقتلوا منهم ما شاءوا، وأصابوا منهم ما شاءوا، وأتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل، وأخذوا ما دونه، وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز، وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان وحرملة وسلمى ونعيم ونعيم وغالب وكليب. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن المغيرة العبدىّ، عن رجل من عبد القيس يدعى صحارا، قال: قدمت على هرم ابن حيّان - فيما بين الدلوث ودجيل - بجلال من تمر، وكان لا يصبر عنه، وكان جلّ زاده إذا تزوّد التمر، فإذا فنى انتخب له مزاود من جلال وهم ينفرون فيحملها فيأكلها ويطعمها حيثما كان من سهل أو جبل. قالوا: ولما دهم القوم الهرمزان ونزلوا بحياله من الأهواز رأى ما لا طاقة له به، فطلب الصلح، فكتبوا إلى عتبة بذلك يستأمرونه فيه، وكاتبه الهرمزان، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلّها ومهرجان قذق، ما خلا نهر تيرى ومناذر، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز، فإنه لا يردّ عليهم ما تنقّذنا. وجعل سلمى بن القين على مناذر مسحلة وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها على كليب؛ فكانا على مسالح البصرة وقد هاجرت طوائف بنى العم، فنزلوا منازلهم من البصرة، وجعلوا يتتابعون على ذلك، وقد كتب بذلك عتبة إلى عمر، وفّد منهم سلمى، وأمره أن يستخلف على عمله، وحرملة - وكانا من الصحابة - وغالب وكليب، ووفد وفود من البصرة يومئذ، فأمرهم أن يرفعوا حوائجهم، فكلّهم قال: أما العمّة فأنت صاحبها، ولم يبق إلا خواصّ أنفسنا، فطلبوا لأنفسهم، إلّا ما كان من الأحنف ابن قيس، فإنه قال: يا أمير المؤمنين؛ إنك لكما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحقّ علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامّة، وإنّما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخير، ويسمع بآذانهم، وإنّا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البرّ، وإنّ إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة؛ من العيون العذاب، والجنان الخصاب، فتأتيهم ثمارهم ولم تخضد، وإنّا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة، زعقة نشّاشة، طرف لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجرى إليها ما جرى في مثل مرىء النعامة. دارنا فعمة، ووظيفتنا ضيّقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فيناكثير، ودرهمنا كبير، وقفيزنا صغير؛ وقد وسّع الله علينا، وزادنا في أرضنا، فوسّع علينا يا أمير المؤمنين، وزدنا وظيفة توظّف علينا، ونعيش بها. فنظر إلى منازلهم التي كانوا بها إلى أن صاروا إلى الحجر فنفّلهموه وأقطعهموه، وكان مما كان لآل كسرى، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر، فاقتسموه، وكان سائر ما كان لآل كسرى في أرض البصرة على حال ما كان في أرض الكوفة ينزلونه من أحبّوا، ويقتسمونه بينهم؛ لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالي. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين: نصفها مقسوم، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع؛ وكان أصحاب الألفين ممّن شهد القادسيّة. ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا، فألحق عمر أعدادهم من أهل البصرة من أهل البلاء في الألفين حتى ساواهم بهم، ألحق جميع من شهد الأهواز. ثم قال: هذا الغلام سيّد أهل البصرة، وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويشرب برأيه، وردّ سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهر تيرى، فكانوا عدّة فيه لكون إن كان، وليميّزا خراجها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: بينا الناس من أهل البصرة وذمتهم على ذلك وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف وادّعاء، فحضر ذلك سلمى وحرملة لينظروا فيما بينهم، فوجدا غالبًا وكليبًا محقّين والهرمزان مبطلًا، فحالا بينه وبينهما، فكفر الهرمزان أيضا ومنع ما قبله، واستعان بالأكراد، فكثف جنده. وكتب سلمى وحرملة وغالب وكليب ببغى الهرمزان وظلمه وكفره إلى عتبة بن غزوان، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بأمره، وأمدّهم عمر بحرقوص بن زهير السعدىّ، وكانت له صحبة من رسول الله ﷺ، وأمّره على القتال وعلى ما غلب عليه. فنهد الهرمزان بمن معه وسلمى وحرملة وغالب وكليب، حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز أرسلوا إلى الهرمزان: إمّا أن تعبروا إلينا وإمّا أن نعبر إليكم، فقال: اعبروا إلينا، فعبروا من فوق الجسر، فاقتتلوا فوق الجسر ممّا يلي سوق الأهواز، حتى هزم الهرمزان ووجّه نحو رامهرمز، فأخذ على قنطرة أربك بقرية الشغر حتى حلّ برامهرمز، وافتتح حرقوص سوق الأهواز، فأقام بها ونزل الجبل، واتّسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر، ووفّد وفدا بذلك، فحمد الله، ودعا له بالثبات والزيادة. وقال الأسود بن سريع في ذلك - وكانت له صحبة: لعمرك ما أضاع بنو أبينا ** ولكن حافظوا فيمن يطيع أطاعوا ربّهم وعصاه قوم ** أضاعوا أمره فيمن يضيع مجوس لا ينهنهها كتاب ** فلاقوا كبّة فيها قبوع وولّى الهرمزان على جواد ** سريع الشدّ يثفنه الجميع وخلّى سرّة الأهواز كرها ** غداة الجسر إذ نجم الربيع وقال حرقوص: غلبنا الهرمزان على بلاد ** لها في كلّ ناحية ذخائر سواء برّهم والبحر فيها ** إذا صارت نواجبها بواكر لها بحر يعجّ بجانبيه ** جعافر لا يزال لها زواخر فتح تستر وفيها فتحتتستر في قول سيف وروايته - أعني سنة سبع عشرة - وقال بعضهم: فتحت سنة ستّ عشرة، وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة. ذكر الخبر عن فتحها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز، وافتتح حرقوص بن زهير سوق الأهواز، أقام بها، وبعث جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سرّق، وقد كان عهد إليه فيه: إن فتح الله عليهم أن يتبعه جزءا، ويكون وجهه إلى سرّق. فخرج جزء في أثر الهرمزان، والهرمزان متوجّه إلى رامهرمز هاربا، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر، وأعجزه بها الهرمزان؛ فمال جزء إلى دورق من قرية الشغر؛ وهي شاغرة برجلها - ودورق مدينة سرّق فيها قوم لا يطيقون منعها - فأخذها صافية، وكتب إلى عمر بذلك وإلى عتبة، وبدعائه من هرب إلى الجزاء والمنعة، وإجابتهم إلى ذلك. فكتب عمر إلى جزء بن معاوية وإلى حرقوص بن زهير بلزوم ما غلبا عليه، وبالمقام حتى يأتيهما أمره، وكتب إليه مع عتبة بذلك، ففعلا وأستأذن جزء في عمران بلاده عمر، فأذن له، فشقّ الأنهار، وعمر الموات. ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز والمسلمون حلّال فيها فيما بين يديه، طلب الصلح، وراسل حرقوصا وجزءا في ذلك، فكتب فيه حرقوص إلى عمر، فكتب إليه عمر وإلى عتبة، يأمره أن يقبل منه على ما لم يفتحوا منها على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور، والبنيان ومهرجا نقذق، فأجابهم إلى ذلك، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبّوا عنه. وكتب عمر إلى عتبة أن أوفد علىّ وفدا من صلحاء جند البصرة عشرة، فوفّد إلى عمر عشرة، فيهم الأحنف. فلما قدم على عمر قال: إنك عندي مصدّق، وقد رأيتك رجلا، فأخبرني أأن ظلمت الذمّة، ألمظلمة نفروا أم لغير ذلك؟ فقال: لا بل لغير مظلمة، والناس على ما تحبّ. قال: فنعم إذا! انصرفوا إلى رحالكم. فانصرف الوفد إلى رحالهم، فنظر في ثيابهم فوجد ثوبا قد خرج طرفه من عيبة فشمّه، ثم قال: لمن هذا الثوب منكم؟ قال الأحنف: لي، قال: فبكم أخذته؟ فذكر ثمنا يسيرا، ثمانية أو نحوها، ونقص ممّا كان أخذه به - وكان قد أخذه باثنى عشر - قال: فهلّا بدون هذا، ووضعت فضلته موضعا تغنى به مسلما! حصّوا وشعوا الفضول مواضعها تريحوا أنفسكم وأموالكم، ولا تسرفوا فتخسروا أنفسكم وأموالكم؛ إن نظر امرؤ لنفسه وقدّم لها يخلف له. وكتب عمر إلى عتبة أن أعزب الناس عن الظلم، واتّقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى، فإنكم إنّما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه، وقد تقدّم إليكم فيما أخذ عليكم. فأوفوا بعهد الله، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا. وبلغ عمر أنّ حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه، والجبل كئود يشقّ على من رامه. فكتب إليه: بلغني أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلّا على مشقّة، فأسهل ولا تشقّ على مسلم ولا معاهد، وقم في أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا، ولا تدركنّك فترة ولا عجلة، فتكدر دنياك، وتذهب آخرتك. ثم إن حرقوصا تحرّر يوم صفّين وبقى على ذلك، وشهد النهروان مع الحروريّة. غزو المسلمين فارس من قبل البحرين وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - غزا المسلمون أرض فارس من قبل البحرين فيما زعم سيف ورواه. ذكر الخبر بذلك كتب إلي السري، يقول: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف، عن محمد والمهلّب وعمرو، قالوا: كان المسلمون بالبصرة وأرضها - وأرضها يومئذ سوادها، والأهواز عل ما هم عليه إلى ذلك اليوم، ما غلبوا عليه منها ففي أيديهم، وما صولحوا عليه منها ففي أيدي أهله، يؤدّون الخراج ولا يدخل عليهم، ولهم الذمّة والمنعة - وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز، وددت أنّ بيننا وبين فارس جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم، كما قال لأهل الكوفة: وددت أنّ بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه، ولا نصل إليهم. وكان العلاء بن الحضرمي على البحرين أزمان أبي بكر، فعزله عمر، وجعل قدامة بن المظعون مكانه، ثم عزل قدامة وردّ العلاء، وكان العلاء يباري سعدا لصدع صدعه القضاء بينهما، فطار العلاء على سعد في الردّة بالفضل؛ فلما ظفر سعد بالقادسيّة، وأزاح الأكاسرة عن الدار، وأخذ حدود ما يلي السواد، واستعلى، وجاء بأعظم مما كان العلاء جاء به، سرّ العلاء أن يصنع شيئا في الأعاجم، فرجا أن يدال كما قد كان أديل، ولم يقدّر العلاء ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة والمعصية بجدّ، وكان أبو بكر قد استعمله، وأذن له في قتال أهل الردّة، واستعمله عمر، ونهاه عن البحر، فلم يقدّر في الطاعة والمعصية وعواقبهما، فندب أهل البحرين إلى فارس، فتسرّعوا إلى ذلك، وفرّقهم أجنادا؛ على أحدهما الجارود بن المعلىّ، وعلى الآخر السوّار بن همّام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى؛ وخليد على جماعة الناس، فحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن عمر، وكان عمر لا يأذن لأحد في ركوبه غازيا؛ يكره التغرير بجنده استنانا بالنبي ﷺ وبأبي بكر، لم يغز فيه النبي ﷺ ولا أبو بكر. فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا في إصطخر، وبإزائهم أهل فارس، وعلى أهل فارس الهربذ، اجتمعوا عليه، فحالوا بين المسلمين بين سفنهم، فقام خليد في الناس، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ الله إذا قضى أمرا جرت به المقادير حتى تصيبه، وإنّ هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم إلى حربهم؛ وإنما جئتم لمحاربتهم، والسفن والأرض لن غلب، فاستعينوا بالصبر والصلاة، ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا في موضع من الأرض يدعى طاوس، وجعل السوار يرتجز يومئذ ويذكر قومه، ويقول: يا آل عبد القيس للقراع ** قد حفل الأمداد بالجراع وكلّهم في سنن المصاع ** يحسن ضرب القوم بالقطّاع حتى قتل. وجعل الجارود يرتجز ويقول: لو كان شيئا أمما أكلته ** أو كان ماء سادما جهرته لكنّ بحرا جاءنا أنكرته حتى قتل. ويومئذ ولى عبد الله بن السوار والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد يومئذ يرتجز ويقول: يال تميم أجمعوا النزول ** وكاد جيش عمر يزول وكلكم يعلم ما أقول انزلوا، فنزلوا. فاقتتل القوم فقتل أهل فارس مقتلة لم يقتلوا مثلها قبلها. ثمّ خرجوا يريدون البصرة وقد غرقت سفنهم، ثمّ لم يجدوا إلى الرجوع في البحر سبيلا. ثم وجدوا شهرك قد أخذ على المسلمين بالطرق؛ فعسكروا وامتنعوا في نشوبهم. ولما بلغ عمر الذي صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش في البحر ألقى في روعه نحو من الذي كان. فاشتدّ غضبه على العلاء، وكتب إله يعزله وتوعّده، وأمره بأثقل الأشياء عليه، وأبغض الوجوه إليه؛ بتأمير سعد عليه، وقال: الحق بسعد بن أبي وقاص فيمن قبلك، فخرج بمن معه نحو سعد. وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان: إنّ العلاء بن الحضرمىّ حمل جندا من المسلمين، فأقطعهم أهل فارس، وعصاني، وأظنه لم يرد الله بذلك، فخشيت عليهم إلّا ينصروا أن يغلبوا وينشبوا، فاندب إليهم الناس، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا. فندب عتبة الناس، وأخبرهم بكتاب عمر. فانتدب عاصم بن عمرو، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، ومجزأة بن ثور، ونهار بن الحارث، والترجمان بن فلان، والحصين بن أبي الحرّ، والأحنف بن قيس، وسعد بن أبي العرجاء، وعبد الرحمن بن سهل، وصعصعة بن معاوية؛ فخرجوا في اثني عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل، وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، والمسالح على حالها بالأهواز والذمّة، وهم ردء للغازي والمقيم. فسار أبو سبرة بالناس، وساحل لا يلقاه أحد، ولا يعرض له؛ حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم بالطرق غبّ وقعة القوم بطاوس، وإنما كان ولى قتالهم أهل إصطخر وحدهم، والشذّاذ من غيرهم؛ وقد كان أهل إصطخر حيث أخذوا على المسلمين بالطرق، وأنشبوهم؛ استصرخوا عليهم أهل فارس كلّهم؛ فضربوا إليهم من كلّ وجه وكورة، فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاوس، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك؛ فاقتتلوا، ففتح الله على المسلمين، وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا - وهي الغزاة التي شرفت فيها نابتة البصرة؛ وكانوا أفضل نوابت الأمصار؛ فكانوا أفضل المصرين نابتة - ثم انكفئوا بما أصابوا، وقد عهد إليهم عتبة وكتب إليهم بالحثّ وقلة العرجة، فانضموا إليه بالبصرة، فخرج أهلها إلى منازلهم منها، وتفرّق الذين تنقّذوا من أهل هجر إلى قبائلهم، والذين تنقّذوا من عبد القيس في موضع سوق البحرين. ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس؛ استأذن عمر في الحجّ، فأذن له، فلمّا قضى حجّه استعفاه، فأبى أن يعفيه، وعزم عليه ليرجعنّ إلى عمله؛ فدعا الله ثم انصرف؛ فمات في بطن نخلة، فدفن؛ وبلغ عمر، فمرّ به زائرا لقبره، وقال: أنا قتلتك، لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم؛ وأثنى عليه بفضله، ولم يختطّ فيمن اختطّ من المهاجرين؛ وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة ابنة غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان خبّاب مولاه قد لزم سمته فلم يختطّ، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين ونصف من مفارقة سعد بالمدائن، وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبي رهم، وعمّاله على حالهم، ومسالحه على نهر تيرى ومناذر وسوق الأهواز وسرّق والهرمزان برامهرمز مصالح عليها، وعلى السوس والبنيان وجندى سابور ومهرجان قذق؛ وذلك بعد تنقّذ الذين كان حمل العلاء في البحر إلى فارس، ونزولهم البصرة. وكان يقال لهم أهل طاوس، نسبوا إلى الوقعة. وأقرّ عمر أبا سبرة ابن أبي رهم على البصرة بقيّة السنة. ثم استعمل المغيرة بن شعبة في السنة الثانية بعد وفاة عتبة، فعمل عليها بقيّة تلك السنة والسنة التي تليها، لم ينتقض عليه أحد في عمله؛ وكان مرزوقا السلامة؛ ولم يحدث شيئا إلّا ما كان بينه وبين أبي بكرة. ثم استعمل عمر أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثمّ استعمل عمر بن سراقة، ثمّ صرف عمر بن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى إلى البصرة من الكوفة؛ فعمل عليها ثانية. ذكر فتح رامهرمز وتستر وفي هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - كان فتح رامهرمز والسوس وتستر. وفيها أسر الهرمزان في رواية سيف. ذكر الخبر عن فتح ذلك في روايته كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو؛ قالوا: ولم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج منهم؛ فكتب يزدجرد إلى أهل فارس وهو يومئذ بمرو، يذكّرهم الأحقاد ويؤنّبهم؛ أن قد رضيتم يا أهل فارس أن قد غلبتكم العرب على السواد ما والاه، والأهواز. ثم لم يرضوا بذلك حتى تورّدوكم في بلادكم وعقر داركم، فتحرّكوا وتكاتبوا: أهل فارس وأهل الأهواز، وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير، وجاءت جزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب؛ فكتب سلمى وحرملة إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة، فسبق كتاب سلمى حرملة، فكتب عمر إلى سعد: أن ابعث سويد بن مقرّن، وعبد الله بن ذي السهمين، وجرير بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلىّ؛ فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبيّنوا أمره. وكتب إلى أبى موسى أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا وأمّر عليهم سهل بن عدىّ - أخا سهيل ابن عدىّ - وابعث معه البراء بن مالك، وعاصم بن عمرو، ومجزأة بن ثور، وكعب بن سور، وعرفجة بن هرثمة، وحذيفة بن محصن، وعبد الرحمن ابن سهيل، والحصين بن معبد؛ وعلى أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة ابن أبي رهم؛ وكلّ من أتاه فمدد له. وخرج النعمان بن مقرّن في أهل الكوفة، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان، ثم أخذ البرّ إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، وانتهى إلى نهر تيرى فجازها، ثم جاز مناذر، ثم جاز سوق الأهواز، وخلّف حرقوصا وسلمى وحرملة، ثمّ سار نحو الهرمزان - والهرمزان يومئذ برامهرمز - ولما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدّة، ورجا أن يقتطعه، وقد طمع الهرمزان في نصر أهل فارس، وقد أقبلوا نحوه، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثمّ إنّ الله عز وجل هزم الهرمزان للنعمان، وأخلى رامهرمز وتركها ولحق بتستر، وسار النعمان من أربك حتى ينزل برامهرمز، ثم صعد لإيذج، فصالحه عليها تيرويه، فقبل منه وتركه ورجع إلى رامهرمز فأقام بها. قالوا: ولما كتب عمر إلى سعد وأبى موسى، وسار النعمان وسهل، سبق النعمان في أهل الكوفة سهلا وأهل البصرة، ونكّب الهرمزان، وجاء سهل في أهل البصرة حتى نزلوا بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أنّ الهرمزان قد لحق بتستر، فمالوا من سوق الأهواز نحوه، فكان وجههم منها إلى تستر، ومال النعمان من رامهرمز إليها، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء، فنزلوا جميعا على تستر والنعمان على أهل الكوفة، وأهل البصرة متساندون، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال والأهواز في الخنادق، وكتبوا بذلك إلى عمر، واستمدّه أبو سبرة فأمدّهم بأبي موسى، فسار نحوهم، وعلى أهل الكوفة النعمان، وعلى أهل البصرة أبو موسى، وعلى الفريقين جميعا أبو سبرة، فحاصروهم أشهرا، وأكثروا فيهم القتل. وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مائة مبارز، سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك، وقتل كعب بن سور مثل ذلك، وقتل أبو تميمة مثل ذلك في عدّة من أهل البصرة. وفي الكوفيين مثل ذلك؛ منهم حبيب بن قرّة، وربعىّ بن عامر، وعامر بن عبد الأسود - وكان من الرؤساء - في ذلك ما ازدادوا به إلى ما كان منهم، وزاحفهم المشركون في أيام تستر ثمانين زحفا في حصارهم؛ يكون عليهم مرّة ولهم أخرى؛ حتى إذا كان في آخر زحف منها واشتدّ القتال قال المسلمون: يا براء، أقسم على ربّك ليهزمنّهم لنا! فقال: اللهمّ اهزمهم لنا، واستشهدنى. قال: فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم، ثم اقتحموها عليهم، وأرزوا إلى مدينتهم، وأحاطوا بها، فبيناهم على ذلك وقد ضاقت بهم المدينة، وطالت حربهم، خرج إلى النعمان رجل فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل يؤتون منه، ورمى في ناحية أبى موسى بسهم فقال: قد وثقت بكم وأمنتكم واستأمنتكم على أن دللتكم على ما تأتون منه المدينة، ويكون منه فتتحها، فآمنوه في نشابة فرمى إليهم بآخر، وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء؛ فإنكم ستفتحونها، فاستشار في ذلك وندب إليه، فانتدب له عامر بن عبد قيس، وكعب بن سور، ومجزأة بن ثور، وحسكة الحبطىّ، وبشر كثير؛ فنهدوا لذلك المكان ليلا، وقد ندب النعمان أصحابه حين جاءه الرجل، فانتدب له سويد بن المثعبة، وورقاء بن الحارث، وبشر بن ربيعة الخثعمىّ، ونافع ابن زيد الحميرىّ، وعبد الله بن بشر الهلالىّ، فنهدوا في بشر كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، وقد انسرب سويد وعبد الله بن بشر، فأتبعهم هؤلاء وهؤلاء؛ حتى إذا اجتمعوا فيها - والناس على رجل من خارج - كبّروا فيها، وكبّر المسلمون من خارج، وفتحت الأبواب؛ فاجتلدوا فيها، فأناموا كلّ مقاتل، وأرز الهرمزان إلى القلعة، وأطالف به الذين دخلوا من مخرج الماء؛ فلما عاينوه وأقبلوا قبله قال لهم: ما شئتم! قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم، ومعي في جعبتي مائة نشّابة؛ ووالله ما تصلون إلىّ ما دام معي منها نشّابة؛ وما يقع لي سهم؛ وما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل أو جريح! قالوا: فتريد ماذا؟ قال: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، قالوا: فلك ذلك، فرمى بقوسه، وأمكنهم من نفسه، فشدّوه وثاقا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم؛ فكان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف، والراجل ألفا؛ ودعا صاحب الرميّة بها، فجاء هو والرّجل الذي خرج بنفسه، فقالا: من لنا بالأمان الذي طلبنا؛ علينا وعلى من مال معنا؟ قالوا: ومن مال معكم؟ قالا: من أغلق بابه عليه مدخلكم. فأجازوا ذلك لهم، وقتل من المسلمين ليلتئذ أناس كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك. قالوا: وخرج أبو سبرة في أثر الفلّ من تستر - وقد قصدوا للسّوس - إلى السوس، وخرج بالنعمان وأبي موسى ومعهم الهرمزان؛ حتى اشتملوا على السوس، وأحاط المسلمون بها، وكتبوا بذلك إلى عمر. فكتب عمر إلى عمر بن سراقة بأن يسير نحو المدينة، وكتب إلى أبى موسى فردّه على البصرة، وقد ردّ أبا موسى على البصرة ثلاث مرات بهذه، وردّ عمر عليها مرتين؛ وكتب إلى زرّ بن عبد الله بن كليب الفقيمىّ أن يسير إلى جندى سابور، فسار حتى نزل عليها، وانصرف أبو موسى إلى البصرة بعد ما أقام إلى رجوع كتاب عمر، وأمّر عمر على جند البصرة المقترب، الأسود بن ربيعة أحد بنى ربيعة بن مالك، وكان الأسود وزرّ من أصحاب رسول الله ﷺ من المهاجرين - وكان الأسود قد وفد على رسول الله ﷺ، وقال: فنى بطنى، وكثر إخوتنا، فادع الله لنا، فقال: اللهمّ أوف لزرّ عمره، فتحوّل إليهم العدد - وأوفدوا أبو سبرة وفدا؛ فيهم أنس بن مالك والأحنف بن قيس، وأرسل الهرمزان معهم، فقدموا مع أبي موسى البصرة، ثم خرجوا نحو المدينة؛ حتى إذا دخلوا هيّئوا الهرمزان في هيئته، فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب، ووضعوا على رأسه تاجا يدعى الآذين، مكلّلا بالياقوت، وعليه حليته، كما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه، فسألوا عنه، فقيل لهم: جلس في المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة، فانطلقوا يطلبونه في المسجد، فلم يروه، فلما انصرفوا مرّوا بغلمان من أهل المدينة يلعبون، فقالوا لهم: ما تلدّدكم!؟ تريدون أمير المؤمنين؟ فإنّه نائم في ميمنة المسجد، متوسد برنسه - وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس، فلمّا فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه، وأخلوه نزع برنسه ثم توسّده فنام - فانطلقوا ومعهم النظّارة، حتى إذا رأوه جلسوا دونه، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدّرّة في يده معلّقة، فقال: الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا؛ وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه؛ وأصغى الهرمزان إلى الوفد، فقال: أين حرسه وحجّابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب، ولا كاتب ولا ديوان، قال: فينبغي له أن يكون نبيّا، فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء؛ وكثر الناس؛ فاستيقظ عمر بالجلبة، فاستوى جالسا، ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم؛ فتأمّله، وتأمّل ما عليه، وقال: أعوذ بالله من النار، وأستعين الله! وقال: الحمد لله الذي أذّل بالإسلام هذا وأشياعه؛ يا معشر المسلمين، تمسّكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيّكم، ولا تبطرنّكم الدنيا فإنها غرّارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز، فكلّمه، فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شئ، فرمى عنه بكلّ شئ عليه إلا شيئا يستره، وألبسوه يوبا صفيقا، فقال عمر: هيه يا هرمزان! كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله! فقال: يا عمر، إنا وإيّاكم في الجاهليّة كان الله قد خلّى بيننا وبينكم، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم، فلمّا كان معكم غلبتمونا. فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهليّة باجتماعكم وتفرّقنا. ثم قال عمر: ما عذرك وما حجّتك في انتقاضك مرّة بعد مرّة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك، قال: لا تخف ذلك. واستسقى ماء، فأتى به في قدح غليظ، فقال: لو متّ عطشا لم أستطع أن أشرب في مثل هذا، فأتى به في إناء يرضاه، فجعلت يده ترجف، وقال: إني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء، فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش، فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به، فقال له عمر: إني قاتلك، قال: قد آمنتني! فقال: كذبت! فقال أنس: صدق أمير المؤمنين، قد آمنته، قال: ويحك يا أنس! أنا أؤمّن قاتل مجزأة والبراء! والله لتأتينّ بمخرج أو لأعاقبنّك! قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني، وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه، وقال له من حوله مثل ذلك، فأقبل على الهرمزان، وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم؛ فأسلم. ففرض له على ألفين؛ وأنزله المدينة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سفيان طلحة ابن عبد الرحمن، عن ابن عيسى، قال: كان الترجمان يوم الهرمزان المغيرة بن شعبة إلى أن جاء المترجم، وكان المغيرة يفقه شيئا من الفارسيّة، فقال عمر للمغيرة: قل له: من أي أرض أنت؟ فقال المغيرة: أزكدام أرضي؟ فقال: مهرجانىّ، فقال: تكلم بحجّتك، قال: كلام حتى أو ميت؟ قال: بل كلام حي، قال: قد آمنتني، قال: خدعتني، إنّ للمخدوع في الحرب حكمه؛ لا والله لا أؤمّنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له على ألفين وأنزله المدينة. وقال المغيرة: ما أراك بها حاذقا، ما أحسنها منكم أحد إلا خبّ، وما خبّ إلا دقّ. إيّاكم وإيّاها، فإنها تنقض الإعراب. وأقبل زيد فكلّمه، وأخبر عمر بقوله، والهرمزان بقول عمر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو، عن الشعبىّ وسفيان، عن الحسن، قال: قال عمر للوفد: لعلّ المسلمين يفضون إلى أهل الذمّة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم! فقالوا: ما نعلم إلّا وفاء حسن ملكة، قال: فيكف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر به مما يقولون، إلّا ما كان من الأحنف، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرك أنّك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم؛ وإنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم؛ ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه؛ وقد رأيت أنّا لم نأخذ شيئا بعد شئ إلّا بانبعاثهم، وأنّ ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فلنسح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته وعزّ أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس ويضربون جأشا. فقال: صدقتنى والله، وشرحت لي الأمر عن حقه. ونظر في حوائجهم وسرّحهم. وقدم الكتاب على عمر باجتماع أهل نهاوند وانتهاء أهل مهرجا نقذق وأهل كور الأهواز إلى رأي الهرمزان ومشيئته، فذلك كان سبب إذن عمر لهم في الإنسياح. ذكر فتح السوس اختلف أهل السير في أمرها؛ فأمّا المدائني فإنه - فيما حدثني عن أبو زيد - قال: لما انتهى فلّ جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان، دعا بخاصّته والموبذ، فقال: إنّ القوم لا يلقون جمعا إلّا فلّوه، فما ترون؟ فقال: الموبذ: نرى أن تخرج فتنزل إصطخر؛ فإنها بيت المملكة، وتضمّ إليك خزائنك، وتوجّه الجنود. فأخذ برأيه، وسار إلى أصبهان دعا سياه، فوجّهه في ثلاثمائة، فيهم سبعون رجلا من عظمائهم، وأمره أن ينتخب من كلّ بلدة ويمرّ بها من أحبّ، فمضى سياه وأتبعه يزدجرد، حتى نزلوا إصطخر وأبو موسى محاصر السوس، فوجّه سياه إلى السوس، والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلبانيّة، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزول يزدجرد إصطخر منهزما، فسألوا أبا موسى الأشعري الصلح، فصالحهم، وسار إلى رامهرمز وسياه بالكلبانيّة، وقد عظم أمر المسلمين عنده، فلم يزل مقيما حتى صار أبو موسى إلى تستر، فتحوّل سياه، فنزل بين رامهرمز وتستر، حتى قدم عمّار بن ياسر، فدعا سياه الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان؛ فقال: قد علمتم أنا كنا نتحدث أنّ هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة، وتروث دوابّهم في إيوانات إصطخر ومصانع الملوك، ويشدّون خيولهم بشجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، وليس يلقون جندا إلّا فلّوه، ولا ينزلون بحصن إلّا فتحوه، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك، قال: فليكفني كلّ رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه، فإني أرى أن ندخل في دينهم. ووجّهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى يأخذ شروطا على أن يدخلوا في الإسلام. فقدم شيرويه على أبي موسى، فقال: إنّا قد رغبنا في دينكم، فنسلم على أن نقاتل معكم العجم، ولا نقاتل معكم العرب؛ وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منه، وننزل حيث شئنا، ونكون فيمن شئنا منكم، وتلحقونا بأشراف العطاء، ويعقد لنا الأمير الذي هو فوقك بذلك. فقال أبو موسى: بل لكم ما لنا، وعليكم ما علينا، قالوا: لا نرضى. وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إلى أبى موسى: أعطهم ما سألوك. فكتب أبو موسى لهم، فأسلموا، وشهدوا معه حصار تستر؛ فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدّا ولا نكاية، فقال لسياه: يا أعور، ما أنت وأصحابك كما كنّا نرى! قال: لسنا مثلكم في هذا الدين ولا بصائرنا كبصائركم، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم، ولم تلحقنا بأشراف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حّسر. فكتب أبو موسى إلى عمر في ذلك، فكتب إليه عمر: أن ألحقهم على قدر البلاء في أفضل العطاء وأكثر شئ أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم في ألفين ألفين، ولستّة منهم في ألفين، وخمسمائة لسياه وخسرو - ولقبه مقلاص - وشهريار، وشهرويه، وأفروذين. فقال الشاعر: ولمّا رأى الفاروق حسن بلائهم ** وكان بما يأتي من الأمر أبصرا فسنّ لهم ألفين فرضا وقد رأى ** ثلاثمئين فرض عكّ وحميرا قال: فحاصروا حصنا بفارس، فانسلّ سياه في آخر الليل في زي العجم حتى رمى بنفسه إلى جنب الحصن، وتضح ثيابه بالدّم، وأصبح أهل الحصن، فرأوا رجلا في زيّهم صريعا، فظنّوا أنه رجل منهم أصيبوا به، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه، فثار وقاتلهم حتى خلّوا عن باب الحصن وهربوا، ففتح الحصن وحده، ودخله المسلمون، وقوم يقولون: فعل هذا الفعل سياه بتستر، وحاصروا حصنا، فمضى خسرو إلى الحصن، فأشرف عليه رجل منهم يكلّمه، فرماه خسرو بنشّابة فقتله. وأما سيف فإنه قال في روايته ما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عنه، عن محمد وطلحة وعمرو ودثار أبى عمر، عن أبي عثمان، قالوا: لما نزل أبو سبرة في الناس على السوس، وأحاط المسلمون بها، وعليهم شهريار أخو الهرمزان، ناوشوهم مرّات؛ كلّ ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم يوما الرهبان والقسّيسون، فقالوا: يا معشر العرب، إنّ مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا؛ أنه لا يفتح السوس إلّا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها، وإن لم يكن فيكم فلا تعنوا بحصارنا. وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة، وعمّل على أهل البصرة المقترب مكان أبى موسى بالسّوس، واجتمع الأعاجم بنهاوند والنعمان على أهل الكوفة محاصرا لأهل السوس مع أبى سبرة، وزرّ محاصر أهل نهاوند من وجهه ذلك؛ وضرب على أهل الكوفة البعث مع حذيفة، وأمرهم بموافاته بنهاوند؛ وأقبل النعمان على التهيؤ للسير إلى نهاوند، ثمّ استقلّ في نفسه، فناوشهم قبل مضيّه، فعاد الرهبان والقسّيسون، وأشرفوا على المسلمين، وقاولوا: يا معشر العرب، لا تعنوا فإنه لا يفتحها إلّا الدجال أو قوم معهم الدجال، وصاحوا بالمسلمين وغاظوهم، وصاف بن صيّاد يومئذ مع النعمان في خيله، وناهدهم المسلمون جميعا، وقالوا: نقاتلهم قبل أن نفترق؛ ولمّا يخرج أبو موسى بعد. وأتى صاف باب السوس غضبان، فدقّه برجله، وقال انفتح فطار فتقطّعت السلاسل، وتكسّرت الأغلاق، وتفتّحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، وتنادوا: الصلح الصلح! وأمسكوا بأيديهم، فأجابوهم إلى ذلك بعد ما دخلوها عنوة، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح؛ ثم افترقوا. فخرج النعمان في أهل الكوفة من الأهواز حتى نزل على ماه، وسرّح أبو سبرة المقترب حتى ينزل على جندى سابور مع زرّ، فأقام النعمان بعد دخول ماه، حتى وافاه أهل الكوفة، ثم نهد بهم إلى أهل نهاوند، فلما كان الفتح رجع صاف إلى المدينة، فأقام بها، ومات بالمدينة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عمّن أورد فتح السوس، قال: وقيل لأبى سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة، قال: ومالنا بذلك! فأقرّه بأيديهم - قال عطيّة بإسناده: إنّ دانيال كان لزم أسياف فارس بعد بختنصّر؛ فلمّا حضرته الوفاة، ولم ير أحدا ممن هو بين ظهريهم على الإسلام؛ أكرم كتاب الله عمّن لم يجبه ولم يقبل منه، فأودعه ربّه، فقال لابنه: ائت ساحل البحر، فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام، وضنّ به، وغاب مقدار ما كان ذاهبا وجائيا؛ وقال: قد فعلت، قال: فما صنع البحر حين هوى فيه؟ قال: لم أره يصنع شيئا، فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فخرج من عنده، ففعل مثل فعلته الأولى، ثم أتاه فقال: قد فعلت، فقال: كيف رأيت البحر حين هوى فيه؟ قال: ماج واصطفق، فغضب أشدّ من غضبه الأوّل، وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به بعد، فعزم ابنه على إلقائه في البحر الثالثة، فانطلق إلى ساحل البحر، وألقاه فيه، فانكشف البحر عن الأرض حتى بدت، وانفجرت له الأرض عن هواء من نور، فهوى في ذلك النور، ثم انطبقت عليه الأرض، واختلط الماء، فلما رجع إليه الثالثة سأله فأخبره الخبر، فقال: الآن صدقت. ومات دانيال بالسّوس؛ فكان هنالك يستسقى بجسده، فلما افتتحها المسلمون أتوا به فأقرّوه في أيديهم، حتى إذا ولّى أبو سبرة عنهم إلى جندى سابور أقام أبو موسى بالسّوس. وكتب إلى عمر فيه؛ فكتب إليه يأمره بتوريته، فكفّنه ودفنه المسلمون. وكتب أبو موسى إلى عمر بأنه كان عليه خاتم وهو عندنا، فكتب إليه أن تختّمه، وفي فصّه نقش رجل بين أسدين. ذكر مصالحة المسلمين أهل جندي سابور وفيها - أعني سنة سبع عشرة - كانت مصالحة المسلمين أهلَ جُنْدَيْ سابور. ذكر الخبر عن أمرهم وأمرها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبى عمرو وأبى سفيان والمهلّب، قالوا: لما فرغ أبو سبرة من السوس خرج في جنده حتى نزل على جندى سابور، وزرّ بن عبد الله بن كليب محاصرهم؛ فأقاموا عليها يغادنهم ويراوحونهم القتال؛ فما زالوا مقيمين عليها حتى رمى إليهم بالأمان من عسكر المسلمين، وكان فتحها وفتح نهاوند في مقدار شهرين، فلم يفجأ المسلمين إلّا وأبوابها تفتح، ثمّ خرج السرح، وخرجت الأسواق، وانبثّ أهلها، فأرسل المسلمون: أن مالكم؟ قالوا: رميتم إلينا بالأمان فقبلناه، وأقررنا لكم بالجزاء على أن تمتعونا. فقالوا: ما فعلنا، فقالوا: ما كذبنا، فسأل المسلمون فيما بينهم؛ فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها؛ هو الذي كتب لهم. فقالوا: إنما هو عبد، فقالوا: إنا لا نعرف حرّكم من عبدكم، قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه، ولم نبدّل؛ فإن شئتم فاغذروا. فأمسكوا عنهم، وكتبوا بذلك إلى عمر، فكتب إليهم: إنّ الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا، ما دمتم في شكّ أجيزوهم، وفوا لهم. فوفوا لهم، وانصرفوا عنهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: أذن عمر في الانسياج سنة سبع عشرة في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس، وعرف فضله وصدقه، وفرّق الأمراء والجنود، وأمّر على أهل البصرة أمراء؛ وأمّر على أهل الكوفة أمراء، وأمّر هؤلاء وهؤلاء بأمره، وأذن لهم في الانسياح سنة سبع عشرة، فساحوا في سنة ثمان عشرة، وأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمّة البصرة؛ فيكون هنالك حتى يحدث إليه؛ وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدىّ حليف بنى عبد الأشهل، فقدم سهيل بالألوية، ودفع لواء خراسان إلى الأحنف ابن قيس، ولواء أردشيرخرّه وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمى، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان مع سهيل بن عدىّ، ولواء سجستان إلى عاصم ابن عمرو - وكان عاصم من الصحابة - ولواء مكران إلى الحكم بن عمير الغلبي. فخرجوا في سنة سبع عشرة، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور فلم يستتب مسيرهم، حتى دخلت سنة ثمان عشرة، وأمدّهم عمر بأهل الكوفة؛ فأمدّ سهيل بن عدىّ بعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأمدّ الأحنف بعلقمة ابن النضر، وبعبد الله بن أبي عقيل، وبربعىّ بن عامر، وبابن أمّ غزال. وأمدّ عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعي، وأمدّ الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق المازني. قال بعضهم: كان فتح السوس ورامهرمز وتوجيه الهرمزان إلى عمر من تستر في سنة عشرين. أخبار متفرقة وحجّ بالناس في هذه السنة - أعني سنة سبع عشرة - عمر بن الخطاب؛ وكان عامله على مكة عتّاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام من قد ذكرت أسماءهم قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقّاص، وعلى قضائها أبو قرّة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى الأشعري - وقد ذكرت فيما مضى الوقت الذي عزل فيه عنها، والوقت الذي ردّ فيه إليها أميرا. وعلى القضاء - فيما قيل - أبو مريم الحنفي. وقد ذكرت من كان على الجزيرة والموصل قبل. ثم دخلت سنة ثمان عشرة ذكر الأحداث التي كانت في سنة ثمان عشرة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة ثمان عشرة - أصابت الناس مجاعة شديدة ولزبة، وجدوب وقحوط؛ وذلك هو العام الذي يسمّى عام الرمادة. ذكر القحط وعام الرمادة حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: دخلت سنة ثمان عشرة، وفيها كان عام الرمادة وطاعون عمواس، فتفانى فيها الناس. وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثت عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت الرمادة سنة ثمان عشرة. قال: وكان في ذلك العام طاعون عمواس. كتب إلي السري يقول، حدثنا شعيب، عن سيف، عن الربيع وأبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، قالوا: وكتب أبو عبيدة إلى عمر: إنّ نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، منهم ضرار، وأبو جندل، فسألناهم فتأوّلوا، وقالوا: خيّرنا فاخترنا، قال: " فهل أنتم منتهون "! ولم يعزم علينا. فكتب إلى عمر: فذلك بيننا وبينهم، " فهل أنتم منتهون "؛ يعنى فانتهوا. وجمع الناس، فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلدة، ويضمّنوا الفسق من تأوّل عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل. فكتب عمر إلى أبى عبيدة أن ادعهم؛ فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث إليهم فسألهم على رءوس الناس، فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين ثمانين، وحدّ القوم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثنّ فيكم يا أهل الشام حادث؛ فحدثت الرمادة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن شبرمة عن الشعبىّ بمثله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: لما قدم على عمر كتاب أبى عبيدة في ضرار وأبى جندل، كتب إلى أبى عبيدة في ذلك، وأمره أن يدعو بهم على رءوس الناس فيسألهم: أحرام الخمر أم حلال؟ فإن قالوا: حرام، فاجلدهم ثمانين جلدة، واستتبهم، وإن قالوا: حلال، فاضرب أعناقهم. فدعّا بهم فسألهم، فقالوا: بل حرام، فجلدهم، فاستحيوا فلزموا البيوت. ووسوس أبو جندل، فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل قد وسوس، إلّا أن يأتيه الله على يديك بفرج، فاكتب إليه وذكّره، فكتب غليه عمر وذكّره، فكتب إليه: من عمر إلى أبى جندل " إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "، فتب وارفع رأسك، وابرز ولا تقنط، فأنّ الله عزّ وجلّ، يقول: " يا عبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعا إنّه هو الغفور الرحيم ". فلما قرأه عليه أبو عبيدة تطلّق وأسفر عنه. وكتب إلى الآخرين بمثل ذلك فبرزوا، وكتب إلى الناس: عليكم أنفسكم، ومن استوجب التغيير فغيّروا عليه، ولا تعيّروا أحدا فيفشو فيكم البلاء. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن عطاء نحوا منه، إلّا أنه لم يذكر أنه كتب إلى الناس ألا يعيّروهم، وقال: قالوا: جاشت الروم، دعونا نغزوهم، فأن قضى الله لنا الشهادة فذلك، وإلّا عمدت للذي يريد. فاستشهد ضرار بن الأزور في قوم، وبقى الآخرون فحدّوا. وقال أبو الزهراء القشيرىّ في ذلك: ألم تر أنّ الدهر يعثر بالفتى ** وليس على صرف المنون بقادر صبرت ولم أجزع وقد مات إخوتي ** ولست عن الصهباء يوما بصابر رماها أمير المؤمنين بحتفها ** فخلّانها يبكون حول المعاصر كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وأبى المجالد جراد بن عمرو وأبى عثمان يزيد بن أسيد الغسّانىّ، وأبى حارثة محرز العبشمىّ بإسنادهم، ومحمد بن عبد الله، عن كريب، قالوا: أصابت الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة بالمدينة وما حولها، فكانت تسفى إذا ريحت ترابا كالرماد، فسمّى ذلك العام عام الرمادة، فآلى عمر ألّا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى الناس من أوّل الحيا، فكان بذلك حتى أحيا الناس من أوّل الحيا، فقدمت السوق عكّة من سمن وطب من لبن؛ فاشتراهما غلام لعمر بأربعين، ثم أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد أبرّ الله يمينك، وعظّم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر أغليت بهما، فتصدّق بهما، فإني أكره أن آكل إسرافا. وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرعّية إذا لم يمسسنى ما مسّهم! كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف السلمىّ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كانت في آخر سنة سبع عشر وأول سنة ثمان عشر، وكانت الرمادة جوعا أصاب الناس بالمدينة وما حولها فأهلكهم حتّى جعلت الوحش تأوى إلى الأنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنّه لمقفر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن عبد الرحمن بن كعب، قال: كان الناس بذلك وعمر كالمحصورة عن أهل الأمصار؛ حتى أقبل بلال بن الحارث المزنىّ، فاستأذن عليه، فقال: أنا رسول رسول الله إليك؛ يقول لك رسول الله ﷺ: لقد عهدتك كيّسا، وما زلت على رجل؛ فما شأنك! فقال متى رأيت هذا؟ قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس: الصلاة جامعة! فصلّى بهم ركعتين؛ ثم قام فقال: أيّها الناس، أنشدكم الله، هل تعلمون منىّ أمرا غيره خير منه؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإنّ بلال بن الحارث يزعم ذيّة وذيّة؛ فقالوا: صدق بلال، فاستغث بالله وبالمسلمين، فبعث إليهم - وكان عمر عن ذلك محصورا - فقال عمر: الله أكبر! بلغ البلاء مدتّه فانكشف؛ ما أذن لقوم في الطلب إلّا وقد رفع عنهم البلاء؛ فكتب إلى أمراء الأمصار: أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم؛ وأخرج الناس إلى الاستسقاء، فخرج وخرج معه بالعباس ماشيا، فخطب فأوجز؛ ثم صلى، ثم جثا لركبتيه، وقال: اللهمّ إيّاك نعبد وإياك نستعين؛ اللهمّ اغفر لنا وارحمنا وارض عنّا. ثم انصرف، فما بلغوا المنزل راجعين حتى خاضوا الغدران. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّرين الفضيل، عن جبير بن صخر، عن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: قحط الناس زمان عمر عاما، فهزل المال، فقال أهل بيت من مزينة من أهل البادية لصاحبهم: قد بلغنا، فاذبح لنا شاة، قال: ليس فيهنّ شئ، فلم يزالوا به حتى ذبح لهم شاة، فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمّداه! فأرى فيما يرى النائم أنّ رسول الله ﷺ أتاه، فقال: أبشر بالحيا! ائت عمر فأقرئه منّى السلام، وقل له: إنّ عهدي بك وأنت وفي العهد، شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر! فجاء حتى أتى باب عمر؛ فقال لغلامه: استأذن لرسول الله ﷺ، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مسّا! قال: لا، قال: فأدخله، فدخل فأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس، وصعد المنبر، وقال: أنشدكم بالذي هداكم للإسلام؛ هل رأيتم مني شيئا تكرهونه! قالوا: اللهمّ لا، قالوا: ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن؛ فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء، فاستسق بنا، فنادى في الناس، فقام فخطب فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: اللهمّ عجزت عنّا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوّتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوّة إلا بك، اللهمّ فاسقنا، وأحى العباد والبلاد؟! كتب إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وجراد أبى المجالد وأبى عثمان وأبى حارثة، كلّهم عن رجاء - وزاد أبو عثمان وأبو حارثة: عن عبادة وخالد، عن عبد الرحمن بن غنم - قالوا: كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، ويستمدّهم، فكان أوّل من قدم عليه أبو عبيدة بن الجرّاح في أربعة آلاف راحلة من طعام، فولّاه قسمتها فيمن حول المدينة؛ فلمّا فرغ ورجع إليه أمر له بأربعة آلاف درهم، فقال: لا حاجة لي فيها يا أمير المؤمنين؛ إنما أردت الله وما قبله، فلا تدخل علىّ الدنيا، فقال: خذها فلا بأس بذلك إذ لم تطلبه، فأبى فقال: خذها فإنىّ قد وليت لرسول الله ﷺ مثل هذا، فقال لي مثل ما قلت لك، فقلت له كما قلت لي فأعطاني. فقبل أبو عبيدة وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأحيوا مع أوّل الحيا. وقالوا بإسنادهم: وجاء كتاب عمرو بن العاص جواب كتاب عمر في الاستغاثة: إن البحر الشامىّ حفر لمبعث رسول الله ﷺ حفيرا، فصبّ في بحر العرب، فسدّه الروم والقبط، فإن أحببت أن يقوم سعر الطعام بالمدينة كسعره بمصر، حفرت له نهرا وبنيت له قناطر. فكتب إليه عمر: أن افعل وعجّل ذلك؛ فقال له أهل مصر: خراجك زاج، وأميرك راض؛ وإن تمّ هذا انكسر الخراج. فكتب إلى عمر بذلك، وذكر أن فيه انكسار خراج مصر وخرابها. فكتب إليه عمر: اعمل فيه وعجّل، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها، فعالجه عمرو وهو بالقلزم، فكان سعر المدينة كسعر مصر، ولم يزد ذلك مصر إلّا رخاء، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها، حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان رضي الله عنه. فذلّوا وتقاصروا وخشعوا. قال أبو جعفر: وزعم الواقدي أن الرقة والرّها وحرّان فتحت في هذه السنة على يدي عياض بن غنم، وأن عين الوردة فتحت فيها على يدي عمير ابن سعد. وقد ذكرت قول من خالفه في ذلك فيما مضى، وزعم أن عمر رضي الله عنه حوّل المقام في هذه السنة في ذي الحجّة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت قبل ذلك. وقال: مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا. قال أبو جعفر: وقال بعضهم: وفي هذها لسنة استقضى عمر شريح ابن الحارث الكندي على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي. قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. وكانت ولاته في هذه السنة على الأمصار الولاة الذين كانوا عليها في سنة سبع عشرة. ثم دخلت سنة تسع عشرة ذكر الأحداث التي كانت في سنة تسع عشرة قال أبو جعفر: قال أبو معشر - فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى عنه: إنّ فتح جلولاء كان في سنة تسع عشرة على يدي سعد، وكذلك قال الواقدي. وقال ابن إسحاق: كان فتح الجزيرة والرّهاء وحرّان ورأس العين ونصيبين فيسنة تسع عشرة. قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من خالفهم في ذلك قبل. وقال أبو معشر: كان فتح قيساريّة في هذه السنة - أعني سنة تسع عشرة - وأميرها معاوية بن أبى سفيان؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازىّ، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكالذي قال أبو معشر في ذلك قال الواقدي. وأما ابن إسحاق فإنه قال: كان فتح قيساريّة من فلسطين وهرب هرقل وفتح مصر في سنة عشرين؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه. وأما سيف بن عمر فإن قال: كان فتحها في سنة ستّ عشرة. قال: وكذلك فتح مصر. وقد مضى الخبر عن فتح قيساريّة قبل، وأنا ذاكر خبر مصر وفتحها بعد في قول؛ من قال: فتحت سنة عشرين، وفي قول من خالف ذلك. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة تسع عشرة - سالت حرّة ليل نارا - فيما زعم الواقدي - فأراد عمر الخروج إليها بالرّجال، ثمّ أمرهم بالصدقة فانطفأت. وزعم أيضا الواقدي أنّ المدائن وجلولاء فتحتا في هذه السنة، وقد مضى ذكر من خالفه في ذلك. وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. وكان عمّاله على الأمصار وقضاته فيها الولاة والقضاة الذين كانوا عليها في سنة ثمان عشرة. ثم دخلت سنة عشرين ذكر الخبر عما كان فيها من مغازي المسلمين وغير ذلك من أمورهم قال أبو جعفر: ففي هذه السنة فتحت مصر في قول ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فتحت مصر سنة عشرين. وكذلك قال أبو معشر؛ حدثني أحمد بن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، أنه قال: فتحت مصر سنة عشرين، وأميرها عمرو بن العاص. وحدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: فتحت إسكندريّة سنة خمس وعشرين. وقال الواقدي - فيما حدثت عن ابن سعد عنه: فتحت مصر والإسكندرية في سنة عشرين. وأما سيف فإنه زعم - فيما كتب به إلىّ السري، عن شعيب، عن سيف - أنها فتحت والإسكندرية في سنة ستّ عشرة. ذكر الخبر عن فتحها وفتح الإسكندرية قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل السير في السنة التي كان فيها فتح مصر والإسكندرية، ونذكر الآن سبب فتحهما، وعلى يدى من كان؛ على ما في ذلك من اختلاف بينهم أيضا؛ فأما ابن إسحاق فإنه قال في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، أنّ عمر رضي الله عنه حين فرغ من الشأم كلها كتب إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر في جنده، فخرج حتى فتح باب اليون في سنة عشرين. قال: وقد اختلف في فتح الإسكندريّة، فبعض الناس يزعم أنها فتحت في سنة خمس وعشرين، وعلى سنتين من خلافة عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وعليها عمرو بن العاص. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: وحدثني القاسم بن قزمان - رجل من أهل مصر - عن زياد بن جزء الزبيدىّ، أنه حدثه أنه كان في جند عمرو بن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية، قال: افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بن الخطاب في سنة إحدى وعشرين - أو سنة اثنتين وعشرين - قال: لما افتتحنا باب اليون تدنّينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية فقرية؛ حتى انتهينا إلى بلهيب - قرية من قرى الريف، يقال لها قرية الريش - وقد بلغت سبايانا المدينة ومكّة واليمن. قال: فلما انتهينا إلى بلهيب أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو ابن العاص: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم معشر العرب لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن تردّ علىّ ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت. قال: فبعث إليه عمرو بن العاص: إنّ ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنّي حتى أكتب إليه بالذي عرضت علىّ، فإن هو قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره. قال: فقال: نعم. قال: فكتب عمرو بن العاص إلى عمر ابن الخطاب - قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به - يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال: وفي أيدينا بقايا من سبيهم. ثم وقفنا ببلهيب؛ وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا؛ فقرأه علينا عمرو وفيه: أما بعد؛ فإنه جاءني كتابك تذكر أنّ صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترّد عليه ما أصيب من سبايا أرضه؛ ولعمري لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحبّ إلىّ من فئ يقسم، ثم كأنّه لم يكن؛ فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيّروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه؛ فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين؛ له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه، وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأما من تفرّق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكّة والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردّهم، ولا نحبّ أن نصالحه على أمر لا نفي له به. قال: فبعث عمرو إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين. قال: فقال: قد فعلت. قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرّجل ممن في أيدينا، ثمّ نخيّره بين الإسلام وبين النصرانيّة؛ فإذا اختار الإسلام كبّرنا تكبيرة هي أشدّ من تكبيرتنا حين تفتح القرية؛ قال: ثم نحوزه إلينا، وإذا اختار النصرانيّة نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا شديدا؛ حتى كأنّه رجل خرج منا إليهم. قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم، وقد أتى فيمن أتينا به بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن - قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد - قال: فوقفناه، فعرضنا عليه الإسلام والنصرانيّة - وأبوه وأمه وإخوته في النصارى - فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا، حتى شققوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى. ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، وإنّ هذه الكناسة التي ترى يابن أبى القاسم لكناسة بناحية الإسكندرية حولها أحجار كما ترى، ما زادت ولا نقصت، فمن زعم غير ذلك أنّ الإسكندرية وما حولها من القرى لم يكن لها جزية ولا لأهلها عهد؛ فقد والله كذب. قال القاسم: وإنما هاج هذا الحديث أن ملوك بنى أميّة كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنّ مصر إنما دخلت عنوة؛ وإنما هم عبدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا. قال أبو جعفر: وأما سيف؛ فإنه ذكر فيما كتب به إلىّ السري، يذكر أن شعيبا حدثه عنه، عن الربيع أبى سعيد، وعن أبي عثمان وأبى حارثة، قالوا: أقام عمر بإيلياء بعد ما صالح أهلها، ودخلها أياما، فأمضى عمرو ابن العاص إلى مصر وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في أثره الزبير ابن العوّام مددا له، وبعث أبا عبيدة إلى الرمادة، وأمره إن فتح الله عليه أن يرجع إلى عمله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، قال: حدثنا أبو عثمان عن خالد وعبادة، قالا: خرج عمرو بن العاص إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة؛ حتى انتهى إلى باب اليون، وأتبعه الزبير؛ فاجتمعا، فلقيهم هنالك أبو مريم جاثليق مصر ومعه الأسقف في أهل النيّات بعثه المقوقس لمنع بلادهم. فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجّلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد. فكفّوا أصحابهم، وأرسل إليهم عمرو: إني بارز فليبرز إلىّ أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضا، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلدة فاسمعا، إنّ الله عز وجل بعث محمّدا ﷺ بالحقّ وأمره به، وأمرنا به محمد ﷺ، وأدّى إلينا كلّ الذي أمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته وقد قضى الذي عليه، وتركنا على الواضحة؛ وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنّعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بك حفظا لرحمنا فيكم، وإنّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمّة إلى ذمّة. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيّين خيرا؛ فإنّ رسول الله ﷺ أوصانا بالقبطيّين خيرا، لأنّ لهم رحما وذمّة، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلّا الأنبياء، معروفة شريفة، كانت ابنة ملكنا، وكانت من أهل منف والملك فيهم، فأديل عليهم أهل عين شمس، فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام مرحبا به وأهلا، آمنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: إنّ مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظروا قومكما؛ وإلّا ناجزتكم، قالا: زدنا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا، فزادهم يوما، فرجعا إلى المقوقس فهمّ، فأبى أرطبون أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم، ولا نرجع إليهم، وقد بقيت أربعة أيام، فلا تصابون فيها بشئ إلّا رجونا أن يكون له أمان. فلم يفجأ عمرا والزبير إلّا البيات من فرقب، وعمرو على عدّة، فلقوه فقتل ومن معه، ثم ركبوا أكساءهم، وقصد عمرو والزبير لعين الشمس، وبها جمعهم، وبعث إلى الفرّما أبرهة بن الصباح، فنزل عليها، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندريّة، فنزل عليها، فقال كلّ واحد منهما لأهل مدينته: إن تنزلوا فلكم الأمان، فقالوا: إنّ الإسكندر قال: إني أبني مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنيّة - أو لأبنينّ مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنية - فبقيت بهجتها. وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا: إنّ الفرما قال: إني أبني مدينة عن الله غنية، وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها. وكان الإسكندر والفرما أخوين. قال أبو جعفر: قال الكلبىّ: كان الإسكندر والفرما أخوين، ثم حدث بمثل ذلك، فنسبتا إليهما، فالفرما ينهدم فيها كل يوم شئ، وخلقت مرآتها، وبقيت جدّة الإسكندرية. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبى عثمان، قالا: لما نزل عمرو على القوم بعين شمس؛ وكان الملك بين القبط والنّوب، ونزل معه الزبير عليها. قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فلّوا كسرى وقيصر، وغلبوهم على بلادهم! صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم، ولا تعرّضنا لهم - وذلك في اليوم الرابع - فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسّوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين؛ فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة؛ حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذ عنوة مجرى ما صالح عليه؛ فصاروا ذمّة، وكان صلحهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملّتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم، وبرّهم وبحرهم؛ لا يدخل عليهم شئ من ذلك ولا ينقص، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف، وعليهم ما جنى لصوتهم، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزاء بقدرهم، وذمّتنا ممّن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنّوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا. عليهم ما عليهم أثلاثًا في كلّ ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمّته وذمّة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألّا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه. وكتب وردان وحضر. فدخل في ذلك أهل مصر كلّهم، وقبلوا الصلح، واجتمعت الخيول فمصّر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلّما عمرًا في السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فقال: أولهم عهد وعقد؟ ألم نحالفكما ويغار علينا من يومكما! وطردهما، فرجعا وهما يقولان: كلّ شئ أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففي ذمّة منكم، فقال لهما: أتغيرون علينا وهم في ذمة؟ قالا: نعم، وقسم عمرو ذلك السبى على الناس، وتوزّعوه، ووقع في بلدان العرب. وقدم البشير على عمر بعد بالأخماس، وبعد الوفود فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مرّوا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون! من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم فأصابه منكم شئ من أهل القرى فله الأمان في الأيام الخمسة حتى تنصرم، وبعث في الآفاق حتى ردّ ذلك السبى الذي سبوا ممن لم يقاتل في الأيام الخمسة إلّا من قاتل بعد، فترادّوهم إلّا ما كان من ذلك الضرب، وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمرًا أنهم يقولون: ما أرثّ العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم! فخاف أن يستثيرهم ذلك من أمرهم، فأمر بجزر فذبحت، فطبخت بالماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا، وأعلموا أصحابهم، وجلس وأذّن لأهل مصر، وجئ باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين؛ فأكلوا أكلًا عربيًا، انتشلوا وحسوا وهم في العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعًا وجرأة، وبعث في أمراء الجنود في الحضور بأصحابهم من الغد؛ وأمرهم أن يجيئوا في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ففعلوا، وأذن لأهل مصر؛ فرأوا شيئًا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوّام بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا، وقالوا: كدنا. وبعث إليهم أن تسلّحوا للعرض غدًا، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم. ثم قال: إني قد علمت أنكم رأيتم في أنفسكم أنكم في شئ حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، وكيف كانت في أرضهم، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم في اليوم الثاني، فأحببت أن تعلموا أنّ من رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرّقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عمر، فقال لجلسائه: والله إن حربه لليّنة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره؛ إنّ عمرًا لعضّ. ثم أمّره عليها وقام بها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سعيد الربيع ابن النعمان، عن عمرو بن شعيب، قال: لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس، واقتتلت خيلاهما، جعل المسلمون يجولون بعد البعد. فدمّرهم عمرو، فقال رجل من أهل اليمن: إنّا لم نخلق من حجارة ولا حديد! فقال: اسكت؛ فإنما أنت كلب، قال: فأنت أمير الكلاب، قال: فلما جعل ذلك يتواصل نادى عمرو: أين أصحاب رسول الله ﷺ؟ فحضر من شهدها من أصحاب رسول الله ﷺ، فقال: تقدّموا، فبكم ينصر الله المسلمين. فتقدّموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة، ففتحا الله على المسلمين، وظفروا أحسن الظفر. وافتتحت مصر في ربيع الأول سنة ستّ عشرة، وقام فيها ملك الإسلام على رجل، وجعل يفيض على الأمم والملوك؛ فكان أهل مصر يتدفّقون على الأجلّ، وأهل مكران على راسل وداهر، وأهل سجستان على الشاه وذويه، وأهل خراسان والباب على خاقان، وخاقان ومن دونهما من الأمم، فكفكفهم عمر إبقاء على أهل الإسلام، ولو خلّى سربهم لبلغوا كلّ منهل. حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، أنّ المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمى، فسمّوا رماة الحدق، فلمّا ولّى عبد الله بن سعد بن أبى سرح مصر، ولّاه إياها عثمان بن عفان رضي الله عنه، صالحهم على هديّة عدّة رءوس منهم، يؤدّونهم إلى المسلمين في كلّ سنة، ويهدي إليهم المسلمون في كلّ سنة طعامًا مسمّى وكسوة من نحو ذلك. قال علىّ: قال الوليد: قالابن لهيعة: وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من الولاة والأمراء، وأقرّه عمر بن عبد العزيز نظرًا منه للمسلمين، وإبقاء عليهم. قال سيف: ولمّا كان ذو القعدة من سنة ستّ عشرة، وضع عمر رضي الله عنه مسالح مصر على السواحل كلها، وكان داعية ذلك أنّ هرقل أغزى مصر والشأم في البحر، ونهد لأهل حمص بنفسه، وذلك لثلاث سنين وستة أشهر من إمارة عمر رضي الله عنه. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة عشرين - غزا ارض الروم أبو بحريّة الكندىّ عبد الله بن قيس؛ وهو أوّل من دخلها - فيما قيل. وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسىّ، فسلم وغنم. قال: وقال الواقدي: وفي هذه السنة عزل قدامة بن مظعون عن البحرين، وحدّه في شرب الخمر. وفيها استعمل عمر أبا هريرة على البحرين واليمامة. قال: وفيها تزوّج عمر فاطمة بنت الوليد أمّ عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام. قال: وفيها توفي بلال بن رباح رضي الله عنه، ودفن في مقبرة دمشق. وفيها عزل عمر سعدًا عن الكوفة لشكايتهم إياه، وقالوا: لا يحسن يصلّى. وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود منها؛ وبعث أبا حبيبة إلى فدك فأقام لهم نصف، فأعطاهم؛ ومضى إلى وادي القرى فقسمها. وفيها أجلي يهود نجران إلى الكوفة - فيما زعم الواقدي. قال الواقدي: وفي هذه السنة - أعني سنة عشرين - دوّن عمر رضي الله عنه الدواوين. قال أبو جعفر: قد ذكرنا قول من خالفه. وفيها بعث عمر رضي الله عنه علقمة بن مجزّز المدلجىّ إلى الحبشة في البحر؛ وذلك أنّ الحبشة كانت تطرّفت - فيما ذكر - طرفًا من أطراف الإسلام؛ فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه ألّا يحمل في البحر أحدًا أبدًا. وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدثني أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت غزوة الأساودة في البحر سنة إحدى وثلاثين. قال الواقدي: وفيها مات أسيد بن الحضير في شعبان. وفيها ماتت زينب بنت جحش. وحجّ في هذه السنة عمر رضي الله عنه. وكانت عماله في هذه السنة على الأمصار عماله عليها في السنة التي قبلها، إلّا من ذكرت أنه عزله واستبدل به غيره، وكذلك قضاته فيها كانوا القضاة الذين كانوا في السنة التي قبلها. ثم دخلت سنة إحدى وعشرين قال أبو جعفر: وفيها كانت وقعة نهاوند في قول ابن إسحاق؛ حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عنه. وكذلك قال أبو معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكذلك قال الواقدي. وأمّا سيف بن عمر فإنه قال: كانت وقعة نهاوند في سنة ثمان عشرة في سنة ستّ من إمارة عمر؛ كتب إلىّ بذلك السري، عن شعيب، عن سيف. ذكر الخبر عن وقعة المسلمين والفرس بنهاوند وكان ابتداء ذلك - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال - كان من حديث نهاوند أن النعمان بن مقرّن كان عاملًا على كسكر؛ فكتب إلى عمر رضي الله عنه يخبره أنّ سعد ابن وقّاص استعمله على جباية الخراج، وقد أحببت الجهاد ورغبت فيه. فكتب عمر إلى سعد: إنّ النعمان كتب إلىّ يذكر أنّك استعملته على جباية الخراج، وأنه قد كره ذلك، ورغب في الجهاد، فابعث به إلى أهمّ وجوهك؛ إلى نهاوند. قال: وقد اجتمعت بنهاوند الأعاجم، عليهم ذو الحاجب - رجل من الأعاجم - فكتب عمر إلى النعمان بن مقرّن: رسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرّن، سلام عليك؛ فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أمّا بعد؛ فإنه قد بلغني أنّ جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند؛ فإذا أتاك كتابي هذا فسر بأمر الله، وبعون الله، وبنصر الله، بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذيهم، ولا تمنعهم حقّهم فتكفّرهم؛ ولا تدخلنّهم غيضة، فإنّ رجلًا من المسلمين أحبّ إلىّ من مائة ألف دينار. والسلام عليك. فسار النعمان إليه ومعه وجوه أصحاب النبي ﷺ؛ منهم حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، وجرير بن عبد الله البجلىّ، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن معد يكرب الزبيدىّ، وطليحة بن خويلد الأسدىّ، وقيس بن مكشوح المرادي. فلما انتهى النعمان بن مقرّن في جنده إلى نهاوند، طرحوا له حسك الحديد، فبعث عيونًا، فساروا لا يعلمون الحسك، فزجر بعضهم فرسه؛ وقد دخلت في يده حسكة، فلم يبرح، فنزل، فنظر في يده فإذا في حافره حسكة، فأقبل بها، وأخبر النعمان الخبر، فقال النعمان للناس: ما ترون؟ فقالوا: انتقل من منزلك هذا حتى يروا أنك هارب منهم، فيخرجوا في طلبك؛ فانتقل النعمان من منزله ذلك، وكنست الأعاجم الحسك، ثم خرجوا في طلبه، وعطف عليهم النعمان، فضرب عسكره، ثم عبّى كتائبه، وخطب الناس فقال: إن أصبت فعليكم حذيفة بن اليمان، وإن أصيب فعليكم جرير بن عبد الله، وإن أصيب جرير بن عبد الله فعليكم قيس بن مكشوح؛ فوجد المغيرة بن شعبة في نفسه إذ لم يستخلفه، فأتاه، فقال له: ما تريد أن تصنع؟ فقال: إذا أظهرت قاتلتهم، لأني رأيت رسول الله ﷺ يستحبّ ذلك؛ فقال المغيرة: لو كنت بمنزلتك باكرتهم القتال، قال له النعمان: ربما باكرت القتال؛ ثم لم يسوّد الله وجهك. وذلك يوم الجمعة. فقال النعمان: نصلّى إن شاء الله، ثم نلقى عدوّنا دبر الصلاة، فلما تصافّوا قال النعمان للناس: إنّي مكبّر ثلاثًا؛ فإذا كبّرت الأولى فشدّ رجل شسعه، وأصلح من شأنه؛ فإذا كبّرت الثانية، فشدّ رجل إزاره، وتهيّأ لوجه حملته؛ فإذا كبّرت الثالثة فاحملوا عليهم؛ فإني حامل. وخرجت الأعاجم قد شدّوا أنفسهم بالسلاسل لئلا يفرّوا، وحمل عليهم المسلمون فقاتلوهم، فرمى النعمان بنشّابة فقتل رحمه الله، فلفّه أخوه سويد بن مقرّن في ثوبه، وكتم قتله حتى فتح الله عليهم، ثم دفع الراية إلى حذيفة بن اليمان، وقتل الله ذا الحاجب، وافتتحت نهاوند، فلم يكن للأعاجم بعد ذلك جماعة. قال أبو جعفر: وقد كان - فيما ذكر لي - بعث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع، مولى ثقيف - وكان رجلًا كاتبًا حاسبًا - فقال: الحق بهذا الجيش فكن فيهم؛ فإن فتح الله عليهم فاقسم على المسلمين فيئهم، وخذ خمس الله وخمس رسوله؛ وإن هذا الجيش أصيب، فاذهب في سواد الأرض، فبطن الأرض خير من ظهرها. قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين نهاوند، أصابوا غنائم عظامًا، فوالله إني لأقسم بين الناس، إذ جاءني علج من أهلها فقال: أتؤمنني على نفسي وأهلي وأهل بيتي؛ على أن أدلك على كنوز النخيرجان - وهي كنوز آل كسرى - تكون لك ولصاحبك، لا يشركك فيها أحد؟ قال: قلت: نعم، قال: فابعث معي من أدلّه عليها، فبعثت معه، فأتى بسفطين عظيمين ليس فيهما إلّا اللؤلؤ والزّبرجد والياقوت؛ فلما فرغت من قسمي بين الناس احتملتهما معي؛ ث قدمت على عمر بن الخطاب؛ فقال: ما وراءك يا سائب؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين؛ فتح الله عليك بأعظم الفتح، واستشهد النعمان ابن مقرّن رحمه الله. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال: ثم بكى فنشج، حتى إنّي لأنظر إلى فروع منكبيه من فوق كتده. قال: فلما رأيت ما لقي قلت: والله يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده من رجل يعرف وجهه. فقال المستضعفون من المسلمين: لكنّ الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنعون بمعرفة عمر بن أمّ عمر! ثم قام ليدخل، فقلت: إنّ معي مالًا عظيمًا قد جئت به، ثم أخبرته خبر السفطين، قال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما، والحق بجندك. قال: فأدخلتهما بيت المال، وخرجت سريعًا إلى الكوفة. قال: وبات تلك الليلة التي خرجت فيها، فلم أصبح بعث في أثري رسولًا، فوالله ما أدركني حتى دخلت الكوفة، فأنخت بعيري، وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري، فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك، فلم أقدر عليك إلّا الآن. قال: قلت: ويلك! ماذا ولماذا؟ قال: لا أدري والله، قال: فركبت معه حتى قدمت عليه، فلما رآني قال: مالي ولابن أمّ السائب! بل ما لابن السائب ومالي! قال: قلت: وماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! والله ما هو إلّا أن نمت في الليلة التي خرجت فيها، فباتت ملائكة ربي تسحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارًا، يقولون: لنكوينّك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين؛ فخذها عنّي لا أبالك والحق بهما، فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما حتى وضعتهما في مسجد الكوفة، وغشيني التجار، فابتاعهما منّي عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف؛ ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم، فباعهما بأربعة آلاف ألف؛ فما زال أكثر أهل الكوفة مالًا بعد. حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن زياد بن حدير، قال: حدثني أبي؛ أنّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، قال للهرمزان حين آمنه: لا بأس، انصح لي، قال: نعم، قال: إنّ فارس اليوم رأس وجناحان؛ قال: وأين الرأس؟ قال: بنهاوند مع بندار؛ فإنّ معه أساورة كسرى وأهل إصبهان، قال: وأين الجناحان؟ فذكر مكانًا نسيته، قال: فاقطع الجناحين يهن الرأس. فقال عمر: كذبت يا عدوّ الله! بل أعمد إلى الرأس فأقطعه، فإذا قطعه الله لم يعص عليه الجناحان. قال: فأراد أن يسير إليه بنفسه، فقالوا: نذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تسير بنفسك إلى حلبة العجم؛ فإن أصبت لم يكن للمسلمين نظام؛ ولكن ابعث الجنود؛ فبعث أهل المدينة فيهم عبد الله بن عمرو بن الخطّاب، وفيهم المهاجرون والأنصار؛ وكتب إلى أبي موسى الأشعرىّ أن سر بأهل البصرة، وكتب إلى حذيفة بن اليمان أن سر بأهل الكوفة حتى تجتمعوا جميعًا بنهاوند؛ وكتب: إذا التقيتم فأميركم النعمان بن مقرّن المزني؛ فلما اجتمعوا بنهاوند، أرسل بندار العلج إليهم: أن أرسلوا إلينا رجلا نكلّمه؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة. قال أبي: كأني أنظر إليه؛ رجلا طويل الشعر أعور، فأرسلوه إليه، فلمّا جاء سألناه، فقال: وجدته قد استشار أصحابه؛ فقال: بأي شئ نأذن لهذا العربي؟ بشارتنا وبهجتنا وملكنا، أو نتقشف له فيما قبلنا حتى يزهد؟ فقالوا: لا، بل بأفضل ما يكون من الشارة والعدّة، فتهيّئوا بها، فلما أتيناهم كادت الحراب والنيازك يلتمع منها البصر، فإذا هم على رأسه مثل الشياطين، وإذا هو على سرير من ذهب على رأسه التاج. قال: فمضيت كما أنا ونكّست، قال: فدفعت ونهنهت، فقلت: الرسل لا يفعل بهم هذا، فقالوا: إنما أنت كلب، فقلت: معاذ الله! لأنا أشرف في قومي من هذا في قومه؛ فانتهروني، وقالوا: اجلس؛ فأجلسوني. قال - وترجم له قوله: إنكم معشر العرب أبعد الناس قذرًا، وأبعده دارًا؛ وما منعني أن آمر هؤلاء الأساورة حولي أن ينتظموكم بالنشّاب إلّا تنجّسًا لجيفكم؛ فإنكم أرجاس؛ فإن تذهبوا نخلّ عنكم، وإن تأتوا نركم مصارعكم؛ قال: فحمدت الله، وأثنيت عليه، فقلت: والله ما أخطأت من صفتنا شيئًا، ولا من نعتنا، إن كنا لأبعد الناس دارًا، وأشدّ الناس جوعًا، وأشقى الناس شقاء، وأبعد الناس من كلّ خير، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسوله ﷺ؛ فوعدنا النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة؛ فوالله ما زلنا نتعرّف من ربنا منذ جاءنا رسوله الفتح والنصر؛ حتى أتيناكم؛ وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء أبدًا حتى نغلبكم على ما في أيديكم؛ أو نقتل بأرضكم. فقال: أما والله إنّ الأعور قد صدقكم الذي في نفسه. قال: فقمت وقد والله أرعبت العلج جهدي. قال: فأرسل إلينا العلج: إمّا أن تعبروا ألينا بنهاوند؛ وإمّا أن نعبر إليكم. فقال النعمان: اعبروا، قال أبى: فلم أر والله مثل ذلك اليوم، إنهم يجيئون كأنهم جبال حديد؛ قد تواثقوا ألّا يفرّوا من العرب، وقد قرن بعضهم بعضًا؛ سبعة في قران، وألقوا حسك الحديد خلفهم، وقالوا: من فرّ منّا عقره حسك الحديد. فقال المغيرة حين رأى كثرتهم: لم أر كاليوم فشلًا، إنّ عدوّنا يتركون يتأهّبون لا يعجلون، أما والله لو أنّ الأمر لي لقد أعجلتهم - وكان النعمان بن مقرّن رجلًا ليّنًا - فقال له: فالله عز وجل يشهدك أمثالها فلا يحزنك ولا يعيبك موقفك، إنه والله ما منعني من أن أناجزهم إلّا شئ شهدته من رسول الله ﷺ؛ إنّ رسول الله كان إذا غزا فلم يقاتل أوّل النهار لم يعجل حتى تحضر الصلاة، وتهبّ الأرواح، ويطيب القتال؛ فما منعني إلّا ذلك. اللهمّ إني اسألك أن تقرّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإسلام، وذلّ يذلّ به الكفّار، ثم اقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة، أمّنوا يرحمكم الله! فأمّنّا وبكينا. ثم قال: إني هاز لوائي فتيسّروا للسلاح، ثم هاز الثانية، فكونوا متأهّبين لقتال عدوّكم، فإذا هززت الثالثة فليحمل كلّ قوم على من يليهم من عدوّهم على بركة الله. قال: وجاءوا بحسك الحديد. قال: فجعل يلبث حتّى إذا حضرت الصلاة وهبّت الأرواح كبّر وكبّرنا، ثم قال: أرجو أن يستجيب الله لي؛ ويفتح علي، ثم هزّ اللواء، فتيسّرنا للقتال، ثم هزّه الثانية فكنّا بإزاء العدوّ، ثم هزّه الثالثة. قال: فكبّر وكبّر المسلمون، وقالوا: فتحًا يعزّ الله به الإسلام وأهله، ثم قال النعمان: إن أصبت فعلى الناس حذيفة بن اليمان؛ وإن أصيب حذيفة ففلان؛ وإن أصيب فلان ففلان؛ حتى عدّ سبعة آخرهم المغيرة، ثم هزّ اللواء الثالثة، فحمل كلّ إنسان على من يليه من العدوّ. قال: فوالله ما علمت من المسلمين أحدًا يومئذ يريد أن يرجع إلى أهله، حتى يقتل أو يظفر، فحملنا حملة واحدة، وثبتوا لنا، فما كنّا نسمع إلّا وقع الحديد على الحديد، حتى أصيب المسلمون بمصائب عظيمة، فلمّا رأوا صبرنا وأنّا لا نبرح العرصة انهزموا، فجعل يقع الواحد فيقع عليه سبعة؛ بعضهم على بعض في قياد، فيقتلون جميعًا، وجعل يعقرهم حسك الحديد الذي وضعوا خلفهم. فقال النعمان رضي الله عنه: قدّموا اللواء، فجعلنا نقدّم اللواء، ونقتلهم ونهزمهم. فلما رأى أن الله قد استجاب له ورأى الفتح، جاءته نشّابه فأصابت خاصرته، فقتلته. قال: فجاء أخوه معقل فسجّى عليه ثوبًا، وأخذ اللواء فقاتل، ثم قال: تقدّموا نقتلهم ونهزمهم؛ فلما اجتمع الناس قالوا: أين أميرنا؟ قال معقل: هذا أميركم، قد أقرّ الله عينه بالفتح؛ وختم له بالشهادة. قال: فبايع الناس حذيفة وعمر بالمدينة يستنصر له، ويدعو له مثل الحبلى. قال: وكتب إلى عمر بالفتح مع رجل من المسلمين؛ فلما أتاه قال له: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعزّ الله به الإسلام وأهله، وأذلّ به الكفر وأهله. قال: فحمد الله عز وجل، ثم قال: النعمان بعثك؟ قال: احتسب النعمان يا أمير المؤمنين، قال: فبكى عمر واسترجع. قال: ومن ويحك! قال: فلان وفلان؛ حتى عدّ له ناسًا كثيرًا، ثم قال: وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر وهو يبكي: لا يضرّهم ألّا يعرفهم عمر؛ ولكنّ الله يعرفهم. وأما سيف، فإنه قال -فيما كتب إلي السري يذكر أن شعيبًا حدثه عنه؛ وعن محمد والمهلب وطلحة وعمر وسعيد- إنّ الذي هاج أمر نهاوند أنّ أهل البصرة لما أشجوا الهرمزان، وأعجلوا أهل فارس عن مصاب جند العلاء، ووطئوا أهل فارس، كاتبوا ملكهم؛ وهو يومئذ بمرو، فحرّكوه، فكاتب وتكاتبوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأجمعوا أن يوافوا نهاوند، ويبرموا فيها أمورهم، فتوافى إلى نهاوند أوائلهم. وبلغ سعد الخبر عن قباذ صاحب حلوان، فكتب إلى عمر بذلك، فنزل بسعد أقوام، وألبوا عليه فيما بين تراسل القوم واجتماعهم إلى نهاوند، ولم يشغلهم ما دهم المسلمين من ذلك، وكان ممن نهض الجراح بن سنان الأسدي في نفر، فقال عمر: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر، وقد استعد لكم من استعدوا، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم. فبعث عمر محمد بن مسلمة، والناس في الاستعداد للأعاجم والأعاجم في الاجتماع -وكان محمد بن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شكي زمان عمر- فقدم محمد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شأنهم إذ ذاك، وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيرا ولا نشتهي به بدلا، ولا نقول فيه ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بن سنان وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءا ولا يسوغ لهم، و يتعمدون ترك الثناء حتى انتهوا إلى بني عبس، فقال محمد: أنشد بالله رجلا يعلم حقا إلا قال! قال أسامة بن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. فقال سعد: اللهم إن قالها كاذبا ورئاء وسمعة فأعم بصره وأكثر عياله وعرضه لمضلات الفتن. فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها فإذا عثر عليه، قال: دعوةُ سعد الرجل المبارك. ثم أقبل على الدعاء على النفر فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا وكذبا فأجهد بلاءهم، فجهد بلاؤهم، فقطح الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن علي ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصه بالحجارة، وقُتل أربد بالوجء وبنعال السيوف. وقال سعد: إني لأول رجل أهرق دما من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله ﷺ بين أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أن أصلي وأن الصيد يلهيني. وخرج محمد به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد، ويحك، كيف تصلي، فقال: أطيل الأوليين، وأحذف الأخريين، فقال: هكذا الظن بك. ثم قال: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بينا. ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ قال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقره واستعمله، فكان سبب نهاوند وبدء مشورتها وبعوثها في زمان سعد، وأما الوقعة ففي زمان عبد الله. قالوا: وكان من حديثهم أنهم نفروا بكتاب يزدجرد الملك، فتوافوا إلى نهاوند، فتوافق إليها من بين خراسان إلى حلوان، ومن بين الباب إلى حلوان، وبين سجستان إلى حلوان، فاجتمعت حلبة فارس والفَهْلوج أهل الجبال من بين الباب إلى حلوان ثلاثين ألف مقاتل، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألف مقاتل، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألف مقاتل، واجتمعوا على الفيرُزان، وإليه كانوا توافوا وشاركهم موسى. عن حمزة بن المغيرة بن شعبة عن أبي طعمة الثقفي-وكان قد أدرك ذلك- قال: ثم إنهم قالوا إن محمد الذي جاء العرب بالدين لم يغرض غرضنا، ثم ملكهم أبو بكر من بعده فلم يغرض غرض فارس إلا في غارة تعرض لهم فيها، وإلا فيما يلي بلادهم من السواد. ثم ملك عمر من بعده، فطال ملكه وعرض، حتى تناولكم وانتقصكم السواد والأهواز، وأوطأها، ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس والمملكة في عقر دارهم، وهو آتيكم إن لم تأتوه، فقد أُخبر بيت مملكتكم، واقتحم بلاد ملككم، وليس بمنتهٍ حتى تخرجوا من في بلادكم من جنوده، وتقلعوا هذين المصرين، ثم تشغلوه في بلاده وقراره. وتعاهدوا وتعاقدوا، وكتبوا بينهم على ذلك كتابا، وتمالئوا عليه. وبلغ الخبر سعدا وقد استخلف عبد الله بن عبد الله بن عِتبان. ولما شخص لقي عمر بالخبر مشافهة، وقد كان كتب إلى عمر بذلك وقال إن أهل الكوفة يستأذنوك في الانسياح قبل أن يبادروهم الشدة - وقد كان عمر منعهم من الانسياح في الجبل. وكتب إليه أيضا عبد الله وغيره بأنه قد تجمع منهم خمسون ومائة ألف مقاتل، فإن جاءونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلكم؛ وكان الرسول بذلك قَريب بن ظَفَر العبدي. ثم خرج سعد بعده فوافى مشورة عمر، فلما قدم الرسول بالكتاب إلى عمر بالخبر فرآه قال: ما اسمك؟ قال: قريب، فال: ابن من؟ قال: ابن ظفر، فتفاءل إلى ذلك وقال: ظَفَر قريب إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله! ونودي في الناس: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس، ووافاه سعد، فتفاءل إلى سعد بن مالك، وقام على المنبر خطيبا، فأخبر الناس الخبر واستشارهم، وقال: هذا يوم له ما بعده من الأيام، ألا وإني قد هممت بأمر وإني عارضه عليكم فاسمعوه، ثم أخبروني وأوجزوا، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، ولا تكثروا ولا تطيلوا، فتفشغ بكم الأمور، ويلتوي عليكم الرأي - أفمن الرأي أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه، حتى أنزل منزلا واسطا بين هذين المصرين، فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم أن أضربهم عليهم في بلادهم، وليتنازعوا ملكهم. فقام عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، في رجال من أهل الرأي من أصحاب رسول الله ﷺ، فتكلموا كلاما فقالوا: لا نرى ذلك، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأثرك، وقالوا: بإزائهم وجوه العرب وفرسانهم وأعلامهم، ومن قد فض جموعهم، وقتل ملوكهم، وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذه، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك، فأذن لهم واندب إليهم وادع لهم. وكان الذي ينتقد له الرأيَ إذا عرض عليه العباس رضي الله عنه. كتب إلي السري، عن شعبة، عن سيف، عن حمزة عن أبي طُعمة، قال: فقام علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأي، وفهموا ما كُتب به إليك، وإن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خِذلانه لكثرة ولا قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعز وأيده بالملائكة، حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود من الله، والله منجزٌ وعده وناصر جنده، ومكانك منهم مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإن انحل يفرق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهي كثير عزيز بالإسلام، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، ومن لم يحفل بمن هو أجمع وأحد وأجد من هؤلاء فليأتهم الثلثان وليقم الثلث، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم. فسر عمر بحسن رأيهم وأعجبه ذلك منهم. وقام سعد فقال: يا أمير المؤمنين، خفض عليك، فإنهم إنما جمعوا لنقمة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي بكر الهذلي، قال: لما أخبرهم عمر الخبر واستشارهم، وقال: أوجزوا في القول، ولا تطيلوا فتفشغ بكم الأمور، واعلموا أن هذا يوم له ما بعده من الأيام، تكلموا، فقام طلحة بن عبيد الله -وكان من خطباء أصحاب رسول الله ﷺ- فتشهد ثم قال: أما بعد يا أمير المومنين، فقد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلايا، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك، وأنت ورأيك، لا ننبو في يديك، ولا نكل عليك، إليك هذا الأمر، فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، ووفِّدنا نفِد، وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واختبرت، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار. ثم جلس. فعاد عمر فقال: إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا. فقام عثمان بن عفان، فتشهد وقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشأم فيسيروا من شأمهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأمر هذين الحرمين إلى المصرين الكوفة والبصرة، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت بمن معك وعندك قل في نفسك ما قد تكاثر من عدد القوم، وكنت أعز عزا وأكثر، يا أمير المؤمنين أنك لا تستبقي من نفسك بعد العرب باقية ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ عنها بحريز، إن هذا ليوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأقرانك ولا تغب عنه. ثم جلس. فعاد عمر فقال: إن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، فتكلموا، فقام علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المزمنين، فإنك إن أشخصت أهل الشأم من شأمهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات؛ أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق، فلتقم فرقة لهم في حرمهم وذراريهم، ولتقم فرقة في أهل عهدهم، لئلا ينتقضوا عليهم، ولتسر فرقة إلى إخوانهم في الكوفة مددا لهم، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا قالوا: هذا أمير العرب، وأصل العرب، فكان ذلك أشد لكلَبهم، وألّبتهم على نفسك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيها مضى بالكثرة، ولكنا كنا نقاتل بالنصر. فقال عمر: أجل والله، لئن شخصت من البلدة لتنقضن علي الأرض من أطرافها وأكنافها، ولئن نظرت إلي الأعاجم لا يفارقُن العرصة، وليمدنهم من لم يمدهم، وليقولن: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه اقتطعتم أصل العرب، فأشيروا علي برجل أُوَلِّهِ ذلك الثغرَ غدا. قالوا: أنت أفضل رأيا وأحسن مقدرة، قال: أشيروا علي به، واجعلوه عراقيا. قالوا: يا أمير المزمنين، أنت أعلم بأهل العراق، ونجدك قد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم، فقال: أما والله لأولين أمرهم رجلا ليكونن لأول الأسنّة إذا لقيها غدا، فقيل: من يا أمير المؤمنين؟ فقال: النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها - والنعمان يومئذ بالبصرة معه قواد من قواد أهل الكوفة أمدهم بهم عمر عند انتقال الهرمزان، فافتتحوا رامَهُرْمُز وإيذَج، وأعانوهم على تُسْتَر وجُنْدَيْ سابور والسُّوس. فكتب إليه عمر مع زِرّ بن كُليب والمقترب الأسود بن ربيعة بالخبر، وأني قد وليتك حربهم، فسر من وجهك ذلك حتى تأتي ماه، فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع لك جنودك فسر إلى الفَيرُزان ومن تحمل إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا الله، وأكثروا من قول: لا حول ولا قرة إلا بالله. وروي عن أبي وائل في سبب توجيه عمر النعمان بن مقرن إلى نهاوند ما حدثني به محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي، قال: حدثنا أمية بن خالد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو وائل: كان النعمان بن مقرن على كَسْكَر، فكتب إلى عمر: مثلي ومثل كسكر كمثل رجل شاب وإلى جنبه مومسة تلوّنُ له وتَعَطّر، فأنشدك الله لما عزلتني عن كسكر وبعثتني إلى جيش من جيوش المسلمين! قال: فكتب إليه عمر: أن ائت الناس بنهاوند، فأنت عليهم، قال: فالتقوا، فكان أول قتيل، وأخذ الرأية أخوه سويد بن مقرن، ففتح الله على المسلمين، ولم يكن لهم -يعني للفرس- جماعة بعد يومئذ، فكان أهل كل مصر يغزون عدوهم في بلادهم. رجع الحديث إلى حديث سيف. وكتب -يعني عمر- إلى عبد الله بن عبد الله مع ربعي بن عامر، أن استنفر من أهل الكوفة مع النعمان كذا وكذا، فإني قد كتبت إليه بالتوجه من الأهواز إلى ماه، فليوافوه بها، وليسر بهم إلى نهاوند، وقد أمّرت عليهم حذيفة بن اليمان، حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان، فإن حدث لحذيفة حدث فعلى الناس نُعيم بن مقرن، ورُدَّ قريب بن ظفر ورد معه السائب بن الأقرع أمينا. وقال: إن فتح الله عليكم فاقسم ما أفاء الله عليهم بينهم، ولا تخدعني ولا ترفع إلي باطلا، وإن نكب القوم فلا تراني ولا أراك. فقدما إلى الكوفة بكتاب عمر بالاستحثاث، وكان أسرع أهل الكوفة إلى ذلك الروادف، ليبلوا في الدين، وليدركوا حظا، وخرج حذيفة بن اليمان بالناس ومعه نعيم حتى قدموا على النعمان بالطزر، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النُّسَير. وقد كتب عمر إلى سُلمى بن القيْن وحَرْملة بن مُريطة وزر بن كليب والمقترب الأسود بن ربيعة، وقواد فارس الذين كانوا بين فارس والأهواز، أن اشغلوا فارس عن إخوانكم، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمري. وبعث مجاشع بن مسعود السُّلَمي إلى الأهواز، وقال له: انصُل منها على ماه، فخرج حتى إذا كان بغُضَى شجر، أمره النعمان أن يقيم مكانه، فأقام بين غضى شجر ومَرْج القلعة، ونَصَل سُلْمى وحرملة وزر والمقترب، فكانوا في تخوم إصبهان وفارس، فقطعوا بذلك عن أهل نِهاوند أمداد فارس. ولما قدم أهل الكوفة على النعمان بالطزر جاءه كتاب عمر مع قريب: إن معك حدَّ العرب ورجالهم في الجاهلية، فأدخلهم دون من هو دونهم في العلم بالحرب، واستعن بهم، واشرب برأيهم، وسلْ طليحة وعَمرا وعَمرا ولا تولهم شيئا. فبعث من الطزر طليعة وعمرا وعمرا طليعة ليأتوه بالخبر، وتقدم إليهم ألا يَغِلُوا. فخرج طليحة بن خويلد وعمرو بن أبي سلمى العنزي وعمرو بن معديكرب الزبيدي، فلما ساروا يوما إلى الليل رجع عمرو بن أبي سلمى، فقالوا: ما رجعك؟ قال: كنت في أرض العجم، وقتلتْ أرضٌ جاهلها، وقتل أرضا عالمُها. ومضى طليحة وعمرو حتى إذا كان من آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوما وليلة، ولم نر شيئا، وخفت أن يؤخذ علينا الطريق. ونفذ طليحة ولم يحفل بهما. فقال الناس: ارتد الثانية، ومضى طُليحة حتى انتهى إلى نهاوند، وبين الطزر ونهاوند بضعة وعشرون فرسخا. فعلم علمَ القوم، واطلع على الأخبار، ثم رجع حتى إذا انتهى إلى الجمهور كبر الناس، فقال: ما شأن الناس؟ فأخبروه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربية ما كنت لأُجزِر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأتى النعمان فدخل عليه، فأخبروه الخبر، وأعلمه أنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، ولا أحد. فنادى عند ذلك النعمان بالرحيل، فأمرهم بالتعبية. وبعث إلى مجاشع بن مسعود أن يسوق الناس، وسار النعمان على تعبيته، وعلى مقدمته نُعيم بن مقرن، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجرَّدة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع، وقد توافى إليه أمداد المدينة، فيهم الغيرة وعبد الله، فانتهوا إلى الإسبيذَهان والقوم وقوف دون واي خُرْد على تعبيتهم وأميرهم الفيرزان، وعلى مجنبتيه الزردُق وبَهْمن جاذَوَيه الذي جعل مكان ذي الحاجب، وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها، وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس، وعلى خيولهم أنوشق. فلما رآهم النعمان كبّر وكبر الناس معه، فتزلزلت الأعاجم، فأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال، وبضرب الفسطاط، فضُرب وهو واقف، فابتدره أشراف أهل الكوفة وأعيانهم، فسبق إليه يومئذ عدة من أشراف أهل الكوفة، تسابقوا فبنوا له فسطاطا سابقوا أكفاءهم فسبقوهم، وهم أربعة عشر، منهم حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمرو، والمغيرة بن شعبة، وبشير بن الخصاصية، وحنظلة الكاتب بن الربيع، وابن الهوْبر، ورِبعي بن عامر، وعامر بن مطر، وجرير بن عبد الله الحميري، والأقرع بن عبد الله الحميري، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمذاني، ووائل بن حجر، فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء، وأنشب النعمان بعدما حط من الأثقال القتال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس، والحرب بينهم في ذاك سجال في سبع سنين من إمارة عمر، في سنة تسع عشرة، وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمين، فأقاموا عليهم ما شاء الله والأعاجم بالخيار، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فاشتد ذلك على المسلمين، وخافوا أن يطول أمرهم، وسرّهم أن يناجزهم عدوهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين، فتكلموا، وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فأخبروه، فوافقوه وهو يُروّي في الذي رَوَّوا فيه. فقال: على رسلكم، لا تبرحوا! وبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي في الحروب، فتوافوا إليه، فتكلم النعمان ففال: قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إنغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق بالذي هم فيه وعليه من الخيار عليهم في الخروج، فما الرأي الذي به نُحمشهم ونستخرجهم إلى المنابذة وترك التطويل؟ فتكلم عمرو بن ثُبي-وكان أكبر الناس يومئذ سنا، وكانوا إنما يتكلمون على الأسنان- فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرِجهم وطاولهم، وقاتل من أتاك منهم، فردوا عليه جميعا رأيه. وقالوا: إنا على يقين من إنجاز ربنا موعده لنا. وتكلم عمرو بن معديكرب، فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تَخَفْهم. فردوا عليه جميعا رأيه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران لهم أعوان علينا. وتكلم طليحة فقال: قد قالا ولم يصيبا ما أرادا، وأما أنا فأرى أن تبعث خيلا مؤدية، فيحدقوا بهم، ثم يرموا لينشبوا القتال، ويحمشوهم، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم وأرادوا الخروج أرزوا إلينا استطرادا، فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلانهم، وإنا إذا فعلنا ذلك ورأوا ذلك منها طمعوا في هزيمتنا ولم يشكوا فيها، فخرجوا فجادونا وجاددناهم، حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب. فأمر النعمان القعقاع بن عمرو -وكان على المجردة- ففعل، وأنشب القتال بعد احتجاز من العجم، فأنغضهم فلما خرجوا نكص، ثم نكص، ثم نكص، واغتنمها الأعاجم، ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فخرجوا فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب، وجعلوا يركبونهم حتى أرَز القعقاع إلى الناس، وانقطع القوم عن حصنهم بعض الانقطاع، والنعمان بن مقرن والمسلمون على تعبيرهم في يوم جمعة في صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالجحف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات، وشكا بعض الناس ذلك إلى بعض، ثم قالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه! ألا ترى ما لقي الناس، فما تنتطر بهم! ائذن للناس في قتالهم، فقال لهم النعمان: رويدا رويدا! قالوا له ذلك مرارا، فأجابهم بمئل ذلك مرارا: رويدا رويدا، فقال المغيرة: لو أن هذا الأمر إلي علمت ما أصنع! فقال: رويدا ترى أمرك، وقد كنت تلي الأمر فتحسن، فلا يخذلنا الله ولا إياك، ونحن نرجو في المكث الذي ترجو في الحثّ. وجعل النعمان ينتظر بالقتال إكمال ساعات كانت أحب إلى رسول الله ﷺ في القتال أن يلقى فيها العدو، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الرياح. فلما كان قريبا من تلك الساعة تحشحش النعمان، وسار في الناس على بِرذون أحوى قريب من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحمد الله ويثني عليه، ويقول: قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين، وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم هَوادِيَ ما وعدكم وصدوره، وإنما بقي أعجازه وأكارعه، والله منجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله. واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد الله حقا وأولياؤه، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة، والذي لهم في ظفركم وعزكم، والذي عليه في هزيمتكم وذلكم، وقد ترون من أنتم بإزائه من عدوكم، وما أخطرتم وما أخطروا لكم، فأما ما أخطروا لكم فهذه الرثة وما ترون من هذا السواد، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم، ولا سواء ما أخطرتم وما أخطروا، فلا يكونُنّ على دنياهم أحمى منكم على دينكم، واتقى الله عبدٌ صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء، فإنكم بين خيرين منتظرين، إحدى الحسنيين، من بين شهيد حي مرزوق، أو فتح قريب وظفر يسير. فكفى كل رجل ما يليه، ولم يكل قِرنه إلى أخيه، فيجتمع عليه قرنه وقرن نفسه، وذلك من الملأمة، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فكل رجل منكم مسلط على ما يليه، فإذا قضيت أمري فاستعدوا، فإني مكبر ثلاثا، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية فليشد عليه سلاحه، وليتأهب للنهوض، فإذا كبرت الثالثة، فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معًا. اللهم أعز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك! فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف، وقضى إليهم أمره، رجع إلى موقفه، فكبر الأولى والثانية والثالثة، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة، يُنَحّي بعضهم بعضا عن سَنَنهم. وحمل النعمان وحمل الناس، وراية النعمان تنقض نحوهم انقضاض العقاب، والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا بالسيوف قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعه يوم قط كانت أشد قتالا منها، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما يزلق الناس والدواب فيه، وأصيب فرسان من فرسان السلمين في الزلق في الدماء، فزلق فرس النعمان في الدماء فصرعه، وأصيب النعمان حين زلق به فرسه، وصرع. وناول الراية نعيم بن مقرن قبل أن يقع، وسجى النعمان بثوب، وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه، وكان اللواء مع حذيفة، فجعل حذيفة نعيم بن مقرر مكانه، وأتى المكان الدي كان فيه النعمان فأقام اللواء، وقال له المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم، لكيلا يهن الناس، واقتتلوا حتى إذا أظلهم الليل انكشف المشركون وذهبوا، والمسلمون ملظون بهم متلبسون، فعُمّي عليهم قصدُهم، فتركوه وأخذوا نحو اللهب الدي كانوا نزلوا دونه بإسبيذهان، فوقعوا فيه، وجعلوا لا يهوي منهم أحد إلا قال: "وايه خُرْد"، فسمي بذلك "وايه خرد" إلى اليوم، فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون، سوى من قتل في المعركة منهم أعدادهم، لم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان بين الصرعى في المعركة، فهرب نحو هَمَذان في ذلك الشريد، فاتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه حين انتهى إلى ثنية همذان، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلا، فحبسه الدواب على أجله، فقتله على الثنية بعدما امتنع، وقال المسلمون: إن لله جنودا من عسل، واستاقوا العسل وما خالطه من سائر الأحمال، فأقبل بها، وسميت الثنية بذلك ثنية العسل. وإن الفيرزان لما غشيه القعقاع نزل فتوقّل في الجبل إذ لم يجد مساغا، وتوقل القعقاع في أثره حتى أخذه، ومضى الفلال حتى انتهوا إلى مدينة همذان والخيل في آثارهم، فدخلوها، فنزل المسلمون عليهم، وحووا ما حولها، فلما رأى ذلك خُسْرَوْشُنُوم استأمنهم، وقبل منهم على أن يضمن لهم همذان ودَسْتَبى، وألا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوهم إلى ذلك وآمنوهم، وأمن الناس، وأقبل كل من كان هرب، ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند واحتووا ما فيها وما حولها، وجمعوا الأسلاب والرِّثاث إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع. فبينا هم كذلك على حالهم وفي عسكرهم يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان، أقبل الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤّمنني على أن أخبرك بما أعلم؟ قال: نعم، قال: إن النخَيْرَجان وضع عندي ذخيرة لكسرى، فانا أخرجها لك على أماني وأمان من شئت، فأعطاه ذلك، فأخرج له ذخيرة كسرى، جوهرا كان أعده لنوائب الزمان، فنظروا في ذلك، فأجمع رأي المسلمين على رفعه إلى عمر، فجعلوه له، فأخروه حتى فرغوا فبعثوا به مع ما يرفع من الأخماس، وقسم حذيفة بن اليمان بين الناس غنائمهم، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف، وسهم الراجل ألفين، وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند، ورفع ما بقي من الأخماس إلى السائب بن الأقرع، فقبض السائب الأخماس، فخرج بها إلى عمر وبذخيرة كسرى. وأقام حذيفة بعد الكتاب بفتح نهاوند بنهاوند ينتظر جواب عمر وأمره، وكان رسوله بالفتح طريف بن سهم، أخو بني ربيعة بن مالك. فلما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همذان قد أخِذت، ونزلها نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو اقتدوا بخسروشنوم، فراسلوا حذيفة، فأجابهم إلى ما طلبوا، فأجمعوا على القبول، وعزموا على إتيان حذيفة، فخدعهم دينار -وهو دون أولئك الملوك، وكان ملكا إلا أن غيره منهم كان أرفع منه، وكان أشرفهم قارن- وقال: لا تلقوهم في جَمالكم ولكن تَقَهّلوا لهم، ففعلوا، وخالفهم فأتاهم في الديباج والحلي، وأعطاهم حاجتهم واحتمل للمسلمين ما أرادوا، فعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول في أمره، فقيل "ماه دينار" لذلك. فذهب حذيفة بماه دينار، وقد كان النعمان عاقد بَهْراذان على مثل ذلك، فنسبت إلى بهراذان، ووكل النسير بن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فجاهدهم، فافتتحها فنسبت إلى النسير، وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة ولمن أقام بغضى شجر ولأهل المسالح جميعا في فيء نهاوند مثل الذي قسم لأهل المعركة، لأنهم كانوا ردءا للمسلمين لثلا يؤتوا من وجه من الوجوه. وتململ عمر تلك الليلة التي كان قدر للقائهم، وجعل يخرج ويلتمس الخبر، فبينا رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه، فرجع إلى المدينة ليلا، فمر به راكب في الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة. فقال: يا عبد الله، من أين أقبلت؟ قال: من نهاوند، قال: ما الخبر؟ مال: الخبر خير، فتح الله على النعمان، واستشهد، واقتسم المسلمون فيء نهاوند، فأصاب الفارس ستة آلاف. وطواه الراكب حتى انغمس في المدينة، فدخل الرجل، فبات فأصبح فتحدث بحديئه، ونمى الخبر حتى بلغ عمر، وهو فيما هو فيه، فأرسل إليه، فسأله فأخبره، فقال: صدق وصدقت، هذا عثيم بريد الجن، وقد رأى بريد الإنس، فقدم عليه طريف بالفتح بعد ذلك، فقال: الخبر! فقال: ما عندي أكثر من الفتح، خرجت والمسلمون في الطلب وهم على رِجل؛ وكتمه إلا ما سرّه. ثم خرج وخرج معه أصحابه، فأمعن، فرفع له راكب، فقال: قولوا، فقال عثمان بن عفان: السائب، فقال: السائب، فلما دنا منه قال: ما وراءك؟ قال: البشرى والفتح، قال: ما فعل النعمان؟ قال: زلق فرسه في دماء القوم، فصرع فاستشهد، فانطلق راجعا والسائب يسايره، وسأل عن عدد من قتل من المسلمين، فأخبره بعدد قليل، وأن النعمان أول من استشهد يوم فتح الفتوح -وكذلك كان يسميه أهل الكوفة والمسلمون- فلما دخل المسجد حطَّت الأحمال فوضعت في المسجد وأمر نفرا من أصحابه -منهم عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم- بالمبيت فيه، ودخل منزله، واتبعه السائب بن الأقرع بذينك السَّفَطَيْن، وأخبره خبرهما وخبر الناس، فقال: يا ابن مليكة، والله ما دروا هذا، ولا أنت معهم! فالنجاء النجاء، عودك على بدئك حتى تاتي حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليه، فأقبل راجعا بقبل حتى انتهى إلى حُذيفة بماه، فأقامهما فباعهما، فأصاب أربعة آلاف ألف. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس الأسدي: أن رجلا يقال له جعفر بن راشد قال لطليحة وهم مقيمون على نهاوند: لقد أخذتنا خلة، فهل بقي من أعاجيبك شيء تنفعنا به؟ فقال: كما أنتم حتى أنظر، فأخذ كساء فتقنع به غير كثير، ثم قال: البيان البيان، غنم الدهقان، في بستان، مكان أرْوَنان. فدخلوا البستان فوجدوا الغنم مسمنة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي معبد العبسي وعروة بن الوليد، عمن حدثهم من قومهم، قال: بينما نحن محاصرو أهل نهاوند خرجوا علينا ذات يوم، فقاتلونا فلم نلبثهم أن هزمهم الله، فتبع سماك بن عُبيد العبسي رجلا منهم معه نفر ثماينة على أفراس لهم فبارزهم، فلم يبرز له أحد إلا قتله، حتى أتى عليهم. ثم حمل على الذي كانوا معه، فأسره وأخذ سلاحه، ودعا له رجلا اسمه عبد، فوكله به، فقال: اذهبوا بي إلى أميركم حتى أصالحه على هذه الأرض، وأؤدي إليه الجزية، وسلني أنت عن إسارك ما شئت. وقد مننت علي إذ لم تقتلني، وإنما أنا عبدك الآن، وإن أدخلتني على الملك وأصلحت ما بيني وبينه، وجدت لي شكرا، وكنت لي أخا. فخلى سبيله وآمنه، وقال: من أنت؟ قال: أنا دينار -والبيت منهم يومئذ في آل قارن- فأتى به حذيفة، فحدثه دينار عن نجدة سماك وما قتل ونظره للمسلمين، فصالحه على الخراج، فنسبت إليه ماه، وكان يواصل سماكا ويهدي له، ويوافي الكوفة كلما كان عمله إلى عامل الكوفة، فقدم الكوفة في إمارة معاوية، فقام في الناس بالكوفة، فقال: يا معشر أهل الكوفة، أنتم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع: بخل، وخب، وكدر، وضيق؛ ولم يكن فيكم واحدة منهن، فرمقتكم، فإذا ذلك في مولّديكم، فعلمت من أين أُتيتم، فإذا الخب من قبل النَّبَط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خُراسان، والضيق من قبل الأهواز. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد عن الشَّعبي، قال: لما قُدم بسبي نهاوند إلى المدينة، جعل أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيرا إلا مسح رأسه وبكى وقال: أكل عمر كبدي - وكان نهاونديا، فأسرته الروم أيام فارس، وأسره المسلمون بعد، فنسب إلى حيث سبي. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: قتل في اللهب ممن هوى فيه ثمانون ألفا وفي المعركة ثلاثون ألفا مقترين، سوى من قتل في الطلب، وكان المسلمون ثلاثين ألفا، وافتتحت مدينة نهاوند في أول سنة تسع عشرة، لسبع سنين من إمارة عمر، لتمام سنة ثمان عشرة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سبيف عن محمد والمهلب وطلحة في كتاب النعمان بن مقرن وحذيفة لأهل الماهين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى النعمان بن مقرن أهل ماه بهراذان، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون على ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبيل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة، ووفوا ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا، فذمتنا منهم بريئة. شهد عبد الله بن ذي السهمين والقعقاع بن عمرو وجرير بن عبد الله. وكتب في المحرم سنة تسع عشرة. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى حذيفة بن اليمان أهل ماه دينار، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدوا الجزية في كل سنة إلى من وليهم من المسلمين، على كل حالم في ماله ونفسه على قدر طاقته، وما أرشدوا ابن السبل، وأصلحوا الطرق، وقروا جنود المسلمين من مر بهم، فأوى إليهم يوما ولليلة، ونصحوا؛ فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة. شهد القعقاع بن عمرو، ونعيم بن مقرن، وسويد بن مقرن. وكتب في المحرم. قالوا: وألحق عمر من شهد نهاوند فأبلى من الروادف بلاء فاضلا في ألفين ألفين، ألحقهم بأهل القادسية. وفي هذه السنة أمر عمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت، وأمر بعض من كان بالبصرة من جنود المسلمين وحواليها بالميل إلى أرض فارس وكَرْمان وإصبهان، وبعض من كان منهم بناحية الكوفة وماهاتها إلى إصبهان وأذربيجان والري. وكان بعضهم يقول: إنما كان ذلك من فعل عمر في سنة ثمان عشرة. وهو قول سيف بن عمر. ذكر الخبر عما كان في هذه السنة -أعني سنة إحدى وعشرين- من أمر الجنديْن اللذين ذكرت أن عمر أمرهما بما ذكر أنه أمرهما به. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: لما رأى عمر أن يزدجرد يبعث عليه في كل عام حربا، وقيل له: لا يزال هذا الدأب حتى يخرج من مملكته، أذن للناس في الانسياح في أرض العجم، حتى يغلبوا يزدجرد على ما كان في يدي كسرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة بعد فتح نهاوند، ووجه الأمراء من أهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد بن أبي وقاص وبين عمل عمار بن ياسر أميران: أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان -وفي زمانه كانت وقعة نهاوند- وزياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي-وفي زمانه أمر بالانسياح- وعزل عبد الله بن عبد الله، وبُعث في وجه آخر من الوجوه، وولى زياد بن حنظلة -وكان من المهاجرين- فعمل قليلا وألح في الاستعفاء، فأعفي، وولى عمار بن ياسر بعد زياد، فكان مكانه، وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى، وجعل عمر بن سراقة مكانه، وقدمت الألوية من عند عمر إلى نفر بالكوفة زمان زياد بن حنظلة، فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن، وقد كان أهل همذان كفروا بعد الصلح، فأمره بالسير نحو همذان، وقال: فإن فتح الله على يديك فإلى ما وراء ذلك، في وجهك ذلك إلى خُراسان. وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله وعقد لهما على أذْرَبيجان، وفرقها بينهما، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان إلى ميمنتها، وأمر الآخر أن يأخذ إليها من الموصل إلى ميسرنها، فتيامن هذا عن صاحبه، وتساير هذا عن صاحبه. وبعث إلى عبد الله بن عبد الله بلواء، وأمره أن يسير إلى إصبهان، وكان شجاعا بطلا من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار، حليفا لبني الحبلى من بني أسد، وأمده بأبي موسى من البصرة، وأمر عمر بن سراقة على البصرة. وكان من حديث عبد الله بن عبد الله أن عمر حين أتاه فتح نهاوند بدا له أن يؤذن في الانسياح فكتب إليه: أن سِر من الكوفة حتى تنزل الدائن، فاندبهم ولا تنتخبهم، واكتب إلي بذلك، وعمر يريد توجيهه إلى إصبهان فانتدب له فيمن انتدب عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعبد الله بن الحارث بن ورقاء الأسدي. والذين لا يعلمون يرون أن أحدهما عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، لذكر ورقاء، وظنوا أنه نسب إلى جده، وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء يوم قتل بصفين ابن أربع وعشرين سنة، وهو أيام عمر صبي. ولما أتى عمرَ انبعاثُ عبد الله، بعث زياد بن حنظلة، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم أمر عمارا بعد، وقرأ قول الله عز وجل: { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين }. وقد كان زياد صرف في وسط من إمارة سعد إلى قضاء الكوفة بعد إعفاء سلمان وعبد الرحمن ابني ربيعة، ليقضي إلى أن يقدم عبد الله بن مسعود من حمص، وقد كان عمل لعمر على ما سقى الفرات ودجلة النعمان وسويد ابنا مقرّن، فاستعفيا وقالا: أعفنا من عمل يتغول ويتزين لنا بزينة المومسة. فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن أسيد الغفاري وجابر بن عمرو المُزني، ثم استعفيا فأعفاهما، وجعل مكانهما حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، حذيفة على ما سقت دِجلة وما وراءها، وعثمان على ما سقى الفرات من السوادين جميعا، وكتب إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليهم عمار بن ياسر أميرا، وجعلت عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى. ذكر الخبر عن إصبهان قالوا: ولما قدم عمار إلى الكوفة أميرا، وقدم كتاب عمر إلى عبد الله: أن سر إلى إصبهان وزياد على الكوفة، وعلى مقدمتك عبد الله بن ورقاء الرياحي، وعلى مجنبتيك عبد الله بن ورقاء الأسدي وعصمة بن عبد الله -وهو عصمة بن عبد الله بن عبيدة بن سيف بن عبد الحارث- فسار عبد الله في الناس حتى قدم على حذيفة، ورجع حذيفة إلى عمله، وخرج عبد الله فيمن كان معه ومن انصرف معه من جند النعمان من نهاوند نحو جند قد اجتمع له من أهل إصبهان عليهم الأُسْتَنْدار، وكان على مقدّمته شَهْربراز جاذَوْيه، شيخ كبير في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برُستاق عن رساتيق إصبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء، فقتله وانهزم أهل إصبهان، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فهو اسمه إلى اليوم. ودعا عبد الله بن عبد الله من يليه، فسال الأستندار الصلح، فصالحهم، فهذا أول رستاق أخذ من إصبهان. ثم سار عبد الله من رستاق الشيخ نحو جَيّ حتى انتهى إلى جي والملك بإصبهان يومئذ الفاذوسفان، ونزل بالناس على جي، فحاصرهم، فخرجوا إليه بعد ما شاء الله من زحف؛ فلما التقوا قال الفاذوسفان لعبد الله: لا تقتل أصحابي، ولا أقتل أصحابك، ولكن ابرز لي فإن قتلتك رجع أصحابك وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا يقع لهم نُشّابة. فبرز له عبد الله وقال: إما أن تحمل علي، وإما أن أحمل عليك، فقال: أحمِل عليك، فوقف له عبد الله، وحمل عليه الفاذوسفان، فطعنه، فأصاب قَرَبُوس سرجه فكسره، وقطع اللبب والحزام، وزال اللبد والسرج، وعبد الله على الفرس، فوقع عبد الله قائما، ثم استوى على الفرس عريا، وقال له: اثبت، فحاجزه، وقال: ما أحب أن أقاتلك، فإني قد رأيتك رجلا كاملا، ولكن أرجعُ معك إلى عسكرك فأصالحك، وأدفع المدينة إليك، على أن من شاء أقام ودفع الجزية وأقام على ماله، وعلى أن تُجري من أخذتم أرضه عنوة مجراهم، ويتراجعون، ومن أبى أن يدخل فيه ذهب حيث شاء، ولكم أرضه. قال: لكم ذلك. وقدم عليه أبو موسى الأشعري من ناحية الأهواز، وقد صالح الفاذوسفان عبد الله فخرج القوم من جي، ودخلوا الذمة إلا ثلاثين رجلا من أهل إصبهان خالفوا قومهم وتجمعوا فلحقوا بكرمان في حاشيتهم، لجمع كان بها، ودخل عبد الله وأبو موسى جي -وجي مدينة إصبهان- وكتب بذلك إلى عمر، واغتبط من أقام، وندم من شخص. فقدم كتاب عمر على عبد الله أن سر حتى تقدم على سُهيل بن عدي فتجامعه على قتال من بكرمان، وخلّف في جي من بقي عن جي، واستخلف على إصبهان السائب بن الأقرع. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن نفر من أصحاب الحسن منهم المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف، قال: شهدت مع أبي موسى فتح إصبهان، وإنما شهدَها مددا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر وطلحة والمهلب وعمرو وسعيد، قالوا: كتاب صلح إصبهان: بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل إصبهان وحواليها؛ إنكم آمنون ما أديتم الجزية، وعليكم عن الجزية بقدر طاقتكم في كل سنة ئؤدونها إلى الذي يلي بلادكم عن كل حالم، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة، وحملان الراجل إلى مرحلةٍ، لا تسلّطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإذا غيرتم شيئا أو غير مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سب مسلما بُلغ منه، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله. فلما قدم الكتاب من عمر على عبد الله، وأمر فيه باللحاق بسهيل بن عدي بكرمان، خرج في جريدة خيل، واستخلف السائب، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان. وقد روي عن معقل بن يسار أن الذي كان أميرا على جيش المسلمين حين غزوا إصبهان النعمان بن مقرن. ذكر الرواية بذلك حدثنا يعقوب بن إبراهيم وعمرو بن علي، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن سلمى، عن أبي عمران الجوني، عن علقمة بن عبد الله المدني، عن معقل بن يسار، أن عمر بن الخطاب شاور الهرمزان، فقال: ما ترى: أبدأ بفارس أم بأذربيجان أم بإصبهان؟ فقال: إن فارس وأذربيجان الجناحان، وإصبهان الرأس. فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر، فإن قطعت الرأس وقع الجناحان، فابدأ بالرأس. فدخل عمر المسجد والنعمان بن مقرن يصلي، فقعد إلى جنبه، فلما قضى صلاته قال: إني أريد أن أستعملك، قال: أما جابيًا فلا، ولكن غازيا، قال: فأنت غاز. فوجهه إلى إصبهان، وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فأتاها وبينه وبينهم الظهر، وأرسل إليهم المغيرة بن شعبة، فأتاهم، فقيل لملكهم، وكان يقال له ذو الحاجبين: إن رسول العرب على الباب، فشاور أصحابه، فقال: ما ترون؟ أقعد له في بهجة الملك؟ فقالوا: نعم، فقعد على سريره، ووضع التاج على رأسه، وقعد أبناء الملوك نحو السلاطين عليهم القِرَطة وأسورة الذهب وثياب الديباج. ثم أذن له فدخل ومعه رمحه وترسه، فجعل يطعن برمحه بسطهم ليتطيروا، وقد أخذ بضبعيه رجلين، فقام بين يديه، فكلمه ملكهم، فقال: إنكم يا معشر العرب أصابكم جوع شديد فخرجتم، فإن شئتم أمرناكم ورجعتم ال بلادكم. فتكلم المغيرة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إنا معاشر العرب، كنا نكل الجيف والميتة، ويطؤنا الناس ولا نطؤهم، وإن الله عز وجل ابتعث منا نبيا أوسطنا حسبا وأصدقنا حديثا -فذكر النبي ﷺ بما هو أهله- وإنه وعدنا أشياء فوجدناها كما قال، وإنه وعدنا أنا سنظهر عليكم، ونغلب على ما هاهنا. وإني أرى عليكم بزة وهيئة ما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها. قال: ثم قلت في نفسي: لو جمعت جراميزي، فوثبت وثبة، فقعدت مع العلج على سريره لعله يتطير! قال: فوجدت غفلة، فوثبت، فإذا أنا منه على سريره. قال: فأخذوه يتوجئونه ويطئونه بأرجلهم. قال: قلت: هكذا تفعلون بالرسل! فإنا لا نفعل هكذا، ولا نفعل برسلكم هذا. فقال الملك: إن شئتم قطعتم إلينا، وإن شئنا قطعنا إليكم. قال: فقلت: بل نقطع إليكم. قال: وقطعنا إليهم فتسلسلوا كل عشرة في سلسلة، وكل خمسة وكل ثلاثة. قال: فصاففناهم، فرشقونا حتى أسرعوا فينا، فقال المغيرة للنعمان: يرحمك الله، إنه قد أسرِع في الناس فاحمل، فقال: والله إنك لذو مناقب، لقد شهدت مع رسول الله ﷺ القتال، فكان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر. قال: ثم قال: إني هاز لوائي ثلاث مرات، فأما الهزة الأولى فقضى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية فنظر رجل في سلاحه وفي شِسعه فأصلحه، وأما الثالئة فاحملوا، ولا يلوين أحد على أحد، وإن قتل النعمان فلا يلو عليه أحد، فإني أدعو الله عز وحل بدعوة، فعزمت على كل امرئ منكم لما أمّن عليها! اللهم أعط اليوم النعمان الشهادة في نصر المسلمين، وافتح عليهم؛ وهز لواءه أول مرة، ثم هز الثانية، ثم هزه الثالثة، ثم شَلّ درعه، ثم حمل فكان أول صريع، فقال معقل: فأتيت عليه، فذكرت عزمته فجعلت عليه علما، ثم ذهبت -وكنا إذا قتلنا رجلا شُغل عنا أصحابه- ووقع ذو الحاجبين عن بغلته فانشق بطنه، فهزمهم الله، ثم جئت إلى النعمان ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب، ففال: من أنت؟ قلت: معقل بن يسار، قال: ما فعل الناس؟ فقك: فتح الله عليهم، قال: الحمد لله، اكتبوا بذلك إل عمر، وفاضت نفسه. واجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس، وفيهم ابن عمر وابن الزبير وعمرو بن معديكرب وحذيفة، فبعثوا إلى أم ولده، فقالوا: أما عهد إليك عهدا؟ فقالت: ها هنا سَفَط فيه كتاب، فأخذوه، فكان فيه: إن قتل النعمان ففلان، وإن قتل فلان ففلان. أخبار متفرقة وقال الواقدي: في هذه السنة -يعني سنة إحدى وعشرين- مات خالد بن الوليد بحمص، وأوصى إلى عمر بن الخطاب. قال: وفيها غزا عبد الله وعبد الرحمن ابنا عمرو وأبو سروعة، فقدموا مصر، فشرب عبد الرحمن وأبو سروعة الخمر، وكان من أمرهما ما كان. فال: وفيها سار عمرو بن العاص إل أنطابُلُس -وهي برقة- فافتتحها وصالح أهل برقة على ثلاثة عشر ألف دينار، وأن يبيعوا من أبنائهم ما أحبوا في جزيتهم. قال: وفيها ولى عمر بن الخطاب عمار بن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، فشكا أهل الكوفة عمارا، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب، فأصاب جبير بن مطعم خاليا فولاه الكوفة، فقال: لا تذكره لأحد، فبلغ المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير بن مطعم، فرجع إل امرأته، فقال: اذهبي إلى امرأة جبير بن مطعم، فاعرضي عليها طعام السفر، فأتتها فعرضت عليها، فاستعجمت عليها، ثم قالت: نعم، فجيئني به، فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر، فقال: بارك الله لك فيمن وليت! قال: فمن وليت؟ فأخبره أنه ولى جبير بن مطعم، فقال عمر: لا أدري ما أصنع! وولى المغيرة بن شعبة الكوفة؛ فلم يزل عليها حتى مات عمر. قال: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري، فافتتح زَويلة بصلح وما بين برقة وزويلة سِلم للمسلمين. وحدثا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان بالشأم في سنة إحدى وعشرين غزوة الأمير معاوية بن أبي سفيان، وعمير بن سعد الأنصاري على دمشق والبثنية وحوران وحِمص وقنَّسرين والجزيرة، ومعاوية على البلقاء والأردنّ وفلسطين والسواحل وأنطاكيَة ومَعَرّة مَصْرين وقِلِقيّة. وعند ذلك صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين. وقيل: وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي. قال الواقدي: وحج بأناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وخلف على المدينة زيد بن ثابت؛ وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة والبحرين والشام ومصر والبصرة من كان عليها في سنة عشرين، وأما الكوفة فإن عامله عليها كان عمار بن ياسر، وكان إليه الأحداث، وإلى عبد الله بن مسعود بيت المال، وإلى عثمان بن حنيف الخراج، وإلى شريح فيما قيل القضاء. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ذكر فتح همذان قال أبو جعفر: ففيها فتحت أذربيجان، فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت أذربيجان سنة اثنتين وعشرين، وأميرها المغيرة بن شعبة. وكذلك قال الواقدي. وأما سيف بن عمر، فإنه قال فيما كتب إلي به السري عن شعيب عنه، قال: كان فتح أذربيجان سنة ثمان عشرة من الهجرة بعد فتح همذان والرّي وجرجان وبعد صلح إصبهبذ طبرستان المسلمين. قال: وكلّ ذلك كان في سنة ثمان عشرة. قال: فكان سبب فتح همذان - فيما زعم - أنّ محمدًا والمهلب وطلحة وعمرًا وسعيدًا أخبروه أنّ النعمان لما صرف إلى الماهين لاجتماع الأعاجم إلى نهاوند، وصرف إليه أهل الكوفة وافوه مع حذيفة؛ ولما فصل أهل الكوفة من حلوان وأفضوا إلى ماه هجموا على قلعة في مرج فيها مسلحة، فاستزلوهم، وكان أوّل الفتح، وأنزلوا مكانهم خيلًا يمسكون بالقلعة، فسمّوا معسكرهم بالمرج؛ مرج القلعة؛ ثم ساروا من مرج القلعة نحو نهاوند؛ حتى إذا انتهوا إلى قلعة فيها قوم خلّفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة؛ فنسبت إليه؛ وافتتحها بعد فتح نهاوند ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي - أقاموا مع النسير على القلعة، فلما جمعوا فيء نهاوند والقلاع أشركوا فيها جميعًا؛ لأنّ بعضهم قوّى بعضًا. ثم وصفوا ما استقروا فيما بين مرج القلعة وبين نهاوند مما مرّوا به قبل ذلك فيما استقرّوا من المرج إليها بصفاتها، وازدحمت الركاب في ثنيّة من ثنايا ماه، فسمّيت بالركاب، فقيل: ثنيّة الركاب. وأتوا على أخرى تدور طريقها بصخرة، فسمّوها ملويّة، فدرست أسماؤها الأولى، وسمّيت بصفاتها، ومرّوا بالجبل الطويل المشرف على الجبال، فقال قائل منهم: كأنه سنّ سميرة - وسميرة امرأة من المهاجرات من بني معاوية، ضبيّة لها سنّ مشرفة على أسنانها، فسمّي ذلك الجبل بسنّها - وقد كان حذيفة أتبع الفالّة - فالّة نهاوند - نعيم بن مقرّن والقعقاع بن عمرو؛ فبلغا همذان، فصالحهم خسروشنوم، فرجعا عنهم، ثم كفر بعد. فلمّا قدم عهده في العهود من عند عمر ودّع حذيفة وودّعه حذيفة؛ هذا يريد همذان، وهذا يريد الكوفة راجعًا. واستخلف على الماهين عمرو بن بلال بن الحارث. وكان كتاب عمر إلى نعيم بن مقرّن: أن سر حتى تأتي همذان، وابعث على مقدّمتك سويد بن مقرّن، وعلى مجنّبتيك ربعي بن عامر ومهلهل ابن زيد؛ هذا طائي، وذاك تميمي. فخرج نعيم بن مقرّن في تعبيته حتى نزل ثنيّة العسل - وإنما سمّيت ثنيّة العسل بالعسل الذي أصابوا فيها غبّ وقعة نهاوند حيث أتبعوا الفالّة تعالى فانتهى الفيرزان إليها، وهي غاصّة بحوامل تحمل العسل وغير ذلك؛ فحبست الفيرزان حتى نزل؛ فتوقّل في الجبل وغار فرسه فأدرك فأصيب. ولما نزلوا كنكور سرقت دوابّ من دوابّ المسلمين، فسمّى قصر اللصوص. ثم انحدر نعيم من الثنيّة حتى نزل على مدينة همذان، وقد تحصّنوا منهم، فحصرهم فيها، وأخذ ما بين ذلك وبين جرميذان، واستولوا على بلاد همذان كلها. فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح، على أن يجريهم ومن استجاب مجرىً واحدًا، ففعل، وقبل منهم الجزاء على المتعة، وفرّق دستبي بين نفر من أهل الكوفة، بين عصمة بن عبد الضبّيبّ ومهلهل بن زيد الطائي وسماك بن عبيد العيسي وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن خرشة الأنصاري؛ فكان هؤلاء أوّل من ولي مسالح دستبي وقاتل الديّلم. وأما الواقدي فإنه قال: كان فتح همذان والرّي في سنة ثلاث وعشرين. قال: ويقال افتتح الري قرظة بن كعب. وحدثني ربيعة بن عثمان أنّ فتح همذان كان في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب؛ وكان أميرها المغيرة بن شعبة. قال: ويقال: كان فتح الري قبل وفاة عمر بسنتين، ويقال: قتل عمر وجيوشه عليها. رجع الحديث إلى حديث سيف. قال: فبينما نعيم في مدينة همذان في توطئتها في اثني عشر ألفًا من الجند تكاتب الديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، ثم خرج موتًا في الديلم حتى ينزل بواج روذ؛ وأقبل الزيني أبو الفرّخان في أهل الري حتى انضمّ إليه، وتحصّن أمراء مسالح دستبي، وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس، وخرج إليهم في الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ، فاقتتلوا بها قتالًا شديدًا؛ وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند؛ ولم تكن دونها، وقتل من القوم مقتلة عظيمة لا يحصون ولا تقصر ملحمتهم من الملاحم الكبار؛ وقد كانوا كتبوا إلى عمر باجتماعهم، ففزع منها عمر، واهتمّ بحربها، وتوقع ما يأتيه عنهم، فلم يفجأه إلّا البريد بالبشارة، فقال: أبشير! فقال: بل عروة؛ فلما ثنى عليه: أبشير؟ فطن، فقال: بشير؛ فقال عمر: رسول نعيم؟ قال: رسول نعيم، قال: الخبر؟ قال: البشرى بالفتح والنصر؛ وأخبره الخبر؛ فحمد الله، وأمر بالكتاب فقرىء على الناس؛ فحمدوا الله. ثم قدم سماك بن مخرمة وسماك بن عبيد وسماك بن خرشة في وفود من وفود أهل الكوفة بالأخماس على عمر، فنسبهم، فانتسب له سماك وسماك وسماك، فقال: بارك الله فيكم؛ اللهمّ اسمك بهم الإسلام وأيّدهم بالإسلام. فكانت دستبي من همذان ومسالحها إلى همذان، حتى رجع الرسول إلى نعيم بن مقرّن بجواب عمر بن الخطّاب: أما بعد، فاستخلف على همذان، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة، وسر حتى تقدم الري، فتلقى جمعهم، ثم أقم بها، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد. فأقرّ نعيم يزيد بن قيس الهمداني على همذان، وسار من واج الروذ بالناس إلى الري. وقال نعيم في واج الروذ: لمّا أتاني أن موتًا ورهطه ** بني باسل جرّوا جنود الأعاجم نهضت إليهم بالجنود مساميًا ** لأمنع منهم ذمّتي بالقواصم فجئنا إليهم بالحديد كأننا ** جبال تراءى من فروع القلاسم فلما لقيناهم بها مستفيضة ** وقد جعلوا يسمون فعل المساهم صدمناهم في واج روذ بجمعنا ** غداة رميناهم بإحدى العظائم فما صبروا في حومة الموت ساعة ** لحدّ الرماح والسيوف الصوارم كأنهم عند انبثاث جموعهم ** جدار تشظّى لبنه للهوادم تبعناهم حتى أووا في شعابهم ** نقتّلهم قتل الكلاب الجواحم كأنهم في واج روذ وجوّه ** ضئين أصابها فروج المخارم وسماك بن مخرمة هو صاحب مسجد سماك. وأعاد فيهم نعيم كتاب صلح همذان، وخلّف عليها يزيد بن قيس الهمذاني، وسار بالجنود حتى لحق بالرّي، وكان أوّل نسل الديلم من العرب، وقاولهم فيه نعيم. فتح الري قالوا: وخرج نعيم بن مقرّن من واج روذ في الناس - وقد أخربها - إلى دستبي، ففصل منها إلى الري، وقد جمعوا له، وخرج الزينبي أبو الفرّخان، فلقيه الزينبي بمكان يقال له قها مسالمًا ومخالفًا لملك الري، وقد رأى من المسلمين ما رأى مع حسد سياوخش وأهل بيته، فأقبل مع نعيم والملك يومئذ بالري سياوخش بن مهران بن بهرام شوبين، فاستمدّ أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان. وقال: قد علمتم أنّ هؤلاء قد حلّوا بالرّي، إنه لا مقام لكم، فاحتشدوا له، فناهده سياوخش، فالتقوا في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وقد كان الزينبي قال لنعيم: إنّ القوم كثير، وأنت في قلّة؛ فابعث معي خيلًا أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم خيلًا من الليل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة، ولا يشعر القوم، وبيّتهم نعيم بياتًا فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم. ثمّ إنهم انهزموا فقتلوا مقتلةً عدّوا بالقصب فيها، وأفاء الله على المسلمين بالرّي نحوًا من فيء المدائن، وصالحه الزيبنبي على أهل الري ومرزبه عليهم نعيم، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي الأكبر، ومنهم شهرام وفرّخان، وسقط آل بهرام، وأخرب نعيم ميدنتهم، وهي التي يقال لها العتيقة - يعني مدينة الري - وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثي. وكتب نعيم إلى عمر بالذي فتح الله عليه مع المضارب العجلي، ووفّد بالأخماس مع عتيبة بن النهاس وأبي مفزّر في وجوه من وجوه أهل الكوفة، وأمدّ بكير بن عبد الله بسماك بن خرشة الأنصاري بعد ما فتح الري، فسار سماك إلى أذربيجان مددًا لبكير، وكتب نعيم لأهل الري كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى نعيم بن مقرّن الزينبي بن قوله، أعطاه الأمان على أهل الري ومن كان معهم من غيرهم على الجزاء، طاقة كلّ حالم في كلّ سنة، وعلى أن ينصحوا ويدلّوا ولا يغلّوا ولا يسلّوا، وعلى أن يقروا المسلمين يومًا وليلة، وعلى أن يفخّموا المسلم، فمن سبّ مسلمًا أو استخفّ به نهك عقوبة، ومن ضربه قتل، ومن بدّل منهم فلم يستلم برمّته فقد غيّر جماعتكم. وكتب وشهد. وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدى به منهم من غير أن يسأله النصر والمنعة، فقبل منه، وكتب بينه وبينه كتابًا على غير نصر ولا معونة على أحد، فجرى ذلك لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من نعيم بن مقرّن لمردانشاه مصمغان دنباوند وأهل دنباوند والخوار واللارز والشّرّز. إنك آمن ومن دخل معك على الكفّ، أن تكفّ أهل أرضك، وتتقي من ولي الفرج بمائتي ألف درهم وزن سبعة في كلّ سنة، لا يغار عليك، ولا يدخل عليك إلّا بإذن؛ ما أقمت على ذلك حتى تغيّر، ومن غيّر فلا عهد له ولا لمن لم يسلمه. وكتب وشهد. فتح قومس قالوا: ولما كتب نعيم بفتح الري مع المضارب العجلي، ووفّد بالأخماس كتب إليه عمر: أن قدّم سويد بن مقرّن إلى قومس، وابعث على مقدّمته سماك بن مخرمة وعلى مجنّبتيه عتيبة بن النهاس وهند بن عمرو الجملي، ففصل سويد بن مقرّن في تعبيته من الري نحو قومس؛ فلم يقم له أحد، فأخذها سلمًا، وعسكر بها، فلمّات شربوا من نهر لهم يقال له ملاذ، فشا فيهم القصر؛ فقال لهم سويد: غيّروا ماءكم حتى تعودوا كأهله؛ ففعلوا، واستمرءوه، وكاتبه الذين لجئوا إلى طبرستان منهم، والذين أخذوا المفاوز، فدعاهم إلى الصلح والجزاء، وكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سويد بن مقرّن أهل قومس ومن حشوا من الأمان على أنفسهم ومللهم وأموالهم، على أن يؤدّوا الجزية عن يد؛ عن كلّ حالم بقدر طاقته؛ وعلى أن ينصحوا ولا يغشّوا، وعلى أن يدلّوا، وعليهم نزل من نزل بهم من المسلمين يومًا وليلة من أوسط طعامهم، وإن بدّلوا واستخفّوا بعهدهم فالذمّة منهم بريئة. وكتب وشهد. فتح جرجان قالوا: وعسكر سويد بن مقرّن ببسطام، وكاتب ملك جرجان رزبان صول ثم سار إليها، وكاتبه رزبان صول، وبادره بالصّلح على أن يؤدّي الجزاء، ويكفيه حرب جرجان، فإن غلب أعانه. فقبل ذلك منه، وتلقّاه رزبان صول قبل دخول سويد جرجان؛ فدخل معه وعسكر بها حتى جبى إليه الخراج، وسمى فروجها، فسدّها بترك دهستان، فرفع الجزاء عمّن أقام يمنعها، وأخذ الخراج من سائر أهلها؛ وكتب بينهم وبينه كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول ابن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان؛ إنّ لكم الذمة، وعلينا المنعة؛ على أنّ عليكم من الجزاء في كلّ سنة على قدر طاقتكم؛ على كلّ حالم؛ ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه؛ ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك هو إليهم ما أدّوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين، ولم يبد منهم سلّ ولا غلّ، ومن أقام فيهم فله مثل ما لهم، ومن خرج فهو آمن حتى يبلغ مأمنه؛ وعلى أنّ من سبّ مسلمًا بلغ جهده، ومن ضربه حلّ دمه. شهد سواد بن قطبة، وهند بن عمرو، وسماك بن مخرمة، وعتيبة بن النهاس. وكتب في سنة ثمان عشرة. وأما المدائني، فإنه قال - فيما حدثنا أبو زيد، عنه: فنحت جرجان في زمن عثمان سنة ثلاثين. فتح طبرستان قالوا: وأرسل الإصبهبذ سويدًا في الصلح، على أن يتوادعا؛ ويجعل له شيئًا على غير نصر ولا معونة على أحد؛ فقبل ذلك منه، وجرى ذلك لهم، وكتب له كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من سويد بن مقرّن للفرّخان إصبهبذ خراسان على طبرستان وجيل جيلان من أهل العدوّ؛ إنك آمن بأمان الله عز وجل على أن تكفّ لصوتك وأهل حواشي أرضك، ولا تؤوي لنا بغية، وتنّقي من ولي فرج أرضك بخمشمائة ألف درهم من دراهم أرضك فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك، ولا يتطرّق أرضك، ولا يدخل عليك إلّا بإذنك؛ سبيلنا عليكم بالإذن آمنة؛ وكذلك سبيلكم، ولا تؤوون لنا بغية، ولا تسلّون لنا إلى عدوّ، ولا تغلّون، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم. شهد سواد بن قطبة التميمي، وهند بن عمرو المرادي، وسماك بن مخرمة الأسدي، وسماك بن عبيد العبسي، وعتيبة بن النهّاس البكري. وكتب سنة ثمان عشرة. فتح أذربيجان قال: ولما افتتح نعيم همذان ثانية، وسار إلى الري من واج روذ، كتب إليه عمر: أنّ يبعث سماك بن خرشة الأنصاري ممدًّا لبكير بن عبد الله بأذربيجان؛ فأخّر ذلك حتى افتتح الري، ثم سرّحه من الري، فسار سماك نحو بكير بأذربيجان؛ وكان سماك بن خرشة وعتبة بن فرقد من أغنياء العرب؛ وقدما الكوفة بالغنى؛ وقد كان بكير سار حين بعث إليها؛ حتى إذا طلع بحيال جرميذان - طلع عليهم إسفندياذ بن الفرّخزاذ مهزومًا من واج روذ، فكان أوّل قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الله جنده؛ وأخذ بكير إسفندياذ أسيرًا، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح، قال: فأمسكني عندك؛ فإنّ أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجىء لم يقيسوا لك، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان على التحصّن تحصّن إلى يوم ما، فأمسكه عنده، فأقام وهو في يده، وصارت البلاد إليه إلّا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممدًّا وإسفندياذ في إساره، وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه. وقال بكير لسماك مقدمه عليه، ومازحه: ما الذي أصنع بك وبعتبة بأغنيين؟ لئن أطعت ما في نفسي لأمضينّ قدما ولأخلّفنّكما، فإن شئت أقمت معي، وإن شئت أتيت عند فقد أذنت لك، فإني لا أراني إلّا تارككما وطالبًا وجهًا هو أكره من هذا. فاستعفى عمر؛ فكتب إليه بالإذن على أن يتقدّم نحو الباب؛ وأمره أن يستخلف على عمله، فاستخلف عتبة على الذي افتتح منها، ومضى قدما، ودفع إسفندياذ إلى عتبة، فضمّه عتبة إليه، وأمّر عتبة سماك بن خرشة - وليس بأبي دجانة - على عمل بكير الذي كان افتتح، وجمع عمر أذربيجان كلّها لعتبة بن فرقد. قالوا: وقد كان بهرام بن الفرّخزاذ أخذ بطريق عتبة بن فرقد، وأقام له في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فهزمه عتبة، وهرب بهرام. فلما بلغ الخبر بهزيمة بهرام ومهربه إسفندياذ وهو في الإسار عند بكير، قال: الآن تمّ الصلح، وطفئت الحرب، فصالحه، وأجاب إلى ذلك كلهم، وعادت أذربيجان سلمًا، وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر، وبعثوا بما خمّسوا مما أفاء الله عليهم، ووفّدوا الوفود بذلك؛ وكان بكير قد سبق عتبة بفتح ما ولى، وتمّ الصلح بعد ما هزم عتبة بهرام. وكتب عتبة بينه وبين أهل أذربيجان كتابًا حيث جمع له عمل بكير إلى عمله: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عتبة بن فرقد، عامل عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان - سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها - كلّهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم؛ على أن يؤدّوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبي ولا امرأة ولا زمن لي في يديه شيء من الدنيا، ولا متعبّد متخلّ ليس في يديه من الدنيا شيء، لهم ذلك ولمن سكن معهم؛ وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يومًا وليلة ودلالته، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه. وكتب جندب، وشهد بكير بن عبد الله الليثي وسماك بن خرشة الأنصاري. وكتب في سنة ثمان عشرة. قالوا: وفيها، قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهداه له، وذلك أنّ عمر كان يأخذ عمّاله بموافاة الموسم في كلّ سنة يحجر عليهم بذلك الظلم، ويحجزهم به عنه. فتح الباب وفي هذه السنة كان فتح الباب في قول سيف وروايته، قال: وقالوا - يعني الذين ذكرت أسماءهم قبل: ردّ عمر أبا موسى إلى البصرة، وردّ سراقة بن عمرو - وكان يدعى ذا النور - إلى الباب، وجعل على مقدّمته عبد الرحمن بن ربيعة - وكان أيضًا يدعى ذا النور - وجعل على إحدى المجنّبتين حذيفة بن أسيد الغفاري، وسمّى للأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة بن عمرو عليه، وكتب إليه أن يلحق به - وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة. فقدّم سراقة عبد الرحمن بن ربيعة، وخرج في الأثر، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب، قدم على بكير في أداني الباب، فاستدفّ ببكير، ودخل بلاد الباب على ما عبّاه عمر. وأمدّه عمر بحبيب بن مسلمة، صرفه إليه من الجزيرة، وبعث زياد بن حنظلة مكانه على الجزيرة. ولما أطلّ عبد الرحمن بن ربيعة على الملك بالباب - والملك بها يومئذ شهربراز، واستأمنه على أن يأتيه، ففعل فأتاه، فقال: إنّي بإزاء عدوّ كلب وأمم مختلفة، لا ينسبون إلى أحساب، وليس ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعين أمثال هؤلاء، ولا يستعين بهم على ذوي الأحساب والأصول، وذو الحسب قريب ذي الحسب حيث كان، ولست من القبج في شيء؛ ولا من الأرمن؛ وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي، فأنا اليوم منكم ويدي مع أيديكم، وصغوى معكم، وبارك الله لنا ولكم، وجزيتنا إليكم النصر لكم، والقيام بما تحبّون، فلا تذلّونا بالجزية فتوهنونا لعدوّكم. فقال عبد الرحمن: فوقي رجل قد أظلك فسر إليه، فجوّزه، فسار إلى سراقة فلقيه بمثل ذلك، فقال سراقة: قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه، ولا بدّ من الجزاء ممّن يقيم ولا ينهض. فقبل ذلك، وصار سنّة فيمن كان يحارب العدوّ من المشركين، وفيمن لم يكن عنده الجزاء، إلّا أن يستنفروا فتوضع عنهم جزاء تلك السنة. وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب بذلك، فأجازه وحسّنه، وليس لتلك البلاد التي في ساحة تلك الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلّا على أوفاز؛ وإنما هم سكان ممّن حولها ومن الطرّاء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم، وجلوا عن قرار أرضهم، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم؛ واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتابًا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وملّتهم ألّا يضارّوا ولا ينتقضوا، وعلى أهل أرمينية والأبواب؛ الطرّاء منهم والتّنّاء ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكلّ غارة، وينفذوا لكلّ أمر ناب أولم ينب رآه الوالي صلاحًا؛ على أن توضع الجزاء عمّن أجاب إلى ذلك إلّا الحشر، والحشر عوضٌ من جزائهم ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنّزل يومًا كاملًا، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، وإن تركوا أخذوا به. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله. وكتب مرضي بن مقرّن وشهد. ووجّه سراقة بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجّه بكيرًا إلى موقان، ووجه حبيبًا إلى تفليس، وحذيفة بن أسيد إلى من بجبال اللآن، وسلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر، وكتب سراقة بالفتح وبالذي وجّه فيه هؤلاء النفر إلى عمر بن الخطاب، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتمّ له على ما خرج عليه في سريح بغير مؤونة. وكان فرجًا عظيمًا به جند عظيم، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها. فلما استوسقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن ابن ربيعة، وقد مضى أولئك القوّاد الذين بعثهم سراقة، فلم يفتح أحد منهم ما وجّه له إلّا بكير فإنه فضّ موقان، ثم تراجعوا على الجزية، فكتب لهم: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى بكير بن عبد الله أهل موقان من جبال القبج الأمان على أموالهم وأنفسهم وملّتهم وشرائعهم على الجزاء، دينار على كلّ حالم أو قيمته، والنصح، ودلالة المسلم ونزله يومه وليلته، فلهم الأمان ما أقرّوا ونصحوا، وعلينا الوفاء؛ والله المستعان. فإن تركوا ذلك واستبان منهم غشّ فلا أمان لهم إلا أن يسلموا الغششة برمّتهم؛ وإلّا فهم متمالئون. شهد الشمّاخ بن ضرار والرسارس بن جنادب، وحملة بن جويّة. وكتب سنة إحدى وعشرين. قالوا: ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقرّ عبد الرحمن على فرج الباب، وأمره بغزو الترك، فخرج عبد الرحمن بالناس حتى قطع الباب، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد بلنجر؛ قال: إنّا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال: لكنّا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم في ديارهم؛ وتالله إنّ معنا لأقوامًا لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم لارّدم. قال: وما هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله ﷺ ودخلوا في هذا الأمر بنيّة، كانوا أصحاب حياء وتكرّم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرّمهم، فلا يزال هذا الأمر دائمًا لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم بمن غيّرهم. فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر لم تئم فيها امرأة، ولم ييتم فيها صبي، وبلغ خيله في غزاتها البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، ثم غزا فسلم؛ ثمّ غزا غزوات في زمان عثمان، وأصيب عبد الرحمن حين تبدّل أهل الكوفة في إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتدّ اصتصلاحًا لهم، فلم يصلحهم ذلك، وزادهم فسادًا أن سادهم من طلب الدنيا، وعضّلوا بعثمان حتى جعل يتمثل: وكنت وعمرًا كالمسمّن كلبه ** فخدّشه أنيابه وأظافره كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة، قال: لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا: ما اجترأ علينا هذا الرجل إلّا ومعه الملائكة تمنعه من الموت؛ فتحصنوا منه وهربوا، فرجع بالغنم والظّفر، وذلك في إمارة عمر؛ ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان، ظفر كما كان يظفر، حتى إذا تبدّل ألهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتدّ فغزاهم بعد ذلك، تذامرت الترك وقال بعضهم لبعض: إنهم لا يموتون، قال: انظروا، وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض؛ فرمى رجلٌ منهم رجلًا من المسلمين على غرّة فقتله، وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك، فاقتتلوا فاشتدّ قتالهم، ونادى مناد من الجوّ: صبرًا آل عبد الرحمن وموعدكم الجنّة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس، وأخذ الراية سلمان بن ربيعة، فقاتل بها، ونادى المنادي من الجوّ: صبرًا آل سلمان ابن ربيعة! فقال سلمان: أوترى جزعًا! ثمّ خرج بالناس، وخرج سلمان وأبو هريرة الدوسي على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به حتى الآن. وحدث عمرو بن معد يكرب عن مطر بن ثلج التميمي، قال: دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهر براز عنده، فأقبل رجل عليه شحوبة؛ حتى دخل على عبد الرحمن، فجلس إلى شهربراز، وعلى مطرقباء برود يمينيّة، أرضه حمراء، ووشيه أسود - أو وشيه أحمر - وأرضه سوداء، فتساءلا. ثمّ إنّ شهربراز، قال: أيّها الأمير، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ هذا الرجل بعثته منذ سنين نحو السدّ لينظر ما حاله ومن دونه، وزوّدته مالًا عظيمًا، وكتبت له إلى من يليني، وأهديت له، وسألته أن يكتب له إلى من وراءه، وزوّدته لكلّ ملك هدّية؛ ففعل ذلك بكلّ ملك بينه وبينه، حتى انتهى إليه، فانتهى إلى الملك الذي السدّ في ظهر أرضه، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فأعطاه حريرة، قال: فتشكّر لي البازيار، فلما انتهينا فإذا جبلان بينهما سدّ مسدود، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما، وإذا دون السد خندق أشدّ سوادًا من الليل لبعده، فنظرت إلى ذلك كله، وتفرّست فيه، ثم ذهبت لانصرف، فقال لي البازيار: على رسلك أكافك! إنه لا يلي ملك بعد ملك إلّا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا، فيرمى به في هذا اللهب، فشرّح بضعة لحم معه، فألقاها في ذلك الهواء، وانقضّت عليها العقاب، وقال: إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء؛ وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء؛ فخرجت علينا العقاب باللحم في مخالبها؛ وإذا فيه ياقوتة، فأعطانيها؛ وها هي هذه. فتناولها شهر براز حمراء، فناولها عبد الرحمن، فنظر إليها، ثم ردّها إلى شهر براز، وقال شهربراز: لهذه خير من هذا البلد - يعني الباب - وايم الله لأنتم أحبّ إلي ملكة من آل كسرى؛ ولو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني؛ وايم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر. فأقبل عبد الرحمن على الرسول، وقال: ما حال هذا الردم وما شبهه؟ فقال: هذا الثوب الذي على هذا الرجل، قال: فنظر إلى ثوبي، فقال مطر بن ثلج لعبد الرحمن بن ربيعة: صدق والله الرجل؛ لقد نفذ ورأى، فقال: أجل، وصف صفة الحديد والصفر، وقال: " آتوني زبر الحديد.. " إلى آخر الآية. وقال عبد الرحمن لشهربراز: كم كانت هديّتك؟ قال: قيمة مائة ألف في بلادي هذه، وثلاثة آلاف ألف أو أكثر في تلك البلدان. وزعم الواقدي أنّ معاوية غزا الصائفة في هذه السنة، ودخل بلاد الروم في عشرة آلاف من المسلمين. وقال بعضهم: في هذه السنة كانت وفاة خالد بن الوليد. وفيها ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان. وحجّ بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكان عامله على مكة عتاب بن أسيد، وعلى اليمن يعلى بن أميّة، وعلى سائر أمصار المسلمين الذين كانوا عمّاله في السنة التي قبلها. وقد ذكرناهم قبل. ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرة وفي هذه السنة عدّل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم. ذكر الخبر بذلك كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، وسعيد، قالوا: أقام عمّار بن ياسر عاملًا على الكوفة سنةً في إمارة عمر وبعض أخرى. وكتب عمر بن سراقة وهو يومئذ على البصرة إلى عمر ابن الخطاب يذكر له كثرة أهل البصرة، وعجز خراجهم عنهم؛ ويسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ما سبذان. وبلغ ذلك أهل الكوفة، فقالوا لعمّار: اكتب لنا إلى عمر أنّ رامهرمز وإيذج لنا دونهم، لم يعينونا عليهما بشيء؛ ولم يلقحوا بنا حتى افتتحناهما، فقال عمّار: مالي ولما هاهنا! فقال له عطارد: فعلام تدع فيئنا أيها العبد الأجدع! فقال: لقد سببت أحبّ أذني إلي. ولم يكتب في ذلك فأبغضوه؛ ولما أبى أهل الكوفة إلّا الخصومة فيهما لأهل البصرة شهد لهم أقوام على أبي موسى؛ أنه قد كان آمن أهل رامهرمز وإيذج؛ وأنّ أهل الكوفة والنعمان راسلوهم وهم في أمان. فأجاز لهم عمر ذلك، وأجراها لأهل البصرة بشهادة الشهود. وادّعى أهل البصرة في إصبهان قريات افتتحها أبو موسى دون جي، أيام أمدّهم بهم عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فقال أهل الكوفة: أتيتمونا مددًا وقد افتتحنا البلاد، فآسيناكم في المغانم، والذّمة ذمتنا، والأرض أرضنا؛ فقال عمر: صدقوا. ثمّ إنّ أهل الأيّام وأهل القادسيّة من أهل البصرة أخذوا في أمر آخر حتى قالوا: فليعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤهم فيه من سوادهم وحواشيه. فقال لهم عمر: أترضون بماه؟ وقال لأهل الكوفة: أترضون أن نعطيهم من ذلك أحد الماهين؟ فقالوا: ما رأيت أنه ينبغي فاعمل به، فأعطاهم ماه دينار بنصيبهم لمن كان شهد الأيام والقادسيّة منهم إلى سواد البصرة ومرهجانقذق، وكان ذلك لمن شهد الأيّام والقادسيّة من أهل البصرة. ولما ولي معاوية بن أبي سفيان - وكان معاوية هو الذي جنّد قنّسرين من رافضة العراقين أيام علي، وإنما كانت قنّسرين رستاقًا من رساتيق حمص حتى مصّرها معاوية وجنّدها بمن ترك الكوفة والبصرة في ذلك الزمان، وأخذ لهم معاوية بنصيبهم من فتوح العراق أذربيجان والموصل والباب، فضمّها فيما ضمّ، وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ ناقلة رميتا بكلّ من كان ترك هجرته من أهل البلدين؛ وكانت الباب وأذربيجان والجزيرة والموصل من فتوح أهل الكوفة - نقل ذلك إلى من انتقل منهم إلى الشام أزمان علي؛ وإلى من رميت به الجزيرة والموصل ممن كان ترك هجرته أيام علي، وكفر أهل أرمينية زمان معاوية؛ وقد أمّر حبيب بن مسلمة على الباب - وحبيب يومئذ بجرزان - وكاتب أهل تفليس وتلك الجبال؛ ثم ناجزهم؛ حتى استجابوا واعتقدوا من حبيب. وكتب بينه وبينهم كتابًا بعد ما كاتبهم: بسم الله الرحمن الرحيم. من حبيب بن مسلمة إلى أهل تفليس من جرزان أرض الهرمز. سلم أنتم؛ فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو؛ فإنه قد قدم علينا رسولكم تفلى، فبلّغ عنكم، وأدّى الذي بعثتم. وذكر تفلى عنكم أنّا لم نكن أمّة فيما تحسبون؛ وكذلك كنا حتى هدانا الله عز وجل بمحمد ﷺ، وأعزّنا بالإسلام بعد قلة وذلة وجاهلية. وذكر تفلى أنكم أحببتم سلمنا. فما كرهت والذين آمنوا معي، وقد بعثت إليكم عبد الرحمن بن جزء السلمي؛ وهو من أعلمنا من أهل العلم بالله وأهل القرآن؛ وبعثت معه بكتابي بأمانكم، فإن رضيتم دفعه إليكم؛ وإن كرهتم آذنكم بحرب على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من جرزان أرض الهرمز؛ بالأمان على أنفسكم وأموالكم وصوامعكم وبيعكم وصلواتكم؛ على الإقرار بصغار الجزية؛ على كلّ أهل بيت دينار واف، ولنا نصحكم ونصركم على عدوّ الله وعدوّنا، وقرى المجتاز ليلة من حلال طعام أهل الكتاب وحلال شرابهم، وهداية الطريق في غير ما يضّرّ فيه بأ؛ د منكم. فإن أسلمتم وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فإخواننا في الدين وموالينا؛ ومن تولّى عن الله ورسله وكتبه وحزبه فقد آذناكم بحرب على سواء؛ إن الله لا يحبّ الخائنين. شهد عبد الرحمن بن خالد؛ والحجّاج، وعياض. وكتب رباح، وأشهد الله وملائكته والذين آمنوا، وكفى بالله شهيدًا. ذكر عزل عمار عن الكوفة وفي هذه السنة عزل عمر بن الخطاب عمّارًا عن الكوفة؛ واستعمل أبا موسى في قول بعضهم؛ وقد ذكرت ما قال الواقدي في ذلك قبل. ذكر السبب في ذلك قد تقدّم ذكري بعض سبب عزله، ونذكر بقيّته. ذكر السري - فيما كتب به إلي - عن شعيب، عن سيف، عمّن تقدم ذكري من شيوخه، قال: قالوا: وكتب أهل الكوفة؛ عطارد ذلك وأناس معه إلى عمر في عمّار، وقالوا: إنه ليس بأمير، ولا يحتمل ما هو فيه، ونزا به أهل الكوفة. فكتب عمر إلى عمّار: أن أقبل؛ فخرج بوفد من أهل الكوفة، ووفّد رجالًا ممن يرى أنهم معه، فكانوا أشدّ عليه ممن تخلّف، فجزع فقيل له: يا أبا اليقظان، ما هذا الجزع! فقال: والله ما أحمد نفسي عليه؛ ولقد ابتليت به - وكان سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار، وجرير بن عبد الله معه - فسعيا به، وأخبرا عمر بأشياء يكرهها، فعزله عمر ولم يولّه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن جميع، عن أبي الطفيل، قال: قيل لعمّار: أساءك العزل؟ فقال: والله ما سرّني حين استعملت، ولقد ساءني حين عزلت. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد ومجالد، عن الشعبي، قال: قال عمر لأهل الكوفة: أي منزليكم أعجب إليكم؟ - يعني الكوفة أو المدائن - وقال: إني لأسألكم وإني لأعرف فضل أحدهما على الآخر في وجوهكم، فقال جرير: أما منزلنا هذا الأدنى فإنه أدنى محلّةً من السواد من البرّ، وأما الآخر فوعك البحر وغمّه وبعوضه. فقال عمار: كذبت؛ فقال عمر لعمّار: بل أنت أكذب منه، وقال: ما تعرفون من أميركم عمّار؟ فقال جرير: هو والله غير كاف ولا مجز ولا عالم بالسياسة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن زكرياء بن سياه، عن هشام بن عبد الرحمن الثقفي، أن سعد بن مسعود، قال: والله ما يدري علام استعملته! فقال عمر: علام استعملتك يا عمّار؟ قال: على الحيرة وأرضها. فقال: قد سمعت بذكرها في القرآن. قال: وعلى أي شيء؟ قال: على المدائن وما حولها، قال: أمدائن كسرى؟ قال: نعم. قال: وعلى أي شيء؟ قال: على مهرجا نقذق وأرضها. قالوا: قد أخبرناك أنه لا يدري علام بعثته! فعزله عنهم، ثم دعاه بعد ذلك، فقال: أساءك حين عزلتك؟ فقال: والله ما فرحت به حين بعثتني، ولقد ساءني حين عزلتني. فقال: لقد علمت ما أنت بصاحب عمل، ولكني تأوّلت: " ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ". كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن خليد بن ذفرة النمري، عن أبيه بمثله وزيادة، فقال: أو تحمد نفسك بمعرفة من تعالجه منذ قدمت! وقال: والله يا عمّار لا ينتهي بك حدّك حتى يلقيك في هنة، وتالله لئن أدركك عمر لترقّنّ، ولئن رققت لتبتلينّ، فسل الله الموت. ثمّ أقبل على أهل الكوفة فقال: من تريدون يا أهل الكوفة؟ فقالوا: أبا موسى. فأمّره عليهم بعد عمار، فأقام عليهم سنة، فباع غلامه العلف. وسمعه الوليد بن عبد شمس، يقول: ما صحبت قومًا قطّ إلا آثرتهم؛ ووالله ما منعني أن أكذّب شهود البصرة إلّا صحبتهم، ولئن صحبتكم لأمنحنّكم خيرًا. فقال الوليد: ما ذهب بأرضنا غيرك؛ ولا جرم لا تعمل علينا. فخرج وخرج معه نفر، فقالوا: لا حاجة لنا في أبي موسى، قال: ولم؟ قالوا: غلام له يتّجر في حشرنا. فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة، وصرف عمر بن سراقة إلى الجزيرة. وقال لأصحاب أبي موسى الذين شخصوا في عزله من أهل الكوفة: أقوي مشدّد أحبّ إليكم أم ضعيف مؤمن؟ فلم يجد عندهم شيشئًا، فتنحّى، فخلا في ناحية المسجد، فنام فأتاه المغيرة بن شعبة فكلأه حتى استيقظ، فقال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلّا من عظيم؛ فهل نابك من نائب؟ قال: وأي نائب أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير، ولا يرضى عنهم أمير! وقال في ذلك ما شاء الله. واختطّت الكوفة حين اختطّت على مائة ألف مقاتل؛ وأتاه أصحابه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما شأنك؟ قال: شأني أهل الكوفة قد عضّلوا بي. أعاد عليهم عمر المشورة التي استشار فيها، فأجابه المغيرة فقال: أمّا الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وفضله له، وأمّا القوىّ المشدّد فوّته لك وللمسلمين، وشداده عليه وله. فبعثه عليهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن سعيد بن عمرو؛ أنّ عمر قال قبل أن استعمل المغيرة: ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قوي مشدّد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإنّ إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القوي المشدّد فإنّ شداده لنفسه وقوّته للمسلمين. قال: فإنّا باعثوك يا مغيرة. فكان المغيرة عليها حتى مات عمر رضي الله تعالى عنه وذلك نحو من سنتين وزيادة. فلما ودّعه المغيرة للذهاب إلى الكوفة، قال له: يا مغيرة. ليأمنك الأبرار، وليخفك الفجّار. ثم أراد عمر أن يبعث سعدًا على عمل المغير فقتل قبل أن يبعثه، فأوصى به؛ وكان من سنّة عمر وسيرته أن يأخذ عمّاله بموافاة الحجّ في كل سنة للسياسة، وليحجزهم بذلك عن الرعيّة، وليكون لشكاة الرعيّة وقتًا وغاية ينهونها فيه إليه. وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس - في قول بعضهم خراسان - وحارب يزدجرد؛ وأما في رواية سيف فإنّ خروج الأحنف إلى خراسان كان في سنة ثمان عشرة من الهجرة. ذكر مصير يزدجرد إلى خراسان وما كان السبب في ذلك اختلف أهل السير في سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه؛ فأمّا ما ذكره سيف عن أصحابه في ذلك، فإنه فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: كان يزدجرد بن شهريار بن كسرى - وهو يومئذ ملك فارس - لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الري، وقد جعل له محمل واحد يطبق ظهر بعيره، فكان إذا سار نام فيه ولم يعرّس بالقوم. فانتهوا به إلى مخاضة وهو نائم في محمله، فأنبهوه ليعلم، ولئلا يفزع إذا خاض البعير إن هو استيقظ، فعنّفهم وقال: بئسما صنعتم! والله لو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمة، إني رأيت أني ومحمدًا تناجينا عند الله، فقال له: أملّكهم مائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرًا ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: عشرين ومائة سنة، فقال: زدني، فقال: لك. وأنبهتموني، فلو تركتموني لعلمت ما مدّة هذه الأمة. فلما انتهى إلى الري، وعليها آبان جاذويه، وثب عليه فأخذه، فقال: يا آبان جاذويه، تغدر بي! قال: لا، ولكن قد تركت ملكك، وصار في يد غيرك، فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء، وما أردت غير ذلك. وأخذ خاتم يزجرد ووصل الأدم؛ واكتتب الصكاك وسجّل السجلات بكلّ ما أعجبه، ثم ختم عليها وردّ الخاتم. ثم أتى بعد سعدًا فردّ عليه كلّ شيء في كتابه. ولما صنع آبان جاذويه بيزجرد ما صنع خرج يزدجرد من الري إلى إصبهان، وكره آبان جاذويه، فارًّا منه ولم يأمنه. ثم عزم على كرمان، فأتاها والنار معه، فأراد ان يضعها في كرمان، ثمّ عزم على خراسان، فأتى مرو، فنزلها وقد نقل النار، فبنى لها بيتًا واتّخذ بستانًا، وبنى أزجًا فرسخين من مرو إلى البستان؛ فكان على رأس فرسخين من مرو، واطمأنّ في نفسه وأمن أن يؤتى؛ وكاتب من مرو من بقيَ من الأعاجم فيما لم يفتتحه المسلمون، فدانوا له، حتى أثار أهل فارس والهرمزان فنكثوا، وثار أهل الجبال والفيرزان فنكثوا، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر للمسلمين في الانسياح، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا في الأرض؛ فخرج الأحنف إلى خراسان، فأخذ على مهرجان نقذق، ثم خرج إلى إصبهان - وأهل الكوفة محاصرو جى - فدخل خراسان من الطبسين، فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي. ثم سار نحو مرو الشاهجان، وأرسل إلى نيسابور - وليس دونها قتال - مطرف بن عبد الله بن الشخير والحارث بن حسان إلى سرخس؛ فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان؛ وكتب يزدجرد وهو بمرو الروذ إلى خاقان يستمده؛ وكتب إلى ملك الصغد يستمده؛ فخرج رسولاه نحو خاقان وملك الصغد، وكتب إلى ملك الصين يستعينه، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان؛ واستخلف عليها حاتم بن النعمان الباهلي بعد ما لحقت مبه أمداد أهل الكوفة، على أربعة أمراء: علقمة بن النضر النضري، وربعي بن عامر التميمي، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي، وابن أم غزال الهمداني؛ وخرج سائرًا نحو مرو الروذ؛ حتى إذا بلغ ذلك يزدجرد خرج إلى بلخ، ونزل الأحنف مرو الروذ؛ وقدم أهل الكوفة؛ فساروا إلى بلخ، وأتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزد جرد ببلخ؛ فهزم الله يزدجرد، وتوجه في أهل فارس إلى النهر فعبر، ولحق الأحنف بأهل الكوفة؛ وقد فتح الله عليهم؛ فبلخ من فتوح أهل الكوفة. وتتابع أهل خراسان ممن شذّ أو تحصّن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ممن كان في مملكة كسرى؛ وعاد الأحنف إلى مرو الروذ، فنزلها واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر؛ وهو الذي يقول فيه النجاشي - ونسبه إلى أمه؛ وكانت من أشراف العرب: ألا رب من يدعى فتى ليس بالفتى ** ألا إن رعي ابن كأس هو الفتى طويل قعود القوم في قعر بيته ** إذ شبعوا من ثفل جفتته سقى كتب الأحنف إلى عمر بفتح خراسان، فقال: لوددت مأني لم أكن بعثت إليها جندًا، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار؛ فقال علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات، فيجتاحون في الثالثة، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلى من أن يكون بالمسلمين. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عبد الرحمن الفزاري، عن أبي الجنوب اليشكري، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: لما قدم عمر على فتح خراسان، قال: لوددت أن بيننا وبينها بحرًا من نار، فقال علي: وما يشتد عليك من فتحها! فإنّ ذلك لموضع سرور، قال: أجل ولكني.. حتى أتى على آخر الحديث. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عيسى بن المغيرة، وعن رجل من بكر بن وائل يدعى الوازع بن زيد بن خليدة، قال: لما بلغ عمر غلبة الأحنف على المروين وبلخ، قال: وهو الأحنف، وهو سيد أهل المشرق المسمّى بغير اسمه. وكتب عمر إلى الأحنف: أما بعد، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه، وقد عرفتم بأي شيء دخلتم على خراسان، فداوموا معلى الذي دخلتم به خراسان يدم لكم النصر؛ وإياكم أن تعبروا فتفضّوا. ولما بلغ رسولا يزدجرد خاقان وغوزك، لم يستتب لهما إنجاده حتى عبر إليهما النهر مهزومًا، وقد استتب فأنجده خاقان - والملوك ترى على أنفسها إنجاد الملوك - فأقبل في الترك، وحشر أهل فرغانة والصغد؛ ثم خرج بهم، وخرج يزدجرد راجعًا إلى خراسان، حتى عبر إلى بلخ، وعبر معه خاقان، فأرز أهل الكوفة إلى مرو الروذ إلى الأحنف، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ. وكان الأحنف حين بلغه عبور خاقان والصغد نهر بلخ غازيًا له، خرج في عسكره ليلاُ يتسمع: هل يسمعبرأي ينتفع به؟ فمر برجلين ينقيان علفًا، إما تبنًا وإما شعيرًا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أن الأمير أسندنا إلى هذاالجبل، فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقًا؛ وكان الجبل في ظهورنا من أن نؤتي من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله. فرجع واجتزأ بها، وكان في ليلة مظلمة، فلما أصبح جمع الناس، ثم قال: إنكم قليل، وإنّ عدوكم كثير، فلا يهولنكم؛ فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وه مع الصابرين؛ ارتحلوا من مكانكم هذا، فاسندوا إلى هذا الجبل، فاجعلوه في ظهوركم، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم، وقاتلوهم من وجه واحد. ففعلوا، وقد أعدوا ما يصلحهم، وهو في عشرة آلاف من أهل البصرة وأهل الكوفة نحو منهم. وأقبلت الترك ومن أجلبت حتى نزلوا بهم، فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله. وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل، فخرج ليلة بعد ما علم علمهم؛ طليعة لأصحابه حتى كان قريبًا من عسكر خاقان فوقف، فلما كان في وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه، وضرب بطبله، ثم وقف من العسكر موقفًا يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز ويقول: إن على كل رئيس حقا ** أن يخضب الصغدة أو تندقا إن لنا شيخًا بها ملقى ** سيف أبي حفص الذي تبقى ثم وقف موقف التركي وأخذ طوقه، وخرج آخر من الترك، ففعل فعل صاحبه الأول، ثم وقف دونه فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز: إن الرئيس يرتبي ويطلع ** ويمنع الخلاء إما أربعوا ثم وقف موقف التركي الثاني، وأخذ طوقه، ثم خرج ثالث من الترك، ففعل فعل الرجلين، ووقف دون الثاني منهما، فحمل عليه الأحنف، فاختلفا طعنتين، فطعنته الأحنف، فقتله وهو يرتجز: جرى الشموس ناجزًا بناجز ** محتفلًا في جريه مشارز ثم انصرف الأحنف إلى عسكره؛ ولم يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد. وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء؛ كلهم يضرب بطلبه، ثم يخرجون بعد خروج الثالث، فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، فتشاءم خاقان وتطير، فقال: قد طال مقامنما، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكنمان لم يصب بمثله قط؛ ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا؛ فكان وجوههم راجعين، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئًا، وأتاهم الخير بانصراف خاقان إلى بلخ. وقد كان يزدجرد بن شهر يار بن كسى ترك خاقن بمرو الروذ، وخرج إلى مرو الشاهجان؛ فتحصن منه حاتم بن النعمان ومن معه، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها؛ وخاقان ببلخ مقيم له، فقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم. ولما جمع يزدجرد ما كان في يديه مما وضع بمرو، فأعجل عنه؛ وأراد أن يستقل مبه منها، إذْ هو أمر عظيم من خزائن أهل فارس، وأراد اللحاق بخاقان فقال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ فقال: أريد اللحاق بخاقان، فأكون معه أو بالصين، فقالوا له: مهلًا؛ فإنّ هذا رأى سوء، إنّك إنما تأتي قومًا في مملكتهم وتدع أرضك وقومك؛ ولكن ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم؛ فإنهم أوفياء وأهل دين؛ وهم يلون بلادنا، وإن عدوًا يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده ولا يديهن لهم؛ ولا ندري ما وفاؤهم؛ فأبى عليهم وأبوا عليه؛ فقالوا: فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها، ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها، فأبى؛ فقالوا: فإنا لا ندعك؛ فاعتزلوا وتركوه في حاشيته، فاقتتلوا، فهزوه وأخذوا الخزائن، واستولوا عليها ونكبوه، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر، فاعترضهم المسلمون والمشركون بمر يثفنونه، فقاتلوه وأصابوه في أخر القوم، وأعجلوه عن الأثقال؛ ومضى مموائلا حتى قطع النهر إلى فرغانة والترك؛ فلم يزل مقيمًا زمان عمر رضي الله عنه كله يكاتبهم ويكاتبونه، أو من شاء الله منهم. فكفر أهل خراسان زمان عثمان. وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه وعاقدوه، ودفعوا إله تلك الخزائن والأموال، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا في زمان الأكاسرة؛ فكانوا كأنما هم في ملكهم؛ إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم، فاغتبطوا وغبطوا؛ وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية. ولما خلع أهل خراسان زمان عثمان أقبل يزدجرد حتى نزل بمرو، فلما اختلف هو ومن معه وأهل خراسان. أوى إلى طاحونة، فأتوا عليه يأكل من كرد حول الرحا؛ فقتلوه ثم رموا مبه في النهر. ولما أصيب يزدجرد بمرو - وهو يومئذ مختيىء في طاحونة يريد أن يطلب اللحاق بكرمان - فاحتوى فيئه المسلمون والمشركون، وبلغ ذلك الأحنف، فسار من فوره ذلك في الناس إلى بلخ يريد خاقان، ويتبع حاشية يزدجرد وأهله في المسلمين والمشركين من أهل فارس، وخاقان والترك ببلخ. فلما سمع بما ألقى يزدجرد وبخروج المسلمين مع الأحنف من مرو الروذ نحوه، ترك بلخ وعبر النهر؛ وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ؛ ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع، ثم رجع إلى مرو الروذ فنزل بها، وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر، وبعث إليه بالأخماس، ووقد إليه الوفود. قالوا: ولما عبر خاقان النهر، وعبرت معه حاشية آل كسرى، أو من أخذ نحو بلخ منهم مع بزدجرد، لقوا رسول يزدجرد الذي كان بعث إلى ملك الصين، وأهدي إليه معه هدايا، ومعه جواب كتابه من ملك الصين. فسألوه عما وراءه، فقال: لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا أنا بما ترون - وأراهم هديته. وأجاب يزدجرد، فكتب إليه بهذا الكتاب بعد ماكان قال لي: قد عرفت أنّ حقًا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم، فصف لي صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم؛ فإني أراك تذكر قلة منهم وكثرة منكم؛ ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذين تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلّا بخير عندهم وشر فيكم؛ فقلت: سلني عما أجبت، فقال: أوفون بالعهد؟ قلت: نعم، قال: وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم لمرشدهم، قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته، فقال: أو يحرمون ما حلل لهم، أو يحلون ما حرم عليهم؟ قالت: لا، قال: فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدًا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم. ثم قال: أخبرني عن لباسهم؛ فأخبرته، وعن مطاياهم، فقلت: الخيل العراب - ووصفتها - فقال: نعمت الحصون هذه! ووصفت له الإبل وبروكها وانبعاثها بحملها، فقال: هذهصفة دواب طوال الأعناق. وكتب معه إلى يزدجرد كتابًا إنه لم يمنعني مأن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق على، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولن الجبال لهدوها، ولو خلى سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف؛ فسالمهم وارض منهم بالمساكنة؛ ولا تهجهم ما لم يهيجوك. وأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة، معهم عهد من خاقان. ولما وقع الرسول بالفتح والوفد بالخبر ومعهم الغنائم بعمر بن الخطاب من قبل الأحنف، جمع الناس وخطبهم، وأمر بكتاب الفتح فقرىء عليهم، فقال في خطبته: إن الله تبارك وتعالى ذكر رسوله ﷺ وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة. فقال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون )، فالحمد الذي أنجز موعده، ونصر جنده. ألا إن الله قد أهلك ملك المجوسية، وفرق شملهم، فليسوا يملكون من بلادهم شبرًا يضر بمسلم. ألا وإن الله قد أورثم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم؛ لنظر كيف تعملون! ألا وإنّ المصرين من مسالحها اليوم كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد، وقد وغلوا في البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله، فقوموا في أمره على رجل يوف لكم بعهده، ويؤتكم وعده؛ ولا تبدلوا ولا تغيروا، فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتي إلا من قبلكم. قال أبو جعفر: ثم إن أداني أهل خراسان وأقاصيه اعترضوا زمان عثمان ابن عفان لسنتين خلتا من إمارته؛ وسنذكر بقية خبر انتقاضهم في موضعه إن شاء الله مع مقتل يزدجرد. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، وكانت عماله على الأمصار فيها عماله الذين كانوا عليها في سنة إحدى وعشرين غير الكوفة والبصرة؛ فإن عامله على الكوفة وعلى الأحداث كان المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبا موسى الأشعري. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين فكان فيها فتح إصطخر في قول أبي معشر؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت إصطخر الأولى وهمذان سنة ثلاث وعشرين. وقال الواقدي مثل ذلك. وقال سيف: كان فتح إصطخر بعد توج الآخرة. ذكر الخبر عن فتح توج كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: خرج أهل البصرة الذين وجهّوا إلى فارس أمراء على فارس؛ ومعهم سارية بن زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك، وأهل فارس مجتمعون بتوّج؛ فلم يصمدوا لجمعهم بجموعهم؛ ولكن قصد كلّ أمير كورة منهم قصد إمارته وكورته التي أمر بها؛ وبلغ ذلك أهل فارس؛ فاقترقوا إلى بلدانهم؛ كما افترق المسلمون ليمنعوها؛ وكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم وتفريق جموعهم؛ فتطير المشركون من ذلك؛ وكأنما كانوا ينظرون إلى ما صاروا إليه، فقصد مجاشعبن مسعود لسابور وأردشير خره فيمن معه من المسلمين، فالتقوا بتوج وأهل فارس، فاقتتلوا ما شاء الله. ثم إن الله عز وجل هزم أهل توج للمسلمين، وسلط عليهم المسلمين، فقتلوهم كل قتلة، وبلغوا منهم ما شاءوا، وغنمهم ما مفي عسكرهم فحووه؛ وهذه توج الآخرة؛ ولم يكن لهابعدهاشوكة، والأولى التي تنقذ فيها جنود العلاء أيام طاوس، الوقعة التي اقتتلوا فيها؛ والوقعتان الأولى والآخرة كلتاهما متساجلتان. ثم دعوا إلى الجزية والذمة؛ فراجعوا وأقروا، وخمس مجاشع الغنائم، وبعث بها، ووفدوا وفدًا؛ وقد كانت البشراء والوفود يجازون وتقضى لهم حوائجهم، لسنة جرت بذلك من رسول الله ﷺ. كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: خرجنا مع مجاشع بن مسعود غازين توج، فحاصرناها، وقاتلناهم ما شاء الله، فلما افتتحناها وحوينا نهبها نهبًا كثيرًا، وقتلنا قتلى عظيمة؛ وكان على قميص قد تخرّق؛ فأخذت إبرة وسلكًا وجعلت أخيط قميصي بها. ثم إني نظرت إلى رجل في القتلى عليه قميص فنزعته، فأتيت به الماء، فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه، فلبسته؛ فلما جمعت الرثة، قام مجاشع خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، فقال: أيها الناس لا تغلوا، فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة. ردوا ولو الخميط. فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته في الأخماس. فتح إصطخر قال: وقصد عثمان بن أبي العاص لإصطخر؛ فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا ما شاء الله. ثم إنّ الله عز وجل فتح لهم جور؛ وفتح المسلمون إصطخر، فقتلوا ما شاء الله، وأصابوا ما شاءوا، وفر من فر. ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة، فراسلوه وراسلهم، فأجابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى؛ فتراجعوا وباحوا بالجزاء، وقد كان عثمان لما هزم القوم جمع إليه ما أفاء الله عليهم، فخمسه، وبعث بالخمس إلى عمر، وقسم أربعة أخماس المغنم في الناس وعفّت الجند من النهاب، وأدوا الأمانة، واستدقوا الدنيا. فجمعهم عثمان؛ ثم قام فيهم، وقال: إنّ هذا الأمر لا يزال مقبلًا؛ ولا يزال أهله معافين مما يكرهون، ما لم يغلوا، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي سفيان، عن الحسن، قال: قال عثمان بن أبي العاص يوم إصطخر: إن الله إذا أراد بقوم خيرًا كفهم، ووفر أمانتهم، فاحفظوها؛ فإنّ أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة؛ فإذا فقدتموها جدد لكم في كلّ يوم فقدان شيء من أموركم. ثم إنّ شهرك خلع في آخر إمارة عمر وأوّل إمارة عثمان، ونشط أهل فارس، ودعاهم إلى النقض، فوجه إليه عثمان بن أبي العاص ثانية، وبعث معه جنود أمد بهم، عليهم عبيد الله بن معمر، وشبل بن معبد البجلى، فالتقوا بفارس، فقال شهرك لابنه وهو في المعركة؛ وبينهم وبين قرية تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ، وكان بينهم وبين قرارهم اثنا عشر فرسخًا: يا بني، أين يكون غداؤنا؟ ها هنا أو ريشهر؟ فقال: يا أبت إن تركونا فلا يكون غداؤنا ها هنا ولا ريشهر، ولا يكونن إلا في المنزل، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون القتال، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، قتل فيه شهرك وابنه، وقتل الله جلّ وعزّ منهم مقتلة عظيمة وولى قتل شهرك الحكم بن أبي العاص بن بشر بن دهمان، أخو عثمان. وأما أبومعشر فإنّه قال: كانت فارس الأولى وإصطخر الآخرة في سنة ثمان وعشرين. قال: وكانت فارس الآخرة وجور سنة تسع وعشرين؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان بن صالح، قال: حدثني عبيد الله، قال: أخبرنا عبيد الله بن سليمان، قال: كان عثمان بن أبي العاص أرسل إلى البحرين، فأرسل أخاه الحكم بن أبي العاص في ألفين إلى توج؛ وكان كسى قد فرّ عن المدائن، ولحق بجور من فارس. قال: فحدثني زياد مولى الحكم بن أبي العاص، عن الحكم بن أبي العاص، قال: قصد إلى شهرك - قال عبيد: وكان كسرى أرسله الحكم: فصعد إلي في الجنود فهبطوا من عقبة، عليهم الحديد، فخشيت أن تعشو أبصار الناس، فأمرت مناديًا، فنادى أنّ من كان عليه عمامة فليلفها على عينيه، ومن لم يكن عليه عمامة فليغمض بصره؛ وناديت أن حطوا عن دوابكم. فلما رأى شهرك ذلك حط أيضًا. ثم ناديت: أن اركبوا، فصففنا لهم وركبوا، فجعلت الجارود العبدي على الميمنة وأبا صفرة على الميسرة - يعني أبا المهلب - فحملوا على المسلمين فهزموهم؛ حتى ما أسمعلهم صوتًا، فقال لي الجارود: أيها الأمير؛ ذهب الجند، فقلت: إنك ستري أمرك، فلما لثنا أن رجعت خليهم، ليس عليها فرسانها، والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرءوس بين يدي، ومعي بعض ملوكهم - يقال له المكعبر، فارق كسرى ولحق بي - فأتيت برأس ضخم، فقال المكعبر: هذا رأس الازدهاق - يعني شهرك - فحوصروا في مدينة سابور، فصالحهم - وملكهم آذريبان - فاستعان الحكم آذربيان على قتال أهل إصطخر، ومات عمر رضي الله عنه؛ فبعث عثمان عبيد الله بن ممعمر مكانه، فبلغ عبيد الله أن آذربيان يريد أن يغدر بهم، فقال له: إني أحبّ أن تتخذ لأصحابي طعامًا، وتذبح لهم بقرة، وتجعل عظامهما في الجفنة التي تليني، فإني أحبّ أن أتمشش العظام. ففعل، فجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر إلا بالفئوس، فكسره بيده، فيتمخخه - وكان من أشد الناس - فقام الملك، فأخذ برجله، وقال: هذا مقام العائذ. فأعطاه عهدًا، فأصابت عبيد الله منجنيفة، فأوصاهم، فقال: إنكم ستفتحون هذه المدينة إن شاء الله فاقتلوهم بي فيها ساعة. ففعلوا فقتلوا منهم بشرًا كثيرًا. وكان عثمان بن أبي العاص لحق الحكم، وقد هزم شهرك، فكتب إلى عمر: إنّ بيني وبين الكوفة فرجة أخاف أن يأتيني العدوّ منها. وكتب صاحب الكوفة بمثل ذلك: إنّ بيني وبين كذا فرجة. فاتفق عنده الكتابان، فبعث أبا موسى في سبعمائة، فأنزلهم البصرة. ذكر فتح فسا ودارابجرد كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: وقصج سارية بن زنيم، فسا ودارا بجرد، حتى انتهى إلى عسكرهم، فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله. ثم إنهم استمدّوا، فتجمعّوا وتجمّعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمع كثير؛ فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد: الصلاة جامعة! حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم؛ وكان أريهم والمسلمون بصحراء؛ إن أقاموا فيهاأحيط بهم، وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد ثمّ قام فقال: يأيها الناس؛ إني رأيت هذين الجمعين - وأخبر بحالهما - ثم قال: يا سارية، الجبل، الجبل! ثمّ أقبل عليهم، وقال: إنّ لله جنودًا، ولعل بعضها أن يبلغهم؛ ولما كانت تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد؛ فهزمهم الله لهم؛ وكتبوا بذلك إلى عمر واستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمر دثار بن أبي شبيب، عن أبي عثمان وأبيعمرو بن العلاء، عن رجل من بني مازن، قالا: كان عمر قد بعث سارية بن زنيم الدؤلي إلى فسا ودار بجرد؛ فحاصرهم. ثم إنهم تداعوا فأصحروا له، وكثروه فأتوه من كلّ جانب، فقال عمر وهو يخطب في يوم جمعة: يا سارية بن زنيم، الجبل، الجبلّ ولما كان ذلك اليوم وإلى جنب المسلمين جبل، إن لجئوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فلجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزموهم، فأصاب مغانمهم وأصاب في المغانم سفطًا فيه جوهر، فاستوهبه المسلمين لعمر، فوهبوه له فبعث به مع رجل، وبالفتح. وكان الرسل والوفد يجازون وتقضى لهم حوائجهم، فقال له سارية: استقرض ما تبلّغ به وما تخلفه لأهلك على جائزتك. فقدم الرجل البصرة، ففعل، ثمّ خرج فقدم على عمر، فوجده يطعم الناس، ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره، فقصد له، فأقبل عليه بها، فقال: اجلس، فجلس حتى إذا أكل القوم انصرف عمر، وقام فأتبعه، فظن عمر أنه رجل لم يشبع، فقال حين انتهى إلى باب داره: ادخل - وقد أمر الخبّاز أن يذهب بالخوان إلى مطبخ المسلمين - فلما جلس في البيت أتى بغدائه خبز وزيت وملح جريش، فوضع وقال: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟ قالت: إني لأسمع حس رجل، فقال: أجل، فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال اشتريت لي غير هذه الكسوة؛ فقال: أو ما ترضين أن يقال: أمّ كلثوم بنت علي وامرأة عمر! فقالت: ما أقل غناء ذلك عني! ثم قال للرجل: ادن فكل؛ فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى، فأكلا حتى إذا فرغ قال: رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين. فقال: مرحبًا وأهلًا، ثم أدناه حتى مسّت ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم، فأخبره، ثم أخبره بقصّة الدرج، فنظر إليه ثم صاح به، ثم قال: لا ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجند فتقسمه بينهم. فطرده، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني قد أنضيت إبلي واستقرضت في جائزتي، فأعطني ما مأتبلّغ به؛ فما زال عنه حتى أبدله بعيرًا ببعيره من إبل الصدقة، وأخذ بعيره فأدخله في إبل الصدقة، ورجع الرسول مغضوبًا عليه محرومًا حتى قدم البصرة، فنفذ لأمر عمر، وقد كان سأله أهل المدينة عن سارية، وعن الفتح وهل سمعوا شيئًا يوم الوقعة؟ فقال: نعم، سمعنا: يا سارية، الجبل وقد كدنا نهلك، فلجأنا إليه، ففتح الله علينا. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، مثل حديث عمرو. ذكر فتح كرمان كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو؛ قالوا: وقصد سهيل بن عدي إلى كرمان، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعلى مقدمة سهيل بن عدي النسير بن عمرو العجلي، وقد حشد له أهل كَرمان، واستعانوا بالقفس؛ فاقتتلوا في أدنى أرضهم، ففضّهم الله، فأخذوا عليهم بالطريق، وقتل النسير مرزبانها، فدخل سهيل من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت، وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير، فأصابوا ما شاءوا من بعير أوشاء، فقوّموا الإبل والغنم فتحاصوها باللأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا إلى عمر؛ فكتب إليهم: إن البعير العربي إنما قوم بتعيير اللحم؛ وذلك مثله؛ فإذا رأيتم أنّ في البخت فضلًا فزيدوا فإنما هي من قيمه. وأما المداثني، فإنه ذكر أنّ علي بن مجاهد أخبره عن حنبل بن أبي حريدة - وكان قاضي قهستان - عن مرزبان قهستان، قال: فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر بن الخطاب، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني افتتحت الطبسين فأقطعنيهما، فأراد أن يفعل، فقيل لعمر: إنهما رستاقان عظيمان، فلم يقطعه إياهما؛ وهما بابا خراسان. ذكر فتح سجستان قالوا: وقصد عاصم بن عمرو لسجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلوهم فالتقوا هم وأهل سجستان في أدنى أرضهم، فهزموهم ثم أتبعوهم، حتى حصروهم بزرنج، ومخروا أرض سجستان ما شاءوا. ثمّ إنهم طلبوا الصلح على زرنج ما احتازوا من الأرضين؛ فأعطوه، وكانوا قد اشترطوا في صلحهم أنّ فدا فدها حمى؛ فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروا خشية أن يصيبوا منها شيئًا، فيخفروا. فتم أهل سجستان على الخراج والمسلمون على الإعطاء؛ فكانت سجستان أعظم من خراسان، وأبعد فروجًا، يقاتلون القنارهار والترك وأممًا كثيرة، وكانتفيما بين السند إلى نهر بلخ بحياله، فلم تزل أعظم البلدين، وأصعب الفرجين، وأكثرها عددًا وجندًا؛ حتى زمان معاوية، فهرب الشاه من أخيه - واسم أخي الشاه يومئذ رتبيل - إلى بلد فيها يدعى آمل، ودانوا لسلم بن زياد، وهو يومئذ على سجسان، ففرح بذلك وعقد لهم، وأنزلهم بتلك البلاد، وكتب إلى معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه. فقال معاوية: إنّ ابن أخي ليفرح بأنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه، قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنّ آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم نكر غدر، فيضطرب الحبل غدًا، فأهون ما يجيء منهم أني يغلبوا على بلاد آمل بأسرها وتم لهم على عهد ابن زياد؛ فلمّا وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه، وغلب على آمل، وخاف رتبيل الشاه فاعتصم منه بمكانه الذي هوبه اليوم، ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع في زرنج، فغزاها فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة، فصار رتبيل والذين جاءوا معه؛ فنزلوا تلك البلاد شجًا لم ينتزع إلى اليوم؛ وقد كانت تلك البلاد مذلّلة إلى أن مات معاوية. فتح مكران قالوا: وقصد الحكم بن عمرو التغلبي لمكران؛ حتى انتهى إليها؛ ولحق به شهاب بن المخارق بن شهاب، فانضمّ إليه، وأمدّه سهيل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله بن عتبانبأنفسهما، فانتهوا إلى دوين النهر، وقد انفضّ أهل مكران إليه حتى نزلوا على شاطئه، فعسكروا، وعبر إليهم راسل ملكهم ملك السند، فازدلف بهم مستقبل المسلمين. فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام، بعد ما كان قد انتهى إليه أوائلهم، وعسكروا به ليلحق أخراهم، فهزم الله راسل وسلبه، وأباح المسلمين عسركهن وقتلوا في المعركة مقتلة عظيمة، وأتبعوهم يقتلونهم أيامًا، حتى انتهوا إلى النهر. ثم رجعوا فأقاموا بمكران. وكتب الحكم إلى عمر بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي، واستأمره في الفيلة، فقدم صحار على عمر بالخبر والمغانم، فسأله عمر عن مكران - وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه - فقال: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وتمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرّها طويل، والكثير بها قليل، والقليلُ بها ضائع وما وراءها شر منها. فقال: اسجاعٌ أنت أم مخبر؟ قال: لا بل مخبر، قال: لا، والله يغزوها جيش لي ما أطعتُ؛ وكتب إلى الحكم بن عمرو وإلى سهيل ألا يجوزن مكران أحد من جنودكما واقتصرا على ما دون النهر؛ وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام، وقسم أثمانها على من أفاءها الله عليه. وقال الحكم بن عمرو في ذلك: لقد شبع الأرامل غير فخر ** بفيء جاءهم من مكران أتاهم بعد مشغبة وجهد ** وقد صفر الشتاء من الدخان فإني لا يذم الجيش فعلى ** ولا سيفي يذم ولا سنان غداة أدفع الأوباش دفعًا ** إلى السند العريضة والمداني ومهران لنا فينا أردنا ** مطيع غير مسترخي العنان فلولا ما نهى عنه أميري ** قطعناه إلى البدد الزواني خبر بيروذ من الأهواز قالوا: ولما فصلت الخيول إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد وغيرهم، وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن يسير حتى ينتهي إلى ذمة البصرة، كي لا يؤتي المسلمون من خلفهم، وخشي أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف، أو يخلفوا في أعقابهم؛ فكان الذي حذر من اجتماع أهل بيروذ؛ وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، فخرج أبو موسى حتى ينزل بيروذ على الجمع الذي تجمّعوا بها في رمضان؛ فالتقوا بين نهر تيري ومناذر؛ وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد، ليكيدوا المسلمين، وليصيبوا منهم عورة؛ ولم يشكوا في واحدة من اثنتين. فقام المهاجرين زياد وقد تحنّط واستقتل، فقال لأبي موسى: أقمم علي كل صائم لما رجع فأفطر. فرجع أخوه فيمن رجع لإبرار القسم، وإنما مأراد بذلك توجيه أخيه عنه لئلا يمنعه من الاستقتال؛ وتقدّم فقاتل حتى قتِل، ووهن الله المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة؛ وأقبل أخوه الربيع، فقال: هيء يا والع الدنيا؛ واشتدّ جزعه عليه؛ فرقّ أبو موسى للربيع للذي رآه دخله من مصاب أخيه، فخلفه عليهم في جند؛ وخرج أبو موسى حتى بلغ إصبهان، فلقى بها جنود أهل الكوفة محاصري جي، ثم انصرف إلى البصرة؛ بعد ظفر الجنود، وقد فتح الله على الربيع بن زياد أهل بيروذ من نهر تيري؛ وأخذ ما كان معهم من السبي، فتنقى أبو موسى رجالًا منهم ممن كان لهم فداء - وقد كان الفداء أرد على المسلمين من أعيانهم وقيمتهم فيما بينهم - ووفد الوفود والأخماس؛ فقام رجل من عنزة فاستوفده؛ فأبى فخرج فسعى به فاستجلبه عمر، وجمع بينهما فوجد أبا موسى أعذر إلا في أمر خادمه، فضعفه فردّه إلى عمله، وفجّر الآخر؛ وتقدم إليه في ألا يعود لمثلها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة والمهلب وعمرو، قالوا: لما رجع أبو موسى عن إصبهان بعد دخول الجنود الكور، وقد هزم الربيع أهل بيروذ، وجمع السبي والأموال؛ فغدا على ستين غلامًا من أبناء الدهاقين تنقاهم وعزلهم؛ وبعث بالفتح إلى عمر، ووفّد وفدًا فجاءه رجل من عنزة، فقال: اكتبني في الوفد، فقال: قد كتبنا من هو أحق منك؛ فانطلق مغاضبًا مراغمًا، وكتب أبو موسى إلى عمر: إنّ رجلًا من عنزة يقا له ضبة بن محصن، كان من أمره.. وقص قصته. فلما قدم الكتاب والوفد والفتح على عمر قدم العنزي فأتى عمر فسلم عليه، فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحبًا ولا أهلًا! فقال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل؛ فاختلف إليه ثلاثًا، يقول له هذا ويرد عليه هذا؛ حتى إذا كان في اليوم الرابع، دخل عليه، فقال: ما نقمت على أميرك؟ قال: تنقى ستين غلامًا من أبناء الدهاقين لنفسه؛ وله جارية تدعى عقيلة، تغدى جفنة وتعشى جفنة، وليس منا رجل يقدر على ذلك؛ وله قفيزان، وله خاتمان، وفوّض إلى زياد ابن سفيان - وكان زياد يلي أمور البصرة - وأجاز الحطيئة بألف. فكتب عمر كل ما قال. فبعث إلى أبي موسى؛ فلما قدم حجبه أيامًا؛ ثم دعا به، ودعا ضبة بن محصن؛ ودفع إلي الكتاب، فقال: اقرأ ما كتبت، فقرأ: أخذ ستين غلامًا لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين؛ فقال ضبّة: والله ما كذب ولا كذبت، وقال: له قفيزان؛ فقال أبو موسى: فقيز لأهلي أقوتهم، وقفيز للمسلمين في أيديهم؛ يأخذون به أرزاقهم؛ فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت؛ فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر؛ وعلم أنّ ضبّة قد صدقه. قال: وزياد يلي أمور الناس ولا يعرف هذا مايلي؛ قال: وجدت له نُبلا ورأيًا، فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بألف، قال: سددتُ فمه بمالي أن يشتمني، فقال: قد فعلت ما فعلت. فردّه عمر وقال: إذا قدمت فأرسل إلي زيادًا وعقيلة، ففعل، فقدمتعقيلة قب زياد؛ وقدم زياد فقام بالبا، فخرج عمر وزياد بالباب قائم، وعليه ثياب بياض كتّان، فقال له: ما هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير، وصدّقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال ألفان، قال: ما صنعت في أول عطاء خرج لك؟ قال: اشتريت والدتي فأعتقتها، واشتريت في الثاني ربيبي عبيدًا فأعتته، فقال: وفقت، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن، فوجده فقيهًا. فردّه، وأمر أمراء البصرة أن يشربوا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة. وقال عمر: ألا إن ضبّة العنزي غضب على أبي موسى في الحق أن أصابه، وفارقه مراغمًا أن فاته أمر من أمور الدنيا، فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه؛ فإياكم والكذب؛ فإنّ الكذب يهدي إلى النار. وكان الحطيئة قد لقيه فأجازه في غزاة بيروذ، وكان أبو موسى قد ابتدأ حصارهم وغزاتهم حتى فلهم، ثم جازهم ووكلّ بهم الربيع؛ ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القسم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، عن أسيد بن المتشمس بن أخي الأحنف بن قيس، قال: شهدت مع أبي موسى يوم إصبهان فتح القرى، وعليها عبد الله بن ورقاء الرياحي وعبد الله بن ورقاء الأسدي. ثم إنّ أبا موسى صرف إلى الكوفة، واستعمل على البصرة عمر بن سراقة المخزومي، بدوي. ثم إن إبا موسى مرد على البصرة، فمات عمر وأبو موسى على البصرة على صلاتها، وكان عملها مفترقًا غير مجموع؛ وكان عمر ربما بعث إليه فأمدّ به بعض الجنود، فيكون مدّدًا لبعض الجيوش. ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد حدثني عبد الله بن كثير العبدي، قال: حدثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا أبو جَناب، قال: حدثنا أبو المحجل الرديني، عن مخلد البكري وعلقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، أن أمير المؤمنين كان إذا اجتمع إليه جيش من أهل الإيمان أمر عليهم رجلًا منأهل اعلم والفقه؛ فاجتمع إليه جيش من أهل الإيمان أمر عليهم رجلًا من أهل العلم والفقه؛ فاجتمع إليه جيش، فبعث عليهم سملة بن قيس الأشجعي فقال: سر باسم الله، قاتل في سبيل الله من كفر بالله؛ فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال: ادعوهم إلى الإسلام فإن اسملوا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة، وليس لهم في فيء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن يكونوا معكم مفلهم مثل الذي لكم، وعليهم مثل الذي عليكم؛ فإن أبوا فادعوهم إلى الخراج؛ فإن أقروا بالخراج فقاتلوا عدوّهم من ورائهم؛ وفرّغوهم لخراجهم؛ ولا تكلّفوهم فوق طاقتهم؛ فإن أبوأ فقاتلوهم؛ فإنّ الله ناصركم عليهم؛ فإن تحصنُوا منكم في حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله وحكم رسوله؛ فلا تنزلوهم على حكم الله: فإنكم لا تدرون ما حكم مه ورسوله فيهم! وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمّة الله وذمَة رسوله فلا تعطُوهم ذمّة الله وذمة رسوله؛ وأعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغلوا ولاتغدروا ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا. قال سلمة: فسرنا حتى لقينا عدونا من المشركين، فدعوناهم إلى ما أمر به أمير المؤمنين، فأبوا أن يسلموا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا أن يقروا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، وجمعنا الرثة، فرأى سلمة بن قيس شيئًا من حلية، فقال: إنّ هذا لا يبلغفيكم شيئًا، فتطيب أنفسكم أن نبعث به إلى أمير المؤمنين، فإنّ له بردًا ومؤونة؟ قالوا: نعم، قد طابت أنفسنا. قال: فجعل تلك الحلية فس يفط، ثم بعث برجل من قومه، فقال: اركب بها؛ فإذا اتيت البصرة فاشتر على جوائز أمير المؤمنين راحلتين؛ فأوقرهما زادًا لك ولغلامك، ثم سر إلى أمير المؤمنين. قال ففعلت، فأتيت أمير المؤمنين وهو يغدّي الناس متكئًا على عصا كما يصنع الراعي وهو يدور على القصاع، يقول: يا برفأ؛ زد هؤلاء لحمًا، زد هؤلاء خبزًا، زد هؤلاء مرقة، فلما دفعت إليه، قال: اجلس؛ فجلست في أدنى الناس؛ فإذا طعام فيه خشونة طعامي، الذي معي أطيبُ منه فلما فرغ الناس من قصاعهم قال: يا يرفأ، ارفع قصاعك ثمّ أدبر؛ فاتبعته فدخل دارًا، ثم دخل حجرة، فاستأذنت وسلمت، فأذن لي، فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح تكىء على وسادتين من أدم محشوّتين ليفًا؛ فنبذ إلى بإحدهما، فجلست عليها، وإذا بهو في صفة فيها بيت عليه ستير، فقال: يا أم كلثوم، غداءناّ فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم، ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا؟ قالت: إني أسمع عندك حسن رجل، قال: نعم ولا أراه من أهل البلد - قال: فذلك حين عرفت أنه لم يعرفني - قالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما مكسا ابن جعفر امرأته، وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته! قال: أو ما يكفيك أن يقال: أمّ مكلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر! فقال: مكل؛ فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا. قال: فأكلت قليلًا - وطعامي الذي معي أطيب منه - وأكل، فما رأيت أحدًا أحسن أكلا منه ما يتلبّس طعامه بيده ولا فمه، ثم قال: اسقونا، فجاءوا بعس من سلت فقال: أعط مالرجل، قال: فشربت قليلاُ، سويقي الذي معي أطيب منه، ثم أخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته، وقال: الحمد لله الذي أطعمنا فأشعبنا، وسقانا فأروانا. قال: قلت: قد أكل أمير المؤمنين فشبع، وشرب فروى؛ حاجتي يا أمير المؤمنين! قال: وما حاجتك؟ قال: قلت: أنا رسول مسملة بن قيس، قال: مرحبًا بسلمة بن قيس ورسوله، حدثني معن المهاجرين كيف هم؟ قال: قلت: هم يا أمير المؤمنين كما تحبّ من السلامة والظفر على عدوهم قال: كيف أسعارهم؟ قال: قلت: أرخص أسعار. قال: كيف اللحم فيهم فإنها مشجرة العرب ولا تصلح العرب إلا بشجرتها؟ قال: قلت: البقرة فيهم بكذا، والشاة فيهم بكذا يا مأمير المؤمنين، سرنا حتى لقينا عدونا من المشركين فدعوناهم إلى ما أمرتنا به من الإسلام فأبوا، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلو وسبينا الذرية، وجمعنا الرثة؛ فرأى سملة في الرثّة حلية، فقال للناس: إن هذا لا يبلغ فيكم شيئًا، فتطيب أنفسكم أن أبعث به إلى أمير المؤمنين؟ فقالوا: نعم. فاستخرجت سفطي، فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأصفر وأخضر، وثب ثم جعل يده في خاصرته، ثم قال: لا أشعبع الله إذًا بطن عمر! قال: فظن النساء أني أريد أن أغتاله، فجئن إلى الستر، فقال: كف ما جئت به، يا يرفأ، جأ عنقه. قال: فأنا أصلح سفطي وهو يجأ عنقي! قلت: يا أمير المؤمنين أبدع بي فاحملني، قال: يا يرفأ أعطه راحلتين من الصدقة، فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه. قلت: أفعل يا أمير المؤمنين، فقال: أما والله لئن تفرق المسلمون في مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة. قال: فارتحلت حتى أتيت سملة، فقلت: ما بارك الله لي فيما اختصصتني به، اقسم هذا في الناس قبل أن تصيبني وإياك فاقرة، فقسمه فيهم، والفص يباع بخمسة دراهم وستة دراهم؛ وهو خير من عشرين ألفًا. وأما السري فإنه ذكر - فيما كتب به إلى يذكر عن شعيب، عن سيف، عن أبي جناب، عن سليمان بن بريدة - قال: لقيت رسول سلمة ابن قيس الأشجعي، قال: كان عمر بن الخطاب إذا اجتمع إليه جيش من العرب.. ثم ذكر نحو حديث عبد الله بن كثير عن جعفر بن عون؛ غير أنه قال في حديثه عن شعيب عن سيف: وأعطوهم ذمم أنفسكم. قال: فلقينا عدونا من الأكراد، فدعوناهم. وقال أيضًا: وجمعنا الرثة، فوجد فيها سلمة حقتين جوهرًا، فجعلها في سفط. وقال أيضًا: أو ما كفاك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب امرأة عمر بن الخطاب! قالت: إنّ مذلك عني لقليل الغناء، قال: كل. وقال أيضًا: فجاءوا بعس من سلت، كلما حركوه فار فوقه مما فيه؛ وإذا تركوه سكن. ثم قال: اشرب، فشربت قليلًا؛ شرابي الذي معي أطيب منه، فأخذ القدح فضرب به جبهته. ثم قال: إنك لضعيف الأكل، ضعيف الشرب. وقال أيضًا: قلت: رسول سلمة، قال: مرحبًا بسلمة وبرسوله؛ وكأنما خرجت من صلبه، حدثني عن المهاجرين. وقال أيضًا: ثم قال: لا أشبع الله إذًا بطن عمر! قال: وظنّ النساء أني قد اغتلته، فكشفن الستر؛ وقال: يا يرفأ، جأ عنقه؛ فوجأ عنقي وأنا أصيح، وقال النجاء؛ وأظنّك ستبطىء. وقال: أما والله الذي لا إليه غيره لئن تفرّق الناس إلى مشاتيهم.. وسائر الحديث نحو حديث عبد الله بن كثير. وحدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا شهاب بن خراش الحوشبي، قال: حدثنا الحجاج بن دينار، عن منصور ابن المعتمر، عن شقيق بن سلمة الأسدي، قال: حدثنا الذي جرى بين عمر بن الخطاب وسلمة بن قيس، قال: ندب عمر بن الخطاب الناس إلى سلمة بن قيس الأشجعي بالحيرة، فقال: انطلقوا باسم الله.. ثم ذكر نحو حديث عبد الله بن كثير، عن جعفر. قال أبو جعفر: وحجّ عمر بأزواج رسول الله ﷺ في هذه السنة؛ وهي آخر حجّة حجّها بالناس؛ حدثني بذلك الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن الواقدي. ذكر الخبر عن وفاة عمر وفي هذه السنة كانت وفاته ذكر الخبر عن مقتله حدثني سلم بن جنادة، قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثنا أبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن المسور بن مخرمة. - وكانت أمّه عاتكة بنت عوف - قال: خرج عمر بن الخطاب يومًا يطوف في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة؛ وكان نصرانيًّا، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة؛ فإنّ علي خراجًا كثيرًا، قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان في كلّ يوم، قال: وأيشٍ صناعتك؟ قال: نجّار، نقّاش، حدّاد، قال: فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال؛ قد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أعمل رحًا تطحن بالريح فعلت، قال: نعم؛ قال: فاعمل لي رحًا، قال: لئن سلمت لأعملنّ لك رحًا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف عنه؛ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لقد توعّدني العبد آنفًا! قال: ثمّ انصرف عمر إلى منزله؛ فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد، فإنك ميّت في ثلاثة أيام؛ قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة، قال عمر: آلله إنك لتجد عمر ابن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهمّ لا؛ ولكني أجد صفتك وحليتك، وأنه قد فني أجلك - قال: وعمر لا يحسّ وجعًا ولا ألمًا - فلما كان من الغد جاءه كعب، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهب يومان وبقي يوم وليلة؛ وهي لك إلى صبيحتها. قال: فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة؛ وكان يوكّل بالصّفوف رجالا؛ فإذا استوت جاء هو فكبّر. قال: ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ستّ ضربات، إحداهنّ تحت سرّته؛ وهي التي قتلته؛ وقتل معه كليب ابن أبي البكير الليثي - وكان خلفه - فلما وجد عمر حرّ السلاح سقط، وقال: أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، هو ذا؛ قال: تقدّم فصلّ بالناس، قال: فصلى عبد الرحمن بن عوف، وعمر طريح، ثم احتمل فأدخل داره، فدعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: إني أريد أن أعهد إليك؛ فقال: يا أمير المؤمنين نعم؛ إن أشرت علي قبلت منك؛ قال: وما تريد؟ قال: أنشدك الله؛ أتشير علي بذلك؟ قال: اللهم لا، قال: والله لا أدخل فيه أبدًا، قال: فهب لي صمتًا حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض. ادع لي عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا. قال: وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثًا فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم؛ أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس؛ أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس؛ أنشك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئًا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس؛ قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم؛ وليصلّ بالناس صهيب. ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فقال: قم على بابهم؛ فلا تدع أحدًا يدخل إليهم؛ وأوصى الخليفة من بعدي بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، أن يحسن إلى محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم؛ وأوصى الخليفة من بعدي بالعرب؛ فإنها مادّة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فيوضع في فقرائهم، وأوصى الخليفة من بعدي بذمّة رسول الله ﷺ أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلّغت! تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة؛ يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيّتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة؛ يا عبد الله بن عمر، اذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي ﷺ وأبي بكر، يا عبد الله بن عمر، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر؛ وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتّبع اعلحزب الذي فيه عبد الرحمن؛ يا عبد الله ائذن للناس، قال: فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه، ويقول لهم: أعن ملأ منكم كان هذا؟ فيقولون: معاذ الله! قال: ودخل في الناس كعب، فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول: فأوعدني كعب ثلاثًا أعدّها ** ولا شكّ أن القول ما قال لي كعب وما بي حذار الموت إنّي لميّت ** ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب قال: فقيل له: يا أمير المؤمنين لو دعوت الطبيب! قال: فدعى طبيب من بني الحارث بن كعب، فسقاه نبيذًا فخرج النبيذ مشكّلًا، قال: فاسقوه لبنًا، قال: فخرج اللبن محضًا، فقيل له: يا أمير المؤمنين، اعههد، قال: قد فرغت. قال: ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين. قال: فخرجوا به بكرة يوم الأربعاء، فدفن في بيت عائشة مع النبي ﷺ وأبي بكر. قال: وتقدّم صهيب فصلّى عليه، وتقدّم قبل ذلك رجلان من أصحاب رسول الله ﷺ: علي وعثمان، قال: فتقدّم واحد من عند رأسه، والآخر من عند رجليه؛ فقال عبد الرحمن: لا إله إلا الله؛ ما أحرصكما على الإمرة! أما علمتما أنّ أمير المؤمنين قال: ليصلّ بالناس صهيب! فتقدّم صهيب فصلّى عليه. قال: ونزل في قبره الخمسة. قال أبو جعفر: وقد قيل إن وفاته كانت في غرّة المحرّم سنة أربع وعشرين. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه قال: طعن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجّة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرّم سنة أربع وعشرين؛ فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين ليلة، من متوفّى أبي بكر، على رأس اثنتين وعشرين سنة وتسعة أشهر وثلاثة عشر يومًا من الهجرة. وبويع لعثمان بن عفان يوم الاثنين لثلاث مضين من المحرم. قال: فذكرت ذلك لعثمان الأخنسي، فقال: ما أراك إلا وهلت؛ توفّيَ عمر رضي الله تعالى عنه لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان بن عفّان لليلة بقيت من ذي الحجّة، فاستقبل بخلافته المحرّم سنة أربع وعشرين. وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر، قال: قتل عمر يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجّة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام؛ ثم بويع عثمان بن عفان. قال أبو جعفر: وأما المدائني، فإنه قال فيما حدثني عمر عنه، عن شريك، عن الأعمش - أو عن جابر الجعفي - عن عوف بن مالك الأشجعي وعامر بن أبي محمد، عن أشياخ من قومه؛ وعثمان بن عبد الرحمن، عن ابني شهاب الزهري، قالوا: طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة. قال: وقال غيرهم: لستّ بقين من ذي الحجة. وأما سيف، فإنه قال فيما كتب إلي به السريبّ يذكر أن شعيبًا حدثه عنه، عن خليد بن ذفرة ومجالد، قال: استخلف عثمان لثلاث مضين من المحرم سنة أربع وعشرين، فخرج فصلّى بالناس العصر؛ وزاد: ووفّد فاستنّ به. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان؛ لثلاث مضين من المحرّم؛ وقد دخل وقت العصر، وقد أذّن مؤذن صهيب، واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلّى بالناس، وزاد الناس مائة؛ ووفّد أهل الأمصار، وصنع فيهم. وهو أوّل من صنع ذلك. وحدثت عن هشام بن محمد، قال: قتل عمر لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام. ذكر نسب عمر رضي الله عنه حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر وهشام ابن محمد. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قالوا جميعًا في نسب عمر: هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي. وكنيته أبو حفص، وأمّه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. تسميته بالفاروق قال أبو جعفر: وكان يقال له الفاروق. وقد اختلف السلف فيمن سمّاه بذلك، فقال بعضهم: سماه بذلك رسول الله ﷺ. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو حزرة يعقوب بن مجاهد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي عمرو ذكوان، قال: قلت لعائشة: من سمّى عمر الفاروق؟ قالت: النبي ﷺ. وقال بعضهم: أوّل من سمّاه بهذا الاسم أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك حدثنا الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، قال: قال ابن شهاب: بلغنا أنّ أهل الكتاب كانوا أوّل من قال لعمر: الفاروق؛ وكان المسلمون يأثرون ذلك من قولهم؛ ولم يبلغنا أن رسول الله ﷺ ذكر من ذلك شيئًا. ذكر صفته حدثنا هنّاد بن السري، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، قال: خرج عمر في يوم عيد - أو في جنازة زينب - آدم طوالًا أصلع أعمر يسرًا، يمشي كأنه راكب. حدثنا هنّاد؛ قال: حدثنا شريك، عن عاصم، عن زرّ، قال: رأيت عمر يأتي العيد ماشيًا حافيًا أعمر أيسر متلبّبًا بردًا قطريًّا، مشرفًا على الناس كأنه على دابّة؛ وهو يقول: أيّها الناس؛ هاجروا ولا تهجّروا. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد؛ قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عمر بن عمران بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: رأيت عمر رجلًا أبيض أمهق، تعلوه حمرة، طوالًا أصلع. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا شعيب بن طلحة، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، قال: سمعت ابن عمر يصف عمر يقول: رجل أبيض، تعلوه حمرة، طوال، أشيب، أصلع. وحدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: أخبرنا خالد بن أبي بكر، قال: كان عمر يصفّر لحيته، ويرجّل رأسه بالحنّاء. ذكر مولده ومبلغ عمره حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: ولدت قبل الفجار الأعظم الآخر بأربع سنين. قال أبو جعفر: واختلف السلف في مبلغ سني عمر، فقال بعضهم: كان يوم قتل ابن خمس وخمسين سنة. ذكر بعض من قال ذلك حدثني زيد بن أخزم الطائي، قال: حدثنا أبو قتيبة، عن جرير ابن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قتل عمر بن الخطّاب وهو ابن خمس وخمسين سنة. وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم ابن حمّاد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: توفي عمر وهو ابن خمس وخمسين سنة. وحدثت عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب أنّ عمر توفي على رأس خمس وخمسين سنة. وقال آخرون: كان يوم توفّي ابن ثلاث وخمسين سنة وأشهر. ذكر من قال ذلك حدثت بذلك عن هشام بن محمد بن الكلبي. وقال آخرون توفّي وهو ابن ثلاث وستين سنة. ذكر من قال ذلك حدثنا ابن المثنّى، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عامر، قال: مات عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال آخرون: توفّي وهو ابن إحدى وستين سنة. ذكر من قال ذلك حدثت بذلك، عن أبي سلمة التبوذكي، عن أبي هلال، عن قتادة. وقال آخرون: توفي وهو ابن ستّين سنة. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: توفّي عمر وهو ابن ستين سنة. قال محمد بن عمر: وهذا أثبت الأقاويل عندنا؛ وذكر عن المدائني أنه قال: توفّي عمر وهو ابن سبع وخمسين سنة. ذكر أسماء ولده ونسائه حدثني أبو زيد عمر بن شبّة، عن علي بن محمد والحارث، عن محمد بن سعد؛ عن محمد بن عمر. وحدثت عن هشام بن محمد - اجتمعت معاني أقوالهم، واختلفت الألفاظ بها - قالوا: تزوّج عمر في الجاهلية زينب ابنة مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة. وقال علي بن محمد: وتزوّج مليكة ابنة جرول الخزاعي في الجاهليّة، فولدت له عبيد الله بن عمر، ففارقها في الهدنة، فخلف عليها بعد عمر أبو الجهم بن حذيفة. وأما محمّد بن عمر، فإنه قال: زيد لأصغر وعبيد الله الذي قتل يوم صفّين مع معاوية، أمّهما أمّ كلثوم بنت جرول بن مالك بن المسيّب بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشيّة بن سلول بن كعب ابن عمرو بن خزاعة؛ وكان الإسلام فرّق بينها وبين عمر. قال علي بن محمد: وتزوّج قريبة ابنة أبي أميّة المخزومي في الجاهليّة، ففارقها أيضًا في الهدنة، فتزوّجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. قالوا: وتزوّج أمّ حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم في الإسلام؛ فولدت له فاطمة فطلّقها. قال المدائني: وقد قيل: لم يطلقها. وتزوج جميلة أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح - واسمه قيس بن عصمة بن مالك بن ضبيعة بن زيد بن الأوس من الأنصار في الإسلام - فولدت له عاصمًا، فطلّقها. وتزوّج أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب؛ وأمّها فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وأصدقها - فيما قيل - أربعين ألفًا، فولدت له زيدًا ورقية. وتزوّج لهيّة، امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن. قال المدائني: ولدت له عبد الرحمن الأصغر. قال: ويقال كانت أمّ ولد. قال الواقدي: لُهيّة هذه أم ولد. وقال أيضًا: ولدت له لهيّة عبد الرحمن الأوسط. وقال: عبد الرحمن الأصغر أمه أمّ ولد. وكانت عنده فكيهة، وهي أمّ ولد وفي أقوالهم فولدت له زينب. وقال الواقدي: هي أصغر ولد عمر. وتزوّج عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل؛ وكانت قبله عند عبد الله ابن أبي بكر؛ فلمّا مات عمر تزوّجها الزبير بن العوّام. قال المدائني: وخطب أمّ كلثوم بنت أبي بكر وهي صغيرة، وأرسل فيها إلى عائشة، فقالت: الأمر إليك، فقالت أمّ كلثوم: لا حاجة لي فيه؛ فقالت لها عائشة: ترغبين عن أمير المؤمنين! قالت: نعم؛ إنه خشن العيش، شديد على النساء؛ فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فأخبرته، فقال: أكفيك؛ فأتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين؛ بلغني خبر أعيذك بالله منه، قال: وما هو؟ قال: خطبت أمّ كلثوم بنت أبي بكر! قال: نعم؛ أفرغبت بي عنها، أم رغبت بها عني؟ قال: لا واحدة؛ ولكنها حدثة نشأت تحت كنف أمّ المؤمنين في لين ورفق؛ وفيك غلظة، ونحن نهابك، وما ننقدر أن نردّك عن خلق من أخلاقك؛ فكيف بها إن خالفتك في شيء، فسطوت بها! كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك. قال: فكيف بعائشة وقد كلّمتها؟ قال: أنا لك بها؛ وأدلّك على خير منها، أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق منها بسبٍ من رسول الله ﷺ. قال المدائني: وخطب أمّ أبان بنت عتبة بن ربيعة، فكرهته، وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابسًا، ويخرج عابسًا. ذكر وقت إسلامه قال أبو جعفر: ذكر أنه أسلم بعد خمسة وأربعين رجلًا وإحدى وعشرين امرأة. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن عبد الله، عن أبيه، قال: ذكرت له حديث عمر، فقال: أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صعير، قال: أسسلم عمر بعد خمسة وأربعين رجلًا وإحدى وعشرين امرأة. ذكر بعض سيره حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن فضيل، عن ضرار، عن حصين المرّي، قال: قالعمر: نما مثل العرب مثل جمل أنفٍ اتبع قائده، فلينظر قائده حيث يقوده؛ فأمّا أنا فوربّ الكعبة لأحملنّهم على الطريق. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس، عن الحسن، قال: قال عمر: إذا كنت في منزلة تسعني وتعجز عن الناس فوالله ما تلك لي بمنزلة حتى أكون أسوةً للناس. حدثنا خلّاد بن أسلم، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا قطن، قال: حدثنا أبو يزيد المديني، قال: حدثنا مولىً لعثمان ابن عفان، قال: كنت رديفًا لعثمان بن عفان؛ حتى أتى على حظيرة الصدقة في يوم شديد الحرّ شديد السموم؛ فإذا رجل عليه إزار ورداء، قد لفّ رأسه برداء يطرد الإبل يدخلها الحظيرة؛ حظيرة إبل الصدقة؛ فقال عثمان: من ترى هذا؟ قال: فانتهينا إليه؛ فإذا هو عمر بن الخطاب، فقال: هذا والله القوي الأمين. حدثني جعفر بن محمد الكوفي وعباس بن أبي طالب؛ قالا: حدثنا أبو زكرياء يحيى بن مصعب الكلبي، قال: حدثنا عمر بن نافع، عن أبي بكر العبسي، قال: دخلت حير الصدقة مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، قال: فجلس عثمان في الظلّ يكتب، وقام على رأسه يملّ عليه ما يقول عمر، وعمر في الشمس قائم في يوم حارّ شديد الحرّ، عليه بردان أسودان؛ متّزرًا بواحد، وقد لفّ على رأسه آخر، يعدّ إبل الصدقة، يكتب ألوانها وأسنانها، فقال علي لعثمان - وسمعته يقول: نعت بنت شعيب في كتاب الله: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين "، ثم أشار علي بيده إلى عمر، فقال: هذا القوي الأمين! حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل، عن يونس، عن الحسن، قال: قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرنّ في الرعيّة حولًا، فإني أعلم أنّ للناس حوائج تقطع دوني؛ أما عمّالهم فلا يرفعونها إلي؛ وأمّا هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشأم، فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا! حدثنى محمد بن عوف، قال: حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، قال حدثنى أبو المخارق زهير ابن سالم، أنّ كعب الأحبار، قال: نزلت على رجل يقال له مالك - وكان جارًا لعمر بن الخطاب - فقلت له: كيف بالدخول على أمير المؤمنين؟ فقال: ليس عليه باب ولا حجاب، يصلي الصلاة ثم يقعد فيكلمه من شاء. حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال حدثنا سفيان، عن يحيى، قال أخبرني سالم، عن أسلم، قال: بعثني عمر بإبل من إبل الصدقة إلى الحمى، فوضعت جهازي على ناقة منها؛ فلما أردت أن أصدرها، قال: اعرضها علي، فعرضتها عليه، فرآى متاعي على ناقة منها حسناء، فقال: لا أم لك! عمدت إلى ناقة تغني أهل بيت المسلمين! فهلّا ابن لبون بوّالًا، أو ناقةً شصوصًا! حدثنى عمر بن إسماعيل بن مجالد الهمدانى، قال: حدثنا أبو معاوية عن أبي حيان، عن أبي الزنباع، عن أبي الدهقانة، قال: قيل لعمر بن الخطاب: إن ها هنا رجلًا من أهل الأنبار له بصر بالديوان؛ لو اتخذته كاتبًا؟! فقال عمر: لقد اتخذت إذًا بطانةً من دون المؤمنين! حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن جدّه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس، فقال: والذى بعث محمدًا بالحق؛ لو أنّ جملا هلك ضياعًا بشطّ الفرات خشيت أن يسأل الله آل الخطاب. قال أبو زيد: آل الخطاب يعنى نفسه، مايعنى غيرها. حدثنا ابن المثنى، قال حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي عمران الجوني، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائجهم؛ فأكرم من قبلك من وجوه الناس، وبحسب المسلم الضعيف من العدل؛ أن ينصف فى الحكم وفى القسم. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت مطرّفًا عن الشعبي، قال: أتى أعرابي عمر، فقال: إن ببعيري نقبًا ودبرًا فاحملني؛ فقال له عمر، ما ببعيرك نقب ولا دبر، قال: فولى وهو يقول: أقسم بالله أبو حفص عمر ** ما مسّها من نقبٍ ولا دبرٍ فاغفر له اللهم إن كان فجر فقال: اللهم اغفر لي! ثم دعا الأعرابي فحمله. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل، قال: أخبرنا أيّوب، عن محمد، قال: نبّئت أن رجلًا كان بينه وبين عمر قرابة، فسأله فزبره، وأخرجه فكلم فيه، فقيل: يا أمير المؤمنين؛ فلان سألك فزبرته وأخرجته، فقال: إنه سألني من مال الله؛ فما معذرتي إن لقيته ملكًا خائنًا! فلولا سألني من مالى! قال: فأرسل إليه بعشرة آلاف. وكان عمر رحمه الله إذا بعث عاملًا له على عمل يقول - ما حدثنا به محمد بن المثّنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، عن يحيي بن حضين، سمع طارق بن شهاب يقول: قال عمر فى عماله: اللهم إني لم أبعثهم ليأخذوا أموالهم، ولا ليضربوا أبشارهم، من ظلمه أميره فلا إمرة عليه دوني. وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة؛ أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوم الجمعة، فقال: اللهمّ إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعلّموا الناس دينهم وسنّة نبيّهم؛ وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا؛ فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: سمعت أبا حصين، قال: كان عمر إذا استعمل العمّال خرج معهم يشيّعهم فيقول: إنّي لم أستعملكم على أمة محمد ﷺ على أشعارهم، ولا على أبشارهم؛ إنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل؛ وإنّي لم أسلّطكم على أبشارهم ولا على أشعارهم؛ ولا تجلدوا العرب فتذلّوها، ولا تجمّروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها؛ جرّدوا القرآن، وألقّوا الرواية عن محمّد ﷺ؛ وأنا شريككم. وكان يقتصّ من عمّاله، وإذا شكي إليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه؛ فإن صحّ عليه أمرٌ يجب أخذه به أخذه به. وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: أخبرنا سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي فراس، قال: خطب عمر ابن الخطاب، فقال: يا أيها الناس؛ إني والله ما أرسل إليكم عمّالًا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم؛ ولكني أرسلهم إليكم ليعلّموكم دينكم وسنّتكم؛ فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي؛ فوالذي نفس عمر بيده لأقصنّه منه. فوثب عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيّة، فأدّب بعض رعيّته، إنك لتقصّه منه! قال: إي والذي نفس عمر بيده إذًا لأقصّنّه منه، وكيف لا أقصّه منه وقد رأيت رسول الله ﷺ يقصّ من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم، ولا تجمّروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيّعوهم. وكان عمر رضي الله عنه - فيما ذكر عنه - يعسّ بنفسه، ويرتاد منازل المسلمين، ويتفقّد أحوالهم بيديه. ذكر الخبر الوارد عنه بذلك حدثنا ابن بشّار، قال: حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا قرّة بن خالد، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف فضربه، فجاءت المرأة ففتحته؛ ثم قالت له: لا تدخل حتى أدخل البيت وأجلس مجلسي، فلم يدخل حتى جلست، ثم قالت: ادخل، فدخل، ثم قال: هل من شيء؟ فأتته بطعام فأكل، وعبد الرحمن قائم يصلّي، فقال له: تجوّز أيّها الرجل؛ فسلم عبد الرحمن حينئذ، ثم أقبل عليه، فقال: ما جاء بك في هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟ قال: رفقة نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سرّاق المدينة، فانطلق فلنحرسهم؛ فانطلقا فأتيا السوق، فقعدا على نشزٍ من الأرض يتحدثان، فرفع لهما مصباح، فقال عمر: ألم أنه عن المصابيح بعد النوم! فانطلقا، فإذا هم قوم على شراب لهم، فقال: انطلق فقد عرفته؛ فلما أصبح أرسل إليه فقال: يا فلان، كنت وأصحابك البارحة على شراب؟ قال: وما علمك يا أمير المؤمنين؟ قال: شيء شهدته؛ فقال: أو لم ينهك الله عن التجسّس! قال: فتجاوز عنه. قال بكر بن عبد الله المزني: وإنّما نهى عمر عن المصابيح، لأن الفأرة تأخذ الفتيلة فترمي بها في سقف البيت فيحترق، وكان إذ ذاك سقف البيت من الجريد. وحدثني أحمد بن حرب، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: حدثني أبي، عن ربيعة بن عثمان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رحمه الله إلى حرّة واقم، حتى إذا كنا بصرار؛ إذا نار تؤرّث؛ فقال: يا أسلم؛ إني أرى هؤلاء ركبًا قصّر بهم الليل والبرد؛ انطلق بنا؛ فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا امرأة معها صبيان لها، وقدر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون؛ فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء - وكره أن يقول: يا أصحاب النار - قالت: وعليك السلام؛ قال: أأدنو؟ قالت: ادن بخير أو دع؛ فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصّر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أسكّتهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر! قال: أيْ رحمك الله، ما يدري عمر بكم! قالت: يتولّى أمرنا ويغفل عنّا! فأقبل علي، فقال: انطلق بنا؛ فخرجنا نهرول؛ حتى أتينا دار الدقيق؛ فأخرج عدلًا فيه كبّة شحم؛ فقال: احمله علي، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: احمله علي؛ مرتين أو ثلاثًا، كلّ ذلك أقول: أنا أحمله عنك؛ فقال لي في آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة، لا أمّ لك! فحمّلته عليه؛ فانطلق وانطلقت معه نهرول، حتى انتهينا إليها، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، فجعل يقول لها: ذرّي علي، وأنا أحرّك لك؛ وجعل ينفخ تحت القدر - وكان ذا لحية عظيمة - فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج وأدم القدر ثم أنزلها، وقال: ابغني شيئًا، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثمّ جعل يقول: أطعميهم، وأنا أسطّح لك؛ فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلّى عندها فضل ذلك، وقام وقمتت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيرًا! أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيرًا، إنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاشء الله. ثم تنحى ناحية عنها؛ ثم استقبلها وربض مربض السبع، فجعلت أقول له: إنّ لك شأنًا غير هذا، وهو لا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ويضحكون ثم ناموا وهدءوا، فقام وهو يحمد الله، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم؛ إنّ الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألّا انصرف حتى أرى ما رأيت منهم. وكان عمر إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم بدأ بأهله، وتقدّم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره كالذي حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر بالمدينة، عن سالم، قال: كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنّ الناس ينظرون إليكم نظر الطير - يعني إلى اللحم - وأقسم بالله لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. قال أبو جعفر: وكان رضي الله عنه شديدًا على أهل الريب، وفي حقّ الله صلبًا حتى يستخرجه، وليّنًا سهلا فيما يلزمه حتى يؤدّيه، وبالضعيف رحيمًا رءوفًا. حدثني عبيد الله بن سعيد الزهري، قال: حدثنا عمّي، قال: حدثنا أبي، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عجلان، أنّ زيد بن أسلم حدثه عن أبيه، أنّ نفرًا من المسلمين كلّموا عبد الرحمن بن عوف، فقالوا: كلّم عمر بن الخطاب؛ فإنه قد أخشانا حتى والله ما نستطيع أن نديم إليه أبصارنا. قال: فذكر ذلك عبد الرحمن بن عوف لعمر، فقال: أوقد قالوا ذلك! فوالله لقد لنت لهم حتى تخوّفت الله في ذلك؛ ولقد اشتددت عليهم حتى خشيت الله في ذلك، وايم الله لأنا أشدّ منهم فرقًا منهم منّي! وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، عن عاصم، قال: استعمل عمر رجلًا على مصر، فبينا عمر يومًا مارّ في طريق من طرق المدينة إذ سمع رجلًا وهو يقول: الله يا عمر! تستعمل من يخون وتقول: ليس علي شيشء، وعاملك يفعل كذا! قال: فأرسل إليه، فلما جاءه أعطاه عصًا وجبّة صوف وغنمًا، فقال: ارعها - واسمه عياض بن غنم - فإن أباك كان راعيًا، قال: ثم دعاه، فذكر كلامًا، فقال: إن أنا رددتك! فردّه إلى عمله، وقال: لي عليك ألّا تلبس رقيقًا، ولا تركب برذونًا! حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الله بن الوليد، عن عاصم، عن ابن خزيمة بن ثابت الأنصاري، قال: كان عمر إذا استعمل عاملًا كتب له عهدًا، وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار، واشترط عليه ألّا يركب برذونًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يتخذ بابًا دون حاجات الناس. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن سلّام بن مسكين، قال: حدثنا عمران، أنّ عمر بن الخطاب كان إذا احتاج أتى صاحب بيت المال، فاستقرضه؛ قال: فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه، فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه. وعن أبي عامر العقدي، قال: حدثنا عيسى بن حفص، قال: حدثني رجل من بني سلمة، عن ابن البراء بن معرور أن عمر رضي الله عنه خرج يومًا حتى أتى المنبر، وقد كان اشتكى شكوى له، فنعت له العسل، وفي بيت المال عكّة، فقال: إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلّا فهي علي حرام. تسمية عمر رضي الله عنه أمير المؤمنين قال أبو جعفر: أوّل من دعي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ ثم جرت بذلك السنّة، واستعمله الخلفاء إلى اليوم. ذكر الخبر بذلك حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، قال: حدثتني أمّ عمرو بنت حسّان الكوفيّة، عن أبيها، قال: لما ولي عمر قيل: يا خليفة خليفة رسول الله، فقال عمر رضي الله عنه: هذا أمر يطول، كلّما جاء خليفة قالوا: يا خليفة خليفة خليفة رسول الله! بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم؛ فسمّيَ أمير المؤمنين. قال أحمد بن عبد الصمد: سألتها كم أتى عليك من السنين؟ قالت: مائة وثلاث وثلاثون سنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو حمزة، عن جابر، قال: قال رجل لعمر بن الخطاب: يا خليفة الله، قال: خالف الله بك! فقال: جعلني الله فداءك! قال: إذًا يهينك الله! وضعه التأريخ قال أبو جعفر: وكان أوّل من وضع التأريخ وكتبه - فيما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر - في سنة ستّ عشرة في شهر ربيع الأول منها، وقد مضى ذكري سبب كتابه ذلك؛ وكيف كان الأمر فيه. وعمر رضي الله عنه أوّل من أرّخ الكتب، وختم بالطين. وهو أوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح في شهر رمضان، وكتب بذلك إلى البلدان، وأمرهم به، وذلك - فيما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر - في سنة أربع عشرة، وجعل للناس قارئين: قارئًا يصلّي بالرجال وقارئًا يصلّي بالنساء. حمله الدرة وتدوينه الدواوين وهو أوّل من حمل الدرّة، وضرب بها؛ وهو أوّل من دوّن للناس في الإسلام الدواوين، وكتب الناس على قبائلهم، وفرض لهم العطاء. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، عن جبير بن الحويرث بن نقيد، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال له علي بن أبي طالب: تقسم كلّ سنة ما اجتمع إليك من مال، فلا تمسك منه شيئًا. وقال عثمان بن عفان: أرى مالًا كثيرًا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى تعرف من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر. فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين قد جئت الشأم، فرأيت ملوكها قد دوّنوا ديوانًا، وجنّدوا جندًا، فدوّن ديوانًا، وجند جندًا. فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم، وكانوا من نسّاب قريش - فقال: اكتبوا الناس على منازلهم؛ فكتبوا فبدءوا ببني هاشم؛ ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه على الخلافة؛ فلما نظر فيه عمر قال: لوددت والله أنه هكذا؛ ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله ﷺ؛ الأقرب فالأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عرض عليه الكتاب، وبنو تيم على أثر بني هاشم وبنو عدي على أثر بني تيم، فأسمعه يقول: ضعوا عمر موضعه، وابدءوا بالأقرب فالأقرب من رسول الله، فجاءت بنو عدي إلى عمر، فقالوا: أنت خليفة رسول الله، قال: أو خليفة أبي بكر، وأبو بكر خليفة رسول الله، قالوا: وذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم! قال: بخ بخ بني عدي! أردتم الأكل على ظهري؛ وأن أذهب حسناتي لكم! لا والله حتى تأتيكم الدعوة، وإن أطبق عليكم الدفتر ولو أن تكتبوا في آخر الناس؛ إن لي صاحبين سلكا طريقًا، فإن خالفتهما خولف بي؛ والله ما أدركنا الفضل في الدنيا، ولا نرجو ما نرجو من الآخرة من ثواب الله على ما عملنا إلّا بمحمّد ﷺ؛ فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب؛ إن العرب شرفت برسول الله، ولعلّ بعضها يلقاه إلى آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبه ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة؛ مع ذلك والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال، وجئنا بغير عمل، فهم أولى بمحمّد منّا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى قرابة، وليعمل لما عند الله، فإنّ من قصّر به عمله لم يسرع به نسبه. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني حزام بن هشام الكعبي، عن أبيه، قال: رأيت عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه يحمل ديوان خزاعة حتى ينزل قديدًا، فنأتيه بقديد، فلا يغيب عنه ارمأة بكر ولا ثيّب، فيعطيهنّ في أيديهنّ، ثم يروح فينزل عسفان، فيفعل مثل ذلك أيضًا حتى توفّيَ. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر الزهري وعبد الملك بن سليمان، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن السائب بن يزيد، قال: سمعت عمر ابن الخطاب، يقول: والله الذي لا إله إلا هو؛ ثلاثًا؛ ما من أحد إلّا له في هذا المال حقّ أعطيه أو منعه؛ وما أحد أحقّ به من أحد إلّا عبد مملوك؛ وما أنا فيه إلّا كأحدهم؛ ولكنّا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله ﷺ، والرجل وبلاؤه في الإسلام، والرّجل وقدمه في الإسلام، والرّجل وغناؤه في الإسلام، والرّجل وحاجته؛ والله لئن بقيت ليأتينّ الراعي بجبل صنعاء حظّه من هذا المال وهو مكانه. قال إسماعيل بن محمد: فذكرت ذلك لأبي، فعرف الحديث. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: رأيت خيلًا عند عمر بن الخطاب موسومة في أفخاذها: حبيس فس سبيل الله. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب؛ عن زاذان، عن سلمان؛ أنّ عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقلّ أو أكثر؛ ثمّ وضعته في غير حقه؛ فأنت ملك غير خليفة؛ فاستعبر عمر. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أسامة بن زيد، قال: حدثني نافع مولى آل الزبير، قال: سمعت أبا هريرة يقول: يرحم الله ابن حنتمة! لقد رأيته عام الرمادة؛ وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكّة زيت في يده؛ وإنه ليعتقب هو وأسلم؛ فلمّا رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريبًا؛ فأخذت أعقبه؛ فحملناه حتى انتهينا إلى صرار؛ فإذا صرم نحو من عشرين بيتًا من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد؛ وأخرجوا لنا جلد الميتة مشويًّا كانوا يأكلونه، ورمّة العظام مسحوقة كانوا يستفّونها؛ فرأيت عمر طرح رداءه، ثم اتّزر، فمازال يطبخ لهم حتى شبعوا، فأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبّانة، ثم كساهم. وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرني موسى بن يعقوب، عن عمه، عن هشام بن خالد، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لا تذرّنّ إحداكنّ الدقيق حتى يسخن الماء ثم تذرّه قليلًا قليلا، وتسوطه بمسوطها، فإنه أريع له؛ وأحرى ألّا يتقرّد. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن مصعب القرقساني، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن راشد بن سعد؛ أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أتي بمال؛ فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم الناس؛ حتى خلص إليه، فعلاه عمر بالدّرّة، وفال: إنّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض؛ فأحببت أن أعلمك أنّ سلطان الله لن يهابك. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: قالت الشفا ابنة عبد الله - ورأيت فتيانًا يقصدون في المشي، ويتكلّمون رويدًا، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نسّاك، فقالت: كان والله عمر إذا تكلّم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، هو والله الناسك حقًا. حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا عبد الله ابن عامر، قال: أعان عمر رجلًا على حمل شيء، فدعا له الرجل، وقال: نفعك بنوك يا أمير المؤمنين! فقال: بل أغناني الله عنهم. حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، عن عمر بن مجاشع. قال: قال عمر بن الخطاب: القوّة في العمل ألّا تؤخّر عمل اليوم لغد، والأمانة ألا تخالف سريرة علانية؛ واتّقوا الله عز وجل، فإنما التقوى بالتّوقّي، ومن يتّق الله يقه. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن عوانة، عن الشعبي - وغير عوانة زاد أحدهما على الآخر - أنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن محمد بن صالح، أنه سمع موسى بن عقبة يحدث أنّ رهطًا أتوا عمر، فقالوا: كثر العيال، واشتدّت المؤونة، فزدنا في أعطياتنا، قال: فعلتموها، جمعتم بين الضرائر، واتّخذتم الخدم في مال الله عز وجل! أما والله لوددت أني وإيّاكم في سفينة في لجّة البحر، تذهب بنا شرقًا وغربًا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلًا منهم؛ فإن استقام اتّبعوه، وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: إن تعوّج عزلوه! فقال: لا، القتل أنكل لمن بعده؛ احذروا فتى قريش وابن كريمها الذي لا ينام إلّا على الرضا، ويضحك عند الغضب؛ وهو يتناول من فوقه ومن تحته. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن عبد الله بن داود الواسطي، عن زيد بن أسلم، قال: قال عمر: كنا نعدّ المقرض بخيلًا، إنما كانت المواساة. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن ابن دأب، عن أبي معبد الأسلمي، عن ابن عباس، أنّ عمر قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتّخذون مجالس؛ لا يجلس اثنان معًا حتى يقال: من صحابة فلان؟ من جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس؛ وايم الله إنّ هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم؛ ولكأني بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقسامًا؛ أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معًا؛ فإنّه أدوم لألفتكم، وأهيب لكم في الناس. اللهمّ ملّوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسّوا مني؛ ولا أدري بأيّنا يكون الكون، وقد أعلم أن لهم قبيلًا منهم؛ فاقبضني إليك. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد، عن أبيه، قال: اتّخذ عبد الله بن أبي ربيعة أفراسًا بالمدينة، فمنعه عمر بن الخطاب، فكلّموه في أن يأذن له، قال: لا آذن له، إلّا أن يجيء بعلفها من غير المدينة. فارتبط أفراسًا، وكان يحمل إليها علفًا من أرض له باليمن. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو إسماعيل الهمداني، عن مجالد، قال: بلغني أنّ قومًا ذكروا لعمر بن الخطاب رجلًا؛ فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ فاضل لا يعرف من الشرّ شيئًا، قال: ذاك أوقع له فيه! ذكر بعض خطبه رضي الله تعالى عنه حدثني عمر، قال: حدثني علي، عن أبي معشر، عن ابن المنكدر وغيره، وأبي معاذ الأنصاري عن الزهري، ويزيد بن عياض عن عبد الله ابن أبي بكر، وعلي بن مجاهد عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عياض، عن عبد الله بن أبي إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أنّ عمر رضي الله تعالى عنه خطب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكّر الناس بالله عز وجل واليوم الآخر، ثم قال: يأيّها الناس؛ إني قد ولّيت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدّكم استضلاعًا بما ينوب من مهمّ أموركم، ما تولّيت ذلك منكم؛ ولكفيَ عمر مهمًا محزنًا انتظار موافقة الحساب بأخذ حقوقكم كيف آخذها، ووضعها أين أضعها؛ وبالسير فيكم كيف أسير! فربّي المستعان؛ فإنّ عمر أصبح لا يثق بقوّة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده. ثم خطب فقال: إن الله عز وجل قد ولّاني أمركم، وقد علمت أنفع ما بحضرتكم لكم؛ وإني أسأل الله أن يعينني عليه، وأن يحرسني عنده، كما حرسني عند غيره، وأن يلهمني العدل في قسمكم كالذي أمر به؛ وإنّي امرؤ مسلم وعبد ضعيف، إلا ما أعان الله عز وجل، ولن يغيّر الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئًا إن شاء الله؛ إنما العظمة لله عز وجل، وليس للعباد منها شيء، فلا يقولنّ أحد منكم: إنّ عمر تغيّرمنذ ولي. أعقل الحق من نفسي وأتقدم؛ وأبيّن لكم أمري؛ فأيّما رجل كانت له حاجة أو ظليم مظلمة، أو عتب علينا في في خلق؛ فليؤذنّي، فإنّما أنا رجل منكم؛ فعليكم بتقوى الله في سركم وعلانيتكم، وحرماتكم وأعراضكم؛ وأعطوا الحقّ من أنفسكم؛ ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إلي؛ فإنّه ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة؛ وأنا حبيب إلي صلاحكم، عزيز علي عتبكم. وأنتم أناس عامّتكم حضر في بلاد الله؛ وأهل بلد لا زرع فيه ولا ضرع إلّا ما جاء الله به إليه. وإنّ الله عز وجل قد وعدكم كرامة الله كثيرة، وأنا مسئول عن أمانتي وما أنا فيه؛ ومطّلع على ما بحضرتي بنفسي إن شاء الله؛ لا أكله إلى أحد، ولا أستطيع ما بعد منه إلّا بالأمناء وأهل النصح منكم للعامّة، ولست أجعل أمانتي إلى أحد سواهم إن شاء الله. وخطب أيضًا، فقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ: أيها الناس، إنّ بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غني، وإنكم تجمعون مالا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور. كنتم على عهد رسول الله ﷺ تؤخون بالوحي، فمن أسرّ شيئًا أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئًا أخذ بعلانيته؛ فأظهروا لنا أحسن أخلاقكم؛ والله أعلم بالسرائر؛ فإنه من أظهر شيئًا وزعم أن سريرته حسنة لم نصدّقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننّا به حسنًا. واعلموا أنّ بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خير لأنفسكم، مومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. أيها الناس، أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم؛ واتقوا الله ربكم، ولا تلبسوا منساءكم القباطي؛ فإنه إن لم يشفّ فإنه يصف. أيها الناس؛ إني لوددت أن أنجو كفافًا لا لي ولا علي، وإني لأرجو إن عمّرت فيكم يسيرًا أو كثيرًا أن أعمل بالحقّ فيكم إن شاء الله، وألّا يبقى أحد من المسلمين وإن كان قال: يبيتهإلّا أتاه حقه ونصيبه من مال ه، ولا يعمل إليه نفسه؛ ولم ينصب إليه يومًا. وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله؛ ولقليل في رفق خير من كثير في عنف، والقتل حتف من الحتوف، يصيب البرّ والفاجر، والشهيد من احتسب نفسه. وإذا أراد أحدكم بعيرًا فليعمد إلى الطويل العظيم فليضربه بعصاه؛ فإن وجده حديد الفؤاد فليشترّه. قالوا: وخطب أيضًا فقال: إنّ الله سبحانه وبحمده قد استوجب عليكم الشكر، واتّخذ عليكم الحجّ فيماآتاكم من كرامة الآخرة والدنيا؛ عن غير مسألة منكم له، ولا رغبة منكم فيه إليه، فخلفكم تبارك وتعالى ولم تكونوا شيئًا لنفسه وعبادته، وكان قادرًا أن يجعلكم لأهون خلقه عليه، فجعل لكم عامّة خلقه، ولم يجعلكم لشيء غيره، وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظماهرة وباطنة، وحملكم في البرّ والبحر، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون. ثم جعل لكم سمعًا وبصرًا. ومن نعم الله عليكم نعم عمّ بها بني آدم؛ ومنها نعم اختصّ بها أهل دينكم؛ ثم صارت تلك النعم خواصّها وعوامّها في دولتكم وزمانكم وطبقتكم؛ وليس من تكل النعم نعمة وصلت إلى امريء خاصة إلّا لو قسم ما وصل إليه منها بين الناس كلهم أتعبهم شكرها، وفدحهم حقها، إلّا بعون الله مع الإيمان بالله ورسوله؛ فأنتم مستخلفون في الأرض، قاهرون لأهلها، قد نصر الله دينكم، فلم تصبح أمة مخالفة لدينكم إلّا أمّتان؛ أمّة مستعبدة للإسلام وأهله، يجزون لكم، يستصوفن معايشهم وكدائحهم ورشح جباههم؛ عليهم المؤونة ولكم المنفعة، وأمّة تنتظر وقائع الله وسطواته في كلّ يوم وليلة، قد ملأ الله قلوبهم رعبًا؛ فليس لهم معقل يلجئون إليه، ولا مهرب يتّقون به، قد دهمتهم جنود الله عز وجل ونزلت بساتهم، مع رفاغة العيش، واستفاضة المال، وتتابع البعوث، وسدّ الثغور بإذن الله، مع العافية الجليلة العامة التي لم تكن هذه الأمة على أحسن منها مذ كان الإسلام؛ والله المحمود، مع الفتوح العظام في كلّ بلد. فما عسى أن يبلغ معهذا شكر الشاكرين وذكر الذاكرين واجتهاد المجتهدين؛ مع هذه النعم التي لا يحصى عددها، ولا يقدر قدرها، ولا يسستطاع أداء حقها إلا بعون الله ورحمته ولطفهّ فنسأل الله الذي لا إله إلا هو الذي أبلانا هذا، أن يرزقنا العمل بطاعته؛ والمسارعة إلى مرضاته. واذكروا عباد الله بلاء الله عندكم، واستتمّوا نعمة الله عليكم وفي مجالسكم مثنى وفرادى، فإنّ الله عز وجل قال لموسى: " أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله " فلو كنتم إذ كنتم مستضعفين محرومين خير الدنيا على شعبة من الحق، تؤمنون بها، وتستريحون إليها؛ مع المعرفة بالله ودينه، وترجون بها الخير فيما بعد الموت؛ لكان ذلك؛ ولكنكم كنتم أشدّ الناس معيشة، وأثبتهم بالله جهالة. فلو كان هذا الذي استشلاكم به لم يكن معه حظّ في دنياكم؛ غير أنه ثقة لكم في آخرتكم التي إليها المعاد والمنقلب؛ وأنتم من جهد المعيشة على ما كنتم عليه أحرياء أن تشحّوا على نصيبكم منه، وأن تظهروه على غيره؛ فبله ما إنه قد جمع لكم فضيلة الدنيا وكرامة الآخرة، ومن شاء أن يجمع له ذلك منكم؛ فأذكركم الله الحائل بين قلوبكم إلا ما عرفتم حقّ الله فعملتم له، وقسرتم أنفسكم على طاعته، وجمعتم مع السرور بالنعم خوفًا لها ولا نتقالها، ووجلًا منها ومن تحويلها، فإنه لا شيء أسلب للنعمة من كفرانها، وإنّ الشكر أمنٌ للغير، ونماء للنعمة؛ واستيجاب للزيادة، هذا لله علي من أركم ونهيكم واجب. من ندب عمر ورثاه رضي الله عنه ذكر بعض ما رثي به حدثني عمر، قال حدثنا علي، قال: حدثنا ان دأب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المغيرة بن شعبة، قال: لما مات عمر رضي الله عنهبكته ابنة أبي حثمة، فقالت: واعمراهّ أقام الأود، وأبرأ العمد، أمات الفتن، وأحيا السنن؛ خرج نقي الثوب، بريئًا من العيب. قال: وقال المغيرة بن شعبة: ملما دفن عمر أتيت عليًّا وأنا أحبّ أن أسمع منه في عمر شيئًا، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل، وهو ملتحف بثوب، لا يشكّ أنّ الأمر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطابّ! لقد صدقت ابنة أبي حثمة؛ لقد ذهب بخيرها، ونجا من شرّها، أما والله ما قالت، ولكن قولت. وقالت عاتكة ابنة زيد بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فجعني فيروز لادر دره ** بأبيض تال للكتاب منيب رءوف على الأدنى غليظ على العدا ** أخي ثقة في النائبات مجيب متى ما يقل لا يكذب القول فعله ** سريع إلى الخيرات غير قطوب وقالت أيضًا: عين جودي بعبرة ونحيب ** لاتملي على الإمام النجيب فجعتني المنون بالفارس المع ** لم يوم الهياج والتلبيب عصمة الناس والمعين على الده ** ر وغيث المنتاب والمحروب قل لأهل السراء والبؤس موتوا ** قد سقته المنون كأس شعوب وقالت امرأة تبكيه: سيبكيك نساء الحي ** يبكين شجيات ويخمثن وجوهًا كالد ** نانير نقيات ويلبسن ثياب الحز ** ن بعد القصبيات شيء من سيره مما لم يمض ذكره حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن ابن جعدبة، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن سعيد بن المسيب، قال: حجّ عمر، فلما كان بضجنان قال: لا إليه إلا الله العظيم العلي، المعطى ما شاء من شاءّ كنت أرعى إبل الخطاب بهذا الوادي في مدرعة صوف، وكان فظًا يتعبني إذا عملت، ويضربني إذا قصّرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد؛ ثمتمثل: لا شيء فيما ترى تبقي بشاشته ** يبقى الإله ويودي المال والولد لم تغن عن هرمز يومًا خزائنه ** والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ** والإنس ولاجن فيما بينها ترد أين الملوك التي كانت نوافلها ** من كل أوب إليها راكب يفد حوضًا هنالك مورودًا بلا كذب ** لا بد من ورده يومًا كما وردوا حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو الوليد المكّي "، قال: بينما عمر جالس إذ أقبل رجل يقود ناقة تظلع؛ حتى وقف عليه، فقال: إنك مسترعى وإنا رعية ** وإنك مدعو بسيماك يا عمر إذًا يوم شر شره لشراره ** فقد حملتك اليوم أحسابها مضر فقال: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. وشكا الرجل ظلعناقته، فقبض عمر الناقة وحمله على جمل أحمر وزودّه؛ وانصرف. ثم خرج عمر في عقب ذلك حاجًّا، فبينا هو يسير إذ لحق راكبًا يقول: ما سلنا مثلك يا بن الخطاب ** أبر بالأقصى ولا بالأصحاب بعد النبي صاحب الكتاب فنخسه عمر بمخصرة معه، وقال: فأين أبو بكر! حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، عن محمد بن صالح، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، قال: استعمل عمر عتبة بن أبي سفيان على كنانة، فقدم معه بمال، فقال: ما هذا يا عتبة؟ قال: مال خرجت به معي وتجرت فيه، قال: ومالك تخرج المال معك في هذا الوجه! فصيّره في بيت المال. فلما قام عثمان قال لأبي سفيان: إن طلبتَ ما أخذ عمر من عتبة رددته عليه، فقال أبو سفيان: إنك إن خالفت صاحبك قبلك ساء رأيُ الناس فيك، إيّاك أن ترد على من كان قبلك، فيرد عليك من بعدك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان وأبي المجالد جراد بن عمرو وأبي عثمان وأبي حارثة وأبي عمرو مولى إبراهيم بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قالوا: إنّ هند ابنة عتبة قامت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستقرضته من بيت المال أربعة آلاف تتّجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب، فاشترت وباعت؛ فبلغها أنّ أبا سفيان وعمرو بن أبي سفيان قد أتيا معاوية، فعدلت إليه من بلاد كلب، فأتت معاوية، وكان أبو سفيان قد طلّقها، قال: ما أقدمك أي أمّه؟ قالت: النظر إليك أي بنّي؛ إنه عمر؛ وإنما يعمل لله، وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء؛ وأهل لك هو؛ فلا يعلم الناس من أين أعطيتنه فيؤنبونك ويؤنبك عمر، فلا يستقيلها أبدًا، فبعث إلى أبيه وإلى أخيه بمائة دينار، وكساهما وحملهما؛ فتعظّمها عمر؛ فقال أبو سفيان: لا تعظّمها، فإنّ هذا عطاء لم تغب عنه هند، ومشورة قد حضرتها هند، ورجعوا جميعًا، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟ فقالت: الله أعلم، معي تجارة إلى المدينة. فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين، وهذه مشورة لم يغب عنها أبو سفيان، فبعث إليه فحبسه حتى أوفته، وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية؟ فقال: بمائة دينار. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن مسلمة بن محارب، عن خالد الحذّاء، عن عبد الله بن أبي صعصعة عن الأحنف، قال: أتى عبد الله بن عمير عمر؛ وهو يفرض للناس - واستشهد أبوه يوم حنين - فقال: يا أمير المؤمنين، افرض لي؛ فلم يلتفت إليه، فنخسه، فقال عمر: حس! وأقبل عليه فقال: من أنت؟ قال: عبد الله بن عمير، قال: يا يرفأ، أعطه ستمائة، فأعطاه خمسمائة، فلم يقبلها، وقال: أمر لي أمير المؤمنين بستمائة، ورجع إلى عمر فأخبره، فقال عمر: يا يرفأن أعطه ستمائة وحلّة، فأعطاه فلبس الحلّة التي كساه عمر، ورمى بما كان عليه، فقال له عمر: يا بني، خذ ثيابك هذه فتكون لمهنة أهلك، وهذه لزينتك. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال حدثنا: أبو الوليد المكّي، عن رجل من ولد طلحة، عن ابن عبّاس، قال: خرجت مع عمر في بعض أسفاره، فإنا لنسير ليلة، وقد دنوت منه، إذ ضرب مقدم رحله بسوطه، وقال: كذبتم وبيت الله يقتل أحمد ** ولما نطاعن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ** ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم قال، أستغفر الله، ثم سار فلم يتكلم قليلاُ، ثم قال: وما حملت من ناقة فوق رحلها ** أبر وأوفى ذمة من محمد وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله ** وأعطى لرأس السابق المتجرد ثم قال: أستغفر الله، يا بن عباس، ما منع عليًّا من الخروج معنا؟ قلت: لا أدري، قال: يا بن عباس، أبوك عمّ رسول الله ﷺ، وأنت ابن عمه، فما منع قومكم منكم؟ قلت: لا أدري، قال: لكني أدري؛ يكرهون ولايتكم لهم! قلت: لم، ونحن لهم كالخير؟ قال: اللهمّ غفرًا، يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة، فيكون بجحًا بجحًا، لعلكم تقولون: إن أبا بكر فعل ذلك، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره، ولو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم، أنشدني لشاعر الشعراء زهير قوله: إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية ** من المجد من يسبق إليها يسود فأنشدته وطلع الفجر، فقال: اقرأ واقعة، فقرأتها، ثم نزل فصلى، وقرأ بالواقعة. حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق. عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر، فقال بعضهم: فلان أشعر؛ وقال بعضهم: بل فلان أشعر، قال: فأقبلت، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها، فقال عمر: من شاعرالشعراء يا بن عباس؟ قال: فقلت: زهير بن أبي سلمى، فقال عمر: من شاعر الشعراء يا بن عباس؟ قال: فقلت: زهير بن أبي سلمى، فقال عمر: هلمّ من شعره ما نستدل به على ما ذكرت؛ فقلت: امتدح قومًا من بني عبد الله بن غطفان، فقال: لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ** قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا قوم أبوهم سنان حين تنسبهم ** طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا إنس إذا أمنوا، جن إذا فزعوا ** مرزءون بها ليل إذا حشدوا محدون على ما كان من نعم ** لا ينزع الله منهم ماله حسدوا فقال عمر: أحسن؛ وما أعلم أحدًا أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم، لفضل رسول الله ﷺ وقرابتهم منه، فقلت: وفقت يا أمير المؤمنين، ولم تزل موفقاُ، فقال: يا بن عباس، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني، فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجحوا على قومكم بجحًا بجحًا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام، وتمط عني الغضب تكلمت. فقال: تكلم يا بن عباس، فقلت: أمّا قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت، فلو أن قريشًا اختارت لأنفسها حيث اختار الله عز وجل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك: إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإنّ الله عز وجل وصف قومًا بالكراهية فقال: " ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم " فقال عمر: هيهات والله يا بن عباس! قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرّك عنها، فتزيل منزلتك مني؛ فقلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقًا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلًا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنا حسدًا وظلمًا! فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: ظلمًا؛ فقد تبيّن للجاهل والحليم، وأما قولك: حسدًا، فإنّ إبليس حسد آدم؛ فنحن ولده المحسودون؛ فقال عمر: هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدًا ما يحول، وضغنا وغشًا ما يزول. فقلت: مهلًا يا أمير المؤمنين؛ لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا بالحسد والغش، فإنّ قلب رسول الله ﷺ من قلوب بني هاشم. فقال عمر: إليك عني يا بن عباس، فقلت: أفعل؛ فلما ذهبت لأقوم استحيا منّي فقال يا بن عباس، مكانك، فو الله إني لراع لحقّك، محبّ لما سرّك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ لي عليك حقًّا وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظّه أصاب، ومن أضاعه فحظَّه أخطأ. ثم قام فمضى. حدثني أحمد بن عمرو، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: حدثنا عكرمة بن عمّار، عن إياس بن سملة، عن أبيه، قال: مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السوق ومعه الدرّة، فخفقني بها خفقة، فأصاب طرف ثوبي، فقال: امط عن الطريق، فلما كان في العام المقبل لقيني فقال: يا سلمة، تريد الحجّ؟ فقلت: نعم، فأخذ بيدي، فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ستمائة درهم، وقال: استعن بها على حجّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك؛ قلت: يا أميرالمؤمنين ما ذكرتها! قال: وأنا ما نسيتها. حدثني عبد الحميد بن بيان، قال أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن سملة بن كهيل، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيها الرعيّة: إن لنا عليكم حقًا. النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير؛ إنه ليس من حلم أحبّ إلى الله ولا أعمّ نفعًا من حلم إمام ورفقه. أيها الرعية؛ إنه ليس من جهل أبغض إلى الله ولا شر أعمّ شرًا من جهل إمام وخرقه. أيها الرعيّة، إنه من يأخذ بالعافية لمن بين ظهرانيه، يؤتي الله العافية من فوقه. حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا عيسى بن يزيد بن دأب؛ عن عبد الرحمن ابن أبي زيد، عن عمران بن سوادة، قال: صليت الصبح مع عمر، فقرأ: سبحان وسورة معها، ثم انصرف وقمت معه، فقال: أحاجة؟ قلت: حاجة، قال: فالحق، قال: فلحقت؛ فلما دخل أذن لي؛ فإذا هو على سرير ليس فوقه شيء، فقلت: نصيحة، فقال: مرحبًا بالناصح غدوًّا وعشيًَا؛ قلت: عابت أمتك منك أربعًا، قال: فوضع رأس درتّه في ذقنه، ووضع أسفلها على فخذه، ثم قال: هات؛ قلت: ذكروا أنك حرّمت العمرة في أشهر الحجّ، ولم يفعل ذلك رسول الله ﷺ ولا أبو بكر رضي الله عنه؛ وهي حلال، قال: هي حلال، لو أنهم اعتمروا في أشهر الحجّ رأوها مجزيةً من حجَّهم؛ فكانت قائبة قوب عامها، فقرع حجُّهم، وهو بهاء من بهاء الله، وقد أصبت. قلت: وذكروا أنك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصة من الله نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث. قال: إنّ رسول الله ﷺ أحلّها في زمان ضرورة، ثم رجع الناس إلى السَّعة، ثم لم أعلم أحدًا من المسلمين عمل بها ولا عاد إليها، فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق، وقد أصبت. قال: قلت: وأعتقت الأمة أن وضعت ذا بطنها بغير عنقاة سيّدها، قال: ألحقت حرمة بحرمة، وما أردت إلا الخير، وأستغفر الله. قلت: وتشكَّوا منك نهر الرعية وعنف السياق. قال: فشرع لادّرَة، ثم مشحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: أنا زميل محمد - وكان زامله في غزوة قرقرة الكدر - فو الله إني لأرتع فأشبع، وأسقى فأروى، وأنهز للفوت، وأزجر العروض، وأذب قدري، وأسوق خطوى، وأضم العنود، وألحق القطوف، وأكثر الزجر، وأقلّ الضرب، وأشهر العصا؛ وأدفع باليد؛ لولا ذلك لأغدرت. قال: فبلغ ذلك معاوية، فقال: كان والله عالمًا برعيتهم. حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، قال: نبئت أن عثمان قال: إنّ عمر كان يمنع أهله وأقرباءه ابتغاء وجه الله، وإني أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله، ولن يلقى مثل عمر ثلاثة. وحدثني علي بن سهل، قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن عبد الله ابن أبي سليمان، عن أبيه، قال: قدمت المدينة، فدخلت دارًا من دورها، فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إزار قطري، يدهن إبل الصدقة بالقطران. وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن أبي وائل، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على فقراء المهاجرين. وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن زيد، قال: كان الوفد إذا قدموا على عمر رضي الله عنه سألهم عن أميرهم، فيقولون خيرًا، فيقول: هل يعود مرضاكم؟ فيقولون: نعم؛ فيقول: هل يعود العبد؟ فيقولون: نعم، فيقول: كيف صنيعه بالضّعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها: لا، عزله. وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو، قال: كان عمر بن الخطاب يقول: أربع من أمر الإسلام لست مضيِّعهنّ ولا تاركهنّ لشيء أبدًا: القوّة في ماله وجمعه حتّى إذا جمعنا وضعناه حيث أمر الله، وقعدنا آل عمر ليس في أيدينا ولا عندنا منه شيء. والمهاجرون الذين تحت ظلال السيوف؛ إلّا يحبسوا ولا يجمروا، وأن يوفر فيء الله عليهم وعلى عيالاتهم، وأكون أنا للعيال حتى يقدموا. والأنصار الذين أعطوا الله عز وجل نصيبًا، وقاتلوا الناس كافة؛ أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم؛ أن يشاوروا في الأمر. والأعراب الذين هم أصل العرب ومادة الإسلام؛ أن تؤخذ منهم صدقتهم على وجهها، ولا يؤخذ منهم دينار ولا درهم، وأن يردّ على فقرائهم ومساكينهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن جريح، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: قال عمر: إنّي لأعلم أنّ الناس لا يعدلون بهذين الرجلين اللذين كان رسول الله ﷺ يكون نجيًّا بينهما وبين جبريل يتبلَّغ عنه ويملّ عليهما. قصة الشورى حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم ومحمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب وأبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، عن عباس بن سهل ومبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر ويونس بن أي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي؛ أنّ عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين؛ لو استخلفت! قال: من استخلف؟ لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيًّا استخلفته؛ فإن سألني ربي قلت: سمعت نبيّك يقول: إنه أمين هذه الأمة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًّا استخلفته، فإن سألنى ربي قلت: سمعت نبيّك يقول: إنّ سالمًا شديد الحبّ لله. فقال له رجل: أدلك عليه؟ عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله؛ والله ما أردت الله بهذا، ويحك! كيف استخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته! لا أرب لنا في أموركم، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي؛ إن كان خيرًا فقد أصبنا منه، وإن كان شرًّا مفشرعناآل عمر؛ بحسب آل عمر أن يحاشب منهم رجل واحد؛ ويسأل عن أمر أمة محمد؛ أما لقد جهدت نفسي، وحرمت أهلي؛ وإن نجوت كفافًا لاوزر ولا أجر إني لسعيد؛ وأنظر فإن استخلفت فقد استخلف من هو خير منّي، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيّع الله دينه. فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين؛ لو عهدت عهداّ! فقال قد كنت أجمعت مبعد مقالتي لكم أن أنظر فأولَّى رجلًا أمركم؛ هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ - وأشار إلى علي - ورهقتني غشية، فرأيت رجلًا دخل جنة قد غرسها، فجعل يقطف كل غضّة ويانعة فيضمّه إليه ويصيّره تحته؛ فعلمت أنّ الله غالب أمره، ومتوفًّ عمر؛ فما أريد أن أتحملّها حيًّا وميتًا؛ عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله ﷺ: إنهم من أهلالجنة؛ سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل منهم؛ ولست مدخله؛ ولكن الستّة: علي وعثمان ابنا عبد مناف، وعبد الرحمن وسعد خالا رسول الله ﷺ، والزبير بن العوام حواري رسول الله ﷺ وابن عمته، وطلحة لخير بن عبيد الله؛ فليختاروا منهم رجلًا؛ فإذا ولَّوا واليًا فأحسنوا مؤازرته وأعينوه، إن ائتمن أحدًا منكم فليؤدّ إليه أمانته. وخرجوا، فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم، قال: أكره الخلاف، قال: إذًا ترى ما تكره! فلما أصبح عمر دعا عليًّا وعثمان وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن الهوام، فقال: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم؛ ولا يكون هذا الأمر إلّا فيكم؛ وقد قبض رسول الله ﷺ وهو عنكم راض؛ إنّي لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم؛ ولكنّي أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم، فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذن منها، فتشاوروا واختاروا رجلًا منكم. ثم قال: لا تدخلوا حجرة عائشة؛ ولكن كونوا قريبًا، ووضع رأسه وقد نزفه الدم. فدخلوا فتناجوا، ثم ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إنّ أمير المؤمنين لم يمت بعد؛ فأسمعه فانتبه فقال: ألا أعرضوا عن هذا أجمعون؛ فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام، ولصلّ بالناس صهيب، ولا يأتينّ اليوم الرابع إلّا وعليكم أمير منكم؛ ويحضر عبد الله بن عمر مشيرًا، ولا شيء له من الأمر؛ وطلحة شريككم في الأمر؛ فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم؛ وإن مضت الأيَّام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم، ومن لي بطلحة؟ فقال سعد بن أبي وقاص: أنا لك به؛ ولا يخالف إن شاء الله. فقال عمر: أرجو ألّا يخالف إن شاء الله؛ وما أظنّ أن يلي إلّا أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان؛ فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحر به أن يحملهم على طريق الحقّ؛ وإن تولوا سعدًا فأهلها هو؛ وإلّا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن خيانة ولا ضعفه؛ ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف! مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه. وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إنّ الله عز وجل طالما أعزّ الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلًا من الأنصار؛ فاستحثّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلًا منهم. وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرني فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلًا منهم، وقال لصهيب: صلّ بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم؛ وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر؛ وقم على رءوسهم، فإن اجتمع مخمسة ورضوا رجلًا وأبي واحد فاشدخ رأسه - أو اضر رأسه بالسيف - وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلًا منهم وأبي اثنان، فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلًا منهم وثلاثة رجلًا منهم، فحكّموا عبد الله ابن عمر؛ فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاُ منهم؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمّا اجتمع عليه الناس. فخرجوا، فقال علي لقوم كانوا معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم ملم تؤمروا أبدًا. وتلقّاه العباس، فقال: عدلت عنّا! فقال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاُ، ورجلان رجلاُ فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف؛ فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن؛ وعبد الرحمن صهر عثمان؛ لا يختلفون، فيوليّها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن؛ فلو كان الآخرا معي لم ينفعاني؛ بله إني لا أرجو إلّا أحدهما. فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلّا رجعت إلي مستأخرًا بما أكره؛ أشرت عليك عند وفاة رسول الله ﷺ أن تسأله فيمن هذا الأمر؛ فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجلالأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى ألّا تدخل معهم فأبيت؛ احفظ عنِّي واحدة؛ كلّما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا، وايم الله لا يناله إلا بشرّ لا ينفع معه خير. فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكَّرنه ما أتي ولئن مات ليتداولنّها بينهم، ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون؛ ثم تمثل: حلفت برب الراقصات عشية ** غدون خفاقًا فابتدرن المحصبا ليختلين رهط ابن يعمر مارئًا ** نجيعًا بنو الشداخ وردًا مصلبا والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لم ترع أبا الحسن. فلمّا مات عمر وأخرجت جنازته، تصدّى علي وعثمان: أيّهما يصلي عليه، فقال عبد الرحمن: كلا ما يحب الإمرة، لستما من هذا في شيء، هذا إلى صهيب، استخلفه عمر، يصلي بالناس ثلاثًا حتى يجتمع الناس على إمام. فصلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة - ويقال في بيت المال، ويقال في حجرة عائشة بإذنها - وهم خمسة، معهم ابنُ عمر، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تريدان أنت تقولا: محضرنا وكنّا في أهل الشورى! فتنافس القوم في الأمر؛ وكثر بينهم مالكلام؛ فقال أبو طلحة: أنا كنت لأنْ تدفعوها أخوف منِّي لأن تنافسوها! لا والذي ذهب بنفس عمر؛ لا أزيدكم على الأيّام الثلاثة التي أمرتم، ثم أجلس في بيتي؛ فأنظر ما تصنعون! فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحد، فقال: فأنا أنخلع منها؛ فقال عثمان: أنا أوّل من رضي، فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: أمين في الأرض أمين في السما، فقال القوم: قد رضينا - وعلي ساكت - فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقًا لتؤثرنّ الحقّ ولا تتّبع الهوى، ولا تخصّ ذا رحم، ولا تألوا الأمة! فقال: أعطوني مواثيقكم علي أن تكونوا معي علي من بدّل وغيّر، وأن ترضوا من اخترت لكم، علي ميثاق الله ألّا أخصّ ذا رحم لرحمه، ولا آلو المسلمين. فأخذ منهم ميثاقًا وأعطاهم مثله، فقال لعلي، مإنك تقول: إني أحقُّ من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد؛ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر، من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحقّ بالأمر؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان؛ فقال: تقول: شيخمن بني عبد مناف؛ وصهر رسول الله ﷺ وابن عمه، لي سابقة وفضل - لم تبعد - فلن يصرف هذا الأمر عني، ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحقّ به؟ قال: علي. ثم خلا بالزّبير، فكلمه بمثل ما كلم به عليًًّا وعثمان؛ فقال: عثمان. ثم خلا بسعد، فكلمه، فقال: عثمان. فلقى علي سعدًا، فقال: " واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباُ "، أسألك برحيم ابني هذامن رسول الله ﷺ، وبرحم عمّي حمزة منك ألّا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرًا علي؛ فإني أدلى بما لا يدلي به عثمان. ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله ﷺ ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس، بشاورهم، ولا يخلوا برجل إلا أمره بعثمان؛ حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل، أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل؛ فأيقظه فقال: ألا أراك نائمًا ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض! انطلق فادع الزبير وسعدًا. فدعاهما فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلي دار مروان، فقال له: خلّ ابني عبد مناف وهذا الأمر، قال: نصيبي لعلي، وقال لسعد: أنا وأنت كلالة، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعلي أحبّ إلي؛ أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا، وارفع رءوسنا، قال: يا أبا إسحاق؛ إني قذ خلعت نفسي منها علي أختار، ولو لم أفعل وجعل الخيار إلي لم أردها، إني أريت كروضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل فلم مأر فحلا قطّ أكرم منه، فمرّ كأ، ه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها، لم يعرّج. ودخل بعير يتلوه فاتّبع أثره حتى خرج من الروضة، ثم دخل فحل عبقريٌّ يجرّ خطامه، يلتفت يمينًّا وشمالًا ويمضي قصد الأولين حتى خرج، ثمّ دخل بعير رابع فرتع في الروضة؛ ولا والله لا أكون الرابع؛ ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى النا س عنه. قال سعد: فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك، فامض لرأيك؛ فد عرفت عهد عمر. وانصرف الزبير وسعد؛ وأرسل المسور بن مخرمة إلى علي، فناجاه طويلًا؛ وهو لا بشكّ أنه صاحب الأمر، ثم نهض: وأرسل المسور إلى عثمان. فكان في نجيّهما، حتى فرّق بينهما أذان الصبح. فقال عمرو بن ميمون: قال لي عبد الله بن عمر: يا عمرو، من أخبرك أنه يعلم ما كلّم به عبد الرحمن بن عوف عليًّا وعثمان فقد قال بغير علم؛ فوقع قضاء ربّك على عثمان. فلما صلوا الصبح جمع الرهط، وبعث إلى من حضره من المهارجين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد، فاجتمعوا حتى التجّ المسجد بأهله، فقال: أيُّها الناس، إنّ الناس قد أحبّوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم. فقال سعيد بن زيد: إنّا نراك لها أهلًا، فقال: أشيروا علي بغير هذا، فقال عمّار: إن أردت ألّا يختلف المسلمون فبايع عليًّا. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمّار؛ إن بايعت عليًّا قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت ألّا تختلف قريش فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق؛ إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال: متى كنت تنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم ونبو أمية، فقال عمار: أيّها الناس؛ إنّ الله عز وجل أكرمنا بنبيّه، وأعزّنا بدينه، فأنّي تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم! فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طولاك يا بن سميّة؛ وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحم، افرغ قبل أن يفتن الناس، فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلًا. ودعا عليًّا، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي؛ ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم، فبايعه، فقال علي: حبوته حبو دهر؛ ليس هذا أوّل ي م تظاهرتم فيه علينا؛ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون؛ والله ما ولّيتَ عثمان إلا ليردّ الأمر إليك؛ والله كلّ يوم هو في شأن؛ فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلًا؛ فإني قد نظرت وشاورت الناس؛ فإذا هم لا يعدلون بعثمان. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله. فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون. فقال: يا مقداد؛ والله لقد اجتهدت للمسلمين؛ قال: إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين. فقال المقداد: ما رأيت ممثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم. إني لأعجب من قريش أنّهم تركوا رجلًا ما أقول إنّ أحدًا أعلم ولا أقضي منه بالعدل؛ أما والله لو أجد عليه أعوانًا! فقال عبد الرحمن: يا مقداد؛ اتّق الله؛ فإني خائف عليك الفتنة، فقال رجل للمقداد: رحمك الله! من أهل هذا البيت وسن هذا الرجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطلب، والرجل علي بن أبي طال. فقال علي: إنّ الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم. وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان، فقيل له: بايع عثمان، فقال: أكلّ قريش راضٍ به؟ قال: نعم، فأتى عثمان فقال له عثمان: أنت على أرس أمرك، إن أبيت رددتها، قال: أتردها؟ قال: نعم؛ قال: أكلّ الناس بايعوك؟ قال: نعم، قال: قد رضيت؛ لا أرغب عمًّا قد أجمعوا عليه، وبايعه. وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد أصبت إذ بايعت عثمان! وقال لعثمان: لوب بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا، فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور؛ لو بايعت غيره لبايعته، ولقلت هذه المقالة. وقال الفرذدق؛ صلَّى صيب ثلاثًا ثمَّ أسلها ** على ابن عفان ملكًا غير مقصور خلافة من أبي بكر لصاحبه ** كانوا أخلَّاء مهدي ومأمور وكان المسور بن مخرمة يقول: ما رأيت رجلًا بذّ قومًا فيما دخلوا فيه بأشدّ مما بذّهم عبد الرحمن بن عوف. قال أبو جعفر: وأما المسور بن مخرمة، فإنّ الرواية عندنا عنه ما حدثني سلم بن جنادة أبو السائب، قال: حدثنا سليمان بن عبد العزيز ابن أبي ثابت بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: حدثنا أبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن السمور بن مخرمة - وكانت أمه عاتكة ابنة عوف - في الخبر الذي قد مضى ذكري أوله في مقتل عمر بن الخطّاب؛ قال: ونزل في قبيره - يعني في قبر عمر - الخمسة، يعني أهل الشورى. قال: ثم خرجوا بريدون بيوتهم؛ فناداهم عبد الرحمن: إلى أين؟ هلمّوا! فتبعوه، وخرج حتى دخل بيت فاطمة ابنة قيس الفهريّة، أخت الضحّاح بن قيس الفهري - قال بعض أهل العلم: بل كانت زوجته؛ وكانت نجودًا، يريد ذات رأي - قال: فبدأ عبد الرحمن بالكلام فقال: يا هؤلاء؛ إنّ عندي رأيًَّا؛ وإنّ لكم نظرًا؛ فاسمعوا تعلّموا، وأجيبوا تفقهوا؛ فإن حابيًا خير من ذاهق؛ وإن جرعة من شروب بارد أنفع من عذب موب؛ أنتم أئمة يهتدي بكم؛ وعلماء يصدر إليكم؛ فلا تفلّوا المدى بالّاختلاف بينكم، ولا تغمدوا السيوف عن أعدائكم؛ فتوتروا ثأركم، وتؤلتوا أعمالكم؛ لكلّ أجل كتاب؛ ولكل بيت إمام بأمره يقومون، وبنهيه يرعون. قلّدوا أمركم واحدًا منكم تمشوا الهويني وتلحقوا الطلب؛ لولا فتنة عمياء، وضلالة حيراء؛ يقول أهلها ما يرون، وتحلّهم الحبو كرى. ما عدت نياتكم معرفتكم، ولا أعمالكم نياتكم. احذروا نصيحة الهوى، ولسان الفرقة؛ فإنّ مالحيلة في المنطق أبلغ من السيوف في الكلم؛ علِّقوا أمركم وحب الذراع فيما حلّ، مأمون الغيب فيما نزل، رضًا منكم وكلكم رضًّا، ومقترعًا منكم وكلّكم منتهى، لا تطيعوا مفسدًا ينتصح؛ ولاتخالفوا مرشدًا ينتصر؛ أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم تلكم عثمان بن عفان، فقال: الحمد لله الذي اتّخذ محمّدًا نبيًّا، وبعثه رسولا، صدقه وعده، ووهب له نصره على كلّ من بعد نسبًا، أو قرب رحمًا؛ ﷺ؛ جعلنا الله له تابعين وبأمره مهتدين؛ فهو لنا نور؛ ونحن بأمره نقوم. عند تفرّق الأهواء؛ ومجادلة الأعداء؛ جعلنا الله بفضله أئمة وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منّا، ولا يدخل علينا غيرنا إلا من سفه الحقّ؛ ونكل عن القصد، وأحر بها يا بن عوف أن تترك، وأحذر بها أن تكون إن خولف أمرك وترك ودعاؤك؛ فأنا أوّل ممجيب لك، وداع إليك، وكفيل بما أقول زعيم؛ وأستغفر الله لي ولكم. ثم تكلم الزبير بن العوام بعده، فقال: أمّا بعد؛ فإنّ داعي الله لا يجهل، ومجيبه لا يخذل، عند تفرّق الأهواء ولي الأعناق، ولن يقصّر عمّا قلت إلا غوىّ، ولن يترك ما دعوت إليه إلّا شقي، لولا حدود لله فرضت؛ وفرائض لله حدث؛ تراح على أهلها؛ وتحيا لا تموت؛ لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة؛ ولكن لله علينا إجابة الدعوة، وإظهار السنّة؛ لئلا نموت ميتة عمِّية؛ ولا نعمي عمي جاهليّة؛ فأنا مجيبك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله لي ولكم. ثم تكلّم سعد بن أبي وقاص، فقال: الحمد لله بديئًا كان، وآخرًا يعود، أحمده لما نجّاني من الضلالة، وبصّرني من الغواية، فبهدي الله فاز من نجا، وبرحمته أفلح من زكا، وبمحمد بن عبد الله ﷺ أنارت الطرق، واستقامت السبل، وظهر كلّ حق، ومات كلّ باطل؛ إياكم أيها النفر وقول الزور، وأمنيّة أهل الغرور، فقد سلبت الأمانيُّ قومًا قبلكم ورثوا ما ورثتم، ونالوا ما نلتم؛ فاتّخذهم الله عدوًّا، ولعنهم لعنًا كبيرًا. قال الله عزّ وجل: " لمن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ". إنّي نكبت قرني فأخذت سهمي الفالج، وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي؛ فأنا به كفيل، وبما مأعطيت عنه زعيم، والأمر إليك يا بن عوف؛ بجهد النفس، وقصد النُّصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم؛ وأعوذ بالله من مخالفتكم. ثم تكلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فقال: الحمدُ لله الذي بعث محمدًا منّا نبيًّا، وبعثه إلينا رسولًا، فنحن بيت النبوّة، ومعدن الحكمة؛ وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حقّ إن نعطه نأخذه؛ وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السري؛ لو عهد إلينا رسول الله ﷺ عهدًا لأنفدنا عهده؛ ولو قال لنا قولًا لجادلنا عليه حتى نموت. لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ وصلة رحم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي، وعوا منطقي؛ عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا المجمع تنتضي فيه السيوف، وتخان فيه العهود؛ حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة، وشيعةً لأهل الجهالة، ثم أنشأ يقول: فإن تك جاسم هلكت فإنِّي ** بما فعلت بنوعبد بن ضخم مطيع في الهوادر كلّ عي ** بصير بالنوى من كلِّ نجم فقال عبد الرحمن: أيكم بطيب نفسًا أن يخرج نفسه من هذا مالأمر ويولّيه غيره؟ قال: فأمسكوا عنه، قال: فإني أخرج نفسي وابن عمتي، فقلده القوم الأمر، وأحلفهم عند المنبر؛ فحلفوا ليبايعنّ من بايع، وإن بايع بإحدى يديه الأخرى. فأقام ثلاثًا في داره التي عند المسجد التي يقال لها اليوم رحبة القضاء - وبذلك سمّيت رحبة القضاء - فأقام ثلاثًا يصلِّي بالناس صهيب. قال: وبعث عبد الرحمن إلى علي، فقال له: إن لم أبايعك فأشر علي "؛ فقال: عثمان، ثم بعث إلى عثمان، فقال: إن لم أبايعك، فمن تشير علي؟ قال: علي، ثم قال لهما: انصرفا. فدعا الزبير، فقال: إن لم أبايعك؛ فمن تشير علي، قال: عثمان، ثم دعا سعدًا، فقال: من تشيرعلي فأمّا أنا وأنت فلا نريدها، فمن تشير علي؟ قال: عثمان. فلمَّأ كانت الليلة الثالثة، قال: يا مسور، قلت: لبيّك، قال: إنك لنائم؛ والله ما اكتحلت يغماض منذ ثلاث. اذهب فادع لي عليًّا وعثمان؛ قال: قلت: يا خال، بأيّهما أبدأ؟ قال: بأيّهما شئت، قال: فخرجت فأتيت عليًّا - وكان هواي فيه - فقلت: أجب خالي، فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، قال: إلي من؟ قلت: إلى عثمان، قال: فأيّنا أمرك أن تبدأ به؟ قلت: قثد سألته فقال: بأيّهما شئت، فبدأت بك، وكان هواي فيك. قال: فخرج معي حتى أتينا المقاععد، فجلس معليها علي، ودخلت على عثمان فوجدته يوتر مع الفجر، فقلت: أجب خالي، فقال: بعثك معي إلى غيري؟ قلت: نعم، إلى علي، قال: بأيّنا أمرك أن تبدأ؟ قلت: سألته فقال: بأيّهما شئت؛ وهذا علي على المقاعد، فخرج معي حتى دخلنا جميعًا على خالي وهو في القبلة قائم يصلّي، فانصرف لمَّا رآنا، ثم التفت إلى علي وعثمان، فقال: إنّي قد سألت عنكما وعن غيركما، فلم أجد الناس يعدلون بكما؛ هل أنت علي يا علي مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال: اللهمّ لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. فالتفت إلى عثمان، فقال: هل أنت مبايعي على كتب الله وسنّة نبيّه وفعل أبي كبر وعمر؟ قال: اللهمّ نعم، فأشار بيده إلى كتفيه، وقال: إذا شئتما! فنهضنا حتى دخلنا المسجد، وصاح صائح: الصلاة جامعة - قال عثمان: فتأخّرت والله حياء لما رأيت من إسراعه إلى علي؛ فكنت فيى خر المسجد - قال: وخرج عبد الرحم بن عوف وعليه عمامته التي عمَّمه بها رسول الله ﷺ، متقلّدًا سيفه؛ حتى ركب المنبر، فوقف وقوفًا طويلًا، ثم دعا بما لم يسمعه الناس. ثم تكلّم، فقال أيّها الناس؛ إني قد سأتلكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم؛ فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين: إما علي وإما عثمان؛ فقم غلي " يا علي، فقام إلي علي، فوقف تحت المنبر؛ فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا؛ ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي؛ قال: فأرسل يده ثم نادى: قم إلي يا عثمان؛ فأخذ بيده - هو في موقف علي الذي كان فيه - فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة منبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهمّ نعم؛ قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان، ثم قال: اللهمّ اسمع واشهد؛ اللهمّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان. قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه عند المنبر، فقعد عبد الرحمن مقعدالنبي ﷺ من المنبر، وأقعد عثمان على الدرجة الثانية، فجعل الناس يبايعون، وتلكأ علي، فقال عبد الرحمن: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا "؛ فرجع علي يشقّ الناس؛ حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيَّما خدعة! قال عبد العزيز: وإنما سبب قول علي خدعة؛ أن عمرو بن العاص كان قال لقي عليًّا في ليالي الشورى، فقال: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، وإنّه متى أعطيته العزيمة ان أزهد له فيك؛ ولكن الجهد والطاقة؛ فإنه أرغب له فيك. قال: ثم لقى عثمان، فقال: إنّ عبد الرحمن رجل مجتهد، وليس والله يبايعك إلّا بالعزيمة، فاقبل؛ فلذلك قال علي: خدعة. قال: ثم انصرف بعثمان إلى بيت فاطمة ابنة قيس، فجلس والناس معه، فقام المغيرة بن شعبة خطيبًا، فقال: يا أبا محمد، الحمد لله الذي وفقك؛ والله ما كان لها غير عثمان - وعلي جالس - فقال عبد الرحمن: يا بن الدباغ؛ ما أنت وذاك! والله ما كنت أبايع أحدًا إلّا قلت فيه هذه المقالة! قال: ثم جلس عثمان في جانب المسجد؛ ودعا بعبيد الله بن عمر - وكان محبوسًا في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وبانة أبي لؤلؤة، وكان يوقل: والله لأقتلنّ رجالًا ممن شرك في دم أبي - يعرّض بالمهاجرين والأنصار - فقام إليه سعد، فنزعالسيف من يده؛ وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض، وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه؛ فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فقال علي: أرى أن تقتله، فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس ويقتل ابنة اليوم! فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله قد أعافك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان؛ إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك؛ قال عثمان: أنا وليّهم، وقد جعلتها ديةً، واحتملتها في مالي. قال: وكان رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد البيّاضي إذا رأى عبيد الله بن عمر، قال: ألا يا عبيد الله مالك مهرب ** ولا مجلجأ من ابن أروى ولا خفر أصبت دمًا والله في غير حلّه ** حرامًا وقتل الهرمزان له خطر على غير شيء غير أن قال قائل ** أتتهمون الهرمزان على عمر فقال سفيه والحوادث جمَّة نعم اتَّهمه قد أشار وقد أمر وكان سلاح العبد في جوف بيته ** يقلبها والأمر بالأمر يعتبر قال: فشكا عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد وشعره، فدعا عثمان زياد بن لبيد، فنهاه. قال: فأنشأ زياد يوقل في عثمان: أبا عمرو عبيد الله رهن ** فلا تشكك بقتل الهرمزان فإنك إن غفرت الجرم عنه ** وأسباب الخطا فرسا رهان أتعفو إذ عفوت بغير حقّ ** فما لك بالذي تحي يدان! فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه وشدّ به. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب، أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة طعن عمر: مررت على أبي لؤلؤة عشي أمس؛ ومعه جفينة والهرمزان، وهم نجي، فلما رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان، نصابه في سوطه؛ فانظروا بأي شيء قتل؛ وقد تخلل أهل المسجد، وخرج في طلبه رجل من بني تميم، فرجع إليهم التميمي، وقد كان ألظَّ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر، حتى أخذه فقتله؛ وجاء بالخنجر الذي وصفه عبد الرحمن بن أبي بكر، فسمع بذلك عبيد الله بن عمر؛ فأمسك حتى مات عمر؛ ثمّ اشتمل على السيف؛ فأتى الهرمزان فقتله؛ فلما عضّه السيف قال: لا إله إلا الله. ثمّ مضى حتى أتى جفينة - وكان نصرنيًّا من أهل الحيرة ظئرًا لسعد بن مالك، أقدمه إلى المدينة للصلح الذي بينه وبينهم، وليعلّم بالمدينة الكتابة - فلما علاه بالسيف صلب بين عينيه. وبلغ لك صهيبًا، فبعث إليه عمرو بن العاص، فلم يزل به وعنه، ويقول: السيف بأبي وأمي! حتى ناوله إياه، وثاروه سعيد فأخذ بشعره، وجاءوا إلى صهيب. عمال عمر رضي الله عنه على الأمصار وكان عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه - في السنة التي قتل فيها؛ وهي سنة ثلاث وعشرين - على مكّة نافع بن عبد الحارث الخزاعي، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثَّقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية؛ حليف بني نوفل ابن عبد مناف، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة؛ وعلى البصرة أبو موسى الأشعري، وعلى مصر عمرو بن العاص؛ وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية بن أبي سفيان؛ وعلى البحرين وما والاهما عثمان بن أبي العاص الثقفي. وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاث وعشرين - توفي، فيما زعم الواقدي - قتادة ابن النعمان الظفري وصلى عليه عمر بن الخطّاب. وفيها غزا معاوية الصائفة حتى بلغعمّورية؛ ومعه من أصحاب رسول الله ﷺ معبادة بن الصامت وأبو أيّوب خالد بن زيد وأبو ذرّ وشدّاد بن أوس. وفيها فتح معاوية عسقلان على صلح. وقيل: كان على قضاء الكوفة في السنة التي توفي فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه شريح، وعلى البصرة كعب بن سور؛ وأما مصعب بن عبد الله فإنه ذكر أنّ مالك بن أنس روى عن ابن شهاب؛ أن أبا بكر وعمر رضي الله عنه عنهما لم يكن لهما قاض. ثم دخلت سنة أربع وعشرين ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة ففيها بويع لعثمان بن عفان بالخلافة، واختلف في الوقت الذي بويع له فيه؛ فقال بعضهم ما حدثني به الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قالك أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد ابن أبي وقّاص، معن عثمان بن محمّد الأخنسي. قال: وأخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد عن أبيه، قالا: بويع عثمان بن عفّان يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، فاستقبل بخلافته المحرّم سنة أربع وعشرين. وقال آخرون: ما حدثني به أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: بويع لعثمان عام الرُّعاف سنة أربع وعشرين، قيل: إنما قيل لهذه السنة عام الرعاف؛ لأنه كثر الرُّعاف فيها في الناس. وقال آخرون - فيما كتب به إلي السَّري، عن شعيب، عن شعيب، عن خليد بن ذفرة مجالد؛ قالا: استخلف عثمان لثلاث مضين من المحرّم سنة أربع وعشرين، فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد: ووفّد فاستنّ به. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمر، عن الشعبي، قال: اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث مضيْن من المحرّم، وقد دخل وقت العصر، وقد أذّن مؤذّن صهيب، واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلى بالناس، وزاد الناس مائة، ووفّد أهل الأمصار، وهو أوّل من صنع ذلك. وقال آخرون - فيما ذكر ابن سعد، عن الواقدي، عن ابن جريج عن ابن مليكة، قال: بويع لعثمان لعشر مضين من المحرّم، بعد مقتل عمر بثلاث ليال. خطبة عثمان وقتل عبيد الله بن عمر الهرمزان كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن عمّه، قال: لما بايع أهل الشورى عثمان، خرج وهو أشدّهم كآبة، فأتى منبر رسول ﷺ، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ، وقال: إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه؛ فلقد أتيتم، صبَّحتم أو مسِّيتم؛ ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنّكم الحياة الدنيا، ولا يغرنَّكم بالله الغرور. اعتبروا بمن مضى، ثم جدُّوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدينا وإخوانها الذين آثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلاُ؛ ألم تلفظهم! أرموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة؛ فإنّ الله قد ضرب لها مثلاُ؛ وللّذي هو خير، فقال عز وجل " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء " - إلى قوله - " أملا "، وأقبل الناس يبايعونه. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي منصور، قال: سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه، قال: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمرّ فيروز بأبي، ومعه خنجر له رأسان، فتناوله منه، وقال: ما تصنع بهذا في هذه البلاد؟ فقال: آنس به؛ فرآه رجل، فلما أصيب عمر، قال: رأيت هذا مع الهرمزان، دفعه إلى فيروز. فأقبل عبيد الله فقتله؛ فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه، ثم قال: يا بني، هذا قاتل أبيك؛ وأنت أولى به منا، فاذهب فاقتله؛ فخرجت به وما في الأرض أحد إلّا معي؛ إلّا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم - وسبّوا عبيد الله - فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا، وسبّوه فتركته لله ولهم. فاحتملوني؛ فوالله ما بلغت المنزل إلّا على رؤوس الرجال وأكفّهم. ولاية سعد بن أبي وقاص الكوفة وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولّاها سعد بن أبي وقاص - فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المجالد، عن الشعبي، قال: كان عمر قال: أوصي الخليفة من بعدي أن يستعمل سعد بن أبي وقّاص، فإنّي لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك. وكان أوّل عامل بعث به عثمان سعد بن أبي وقاص على الكوفة، وعزل المغيرة بن شعبة، والمغيرة يومئذ بالمدينة، فعمل عليها سعد سنة وبعض أخرى، وأقرّ أبا موسى سنوات. وأمّا الواقدي فإنه ذكر أنّ أسامة بن زيد بن أسلم حدثه، عن أبيه؛ أن عمر أوصى أن يقرّ عمّاله سنة؛ فلما ولي عثمان أقرّ المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله، واستعمل سعد بن أبي وقاص ثم عزله، واستعمل الوليد ابن عقبة. فإن كان صحيحًا ما رواه الواقدي من ذلك، فولاية سعد الكوفة من قبل عثمان كانت سنة خمس وعشرين. كتب عثمان إلى عماله وولاته والعامة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: لما وليَ عثمان بعث عبد الله بن عامر إلى كابل - وهي عمالة سجستان - فبلغ كابل حتى استفرغها، فكانت عمالة سجستان أعظم من خراسان؛ حتى مات معاوية، وامتنع أهل كابل. قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه عثمان إلى عمّاله: أمّا بعد؛ فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جباةً؛ وإنّ صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة، وليوشكنّ أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة؛ فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنّ أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم؛ ثم تثنّوا بالذمّة، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم. ثم العدوّ الذي تنتابون؛ فاستفتحوا عليهم بالوفاء. قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه عثمان إلى عمّاله: أمّا بعد؛ فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدّم إليهم أن يكونوا جباة؛ وإنّ صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة، وليوشكنّ أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة؛ فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء. ألا وإنّ أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم؛ ثم تثنّوا بالذمّة، فتعطوهم الذي لهم، وتأخذوهم بالذي عليهم. ثم العدوّ الذي تنتابون؛ فاستفتحوا عليهم بالوفاء. قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه إلى أمراء الأجناد في الفروج: أمّا بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم؛ وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنّا، بل كان عن ملإ منّا، ولا يبلغنّي عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغيّر الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم؛ فانظروا كيف تكونون، فإني أنظر فيما الزمني الله النظر فيه، والقيام عليه. قالوا: وكان أوّل كتاب كتبه إلى عمّال الخراج: أمّا بعد، فإن الله خلق الخلق بالحقّ؛ فلا يقبل إلا الحقّ، خذوا الحقّ وأعطوا الحقّ به. والأمانة الأمانة؛ قوموا عليها، ولا تكونوا أوّل من يسلبها، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم والوفاء الوفاء؛ لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم. قالوا: وكان كتابه إلى العامّة: أمّا بعد، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والاتّباع؛ فلا تلفتنّكم الدنيا عن أمركم؛ فإنّ أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن؛ فإنّ رسول الله ﷺ قال: الكفر في العجمة؛ فإذا استعجم عليهم أمر تكلّفوا وابتدعوا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عاصم بن سليمان، عن عامر الشعبي، قال: أوّل خليفة زاد الناس في أعطياتهم مائة عثمان؛ فجرت وكان عمر يجعل لكلّ نفس منفوسة من أهل الفيء في رمضان درهمًا في كلّ يوم، وفرض لأزواج رسول الله ﷺ درهمين درهمين؛ فقيل له: لو صنعت لهم طعامًا فجمعتهم عليه! فقال: أشبع الناس في بيوتهم. فأقرّ عثمان الذي كان صنع عمر؛ وزاد فوضع طعام رمضان، فقال: للمعبد الذي يتخلف في المسجد وابن السبيل والمعترّين بالناس في رمضان. غزوة أذربيجان وأرمينية وفي هذه السنة - أعني سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية، لمنع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام أيّام عمر في رواية أبي مخنف؛ وأمّا في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ستّ وعشرين. ذكر الخبر عن ذلك وما كان من أمر المسلمين وأمرهم في هذه الغزوة ذكر هشام بن محمد، أنّ أبا مخنف حدثه عن فروة بن لقيط الأزدي، ثمّ الغامدي؛ أنّ مغازي أهل الكوفة كانت الري وأذربيجان، وكان بالثغرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة؛ ستة آلاف بأذربيجان وأربعة آلاف بالرّي، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل؛ وكان يغزو هذين الثغرين منهم عشرة آلاف في كلّ سنة؛ فكان الرجل يصيبه في كلّ أربع سنين غزوة؛ فغزا الوليد بن عقبة في إمارته على الكوفة في سلطان عثمان أذربيجان وأرمينية، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فبعثه أمامه مقدّمة له، وخرج الوليد في جماعة الناس؛ وهو يريد أن يمعن في أرض أرمينية، فمضى في الناس حتى دخل أذربيجان، فبعث عبد الله بن شبيل بن عوف الأحمسي في أربعة آلاف، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان؛ فأصاب من أموالهم وغنم، وتحرّز القوم منه، وسبى منهم سبيًا يسيرًا، فأقبل إلى الوليد بن عقبة. ثم إن الوليد صالح أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم؛ وذلك هو الصلح الذي كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان سنة اثنتين وعشرين بعد وقعة نهاوند بسنة. ثم إنهم حبسوها عند وفاة عمر، فلما ولي عثمان وولي الوليد ابن عقبة الكوفة، سار حتى وطئهم بالجيش؛ فلما رأوا ذلك انقادوا له، وطلبوا إليه أن يتمّ لهم على ذلك الصلح، ففعل؛ فقبض منهم المال، وبثّ فيمن حولهم من أعداء المسلمين الغازات؛ فلما رجع إليه عبد الله بن شبيل الأحمسي من غارته تلك - وقد سلم وغنم - بعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أرمينية في اثني عشر ألفًا، سنة أربع وعشرين. فسار في أرض أرمينية فقتل وسبى وغنم. ثم إنه انصرف وقد ملأ يديه حتى أتى الوليد. فانصرف الوليد وقد ظفر وأصاب حاجته. إجلاب الروم على المسلمين واستمداد المسلمين من بالكوفة وفي هذه السنة - في رواية أبي مخنف - جاشت الروم، حتّى استمدّ من بالشأم من جيوش اللمسلمين من عثمان مددًا. ذكر الخبر عن ذلك قال هشام: حدثني أبو مخنف، قال: حدثني فروة بن لقيط الأزدي، قال: لما أصاب الوليد حاجته من أرمينية في الغزوة التي ذكرتها في سنة أربع وعشرين من تاريخه، ودخل الموصل فنزل الحديثة، أتاه كتاب من عثمان رضي الله عنه: أمّا بعد؛ فإنّ معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أنّ الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة، وقد رأيت أن يمدّهم إخوانهم من أهل الكوفة؛ فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلًا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولي؛ والسلام. فقام الوليد في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد أيّها الناس؛ فإنّ الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنًا؛ ردّ عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادًا لم تكن افتتحت، وردّهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلي أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى الثمانية الآلاف، تمدّون إخوانكم من أهل الشأم، فإنهم قد جاشت عليهم الروم؛ وفي ذلك الأجر العظيم، والفضل المبين، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي. قال: فانتدب الناس، فلم يمض ثالثة حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشأم إلى أرض الروم؛ وعلى جند أهل الشأم حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري، وعلى جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة الباهلي؛ فشنّوا الغارات على أرض الروم، فأصاب الناس ما شاءوا من سبي، وملئوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا بها حصونًا كثيرة. وزعم الواقدي أنّ الذي أمدّ حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة كان سعيد بن العاص، وقال: كان سبب ذلك أنّ عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشأم أرمينية، فوجّهه إليها، فبلغ حبيبًا أن الموريان الرومي قد توجّه نحوه في ثمانين ألفًا من الروم والتّرك، فكتب بذلك حبيب إلى معاوية، فكتب معاوية به إلى عثمان، فكتب عثمان إلى سعيد ابن العاص يأمره بإمداد حبيب بن مسلمة، فأمدّه بسلمان بن ربيعة في ستة آلاف، وكان حبيب صاحب كيد، فأجمع على أن يبيّت الموريان، فسمعته امرأته أمّ عبد الله بنت يزيد الكلبيّية يذكر ذلك، فقالت له: فأين موعدك؟ قال: سرادق الموريان أو الجنّة، ثم بيّتهم، فقتل من أشرف له، وأتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت؛ وكانت أوّل امرأة من العرب ضرب عليها سرادق، ومات عنها حبيب، فخلف عليها الضحّاك بن قيس الفهري، فهي أمّ ولده. واختلف فيمن حجّ بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حجّ بالناس في هذه السنة عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان؛ كذلك قال أبو معشر والواقدي. وقال آخرون: بل حجّ في هذه السنة عثمان بن عفان. وأما الاختلاف في الفتوح التي نسبها بعض الناس إلى أنها كانت في عهد عمر، وبعضهم إلى أنها كانت في إمارة عثمان، فقد ذكرت قبل فيما مضى من كتابنا هذا ذكر اختلاف المختلفين في تاريخ كلّ فتح كان من ذلك. ثم دخلت سنة خمس وعشرين ذكر الأحداث المشهورة التي كانت فيها فقال أبو معشر، فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازيّن قال: حدثني محدث، عن إسحاق بن عيسى عنه: كان فتح الإسكندريّة سنة خمس وعشرين. وقال الواقدي: وفي هذه السنة نقضت الإسكندرية عهدها، فعزاهم عمرو بن العاص فقتلهم؛ وقد ذكرنا خبرها قبل فيما مضى، ومن خالف أبا معشر والواقدي في تأريخ ذلك. وفيها كان أيضًا - في قول الواقدي - توجيه عبد الله بن سعد بن أبي سرح الخيل إلى المغرب. قال: وكان عمرو بن العاص قد بعث بعثًا قبل ذلك إلى المغرب، فأصابوا غنائم، فكتب عبد الله يستأذنه في الغزو إلى إفريقية، فأذن له. قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان، واستخلف على المدينة. قال: وفيها فتح الحصون وأميرهم معاوية بن أبي سفيان. قال: وفيها ولد يزيد بن معاوية. قال: وفيها كانت سابور الأولى فتحت. ثم دخلت سنة ست وعشرين ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة فكان فيها - في قول أبي معشر والواقدي - فتح سابور؛ وقد مضى ذكر الخبر عنها في قول من خالفهما في ذلك وقال الواقدي: فيها أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم. وقال: فيها زاد عثمان في المسجد الحرام، ووسّعه وابتاع من قوم وأبى آخرون؛ فهدم عليهم؛ ووضع الأثمان في بيت المال؛ فصيّحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرّأكم علي! ما جرّأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيّحوا به. ثم كلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا. قال: وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان. وفي هذه السنة عزل عثمان سعدًا عن الكوفة، وولّاها الوليد بن عقبة في قول الواقدي؛ وأمّا في قول سيف فإنه عزله عنها في سنة خمس وعشرين. وفيها ولي الوليد عليها، وذلك أنه زعم أنه عزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة حين مات عمر، ووجّه سعدًا إليها عاملًا، فعمل له عليها سنة وأشهرًا. ذكر سبب عزل عثمان عن الكوفة سعدا واستعماله عليها الوليد كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: كان أوّل ما نزع به بين أهل اعلكوفة - وهو أوّل مصر نزغ الشيطان بينهم في الإسلام - أنّ سعد بن أبي وقاص استقرض من عبد الله بن مسعود من بيت المال مالًا، فأقرضه، فلمّا تقاضاه لم يتيسّر عليه، فارتفع بينهما الكلام حتى استعان عبد الله بأناس من الناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس من الناس على استنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضًا، يلوم هؤلاء سعدًا ويلوم هؤلاء عبد الله. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: كنت جالسًا عند سعد، وعنده ابن أخيه هاشم بن عتبة، فأتى ابن مسعود سعدًا، فقال له: أدّ المال الذي قبلك، فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شرًّا! هل أنت إلا ابن مسعود، عبد من هذيل! فقال: أجل؛ والله إني لابن مسعود، وإنك لابن حمينة، فقال هاشم: أجل والله إنّكما لصاحبا رسول الله ﷺ، ينظر إليكما. فطرح سعد عودًا كان في يده - وكان رجلًا فيه جدّة - ورفع يديه، وقال: اللهمّ ربّ السموات والأرض.. فقال عبد الله: ويلك! قل خيرًا، ولا تلعن، فقال سعد عند ذلك: أما والله لولا اتّقاء الله لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد الله سريعًا حتى خرج. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن الوليد، عن المسيّب بن عبد خير، عن عبد الله بن عكيم، قال: لما وقع بين ابن مسعود وسعد الكلام في قرض أقرضه عبد الله إياه؛ فلم يتيسر على سعد قضاؤه؛ غضب عليهما عثمان، وانتزعها من سعد، وعزله وغضب على عبد الله وأقرّه، واستعمل الوليد بن عقبة - وكان عاملًا لعمر على ربيعة بالجزيرة - فقدم الكوفة فلم يتّخذ لداره بابًا حتى خرج من الكوفة. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما بلغ عثمان الذي كان بين عبد الله وسعد فيما كان، غضب عليهما وهمّ بهما، ثم ترك ذلك، وعزل سعدًا، وأخذ ما عليه، وأقرّ عبد الله، وتقدّم إليه، وأمّر مكان سعد الوليد بن عقبة - وكان على عرب الجزيرة عاملًا لعمر بن الخطاب - فقدم الوليد في السنة الثانية من إمارة عثمان، وقد كان سعد عمل عليها سنة وبعض أخرى، فقدم الكوفة، وكان أحبّ الناس في الناس وأرفقهم بهم؛ فكان كذلك خمس سنين وليس على داره باب. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ذكر الأحداث المشهورة التي كانت فيها فتح إفريقية فمما كان فيها من ذلك فتح إفريقية على يد عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كذلك حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا محدث، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر؛ وهو قول الواقدي أيضًا. ذكر الخبر عن فتحها وعن سبب ولاية عبد الله بن سعد ابن أبي سرح مصر وعزل عثمان عمرو بن العاص عنها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: مات عمر وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى قضائها خارجة بن حذافة السهمي، فولى عثمان، فأقرهما سنتين من إمارته ثم عزل عمرًا، واستعمل عبد الله ابن سعد بن أبي سرح. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان؛ قالا: لما ولي عثمان أقرّ عمرو بن العاص على عمله، وكان لا يعزل أحدًا إلّا عن شكاة أو استعفاء من غير شكاة؛ وكان عبد الله بن سعد من جند مصر، فأمّر عبد الله بن سعد على جنده، ورماه بالرّجال، وسرّحه إلى إفريقية وسرحّ معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحصين الفهريّين، وقال لعبد الله بن سعد: إنْ فتح الله عزّ وجل عليك غدًا إفريقية، فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا. وأمّر العبدين على الجند، ورماهما بالرجال، وسرّحهما إلى الأندلس؛ وأمرهما وعبد الله بن سعد بالاجتماع على الأجلّ، ثم يقيم عبد الله بن سعد في عمله ويسيران إلى عملهما. فخرجوا حتى قطعوا مصر، فلمّا وغلوا في أرض إفريقية فأمعنوا انتهوا إلى الأجلّ، ومعه الأفناء، فاقتتلوا، فقتل الأجلّ، قتله عبد الله بن سعد وفتح إفريقية سهلها وجبلها. ثم اجتمعوا على الإسلام، وحسنت طاعتهم، وقسم عبد الله ما أفاء الله عليهم على الجند؛ وأخذ خمس الخمس، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع ابن وثيمة النصري، وضرب فسطاطًا في موضع القيروان، ووفّد وفدًا، فشكوا عبد الله فيما أخذ، فقال لهم: أنا نفّلته - وكذلك كان يصنع - وقد أمرت له بذلك، وذاك إليكم الآن؛ فإن رضيتم فقد جاز، وإن سخطتم فهو ردّ. قالوا: فإنا نسخطه، قال: فهو ردّ، وكتب إلى عبد الله بردّ ذلك واستصلاحهم، قالوا: فاعزله عنّا، فإنا لا نريد أن يتأمّر علينا، وقد وقع ما وقع؛ فكتب إليه أن استخلف على إفريقية رجلًا ممن ترضى ويرضون واقسم الخمس الذي كنت نفّلتك في سبيل الله؛ فإنهم قد سخطوا النفل. ففعل، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح إفريقية، وقتل الأجلّ. فما زالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك؛ أحسن أمة سلامًا وطاعةً؛ حتى دبّ إليهم أهل العراق، فلما دبّ إليهم دعاة اهل العراق واستثاروهم، شقّوا عصاهم، وفرّقوا بينهم إلى اليوم. وكان من سبب تفريقهم أنهم ردّوا على أهل الأهواء، فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك، فقالوا لهم: لا نقبل ذلك حتى نبورهم؛ فخرج ميسرة في بضعة عشر إنسانًا حتى يقدم على هشام، فطلبوا الإذن، فصعب عليهم، فأتوا الأبرش، فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين أنّ أميرنا يغزو بنا وبجنده، فإذا أصاب نفّلهم دوننا وقال: هم أحقّ به؛ فقلنا: هو أخلص لجهادنا، لأنا لا نأخذ منه شيئًا، إن كان لنا فهم منه في حلّ؛ وإن لم يكن لنا لم نرده. وقالوا: إذا حاصرنا مدينة قال: تقدّموا وأخّر جنده، فقلنا: تقدّموا، فإنه ازدياد في الجهاد، ومثلكم كفى إخوانه، فوقيناهم بأنفسنا وكفيناهم. ثمّ إنهم عمدوا إلى ماشيتنا، فجعلوا يبقرونها على السخال يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين، فيقتلون ألف شاة في جلد، فقلنا: ما أيسر هذا لأمير المؤمنين! فاحتملنا ذلك، وخلّيناهم وذلك. ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كلّ جميلة من بناتنا فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنّة، ونحن مسلمون؛ فأحببنا أن نعلم: أعن رأي أمير المؤمنين ذلك أم لا؟ قال: نفعل؛ فلما طال عليهم ونفدت نفقاتهم، كتبوا أسماءهم في رقاع، ورفعوها إلى الوزراء، وقالوا: هذه أسماؤنا وأنسابنا؛ فإن سألكم أمير المؤمنين عنّا فأخبروه، ثم كان وجههم إلى إفريقية؛ فخرجوا على عامل هشام فقتلوه، واستولوا على إفريقية؛ وبلغ هشامًا الخبر، وسأل عن النفر، فرفعت إليه أسماؤهم، فإذا هم الذين جاء الخبر أنهم صنعوا ما صنعوا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فخرجوا ومعهم البربر؛ فأتوها من برّها؛ ففتحها الله على المسلمين وإفرنجة؛ وازدادوا في سلطان المسلمين مثل إفريقية؛ فلما عزل عثمان عبد الله ابن سعد بن أبي سرح صرف إلى عمله عبد الله بن نافع بن عبد القيس؛ وكان عليها، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر؛ ولم يزل أمر الأندلس كأمر إفريقية حتى كان زمان هشام، فمنع البربر أرضهم؛ وبقي من في الأندلس على حاله. وأما الواقدي فإنه ذكر أنّ ابن أبي سبرة حدثه عن محمد بن أبي حرملة، عن كريب، قال: لما نزع عثمان عمرو بن العاص عن مصر غضب عمرو غضبًا شديدًا، وحقد على عثمان، فوجّه عبد الله بن سعد، وأمره أن يمضي إلى إفريقية؛ وندب عثمان الناس إلى إفريقية؛ فخرج إليها عشرة آلاف من قريش والأنصار والمهاجرين. قال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن ابن كعب، قال: لما وجّه عثمان عبد الله بن سعد إلى إفريقية، كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، فبعث ملك الروم رسولًا، وأمره أن يأخذ منهم ثلثمائة قنطار؛ كما أخذ منهم عبد الله بن سعد؛ فجمع رؤساء إفريقية، فقال: إن الملك قد أمرني أن آخذ منكم ثلثمائة قنطار ذهب مثل ما أخذ منكم عبد الله بن سعد؛ فقالوا: ما عندنا مال نعطيه؛ فأمّا ما كان بأيدينا فقد افتدينا به أنفسنا، وأمّا الملك فإنه سيّدنا فليأخذ ما كان له عندنا من جائزة كما كنا نعطيه كلّ سنة. فلمّا رأى ذلك أمر بحبسهم، فبعثوا إلى قوم من أصحابهم، فقدموا عليه، فكسروا السجن فخرجوا، وكان الذي صالحهم عليه عبد الله بن سعد ثلثمائة قنطار ذهب؛ فأمر بها عثمان لآل الحكم. قلت: أو لمروان؟ قال: لا أدري. قال ابن عمر: وحدثني أسامة بن زيد، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: نزع عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عبد الله بن سعد على الخراج، فتباغيا، فكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان يقول: إنّ عمرًا كسر الخراج. وكتب عمرو: إنّ عبد الله كسر علي حيلة الحرب، فكتب عثمان إلى عمرو: انصرف؛ وولّى عبد الله بن سعد الخراج والجند، فقدم عمرو مغضبًا، فدخل على عثمان وعليه جبّة يمانية محشوّة قطنًا، فقال له عثمان: ما حشو جبّتك؟ قال: عمرو، قال عثمان: قد علمت أن حشوها عمرو ولم أرد هذا، إنما سألت: أقطن هو أم غيره؟ قال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: بعث عبد الله بن سعد إلى عثمان بمال من مصر، قد حشد فيه، فدخل عمرو على عثمان؛ فقال عثمان: يا عمرو، هل تعلم أنّ تلك اللقاح درّت بعدك! فقال عمرو: إنّ فصالها هلكت. وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقال الواقدي: وفي هذه السنة كان فتح إصطخر الثاني على يد عثمان ابن أبي العاص. قال: وفيها غزا معاوية قنّسرين. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث المشهورة فتح قبرس فمما ذكر أنه كان فيها فتح قبرس، على يد معاوية، غزاها بأمر عثمان إيّاه؛ وذلك في قول الواقدي. فأمّا أبو معشر فإنه قال: كانت قبرس سنة ثلاث وثلاثين، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وقال بعضهم: كانت قُبرس سنة سبع وعشرين، غزاها - فيما ذكر - جماعة من أصحاب رسول الله ﷺ، فيهم أبو ذرّ وعبادة بن الصامت؛ ومعه زوجته أمّ حرام والمقداد وأبو الدرداء، وشدّاد بن أوس. ذكر الخبر عن غزوة معاوية إياها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الربيع بن النعمان النصري وأبي المجالد جراد بن عمرو، عن رجاء بن حيوة وأبي حارثة وأبي عثمان، عن رجاء وعبادة وخالد: قالوا: ألحّ معاوية في زمانه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص؛ وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم؛ حتى كاد ذلك يأخذ بقلب عمر؛ فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه؛ فإنّ نفسي تنازعني إليه. وقال عبادة وخالد: لما أخبره ما للمسلمين في ذلك وما على المشركين، فكتب إليه عمرو: إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير؛ إن ركن خرّق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول؛ يزداد فيه اليقين قلّة، والشكّ كثرة، هم فيه كدود على عدود؛ إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأه عمر كتب إلى معاوية: لا والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سعيد، عن عبادة بن نسي، عن جنادة بن أبي أميّة الأزدي، قال: كان معاوية كتب إلى عمر كتابًا في غزو البحر يرغّبه فيه، ويقول: يا أمير المؤمنين، إنّ بالشأم قرية يسمع أهلها نباح كلاب الروم وصياح ديوكهم؛ وهم تلقاء ساحل من سواحل حمص؛ فاتّهمه عمر لأنه المشير؛ فكتب إلى عمرو: أن صف لي البحر؛ ثم اكتب إلي بخبره: فكتب إليه: ياأمير المؤمنين، إني رأيت خلقًا عظيماُ، يركبه خلق صغير؛ ليس إلا السماء والماء؛ وإنما هم كدودٍ على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عثمان وأبي حارثة، عن عبادة، عن جنادة بن أبي أميّة والربيع وأبي المجالد، قالوا: كتب عمر إلى معاوية: إنا سمعنا أن بحر الشأم يشرف على أطول شيء على الأرض؛ يستأذن الله في كلّ يوم وليلة في أن يفيض على الأرض فيغرّقها؛ فكيف أحمل الجنود في هذا البحر الكافر المستصعب؛ وتالله لمسلم أحبّ إلي مما حوت الروم؛ فإيّاك أن تعرض لي؛ وقد تقدّمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منّي، ولم أتقدّم إليه في مثل ذلك. وقالوا: ترك ملك الروم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، وسأله عن كلمة يجتمع فيها العلم كله، فكتب إليه: أحبّ للناس ما تحبّ لنفسك، واكره لهم ما تكره لها، تجتمع لك الحكمة كلّها. واعتبر الناس بما يليلك، تجمتع لك المعرفة كلها. وكتب إليه ملك الروم - وبعث إليه بقارورة: أن املأ لي هذه القارورة من كلّ شيء، فملأها ماء، وكتب إليه: إنّ هذا كلّ شيء من الدنيا. وكتب إليه ملك الروم: ما بين الحق والباطل؟ فكتب إليه: أربع أصابع الحقّ، فيما يرى عياناُ، والباطل كثيرًا يستمع به فيما لم يعاين. وكتب إلى ملك الروم يسأله عمّا بين السماء والأرض وبين المشرق والمغرب، فكتب إليه: مسيرة خمسمائة عام للمسافر؛ لو كان طريقًا مبسوطًا. قال: وبعثت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب إلى ملكة الروم بطيب ومشارب وأحفاش من أحفاش النساء، ودسّته إلى البريد، فأبلغه لها، وأخذ منه. وجاءت امرأة هرقل، وجمعت نساءها، وقالت: هذه هدّية امرأة ملك العرب، وبنت نبيّهم، وكاتبتها وكافأتها، وأهدت لها؛ وفيما أهدت لها عقد فاخر. فلما انتهى به البريد إليه أمره بإمساكه، ودعا: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلّى بهم ركعتين، وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري؛ قولوا في هديّة أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم؛ فأهدت لها امرأة ملك الروم، فقال قائلون: هو لها بالذي لها، وليست امرأة الملك بذمّة فتصانع به، ولا تحت يدك فتتّقيك. وقال آخرون: قد كنّا نهدي الثياب لنستثيب، ونبعث بها لتباع، ولنصيب ثمنًا. فقال: ولكنّ الرسول رسول المسلمين، والبريد بريدهم، والمسلمون عظّموها في صدرها. فأمر بردّها إلى بيت المال، وردّ عليها بقدر نفقتها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة، عن خالد بن معدان، قال: أوّل من غزا في البحر معاوية بن أبي سفيان زمان عثمان بن عفان، وقد كان استأذن عمر فيه فلم يأذن له؛ فلما ولي عثمان لم يزل به معاوية؛ حتى عزم عثمان على ذلك بأخرة، وقال: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم؛ خيرهم؛ فمن اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعنه، ففعل واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب؛ وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده، وألّا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده؛ خرج في قارب طليعة، فانتهى إلى المرقى من أرض الروم؛ وعليه سؤّال يعترّون بذلك المكان، فتصدّق عليهم، فرجعت امرأة من السؤّال إلى قريتها، فقال للرجال: هل لكم في عبد الله بن قيس؟ قالوا: وأين هو؟ قالت: في المرقى، قالوا: أي عدوّة الله! ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبّختهم، وقالت: أنتم أعجز من أن يخفى عبد الله على أحد. فثاروا إليه، فهجموا عليه، فقاتلوه وقاتلهم، فأصيب وحده؛ وألفت الملّاح حتى أتى أصحابه، فجاءوا حتى أرقوا، والخليفة منهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم، فقالت جارية عبد ه: واعبد الله، ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: الغمرات ثم ينجلينا فترك ما كان يقول، ولزم: الغمرات ثم ينجلينا. وأصيب في المسلمين يومئذ، وذلك آخر زمان عبد الله بن قيس الجاسي؛ وقيل لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفتيه؟ قالت: بصدقته؛ أعطى كما يعطي الملوك؛ ولم يقبض قبض التجّار. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: قيل لتلك المرأة التي استثارت الروم على عبد الله بن قيس: كيف عرفته؟ قالت: كان كالتاجر، فلمّا سألته أعطاني كالملك؛ فعرفت أنه عبد الله بن قيس. وكتب إلى معاوية والعمّال: أمّا بعد، فقوموا على ما فارقتم عليه عمر، ولا تبدّلوا، ومهما أشكل عليكم، فردّوه إلينا نجمع عليه الأمة، ثمّ نردّه عليكم؛ وإيّاكم أن تغيِّروا، فإنّي لست قابلًا منكم إلا ما كان عمر يقبل. وقد كانت تنتقض فيما بين صلح عمر وولاية عثمان تلك الناحية فيبعث إليها الرجل فيفتحها الله على يديه، فيحسب له ذلك؛ وأما الفتوح فلأوّل من وليها. قال أبو جعفر: ولما غزا معاوية قبرس؛ صالح أهلها - فيما حدثني علي بن سهل، قال: جدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني سليمان بن أبي كريمة والليث بن سعد وغيرهما من مشيخة ساحل دمشق؛ أنّ صلح قبرس وقع على جزية سبعة آلاف دينار يؤدّونها إلى المسلمين في كلّ سنة، ويؤدُّون إلى الروم مثلها، ليس للمسلمين أنيحولوا بينهم وبين ذلك، على ألّا يغزوهم ولا يقاتلوا من وراءهم ممن أرادهم من خلفهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوّهم من الروم إليهم؛ وعلى أن يبطرق إمام المسلمين عليهم منهم. وقال الواقدي: غزا معاوية في سنة ثمان وعشرين قبرس، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، حتى لقوا معاوية، فكان على الناس. قال: وحدثني ثوري بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، قال: لما سبيناهم نظرت إلى أبي الدرداء يبكي، فقلت: ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذل " فيه الكفر وأهله؟ قال: فضرب بيده على منكبي، وقال: ثكلتك أمّك يا جبير! ما أهون الخلق عى الله إذا تركوا أمره! بينا هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك؛ إذ تركوا أمر ه، فصاروا إلى ما ترى، فسلَّط عليهم السبَّاء، وإذا سلِّط السِّباء على قوم فليس الله فيهم حاجة. قال الواقدي: موحدثني أبو سعيد، أنّ معاوية بن أبي سفيان صالح أهل قبرس في ولاية عثمان؛ وهو أوّل من غزا الروم؛ وفي العهد الذي بينه وبينهم ألّا يتزوّجوا في عدوّنا من الروم إلّا بإذننا. قال الواقديَ: وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم. وفيها تزوّج عثمان نائلة ابنة الفرافصة الكلبية وكانت نصرانية، فتحنَثت قبل أن يدخل بها. قال: وفيها بني داره بالمدينة، الزوراء، وفرغ منها. قال: وفيها كان فتح فارس الأول، وإصطخر الآخر وأميرها هشام ابن عامر. قال: وحجّ بالناس عثمان في هذه السنة. ثم دخلت سنة تسع وعشرين ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة ففيها عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، وكان عامله عليها ستّ سنين، وولّاها عبد الله بن عامر بن كريز، وهو يومئذ ابن خمس وعشرين سنة، فقدمها. وقد قيل: إنّ أبا موسى إنما عمل لعثمان على البصرة ثلاث سنين. وذكر علي بن محمد أن محاربًا أخبره، عن عوف الأعرابي، قال: خرج غيلان بن خرشة الضبي إلى عثمان بن عفان، فقال: أما لكم صغير فتستشبّوه فتولّوه البصرة! حتى متى بلى هذا الشيخ البصرة! يعني أبا موسى؛ وكان وليها بعد موت عمر ستّ سنين. قال: فعزله عثمان عنها، وبعث عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة ابن حبيب بن عبد شمس، وأمه دجَّاجة ابنة أسماء السُّلمي؛ وهو ابن خال عثمان بن عفان. قال مسلمة: فقدم البصرة، وهو ابن خمس وعشرين سنة، سنة تسع وعشرين. ذكر الخبر عن سبب عزل عثمان أبا موسى عن البصرة كتب إلي السري، يذكر أنّ شعيبًا حدثه، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما ولي عثمان أقرّ أبا موسى على البصرة ثلاث سنين، وعزله في الرابعة، وأمّر على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي - وهو من كنانة - فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة، فلم يدع دونها كورة إلا أصحها؛ وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر التيمي، فأثخن فيها حتى بلغ النهر. وبعث علي كرمان عبد الرحمن بن غبيس؛ وبعث إلى فارس والأهواز نفرًا، وضمّ سواد البصرة إلى الحصين بن أبي الحرَ، ثم عزل عبد الله بن عمير، واستعمل عبد الله بن عامر فأقرّه عليها سنة ثم عزله، واستعمل عاصم بن عمرو، وعزل عبد الرحمن بن غبيس، وأعاد عدي بن سهيل بن عدي. ولما كان في السنة الثالثة كفر أهل إيذج والأكراد، فنادى أبو موسى في الناس، وحضّهم وندبهم؛ وذكر من فضل الجهاد في الرجلة؛ حتى حمل نفر على دوابّهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجَالًا. وقال آخرون: لا والله لا نعجل بشيء حتى ننظر ما صنيعه؟ فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما فعل أصحابنا. فلمّا كان يوم خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلًا، فتعلقوا بعنانه، وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول، وارغب من الرجلة فيما رغبتنا فيه، فقنّع القوم حتى تركوا دابتّه ومضى، فأتوا عثمان، فاستعفوه منه، وقالوا: ما كلّ ما نعلم نحبّ أن نقوله، فأبد لنا به، فقال: من تحبّون؟ فقال غيلان بن خرشة: في كلِّ أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا، وأحيا أمر الجاهلية فينا، فلا ننفك من أشعري كان يعظّم ملكه عن الأشعرين؛ ويستصغر ملك البصرة، وإذا أمرّت علينا صغيرًا كان فيه عوض منه، أو مهترًا كان فيه عوض منه؛ ومن بين ذلك من جميع الناس خير منه. فدعا عبد الله بن عامر وأمّره على البصرة، وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس، واستعمل على عمله عمير بن عثمان بن سعد. فاستعمل على خراسان في سنة أربع أمين بن أحمج اليشكري، واستعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفصيل الرجمي، وعلى كرمان عاصم بن عمرو، فما تعالى بها. فجاشت فارس، وانتقضت بعبيد الله بن معمر، فاجتمعوا له بإصطخر، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله وهزم جنده؛ وبلغ الخبر عبد الله ابن عامر، فاستنفر أهل البصرة؛ وخرج معه الناس، وعلى مقدّمته عثمان ابن أبي العاص، فالتقوا هم وهم بإصطخر، وقتل منهم مقتلة عظيمة لم يزالوا منها في ذلّ؛ وكتب بذلك إلى عثمان؛ فكتب إليه بإمرة هرم بن حسان اليشكري، وهرم بن حيان العبدي من عبد القيس، والحرّيت بن راشد من بني سامة، والمنجاب بن راشد، والتّرجمان الهجيمي، على كور فاس، وفرّق خراسان بين نفر ستة: الأحنف على المروين، وحبيب بن قرّة اليربوعي على بلخ - وكانت مما افتتح أهل الكوفة - وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمين بن أحمد اليشكري على طوس، وقيس بن الهيثم السملي على نيسابور - وهو أول من خرج - وعبد الله بن خازم، وهو ابن عمه. ثم إن عثمان جمعها له قبل موته؛ فمات وقيس على خراسان، واستعمل أمين بن أحمر على سجستان، ثم جعل عليها عبد الرحمن بن سمرة - وهو من آل حبيب ابن عبد شمس؛ فمات عثمان وهو عليها؛ ومات وعمران على كرمان - وعمير ابن عثمان مبن سعد على فارس، وابن كندير القشيري على مكران. وقال علي بن محمد: أخبرنا علي بن مجاهد، عن أشياخه، قال: قال غيلان بن خرشة لعثمان بن عفان: أما منكم خسيس فترفعوه! أما منكم فقير فتجيروه! يا معشر قريش، حتى متى يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد! فانتبه لها الشيخ؛ فولَاها عبد الله بن عامر. قال علي بن محمد: أخبرنا أبو بكر الهذلي؛ قال: ولي عثمان ابن عامر البصرة؛ فقال الحسن: قال أبو موسى: يأتيكم غلام خرّاج ولّاج كريم الجدّات والخالات والعمات؛ يجمع له الجندان. قال: قال الحسن: فقدم ابن عامر، فجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي؛ وكان عثمان بن أبي العاص فيمن عبر من عمان والبحرين. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وفد قيس بن هثيم عبد الله بن خازم إلى عبد الله بن عامر في زمان عثمان؛ وكان عبد الله بن خازم على عبد الله بن عامر كريمًا، فقال له: اكتب لي على خراسان عهدًا إن خرج منها قيس بن الهيثم. ففعل، فرجع إلى خراسان؛ فلما قتل عثمان وبلغ الناس الخبر، وجاش العدوّ لذلك، قال قيس: ما ترى يا عبد الله؟ قال: أرى أن تخلفني ولا تخلّف عن المضي حتى تنظر فيما تنظر. ففعل واستخلفه، فأخرج عبد الله عهد خلافته، وثبت على خراسان إلى أن قام علي رضي الله تعالى عنه، وكانت أمّ عبد الله عجلي، فقال قيس: أنا كنت أحقّ أنأكون ابن عجلي من عبد الله؛ وغضب مما صنع به الآخر. أخبار متفرقة وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن عامر فارس في قول الواقدي وفي قول أبي معشر؛ حدثني بقول أبي معشر أحمد بن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق ابن عيسى، عنه. وأما قول سيف فقد ذكرناه قبل. وفي هذه السنة - أعني سنة تسع وعشرين - زاد عثمان في مسجد رسول الله ﷺ ووسّعه، وابتدأ في بنائه في شهر ربيع الأول؛ وكانت القصّة تحمل إلى عثمان من بطن نخل؛ وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حدجارة فيها رصاص، وسقفه ساجًا، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه مائة وخمسين ذراعًا، وجعل أبوابه على ما كانت عليه على عهد عمر، ستّة أبواب. وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان، فضرب بمنى فسطاطًا، فكان أوّل فسطاط ضربه عثمان بمنّى، وأتمّ الصلاة بها وبعرفة. فذكر الواقدي، عن عمر بن صالح بن نافع، عن صالح مولى التوءمة، قال: سمعت ابن عباس يقول: إن أوّل ما تكلم الناس في عثمان ظاهرًا أنه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين؛ حتى إذا كانت السنة السادسة أتمّها، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي ﷺ؛ وتكلم في ذلك من يريد أن يكثِّرعليه؛ حتى جاءه علي فيمن جاءه، فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد؛ ولقد عهدت نبيّك ﷺ يصلّي ركعتين. ثمّ أبا بكر، ثمّ عمر، وأنت صدرًا من ولايتك، فما أدري ما ترجع إليه! فقال: رأي رأيته. قال الواقدي: وحدثني داود بن خالد، عن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفي، عن عمّه، قال: صلّى عثمان بالناس بمنى أربعًا، فأتى آت عبد الرحمن بن عوف، فقال: هل لك في أخيك؟ قد صلّى بالناس أربعًا! فصلىّ عبد الرحمن بن عوف بأصحابه ركعتين؛ ثم خرج حتى دخل على عثمان، فقال له: ألم تصلّ في هذا المكان مع رسول الله ﷺ ركعتين؟ قال: بلى، قال: أفلم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟ قال: بلى، قال: ألم تصلّ مع عمر ركعتين؟ قال: بلى، قال: ألم تصلّ صدرًا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى، قال: فاسمع منّي يا أبا محمد؛ إني أخبرت أنّ بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إنّ الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين، وقد اتّخذت بمكة أهلًا، فرأيت أن أصلّي أربعًا لخوف ما أخاف على الناس؛ وأخرى قد اتّخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال؛ فربمااطّلعته فأقمت فيه بعد الصَّدر. فقال عبد الرحمن ابن عوف: ما من هذا شيء لك فيه عذر؛ أما قولك: اتخذت أهلًا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وتقدم بها إذا شئت؛ إنما تسكن بسكناك. وأما قولك: ولي مال بالطائف؛ فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت لست من أهل الطائف. وأمّا قولك: يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلّى ركعتين وهومقيم؛ فقد كان رسول الله ﷺ ينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل؛ ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه، فصلّى بهم عمر حتى مات ركعتين، فقال عثمان: مهذا رأي رأيته. قال: فخرج عبد الرحمن فلقى ابن مسعود، فقال: أبا محمّد، غير ما يعلم؟ قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: اعمل أنت بما تعلم؛ فقال ابن مسعود: الخلاف شرّ؛ قد بلغني أنه صلّى أربعًا فصلّيت بأصحابي أربعًا، فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعًا فصليّت بأصحابي أربعًا، فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلّى أربعًا، فصليّت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول - يعني نصلي معه أربعًا. ثم دخلت سنة ثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة فممّا كان فيها غزوة سعيد بن العاص طبرستان في قول أبي معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وفي قول الواقدي وقول علي بن محمد المدائني: حدثني بذلك عمر بن شبّة عنه. وأما سيفبن عمر، فإنه ذكر أن إصبهبذها صالح سويد بن مقرّن على ألّا يغزوها؛ على مال بذله له. قد مضى ذكري الخبر عن ذلك قبل في أيام عمر رضي الله عنه. وأما علي بن محمد المدائني، فإنه قال - فيما حدثني به عنه عمر: لم يغزها أحد حتى قام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فغزاها سعيد بن العاص سنة ثلاثين. ذكر الخبر عنه عن غزو سعيد بن العاص طبرستان حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثني علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن حنش بن مالك، قال: غزا سعيد بن العاص من الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله ﷺ، ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير؛ وخرج عبد الله ابن عامر من البصرة يريد خراسان، فسبق سعيدًا ونزل أبرشهر، وبلغ نزوله أبر شهر سعيدًا. فنزل سعيد قومس؛ وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند؛ فأتى جرجان، فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان جرجان، وهي مدينة على ساحل البحر، وهي في تخوم جرجان، فقاتله أهلها حتى صلّى صلاة الخوف، فقال لحذيفة: كيف صلّى رسول الله ﷺ؟ فأخبره، فصلّى بها سعيد صلاة الخوف، وهم يقتتلون، وضرب يومئذ سعيد رجلًامن المشركين على حبل عاتقه، فخرج السيف من تحت مرففقه؛ وحاصرهم، فسألوا الأمان؛ فأعطاهم على ألّا يقتل منهم رجلًا واحدًا، ففتحوا الحصن، فقتهلم جميعًا إلا رجلًا واحدًا؛ وحوى ما كان في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطًا عليه قفل، فظنّ فيه جوهرًا؛ وبلغ سعيدًا، فبعث إلى النهدي، فأتاه بالسَّفط، فكسروا قفلة؛ فوجدوا فيه سفطًا، ففتحوه، فإذا فيه خرقة سوداء مدرجة فنشروها، فوجدوا خرقة حمراء فنشروها، فإذا خرقة صفراء؛ وفيها أيران: كميت وورد، فقال شاعر يهجو بني نهد: آب الكرام بالسَّبايا غنيمة ** وفاز بنو نهد بأيرين في سفط كميت وورد وافرين كلاهما ** فظنُّوها غنمًا فناهيك من غلط! وفتح سعيد بن العاص نامية، وليست بمدينة، هي صحارى وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن نحمد، قال: أخبرني علي بن مجاهد، عن حنش بن مالك التغلبي، قال: غزا سعيد سنة ثلاثين، فأتى جرجان وطبرستان؛ معه عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر وابن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ فحدثني علج كان يخدمهم قال: كنت أتيتهم بالسُّفرة، فإذا أكلوا أمروني فنفضتها وعلّقتها، فإذا أمسوا أعطوني باقيه. قال: وهلك مع سعيد بن العاص محمد بن الحكم ابن أبي عقيل الثقفي، جدّ يوسف بن عمر، فقال يوسف لقحذم: يا قحذم، أتدري أين مات محمد بن الححكم؟ قال: نعم، استشهد معسعيد بن العاص بطبرستان، قال: لا، مات بها وهو مع سعيد، ثم قفل سعيد إلى الكوفة، فمدحه كعب بن جعيل، فقال: فنعم الفتى إذ جال جيلان دونه ** وإذ هبطوا من دشتي ثمَّ أبهرا تعلم سعيد الخير أنّ مطيّتي ** إذا هبطت أشفقت من أنتعقَّرا كأنَّك يوم الشِّعب ليث خفيَّة ** تحرَّد من ليث العرين وأصحرا تسوس الَّذي ماسماس قبلك واحد ** ثمانين ألفًا دارعين وحسَّرا وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن كليب بن خلف وغيره؛ أنّ سعيد بن العاص صالح أهل جرجان، ثم امتنعوا وكفروا، فلم يأت جرجان بعد سعيد أحد، ومنعوا ذلك الطريق؛ فلم يكن أحد يسلك طريق خراسان من ناحية قومس إلّا على وجل وخوف من أهل جرجان، وكان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة ابن مسلم حين ولي خراسان. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن كليب بن خلف العمِّي، عن طفيل بن مرداس العمي وإدريس بن حنظلة العمي؛ أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان؛ وكانوا يجبون أحيانًا مائة ألف ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانًا مائتي ألف، وأحيانًا ثلاثمائة ألف؛ وكانوا ربما أعطوا ذلك وربما منعوه؛ ثم امتنعوا وكفروا، فلم يعطوا خراجًا حتى أتاهم بزيد بن المهلب، فلم يعازّه أحد حين قدمها؛ فلما صالح صولا وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد بن العاص. وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة، وولاها سعيد بن العاص في قول سيف بن عمر. ذكر السبب في عزل عثمان الوليد عن الكوفة وتوليته سعيدا عليها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما بلغ عثمان الذي كان بين عبد الله وسعد غضب عليهما وهمّ بهما، ثم ترك ذلك وعزل سعدًا، وأخذ ما عليه، وأقرّ عبد الله، وتقدّم إليه، وأمر مكان سعيد الوليد بن عقبة - وكان على عرب الجزيرة عاملًا لعمر بن الخطاب - تقدم الوليد في السنة الثانية من إمارة عثمان؛ وقد كان سعد عمل عليها سنة وبعض أخرى؛ فقدم الكوفة، وكان أحبّ الناس في الناس وأرفقهم بهم؛ فكان كذلك خمس سنين، وليس على داره باب. ثمّ إنّ شبابًا من شباب أهل الكوفة. نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي، وكاثروه، فنذ ربهم، فخرج عليهم بالسيف، فلما رأى كثرتهم استصرخ، فقالوا له: اسكت، فإنما هي ضربة حتى نريحك من روعة هذه الليلة - وأبو شريح الخزاعي مشرف عليهم - فصاح بهم وضربوه فقتلوه، وأحاط مالناس بهم فأخذوهم؛ وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورِّع الأسدي، وشبيل بن أبي الأزدي، في عدّة. فشهد عليهم أبو شريح وابنة أنهم دخلوا عليه، فمنع بعضهم بعضًا من الناس، فقتله بعضهم، فكتب فيهم إلى عثمان، فكتب إليه في قتلهم، فقتلهم على باب القصر في الرحبة، وقال في ذلك عمرو بن عاصم التميمي: لا تأكلوا أبدًا جيرانكم سرفًا ** أهل الزعارة في ملك مابن عفَّان وقال أيضًا: إنَّ ابن عفَّان الذي جرَّبتم ** فطم اللصوص بمحكم الفرقان ما زال يعمل بالكتاب مهيمنًا ** في كلِّ عنق منهم وبنان وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد، عن أبي سعيد، قال: كان أبو شريح الخزاعي من أصحاب رسول الله ﷺ، فتحوّل من المدينة إلى الكوفة ليدنو من الغزو؛ فبينا هو ليلة على السطح، إذ استغاث جاره، فأشرف فإذا هو بشباب من أهل لكوفة قد بيّتوا جاره؛ وجعلوا يقولون له: لا تصح، فإنما هي ضربة حتى نريحك؛ فقتلوه. فارتحل إلى عثمان، ورجع إلى المدينة ونقل أهله، ولهذا الحديث حين كثر أحدثت القامة؛ وأخذ بقول ولي المقتول: ليفطم الناس عن القتل عن ملإ من الناس يومئذ. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عثمان: القامة على المدَّعي عيه وعلى أوليائه؛ يحلف منهم خمسون رجلًا إذا لم تكن بينّة؛ فإن نقصت قسامتهم، أو إ نكل رجل واحد ردّت قسامتهم ووليها المدّعون؛ وأحلفوا، فإن حلف منهم خمسون استحقُّوا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن عون بن عبد الله، قال: كان مما أحدث عثمان بالكوفة إلى ما كان من الخبر أنه بلغه أنّ أبا سمّال الأسدي في نفر من أهل الكوفة، ينادي مناد لهم إذا قدم الميار: من كان هاهنا من كلب أو بني فلان ليس لقومهم بها منزل فمنزله على أبي سمّال. فاتّخذ موضع دار عقيل دار الضيفان ودار ابن هبّار؛ وكان منزل عبد الله بن مسعود في هذيل في هذيل في موضع الرمادة، فنزل موضع داره، وترك داره دار الضيافة، وكان الأضيفاف ينزلون داره في هذيل إذا ضاق عليهم ما حول المسجد. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عنالمغير بن مقسم، عمّن أدرك من علماء أهل الكوفة، أنّ أبا سمّال كان ينادي مناديه في السوق والكناسة: من كان ها هنا من بني فلان وفلان - لمن ليست له بها خطّة - فمنزله على أبي سمّال؛ فاتّخذ عثمان للأضياف منازل. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مولى لآل طلحة، عن موسى بن طلحة مثله. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان عمر بن الخطاب قد استعمل الوليد بن عقبة على عرب الجزية، فنزل في بني تغلب. وكان أبو زبيد في الجاهليّة والإسلام في بني تغلب حتى أسلم؛ وكانت بنو تغلب أخواله؛ فاضطهده أخواله ديّنًا له؛ فأخذ له الوليد بحقّه، فشكرها له أبو زبيد، وانقطع إليه، وغشيه بالمدينة؛ فلما ولي الوليد الكوفة أتاه مسلّمًا معظّمًا على مثل ما كان يأتيه بالجزية والمدينة، فنزل دار الضيفان، وآخر قدمة قدمها أبو زبيد على الوليد؛ وقد كان ينتدجعه ويرجع، وكان نصرانيًّا قبل ذلك، فلم يزل الوليد به وعنه حتى أسلم في آخر إمارة الوليد، وحسن إسلامه، فاستدخله الوليد، وكان عربيًّا شاعرًا حين قام على الإسلام؛ فأتى آتٍ أبا زينب وأبا مورِّع وجندبًا، وهم يحقدون له مذ قتل أبناءهم، ويضعون له العيون، فقال لهم: هل لكم في الوليد يشارب أبا زبيد؟ فثاروا في ذلك، فقال أبو زينب وأبو مورّع وجندب لأناس من وجوه أهل الكوفة: هذا أميركم وأبو زبيد خيرته، وهما عاكفان على الخمر، فقالموا معهم - ومننزل الوليد في الرحبة مع عمارة بن عقبة، وليس عليه باب - فاقتحموا عليه من المسجد وبابه إلى المسجد، فلم يفجأ الوليد إلّا بهم، فنحّى شيئًا، فأدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه لا يؤامره؛ فإذا طبق عليه تفاريق عنب - وإنما نحّاه استحياء أن يروا طبقه ليس عليه إلّا تفاريق عنب - فقاموا فخرجوا على الناس، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وسمع الناس بذلك، فأقبل الناس عليهم يسبّونهم ويلعنونهم؛ ويقولون: أقوام غضب الله لعمله، وبعضهم أرغمه الكتاب؛ فدعاهم ذلك إلى التحسُّس والبحث؛ فستر عليهم الوليد ذلك، وطواه عن عثمان، ولم يدخل بين الناس في ذلك بشيء، وكره أن يفسد بينهم، فسكت عن ذلك وصبر. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الفيض بن محمد قال: رأيت الشعبي جلس إلى محمد بن عمرو بن الوليد - يعني ابن عقبة - وهو خليفة محمد بن عبد الملك؛ فذكر محمّد غزو مسلمة، فقال: كيف لو أدركتم الوليد؛ غزوه وإمارته! إن كان ليغزو فينتهى إلى كذا وكذا، ما قصّر ولا انتقض عليه أحدٌ حتى عزل عن عمله؛ وعلى الباب يومئذ عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي؛ وإن كان مما زاد عثمان بن عفان الناس على يده أن ردّ على كلّ مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة في كلّ شهر، يتّسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم عن الغصن بن القاسم، عن عون بن عبد الله، قال: جاء جندب ورهط معه إلى ابن مسعود، فقالوا: الوليد يعتكف على الخمر؛ وأذاعوا ذلك حتى طرح على ألسن الناس، فقال ابن مسعود: من استتر عنّا بشيء لم نتتبع عورته، ولم نهتك ستره؛ فأرسل إلى ابن مسعود فأتاه فعاتبه في ذلك، وقال: أيرضى من مثلك بأن يجيب قومًا موتورين بما أجبت علي! أي شيء أستتر به! إنما يقال هذا للمريب، فتلاحيا وافترقا على تغاضب، لم يكن بينهما أكثر من ذلك. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وأتى الوليد بساحر؛ فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حدّه، فقال: وما يدريك أنه ساحر! قال: زعم هؤلاء النفر - لنفر جاءوا به - أنه ساحر، قال: وما يدريكم أنه ساحر! قالوا: يزعم ذاك، قال: أساحر أنت؟ قال: نعم، قال: وتدري ما السحر؟ قال: نعم، وثار إلى حمار، فجعل يركبه من قبل ذنبه، ويريهم أنه يخرج من فمه واسته. فقال ابن مسعود: فاقتله. فانطلق الوليد، فنادوا في المسجد أنّ رجلًا يلعب بالسحر عند الوليد، فأقبلوا، وأقبل جندب - واغتنمها - يقول: أين هو؟ أين هو؟ حتى أريه! فضربه، فاجتمع عبد الله والوليد على حبسه؛ حتى كتب إلى عثمان، فأجابهم عثمان أناستحلفوه بالله والوليد على حبسه؛ حتى كتب إلى عثمان، فأجابهم عثمان أن استحلفوه بالله ما علم برأيكم فيه. وإنه لصادق بقوله فيما ظنّ من تعطيل حدّه. وعزّروه، وخلَّوا سبيله. وتقدم إلى الناس في ألّا يعملوا بالظّنون، وألّا يقيموا الحدود دون السلطان، فإنا نقيد المخطىء، ونؤدّب المصيب. ففعل ذلك به، وترك لأنه أصاب حدًّا، وغضب لجندب أصحابه، فخرجوا إلى المدينة، مفيهم أبو خشَّة الغفاري وجشّامة بن الصعب بن جشّامة ومعهم جندب، فاستعفوه من الوليد، فقال لهم عثمان: تعلمون بالظنون، وتخطئون في الإسلام، وتخرجون بغير إذن؛ ارجعوا. فردّهم، فلما رجعوا إلى الكوفة، لم يبق موتور في نفسه إلّا أتاهم، فاجتمعوا على رأي فأصدره، ثم تغفّلوا الوليد - وكان ليس عليه حجاب - فدخل عليه أبو زينب الأزدي وأبو مورِّع الأسدي، فسلَّا خاتمه، ثم خرجا إلى عثمان، فشهدا عليه؛ ومعهما نفر ممن يعرف من أعوانهم، فبعث إليه عثمان، فلما قدم أمر به سعيد ابن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين، أنشدك الله! فو الله إنهما لخصمان موتوران. فقال: لا يضرّك ذلك؛ إنما نعمل بما ينتهى إلينا، فمن ظلم فالله ولي انتقامه، ومن ظلم فالله ولي جزائه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي غسّان سكن ابن عبد الرحمن بن حبيش، قال: اجتمع نفر من أهل الكوفة، فعلموا في عزل الوليد، فانتدب أبو زينب بن عوف وأبو مورّع بن فلان الأسدي للشهادة عليه، نغشوا الوليد، وأكبُّوا عليه؛ فبينا هم معه يومًا في البيت وله امرأتان في المخدع؛ بينهما وبين القوم ستر؛ إحداهما بنت ذي الخمار والأخرى بنت أبي عقيل، فنام الوليد، وتفرّق القوم عنه؛ وثبت مأبو زينب وأبو مورّع، فتناول أحدهما خاتمة، ثم خرجا، فاستيقظ الوليد وامرأتاه عند رأسه؛ فلم ير خاتمه، فسألهما عنه فلم يجدعندهما منه علمًا، قال: فأي القوم تخلّف عنهم؟ قالتا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك إلا منذ قريب. قال: حليّاهما، فقالتا: معلى أحدهما خميصة، وعلى الآخر مطرف، وصاحب المطرف أبعدهما منك، فقال: الطُّوال؟ قالتا: نعم؛ وصاحب الخميصة أقربهما إليك، فقال: القصير؟ قالتا: نعم؛ وقد رأينا يده على يدك. قال: ذاك أبو زينب، والآخر أبو مورّع؛ وقد أرادا داهية، فليت شعري ماذا يريدان! فطلهما فلم يقدر عليهما؛ وكان وجههما إلى المدينة، فقدما على عثمان؛ ومعهما نفر ممن يعرف عثمان، ممن قد عزل الوليد عن الأعمال، فقالوا له، فقال: من يشهد؟ قالوا: أبو زينب وأبو موِّع، وكاع اللآخران، فقال: كيف رأيتما؟ قالا: كنّا من غاشيته؛ فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر، فقالك مايقيء الخمر إلّا شاربها. فبعث إليه، فلما دخل على عثمان رآهما، فقال متمثّلًا: ما إن خشيت على أمر خلوت به ** فلم أخفك على أمثالها حار فحلف له الوليد وأخبره خبرهم، فقال: نقيم الحدود ويبوء شاهد الزور بالنّار؛ فاصبر يا أخيَّ! فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين ولديهما حتى اليوم؛ وكانت على الوليد خميصة يوم أمر به أن يجلد، فنزعها عنه علي بن أبي طالب عليه السلام. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبيد الطنافمي، عن أبي عبيدة الإيادي، قال: خرج أبو زينب وأبو مورِّع حتى دخلا على الوليد بيته، وعنده امرأتان: بنت ذي الخمار وبنت أبي عقيل؛ وهو نائم، قالت إحداهما: فأكبّ عليه أحدهما فأخذ خاتمه، فسألهما حين استيقظ، فقالتا: ماأخذناه، قال: من بقي آخر القوم؟ قالتا: رجلان؛ مرجل قصير عليه خميصة، ورجل طويل عليه مطرف، ورأينا صاحب الخميصة أكبّ عليك، قال: ذاك أبو زينب. فخرج يطلبهما، فإذا هو وجههما عن ملإ من أصحاب لهما؛ ولا يدري الوليد ما أرادا من ذلك. فقدما على عثمان، فأخبراه الخبر على رءوس الناس، فأرسل إلى الوليد، فقدم، فإذا هو بهما. ودعا بهما عثمان، فقال: بم تشهدان؟ أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب الخمر؟ فقالا: لا، وخافا، قال: فكيف؟ قالا: اعتصرناها من لحيته وهو يقيء الخمر، فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين أهليهما. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن أبي العريف ويزيد الفقعسي، قالا: كان الناس في الوليد فرقتين: العامّة معه والخاصّة عليه؛ فما زال عليهم من ذلك خشوع حتى كانت صفِّين، فولى معاوية، فجعلوا يقولون: عيَّيب عثمان بالباطل، فقال لهم علي عليه السلام: إنكم وما تعيِّرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله عن عمله وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟! وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن كريب، عن نافع بن جبير، قال: قال عثمان رضي الله عنه: إذا جلد الرجل الحدّ ثم ظهرت توبته جازت شهادته. وكتب إليَّ مالسري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي كبران، عن مولاة لهم - وأثنى عليها خيرًا - قالت: كان الوليد أدخل على الناس خيرًا، حتى جعل يقسِّم للولائد والعبيد، ولقد تفجّع عليه الأحرار والمماليك، كان يسمع الولائد وعليهنّ الحداد يقلن: يا ويلتا قد عزل الوليد ** وجاءنا مجوِّعًاسعيد ينقص في الصاع ولا يزيد ** يجوِّع الإماء والعبيد وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الغصن بن القاسم، قال: كان الناس يقولون حين عزل الوليد وأمِّر سعيد: لا يبعد الملك إذ ولَّت شمائله ** ولا الرياسة لما راس كتَّاب وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادهما، قالا: قدم سعيد بن العاص في سنة سبع من إمارة عثمان، وكان سعيد بن العاص بقيّة العاص بن أميّة، وكان أهله كثيرًا تتابعوا، فلما فتح الله الشأم قدمها، فأقام مع معاوية، وكان يتيمًا نشأ في حجر عثمان، فتذكّر عمر قريشًا، وسأل عنه فيما يتفقّد من أمور الناس، فقيل: يا أمير المؤمنين، هو بدمشق، عهد العاهد به وهو مأموم بالموت. فأرسل إلى معاوية: أن ابعث إلي سعيد بن العاص قال: يمنقل، فبعث به إليه وهو دنف، فما بلغ المدينة حتى أفاق، فقال: يا بن أخي؛ قد بلغني عنك بلاء وصلاح، فازدد يزدك الله خيرًا. وقال: هل لك من زوجة؟ قال: لا؛ قال: يا أبا عمرو، ما منعك من هذا الغلام أن تكون زوّدته؟ قال: قد عرضت عليه فأبى، فخرج يسير في البرّ، فانتهى إلى ماء، فلقى عليه أربع نسوة، فقمن له، فقال: مالكنّ؟ ومن أنتن؟ فقلن: بنات سفيان بن عويف - ومعهنّ أمهنّ - فقالت: أمّهنّ: هلك رجالنا، وإذا هلك الرجال ضاع النساء، فضعهنّ في أكافئهنّ، فزوّج سعيدًا إحداهنّ وعبد الرحمن بن عوف الأخرى والوليد بن عقبة الثالثة؛ وأتاه بنات مسعود بن نعيم النَّهشلي، فقلن: قد هلك رجالنا، وبقي الصبيان، فضعنا في أكفائنا، فزوج سعيدًا إحداهنّ، وجبير بن مطعم إحداهن، فشارك سعيد هؤلاء وهؤلاء، وقد كان عمومته ذوي بلاء في الإسلام، وسابقة حسنة، وقدمة مع رسول الله ﷺ؛ فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال الناس. فقدم سعيد الكوفة في خلافة عثمان أميرًا، وخرج معه من مكة - أو المدينة - الأشتر وأبو خشّة الغفاري وجندب بن عبد الله وأبو مصعب بن جثّامة - وكانوا فيمن شخص معالوليد يعيبونه، فرجعوا مع هذا - فصعد سعيد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره؛ ولكنّي لم أجد بدًّا إذ أمرت أن أتّمر ألا إنّ الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها؛ ووالله لأضربنّ وجهها حتى أقمعها أو تعييني؛ وإني لرائد نفسي اليوم. ونزل. وسأل عن أهل الكوفة، فأقيم على حال أهلها. فكتب إلى عثمان بالذي انتهى إليه: إنّ أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة والقدمة؛ والغالب على تلك البلاد روادف ردفت، وأعراب لحقت؛ حتى ما ينظر إلى ذي شرف ولا بلاء من نازلتها ولا نابتتها. فكتب إلى عثمان: أمّا بعد؛ ففضَّل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعًا لهم؛ إلّا أن يكونوا تثاقلوا عن الحقّ، وتركوا القيام به وقام به هؤلاء. واحفظ لكِّ منزلته، وأعطهم جميعًا بقسطهم من الحقّ، فإنّ المعرفة بالناس بها يصاب العدل. فأرسل سعيد إلى وجوه الناس من أهل الأيّام والقادسيّة، فقا: انتم وجوه من وراءكم، والوجه ينبيء عن الجسد؛ فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلّة ذي الخلّة. وأدخل معهم من يحتمل من ماللواحق والرّوادف؛ وخلص بالقرّاء والمتسمِّتين في سمره، فكأنما كانت الكوفة يبسًا شملته نار؛ فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم، وفشت القالة والإذاعة. فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فنادى منادي عثمان: الصلاة جامعة! فاجتمعوا، فأخبرهم بالذي كتب به إلى سعيد، وبالذي كتب به إليه فيهم؛ وبالذي جاءه من القالة والإذاعة، فقالوا: أصبت فلا تسعفهم في ذلك؛ ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس لها بأهل لم يحتملها وأفسدها. فقال عثمان: يا أهل المدينة استعدّوا واستمسكوا، فقد دبّت إليكم الفتن. ونزل. فأوى إلى منزله، وتمثّل مثله ومثل هذا الضرب الذين شرعوا في الخلاف: أبني عبيد قد أتى أشياعكم ** عنكم مقاتلكم وشعر الشاعر فإذا أتتكم هذه فتلبَّسوا ** إنَّ الرِّماح بصيرة بالحاسر كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، قال: كان عثمان أروى الناس للبيت والبيتين والثلاثة إلى الخمسة. كتب إليَّ السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن عبد الله الجمحي، عن عبيد الله بن عمر، قال: سمعته وهو يقول لأبي: إنّ عثمان جمع أهل المدينة، فقال: يا أهل المدينة؛ إنّ الناس يتمخّضون بالفتنة، وإني والله لأتخلّصنّ لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم ذلك؛ فهل ترونه حتى يأتي من شهد مع أهل العراق الفتوح فيه، فيقيم معه في بلاده؟ فقام أولئك، وقالوا: كيف تنقل لنا ما أفاء الله علينا من الأرضين يا أمير المؤمنين؟ فقال: نبيعها ممّن شاء بما كان له بالحجاز. ففرحوا وفتح الله عليهم به أمرًا لم يكن في حسابهم؛ فافترقوا وقد فرّجه الله عنهم به. وكان طلحة ابنعبيد الله قد استجمع له عامّة سهمان خيبر إلى ما كان له سوى ذلك، فاشترى طلحة منه من نصيب من شهد القادسيّة والمدائن من أهل المدينة ممن أقام ولم يهاجر إلى العراق النَّشاستج بما كان لهبخيبر وغيرها من تلك الأموال، واشترى منه ببئر أريس شيئًا كان لعثمان بالعراق، واشترى منه مروان بن الحكم بمال كان له أعطاه إيّاه عثمان نهر مروان - وهو يومئذ أجمة - واشترى منه رجال من القبائل بالعراق بأموال كانت لهم في جزيرة العرب من أهل المدينة ومكّة والطائف واليمن وحضرموت؛ فكان ممّا اشترى منه الأشعث بمال كان له في حضرموت ما كان له بطيز ناباذ. وكتب عثمان إلى أهل الآفاق في ذل وبعدّة جربان الفيء، والفيء الذي يتداعاه أهل الأمصار، فهو ما كان للملوك نحو كسرى وقيصر ومن تابعهم من أهل بلادهم. فأجلى عنه، فأتاهم شيء عرفوه. وأخذ بقدر عدّة من شهدها من أهل المدينة، وبقدر نصيبهم، وضمّ ذلك إليهم، فباعوه بما يليهم من الأموال بالحجاز ومكّة واليمن وحضرموت، يرد على أهلها الذين شهدوا الفتوح من بين أهل المدينة. وكتب إلي السَّري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة مثل ذلك، إلّا أنهما قالا: اشترى هذا الضَّرب رجال من كلّ قبيلة ممن كان له هنالك شيء؛ فأراد مأن يستبدل به فيما يليه، فأخذوا، وجاز لهم عن تراض منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق؛ إلّا أنّ الذين لا سابقة لهم ولا قدمة لا يبلغون مبلغ أهل السابقة والقدمة في المجالس والرياسة والحظوة، ثم كانوا يعيبون التفضيل، ويجعلونه جفوة، وهم في ذلك يختفون به ولا يكادون يظهرونه، لأنه لا حجّة لهم والناس عليهم، فكان إذا لحق بهم لاحق من ناشيء أو أعرابي أو محرَّر استحلى كلامهم؛ فكانوا في زيادة، وكان الناس في نقصان حتى غلّب الشرّ. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مددًا لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان - وكذلك كانوا يصنعون، يجعلون للناس ردءًا - فأقام حتى قفل حذيفة ثم رجعا. وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - سقط خاتم رسول الله ﷺ من يد عثمان في بئر أريس وهي على ميلين من المدينة، وكانت من أقلّ الآبار ماء، فما أدرك حتى الساعة قعرها. ذكر الخبر عن سبب سقوط الخاتم من يد عثمان في بئر أريس حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخزّاز. قال: وكان شريك يونس بن عبيد قال: حدثنا داود ابن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنّ رسول الله ﷺ أراد أن يكتب إلى الأعاجم كتبًا يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فقال له رجل: يا رسول الله؛ إنهم لا يقبلون كتابًا إلا مختومًا، فأمر رسول الله ﷺ أن يعمل له خاتم من حديد، فجعله في إصبعه، فأتاه جبريل، فقال له؛ انبذه من إصبعك، فنبذه رسول الله ﷺ من إصبعه، وأمر بخاتم أخر يعمل له، فعمل له خاتم من نحاس، فجعله في إصبعه، فقال له جبريل عليه السلام: انبذه من إصبعك، فنبذه رسول الله ﷺ من إصبعه، وأمر رسول الله ﷺ بخاتم من ورق، فصنع له خاتم من ورق فجعله في إصبعه، فأقرّه جبريل، وأمر أن ينقش عليه: محمد رسول الله، فجعل يتختّم به، ويكتب إلى من أراد أن يكتب إليه من الأعاجم، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر. فكتب كتابًا إلى كسرى بن هرمز فبعثه مع عمر بن الخطاب، فأتى به عمر كسرى فقرىء الكتاب، فلم يلتفت إلى كتابه، فقال عمر: يا رسول الله، جعلني الله فداءك! أنت على سري مرمول باللّيف، وكسى بن هرمز على سرير من ذهب، وعليه الديباج! فقال رسول الله ﷺ: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة!. فقال: جعلني الله فداءك! قد رضيت. وكتب كتابًا آخر، فبعث به مع دحية بن خليفة الكلبي إلى هرق ملك الروم يدعوه إلى الإسلام، فقرأه وضمّه إليه، ووضعه عنده؛ فكان الخاتم في إصبع رسول الله ﷺ يتختّم به حتى قبضه الله عز وجل، ثم استخلف أبو بكر فتختّم به حتى قبضه الله عز وجل، ثم ولى عمر بن الخطاب بعد فجعل يتختّم به حتى قبضه ه، ثم ولى من بعده عثمان ابن عفان، فتختّم به ستّ سنين، فحفر بئرًا بالمدينة شربًا للمسلمين، فقعد على رأس البئر، فجعل يعبث بالخاتم، ويديره بإصبعه، فانسلّ الخاتم من إصبعه فوقع في البئر، فطلبوه في البئر، ونزحوا ما فيها من الماء، فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالًا عظيمًا لمن جاء به، واغتم لذلك غمًا شديدًا، فلما يئس من الخاتم أمر فصنع له خاتم أخر مثله، خلقه من فضّة، على مثاله وشبهه، ونقش عليه: محمد رسول الله؛ فجعله في إصبعه حتى هلك؛ فلما قتل ذهب الخاتم من يده فلم يدر من أخذه. أخبار أبي ذر رحمه الله تعالى وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - كان ما ذكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية، وإشخاص معاوية إيّاه من الشأم إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إيّاه منها إليها أمور كثيرة، كرهت ذكر أكثرها. فأما العاذرون معاوية في ذلك، فإنهم ذكروا في ذلك قصّة كتب إلي بها السري، يذكر أن شعيبًا حدثه عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعسي، قال: لما ورد ابن السوداء الشأم لقي أبا ذرّ، فقال: يا أبا ذر، ألا تعجب إلى معاوية، يقول: المال مال الله! ألا إنّ كلّ شيء لله كأنه يريد أنيحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذرّ، فقال: ما يدعوك إلى أن تسمّي مال المسلمين مال الله! قال: يرحمك الله يا أبا ذرّ؛ ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره! قال: فلا تقله، قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين. قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرّداء، فقال له: من أنت؟ أظنّك والله يهوديًّا! فأتى عبادة بن الصامت فتعلّق به، فأتى به معاوية، فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذرّ؛ وقام أبو ذرّ بالشأم وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء. بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم. فمازال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس. فكتب معاوية إلى عثمان: إنّ أبا ذرّ قد أعضل بي، وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها، فلم يبق إلا أن تثب. فلا تنكأ الفرح، وجهّز أبا ذر إلي، وابعث معه دليلًا وزوّده، وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت؛ فإنما تمسك ما استمسكت. فبعث بأبي ذرّ ومعه دليل؛ فلمّا قدم المدينة ورأى المجالس في أصل سلع، قال: بشّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال: يا أبا ذرّ، ما لأهل الشام يشكون ذربك! فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالًا. فقال: يا أبا ذرّ؛ علي أن أقضي ما علي، وآخذ ما على الرعيّة، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد. قال: فتأذن لي في الخروج، فإنّ المدينة ليست لي بدار؟ فقال: أو تستبدل بها إلا شرًّا منها! قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعًا؛ قال: فانفذ لما أمرك به. قال: فخرج حتى نزل الربذة، فخطّ بها مسجدًا، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين، وأرسل إليه: أن تعاهد المدينة حتى لا ترتدّ أعرابيًا؛ ففعل. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أبو ذرّ يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابيّة، وكان يحبّ الوحدة والخلوة. فدخل على عثمان، وعنده كعب الأحبار، فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكفّ الأذى حتى يبذلوا المعروف؛ وقد ينبغي للمؤدي الزكاة ألّا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان، ويصل القرابات. فقال كعب: من أدّى الفريضة فقد قضى ما عليه. فرفع أبو ذرّ محجنه فضربه فشجّه، فاستوهبه عثمان، فوهبه له، وقال: يا أبا ذرّ، اتق الله واكفف يدك ولسانك، وقد كان قال له: يا بن اليهوديّة؛ ما أنت وما ها هنا! والله لتسمعنّ مني أو لأدخل عليك. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الأشعث بن سوّار، عن محمد بن سيرين، قال: خرج أبو ذرّ إلى الربذة من قِبَل نفسه لما رأى عثمان لا ينزع له، وأخرج معاوية أهله من بعده، فخرجوا إليه ومعهم جراب يثقل يد الرجل، فقال: انظروا إلى هذا الذي يزهّد في الدنيا ما عنده! فقالت امرأته: أما والله ما فيه دينار ولا درهم، ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوسًا لحوائجنا. ولما نزل أبو ذرّ الربذة أقيمت الصلاة، وعليها رجل يلي الصدقة، فقال: تقدّم يا أبا ذرّ، فقال: لا، تقدّم أنت، فإنّ رسول الله ﷺ قال لي: " اسمع وأطع، وإن كان عليك عبد مجدّع ". فأنت عبد ولست بأجدع - وكان من رقيق الصدقة؛ وكان أسود يقال له مجاشع. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن جابر، قال: أجرى عثمان على أبي ذرّ كلّ يوم عظمًا، وعلى رافع ابن خديج مثله، وكانا قد تنحيّا عن المدينة لشيء سمعاه لم يفسّر لهما، وأبصرا وقد أخطئا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب، عن سلمة بن نباتة، قال: خرجنا معتمرين، فأتينا الربذة، فطلبنا أبا ذرّ في منزله، فلم نجده، وقالوا: ذهب إلى الماء. فتنحبّينا، ونزلنا قريبًا من منزله، فمرّ ومعه عظم جزور يحمله معه غلام، فسلّم ثم مضى حتى أتى منزله، فلم يمكث إلّا قليلا حتى جاء، فجلس إلينا وقال: إنّ رسول الله ﷺ قال لي: " اسمع وأطع وإن كان عليك حبشي مجدّع "، فنزلت هذا الماء وعليه رقيق من رقيق مال الله، وعليهم حبشي - وليس بأجدع، وهو ما علمت، وأثنى عليه - ولهم في كلّ يوم جزور؛ ولي منها عظم آكله أنا وعيالي. قلت: مالك من المال؟ قال: صرمة من الغنم وقطيع من الإبل، في أحدهما غلامي وفي الآخر أمتي، وغلامي حرّ إلى رأس السنة. قال: قلت: إنّ أصحابك قبلنا أكثر الناس مالًا، قال: أما إنهم ليس لهم في مال الله حق إلّا ولي مثله. وأمّا الآخرون، فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة، وأمورًا شنيعة، كرهت ذكرها. ذكر هرب يزدجرد إلى خراسان وفي هذه السنة، هرب يزدجرد بن شهريار في قول بعضهم من فارس إلى خراسان. ذكر من قال ذلك وما قال فيه ذكر علي بن محمد أنّ مسلمة أخبره عن داود، قال: قدم ابن عامر البصرة، ثمّ خرج إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من جوز - وهي أردشير خرّه - في سنة ثلاثين. فوجّه ابن عامر في أثره مجاشع بن مسعود السلمي، فأتبعه إلى كرمان، فنزل مجاشع السيرجان بالعسكر، وهرب يزدجرد إلى خراسان. قال: وعبد القيس تقول: وجّه ابن عامر هرم ابن حيّان العبدي، وبكر بن وائل تقول: وجّه ابن حسان اليشكري. قال: وأصحّه عندنا مجاشع. قال علي: وأخبرنا سلمة بن عثمان - وكان فاضلًا - عن مجاشع يزدجرد فخرج من السيرجان، فلما كان عند القصر في بيمند - وهو الذي يقال له قصر مجاشع - أصابهم الثلج والدّمق، فوقع الثلج، واشتدّ البرد، وصار الثلج قامة رمح، فهلك الجند، وسلم مجداشع ورجل كانت معه جارية، فشقّ بطن بعير، فأدخلها فيه وهرب؛ فلما كان من الغد، جاء فوجدها حيّة فحملها، فسمّي ذلك القصر قصر مجاشع؛ لأن جيشه هلكوا فيه؛ وهو على خمسة فراسخ أو ستّة من السيرجان. قال علي: أخبرنا أبو المقدام، عن بعض مشيخته، قال: خرج مجاشع على وفد أهل البصرة من تستر - وفيهم الأحنف - وأخذ في غداة واحدة على لجام واحد خمسين ألفًا، سبق على الصفراء ابنة الغبراء، فأخذها منه عمر حين قاسم عمّاله الأموال. قال علي: فقلت للنضر بن إسحاق: إنّ أبا المقدام ذكر هذا الحديث! فقال: صدق، سمعته من عدّة من الحي وغيرهم، وفرسه الصفراء ابنة الغرّاء ابنة الغبراء. وهو مجاشع بن مسعود بن ثعلبة بن عائذ بن وهب بن ربيعة بن يربوع بن سمّال بن عوف بن امرىء القيس بن بهثة بن سلم. ويكنى أبا سليمان. قال: وفي هذه السنة زاد عثمان النداء الثالث على الزوراء، وصلّى بمنىً أربعًا. وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان رضي الله عنه. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث المشهورة فممّا كان فيها من ذلك غزوة المسلمين الروم التي يقال لها: غزوة الصواري في قول الواقدي. فأمّا أبو معشر فإنه قال فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه: كانت غزوة الصواري سنة أربع وثلاثين؛ وقال: كانت في سنة إحدى وثلاثين الأساودة في البحر ووقاع كسرى. وقال الواقدي: غزوة الصواري والأساودة كلتاهما كانتا في سنة إحدى وثلاثين. ذكر الخبر عن هاتين الغزوتين ذكر الواقدي أن محمد بن صالح حدثه، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أنّ أهل الشأم خرجوا؛ عليهم معاوية بن أبي سفيان، وكانت الشأم قد جمع جمعها لمعاوية بن أبي سفيان. ذكر السبب في جمعها له كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن عبد الملك والربيع وأبي مجالد وأبي عثمان وأبي حارثة، قالوا: لما حضر أبو عبيدة استخلف على عمله عياض بن غنم - وهو خاله وابن عمّه - وقد كان ولي بالجزيرة عملًا، فعزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلحق بأبي عبيدة بالشأم؛ وكان معه؛ وكان جوادًا مشهورًا بالجود، لا يليق شيئًا، ولا يمنع أحدًا. فكلّم عمر في ذلك، فقيل له: عزلت خالدًا وعتبت عليه العطاء، وعياض أجود العرب وأعطاهم؛ لا يمننع شيئًا يسأله؛ فقال عمر: متى سيمه عياض في ماله حتى يخلص إلى ما لنا! وإني مع ذلك لم أكن مغيّرًا أمرًا قضاه أبو عبيدة. ومات عياض بن غنم بعد أبي عبيدة، فأمر عمر على عمله سعيد بن حذيم الجمحي، ومات سعيد بعد؛ فأمّر عمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري؛ ومات عمر ومعاوية على دمشق والأردنّ، وعمير بن سعد على حمص وقنّسرين؛ وإنما مصّر قنّسرين معاوية بن أبي سفيان لمن لحق به من أهل العراقين ومات يزيد بن أبي سفيان، فجعل عمر مكانه معاوية ونعاه لأبي سفيان، فقال: من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاوية، فقال: وصلتك رحم؛ فاجتمعت لمعاوية الأردنّ ودمشق؛ ومات عمر ومعاوية على دمشق والأردنّ وعمير بن سعد على حمص وقنّسرين، وعلقمة ابن مجزّزّ على فلسطين وعمرو بن العاص على مصر. وكتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن مبشّر، عن سالم، قال: كان أوّل عامل استعمله عثمان بن عفان سعد بن أبي وقّاص عن وصيّة عمر. ثمّ إنّ عمير بن سعد طعن فأضنى منها، فاستعفى عثمان واستأذنه في الرجوع إلى أهله؛ فأذن له؛ وضمّ حمص وقنّسرين إلى معاوية. وكتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، عن خالد بن معدان؛ قال: لمّا ولي عثمان أقرّ عمال عمر على الشام؛ فلما مات عبد الرحمن بن علقمة الكناني - وكان على فلسطين - ضمّ عمله إلى معاوية، ومرض عمير بن سعد في إمارة عثمان مرضًا طال به، فاستعفاه واستأذنه فأذن له، وضمّ عمله إلى معاوية؛ فاجتمع الشأم على معاوية لسنتين من إمارة عثمان. وكان عمرو بن العاص على مصر زمان عمر، مجتمعة له، فأقرّه عثمان صدرًا من إمارته. رجع الحديث إلى حديث الواقدي عن خبر الغزوتين اللتين ذكرتهما: إنّ أهل الشام خرجوا، عليهم معاوية بن أبي سفيان؛ وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقال: وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية، فخرجوا في جمع لم يجتمع للرّوم مثله قطّ منذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب؛ فالتقوا هم وعبد الله بن سعد، فأمن بعضهم بعضًا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك بينصواريها. قال ابن عمر: حدثني عيسى بن علقمة، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: كنت معهم، فالنقيا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قطّ؛ وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبًا منا؛ وسكنت الريح عنّا، فقلنا: الأمن بيننا وبينكم قالوا: ذلك لكم ولنا منكم، ثم قلنا: إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم؛ وإن شئتم فالبحر. قال: فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: الماء؛ فدنونا منهم، فربطنا السفن بعضها إلى عبض حتى كنّا يضرب بعضنا بعضًا على سفننا وسفنهم؛ فقاتلنا أشدّ القتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف على السفن، ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركامًا. قال ابن عمر: فحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عمّن حضر ذلك اليوم، قال: رأيت الساحل حيث تضرب الريح الموج، وإنّ عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال؛ وإنّ الدم لغالب على الماء، ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير، وقتل من الكفار ما لا يحصى، وصبروا يومئذ صبرًا لم يصبروا في موطن قطّ مثله. ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام، وانهزم القسطنطين مدبرًا، فما انكشف إلّا لما أصابه من القتل والجراح؛ ولقد أصابه يومئذ جراحات مكث منها حينًا جريحًا. قال ابن عمر: حدثني سالم مولى أمّ محمد، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبد الله الصنعاني، قال: كان أوّل ما سمع من محمد بن أبي حذيفة حين ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين، لمّا صلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالناس العصر، كبر محمد بن أبي حذيفة تكبيرًا ورفع صوته حتى فرغ الإمام عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ فلما انصرف سأل: ما هذا؟ فقيل له: هذا محمد بن أبي حذيفة يكبّر، فدعاه عبد الله بن سعد، فقال له: ما هذه البدعة والحدث؟ فقال له: ما هذه بدعة ولا حدث؛ وما بالتّكبير بأس، قال: لا تعودنّ. قال: فأسكت محمد بن أبي حذيفة، فلمّا صلّى المغرب عبد الله بن سعد كبّر محمد بن أبي حذيفة تكبيرًا أرفع من الأوّل، فأرسل إليه: إنّك غلام أحمق؛ أما والله لولا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لقاربت بين خطوك. فقال محمد بن أبي حذيفة: والله مالك إلى ذلك سبيل؛ ولو هممت به ما قدرت عليه. قال: فكفّ خير لك؛ والله لا تركب معنا، قال: فأركب مع المسلمين؟ قال: اركب حيث شئت. قال: فركب في مركب وحده ما معه إلى القبط؛ حتى بلغوا ذات الصواري؛ فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة فيها القسطنطين بن هرقل، فقال: أشيروا علي، قالوا: ننظر الليلة، فباتوا يضربون بالنّواقيس، وبات المسلمون يصلّون ويدعون الله. ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين أن يقاتل، فقرّبوا سفنهم، وقرّب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض، وصفّ عبد الله بن سعد المسلمين على نواحي السفن، وجعل يأمرهم بقراءة القرآن، ويأمرهم بالصبر، ووثبت الروم في سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها؛ فكانوا يقاتلون على غير صفوف. قال: فاقتتلوا قتالًا شديدًا. ثم إنّ الله نصر المؤمنين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلّا الشريد. قال: وأقام عبد الله بذات الصواري أيّامًا بعد هزيمة القوم؛ ثم أقبل راجعًا؛ وجعل محمد بن أبي حذيفة يقول للرجل: أما والله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقًا، فيقول الرجل: وأي جهاد؟ فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا، وفعل كذا وكذا حتى أفسد الناس. فقدموا بلدهم وقد أفسدهم، وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به. قال محمد بن عمر: فحدثني معمر بن راشد، عن الزهري، قال: خرج محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر عام خرج عبد الله بن سعد، فأظهرا عيب عثمان وما غيّر وما خالف به أبا بكر وعمر؛ وأنّ دم عثمان حلال. ويقولان: استعمل عبد الله بن سعد؛ رجلًا كان رسول الله ﷺ أباح دمه ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول الله ﷺ قومًا وأدخلهم، ونزع أصحاب رسول الله ﷺ واستعمل سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر. فبلغ ذلك عبد الله بن سعد، فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين، ولقوا العدوّ؛ وكانا أكلّ المسلمين قتالًا، فقيل لهما في ذلك، فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكّمه! عبد الله بن سعد استعمله عثمان، وعثمان فعل وفعل؛ فأفسدا أهل تلك لاغزاة، وعابا عثمان أشدّ العيب. فأرسل عبد الله بن سعد إليهما ينهاهما أشدّ النهي، وقال: والله لولا أني لا أدري ما يوافق أمير المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما. قال الواقدي: وفي هذه السنة توفّيَ أبو سفيان بن حرب وهو ابن ثمان وثمانينن سنة. وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين - فتحت في قول الواقدي أرمينية على يدي حبيب بن مسلمة الفهري. ذكر الخبر عن مقتل يزدجرد ملك فارس وفي هذه السنة قتل يزدجرد ملك فارس. ذكر الخبر عن سبب مقتله اختلف في سبب مقتله؛ وكيف كان قذ؛ فقال علي بن محمد: أخبرنا غياث بن إبراهيم، عن ابن إسحاق، قال: هرب يزدجرد من كرمان في جماعة يسيرة إلى مرو، فسأل مرزبانها مالًا فمنعه، فخافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيّتوه، فقتلوا أصحابه، وهرب يزدجرد حتى أتى منزل رجل ينقر الأرجاء على شطّ المرغاب، فأوى إليه ليلًا، فلما نام قتله. قال علي: وأخبرنا الهذلي، قال: أتى يزدجرد مرو هاربًا من كرمان، فسأل مرزبانها وأهلها مالًا، فمنعوه وخافوه، فبيّتوه ولم يستجيشوا عليه الترك، فقتلوا أصحابه، وخرج هاربًا على رجليه، معه منطقته وسيفه وتاجه؛ حتى انتهى إلى منزل نقّار على شطّ المرغاب، فلما غفل يزدجرد قتله النقار، وأخذ متاعه وألقى جسده في المرغاب، وأصبح أهل مرو فاتّبعوا أثره، حتى خفي عليهم عند منزل النقّار، فأخذوه، فأقرّ لهم بقتله وأخرج متاعه؛ فقتلوا النقّار وأهل بيته، وأخذوا متاعه ومتاع يزدجرد، وأخرجوه من المرغاب فجعلوه في تابوت من خشب. قال: فزعم بعضهم أنهم حملوه إلى إصطخر فدفن بها في أول سنة إحدى وثلاثين، وسمّيت مرو " خذاه دشمن "، وقد كان يزدجرد وطىء امرأة بها فولدت له غلامًا ذاهب الشقّ - وذلك بعد ما قتل يزدجرد - فسمى المخدج، فولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل له: إنّهما من ولد المخدج، فبعث بهما - أو بإحداهما - إلى الحجاج بن يوسف، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص. قال علي: وأخبرنا روح بن عبد الله، عن خرداذبه الرازي؛ أنّ يزدجرد أتى خراسان ومعه خرّزاذمهر، أخو رستم، فقال لماهويه مرزبان مرو: إني قد سلّمت إليك الملك. ثم انصرف إلى العراق وأقام يزدجرد بمرو، وهمّ بعزل ماهويه، فكتب ماهويه إلى الترك يخبرهم بانهزام يزدجرد وبقدومه عليه، وعاهدهم على مؤازرتهم عليه، وخلّى لهم الطريق. قال: وأقبل الترك إلى مرو، وخرج إليهم يزدجرد فيمن معه من أصحابه، فقاتلهم ومعه ماهويه في أساورة مرو، فأثخن يزدجرد في الترك، فخشي ماهويه أن ينهزم الترك، فتحوّل إليهم في أساورة مرو، فانهزم جند يزدجرد وقتلوا، وعقر فرس يزدجرد عند المساء، فمضى ماشيًا هاربًا حتى انتهى إلى بيت فيه رحًا على شطّ المرغاب، فمكث فيه ليلتين، فطلبه ماهويه فلم يقدر عليه، فلما أصبح اليوم الثاني دخل صاحب الرحا بيته، فلما رأى هيئة يزدجرد قال: ما أنت؟ إنسي أو جني! قال: إنسي؛ فهل عندك طعام؟ قال: نعم، فأتاه به، فقال: إني مزمزم فأتني بما أزمزم به، فذهب الطحان إلى إسوار من الأساورة، فطلب منه ما يزمزم به، قال: وما تصنع به؟ قال: عندي رجل لم أر مثله قطّ؛ وقد طلب هذا مني. فأدخله على ماهويه، فقال: هذا يزدجرد، اذهبوا فجيئوني برأسه، فقال له الموبذ: ليس ذلك لك، قد علمت أنّ الدين والملك مقترنان لا يستقيم أحدهما إلّا بالآخر، ومتى فعلت انتهكت الحرمة التي لا بعدها. وتكلم الناس وأعظموا ذلك، فشتمهم ماهويه، وقال للأساورة: من تكلم فاقتلوه. وأمر عدّة فذهبوا مع الطحان، وأمرهم أن يقتلوا يزدجرد، فانطلقوا فلما رأوه كرهوا قتله، وتدافعوا ذلك وقالوا للطحان: ادخل فاقتله، فدخل عليه وهو نائم ومعه حجر فشدخ به رأسه، ثم احتزّ رأسه، فدفعه إليهم، وألقى جسده في المرغاب. فخرج قوم من أهل مرو، فقتلوا الطحان، وهدموا رحاه، وخرج أسقف مرو، فأخرج جسد يزدجرد من المرغاب، فجعله في تابوت، وحمله إلى إصطخر، فوضعه في ناووس. وقال آخرون في ذلك ما ذكر هشام بن محمد؛ أنه ذكر له أن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند، وكانت آخر وقعاتهم حتى سقط إلى أرض إصبهان، وبها رجل يقال له مطيار من دهاقينها - وهو المنتدب كان لقتال العرب حين نكلت الأعاجم عنها - فدعاهم إلى نفسه، فقال: إن ولّيت أموركم وسرت بكم إليهم ما تجعلون لي؟ فقالوا: نقرّ لك بفضلك. فسار بهم، فأصاب من العرب شيئًا يسيرًا، فحظي به عندهم، ونال به أفضل الدرجات فيهم. فلما رأى يزدجرد أمر إصبهان ونزلها، أتاه مطيار ذات يوم زائرًا، فحجبه بوابه، وقال له: قف حتى أستأذن لك عليه، فوثب عليه فشجّه أنفةً وحميّة لحجبه إيّاه، ودخل البواب على يزدجرد مدمّىً، فلمّا نظر إليه أفظعه ذلك، وركب من ساعته مرتحلًا عن إصبهان، وأشير عليه أن يأتي أقصى مملكته فيكون بها، لاشتغال العرب عنه بما هم فيه إلى يوم. فسار متوجّهًا إلى ناحية الري، فلما قدمها خرج إليه صاحب طبرستان، وعرض عليه بلاده، وأخبره بحصانتها، وقال له: إن أنت لم تجبني يومك هذا ثم أتيتني بعد ذلك لم أقبلك ولم آوك؛ فأبى عليه يزدجرد، وكتب له بالإصبهبذيّة، وكان له فيما خلا عليه درجة أوضع منها. وقال بعضهم: إنّ يزدجرد مضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثمّ سار منها إلى مرو في ألف رجل من الأساورة. وقال بعضهم: إنّ يزدجرد وقع إلى أرض فارس، فأقام بها أربع سنين، ثم أتى أرض كرمان، فأقام بها سنتين أو ثلاث سنين؛ فطلب إليه دهقان كرمان أن يقيم عنده، فلم يفعل؛ وطلب من الدهقان أن يعطيه رهينة، فلم يعطه دهقان كرمان شيئًا، فلم يعطه ما طلب، فأخذ برجله فسحبه وطرده عن بلاده؛ فوقع منها إلى سجستان، فأقام بها نحوًا من خمس سنين. ثمّ أجمع أن ينزل خراسان فيجمع الجموع فيها ويسير بهم إلى من غلبه على مملكته، فسار بمن معه إلى مرو، ومعه الرهن من أولاد الدهاقين، ومعه من رؤسائهم فرّخزاذ؛ فلما قدم مرو استغاث منهم بالملوك، وكتب إليهم يستمدّهم، وإلى صاحب الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخزر والدّهقان يومئذ بمرو ماهويه بن مافناه بن فيد أبو براز. ووكّل ماهويه ابنه براز مدينة مرو - وكانت إليه - وأراد يزدجرد دخول المدينة لينظر إليها وإلى قهندزها - وكان ماهويه قد تقدّم إلى ابنه ألّا يفتحها له إن رام دخولها تخوّفًا لمكره وغدره - فركب يزدجرد في اليوم الذي أراد دخولها، فأطاف بالمدينة، فلما انتهى إلى باب من أبوابها، وأراد دخولها منه صاح أبو براز ببراز: أن افتح - وهو في ذلك يشدّ منطقته، ويومىء إليه ألّا يفعل - وفطن لذلك رجل من أصحاب يزدجرد، فأعلمه ذلك، واستأذنه في ضرب عنق ماهويه، وقال: إن فعلت صفت لك الأمور بهذه الناحية؛ فأبى عليه. وقال بعضهم: بل كان يزدجرد ولّى مرو فرّخزاذ، وأمر براز أن يدفع القهندز والمدينة إليه، فأبى أهل المدينة ذلك؛ لأن ماهويه أبا براز تقدّم إليهم بذلك، وقال لهم: ليس هذا لكم بملك، فقد جاءكم مفلولًا مجروحًا، ومرو لا تحتمل ما يحتمل غيرها من الكور، فإذا جئتكم غدًا فلا تفتحوا الباب. فلما أتاهم فعلوا ذلك، وانصرف فرّخزاذ، فجثا بين يدي يزدجرد، وقال: استصعبت عليك مرو؛ وهذه العرب قد أتتك. قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نلحق ببلاد الترك ونقيم بها، حتى يتبيّن لنا أمر العرب؛ فإنهم لا يدعون بلدة إلّا دخلوها. قال: لست أفعل؛ ولكني أرجع عودي على بدئي؛ فعصاه ولم يقبل رأيه، وسار يزدجرد، فأتى براز دهقان مرو، وأجمع على صرف الدهقنة إلى سنجان ابن أخيه، فبلغ ذلك ماهويه أبا براز، فعمل في هلاك يزدجرد وكتب إلى نيزك طرخان يخبره أنّ يزدجرد وقع إليه مفلولا، ودعاه إلى القدوم عليه لتكون أيديهما معًا في أخذه، والاستيثاق منه، فيقتلوه أو يصالحوا عليه العرب، وجعل له إن هو أراحه منه أن يفي له كلّ يوم بألف درهم، وسأله أن يكتب إلى يزدجرد مماكرًا له لينحّيَ عنه عامّة جنده، ويحصل في طائفة من عسكره وخواصّه، فيكون أضعف لركنه، وأهون لشوكته، وقال: تعلمه في كتابك إليه الذي عزمت عليه؛ من مناصحته ومعونته على عدوّه من العرب، حتى يقهرهم، وتطلب إليه أن يشتقّ لك اسمًا من أسماء أهل الدرجات بكتاب مختوم بالذهب، وتعلمه أنك لست قادمًا عليه حتى ينحّيَ عنه فرّخزاذ. فكتب نيزك بذلك إلى يزدجرد، فلمّا ورد عليه كتابه بعث إلى عظماء مرو فاستشارهم، فقال له سنجان: لست أرى أن تنحّيَ عنك جندك وفرّخزاذ لشيء، وقال أبو براز: بل أرى أن تتألّف نيزك وتجيبه إلى ما سأل. فقبل رأيه، وفرّق عنه جنده، وأمر فرّخزاذ أن يأتي أجمة سرخس، فصاح فرّخزاذ، وشقّ جيبه، وتناول عمودًا بين يديه يريد ضرب أبي براز به، وقال: يا قتلة الملوك، قتلتم ملكين، وأظنكم قاتلي هذا! ولم يبرح فرّخزاذ حتى كتب له يزدجرد بخطّ يده كتابًا: هذا كتاب لفرّخزاذ؛ إنك قد سلّمت يزدجرد وأهله وولده وحاشيته وما معه إلى ماهويه دهقان مرو. وأشهد عليه بذلك فأقبل نيزك إلى موضع بين المروين، يقال له حلسدان؛ فلما أجمع يزدجرد على لقائه والمسير إليه، أشار عليه أبو براز ألّا يلقاه في السلاح فيرتاب به، وينفر عنه؛ ولكن يلقاه بالمزامير والملاهي؛ ففعل فسار فيمن أشار عليه ماهويه، وسمّى له، وتقاعس عنه أبو براز، وكردس نيزك أصحابه كراديس. فلمّا تدانيا استقبله نيزك ماشيًا، ويزدجرد على فرس له، فأمر لنيزك بجنيبة من جنائبه فركبها؛ فلمّا توسط عسكره تواقفا، فقال له نيزك فيما يقول: زوّجني إحدى بناتك وأناصحك، وأقاتل معك عدوّك. فقال له يزدجرد: وعلي تجترىء أيّها الكلب! فعلاه نيزك بمخفقته، وصاح يزدجرد: غدر الغادر! وركض منهزمًا، ووضع أصحاب نيزك سيوفهم فيهم، فأكثروا فيهم القتل. وانتهى يزدجرد من هزيمته إلى مكان من أرض مرو، فنزل عن فرسه، ودخل بيت طحّان فمكث فيه ثلاثة أيام؛ فقال له الطحّان: أيّها الشقي، اخرج فاطعم شيئًا، فإنك قد جعت منذ ثلاث، قال: لست أصل إلى ذلك إلا بزمزمة وكان رجل من زمازمة مرو أخرج حنطة له ليطحنها، فكلمه الطحان أن يزمزم عند ليأكل، ففعل ذلك؛ فلما انصرف سمع أبا براز يذكر يزدجرد، فسألهم عن حليته؛ فوصفوه له، فأخبرهم أنه رآه في بيت طحّان، وهو رجل جعد مقرون حسن الثنايا، مقرّط مسوّر. فوجّه إليه عند ذلك رجلًا من الأساورة، وأمره إن هو ظفر به أن يخنقه بوتر، ثم يطرحه في نهر مرو؛ فلقوا الطحّان، فضربوه ليدلّ عليه فلم يفعل، وجحدهم أن يكون يعرف أين توجّه. فلما أرادوا الانصراف عنه قال لهم رجل منهم: إنّي أجد ريح المسك؛ ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء، فاجتذبه إليه؛ فإذا هو يزدجرد، فسأله ألّا يقتله ولا يدلّ عليه، ويجعل له خاتمه وسواره ومنطقته؛ قال الآخر: أعطني أربعة دراهم وأخلّي عنك؛ قال يزدجرد: ويحك خاتمي لك، وثمنه لا يحصى! فأبى عليه؛ قال يزدجرد: قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم؛ وأضطر إلى أن يكون أكلي أكل الهرّ، فقد عاينت، وجاءني بحقيقته؛ وانتزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان مكافأة له لكتمانه عليه، ودنا منه كأنه يكلمه بشيء، فوصف له موضعه، وأنذر الرجل أصحابه، فأتوه، فطلب إليهم يزدجرد ألّا يقتلوه وقال: ويحكم! إنّا نجد في كتبنا أنّ من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا؛ مع ما هو قادم عليه، فلا تقتلوني وآتوني الدهقان أو سرّحوني إلى العرب؛ فإنهم يستحيون مثلي من الملوك؛ فأخذوا ما كان عليه من الحلي، فجعلوه في جراب، وختموا عليه؛ ثم خنقوه بوتر، وطرحوه في نهر مرو، فجرى به الماء حتى انتهى إلى فوّهة الرزيق، فتعلّق بعود، فأتاه أسقفّ مرو، فحمله ولفّه في طيلسان ممسّك، وجعله في تابوت، وحمله إلى بائي بابان أسفل ماجان، فوضعه في عقد كان يكون مجلس الأسقفّ فيه وردمه، وسأل أبو براز عن أحد القرطين حين افتقده، فأخذ الذي دلّ عليه فضربه حتى أتى على نفسه، وبعث بما أصيب له إلى الخليفة يومئذ، فأغرم الخليفة الدهقان قيمة القرط المفقود. وقال آخرون: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إياها، فأخذ على طريق الطبسين وقهستان، حتى شارف مرو في زهاء أربعة آلاف رجل، ليجمع من أهل خراسان جموعًا، ويكرّ إلى العرب ويقاتلهم، فتلقّاه قائدان متباغضان متحاسدان كانا بمرو؛ يقال لأحدهما براز والآخر سنجان؛ ومنحاه الطاعة، وأقام بمرو، وخصّ براز فحسده ذلك سنجان، وجعل براز يبغي سنجان الغوائل، ويوغل صدر يزدجرد عليه، وسعى بسنجان حتى عزم على قتله؛ وأفشى ما كان عزم عليه من ذلك إلى امرأة من نسائه كان براز واطأها؛ فأرسلت إلى براز بنسوة زعمت بإجماع يزدجرد على قتل سنجان، وفشا ما كان عزم عليه يزدجرد من ذلك. فنذر سنجان، وأخذ حذره، وجمع جمعًا كنحو أصحاب براز، ومن كان مع يزدجرد من الجند، وتوجّه نحو القصر الذي كان يزدجرد نازله. وبلغ ذلك براز، فنكص عن سنجان لكثرة جموعه، ورعب جمع سنجان يزدجرد وأخافه، فخرج من قصره متنكّرًا، ومضى على وجهه راجلًا لينجو بنفسه، فمشى نحوًا من فرسخين حتى وقع إلى رحًا ما، فدخل بيت الرحا، فجلس فيه كالًّا لغبًا، فرآه صاحب الرحا ذا هيئة وطُرّة وبزّة كريمة، ففرش له، فجلس وأتاه بطعام فطعم، ومكث عنده يومًا وليلة، فسأله صاحب الرحا أن يأمر له بشيء، فبذل له منطقة مكلّلة بجوهر كانت عليه؛ فأبى صاحب الرحا أن يقبلها، وقال: إنما كان يرضيني من هذه المنطقة أربعة دراهم كنت أطعم بها وأشرب، فأخبره أنه لا ورق معه، فتملّقه صاحب الرحا؛ حتى إذا غفا قام إليه بفأس له فضرب بها هامته فقتله، واحتزّ رأسه؛ وأخذ ما كان عليه من ثياب ومنطقة، وألقى جيفته في اعلنهر الذي كان تدور بمائه رحاه، وبقر بطنه، وأدخل فيه أصولًا من أصول طرفاء كانت نابته في ذلك النهر لتحبس جثّته في الموضع الذي ألقاه فيه، فلا يسفل فيعرف ويطلب قاتله وما أخذ من سلبه، وهرب على وجهه. وبلغ قتل يزدجرد رجلًا من أهل الأهواز كان مطرانًا على مرو؛ يقال له إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إنّ ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى؛ وإنما شهريار ولد شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقّها وإحسانها إلى أهل ملّتها من غير وجه؛ ولهذا الملك عنصر في النصرانيّة مع ما نال النصارى في ملك جدّه كسرى من الشرف؛ وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير؛ حتى بنى لهم بعض البيع، وسدّد لهم بعض ملّتهم؛ فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدّته شيرين، كان إلى النصارى؛ وقد رأيت أنّ أبني له ناووسًا، وأحمل جثّته في كرامة حتى أواريها فيه. فقال النصارى: أمرنا لأمرك أيّها المطران تبع؛ ونحن لك على رأيك هذا مواطئون. فأمر المطران فبنى في جوف بستان المطارنة بمرو ناووسًا؛ ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثّة يزدجرد من النهر وكفّنها، وجعلها في تابوت، وحمله من كان معه من النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي أمر ببنائه له وواروه فيه، وردموا بابه؛ فكان ملك يزدجرد عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إيّاه وغلظتهم عليه. وكان آخر ملك ملك من آل أردشير بن بابك؛ وصفا الملك بعده للعرب. شخوص عبد الله بن عامر إلى خراسان وما قام به من فتوح وفي هذه السنة - أعني سنة إحدى وثلاثين - شخص عبد الله بن عامر إلى خراسان ففتح أبرشهر وطوس وبيورد ونسا حتى بلغ سرخس، وصالح فيها أهل مرو. ذكر الخبر عن ذلك ذكر أن ابن عامر لما فتح فارس قام إليه أوس بن حبيب التميمي، فقال: أصلح الله الأمير! إنّ الأرض بين يديك، ولم تفتتح من ذلك إلّا القليل، فسر فإنّ الله ناصرك؛ قال: أولم نأمر بالمسير! وكره أن يظهر أنه قبل رأيه؛ فذكر علي بن محمد أن مسلمة بن محارب أخبره عن السكن بن قتادة العريني، قال: فتح ابن عامر فارس ورجع إلى البصرة، واستعمل على إصطخر شريك بن الأعور الحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر، فدخل على ابن عامر رجل من بني تميم. قال: كنّا نقول: إنه الأحنف - ويقال: أوس بن جابر الجشمي جشم تميم - فقال له: إنّ عدوّك منك هارب؛ وهو لك هائب، والبلاد واسعة؛ فسر فإنّ الله ناصرك، ومعزّ دينه. فتجهّز ابن عامر، وأمر الناس بالجهاز للمسير، واستخلف على البصرة زيادًا، وسار إلى كرمان؛ ثم أخذ إلى خراسان، فقوم يقولون: أخذ طريق إصبهان؛ ثم سار إلى خراسان. قال علي: أخبرنا المفضّل الكرماني، عن أبيه، قال: كان أشياخ كرمان يذكرون أنّ ابن عامر نزل المعسكر بالسّيرجان، ثمّ سار إلى خراسان، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود السلمي، وأخذ ابن عامر على مفازة رابر؛ وهي ثمانون فرسخًا، ثم سار إلى الطبسين يريد أبرشهر؛ وهي مدينة نيسابور، وعلى مقدّمته الأحنف بن قيس، فأخذ إلى قهستان، وخرج إلى أبرشهر فلقيه الهياطلة؛ وهم أهل هراة؛ فقاتلهم الأحنف فهزمهم؛ ثم أتى ابن عامر نيسابور. قال علي: وأخبرنا أبو مخنف، عن نمير بن وعلة، عن الشعبي، قال: أخذ ابن عامر على مفازة خبيص؛ ثم على خواست - ويقال: على يزد - ثمّ على قهستان؛ فقدّم الأحنف فلقيه الهياطلة، فقاتلهم فهزمهم؛ ثم أتى أبرشهر، فنزلها ابن عامر؛ وكان سعيد بن العاص في جند أهل الكوفة، فأتى جرجان وهو يريد خراسان؛ فلمّا بلغه نزول ابن عامر أبرشهر، رجع إلى الكوفة. قال علي: أخبرنا علي بن مجاهد، قال: نزل ابن عامر على أبرشهر فغلب على نصفها عنوة، وكان النصف الآخر في يد كنارى، ونصف نساوطوس؛ فلم يقدر ابن عامر أن يجوز إلى مرو، فصالح كنارى، فأعطاه ابنه أبا الصلت ابن كنارى وابن أخيه سليمًا رهنًا، ووجّه عبد الله بن خازم إلى هراة وحاتم بن النعمان إلى مرو، فأخذ ابن عامر ابني كنارى، فصارا إلى النعمان ابن الأفقم النصري فأعتقهما. قال علي: وأخبرنا أبو حفص الأزدي، عن إدريس بن حنظلة العمبّي، قال: فتح ابن عامر مدينة أبرشهر عنوة؛ وفتح ما حولها طوس وبيورد ونسا وحمران، وذلك سنة إحدى وثلاثين. قال علي: أخبرنا أبو السري المروزي، عن أبيه، قال: سمعت موسى بن عبد الله بن خازم يقول: أبي صالح أهل سرخس، بعثه إليهم عبد الله بن عامر من أبرشهر وصالح ابن عامر أهل أبرشهر صلحًا، فأعطوه جاريتين من آل كسرى بابونج وطهمبج - أو طمهبج - فأقبل بهما معه، وبعث أمين ابن أحمر اليشكري، ففتح ما حول أبرشهر: طوس وبيورد ونسا وحمران، حتى انتهى إلى سرخس. قال علي: وأخبرنا الصلت بن دينار، عن ابن سيرين، قال: بعث ابن عامر عبد الله بن خازم إلى سرخس؛ ففتحها وأصاب ابن عامر جاريتين من آل كسرى، فأعطى إحداهما النوشجان؛ وماتت بابونج. قال علي: وأخبرنا أبو الذيال زهير بن هنيد العدوي، عن أشياخ من أهل خراسان، أنّ ابن عامر سرّح الأسود بن كلثوم العدوي - عدي الرباب - إلى بيهق؛ وهو من أبرشهر، بينها وبين مدينة أبرشهر ستة عشر فرسخًا، ففتحها وقتل الأسود بن كلثوم. قال: وكان فاضلًا في دينه، كان من أصحاب عامر بن عبد الله العنبري وكان عامر يقول بعد ما اخرج من البصرة: ما آسى من العراق على شيء إلّا على مماء الهواجر، وتجاوب المؤذّنين، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم. قال علي: وأخبرنا زهير بن هنيد، عن بعض عمومته، قال: غلب ابن عامر على نيسابور، وخرج إلى سرخس، فأرسل إلى أهل مرو يطلب الصلح؛ فبعث إليهم ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي، فصالح براز مرزبان مرو على ألفي ألف ومائتي ألف. قال: فأخبرنا مصعب بن حيّان عن أخيه مقاتل بن حيّان، قال: صالحهم على ستة آلاف ألف ومائتي ألف. وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان رضي الله عنه. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث المذكورة فمن ذلك غزوة معاوية بن أبي سفيان المضيق، مضيق القسطنطينيّة؛ ومعه زوجته عاتكة ابنة قرطة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف. وقيل: فاختة؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق، عن أبي معشر، وهو قول الواقدي. وفي هذه السنة استعمل سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة على فرج بلنجر، وأمدّ الجيش الذي كان به مقيمًا مع حذيفة بأهل الشأم؛ عليهم حبيب بن مسلمة الفهري - في قول سيف - فوقع فيها الاختلاف بين سلمان وحبيب في الأمر، وتنازع في ذلك أهل الشأم وأهل الكوفة. ذكر الخبر بذلك فممّا كتب به إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة قالا: كتب عثمان إلى سعيد: أن أغز سلمان الباب؛ وكتب إلى عبد الرحمن ابن ربيعة وهو على الباب: إنّ الرعيّة قد أبطر كثيرًا منهم البطنة، فقصّر، ولا تقتحم بالمسلمين؛ فإني خاشٍ أن يبتلوا، فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته، وكان لا يقصّر عن بلنجر، فغزا سنة تسع من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر؛ حصروها ونصبوا عليها المجانيق والعرّادات، فجعل لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه أو قتلوه؛ فأسرعوا في الناس؛ وقتل معضد في تلك الأيام. ثم إنّ الترك اتّعدوا يومًا، فخرج أهل بلنجر؛ وتوافت إليهم الترك فاقتتلوا؛ فأصيب عبد الرحمن بن ربيعة - وكان يقال له ذو النور - وانهزم المسلمون فتفرّقوا، فأمّا من أخذ طريق سلمان بن ربيعة فحماه حتى خرج من الباب، وأمّا من أخذ طريق الخزر وبلادها، فإنه خرج على جيلان وجرجان وفيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وأخذ القوم جسد عبد الرحمن فجعلوه في سفط، فبقي في أيديهم، فهم يستسقون به إلى اليوم ويستنصرون به. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن داود بن يزيد، عن الشعبي، قال: والله لسلمان بن ربيعة كان أبصر بالمضارب من الجازر بمفاصل الجزور. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن الغصن بن القاسم، عن رجل من بني كنانة، قال: لما تتابعت الغزوات على الخزر، وتذامروا وتعايروا وقالوا: كنّا أمة لا يقرن لنا أحد حتى جاءت هذه الأملة القليلة، فصرنا لا نقوم لها. فقال بعضهم لبعض: إنّ هؤلاء لا يموتون؛ ولو كانوا يموتون لما اقتحموا علينا. وما أصيب في غزواتها أحد إلّا في آخر غزوة عبد الرحمن، فقالوا: أفلا تجرّبون! فكمنوا في الغياض، فمرّ بأولئك الكمين مرّار من الجند، فرموهم منها؛ فقتلوهم، فواعدوا رءوسهم، ثمّ تداعوا إلى حربهم؛ ثم اتّعدوا يومًا؛ فاقتتلوا، فقتل عبد الرحمن، وأسرع في الناس فافترقوا فرقين؛ فرق نحو الباب فحماهم سلمان حتى أخرجهم، وفرق أخذوا نحو الخزر؛ فطلعوا على جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن المستنير بن يزيد، عن أخيه قيس، عن أبيه: قال كان يزيد بن معاوية وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفزّر التميمي في خباء، وعمرو بن عتبة وخالد بن ربيعة والحلحال بن ذرّي والقرثع في خباء، وكانوا متجاورين في عسكر بلنجر؛ وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب! وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه أبيض: ما أحسن حمرة الدماء في بياضك! وغزا أهل الكوفة بلنجر سنين من إمارة عثمان لم تئم فيهنّن امرأة، ولم ييتم فيهنّ صبي من قتل، حتى كان سنة تسع؛ فلمّا كان سنة تسع قبل المزاحفة بيومين رأى يزيد بن معاوية أنّ غزالا جىء به إلى خبائه، لم ير غزالًا أحسن منه حتى لفّ في ملحفته، ثم أتيَ به قبر عليه أربعة نفر لم ير قبرًا أشدّ استواء منه ولا أحسن منه، حتى دفن فيه؛ فلمّا تغادى الناس على الترك رمي يزيد بحجر، فهشم رأسه، فكأنما زيّن ثوبه بالدماء زينة، وليس يتلطّخ؛ فكان ذلك الغزال الذي رأى، وكان بذلك الدم على ذلك القباء الحسن، فلما كان قبل المزاحفة بيوم تغادوا، فقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصّب به رأسي؛ ففعل، فأتى البرج الذي أصيب فيه يزيد؛ فرماهم فقتل منهم، ورمي بحجر في عرّادة، ففضح هامته، واجترّه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد، وأصاب عمرو بن عتبة جراحة؛ فرأى قباءه كما اشتهى. وقتل؛ فلما كان يوم المزاحفة قاتل القرثع حتى خرّق بالحراب، فكأنما كان قباؤه ثوبًا أرضه بيضاء ووشيه أحمر، ومازال الناس ثبوتًا حتى أصيب، وكانت هزيمة الناس مع مقتله. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن داود بن يزيد، قال: كان يزيد بن معاوية النخعي رضي الله عنه وعمرو بن عتبة ومعضد أصيبوا يوم بلنجر؛ فأمّا معضد فإنه اعتجر ببرد لعلقمة، فأتاه شظيّة من حجر منجنيق فأمّه، فاستصغره، ووضع يده عليه فمات فغسل دمه علقمة، فلم يخرج؛ وكان يحضر فيه الجمعة، وقال يحرّضني عليه: إنّ فيه دم معضد. فأما عمرو فلبس قباء أبيض، وقال: ما أحسن الدم على هذا! فأتاه حجر فقتله، وملأه دمًا، وأما يزيد فدلّى عليه شيء فتقله، وقد كانوا حفروا قبرًا فأعدّوه؛ فنظر إليه يزيد، فقال: ما أحسنه! وأريَ فيما يرى النائم أنّ غزالًا لم ير غزالٌ أحسن منه، جيء به حتى دفن فيه؛ فكان هو ذلك الغزال. وكان يزيد رقيقًا جميلًا رحمه الله؛ وبلغ ذلك عثمان، فقال: إنّا لله وإنا إليه راجعون! انتكث أهل الكوفة. اللهمّ تب عليهم وأقبل بهم. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: استعمل سعيد على ذلك الفرج سلمان بن ربيعة، واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان؛ وكان على ذلك الفرج قبل ذلك عبد الرحمن ابن ربيعة؛ وأمدّهم عثمان في سنة عشر بأهل الشأم؛ عليهم حبيب بن مسلمة القرشي، فتأمّر عليه سلمان، وأبى عليه حبيب؛ حتى قال أهل الشأم: لقد هممنا بضرب سملان، فقال في ذلك الناس: إذًا والله نضرب حبيبًا ونحبسه؛ وإن أبيتم كثرت القتلى فيكم وفينا. وقال أوس بن مغراء في ذلك: إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ** وإن ترحلوا نحو ابن عفّان نرحل وإن تقسطوا فالثّغر ثغر أميرنا ** وهذا أمير في الكتائب مقبل ونحن ولاة الثغر كنّا حماته ** ليالي نرمي كلّ ثغر وننكل فأراد حبيب أن يتأمّر على صاحب الباب كما كان يتأمرّ أمير الجيش إذا جاء من الكوفة؛ فلمّا أحسّ حذيفة أقرّ وأقرّوا؛ فغزاها حذيفة ابن اليمان ثلاث غزوات؛ فقتل عثمان في الثالثة؛ ولقيهم مقتل عثمان، فقال: اللهمّ العن قتلة عثمان وغزاة عثمان وشنأة عثمان. اللهمّ إنا كنّا نعاتبه ويعاتبنا، متى ما كان من قبله يعاتبنا ونعاتبه! فاتّخذوا ذلك سلّمًا إلى الفتنة؛ اللهم لا تمتهم إلّا بالسيوف. وفي هذه السنة مات عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ زعم الواقدي أنّ عبد الله بن جعفر حدثه بذلك عن يعقوب بن عتبة؛ وأنه يوم مات كان ابن خمس وسبعين سنة. قال: وفيها مات العبّاس بن عبد المطلب؛ وهو يومئذ ابن ثمان وثمانين سنة؛ وكان أسنّ من رسول الله ﷺ بثلاث سنين. قال: وفهيا مات عبد الله بن زيد بن عبد ربه رحمه الله؛ الذي أري الأذان. قال: وفيها توفّيَ عبد الله بن مسعود بالمدينة، فدفن بالبقيع رحمه الله فقال قائل: صلّى عليه عمّار، وقال قائل: صلّى عليه عثمان. وفيها مات أبو طلحة رحمه الله. ذكر الخبر عن وفاة أبي ذر قال: وفيها مات أبو ذرّ رضي الله عنه في رواية سيف. ذكر الخبر عن وفاته كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن عطيّة عن يزيد الفقعسي، قال: لما حضرت أبا ذرّ الوفاة؛ وذلك في سنة ثمان في ذي الحجّة من إمارة عثمان، نزل بأبي ذرّ؛ فلما أشرف قال لابنته: استشرفي يا بنيّة فانظري هل ترين أحدًا! قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتي بعد؛ ثم أمرها فذبحت شاة، ثم طبختها، ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنونني فقولي لهم: إنّ أبا ذرّ يقسم عليكم ألّا تركبوا حتى تأكلوا؛ فلمّا نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحدًا؟ قالت: نعم؛ هؤلاء ركب مقبلون، قال: استقبلي بي الكعبة. ففعلت، وقال: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله ﷺ. ثم خرجت ابنته فتلقّتهم وقالت: رحمكم الله! اشهدوا أبا ذرّ - قالوا: وأين هو؟ فأشارت لهم إليه وقد مات - فادفنوه، قالوا: نعم ونعمة عين! لقد أركمنا الله بذلك؛ وإذا ركبٌ من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود، فمالوا إليه وابن مسعود يبكي ويقول: صدق رسول الله ﷺ: " يموت وحده، ويبعث وحده "؛ فغسلوه وكفّنوه وصلّوا عليه ودفنوه، فلما أرادوا أن يرتحلوا قالت لهم: إنّ أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم ألّا تركبوا حتّى تأكلوا، ففعلوا، وحملوهم حتى أقدموهم مكّة، ونعوه إلى عثمان، فضمّ ابنته إلى عياله، وقال: يرحم الله أبا ذرّ، ويغفر لرافع ابن خديج سكونه. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن القعقاع بن الصلت، عن رجل، عن كليب بن الحلحال، عن الحلحال بن ذرّي، قال: خرجنا مع ابن مسعود سنة إحدى وثلاثين ونحن أربعة عشر راكبًا حتى أتينا على الربذة فإذا امرأة قد تلقّتنا، فقالت: اشهدوا أبا ذرّ - وما شعرنا بأمره ولا بلغنا - فقلنا: وأين أبو ذرّ؟ فأشارت إلى خباء، فقلنا: ماله؟ قالت: فارق المدينة لأمر قد بلغه فيها، ففارقها. قال ابن مسعود: ما دعاه إلى الإعراب؟ فقالت: أما إن أمير المؤمنين قد كره ذلك؛ ولكنه كان يقول: هي بعد، وهي مدينة. فمال ابن مسعود إليه وهو يبكي، فغسلناه وكفنّاه؛ وإذا خباء منضوخ بمسك، فقلنا للمرأة: ما هذا؟ فقالت: كانت مسكة، فلما حضر قال: إن الميّت يحضره شهود يجدون الريح؛ ولا يأكلون، فدوفي تلك المسكة بماء، ثم رشّي بها الخباء فاقريهم ريحها، واطبخخي هذا اللحم؛ فإنه سيشهدني قوم صالحون يلون دفني، فاقريهم، فلما دفنّاه دعتنا إلى الطعام فأكلنا، وأردنا احتمالها، فقال ابن مسعود: أمير المؤمنين قريب، نستأمره؛ فقدمنا مكة فأخبرناه الخبر، فقال: يرحم الله أبا ذرّ، ويغفر له نزوله الربذة! ولما صدر خرج فأخذ طريق الربذة، فضمّ عياله إلى عياله، وتوجّه نحو المدينة، وتوجّهنا نحو العراق؛ وعدّتنا: ابن مسعود وأبو مفزز التميمي، وبرك بن عبد الله التميمي، والأسود بن يزيد النخعي وعلقمة بن قيس النخعي، والحلحال ابن ذرى الضبي والحارث بن سويد التميمي، وعمرو بن عتبة بن فرقد السلمي، وابن ربيعة السلمي، وأبو رافع المزني، وسويد بن مثعبة التميمي، وزياد بن معاوية النخعي، وأخو القرثع الضبي؛ وأخو معضد الشيباني. فتح مروروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان وفي سنة اثنتين وثلاثين فتح ابن عامر مروروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان. ذكر الخبر عن ذلك قال علي: أخبرنا سلمة بن عثمان وغيره، عن إسماعيل بن مسلم، عن ابن سيرين، قال: بعث ابن عامر الأحنف بن قيس إلى مروروذ، فحصر أهلها، فخرجوا إليهم فقاتلوهم، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصنهم، فأشرفوا عليهم، فقالوا: يا معشر العرب، ما كنتم عندنا كما نرى؛ ولو علمنا أنّكم كما نرى لكانت لنا ولكم حال غير هذه؛ فأمهلونا ننظر يومنا، وارجعوا إلى عسكركم. فرجع الأحنف، فلما أصبح غاداهم وقد أعدّوا له الحرب؛ فخرج رجلٌ من العجم معه كتاب من المدينة، فقال: إنّي رسول فأمّنوني، فأمّنوه، فإذا رسول من مرزبان مرو ابن أخيه وترجمانه، وإذا كتاب المرزبان إلى الأحنف، فقرأ الكتاب؛ قال: فإذا هو: إلى أمير الجيش؛ إنا نحمد الله الذي بيده الدول، يغير ما شاء من الملك، ويرفع من شاء بعد الذلة، ويضع من شاء بعد الرفعة. إنه دعاني إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدّي، وما كان رأي من صاحبكم من الكرامة والمنزلة؛ فمرحبًا بكم وأبشروا؛ وأنا أدعوكم إلى الصح فيما بينكم وبيننا؛ على أن أؤدّي إليكم خراجًا ستين ألف درهم؛ وأن تقرّوا بيدي ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جدّ أبي حيث قتل الحيّة التي أكلت الناس، وقطعت السبُّل من الأرضين والقرى بما فيها من الرجال، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتي شيئًا من الخراج، ولا تخرج المرزبة من أهل بتي إلى غيركم، فإن جعلت ذلك لي خرجت إليك؛ وقد بعثت إليك ابن أخي ماهك ليستوثق منك بما سألت. قال: فكتب إله الأحنف: بسم الله الرحمن الرحيم، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مرووذ ومن معه من الأساورة والأعاجم. سلام على من اتّبع الهدى، وآمن واتّقى. أما بعد؛ فإن ابن أخيك ماهك قدم علي، فنصح لك جهده، وأبلغ عنك؛ وقد عرضت ذلك على من معي من المسلمين، وأنا وهم فيما عليك سواء؛ وقد أجبناك إلى ما سألت وعرضت على أن تؤدّي عن أكرتك وفلّاحيك والأرضين ستّين ألف درهم إلي وإلى الوالي من بعدي من أمراء المسلمين؛ إلّا ما كان من الأرضين التي ذكرت أنّ كسى الظالم لنفسه أقطع جدّ أبيك لما كان من قتله الحيّة التي أفسدت الأرض وقطعت السُّبل. والأرض لله ولرسوله يورثها من يشاء من عباده، وإنّ عليك نصرة المسلمين وقتال عدوّهم بمن معك من الأساورة؛ إن أحبَّ المسلمون ذلك وأرادوه، وإنّ لك على ذلك نصرة المسلمين على من يقاتل من وارءك من أهل بيتك من ذوي الأرحام؛ وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك من المسلمين العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم؛ ولك بذلك ذمتي وذمة أبي وذمم المسلمين وذمم آبائهم. شهد على ما في هذا الكتاب جزء ابن معاوية - أو معاوية بن جزء السعدي - وحمزة بن الهرماس وحميد بن الخيار المازنيّان، وعياض بن ورقاء الأسيدي. وكتب كيسان مولى بني ثعلبة يوم الأحد من شهر الله المحرّم. وختم أمير الجيش الأحنف بن قيس. ونقش خاتم الأحنف: نعبد ه. قال علي: أخبرنا مصعب بن حيّان، عن أخيه مقاتل بن حيّان، قال: صالح ابن عامر أهل مرو، وبعث الأحنف في أربعة آلاف إلى طخارستان فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مرو روذ، وجمه أهل طخارستان، وأهل الجوزجان والطالقان والفارياب؛ فكانوا ثلاثة زحوف، ثلاثين ألفًا. وأتى الأحنف خيرهم وما جمعوا له، فاستشار الناس فاختلفوا؛ فبين قائل: نرجع إلى مرو، وقائل: نرجع إلى أبر مشهر، وقائل: نقيم نستمدّ، وقائل: نلقاهم فنناجزهم. قال: فلما أمسى الأحنف خرج يمشي في العسكر، ويستمع حديث الناس، فمرّ بأهل خبار ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن؛ وهم يتحدثون ويذكرون العدوّ؛ فقال بعضهم: الرأي للأمير أن يسير إذا أصبح؛ حتى يلقي القوم حيث لقيهم - فإنه أرعب لهم - فيناجزهم. فقال صاحب الخزيرة أو العجين: إن فعل ذلك مفقد أخطأ وأخطأتم؛ أتأمرونه أن يلقى حدّ العدوّ مصحرًا في بلادهم، فيلقى جمعًا كثيرًا بعدد قليل، فإن جالوا جولة اصطلمونا! ولكنّ الرأي له أن ينزل بين المرغاب والجبل، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره، فلا يلقاه من عدوّه وإن كثروا إلا عدد أصحابه. فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال؛ فضرب عسكره، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا متعه؛ فقال: إني أكره أن أستنصر بالمشركين؛ فأقيموا على ما أعطيناكم؛ وجعلنا بيننا وبينكم؛ فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم؛ وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم. قال: فوافق المسلمين صلاة العصر؛ فعالجلهم المشركون فناهضوهم فقاتلوهم؛ وصبر الفريقان حتى أمسوا والأحنف يتمثّل بشعر ابن جؤيّة الأعرجي: أحقُّ من لم يكره المنيَّه ** حزوّر ليست له ذرَّيه قال علي: أخبرنا أبو الأشهب العسدي، عن أبيه، قال: لقي الأحنف أهل مرووذ والطالقان والفارياب والجوزجان في المسلمين ليلاُ، فقاتلهم حتى ذهب عامّة الليل، ثم هزمهم ه، فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى رسكن - وهي على اثني عشر فرسخًا من قصر الأحنف - وكان مرزبان مروروذ، قد تربّص بحمل ما كانوا صالحوه عليه؛ لنظر ما يكون من أمرهم. قال: فلمّا ظفر الأحنف سرّح رجلين مإلى المرزبان، وأمرهما ألّا يكلّماه حتى يقبضاه. ففعلًا. فعلم أنهم لم يصنعوا ذاك به إلّا وقد ظفروا، فحمل ما كان عليه. قال علي: وأخبرنا المفضّل الضبي، عن أبيه، قال: سار الأقرع بن حابس إلى الجوزجان؛ بعثه الأحنف في جريدة خيل إلى بقيّة كانت بقيت من الزحوف الذين هزمهم الأحنف، فقاتلهم، فجال المسلمون جولة، مفقتل فرسان من فرسانهم؛ ثم أضفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم، فقال كثير النهشلي: سقى مزن السحاب إذا اشتهلّت ** مصارع فتية بالجوزجان إلى القصرين من رستاق خوط ** أقادهم هناك الأقرعان وهي طويلة. ذكر صلح الأحنف مع أهل بلخ وفي هذه السنة، جرى صلح بين الأحنف وبين أهل بلخ. ذكر الخبر بذلك قال علي: أخبرنا زهير بن الهنيد، عن إياس بن المهلّب، قال: سار الأحنف من مروالرّوذ إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضى منهم بذلك، واستعمل ابن عمّه؛ وهو أسيد بن المتشمّس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه، ومضى إلى خارزم، فأقام حتى هجم عليه الشتاء، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قال له حصين: قد قال لك عمرو بن معد يكرب، قال: وما قال؟ قال: قال: إذا لم تستطع أمرًا فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع قال: فأمر الأحنف بالرّحيل، ثمّ انصرف إلى بلخ، وقد قبض ابن عمّه ما صالحهم عليه؛ وكان وافق وهو يجبيهم المهرجان، فأهدوا إليه هدايا من آنية الذهب والفضّة ودنانير ودراهم ومتاع وثياب، فقال ابن عمّ الأحنف: هذا ما صالحناكم عليه؟ قالوا: لا؛ ولكنّ هذا شيء نصنعه في هذا اليوم بمن ولينا نستعطفه به، قال: وما هذا اليوم؟ قالوا: المهرجان، قال: ما أدري ما هذا؟ وإني لأكره أن أردّه؛ ولعله ممن حقّي؛ ولكن أقبضه وأعزله حتى أنظر فيه؛ فقبضه، وقدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا له مثل ما قالوا لابن عمّه، فقال: آتي به الأمير؛ فحمله إلى ابن عامر، فأخبره عنه، فقال: اقبضه يا أبا بحر؛ فهو لك؟ قال: لا حاجة لي فيه، فقال ابن عامر: ضمّه إليك يا مسمار، قال: قال الحسن: فضمّه القرشي وكان مضمًّا. قال علي: وأخبرنا عمرو بن محمد المرّي، عن أشياخ من بني مرّة، أنّ الأحنف استعمل على بلخ بشر بن المتشمّس. قال علي: وأخبرنا صدقة بن حميد، عن أبيه، قال: بعث ابن عامر - حين صالح أهل مرو، وصالح الأحنف أهل بلخ - خليد بن عبد الله الحنفيَّ إلى هراة وباذغيس؛ فافتتحهما، ثم كفروا بعد فكانوا مع قارن. قال علي: وأخبرنا مسلمة، عن داود، قال: ولما رجع الأحنف إلى ان عامر قال الناس لابن عامر: ما فتح على أحد ما مقد فتح عليك؛ فارس وكرمان وسجستان وعامّة خراسان! قال: لا جرم، لأجعلنّ شكري لله على ذلك أن أخرج محرمًا معمرًا من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور؛ فلما قدم على عثمان لامه على إحرامه من خراسان، وقال: ليتك تضبط ذلك من الوقت الذي يحرم منه الناس! قال علي: أخبرنا مسلمة، عن السكن بن قتادة العريني، قال: استخلف ابن عامر على خراسان قيس بن الهيثم، وخرج ابن عامر منها في سنة اثنتين وثلاثين. قال: فجمع قارن جمعًا كثيرًا من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقهستان، فأقبل في أربعين ألفًا، فقال لعبد الله بن خازم: ما ترى؟ قال: أرّى أن تخلّي البلاد فإني أميرها؛ ومعي عهد من ابن عامر؛ إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها - وأخرج كتابًا قد افتعله عمدًا - فكره قيس مشاغبته، وخلّاه والبلاد؛ وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر، وقال: تركت البلاد حربًا وأقبلت! قال: جاءني بعهد منك. فقالت له أمّه: قد نهيتك أن تدعهما في بلد، فإنه يشغبعليه. قال: فسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمر الناس فحملوا الودك؛ فلما قرب من عسكره أمر الناس، فقال: ليدرج كلُّ رجل منكم على زجّ رمحه ما كان معه من خرقة أو قطن أو صوف؛ ثم أوسعوه من الودك ممنسمن أو دهن أو زيت أو إهالة. ثم سار حتى إذا أمسى قدّم مقدّمته ستمائة، ثم اتّبعهم، وأمر الناس فأشعلوا النيران في أطراف الرماح، وجعل يقتبس بعضهم من بعض. قال: وانتهت مقدّمته إلى عسكر قارن، فأتوهم نصف الليل؛ ولهم حرس، فناوشوهم، وهاج الناس على دهش، وكانوا آمنين في أنفسهم من البيات، ودنا ابنخازم منهم، فرأوا النيران بمنة ويسرة، وتتقدّم وتتأخرّ، وتتخفض وترتفع؛ فلا يرون أحدًا. فهالهم ذلك، ومقدّمة ابن خازم يقاتلونهم؛ ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين، فقتل قارن، وانهزم العدوّ فأتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا، وأصابوا سبيًا كثيرًا؛ فزعم شيخ من بني تميم، قال: كانت أمّ الصلت بن حريث من سبي قارن، وأمّ زياد بن الربيع منهم، وأمّ عون أبي عبد الله بن عون الفقيه منهم. قال علي: حدثنا مسلمة، قال: أخذ ابن خازم عسرك قارن بما كان فيه، وكتب بالفتح إلى ابن عامر؛ فرضي وأقرّه على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل، فأقبل إلى البصرة، فشهد وقعة ابن الحضرمي، وكان معه في دار سبيل. قال علي: وأخبرنا الحسن بن رشيد، عن سليمان بن كثير العمي الخزاعي، قال: جمعقارن للمسلمين جمعًا كثيرًا، فضاق المسلمون بأمرهم، فقال قيس ابن الهيثم لعبد الله بن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة من قد جمعوا لنا، ونقيم نحن في هذه الحصون ونطاولهم حتى تقدم ويأتينا مددكم. قال: فخرج قيس بن الهيثم، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهدًا، وقال: قد ولّاني ابن عامر خراسان؛ فسار إلى قارن، فظفر به، وكتب بالفتح إلى ابن عامر، فأقرّه ابن عامر على خراسان؛ فلم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا رجعوا خلّفوا أربعة آلاف للعقبة، فكانوا على ذلك مكانت الفتنية. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ففيها كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم من ناحية ملطية في قول الواقدي. وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد. وفيها قدّم عبد الله بن عامر الأحنف بن قيس إلى خراسان وقد انتقض أهلها، ففتح المروين: مرو الشاهجان صلحًا، ومرو الروذ بعد قتال شديد، وتبعه عبد الله بن عامر، فنزل أبر شهر، ففتحها صلحًا في قول الواقدي. وأمّا أبو معشر فإنه قال - فيما حدثني أحمد بن ثابت الرازي "، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه، قال: كانت قبرس سنة ثلاث وثلاثين، وقد ذكرنا قول من خالفه في ذلك، والخبر عن قبرس. وفيها: كان تسيير عثمان بن عفان من سيّر من أهل العراق إلى الشأم. ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إليها اختلف أهل السير في ذلك، فأما سيف فإنّه ذكر فيما كتب به إلي السري عن شعيب عنه، عن محمد وطلحة، قالا: كان سعيد بن العاص لا يغشاه إلّا نازلة أهل الكوفة ووجوه أهل الأيام وأهل القادسيّة وقرّاء أهل البصرة والمتسمِّتون، وكان هؤلاء دخلته إذا خلا، فأما إذا جلس للناس فإنه يدخل عليه كلّ أحد، فجلس للناس يومًا، فدخلوا عليه؛ فبينناهم جلوس يتحدثون قال خنيس بن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد ابن العاص: إنّ من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادًا؛ والله لو أنّ لي مثله لأعاشكم الله عيشًا رغدًا. فقال عبد الرحمن بن خنيس - وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك - يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة - قالوا: فضّ الله فاك! والله لقد هممنا قك، فقال: خنيس غلام فلا تجازوه، فقالوا: يتمنى له من سوادنا! قال: ويتمنّى لكم أضعافه، قالوا: لا تيمنى لنا ولا له، قال: ما هذا بكم! قالوا: أنت والله أمرته بها، فثار إليه الأشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضائي؛ فأخذوه فذهب أبوه ليمنع منه فضربوهما حتى غشى عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرًا، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا وفيهم طليحة فأحاطو بالقصر، وركبت القبائل، فعاذوا بسعيد، وقالوا: أفلتنا وخلَّصنا. فخرج سعيد إلى الناس، فقال: أيّا الناس، قوم تنازعوا وتهاووا، وقد رزق الله العافية. مثم قعدوا وعادوا في حديثهم، وتراجعوا فساءهم وردّهم، وأفاق الرجلان؛ فقال: أبكما حياة؟ قالا: قتلتنا غاشيتك، مقال: لا يغشوني والله أبدًا، فاحفظ علي ألسنتكما ولاتجرّئا علي النسا. ففعلًا ولما انقطع رجاء أولئك النفر من ذلك قعدوا في بيتوهم، وأقبلوا على الإذاعة حتّى لامه أهلالكوفة في أمرهم؛ فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرّك شيئًا، فمن أراد منكم أن يحرّك شيئًا فليحرّكه. فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان في إخراجهم، فكتب: إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية. فأخرجوهم، فذلّوا وانقادوا حتى أتوه - هم بضعة عشر - فكتبوا بذلك إلى عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية: إنّ أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرًا خلقوا للفتنة، فرعهم وقم عليهم؛ فإن آنست منهم رشدًا فأقبل منهم؛ وإن أعيوك فازددهم عليهم فلما قدموا على معاوية رّحّب بهم وأنزلهم كنيسة تسمّى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدّى ويتعشّى معهم، فقال لهم يومًا: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفًا وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشًا؛ وإن قريشًا لو لم تكن عدتم أذلّة كما كنتم، إنّ أئمتكم لكم إلى اليوم جنّة فلا تشذّوا عن جنّتكم؛ وإنّ أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة؛ والله لتنتهنّ أو ليتلينّكم الله بمن يسومكم؛ ثم لا يحمدكم على الصبر، ثمّ تكونون شركاء لهم فيما جررتم على الرعيّة في حياتكم وبعد موتكم. فقال رجل من القوم: أمّا ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوّفنا؛ وأما ما ذكرت من الجنّة فإنّ الجنّة إذا اخترقت خلص إلينا. فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أنّ الذي أغراكم على هذا قلّة العقول، وأنت خطيب القوم، ولا أرى لك عقلًا، أعظم علكي أمر الإسلام، وأذكرك به، وتذكّرني الجاهلية! موقد وعظتك. وتزعم لما يجنُّك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنّة؛ أخزى الله أقواماُ أعظموا أمركم، ورفعوا إلى خليفتكم! افقهوا - ولا أظنكم تفقهون - أنّ قريشًا لم تعزّ في جاهلية ولا إسلام إلّا بالله عز وجل، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدّهم؛ ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابًا، وأمحضهم أنسابًا، وأعظمهم أخطارًا؛ وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس بأكل بعضهم بعضًا إلّا بالله الذي لا يستذّل من أعزّ، ولا يوضع من رفع، فبوّأهم حرمًا آمنا يتخطّف الناس من حولهم! هل تعرفون عربًا أن عجمًا أو سودًا أو حمرًا إلّا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة؛ إلّا ما كان من قريش، فإنه لم يردهم أحد من الناس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقّذ من أكرم واتّبع دينه من هوان الدنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلفه، ثم ارتضى له أصحابًا فكان خيارهم قريشًا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم؛ ولا يصلح ذلك إلّا عليهم؛ فكان الله يحوطهم في الجاهليّة وهم على كفرهم بالله؛ أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية من الموك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك! ول أنّ متكلمًا غيرك تكلّم؛ ولكنك ابتدأت. فأمّا أنت يا صعصعة فإن قريتك شرّ قرى عربيّة؛ انتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، وأعرفها بالشرّ، وألأمها جيرانًا، لم يسكنها شريف قطّ ولا وضيع إلّا سبّ بها؛ وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابًا، والأمه أصهارًا، نزّاع الأمم؛ وأنتم جيران الخطّ وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي ﷺ ونكبتك دعوته؛ وأنت نزيع شطير في عمان، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي ﷺ، فأنتشرّ قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام، وخلطك بالناس، وحملك على الأمم التي كانت عليك؛ أقبلت تبغي دين الله عوجًا؛ وتنزع إلى الللآمة والذلّة. ولا يضع ذلك قريشًا، ولن يضرّهم، ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم؛ إنّ الشيطان عمم غير غافل، قد عرفكم بالشرّ من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس؛ وهو صارعكم. لقد علم أنه لا يستطيع أن يردّ بكم قضاء قضاه الله، ولا أمرًا أراده الله، ولا تدركون بالشرّ أمرًا أبدًا إلا فتح الله عليكم شرًّا منه وأخزى. ثم قام وتركهم؛ فتذامروا. فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم؛ لا والله لا ينفع الله بكم أحدًا ولا يضرّه؛ ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة؛ ولكنكم رجال نكير. وبعد، فإن أردتم النجاة فألزموا جماعتكم؛ وليسعكم ما وسع الدَّهماء، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار؛ اذهبوا محيث شئتم، فإني كاتب إلى أمير المؤمنين فيكم. فلمّا خرجوا دعاهم فقال: إني معيد عليكم. إنّ رسول الله ﷺ كان معصومًا فولّاني، وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر رضي الله عنه فولّاني، ثمّ استخلف عمر فولّاني، ثم استخلف عثمان فولّاني. فلم أل لأحد منهم مولم يولِّني إلا وهو راضٍ عني؛ وإنما طلب رسول الله ﷺ للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء؛ ولم يطلب لها أهل اللاجتهاد والجهل بها والضعف عنها؛ وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون؛ فإنّ الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي لناس سارئركم؛ وقد قال عزّ وجل: " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يفتنون ". وكتب معاوية إلى عثمان: إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أثفلهم الإسلام، وأضجرهم العدل؛ لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنما همّهم الفتنة وأموال أهل الذمة؛ والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم؛ وليسوا بالذين ينكون أحدًا إلا مع غيرهم، فإنه سعيدًا ومن قبله عنهم؛ فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير. وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة، فإنهم يسمتون بكم، وميلوا بنا إلى الجزيرة، ودعوا العراق والشام. فأووا إلى الجزيرة، وسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان معاوية قد ولّاه حمص وولى عامل الجزيرة حرّان والرّقة - فدعا بهم، فقال: يا آلة الشيطان، لا مرحبًا بكم ولا أهلًا! قد رجع الشيطان محشورًا وأنتم بعد نشاط؛ خسرر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّ بكم حتى يحسركم. يا معش من لا أدري أعرب أم عجم، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكمتقولون لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقيء الردة، والله لئن بلغني يا صعصعة ابن ذلّ أنّ أحدًا ممن معي دق أنفك ثم أمصّك لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. فأقامهم أشهرًا كلّما ركب أمشاهم، فإذا مرّ به صعصعة قال: يابن الحطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشر! مالك لا تقول كما كان يبلغني أنّك تقول لسعيد ومعاوية! فيقول ويقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله! فما زالوا به حتى قال تاب الله عليكم. وسرّح الأشتر إلى عثمان، وقال لهم: ما شئتم، إن شئتم فاخرجوا، وإن شئتم فأقيموا. وخرج الأشتر، فأتى عثمانب التوبة والندم ولانزوع عنه وعن أصحابه فقال: سلمكم الله. وقدم سعيد بن العاص، فقال عثمان للأشتر: احلل حيث شئت، فقال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ وذكر من فضله، ذاك إليكم، فرجعإلى عبد الرحمن. وأمّا محمد بن عمر؛ فإنه ذكر أنّ أبا بكر بن إسماعيل حدثه عنأبيه، عن عامر بن سعد، أنّ عثمان بعث سعيد بن العاص إلى الكوفة أميرًا عليها، حين شهد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر من شهد عليه، وأمره أن يبعث إليه الوليد بن عقبة. قال: قدم سعيد بن العاص الكوفة، فأرسل إلى الوليد: إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن تلحق به. قال: فتضجّع أيامًا، فقال له: انطلق إلى أخيك؛ فإنه قد أمرني أن أبعثك إليه، قال: وما صعد منبر الكوفة حتى أمر به أن يغسل، فناشده رجال من قريش كانوا قد خرجوا معه من بني أميّة، وقالوا: إنّ هاذ قبيح؛ والله لو أراد هذا غيرك لكان حقًّا أن تذبّ عنه؛ يلزمه عار هذا أبدًا. قال: فأبى إلّا أن يفعل، فغسلهوأرسل إلى الوليد أن يتحوّل من دار الإمارة، فتحوّل منها، ونزل دار عمارة بنعقبة، فقدم الوليد على عثمان، فجمع بينه وبين خصمائه، فرأى أن يجلده، فجلده الحدّ. قال محمّد بن عمر: حدثني شيبان، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قدم سعيد بن العاص الكوفة، فجعل يختار وجوه الناس يدخلون عليه ويسمرون عنده؛ وإنه سمر عنده ليلةً وجوه أهل الكوفة، منهم مالك بن كعب الأرجي، والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيّان، وفيهم مالك الأشتر في رجال، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان لقريش؛ فقال الأشتر: أتزعم أنّ السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبًا إلا أن يكون كأحدنا، وتكلم معه القوم. قال: فقال عبد الرحمن الأسدي - وكان على شرطة سعيد: أتردّون على الأمير مقالته! وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من ها هنا! لا يفوتنّكم الرجل؛ فوثبوا عليه فوطئوه وطأ شديدًا، حتى غشي عليه ثم جرّ برجله فألقى، فنضح بماء فأفاق، فقال له سعيد: أبك حياة؟ فقا: قتلني من انتخبت - زعمت - للإسلام، فقال: والله لا يسمر منهم عندي أحد أبدًا، فجعلوا يجلسون في مجالسهم وبيوتهم يشتموون عثمان وسعيدًا؛ واجتمع الناس إليهم؛ حتى كثر من يختلف إليهم. فكتب سعيد إلى عثمان يخبره بذلك، ويقول: إنّ رهطًا من أهل الكوفة - سمّاهم له عشرة - يؤلّبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا، وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا؛ فكتب عثمان إلى سعيد: أن سيرّهم إلى معاوية - ومعاوية يومئذ على الشأم - فسيرّهم - وهم تسعة نفر - إلى معاوية؛ فيهم مالك الأشتر، وثايت بن قيس بن منقع، وكميل بن زياد النخعي، وصعصعة بن صوحان. ثم ذكر نحو حديث السري، عن شعيب؛ إلّا أنه قال: فقال صعصعة: فإن اخترقت الجنَّة أفليس يخلص إلينا؟ فقال معاوية: إنّ الجنة لا تخترق، فضع أمر قريش على أحسن ما يحضرك. وزاد فيه أيضًا: إنّ معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكّرهم، قال فيما يقول: وإني والله ماآمركم بشيء إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصّتي؛ وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلّا ما جعل الله لنبيّه نبي الرحمة ﷺ؛ فإن الله انتخبه وأكرمه، فلم يخلق في أحد من الأخلاق الصالحة شيئًا إلا أصفاه الله بأكرمها وأحسنها؛ ولم يخلق من الأخلاق السيّئة شيئًا في أحد إلا أكرمه الله عنها ونزّهه؛ وإني لأظن أنّ أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازمًا. قال صعصعة: كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان؛ من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البرّ والفاجر، والأحمق والكيّس. فخرج تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم القابلة، فتحدث عندهم طويلًا، ثم قال: أيُّها القوم، ردّوا علي خيرًا أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين؛ فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. فقال: أوليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعته نبيه ﷺ، وأن تعتصموا بحبله جميعًا ولا تفرّقوا! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي ﷺ. قال: فإني آمركم الآن، إن كنت فعلت فأتوب إلى الله، وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه ﷺ ولزوم الجماعة، وكراهة الفرقة، وأن توقّروا أئمّتكم وتدلُّوهم على كلّ حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم. فقال صعصعة: فإنّا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإنّ في المسلمين من هو أحقّ به منك، قال: من هو؟ قال: من كان أبوه أحسن قدمًا من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدمًا منك في الإسلام، فقال: والله إنّ لي في الإسلام قدمًا، ولغيري كان أحسن قدمًا مني؛ ولكنه ليس في زماني أحد أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعزل عملي؛ ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إلي بخطّ يده فاعتزلت عمله؛ ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت ألا يعزم له على ذلك إلا وهو خير؛ فمهلًا فإنّ في ذلك وأشباهه ما يتمنّى الشيطان ويأمر؛ ولعمري لو كانت الأمور تقضي على رأيكم وأمانيّكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يومًا ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبّرها؛ وهو بالغ أمره؛ فعادودوا الخبر وقولوه. فقالوا: لست لذلك أهلًا، فقال: أما والله إنّ لله لسطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتايعوا في مطاوعه الشيطان حتى تحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر، والخزي الدائم في الآجل. فوثبوا عليه؛ فأخذوا برأسه ولحيته، فقال: مه؛ إنّ هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشأم ما صنعم بي وأنا أمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم. فلعمري إنّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضًا، ثمّ أقام من عندهم، فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلًا ما بقيت. ثم كتب إلى عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أمّا بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إلي أقوامًا يتكلّمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا - من قبل القرآن، فيشبّهون على الناس، وليس كلّ الناس يعلم ما يريدون؛ وإنما يريدون فرقة، ويقرّبون فتنة؛ قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكّنت رقي الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرًا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة؛ ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشأم أن يغرّوهم بسحرهم وفجورهم؛ فارددهم إلى مصرهم؛ فلتكن دارهم في مصرهم الذين نجم فيه نفاقهم؛ والسلام. فكتب إليه عثمان يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلّا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا. وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم؛ فكتب عثمان إلى سعيدد أن سيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ وكان أميرًا على حمص. وكتب إلى الأشتر وأصحابه: أمّا عبد؛ فإني قد سيّرتكم إلى حمص، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها؛ فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شرًّا. والسلام. فلما قرأ الأشتر الكتاب، قال: اللهمّ أسوأنا نظرًا للرعيّة وأعملنا فيهم بالمعصية؛ فعجِّل له النقمة. فكتب بذلك سعيد إلى عثمان، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص؛ فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل، وأجري عليهم رزقًا. قال محمد بن عمر: حدثني عيسى بن عبد الرحمن، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: اجتمع نفر بالكوفة - يطعنون على عثمان - من أشراف أهل العراق: مالك بن الحارث الأشتر، وثابت بن قيس النَّخعي، وكميل بن زياد النَّخعي، وزيد بن صوحان العبدي، وجندب بن زهير الغامدي، وجندب بن كعب الأزدي، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعي. فكتب سعيد بن العاص إلى عثمان يخبره بأمرهم، فكتب إليهأن سيَّرهم إلى الشأم وألزمهم الدروب. ذكر الخبر عن تسيير عثمان من سير من أهل البصرة إلى الشام مما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن يزيد الفقعمي؛ مقال: لما مضى من إمارة اب عامر ثلاث سنين، بلغه أن في عبد القيس رجلًا نازلًا على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة رجلًا لصًّا، إذا قفل الجيوش خنس عنهم، فسعى في أرض فارس، فيغير على أهل الذمة، ويتنكّر لهم، ويفسد في الأرض، ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمّة وأهل القبلة إلى عثمان. فكتب إلى عبد الله بن عامر: أن احبسه، ومن كان مثله فلا يخرجنّ من البصرة حتى تأنسوا منه رشدًا؛ فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها. فلما قدم ابن السوداء نزل عليه واجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرّح، فقبلوا منه، واستعظموه، وأرسل إليه ابن عامر، فسأله: ما أنت؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب، رغب في الإسلام، ورغب في جوارك؛ فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتي الكوفة فأخرج منها فاستقرّ بمصر، وجعل يكاتبهم ويكاتبونه، ويختلف الرجال بينهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: إن حمران بن أبان تزوّج امرأة في عدّتها، فنكّل به عثمان، وفرّق بينهما، وسيّره إلى البصرة، فلزم ابن عامر؛ فتذاكروا يومًا الركوب والمرور بعامر ابن عبد قيس - وكان منقبضًا عن الناس - فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره! فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف، فقال: الأمير أراد أن يمرّ بك فأحببت أن أخبرك، فلم يقطع قراءته ولم يقبل عليه، فقام من عنده خارجًا. فلما انتهى إلى الباب لقيه ابن عامر، فقال: جئتك من عند امرىء لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلًا؛ واستأذن ابن عامر، فدخل عليه، وجلس إليه، فأطبق عامر المصحف، وحدثه ساعة، فقال له ابن عامر: ألا تغشانا؟ فقال: سعد بن أبي العرجاء يحبّ الشرف، فقال: ألانستعملك؟ فقال: حصين ابن أبي الحرّ يحب العمل، فقال: ألا نزوّجك! فقال: ربيعة بن عسل يعجبه النساء، قال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلًا، فتصفّح المصحف؛ فكان أوّلأ ما وقع عليه واففتح منه: " إنَّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين "، فلما ردّ حمران تتبّع ذلك منه، فسعى به، وشهد له أقوام فسيّره إلى الشام، فلما علموا علمه أذنوا له فأبى ولزم الشام. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، أنّ عثمان سيّد حمران بن أبان؛ أن تزوَّج امرأة في عدّتها، وفرق بينهما، وضربه وسيّره إلى البصرة؛ فلما أتي عليه ما شاء الله، وأتاه عنه الذي يحبّ، أذن له. فقدم عليه المدينة، وقدم معه قوم سعوا بعامر بن عبد قيس؛ أنه لا يرى التزويج، ولا يأكل اللحم؛ ولا يشهد الجمعة - وكان مععامر انقباض؛ وكان عمله كله خفية - فكتب إلى عبد الله بن عامر بذلك، فألحقه بمعاوية؛ فلما قدم عله وافقه وعنده ثريدة فأكل أكلًا غريبًا؛ فعرف أنّ الرجل مكذوب عليه، فقال: يا هذا، هل تدري فيم أخرجت؟ قال: لا، قال: أبلغ الخليفة أنك لا تأكل اللحم، ورأيتك وعرفت أن قد كذب عليك، وأنك لا ترى التزويج، ولا تشهد الجمعة، قال: أمّا الجمعة فإني أشهدها في مؤخّر المسجد ثم أرجع في أوائل الناس؛ وأمّا التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي؛ وأما اللحم فقد رأيت، ولكني كنت أمرأ لا آكل ذبائح القصّابين منذ رأيت قصابًا يجرّ شاة إلى مذبحها، ثم وضع السكين على مذبحها، فما زال يقول: النَّفاق النَّفاق، حتى وجبت. قال: فارجع، قال: لا أرجع إلى بدل استحلّ أهله مني ما استحلوا ولكني أقيم بهذا البلد الذي اختاره الله لي. وكان يكون في السواحل؛ وكان يلقى معاوية، فيكثر معاوية أن يقول: حاجتك؟ فيقول: لا حاجة لي؛ فلما أكثر معليه، قال: تردّ علي من حرّ البصرة لعلّ الصوم أن يشتدّ علي شيئًا، فإنه يخفّ علي في بلادكم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما قدم مسيَّرة أهل الكوفة على معاوية، أنزلهم دارًا، ثم خلا بهم، فقال لهم وقالوا له، فلما فرغوا قال: لم تؤتوا إلا الحمق، والله ما أرى منطقًا سديدًا، ولا عذرًا مبينًا، ولا حلمًا ولا قوّة؛ وإنّك يا صعصعة لأحمقهم؛ اصنعوا وقولوا ما شئتم ما لم تدعوا شيئًا من أمر الله؛ فإنّ كلّ شيء يحتمل لكم إلا معصيته، فأما فيما بيننا وبينكم فأنتم أمراء أنفسكم. فرآهم بعد وهم يشهدون الصلاة، ويقفون مع قاصّ الجماعة، فدخل عليهم يومًا وبعضهم يقريء بعضًا، فقال: إنّ في هذا لخلقًا مما قدمتم به علي من النِّزاع إلى أمر الجاهلية؛ اذهبوا حيث شئتم، واعلموا أنكم إن لزمتم جماعتكم سعدتم بذلك دونهم؛ وإن لم تلزموها شقيتم بذلك دونهم؛ ولم تضرُّوا أحدًا، فجزوه خيرًا، وأثنوا عليه، فقال: يا بن الكوّاء، أي رجل أنا؟ قال: بعيد الثرى، كثير المرعى، طيّب البديهة، بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدّت بك فرجة مخوفة. قال: فأخبرني عن أهل الإحداث من أهل الأمصار فإنك أعقل أصحابك،؛ قال: كاتبتهم وكاتبوني، وأنكروني وعرفتم؛ فأما أهل الإحداث من أهل الكوفة فإنّهم أنظر الناس في صغير، وأركبه لكبير. وأمّا أهل الإحداث من أهل البصرة، فإنهم يردون جميعًا، ويصدرون شتّى، وأما أهل الإحداث من أهل مصر فهم أوفى الناس بشرّ، وأسرعه ندامة؛ وأما أهل الإحداث من أهل الشأم فأطوع الناس لمرشدهم، وأعصاه لمغويهم. وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان. وزعم أبو معشر أنّ فتح قبرس كان في هذه السنة، وقد ذكرت من خالفه في ذلك. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث المذكورة فزعم أبو معشر أن غزوة الصواري كانت فيها؛ حدثني بذلك أحمد، عمّن حدثن، عن إسحاق، عنه. وقد مضى الخبر عن هذه الغزوة وذكر من خالف أبا معشر في وقتها. وفيها كان ردّ أهل الكوفة سعيد بن العاص عن الكوفة. ذكر خبر اجتماع المنحرفين على عثمان وفي هذه السنة تكاتب المنحرفون عن عثمان بن عفان للاجتماع لمناظرته فيما كانوا يذكرون أنهم نقموا عليه. ذكر الخبر عن صفة اجتماعهم لذلك وخبر الجرعة مما كتب إلي به السري، عن شعيب، عن سيف، معنالمستنير بن يزيد، عن قيس بن يزيد النَّخعي، قال: لما رجع معاوية المسيَّرين، قالوا: إنّ العراق والشأم ليسا لنا بدار؛ فعليكم بالجزيرة. فأتوها اختيارًا. فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد، فسامهم الشدّة، فضرعوا له وتابعوه. وسرّح الأشتر إلى عثمان، فدععا به، وقال: اذهب حيث شئت، فقال: أرجع إلى عبد الرحمن، فرجع. ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان في سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان. وقبل مخرج سعيد بن العاص من الكوفة بسنة وبعض أخرى بعثالأِعث بن قيس على أذربيجان، وسعيد بن قيس على الري؛ وكان سعيد بن قيس على همذان، فعزل وجعل علها لانَُسير العجلي، وعلى إصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماه مالك بن حبيب اليربوعي، وعلى الموصل حكيم بن سلامة الخزامي، وجرير بن عبد الله على قرقيسياء، وسلمان ابن ربيعة على الباب، وعلى الحرب القعقاع بن عمرو، وعلى حلوان عتيبية ابن النهاش؛ وخلت الكوفة من الرؤساء إلّا منزوعًا أو مفتونًا. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان، فدخل المسجد، فجلس فيه، وثاب إليه الذين كان فيه ابن لاسوداء يكاتبهم؛ فانقضّ عليه القعقاع، فأخذ يزيد بن قيس، فقال: إنما نستعفي من سعيد، قال: هذا ما لا يعرض لكم فيه، لا تجلس لهاذ ولا يجتمعنّ إليك، واطلب حاجتك، فلعمري لتعطينّها. فرجع إلى بيته واستأجر رجلًا، وأعطاه دراهم وبغلًا على أن يأتي المسيَّرين. وكتب إليهم: لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا، فإنّ أهل المصر قد جامعونا. فانطلق الرجل، فأتى عليهم وقد رجع الأشتر؛ فدفع إليهم الكتاب، فقالوا: ما اسمك؟ قال: بغثر؛ قالوا: ممن؟ قال: من كلب، قالوا: سبع ذليل ببغثر النفوس؛ لا حاجة لنا بك. وخالفهم الأشتر، ورجع عاصيًا، فلما خرج قال أصحابه: أخرجنا أخرجه الله؛ لا نجد بدًّا مما صنع؛ إن علم بنا عبد الرحمن لم يصدّقنا ولم يتسقلّها، فاتَّبعوه فلم يلحقوه؛ وبلغ عبد الرحمن أنّهم قد رحلوا فطلبهم في السواد، فسار الأشتر سبعًا والقوم عشرًا، فلم يفجإ الناس في يوم جمعة إلّا والأشتر على باب المسجد يقول: أيّها لاناس؛ إني قد جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان، وتركت سعيدًا يريده على نقصان نسائكم إلى مائة درهم. وردّ أهل البلاء منكم إلى ألفين، ويقول: ما بال أشراف النساء؛ وهذه العلاوة بين هذين الغدلين! ويزعم أنّ فيئكم بستان قريش؛ وقد سايرته مرحلة، فما زال يرجز بذلك حتى فارقته؛ ميقول: ويل لأشراف النِّساء منِّي ** صمحمح كأنَّني من جنَِ فاستخلف الناس، وجعل أهل الحجي بنهونه فلا يسمع منهم، وكانت نفجة، فخرج يزيد، وأمر مناديًا ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد ابن قيس لرد سعيد وطلب أمير غيره فليفعل. وبقي حلماء الناس وأشرافهم ووجوههم في المسجد، وذهب من سواهم، وعمرو بن حريث يومئذ الخليفة، فصعد المنبرفحمد الله وأثنى عليه، وقال: اذكروانعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا، بعد أن كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، فلاتعودوا في شرّ قد استنقذكم الله عز وجل منه. أبعد الإسلام وهديه وسنّته لا تعرفون حقًّا، ولا تصيبون بابه! فقال القعقاع بن عمرو: أتردّ السيل عن عبابه! فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات! لا واه لا تسكّن الغوغاء إلا المشرفيّة ويوشك أن تنتضي، ثم يعجّون عجيج العتدان ويتمنّون ما هم فيه فلا يردّه الله عليهم أبدًا. فاصبر؛ فقال: أصبر، وتحوّل إلى منزله، وخرج يزيد ابن قيس حتى نزل الجرعة، ومعه الأشتر، وقد كان سعيد تلبّث في الطريق، فطلع عليهم سعيد وهم مقيمون له معسكرون، فقالوا: لا حاجة لنا بك. فقال: فما اختلفتم الآن؛ إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلًا وتضعوا إلي رجلًا. وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل! ثمان صرف عنهم وتحسَّسوا بمولى له على بعير قد حسر، فقال: والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع. فضرب الأشتر عنقه، ومضى سعيد حتى قدم على عثمان، فأخبره الخبر، فقال: ما يريدون؟ قال: أبا موسى؛ قال: قد أثبتنا أبا موسى عليهم، ووالله لا نجعل لأحد عذرًا، ولا نترك لهم حجّة، ولنصبرنّ كما أمرنا حتى نبلغ مما يريدون. ورجع من قرب علمه من الكوفة، ورجع جرير من قرقيسياء وعتيبة من حلوان. وقام أبو موسى فتكلّم بالكوفة فقال: أيَّها الناس، لا تنفروا في مثل هاذ، ولا تعودوا لمثله، الزموا جماعتكم والطاعة؛ وإيَّاكم والعجلة، اصبروا، فكأنكم بأمير. قالوا: فصلّ بنا، قال لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان؛ قالوا: على السمع والطاعة لعثمان. حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة وعلي بن حسين بن عيسى. قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن العلاء بن عبد الله بن زيد العنبري، أنّه قال: اجتمع ناس من المسلمين، فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلًا يكلّمه، ويخبره بإحداثه، فأرسلوا إليه عامر ابن عبد الله التميمي ثم العنبري - وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس - فأتاه، فدخل عليه، فقال له: إنّ ناسًا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك. فوجدوك قد ركبت أمورًاعظامًا، فاتّق الله عز وجل وتب إليه، وانزع عنها. قال له عثمان: انظر إلى هذا، فإنّ الناس يزعمون أنه قارىء. ثم هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات، فو الله ما يدري أين الله! قال عامر: أنا لا أدري أين الله! قال: نعم، والله ما تدري أين الله؛ قال عامر: بلى والله إني لأدري أنّ الله بالمرصاد لك. فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان، وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإلى سعيد بن العاص، وإلى عمرو بن العاص بن وائل السهمي، وإلى عبد الله بن عامر؛ فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب إليه، وما بلغه عنهم، فلما اجتمعوا عنده قال لهم: إنّ لكلّ امرىء وزراء ونصحاء، وإنّكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمّالي، وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبّون، فاجتهدوا رأيكم، وأشيروا علي. فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك. وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلُّوا لك فلا يكون همّة أحدهم إلّا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته، وقمل فروه. ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له: ما رايك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت ترى رأينا فاحسم عنك الداء، واقطع عنك الذي تخاف، واعمل برأيي تصب؛ قال: وما هو؟ قال: إنّ لكل قوم قادةً متى تهلك يتفرّقوا، ولا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: إنّ هذا الرأي لولا ما فيه. ثم أقبل معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن تردذ عمّالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لك قبلي. ثم أقبل على عبد الله بن سعد، فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أنّ الناس أهل طمع، فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون؛ فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال عثمان: مالك قمل فروك؟ أهذا الجدّ منك! فأسكت عنه دهرًا، حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزُّ علي من ذلك، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كلّ رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيرًا، أو أدفععنك شرًّا. حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن عمرو بن أبي المقدام، عن عبد الملك ابن عمير الزُّهري، أنه قال: جمع عثمان أمراء الأجناد: معاوية بن أبي سفيان، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعمرو بن العاص، فقال: أشيروا علي، فإنّ الناس قد تنممّروا لي، فقال له معاوية: أشيرعليك أن تأمر أمراء أجنادك فكيفيك كلّ رجل منهم ما قبله، وأكفيك أناأهل الشأم؛ فقال لهعبد الله بن عامر: أرى لك أن تجمّرهم في هذه البعوث حتى يهمّ كلّ رجل منهم دبر دابّته، وتشغلهم عن الإرجاف بك، فقال عبد الله بن سعد: أشير عليك أن تنظر ما أسخطهم فترضيهم، ثم تخرج لهم هذا المال فيقسم بينهم. ثم قام عمرو بن العاص فقال: يا عثمان؛ إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية، فقلت وقالوا، وغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزمًا، وامض قدمًا؛ فقال له عثمان: مالك قمل فروك! أهذا الجدّ منك! فأسكت عمرو حتى إذا تفرٌّوا قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أكرم عليَّ من ذلك، ولكني قد علمت أنّ بالباب قومًا قد علموا أنك جمعتنا لنشير عليك، فأحببت أن يلغهم قول، فأقود لك خيرًا، أو أدفع عنك شرًّا. فردّ عثمان عمّاله على أعمالهم، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث، وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه، ويحتاجوا إليه، وردّ سعيد بن العاص أميرًا على الكوفة، فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح، فتلقَّوه فردّوه، وقالوا: لا والله لا بلى علينا حكمًا ما حملنا سيوفنا. حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي بن حسين، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن أبي يحيى عمير بن سعد النخعي، أنه قال: كأني أنظر إلى الأشتر مالك بن الحارث النَّخعي على وجهه الغبار، وهو متقلد السيف، وهو يقول: والله لا يدخلها عليها ما حملنا سيوفنا - يعني سعيدًا، وذلك يوم الجرعة، والجرعة مكان مشرف قرب القادسيّة - وهناك تلقاه أهل الكوفة. حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن هارون بن سعد، عن عمرو بن مرّة الجملي، عنأبي البختري الطائي، عن أبي ثور الحداثي - وحداء حيٌّ من مراد - أنه قال: دفعت إلى حذيفة بن اليمان وأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري وهما في مسجد الكوفة يوم الجرعة، حيث صنع الناس بسعيد بن العاص ما صنعوا، وأبو مسعود يعظم ذلك، ويقول: ما أرى أن تردّ على عقبيها حتَّى يكون فيها دماء، فقال حذيفة: والله لتردّنّ على عقبيها، ولا يكون فيها محجمة من دم، وما أعلم منها اليوم شيئًا إلّا وقد علمته ومحمد ﷺ حي؛ وإنّ الرجل ليصبح على الإسلام ثم يمسي وما معه منه شيء، ثم يقاتل أهل القبلة ويقتله الله غدًا، فينكص قلبه، فتعلوه استه. فقلت لأبي ثور: فلعلّه قد كان، قال: لا ولله ما كان. فلما رجع سعيد بن العاص إلى عثمان مطرودًا، أرسل أبا موسى أميرًا على الكوفة، فأقرُّوه عليها. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن يحيى بن مسلم، عن واقد بن عبد الله، عن عبد الله بن عمير الأشجعي، قال: قام في المسجد في الفتنة ففال: أيّها لاناس، اسكتوا، فإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: من خرج وعلى الناس إمام - والله ما قال: عادل - ليشقّ عصاهم، ويفرّق جماعتهم، فاقتلوه كائنًا من كان. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما استعوى يزيد بن قيس الناس على سعيد بن العاص، خرج منه ذكر لعثمان؛ فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه، فقال: ما تريد؟ ألك علينا في أن نستعفي سبيل؟ قال: لا، فهل إلّا ذلك؟ قال: لا، قال: فاستعف. واستجلب يزيد أصحابه من حيث كانوا، فردّوا سعيدًا، وطلبوا أبا موسى، فكتب إليهم عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنّكم عرضي، ولأبذلنّ لكم صبري، ولأستصلحنّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئًا أحببتموه لا يعصي الله فيه إلّا سألتموه، ولا شيئًا كرهتموه لا يعصي الله فيه إلّا استعفيتم منه؛ أنزل فيه عندما أحببتم، حتى لايكون لكم علي حجّة. وكتب بمثل ذلك في الأمصار، فقدمت إمارة أبي موسى وغزو حذيفة وتأمّر أبو موسى، ورجع العمَّال إلى أعمالهم، ومضى حذيفة إلى الباب. وأما الواقدي فإنه زعم أن عبد الله بن محمد حدثه، عن أبيه، قال: لما كانت سنة أربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله ﷺ بعضهم إلى بعض: أن اقدموا، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد وكثّر الناس على عثمان، ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وأصحاب رسول الله ﷺ يرون ويسمعون؛ ليس فيهم أحد ينهي ولا يذبّ إلّا نفير؛ منهم زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت. فاجتمع الناس، وكلّموا علي بن أبي طالب. فدخل علي عثمان، فقال: الناس ورائي، وقد كلّموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئًا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه؛ إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه، وما خصصنا بامر دونك، وقد رأيت وسمعت، وصحبت رسول الله ﷺ ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بألوى بعمل الحقّ منك، ولا بان الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنك أقرب إلى رسول الله ﷺ رحمًا، ولقد نلت من صهر رسول الله ﷺ ما لم ينالا، ولا سبقاك إلى شيء. فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر منعمي، ولا تعلَّم من جهل، وإنّ الطريق لواضح بيّن، إنّ أعلام الدين لقائمة. تعلَّم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هدى وهدى، فأقام سنّةً معلومة، وأمات بدعة متروكة، فو الله إنّ كلًّا لبيِّن، وإن السُّننن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شرّ الناس عند الله إمام جائر، ضلّ وضلَّ به، فأمات سنَّة معلومة، وأحيا بدعة متروكة، وإنّي سمعت رسول الله ﷺ يقول: يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في جهنم، فيدور في جهنم كما تدور الرحا، ثم يرتطم فيغمرة جهنم. وإني أحذّرك الله، وأحذّرك سطوته ونقامته؛ فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إما هذه الأمة المقتول، فإنه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ولبسَّ أمورها عليها، ويتركهم شعيًا، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ بالباطل؛ بموجون فيها موجًا، ويمرجون فيها مرجًا. فقال عثمان: قد والله علمت، ليقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني مما عنّفتك، ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت منكرًا أن وصلت رحمًا، وسددت خلّة، وآويت ضائعًا، وولّيت شبيهًا بمن كان عمر يولِّي. أنشدك الله يا علي، هل تعلم أنّ المغيرة بن شعبة ليس هناك! قال: نعم؛ قال: فتعلم أنّ عمر ولّاه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني أن ولّيت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: سأخبرك، إنّ عمر ابن الخطاب كان كلُّ من ولي فإنما يطأ على صماخه، إنْ بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغابة؛ وأنت لا تفعل، ضعفت ورفقت على أقربائك. قال عثمان: هم أقرباؤك أيضًا. فقال علي: لعمري إنّ رحمهم منِّي لقريبة، ولكنّ الفضل في غيرهم؛ قال عثمان: هل تعلم أنّ عمر ولي معاوية خلافته كلَّها؟ فقد وليّيته. فقال علي: أنشدك الله هل تعلم أنّ معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال علي: فإنّ معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان، فيبلغك ولا تغيّر على معاوية. ثم خرج علي من عنده، وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنر، فقال: أمّا بعد، فإنّ لكلّ شيء آفة، ولكّ أمر عاهة، وإنّ آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة، عيّابون طعّانون، يرونكم ما تحبّو ويسرّون ما تكرهون؛ يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتعبون أوّلأ ناقع؛ أحبُّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلّا نغصا ولا يردون إلّا عكرًا، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور، وتتعذّرت عليهم المكاس. ألا فقد والله عبتم علي بما أقررتم لابن الخطاب مثله، ولكنّه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنستم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنت لكم، وأوطأت لكم كتفي، وكفففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعزّ نفرًا، وأقرب ناصرًا وأكثر عددًا، وأقمن إن قلت هلمّ أتي إلي؛ ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولًا، وكثرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقًا لم أكن أحسنه، ومنطقًا لم أنطق به، فكفّوا عليكم ألسنتكم، وطعنكم وعيبكم على ولاتك، فإني قد كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ من كان قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فضل فضل منمال؛ فما لي لا أصنع في الفضل ماأريد! فلم كنت إمامًا! فقام مروان ابن الحكم، فقال: إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قال الشاعر: فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم ** معارسكم تبنون في دمن الثَّرى فقال عثمان: اسكت لاسكتَّ، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا! ألم أتقدّم إليك ألَا تنطق! فسكت مروان، ونزل عثمان. وفي هذه السنة مات أبو عبس بن جبر بالمدينة، وهو بدري. ومات أيضًا مسطح بن أثاثة، وعاقل بن أبي البكير من بني سعد بن ليث، حلف لبني عدي، وهما بدريّان. وحجّ بالناس في هذه السنة عثمان بن عفان رضي الله عنه. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك نزول أهل مصر ذا خشب، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بنعيسى، عن أبي معشر، قال: كان ذو خشب سنة خمس وثلاثين، وكذلك قال الواقدي. ذكر مسير من سار إلى ذي خشب من أهل مصر وسبب مسير من سار إلى ذي المروة من أهل العراق فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد القعسي، قال: كان عبد الله بن سبأ يهوديًّا من أهل صنعاء، أمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقّل في بلدان المسلمين، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشأم، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشأم، فأخرجوه حتى أتى مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذّب بأنّ محمدًا يرجع، وقد قال الله عز وجل: " إنّ الّذي فرض عيك القرآن لرادُّك إلى معاد ". فمحمد أحقّ بالرجوع من عيسى. قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلموا فيها. ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكلّ نبي وصي، وكان علي وصيَّ محمد؛ ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصيّة رسول الله ﷺ ووثب على وصي رسول الله ﷺ، وتناول أمر الأمّة! ثم قال لهم بعد ذلك: إنّ عثمان أخذها بغير حقّ، وهذا وصي رسول الله ﷺ، فانهضوا في هذا الأمر فحرّكوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر. فبثّ دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصر وكاتبوه، ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كلّ مصر منهم إلى مصر آخر ما يصنعون؛ فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرّون غير ما يبدون، فيوقل أهل كلّ مصر: إنّا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء، إلّا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا إنا لفي عافية مما فيه الناس، وجامعه محمد وطلحة من هذا المكان، قالوا: فأتوا عثمان، فقالوا: ميا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلّا السلامة، قالوا: فإنا قد أتانا.. وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم؛ قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي؛ قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالًا ممن تثق بهم إلى المصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم. فدعا محمّد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشأم، وفرّق رجالًا سواهم، فرجعوا جميعًا قبل عمّار، فقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئًا، ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامُّهم؛ وقالوا جميعًا: الأمر أمر المسلمين، إلّا أنّ أمراءهم ميقسطون بينهم، ويقومون عليهم. واستبطأ الناس عمّارًا حتى ظنوا أنه قد اغتيل، فلم يفجأهم إلّا كتاب من عبد الله ابن سعد بن أبي سرح يخبرهم أنّ عمارًا قد استماله قوم بمصر، وقد انقطعوا إليه؛ منهم عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وعطيّة، قالوا: كتب عثمان إلى أهل الأمصار، أمّا بعد، فإني آخذ العمال بموافاتي في كلّ موسم، وقد سلّطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع علي شيء ولا على أحد من عمالي إلّا أعطيته، وليس لي ولعيالي حقّ قبل الرعيّة إلّا متروك لهم، وقد رفع إلي أهل المدينة أنّ أقوامًا يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضرب سرًّا، وشتم سرًّا، من ادّعى شيئًا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقّه حيث كان؛ منّي أو من عمالي، أو تصدّقوا فإن الله يجزي المتصدّقين. فلما قرىء في الأمصار أبكي الناس، ودعوا لعثمان وقالوا: إنّ المة لتمخَّض بشرّ. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه: عبد الله بن عامر، ومعاوية، وعبد الله بن سعد؛ وأدخل معهم في المشورة سعيدًا وعمرًا، فقال: ويحكم! ما هذه الشاكية؟ وما هذه الإذعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقًا عليكم، وما يعصب هذا إلّا بي؛ فقالوا له: أمل تبعث! لم نرجع إليك الخبر عن القوم! ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء! لا والله ما صدقوا ولا برّوا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلًا، وما كنت لتأخذ به أجدًا فيقيمك على شيء؛ وما هي إلا إذاعة لا يحلّ الأخذ بها، ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا علي؛ فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السرّ، فيلقى به غير ذي المعرفة، فيخبر به، فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم؛ فإنه خير من أن تدعهم. قال معاوية: قد ولّيتني فوليت قومًا لا يأتيك عنهم إلا الخبر، والرّجلان أعلم بناحيتيهما؛ قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب، قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة مصاحبيك، فتشتدَّ في موضع الشدّة، وتلين في موضع اللين. إن الشدّة تنبغي لمن لا يألوا الناس شرًّا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعًا اللين. وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كلّ ما أشرتم به علي قد سمعت، ولكلّ أمر باب يؤتي منه؛ إنّ هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإنّ بابه الذي يغلق عليه فكيفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلّا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدهما، فإن سدّه شيء فرفق، فذاك والله ليفتحنّ، وليست لأحد عليَّ حجة حقّ، وقد علم الله أنّي لم آل الناس خيرًا، ولا نفسي. ووالله إن رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها. كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها. فلما نفر عثمان أشخص معاوية وعبد الله بن سعد إلى المدينة، ورجع ابن عامر وسعيد معه. ولما استقلّ عثمان رجز الحادي: قد علمت ضوامر المطيِّ ** وضامرات عوج القيَِ أنَّ الأمير بعده عليُّ ** وفي الزُّبير خلف رضيُّ فقال كعب وهو يسير خلف عثمان: الأمير والله بعده صاحب البغلة - وأشار إلى معاوية. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن الخليل بن عثمانبن قطبة الأِسدي، عن رجل من بني أسد، قال: ما زال معاوية يطمع فيها بعد مقدمه على عثمان حين جمعهم، فاجتمعوا إليه بالموسم، ثم ارتحل، فحدا به الراجز: إن الأمير بعده عليُّ ** وفي الزبي رخلف رضُّ قال كعب: كذبت! صاحب الشَّهباء بعده - يعني معاوية - فأخبر معاوية، فسأله عن الذي بلغه، قال: نعم، أنت الأمير بعده، ولكنّها والله لا تصل إليك حتى تكذّب بحديثي هذا. فوقعت في نفس معاوية. وشاركهم في هذا المكان أبو حارثة وأبو عثمان، عن رجاء بن حيوة وغيره. قالوا: فما ورد عثمان المدينة ردّ الأمراء إلى أعمالهم، فمضوا جميعًا، وأقام سعيد بعدهم، فلما ودّع معاوية عثمان خرج من عنده وعليه ثياب السفر متقلدًا سيفه، متنكّبًا قوسه، فإذا هو بنفر من المهاجرين، فيهم طلحة والزبير وعلي، فقام عليهم، فتوكّأ على قوسه بعد ما سلم عليهم، ثم قال: إنّكم قد علمتم أنّ هذا الأمر كان إذ الناس يتغالبون إلى رجال، فلم يكن منكم أحد إلّا وفي فصيلته من يرئسه، ويستبدّ عليه، ويقطع الأمر دونه، ولا يشهده، ولا يؤامره، حتى بعث الله جلّ وعزّ نبيَّه ﷺ، وأكرم به من اتبعه؛ فكانوا يرئِّسون من جاء من بعده، وأمرهم شورى بينهم، يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد؛ فإن أخذوا بذلك وقاموا عليه كان الأمر أمرهم، والناس تبع لهم، وإن أصغوا إلى الدنيا وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك، وردّه الله إلى ما كان يرئسهم. وإلّا فليحذروا الغير، فإنّ الله على البدل قادر، وله المشيئة في ملكه وأمره. إنّي قد خلّفت فيكم شيخًا فاستوصوا به خيرًا، وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك. ثم ودّعهم ومضى؛ فقال علي: ما كنت أرى أنّ في هذا خبرًا؛ فقال الزبير: لا والله، ما كان قطّ أعظم في صدرك وصدورنا منه الغداة. حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوبه، قال: حدثني أبي، قال: حدّثني عبد الله، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى بن طلحة، قال: أرسل عثمان إلى طلحة يدعوه؛ مفخرجت معه حتى دخل علي عثمان، وإذ عليُّ وسعد والزبير وعثمان ومعاوية، فحمد الله معاوة وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله ﷺ، وخبرته في الرض، وولاة أمر هذه الأمة، لا يطمع في ذلك أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبرت سنُّه، وولّى عمره، ولو انتظرتم به الهرم كان قريبًا؛ مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغ به ذلك، وقد فشت قالة خفتها عليكم، فما عتبتم فيه من شيء فهذه يدي لكم به، ولا تطمعوا الناس في أمركم، فو الله لئن طمعوا في ذلك لا رأيتم فيها أبدًا إلا إدبارًا. قال علي: ومالك وذلك! وما أدراك لا أمَّ لك! قال: دع أمّي مكانها، ليست بشرّ أمّهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبييَّ ﷺ، وأجبني فيما أقول لك. فقال عثمان: صدق ابن أخي، إنّي أخبركم عني وعمّا وليت، إنّ صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتسابًا، وإنّ رسول الله ﷺ كان يعطي قرابته، وأنا في رهط أهل عيلة، وقلّة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال، لمكان ما أقوم به فيه، ورأيت أنّ ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأ فردّوه، فأمري لأمركم تبع. قالوا: أصبت وأحسنت؛ قالوا: أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد ومروان - وكانوا يزعمون أنه أعطى مروان خمسة عشر ألفًا، وابن أسيد خمسين ألفًا - فردّوا منهما ذلك، فرضوا وقبلوا، وخرجوا راضين. رجع الحديث إلى حديث سيف، عن شيوخه وكان معاوية قد قال لعثمان غداة ودّعه وخرج: يا أمير المؤمنين، انطلق معي إلى الشأم قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإنّ أهل الشأم على الأمر لم يزالوا. فقال: أنا لا أبيع جوار رسول الله ﷺ بشيء؛ وإن كان فيه قطع خيط عنقي. قال: فأبعث إليك جندًا منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك. قال: أنا أقتِّر على جيران رسول الله ﷺ الأرزاق بجند تساكنهم، وأضيّق على أهل دار الهجرة والنصرة! قال: والله يا أمير المؤمنين، لتغتالنَّ أو لتغزينّ؛ قال: حسبي الله ونعم الوكيل. وقال معاوية: يا أيسار الجزور، وأين أيسار الجزور! ثم خرج حتى وقف على النفر، ثم مضى. وقد كان أهل مصر كاتبوا أشياعهم من أهل الكوفة وأهل البصرة وجميع من أجابهم أن يثوروا خلاف أمرائهم. واتّعدوا يومًا حيث شخص أمراؤهم، فلم يستقم ذلك لأحد منهم، ولم ينهض إلا أهل الكوفة، فإنّ يزيد بن قيس الأرحي ثار فيها، واجتمع إليه أصحابه، وعلى الحرب يومئذ القعقاع بن عمر - فأتاه فأحاط النَّاس بهم وناشدوهم؛ فقال يزيد للقعقاع: ما سبيلك علي وعلى هؤلاء! فو الله إني لسامع مطيع، وإني للازم لجماعتي إلا أنّي أستعفي ومن ترى من إمارة سعيد، فقال: استعفي الخاصة من أمر قد رضيته العامة؟ قال: فذاك إلى أمير المؤمني. فتركهم والاستعفاء، ولم يستطيعوا أن يظهروا غير ذلك، فاستقبلوا سعيدًا، فردّوه من الجرعة، واجتمع الناس على أبي موسى، وأقرّه عثمان رضي الله تعالى عنه. ولما رجع الأمراء لم يكن للسّبئيّة سبيل إلى الخروج إلى الأمصار، وكاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافوا بالمدينة لنيظروا فيما يريدون، وأظهروا أنهم يأمرون بالمعروف، ويسألون عثمان عن أشياء لتطير في الناس، ولتحقَّق عليه؛ فتوافوا بالمدينة، وأرسل عثمان رجلين: مخزوميًّا وزهريًّا، فقال: انظروا ما يريدون، واعلما علمهم - وكانا ممن قد ناله من عثمان أدبفاصطبرا للحقّ، ولم يضطغنا - فلما رأوهما باثّوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة؟ قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلّا؟ قالوا لا! قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس، ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قرّرناه بها، فلم يخرج منها ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجّاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه. وكانت إيّاها، فرجعا إلى عثمان بالخبر، فضحك وقال: اللهمّ سلّم هؤلاء، فإنك إن لم تسلّمهم شقوا. أمّا عمار فحمل على عباس بن عتبة بن أبي لهب وعركه. وأما محمّد ابن أبي بكر فإنه أعجب حتى رأى أنّ الحقوق لا تلزمه، وأمّا ابن سهلة فإنه يتعرّض للبلاء. فأرسل إلى الكوفيين والبصريّين، ونادى: الصلاة جامعة! وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله ﷺ حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وقام الرجلان، فقالوا جميعًا: اقتلهم، فإنّ رسول الله ﷺ قال: " من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله فاقتلوه ". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أحلّ لكم إلّا ما قتلتموه وأنا شريككم. فقال عثمان: بل نعفو ونقبل ونبصّرهم بجهدنا، ولا نحادّ أحدًا حتى يركب حدًّا، أو يبدي كفرًا. إنّ هؤلاء ذكروا أمورًا قد علموا منها مثل الذي علمتم، إلّا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبوها علي عند من لا يعلم. وقالوا: أتمّ الصلاة في السفر، وكانت لا تتمّ، ألا وإنّي قدمت بلدًا فيه أهلي، فأتممت لهذين الأمرين؛ أو كذلك؟ قالوا: اللهمّ نعم. وقالوا: وحميت حمىً؛ وإني والله ما حميت، حميَ قبلي، والله ما حموا شيئًا لأحد ما حموا إلّا غلب عليه أهل المدينة، ثم لم يمنعوا من رعية أحدًا، واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، ثم ما منعوا ولا نحّوا منها أحدًا إلّا من ساق درهمًا؛ ومالي من بعير غير راحلتين، ومالي ثاغية ولا راغية، وإنّي قد ولّيت، وإنّي أكثر العرب بعيرًا وشاءً، فمالي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجّي، أكذلك؟ قالوا: اللهمّ نعم. وقالوا: كان القرآن كتبًا، فتركتها إلّا واحدًا. ألا وإنّ القرآن واحد، جاء من عند واحد؛ وإنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء؛ أكذلك؟ قالوا: نعم، وسألوه أن يقيلهم. وقالوا: إنّي رددت الحكم وقد سيّره رسول الله ﷺ، والحكم مكي، سيّره رسول الله ﷺ من مكة إلى الطائف، ثم ردّه رسول الله ﷺ؛ فرسول الله ﷺ سيّره، ورسول الله ﷺ ردّه؛ أكذلك؟ قالوا: اللهمّ نعم. وقالوا: استعملت الأحداث. ولم أستعمل إلّا مجتمعًا محتملًا مرضيًّا، وهؤلاء أهل عملهم، فسلوهم عنه، وهؤلاء أهل بلده، ولقد ولّى من قبلي أحدث منهم، وقيل في ذلك لرسول الله ﷺ أشدّ مما قيل لي في استعماله أسامة؛ أكذاك؟ قالوا: اللهمّ نعم، يعيبون للناس ما لا يفسّرون. وقالوا: إنّي أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه. وإني إنما نقلته خمس ما أفاء الله عليه من الخمس، فكان مائة ألف، وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك، فرددته عليهم وليس ذاك لهم، أكذاك؟ قالوا: نعم. وقالوا: إني أحبّ أهل بيتي وأعطيهم؛ فأما حبّي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأمّا إعطاؤهم فإني ما أعطيهم من مالي، ولا أستحلّ أموال المسلمين لنفسي؛ ولا لأحد من الناس؛ ولقد كنت أعطي العطيّة الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفنيَ عمري، وودّعت الذي لي في أهلي، قال الملحدون ما قالوا! وإني والله ما حملت على مصرٍ من الأمصار فضلًا فيجوز ذلك لمن قاله؛ ولقد رددته عليهم، وما قدم علي إلا الأخماس، ولا يحلّ لي منها شيء؛ فولي المسلمون وضعها في أهلها دوني؛ ولا يتلفّت من مال الله بفلس فما فوقه؛ وما أتبلّغ منه ما آكل إلّا مالي. وقالوا: أعطيت الأرض رجالًا؛ وإنّ هذه الأرضين شاركهم فيها المهاجرون والأنصار أيام افتُتحت؛ فمن أقام بمكان من هذه الفتوح فهو أسوة أهله، ومن رجع إلى أهله لم يذهب ذلك ما حوى الله له؛ فنظرت في الذي يصيبهم مما أفاء الله عليهم فبعته لهم بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب فنقلت إليهم نصيبهم، فهو في أيديهم دوني. وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أميّة، وجعل لوده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب، ولانت حاشية عثمان لأولئك الطوائف، وأبى المسلمون إلّا قتلهم، وأبى إلَا تركهم؛ فذهبوا ورجعوا إلى بلادهم على أن يغزوه مع الحجّاج كالحجّاج؛ فتكاتبوا وقالوا: موعدكم ضواحي المدينة في شوّال؛ حتى إذا دخل شوّال من سنة اثنتي عشرة، ضربوا كالحجّاج فنزلوا قرب المدينة. كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما كان في شوال سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربع رفاق على أربعة أمراء؛ المقلّل يقول: ستمائة، والمكثّر يقول: ألف. على الرفاق عبد الرحمن بن عديس البلوي، وكنانة بن بشر التجيبي، وعروة بن شيبم الليثي، وأبو عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي وسواد بن رومان الأصبحي، وزرع بن يشكر اليافعي، وسودان ابن حمران السكوني، وقتيرة بن فلان السكوني، وعلى القوم جميعًا الغافقي بن حرب العكّي، ولم يتجترئوا أن يعلموا الناس بخروجهم إلى الحرب؛ وإنما أخرجوا كالحجّاج، ومعهم ابن السوداء. وخرج أهل الكفة في أربع رفاق، وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصمّ، أحد بني عامر بن صعصعة؛ وعددهم كعدد أهل مصر؛ وعليهم جميعًا عمرو بن الأصمّ. وخرج أهل البصرة في أربع رفاق، وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي، وذريح ابن عبّاد العبدي، وبشر بن شريح الحجطم بن ضبيعة القيسي وابن المحرّش ابن عبد بن عمرو الحنفي وعددهم كعدد أهل مصر، وأميرهم جميعًا حرقوص ابن زهير السعدي، سوى من تلاحق بهم من الناس. فأمّا أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليًّا، وأمّا أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون طلحة، وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير. فخرجوا وهم على الخروج جميع. وفي الناس شتى؛ لا تشكّ كلّ فرقة إلّا أنّ الفلج معها، وأنّ أمرها سيتمّ دون الأخريين؛ فخرجوا حتى إذا كانوا من المدينة على ثلاث تقدّم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامّتهم بذي المروة. ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصمّ، وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد؛ فإنه بلغنا أنهم قد عسكروا لنا؛ فوالله إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلّوا قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا علمنا أشدّ؛ وإنّ أمرنا هذا لباطل؛ وإن لم يستحلّوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلًا لنرجعنّ إليكم بالخبر. قالوا: اذهبا، فدخل الرجلان فلقيا أزواج النبي ﷺ وعليًّا وطلحة والزبير، وقالا: إنما نأتمّ هذا البيت، ونستعفي هذا الوالي من بعض عمّالنا، ما جئنا إلّا لذلك، واستأذناهم للناس بالدخول، فكلّهم أبى، ونهى وقال: بيض ما يفرخنّ، فرجعا إليهم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عليًّا ومن أهل البصرة نفرٌ فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير؛ وقال كلّ فريق منهم: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرّقنا جماعتهم؛ ثم كررنا حتى نبغتهم؛ فأتى المصريون عليًّا وهو في عسكر عند أحجار الزيت؛ عليه حلّة أفواف معتمّ بشقيقة حمراء يمانية، متقلّد السيف، ليس عليه قميص، وقد سرّح الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه. فالحسن جالس عند عثمان، وعلي عند أحجار الزيت، فسلم عليه المصريون وعرّضوا له؛ فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وذي خشب ملعونون على لسان محمد ﷺ، فارجعوا لا صحبكم الله! قالوا: نعم، فانصرفوا من عنده على ذلك. وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى جنب علي؛ وقد أرسل ابنيه إلى عثمان، فسلّم البصريّون عليه وعرَضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمّد ﷺ. وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى؛ وقد سرّح ابنه عبد الله إلى عثمان، فسلموا عليه وعرّضوا له، فصاح بهم واطّردهم، وقال: لقد علم المسلمون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد ﷺ، فخرج القوم وأروهم أنهم يرجعون؛ فانفشّوا عن ذي خشب والأعوص، حتى انتهوا إلى عساكركم؛ وهي ثلاث مراحل؛ كي يفترق أهل المدينة، ثم يكرُّوا مراجعين. فافترق أهل المدينة لخروجهم. فلما بلغ القوم عساكرهم كرُّوا بهم، فبغتوهم، مفلم يفجأ أهل المدينة إلا والتكبير في نواحي المدينة، فنزلوا في مواضع عساكرهم، وأحاطوا بعثمان، وقالوا: من كفّ يده فهو آمن. وصلَّى عثمان بالناس أيامًا؛ ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدًا من كلام، فأتاهم الناس فكلّموهم، وفيهم علي، فقال: ما مردّكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا؛ وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا؛ كأ، ما كانوا على ميعاد. فقال لهم علي: كيف علمتم يا مأهل الكوفة ويا أهل البصرة بما ملقي أهل مصر؛ وقد سرتم مراحل؛ ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة! نقالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزلنا. وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدقّ من التراب؛ وكانوا لا يمنعون أحدًا من الكلام، وكانوا زمرًا بالمدينة، يمنعون الناس من الاجتماع. وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدّهم: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد؛ فإنّ الله عز وجل بعث محمدًا بالحق بشيرًا ونذيرًا، فبلّغ عن الله ما أمره به، ثم مضى وقد قضى الذي عليه؛ وخلَّف فينا كتابه، فيه حلاله وحرامه، وبيان الأمور التي قدّر، فأمضاها على ما أحبّ العباد وكرهوا، فكان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه، مثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا مسألة عن ملإ من الأمة، ثم أجمع أهل الشورى عن ملإ منهم ومن الناس علي، على غير طلب مني ولا محبة؛ فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون، تابعًا غير مستتبع، متّبعًا غير مبتدع، مقتديًا غير متكلف. فلما انتهت الأمور، وانتكث الشرُّ بأهله؛ بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلّا إمضاء الكتاب؛ فطلبوا أمرًا وأعلنوا غيره بغير حجّة ولا عذر، فعابوا علي أشياء مما كانوا يرضون، وأشياء عن ملإ من أهل المدينة لا يصلح غيرها؛ فصبرت لهم نفسي وكففتها عنهم منذ سنين وأنا أرى وأسمع؛ فازدادوا على الله عز وجل جرأة، حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله ﷺ وحرمه وأرض الهجرة، وثابت إليهم الأعراب؛ فهم كالأحزاب أيّام الأحزاب أو من غزانا بأحد إلّا ما يظهرون؛ فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق. فأتى الكتاب أهل الأمصار، فخرجوا على الصعبة والذّلول؛ فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعيد معاوية بن حديج السَّكوني، وخرج من أهل الكوفة القعقاع بن عمرو. وكان المحضّضين بالكوفة على إعانة أهل المدينة عقبة بن عمرو وعبد الله ابن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي، في أمثالهم من أصحاب النبي ﷺ. وكان المحضّضين بالكوفة من التابعين أصحاب عبد الله سرق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وشريح بن الحارث، وعبد الله بن عكيم؛ في أمثالهم؛ يسيرون فيها، ويطوفون على مجالسها؛ يقولون: يأيها الناس؛ إنّ الكلام اليوم وليس به غدًا، وإنّ النظر يحسن اليوم ويقبح غدًا، وإنّ القتال يحلّ اليوم ويحرم غدًا، انهضوا إلى خليفتكم، وعصمة أمركم. وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك، وهشام بن عامر في أمثالهم من أصحاب النبي ﷺ يقولون مثل ذلك، ومن التابعين كعب بن سور وهرم بن حيّان العبدي، وأشباه لهما يقولون ذلك! وقام بالشأم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة في أمثالهم من أصحاب النبي ﷺ يقولون مثل ذلك؛ ومن التابعين شريك بن خباشة النُّميري، وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم بمثل ذلك، وقام بمصر خارجة في أشباه له؛ وقد كان بعض المحضّضين قد شهد قدومهم، فلمَّا رأوا حالهم انصرفوا إلى أمصارهم بذلك وقاموا فيهم. ولما جاءت الجمعة لاتي على أثر نزول المصريين مسجد رسول الله ﷺ خرج عثمان فصلَّى بالناس ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء العدي، الله الله! فو الله؛ إنّ أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد ﷺ؛ فامحوا الخطايا بالصواب؛ فإن الله عز وجل لا يمحو السيّء إلّا بالحسن. فقام محمد بن مسلمة، فقال: أنا أشهد بذلك، فأخذه حكيم بن جبلة فأقعهد، فقام زيد بن ثابت فقال: ابغني الكتاب، فثار إليه من ناحية أخرى محمد بن أبي قتيرة فأقعده؛ وقال فأفضع؛ وثار القوم بأجمعهم، فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشيًّا عليه، فاحتمل فأدخل داره، وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن يساعدهم إلّا في ثلاثة نفر؛ فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة، وعمَّار بن ياسر؛ وشمّر أناس من الناس فاستقتلوا؛ منهم سعد بن مالك، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، والحسن بن علي؛ فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا فانصرفوا، وأقبل عليٌّ عليه السلام حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل على عثمان، وأقبل طلحة حتى دخل عليه، وأقبل الزبير حتى دخل عليه؛ يعودونه من صرعته؛ ويشكون بثّهم، ثم رجعوا إلى منازلهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي عمرو، عن الحسن، قال: قلت له: هل شهدت حصر عثمان؟ قال: نعم؛ وأنا يومئذ مغلام في أتراب لي في المسجد، فإذا كثر اللغط جثوت على ركبتي أو قمت؛ فأقبل القوم حين أقبلوا حتى نزلوا المسجد وما حوله؛ فاجتمع إليهم أناس من أهل المدينة، يعظمون ما صنعوا. وأقبلوا على أهل المدينة يتوعّدونهم؛ فبينا هم كذلك في لغطهم حول الباب، فطلع عثمان؛ فكأنما كانت نار طفئت، فعمد إلى المنبر فصعده فحمد الله وأثنى عليه، فثار رجل، فأقعده رجل، وقام آخر فأقعده آخر، ثم ثار القوم فحصبوا عثمان حتى صرع، فاحتمل فأدخل، فصلى بهم عشرين يومًا، ثم منعوه من الصلاة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: صّلي عثمان بالناس بعد ما نزلوا به في المسجد ثلاثين يومًا، ثم إنهم منعوه الصلاة، فصلّى بالناس أميرهم الغافقي، دان لها المصريون والكوفيّون والبصريون، وتفرّق أهل المدينة في حيطانهم، ولزموا بيوتهم، لا يخرج أحد ولا يجلس إلّا وعليه سيفه يمتنع به من رهق القوم وكان الحصار أربعين يومًا، وفيهنّ كان القتل، ومن تعرَض لهم وضعوا فيه السلاح، وكانوا قبل ذلك ثلاثين يومًا يكفّون. وأما غير سيف فإنّ منهم من قال: كانت مناظرة القوم عثمان وسبب حصارهم إيّاه ما حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معمر بن سليمان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو نضرة، عنأبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري. قال: سمع عثمان أنّ وفد أهل مصر قد أقبلوا، قال: فاستقبلهم، وكان في قرية له خارجة من المدينة - أو كما قال - فلمّا سمعوا به، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه - قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة أو نحوًا من ذلك - قال: فأتوه، فقالوا له: ادع بالمصحف، قال: فدعا بالمصحف، قال: فقالوا له: افتح التاسعة - قال: وكانوا يسمون سورة يونس التاسعة - قال: فقرأها حتى أتى على هذه الآية: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون ". قال: قالوا له: قف، فقالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى؟ آلله أذن لك أم على الله تفتري! قال: فقال: امضه؛ نزلت في كذا وكذا. قال: وأما الحمى فإنّ عمر حمى الحمى قبل لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى لما زاد في إبل الصدقة، امضهه. قال: فجعلوا يأخذونه بالآية، فيقول: امضه، نزلت في كذا وكذا - قال: والذي يتولى كلام عثمان يومئذ في سنّك، قال: يقول أبو نضرة، يقول ذاك لي أبو سعيد، قال أبو نضرة: وأنا في سنك يومئذ، قال: ولم يخرج وجهي يومئذ، لا أدري، ولعله قد قال مرة أخرى: وأنا يومئذ ابن ثلاثين سنة - ثم أخذوه بأشياء لم يكن عنده منها مخرج. قال: فعرفها، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه. قال: فقال لهم: ما تريدون؟ قال: فأخذوا ميثاقه - قال: وأحسبه قال: وكتبوا عليه شرطًا - قال: وأخذ عليهم ألَّا يشقوا عصًا، ولا يفارقوا جماعة ما قام لهم بشرطهم - أو كما أخذوا عليه - قال: فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: نريد ألّا يأخذ أهل المدينة عطاء، فإنما هذا لامال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله ﷺ. قال: فرضوا بذلك، وأقبلوا معه إلى المدينة راضين. قال: فقام فخطب، فقال: إني ما رأيت والله وفدًا في الأرض هم خير لحوباتي من هذا الوفد الذين قدموا علي. وقد قال مرّة أخرى: خشيت من هذا الوفد من أهل مصر، ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليحتلب؛ ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه ولهؤلاء الشيوخ من أصحاب رسول الله ﷺ. قال: فغضب الناس، وقالوا: هذا مكر بني أميّة. قال: ثم رجع الوفد المصريون راضين؛ فبيناهم في الطريق إذا هم براكب يتعرّض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم، ثمّ يفارقهم ويتبيَّنهم. قال: قالوا له: مالك؟ إن لك لأمرًا! ما شأنك؟ قالك فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر؛ ففتَّشوه؛ فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان، عليه خاتمه إلى عامله بمصر أن يصلّبهم أو يقتلهم مأو يقطّع أيديهم وأرجلهم من خرف. قال: فأقبلوا حتى قدموا المديمة، قال: فأتوا عليًّا، فقالوا: ألم تر إلى عدوّ ه! إنه كتب فينا بكذا وكذا؛ وإنّ الله قد أجلّ دمه، قم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم؛ إلى أن قالوا: فلم كتبت إلينا؟ فقال: والله ما كتبت إليكم كتابًا قطّ؛ قال: فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قال بعضهم لبعض: ألهذا تقاتلون، أو لهذا تغضبون! قال: فانطلق علي، فخرج من المدينة إلى قرية. قال: فانطلقوا حتى دخلوا على عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا! قال: فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إليه إلّا هو ما كتبت ولا أمللت ولا علمت. قال: وقد تعلمون أنّ الكتاب يكتب على لسان الرجل، وقد ينقش الخاتم على الخاتم. قال: فقالوا: فقد والله أحلّ الله دمك، ونقضت العهد والميثاق. قال: فحاصروه. وأمّا الواقدي فإنه ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أمورًا كثيرة، منها ما قد تقدّم ذكريه؛ ومنها ما أعرضت عن ذكره كراهة مني لبشاعته. ومنا ما ذكر أنّ عبد الله بن جعفر حدثه عن أبي عون مولى المسور، قال: كان عمرو بن العاص على مصر عاملًا لعثمان؛ فعزله عن الخراج، واستعمله على الصلاة، واستعمل عبد مه بن سعيد على الخراج؛ ثم جمعهما لعبد الله بن سعد، فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان، فأرسل إليه يومًا عثمان خاليًا به، فقال: يابن النابغة، ما أسرع ما قمل جربّان جبّتك! إنما عهدك بالعمل عامًا أوّل. أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بآخر! والله لولا أكلة ما فعلت ذلك. قال: فقال عمرو: إنّ كثيرًا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل؛ فاتّق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك! فقال عثمان: والله لقد استعملتك على طلعك، وكثرة القالة فيك. فقال عمرو: قد كنت عاملًا لعمر بن الخطاب، ففارقني وهو عني راض. قال: فقال عثمان: وأنا والله لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت؛ ولكني لنت عليك فاجترأت علي، أما والله لأنا أعزُّ منك نفرًا في الجاهليّة؛ وقبل أن ألى هذا السلطان. فقال عمرو: دع عنك هذا، فالحمد الله الذي أكرمنا بمحمد ﷺ وهدانا به؛ قد رأيت العاصي بن وائل ورأيت أبا عفان، فو الله للعاص كان أشرف من أبيك. قال: فانكسر عثمان، وقال: ما لنا ولذكر الجاهليّة! قال وخرج عمرو ودخل مروان، فقال: يا أمير المؤمنين؛ وقد بلغت مبلغًا يذكر عمرو بن العاص أباك! فقال عثمان: دع هذا عنك، من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه. قال: فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه، يأتي عليًّا مر! ة فيؤلِّبه على عثمان، ويأتي الزبير مرة فيؤلِّبه على عثمان، ويأتي طلحة مرة فيؤلِّبه على عثمان، ويعترض الحاجّ فيخبرهم بما أحدث عثمان، فلمَّا كان حصر عثمان الأوّل؛ خرج من المدينة، حتى أنتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع؛ فنزل في قصر له يقال له العجلان؛ وهو يقول: العجب ما يأتينا عن ابن عفان! قال: فبينا هو جالس في عصره ذلك، ومعه ابناه محمد وعبد الله؛ وسلامة ابن روح الجذامي، إذ مرّ بهم راكب، فناداه عمرو: من أين قدم الرجل؟ فقال: من المدينة، قال: ما فعل الرجل؟ يعني عثمان، قال: تركته محصورًا شديد الحصار. قال عمرو: أنا أبو عبد الله؛ قد يضرط العير والمكواة في النار. فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مرّب الله راكب آخر، فناداه عمرو: ما فعلالرجل؟ يعني عثمان، قال: قتل، قال: أنا أبو عبد الله؛ إذا حككت قرحة نكأتها، إن كنت لأحرّض عليه؛ حتى إني لأحرّض عليه الراعي قال: في غنمه في رأس الجبل. فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش؛ إنه كان بينكم وبين العرب باب وثيق مفكسرتموه، فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحقّ من حافرة الباطل، وأن يكون الناس في الحقّ شرعًا سواء. وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمِّه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، ففارقها حين عزله. قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: كان محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بمصر يحرّضان على عثمان، فقدم محمد بن أبي بكر وأقام محمد بن أبي حذيفة بمصر؛ فلما خرج المصريون خرج عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وأظهروا أنهم يريدون العمرة، وخرجوا في رجلب، وبعث عبد الله بن سعيد رسولًا سار إحدى عشرة ليلة يخبر عثمان أنّ ابن عيديس وأصحابه قد وجّهوا نحوه، وأنّ محمد بن أبي حذيفة شيَّعهم إلى عجرود، ثم رجع وأظهر محمّد أن قال: خرج القوم عمّارًا، وقال في السر: خرج القوم إلى إمامهم فإن نزع وإلّا قتلوه؛ وسار القوم المنازل لم يعدوها حتى نزلوا ذا خشب. وقال عثمان قبل قدومهم حين جاءه رسول عبد الله بن سعد: هؤلاء قوم من أهل مصر يريدون - بزعمهم - العمرة، والله ما أراهم يريدونها؛ ولكن الناس قد دخل بهم؛ وأسرعوا إلى الفتنة، وطال عليهم عمري؛ أما والله لئن فارقتهم ليتمنّون أنّ عمري كان طال عليهم مكان كلّ يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة، والإحن والأثرة الظاهرة، والأحكام المغيرة. قال: فلما نزل القوم ذا خشب جاء الخير أنّ القوم يريدون قتل عثمان إن لم ينزع، وأتى رسولهم إلى علي ليلًا، وإلى طلحة، وإلى عمّار بن ياسر. وكتب محمد بن أبي حذيفة معهم إلى علي كتابًا، فجاءوا بالكتاب إلى علي، فلم يظهر على ما فيه، فلما رأى عثمان ما رأى جاء عليًّا فدخل عليه بيته، فقال: يابن عمّ، إنه ليس لي متَّرك؛ وإن قرابتي قريبة؛ ولي حقٌّ عظيم عليك، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم، وهم مصبِّحيَّ؛ وأنا أعلم أنّ لك عند الناس قدرًا، وأنهم يسمعون منك، فأنا أحبّ أن تركب إليهم فتردّهم عني، فإني لا أحبّ أن يدخلوا علي؛ فإن ذلك جرأة منهم علي، وليسمع بذلك غرهم. فقال عليَّ: علام أردّهم؟ قال: على أن أصير إلى ما أشرت به علي ورأيته لي؛ ولست أخرج من يديك؛ فقال علي: إني قد كنت كلمتك مرّة بعد مرّة، فكلّ ذلك نخرج فتكلَّم، ونقول وتقول؛ وذلك كله مفعل مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وابن عامر ومعاوية؛ أطعتهم وعصيتني. قال عثمان: فإني أعصيهم وأطيعك. قال: فأمر الناس، فركبوا معه: المهاجرون والأنصار. قال: وأرسل عثمان إلى عمّار بن ياسر، يكلمه أن يركب مع علي فأبى، فأرسل عثمان إلى سعد بن أبي وقاص، فكلّمه أن يأتي عمارًا فيكلمه أن يركب مع علي؛ قال: فخرج سعد حتى دخل على عمّار، فقال: يا أبا اليقظان، ألا تخرج فيمن يخرج! وهذا علي يخرج فاخرج معه، واردد هؤلاء القوم عن إمامك، فإني لأحسب أنك لم تركب مركبًا هو خير لك منه. قال: وأرسل عثمان إلى كثير بن الصَّلت الكندي - وكان من أعوان عثمان - فقال: انطلق في إثر سعد فاسمع ما يقول سعد لعمّار، وما يردّ عمّار على سعد، ثم أئتني سريعًا. قال: فخرج كثير حتى يجد سعدًا عند عمّار مخليًا به، فألقم عينه جحر الباب، فقام إليه عمَّار ولا يعرفه، وفي يده قضيب، فأدخل القضيب الجحر الذي ألقمه كثير عينه، فأخرح كثير عينه من الجحر، وولى مدبرًا متقنّعًا. فخرج عمار فعرف أثره، ونادى: يا قليل ابن أمّ قليلّ مأعلىَّ تطّلع وتستمع حديثي! والله لو دريت أنّك هو لفقأت عينك بالقضيب؛ فإنّ رسول الله ﷺ قد أحلّ ذلك. ثم رجع عمار إلى سعد، فكلمه سعد وجعل يقتله يفتله بكلّ وجه؛ فكان آخر ذلك أن قال عمَّار: والله لا أردّهم عنه أبدًا. فرجع سعد إلى عثمان، فأخبره بقول عمار، فاتّهم عثمان سعدًا أن يكون لم يناصحه، فأقسم له سعد بالله؛ لقد حرّض. فقبل منه عثمان. قال: وركب علي عليه السلام إلى أهل مصر، فرّدهم عنه، فانصرفوا راجعين. قال محمد بن عمرك حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال: لما نزلوا ذا خشب، كلم عثمان عليًّا وأصحاب رسول الله ﷺ أن يردّوهم عنه، فركب علي وركب معه نفر من المهاجرين، فيهم سعيد بن زيد، وأبو جهم الدوي، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن عتَّاب بن أسيد؛ وخرج من الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد الساعدي، وزيد بن ثابت، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومعهم من العرب نيار بن مكرم وغيرهم ثلاثون رجلًا؛ وكلّهم علي ومحمد بن مسلمة - وهما اللذان قدما - فسمعوا مقالتهما، ورجعوا. قال محمود: فأخبرني محمد بن مسملة، قال: ما برحنا من ذي خشب حتى رحلوا راجعين إلى مصر، وجعلوا يسلّمون علي، فما أنسى عبد الرحمن بن عديس: أتوصينا يا أبا عبد الرحمن بحاجة؟ قال: قلت: تتّقي الله وحده لا شريك له، وتردّ من قبلك عن إمامه، فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع. قال ابن عديس: أفعل إن شاء الله. قال: فرجع القوم إلى المدينة. قال محمَّد بن عمر: فحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: لما رجع علي عليه االسلام إلى عثمان رضي الله عنه، أخبره أنهم قد رجعوا، وكلّمه علي كلاما في نفسه، قال له: اعلم أني قائل فيك أكثر مما قلت. قال: ثمّ خرج إلى بيته، قال: فمكث عثمان ذلك اليوم؛ حتى إذا كان الغد جاءه مروان، فقال له: تكلّم وأعلم الناس أنّ أهل مصر قد رجعوا، وأنّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلًا، فإنّ خطبتك تسير في لابلاد قبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم؛ فيأتيك من لا تستطيع دفعه. قال: فأبى عثمان أن يخرج. قال: فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمَّا بعد، فإن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم كان باطلًا، فإنّ خطبتك تسير في البلاد مقبل أن يتحلّب الناس عليك من أمصارهم؛ فيأتيك من لا تستطيع دفعه. قال: فأبى عثمان أن يخرج. قال: فلم يزل بن خروان حتى خرج فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: فلم يزل به مروان حتى خرج فجلس على مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر؛ فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم. قال: فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد: اتّق الله يا عثمان؛ فإنك قد ركبت نهابير وركبناها معك؛ فتب إلى الله نتب. قال: فناداه عثمان؛ وإنك هناك يا بن النابغة! فملت والله جبّتك منذ تركتك من العمل. قال: فنودي من ناحية أخرى: تب إلى الله وأظهر التوبة كيف الناس عنك. قال: فرفع عثمان يديه مدًّا واستقبل القبلة، فقال: اللهمّ إني أوّل تائب تاب إليك. ورجع إلى منزله، وخرج عمرو بن العاص حتى نزل منزله بفلسطين، فكان يقول: والله إن كنت لألقى الراعي فأحرّضه عليه. قال محمد بن عمر: فحدثني علي بن عمر، عنأبيه، قال: ثمّ إن عليًَّا جاء عثمان بعد انصراف المصريين، فقال له: تكلم كلامًا يسمعه الناس منك ويشهدون عليه، ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والإنابة؛ فإن البلاد قد تمخّضت عليك؛ فلا آمن ركبًا آخرين يقدمون من الكوفة، فتقول: يا علي، اركب إليهم؛ ولا أقدر أن أركب إليهم؛ ولا أسمع عذرًا. ويقدم ركب آخرون من البصرة، فتقول: يا علي اركب إليهم؛ فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك، واستخففت بحقك. قال: فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها، وأعطي الناس من نفسه التوبة، فقام فحمد ه، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس؛ فو الله ما عاب من عاب منكم شيئًا أجهل، وما جئت شيئًا إلّا وأنا أعرفه؛ ولكنّي منّتني نفسي وكذبتني، وضل عني رشدي؛ ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: من زلّ فليبت، ومن أخطأ فليتب؛ ولا يتماد في الهلكة؛ إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق، فأنا أوّل من اتَّعظ؛ أستغفر الله مما فعلت وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب؛ فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم؛ فو الله لئن ردّني الحق عبدًا لأستنّ بسنّة العبد، ولأذلّننّ ذلّ العبد، ولأكوننّ كالمرقوق؛ إن ملك صبر، وإن عتق شكر؛ وما عن الله مذهب إلّا إليه، فلا يعجزنّ عنكم خياركم أن يدنوا إلي، لئن أبت يميني لتتابعنِّي شمالي. قال: فرقَّ الناس له يومئذ، وبكى من بكى منهم، وقام إليه سعيد ابن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس بواصل لك من ليس معك؛ الله الله في نفسك! فأتمم على ما قتل. فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان وسعيدًا ونفرًا من بني أميَّة؛ ولم يكونوا شهدوا الخطبة؛ فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة، امرأة عثمان الكلبيّة: لا بل اصمت، فإنهم والله قاتلوه ومؤثّموه؛ إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزععنها. فأقبل عليها مروان، فقال: ما أنت وذاك! فو الله لقد مات أبوك وما يحسن يتوضّأ، فقالت له: مهلًا يا مروان عن ذكر الآباء، تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه! وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه؛ أما واللهلولا أنه عمّه، وأنه يناله غمّه، أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قال: فأعرض عنها مروان، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتكلّم أمأصمت؟ قال: بل تكلَّم، فقال مروان: بأبي أنت وأمي! وه لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع منيع فكنت أوّل من رضي بها، وأعان عليها؛ ولكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطُّبيين، وخلف السيل الزُّبي، وحين أعطي الخطّة الذليلة الذليل؛ والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوّف عليها؛ وإنك إن شئت تقرّبت بالتوبة ولم تقرر بالخطيئة؛ وقد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلّمهم، فإني أستحيي أن أكلمهم. قال: فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضًا، فقال: ما شأنكم قداجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب! شاهت الوجوه! كلّ إنسان آخذ بأذن صاحبه. ألا من أريد! جئتم تريدون ان تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنها، أما والله لئن رمتمونا ليمرّن عليكم منَّا أمر لا يسرّكم؛ ولا تحمدوا غبّ رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم؛ فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا. قال: فرجع الناس موخرج بعضهم حتى أتى عليًّا فأخبره الخبر، فجاء علي عليه السلام مغضبًا، حتى دخل على عثمان، فقال: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرّفك عن دينك وعن عقلك، مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؛ والله ما مروان بذي رأى في دينه ولا نفسه؛ وايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك؛ وما أنا بعائد بعد ماقمي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك. فلما خرج علي دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته، فقالت: أتكلّم أو أسكت؟ فقال: تكلمي؛ فقالت: قد سمعت قول علي لك؛ وإنه ليس يعاودك، وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال: فما أصنع؟ قالت: تتَّقي الله وحده لا شريك له، وتتّبع سنة صاحبيك من قبلك، فإنك متى أطعت مروان قتلك؛ ومروان ليس له عند لاناس قدر ولا هيبة ولا محبّة؛ وإنما تكك الناس لمكان مروان؛ فأرسل إلي علي فاستصلحه، فإن له قرابة منك، وهو لا يعصي. قال: فأرسل عثمان إلى علي، فأبى أن يأتيه، وقال: قد أعلمته أنِّي لست بعائد. قال: فبلغ مروان مقالة نائلة فيه، قال: فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه، فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلم، فقال: إن بنت الفرافصة.. فقال عثمان: لا تذكرنّها بحرف فأسوّىء لك وجهك، فهي والله أنصح لي منك. قال: فكفّ مروان. قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: سمعت عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث يذكر مروان بن الحكم، قال: قبّح الله مروان! مخرج عثمان إلى النسا فأعطاهم الرضا، وبكى على المنبر وبكى الناس حتى نظرت إلى لحية عثمان مخضلّة من الدموع، وهو يقول: اللهمّ إنِّي أتوب إليك؛ اللهم إني أتوب إليك، اللهم إني أتوب إليك! والله لئن ردّني الحق إلى أن أكن عبدًا قنًّا لأرضينّ به؛ إذا دخلت منزلي فادخلوا علي؛ فو الله لا أحتجب منكم، ولأعطينّكم الرضا، ولأزيدنّكم على الرضا، ولأنحّينّ مروان وذويه. قال: فلما دخل أبمر بالباب ففتح، ودخل بيته، ودخل عليه ممروان، فلم يزل يفتله في الذِّروة والغارب حتى فتله عن رأيه؛ وأزاله عمّا كان يريد؛ فلقد مكث عثمان ثلاثة أيام ما خجر استحياء من الناس؛ وخرج مروان إلى الناس، فقال: شاهت الوجوه! ألا من أريد! ارجعوا إلى منازلكم؛ فإن يكن لأمير المؤمنين حاجة بأحد منكم يرسل إليه، وإلّا قرّ في بيته. قال عبد الرحمن: فجئت إلى علي فأجده بين القبر والمنبر، وأجد عنده عمّار بن ياسر ومحمد بن أبي بكر وهما يقولان: صنع مروان بالناس وصنع. قال: فأقبل علي عليٌّ، فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قلت: نعم، قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قلت: نعم، قال علي: عياذ الله، ياللمسلمين! إنّي إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي؛ وإني إن تكلمت فجاء ما يريد بلعب به مروان، فصار سيّقة له يسوقه حيث شاء بعد كبرالسنّ وصحبة رسول الله ﷺ. قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم يزل حتى جاء رسول عثمان: ائتني، فقال علي بصوت مرتفع عال مغضب: قل له: ما أنا بداخل عليك ولا عائد. قال: فانصرف الرسول. قال: فلقيت عثمان بعد ذلك بليلتين خائبًا، فسألت ناتلًا غلامه: من أي جاء أمير المؤمنين؟ فقال: كان عند علي، فقال عبد الرحمن بن الأسود: فغدوت فجلست مع علي عليه السلام، فقال لي: جاءني عثمان البارحة، فجعل يقول: إني غير عائد؛ وإني فاعل؛ قال: فقلت له: بعد ما تكلّمت به على منبر رسول الله ﷺ، وأعطيت من نفسك، ثم دخلت بيتك، وخرج مروان إلى الناس فشتمهم على بابك ويؤذيهم! قال: فرجع وهو يقول: قطعت رحمي وخذلتني، وجرّأت الناس علي. فقلت: والله إني لأذبّ الناس عنك؛ ولكني كلّسًا جئتك بهنة أظنّها لك رضًا جاء بأخرى؛ فسمعت قول مروان علي، واستدخلت مروان. قال: ثمّ انصرف إلى بيته. قال عبد الرحمن بن الأسود: فلم أزل أرى عليًّا منكّبًا عنه لا يفعل ما كان يفعل؛ إلّا أني أعلم أنه قد كلم طلحة حين حصر في أن يدخل عليه الرَّوايا، وغضب في ذلك غضبًا في ذلك غضبًا شديدًا، حتى دخلت الروايا على عثمان. قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، أنّ عثمان صعد يوم الجمعة المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، فقام رجل، فقال: أقم كتاب الله، فقال عثمان: اجلس، فجلس حتى قام ثلاثًا، فأمر به عثمان فجلس، فتحاثوا بالحصباء حتى ما ترى السماء؛ وسقط عن المنبر، وحمل فأدخل داره مغشيًّا عليه، فخرج رجل من حجّاب عثمان، ومعه مصحف في يده وهو ينادي " إنَّ الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شعيًا لست منهم في شيء إنَّما أمرهم إلى الله " ودخل علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما وهو مغشيٌّ عليه، وبنو أميّة حوله، فقال: مالك يا أمير المؤمنين؟ فأقبلت بنو أميَّة بمنطق واحد، فقالوا: يا عليُّ أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع بأمير المؤمنين! أما والله لئن بلغت الذي تريد لتمرَّنَّ عليك الدنيا. فقام علي مغضبًا. ذكر الخبر عن قتل عثمان رضي الله عنه وفي هذه السنة قتل عثمان رضي الله عنه. ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل قال أبو جعفر رحمه الله: قد ذكرنا كثيرًا من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها؛ ونذكر الآن كيف قتل، وما كان بدء ذلك وافتتاحه، ومن كان المتبدىء به والمففتح للجرأة عليه قبل قتله. ذكر محمد بن عمر أنّ عبد الله بن جعفر حدثه عن أم بكر بنت المسور بن مخرمة، عن أبيها، قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان، فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فأرسل إلى المسور ابن مخرمة وإلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فأخذاها، فقسمها عبد الرحمن في الناس وعثمان في الدار. قال محمد بن عمر: وحدثني محمد بن صالح، نمعن عبيد الله بن رافع ابن نقاخة، عن عثمان بن الشَّريد، قال: مرّ عثمان على جبلة بن عمرو الساعدي وهو بفناء داره ومعه جامعة، فقالل: يا نعثل؛ والله لأقتلنّك؛ ولأحملنّك على قولص جرباء، ولأخرجنّك إلى حرّة النار. ثم جاءه مرة أخرى وعثمان على المنبر فأنزله عنه. حدثني محمد، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل، عن أبيه، عن عامر بن سعد، قال: كان أوّل من اجترأ على عثمان بالمنطق السيِّء جبلة ابن عمرو الساعدي، مرّ به عثمان وهو جالس في ندي قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مرَّ عثمان سلَّم، فردّ القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحنّ هذه الجامعة في عنقك أو لتتركنّ بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة! فو الله إني لأتخيّر الناس؛ فقال: مروان تخيَّرته! ومعاوية تخيّرته! وعبد الله بن عامر بن كريز تخيرّته! وعبد الله بن سعد تخيَّرته! منهم من نزل القرآن بدمه، وأباح رسول الله ﷺ دمه. قال: فانصرف عثمان، فلما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم. قال محمد بن عمر: وحدثني ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة، قال: خطب عثمان الناس في بعض أيامه، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إنك قد ركبت نهابير وركبناها معك، فتب نتب. فاستقبل عثمان القبلة وشهر يديه - قال أبو حبيبة: فلم أر يومًا أكثر باكيًا ولا باكية من يومئذ - ثم لما كان بعد ذلك خطب الناس، فقالم إليه جهجاه الغفاري؛ فصلح: يا عثمان، ألا إن هذه شارف قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة؛ فانزل فلندرّعك العباءة، ولنطرحك في الجامعة؛ ولنحملك على الشارف؛ ثم نطرحك في جبل الدخان. فقال عثمان: قبحك الله وقبح ما جئت به! قال أبو حبيبة: ولم يكن ذلك منه إلّا عن ملإ ممن الناس؛ وقام إلى عثمان خيرته وشعيته من بني أميّة فحملوها فأدخلوه الدار. قال أبو حبيبة: فكان آخر ما رأيته فيه. قال محمد: وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن يحيى بن عبد الرحمن بان حاطب، عن أبيه، قال: أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي ﷺ التي كان يخطب معليها وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال له جهجاه: قم يا نعثل؛ فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شطيَّة منها فيها؛ فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة، فما خرج بعد ذلك اليوم إلّا خرجة أو خرجتين حتى حصر فقتل. حدثني أحمد بن إبراهيم؛ قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، أنّ جهجاهًا الغفاري، أخذ عصًا كانت في يد عثمان، فكسرها على ركبته، فرمى في ذلك المكان بأكله. حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو، عن محمد ابن إسحاق بن يسار المدني، عن عمّه عبد الرحمن بن يسار، أنه قال: لمّا رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي ﷺ إلى من صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي ﷺ إلى من بالآفاق منهم - وكانوا قد تفرّقوا في الثغور: إنكم إنما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل، تطلبون دين محمد ﷺ؛ فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم وترك، فهلمّوا فأقيموا دين محمد ﷺ. فأقبلوا من كلّ أفق حتى قتلوه. وكتب عثمان إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح عامله على مصر - حين تراجع الناس عنه، وزعم أنه تائب - بكتاب في الذين شخصوا من مصر، وكانوا أشدّ أهل الأمصار عليه: أمَّا بعد؛ فانظر فلانًا وفلانًا فاضرب أعناقهم إذا قدموا عليك؛ فانظر فلانًا وفلانًا فعاقبهم بكذا وكذا - منهم نفر من أصحاب رسول الله ﷺ، ومنهم قوم من التابعين - فكان روله في ذلك أبو الأعور بن سفيان السُّلمي، حمله عثمان على جمل له، ثم أمره أن يقبل حتى يجخل مصر قبل أن يدخلها القوم، فلحقهم أبو الأعور ببعض الطريق، فسألوه: أين ميريد؟ قال: أريد مصر؛ ومعه رجل من أهل الشأم من خولان؛ فلما رأوه على جمل عثمان، قالوا له: هل معك كتاب؟ قال: لا، قالوا: فيم أرسلت؟ قال: لا علم لي، قالوا: ليس معك كتاب ولا علم لك بما أرسلت! إن أمرك لمريب! ففتَّشوه، فوجدوا معه كتابًا في إداوة يابسة، فنظروا في الكتاب، فإذا فيه قتل بعضهم وعقوبة بعضهم في أنفسهم وأموالهم. فلما رأوا ذلك رجعوا إلى المدينة، فبلغ الناس رجوعهم، والذي كان من أمرهم فتراجعوا من الآفاق كلها، وثار أهل المدينة. حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بن السائب الكلبي، قال: إنما ردّ أهل مصر إلى عثمان بعد أنصرافهم عنه أنه أدركهم غلام ملعثمان على جمل له بصحيفة إلى أمير مصر أن يقتل بعضهم، وأن يصلب بعضهم. فلما أتوا عثمان، قالوا: هذا غلامك، قال غلامي انطلق بغير علمي، قالوا: جملك، قال: أخذه من الدار بغير أمير، قالوا: خاتمك، قال: نقش عليه، فقال عبد الرحمن ابن عديس مالتجيبي حين أقبل أهل مصر: أقبلن من بلييس والصَّعيد ** خوضًا كأمثال القسيِّ قود مستحقبات حلق الحديد ** يطلبن حقَّ الله في الوليد وعند عثمان وفي سعيد ** يا ربِّ فارجعنا بما نريد فلما رأى عثمان ما قد نزل به، وما قد انبعث عليه من الناس، كتب إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بالشأم: بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد؛ فإنّ أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة، ونكثوا البيعة، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشأم على كلّ صعب وذلول. فلما جاء معاوية الكتاب تربّص به، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول الله ﷺ؛ وقد علم اجتماعهم؛ فلما أبطأ أمره على عثمان كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز، وإلى أهل الشأم يستنفرهم ويعظّم حقَّه عليهم، ويذكر الخلفاء وما أمر الله عز وجل به من طاعتهم ومناصحتهم، ووعدهم أن ينجدهم جند أو بطانة دون الناس، وذكرهم بلاءه عندهم، وصنيعه إليهم، فإن كان عندكم غياث فالعجل العجل؛ فإن القوم معا جليَّ. فلما قرىء كتابه عليهم قام يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر عثمان، فعظّم حقه، وحضّهم على نصره، وأمرهم بالمسير إليه. فتابعه ناس كثير، وساروا معه حتى إذا كانوا بوادي القرى، بلغهم مقتل عثمان رضي الله عنه، فرجعوا. وكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر؛ أن اندب إلي أهل البصرة؛ نسخة كتابه إلى أهل اشأم. فجمع عبد الله بن عامر الناس؛ فقرأ كتابه عليهم؛ فقامت خطباء من أهل البصرة يحضّونه على نصر عثمان والمسير إليه؛ فيهم مجاشع بن مسعود السُّلمي؛ وكان أوّل من تكلّم؛ وهو يومئذ سيّد قيس بالبصرة. وقام أيضًا قيس ابن الهيثم السُّلمي، فخطب وحضّ الناس على نصر عثمان؛ فسارع الناس إلى ذلك؛ فاستعمل عليهم عبد الله بن عامر مجاشع بن مسعود فسار بهم؛ حتى إذا نزل الناس الرَّبذة، ونزلت مقدّمته عند صرار - ناحية من المدينة - أتاهم قتل عثمان. حدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: كتب أهل مصر بالسُّقيا - أو بذي خشب - إلى عثمان بكتاب؛ فجاء به رجل منهم حتى دخل به عليه، فلم يردّ عليه شيئًا، فأمر به فأخرج من الدار؛ وكان أهل مصر الذين ساروا إلى عثمان ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رءوس أربعة، مع كلّ رجل منهم لواء؛ وكان جماع أمرهم جيمعًا إلى عرمو بن بديل بن ورقاء الخزاعي - وكان من أصحاب النبي ﷺ - وإلى عبد الرحمن بن عديس التُّجيبي؛ فكان فيما كتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمّا بعد، فاعلم أنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ فالله الله! ثم الله الله! فإنك على دنيا فاستتمَّ إليها معها آخرة، ولا تلبس نصيبك من الآخرة؛ فلا تسوغ لك الدنيا. واعلم أنّا والله لله نغضب، وفي الله نرضى؛ وإنا لن نضعسيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرّحة، أو ضلالة مجلّحة مبلجة؛ فهذه مقالتنا لك، وقضيّتنا إليك، والله عذيرنا منك. والسلام. وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة، ويحتجّون ويقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبدًا حتى يقتلوه، أو يعطيهم ما يلزمه من حقّ الله. فلما خاف القتل شاور نصحاءه وأهل بيته، فقال لهم: قد صنع القوم ما قد رأيتم، فما المخرج؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب فيطلب إليه أن يردّهم عنه، ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداد؛ فقال: إنّ القوم لن يقبولوا التعليل، وهم محمِّلي عهدًا؛ وقد كان منّي في قدمتهم الأولى ما كان؛ فمنتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به! فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين، مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب، فأعطهم ماسألوك، وطاولهم ما طاولوك؛ فإنما هم بغوا عليك، فلا عهد لهم. فأرسل إلى علي فدعاه، فلما جاءه قال: يا أبا حسن؛ إنه قد كان من الناس ما قد رأيت، وكان مني ما قد علمت؛ ولست آمنهم على قتلي، فارددهم عني؛ فإن لهم الله عز وجل أن أعتبهم من كل ما يكرهن؛ وأن أعطيهم الحقّ من نفسي ومن غير؛ وإن كان في ذلك سفك دمي. فقال له عليٌّ: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك؛ وإي لأرى قومًا لا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهدًا من الله: لترجعنّ عن جميع ما نقم؛ فرددتهم عنك، ثم لم تف هلم بشيء من ذلك، لاتغرّني هذه المرة من شيء فإني معطيهم عيك الحقّ. قال: نعم، فأعطهم، فو الله لأفينّ لهم. فخرج عليٌّ إلى الناس، فقال: أيّها لاناس؛ إنكم إنما طلبتم الحقّ فقد أعطيتموه؛ إنّ عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه ومن غيره؛ وراجع عن جميع ما تكرهون، فاقبلوا منه ووكدِّوا عليه. قال الناس: قد قبلنا فاستوثق منه لنا، فإنا والله لا نرضى بقول دون فعل. فقال هلم علي: ذلك لكم. ثم دخل عليه فأخبره الخبر، فقالعثمان: اضرب بيني وبينهم أجلًا يكون لي فيه ملهة، فإني لا أقدر على ردّ ما كرهوا في يوم واحد قال له علي: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصلو أمرك، قال: نعم؛ ولكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام. قال عليٌّ: نعم، فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك، وكتب بينهم وبين عثمان كتابًا أجله فيه ثلاثًا، على أن يردَّ كلّ مظلمة، ويعزل كلّ عامل كرهوه؛ ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وميثاق، وأشهد عليه ناسًا من وجوه المهاجرين والأنصار، فكفّ المسلمون عنه ورجعوا إلى أني في لهم بما أعطاهم من نفسه؛ فجعل يتأهّب للقتال، ويستعدّ بالسلاح - وقد كان اتَّخذ جندًا عظمًا من رقيق الخمس - فلما مضت الأيام الثلاثة - وهو على حاله لم يغيّر شيئًا مما كرهوه، ولم يعزل عاملًا - ثار به الناس. وخرج عمرو بن حزم الأنصاري حتى أتى المصريين وهم بذي خشب، فأخبرهم الخبر، وسار معهم حتى قدموا المدينة، فأرسلوا إلى عثمان: ألم نفارقك على أنك زعمت أنك نائب من إحداثك، وراجع عما كرهنا منك؛ وأعطيتنا على ذلك عهد الله وميثاقه! قال: بلى؛ أنا على ذلك، قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك؛ وكتبت به إلى عاملك؟ قال: ما فعلت ولا لي علم بما قولون. قالوا: بريدك على جملك، وكتاب كاتبك عليه خاتمك؛ قال: أمّا الجمل فمسروق، وقد يشبه الخطّ الخطّ، موأما الخاتم فانتقش عليه، قالوا: فإنا لا نعجّل عليك؛ إن كنا قد اتّهمناك، اعزل عنّا عمّالك الفسّاق، واستعمل علينا من لا يتّهم على دمائنا وأموالنا، واردد عليها مظالمنا. قال عثمان: ما أراني إذًا في شيء إن كنت أستعمل من هويتم، وأعزل من كرهتم، الأمر إذًا أمركم! قالوا: والله لتفعلنّ أو لتعزلنّ أو لتقتلنّ، فانظر لنفسك أودع. فأبى عليهم وقال: لم أكن لأخلع سربالًا سربلنيه الله، فحصروه أربعين ليلة، وطلحة يصلِّي بالناس. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أن عون، قال: حدثنا الحسن، قال: أنبأني وثّاب - قال: وكان فيمن أدركه عتق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، قال: ورأيت بحلقة أثر طعنتين، كأنهما كتبان طعنهما يومئذ يوم الدار - قال: بعثني عثمان، فدعوت له الأشتر، فجاء - قال ابن عون: فأظنّه قال: فطرحت لأمير المؤمنين وسادة وله وسادة - فقال: يا أشتر؛ ما يريد الناس مني؟ قال: ثلاثًا ليس من إحداهن بدٌّ؛ قال: ما هنَّ؟ قال: يخبرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول: هذا أمركم فاختاروا له من شئتم، وبين أن تقصَّ من نفسك؛ فإن أبيت هاتين فإنّ القوم قاتلوك. فقال: أما من إحداهن بدٌّ! قال: ما من إحداهنّ بدٌّ، فقال: أمّا أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالًا سربلنيه الله عز وجل - قال: وقال غيره: والله لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحبُّ إلي من أن أخلع قميصًاَ قمّصنيه الله وأترك أمّة محمد ﷺ يعد وبعضها على بعض. قال ابن عون: وهذا أشبه بكلامه - وأمّا أن أقصّ من نفسي؛ فو الله لقد علمت أن صاحبي بين يدي قد كانا يعاقبان وما يقوم بدني بالقصاص، وأما أن تقتلوني، فو الله لئن قتلتموني لا تتحابّون بعدي أبدًا، ولا تصلّون جميعًا بعدي أبدًا، ولا تقاتلون بعدي عدوًّا جميعًا أبدًا. قال: فقام الأشتر فانطلق؛ فمكثنا أيامًا. قال: مثم جاء رويجل كأنه ذئب، فاطّلع من باب، ثم رجع وجاء محمد بن أبي بكر وثلاثة عشر حتى انتهى إلى عثمان، فأخذ بلحيته، فقال بها حتى سمعت وقع أضراسه، وقال: ما أغني عنك معاوية، ما إغني عنك ابن عامر، ما أغنت عنك كتب! قال: أرسل لحيتي يا بن أخي، أرسل لحيتي. قال: وأنا رأيته استعدي رجلًا من القوم بعينه، فقام إليه بمشقص حتى وجأ به في رأسه. قلت: ثم مه؛ قال: تغاووا عليه حتى قتلوه. وذكر الواقدي أنّ يحيى بن عبد العزيز حدثه عن جعفر بن محمود، عن محمد بن مسلمة، قال: خرجت في نفر من قومي إلى المصريين وكان رؤساؤهم أربعة: عبد الرحمن بن عديس البلوي، وسودان بن حمران المرادي، وعمرو بن الحمق الخزاعي - وقد كان هذا الاسم غلب حتى كان يقال: حبيس بن الحمق - وابن النِّباع. قال: فدخلت عليهم وهم في خباء لهم أربعتهم، ورأيت الناس لهم تبعًا، قال: فعظّمت حقّ عثمان وما في رقابهم من البيعة، وخوّفتهم بالفتنة، وأعلمتهم أنّ في قتله اختلافًا وأمرًا عظيمًا؛ فلا تكونوا أوّلأ من فتحه، وأنه ينزع عن هذه الخصال التي نقمتم منها عليه، وأنا ضامن لذلك. قال القوم: فإن لم ينزع؟ قال: قلت: فأمركم إليكم. قال: فانصرف القوم وهو راضون، فرجعت إلى عثمان، فقلت: أخلني فأخلاني، فقلت: الله الله يا عثمان في نفسك! إنّ هؤلاء القوم إنما قدموا يريدون دمك، وأنت ترى خذلان أصحابك لك؛ لا بل هم يقوّون عدوّك عليك. قال: فأعطاني الرضا، وجزاني خيرًا. قال: ثمّ خرجت من عنده، فأقمت ما شاء الله أن أقيم. قال: وقد تكلّم عثمان برجوع المصريين، وذكر أنهم جاءوا لأمر، فبلغهم غيره فانصرفوا، فأردت أن آتيه فأعنِّفه بهما، ثم سكتّ فإذا قائل يقول: قد قدم المصريون وهم بالسُّويداء، قال: قلت: أحقُّ ما تقول؟ قال: نعم، قال: فأرسل إلي عثمان. قال: وإذا الخير قد جاءه، وقد نزل القوم من ساعتهم ذا خشب، فقال: يا أباعبد الرحمن، هؤلاء القوم قد رجعوا، فما الرأي فيهم؟ قال: قلت: والله ما أردي؛ إلّا أني أظن أنهم لم يرجعوا لخير. قال: فارجع إليهم فارددهم، قال: قلت: لا والله ما أنا بفاعل، قال: ولم؟ قال: لأنّي ضمنت لهم أمورًا تزع عنها فلم تنزع عن حرف واحد منها. قال: فقال: الله المستعان. قال: وخرجت وقدم القوم وحلوا بالأسواف، وحصروا عثمان. قال: وجاءني عبد الرحمن بن عبديس ومع سودان بن حمران وصاحباه، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، ألم تعلم أنّك مكلّمتنا وراتنا وعمت أنّ صاحبنا نازعٌ عمّا نكره؟ فقلت بلى، قال: فإذا هم يخرجون إلي صحيفة صغيرة. قال: وإذا قصبة من رصاص؛ فإذا هم يقولون: وجدنا جملًا من إبلالصدقة عليه غلام عثمان، فأخذنا متاعه ففتّشناه، فوجدنا فيه هذا الكتاب؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فإذا قدم عليك عبد الرحمن ابن عديس فاجلده مائة جلدة، واحلق رأسه ولحيته، وأطل حبسه حتى يأتيك أمري؛ وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك، وسودان بن حمران مثل ذلك؛ وعروة بن النباع الليثي مثل ذلك. قال: فقلت: وما يدريكم أنّ عثمان كتب بهذا؟ قالوا: فيفتات مروان على عثمان بهذا! فهذا شرّ؛ فيخرج نفسه من هذا الأمر. ثم قالوا: انطلق معنا إليه، فقد كلمنا عليًّا، ووعدنا أن يكلّمه إذا صلى الظهر. وجئنا سعد بن أبي وقّاص، فقال: لا أدخل في أمركم. وجئنا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال مثل هذا؛ فقال محمد: فأين وعدكم علي؟ قالوا: وعدنا إذا صلى الظهر أن يدخل عليه. قال محمد: فصليت مع علي، قال: ثم دخلت أنا وعلي عليه، فقلنا: إن هؤلاء المصريين بالبا، فأذن لهم - قال: ومروان عنده جالس - قال: فقال مروان: دعني جعلت فداك أكلّمهم! قال: فقال عثمان: فضّ الله فاك! اخرج عني؛ وما كلامك في هذا الأمر! قال: فخرج مروان، قال: وأقبل علي عليه - قالب: وقد أنهى المصريُّون إليه مثل الذي أنهوا إلي - قال: فجعل علي يخبره ما وجدوا في كتابهم. قال: فجعل يقسم بالله ما كتب ولا علم ولا شوور فيه. قال: فقال محمد بن مسلمة: والله إنه لصادق؛ ولكن هذا عمل مروان، فقال علي: فأدخلهم عليك؛ فليسمعوا عذرك، قال: ثم أقبل عثمان على علي، فقال: إنّ لي قرابة ورحمًا؛ والله إنه لصادق؛ ولكن هذا عمل مروان، فقال علي: فأدخلهم عليك؛ فليسمعوا عذرك، قال: ثم أقبل عثمان على علي، فقال: إنّ لي قرابة ورحمًا؛ والله لو كنت في هذه الحلقة لحللتها عنك؛ فاخرج إليهم، فكلِّمهم؛ فإنهم يسمعون منك. قال علي: والله ما أنا بفاعل؛ ولكن أدخلهم حتى تعتذر إليهم؛ قال: فادخلوا. قال محمد بن مسلمة: فدخلوا يومئذ، فما سلّموا عليه بالخلافة، فعرفت أنه الشرّ بعينه؛ قالوا: سلام عليكم، فقلنا: وعليكم السلام، قال: فتكلَّم القوم وقد قدّموا في كلامهم ابن عديس، فذكر ما صنع ابن سعد بمصر، وذكر تحاملًا منه على المسلمين وأهل الذمّة، وذكر استئثارًا منه في غنائم المسلمين؛ فإذا قيل له في ذلك، قال: هذا كتاب أمير المؤمنين إلي، ثم ذكروا أشياء مما أحدث بالمدنية، وما خالف به صاحبيه. قال: فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلا دمك أو تنزع؛ مفردّنا علي ومحمد مبن مسلمة، وضمن لنا محمد النزوع عن كلّ ما تكلمنا فيه - ثم أقبلوا على محمد بن مسلمة، فقالوا: هل قلت ذاك لنا؟ قال محمد: فقلت: نعم - ثم رجعنا إلى بلادنا نستظهر بالله عز وجل عليك ويكونن حجة لنا بعد حجّة حتى إذا كنا بالبويب أخذنا غلامك فأخذنا كتابك وخاتمك إلى عبد الله بن سعد، تأمره فيه بجلد ظهورنا، والمثل بنا في أشعارنا وطول الحبس لنا؛ وهذا كتابك. قال: فحمد الله عثمان وأنثى عليه، ثم قال: والله ما كتبت ولا أمرت، ولا شوورت ولا علمت. قال: فقلت وعلي جميعًا: قد صدق. قال: فاستراح إليها عثمان، فقال المصريون: فمن كتبه؟ قال: لا أدري، قال: أفيجترأ عليك فيبعث غلامك وجمل من صدقات لامسلمين، وينقش على خاتمك، ويكتب إلى عاملك بهذه الأمور العظام وأنت لا تعلم! قال: نعم، قالوا: فليس مثلك يلي، اخلع نفسك من هذا الأمر كما خلعك الله منه قال: لا أنزع قميصًا مألبسنيه الله عز وجل. مقال: وكثرت الأصوات واللغط، فما كنت أظنّ أنهم يخرجون حتى يواثبوه. قال: وقام علي فخرج، قال: فلمّا قام علي قمت، قال: وقال للمصريين: اخرجوا، فخرجوا. قال: ورجعت إلى منزلي ورجع علي إلى منزله، فما برحوا محاصريه حتى قتلوه. قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن سفيان بن أبي العوجاء، قال: قدم المصريّون القدمة الأولى، فكلتم عثمان محمد بن مسلمة، فخرج في خمسين راكبًا من الأنصار، فأتوهم بذي خشب فردّهم، ورجع القوم حتى إذا كانوا بالبويب، وجدوا غلامًا لعثمان معه كتاب إلى عبد الله بن سعد، فكرّوا، فانتهوا إلى المدينة، وقد تخلّف بها من الناس الأشتر موحيم بن جمبلة، فأتوا بالكتاب، فأنكر عثمان أن يكون كتبه، وقال: هذا مفتعل، قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك! قال: أجل؛ ولكنّه كتبه بغيرأمري، قالوا: فإنّ الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك؛ قال: أجل؛ ولكنه خرج بغير إذني، قالوا: فالجمل جملك، قال: أجل؛ ولكنه أخذ بغير علمي، قالوا: ما أنت إلّا صادق أو كاذب؛ فإن كنت كاذبًا فد استحققت مالخلع لما أمرت به من سفك دمائنا بغير حقها، وإن كنت صادقًا فقد استحققت أنتخلع لضعفك وغفلتك وخبث بطانتك؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه وغفلته. وقالوا له: إنّك ضربت رجالًا من أصحاب النبي ﷺ وغيرهم حين يعظونك ويأمرونك بمراجعة الحقّ عندما يستنكرون من أعمالك؛ فأقدمن نفسك من ضربته وأنت له ظالم، فقال: الإمام يخطىء ويصيب؛ فلا أقيد من نفسي؛ لأني لو أقدت كلّ من أصبته بخطإ آتي على نفسي؛ قالوا: إنك قد أحدثت أحداثًا عظامًا فاستحققت بها الخلع؛ فإذا كلّمت فيها أعطيت التوبة ثم عدت إليها وإلى مثلها، ثم تدمنا عليك فأعطيتنا التوبة والرجوع إلى الحق؛ ولامنا فيك محمد ابن مسلمة، وضمن لنا ما حدث من أمر، فأخفرته فتبرّأ منك، وقال: لا أدخل في أمره؛ فرجعنا أوّلأ مرة لنقطع محجّتك ونبلغ أقصى الإعذار إليك؛ نستظهر بالله عز وجل عليك؛ فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل والقطع والصلب. وزعمت أنه متب بغير علمك وهو مع غلامك وعلى جملك وبخطّ كاتبك وعليه خاتمك، فقد وقعت عليك بذلك التُّهمة القبيحة، مع ما بلونا منك قبل ذلك ممن الجور في الحكم والأثرة في القسم والعقوبة للأمر بالتبسط من الناس، والإظهار للتوبة، ثمّ الرجوع إلى الخطيئة، ولقد رجعنا عنك وما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك ونستبدل بك من أصحاب رسول الله ﷺ من لم يحدث مثل مما جرّبنا منك، ولم يقع عليه من التُّهمة ما وقع عليك؛ فازدد خلافتنا؛ واعتزل أمرنا، فإنّ ذلك أسلم لنا منك، وأسلم لك منا. فقال عثمان: فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إليه إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا عبده ورسلوه؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. أمّا بعد، فإنكم لم تعدلوا في المنطق، ولم تنصفوا في القضاء؛ أما قولكم: تخلع نفسك، فلا أنزع قميصًا قمَّصنيه الله عز وجل وأكرمني به، وخصّني به على غيري؛ ولكني أتوب وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون؛ فإني والله الفقير إلى الله الخائف منه. قالوا: إنّ هذا لو كان أوّلأ حدث أحدثته ثم تبت منه ولم تقم عليه؛ لكان علينا أن نقبل منك، وأن ننصرف عنك؛ ولكنه قد كان منك من الإحداث قبل هذا ما قد علمت، ولقد انصرفنا عنك في المرة الأولى، وما نخشى أن تكتب فينا، ولا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك. وكيف نقبل توبتك وقد بلونا منك أنك لا تعطى من نفسك التوبة من ذنب إلّا عدت إليه؛ فلسنا منصرفين حتى نعزلك ونستبدل بك، فإن حال من معك من قومك وذوي مرحمك وأهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم؛ حتى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بالله. مفقال عثمان: أمَّا أن أتبرَأ من الإمارة؛ فإن تصلبوني أحبّ إلي من أن أتبرّأ من أمر الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: تقاتلون من قاتل دوني؛ فإنّي لا آمر أحدًا بقتالكم، لقد كنت كتبت إلى الأجناد فقادوا الجنود، وبعثوا الرجال، أو لحقت ببعض أطرافي بمصر أو عراق؛ فالله الله في أنفسكم فأبقوا عليها إن لم تبقوا علي؛ فإنكم مجتلبون بهذا الأمر - إن قتلتموني - دمًا. قال: ثمّ انصرفوا عنه وآذنوه بالحرب، وأرسل إلى محمد بن مسلمة فكلّمه أن يردّهم، فقال: والله لا أكذب الله في سنة مرتين. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن مسلم، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة، قال: نظرت إلى سعد بن أبي وقاص يوم قتل عثمان؛ دخل عليه ثم خرج من عنده وهو يسترجع مما يرى على الباب؛ فقال له مروان: الآن تندم! أنت أشعرته. فأسمع سعدًا يقول: أستغفر الله، لم أكن أظنّ الناس يجترئون هذه الجرأة، ولا يطلبون دمه، وقد دخلت عليه الآن فتكلم بكلام لم تحضره أنت ولا أصحابك، فنزع عن كلّ ما كره منه، وأعطى التوبة، وقال: لا أتمادى في الهلكة؛ إنّ من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق؛ فأنا أتوب وأنزع. فقال مروان: إن كنت تريد أن تذبّ عنه؛ فعليك بابن أبي طالب، فإنه متستّر، وهو لا يجبه؛ فخرج سعد حتى أتى عليًّا وهو بين القبر والمنبر، فقال: يا أبا حسن؛ قم فداك أبي وأمّي! جئتك والله بخير ما جاء به أحد قطّ إلى أحد، تصل رحم ابن عمّك، وتأخذ بالفضل عليه، وتحقن دمه، ويرجع الأمر على ما نحبّ، قد أعطى خليفتك من نفسه الرضا. فقال علي: تقبّل الله منه يا أبا إسحاق! والله ما زلت أذبّ عنه حتى إني لأستحي؛ ولكن مروان ومعاوية وعبد الله بن عامر وسعيد ابن العاص هم صنعوا به ما ترى؛ فإذا نصحته وأمرته أن ينحّيهم استغشّني حتى جاء ما ترى. قال: فبينا هم كذلك جاء محمد بن أبي بكر. فسارّ عليًّا؛ فأخذ علي بيدي، ونهض علي وهو يقول: وأي خير توبته هذه! فوالله ما بلغت داري حتى سمعت الهائعة؛ أن عثمان قد قتل؛ فلم نزل والله في شرّ إلى يومنا هذا. قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، قال: لما خرج المصريّون إلى عثمان رضي الله عنه، بعث عبد الله بن سعد رسولًا أسرع السير يعلم عثمان بمخرجهم، ويخبره أنهم يظهرون أنهم يريدون العمرة. فقدم الرسول على عثمان بن عفان، يخبرهم فتكلم عثمان، وبعث إلى أهل مكة يحذّر من هناك هؤلاء المصريين، ويخبّرهم أنهم قد طعنوا على إمامهم. ثمّ إن عبد الله بن سعد خرج إلى عثمان في آثار المصريين - وقد كان كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له - فقدم ابن سعد؛ حتى إذا كان بأيلة بلغه أنّ المصريين قد رجعوا إلى عثمان، وأنهم قد حصروه، ومحمد بن أبي حذيفة بمصر؛ فلما بلغ محمدًا حصر عثمان وخروج عبد الله بن سعد عنه غلب على مصر، فاستجابوا له، فأقبل عبد الله بن سعد يريد مصر، فمنعه ابن أبي حذيفة، فوجّه إلى فلسطين، فأقام بها حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وأقبل المصريون حتى نزلوا بالأسواف، فحصروا عثمان، وقدم حكيم بن جبلة من البصرة في ركب، وقدم الأشتر في أهل الكوفة، فتوافوا بالمدينة، فاعتزل الأشتر؛ فاعتزل حكيم بن جبلة، وكان ابن عديس وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان، فكانوا خمسمائة، فأقاموا على حصاره تسعة وأربعين يومًا، حتى قتل يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين. قال محمد: وحدثني إبراهيم بن سالم، عن أبيه، عن بسر بن سعيد، قال: وحدثني عبد الله بن عيّاش بن أبي ربيعة، قال: دخلت على عثمان رضي الله عنه، فتحدثت عنده ساعة، فقال: يا بن عياش، تعال. فأخذ بيدي، فأسمعني كلام من على باب عثمان، فسمعنا كلامًا؛ منهم من يقول: ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: انظروا علسى أن يراجع، فبينا أنا وهو واقفان إذ مرّ طلحة بن عبيد الله؛ فوقف فقال: أين ابن عديس؟ فقيل: ها هو ذا، قال: فجاءه ابن عديس، فناجاه بشيء، ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحدًا يدخل على هذا الرجل؛ ولا يخرج من عنده. قال: فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله. ثم قال عثمان: اللهمّ اكفني طلحة بن عبيد الله، فإنه حمل علي هؤلاء وألّبهم؛ والله إني لأرجو أن يكون منها صفرًا، وأن يسفك دمه، إنه انتهك مني ما لا يحلّ له، سمعت رسول الله ﷺ يقول: " لا يحلّ دم امرىء مسلم إلا في إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فيقتل، أو رجل زنى بعد إحصانه فيرجم، أو رجل قتل نفسًا بغير نفس "، ففيم أقتل! قال: ثم رجع عثمان. قال ابن عياش: فأردت أن أخرج فمنعوني حتى مرّ بي محمد بن أبي بكر فقال: خلّوه، فخلّوني. قال محمد: حدثني يعقوب بن عبد الله الأشعري، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: رأيت اليوم الذي دخل فيه على عثمان، فدخلوا من دار عمرو بن حزم خوخة هناك حتى دخلوا الدار، فناوشوهم شيئًا من مناوشة ودخلوا، فوالله ما نسينا أن خرج سودان بن حمران، فأسمعه يقول: أين طلحة بن عبيد الله؟ قد قتلنا ابن عفان! قال محمد بن عمر: وحدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، عن أبي حفصة اليماني، قال: كنت لرجل من أهل البادية من العرب، فأعجبته - يعني مروان - فاشتراني واشترى امرأتي وولدي فأعتقنا جميعًا؛ وكنت أكون معه، فلما حصر عثمان رضي الله عنه، شمّرت معه بنو أمية، ودخل معه مروان الدار. قال: فكنت معه في الدار، قال: فأنا والله أنشبت القتال بين الناس؛ رميت من فوق الدار رجلًا من أسلم فقتلته؛ وهو نيار الأسلمي، فنشب القتال، ثم نزلت، فاقتتل الناس على الباب، وقاتل مروان حتى سقط فاحتملته، فأدخلته بيت عجوز، وأغلقت عليه، وألقى الناس النيران في أبواب دار عثمان، فاحترق بعضها، فقال عثمان: ما احترق الباب إلّا لما هو أعظم منه، لا يحرّكنّ رجل منكم يده؛ فوالله لو كنت أقصاكم لتخطّوكم حتى يقتلوني، ولو كنت أدناكم ما جاوزوني إلى غيري، وإني لصابر كما عهد إلي رسول الله ﷺ، لأصرعنّ مصرعي الذي كتب الله عز وجل. فقال مروان: والله لا تقتل وأنا أسمع الصوت، ثم خرج بالسيف على الباب يتمثّل بهذا الشعر: قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول أنّي أروع أوّل الرعيل ** بفارةٍ مثل قطا الشليل قال محمد: وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، عن أبي حفصة، قال: لما كان يوم الخميس دلّيت حجرًا من فوق الدار، فقتلت رجلًا من أسلم يقال له نيار، فأرسلوا إلى عثمان: أن أمكنّا من قاتله. قال: والله ما أعرف له قاتلًا، فباتوا ينحرفون علينا ليلة الجمعة بمثل النيران، فلما أصبحوا غدوا، فأوّل من طلع علينا كنانة بن عتّاب، في يده شعلة من نار على ظهر سطوحنا، قد فتح له من دار آل حزم، ثم دخلت الشعل على أثره تنضح بالنّفط؛ فقاتلناهم ساعة على الخشب، وقد اضطرم الخسب، فأسمع عثمان يقول لأصحابه: ما بعد الحريق شيء! قد احترق الخشب، واحترقت الأبواب، ومن كانت لي عليه طاعة فليمسك داره؛ فإنما يريدني القوم، وسيندمون على قتلي؛ والله لو تركوني لظننت أني لا أحبّ الحياة؛ ولقد تغيّرت حالي، وسقط أسناني، ورقّ عظمي. قال: ثم قال لمروان: اجلس فلا تخرج، فعصاه مروان، فقال: والله لا تقتل، ولا يخلص إليك، وأنا أسمع الصوت، ثم خرج إلى الناس. فقلت: ما لمولاي متّرك! فخرجت معه أذبّ عنه، ونحن قليل، فأسمع مروان يتمثّل: قد علمت ذات القرون الميل ** والكفّ والأنامل الطفول ثم صاح: من يبارز؟ وقد رفع أسفل درعه؛ فجعله في منطقته. قال: فيثب إليه ابن النباع فضربه ضربة على رقبته من خلفه فأثبته؛ حتى سقط، فما ينبض منه عرق، فأدخلته بيت فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم بن العدي. قال: فكان عبد الملك وبنو أميّة يعرفون ذلك لآل العدي. حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: حدثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس، عن ابن الحراث بن أبي بكر، عن أبيه أبي بكر بن الحارث بن هشام، قال: كأني أنظر إلى عبد الرحمن بن عديس البلوي وهو مسند ظهره إلى مسجد نبي الله ﷺ وعثمان بن عفان رضي الله عنه محصور، فخرج مروان بن الحكم، فقال من يبارز؟ فقال عبد الرحمن بن عديس لفلان ابن عروة: قم إلى هذا الرجل، فقام إليه غلام شابّ طوال؛ فأخذ رفرف الدرع فغرزه في منطقته، فأعور له عن ساقه، فأهوى له مروان وضربه ابن عروة على عنقه، فكأني أنظر إليه حين استدار. وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرفي ليدفّف عليه، قال: فوثبت عليه فاطمة ابنة أوس جدّة إبراهيم ابن عدي - قال: وكانت أرضعت مروان وأرضعت له - فقالت: إن كنت إنما تريد قتل الرجل فقد قتل؛ وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح. قال: فكفّ عنه. فما زالوا يشكرونها لها، فاستعلموا ابنها إبراهيم بعد. وقال ابن إسحاق: قال عبد الرحمن بن عديس البلوي حين سار إلى المدينة من مصر: أقبلن من بلبيس والصّعيد ** مستحقبات حلق الحديد يطلبن حقّ الله في سعيد ** حتى رجعن بالذي نريد حدثني جعفر بن عبد الله المحمدي، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلي بن حسين، قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، قال: لما مضت أيام التشريق أطافوا بدار عثمان رضي الله عنه، وأبى إلّا الإقامة على أمره، وأرسل إلى حشمه وخاصّته فجمعهم، فقام رجل من أصحاب النبي ﷺ يقال له نيار بن عياض - وكان شيخًا كبيرًا - فنادى: يا عثمان؛ فأشرف عليه من أعلى داره؛ فناشده الله، وذكّره الله لمّا اعتزلهم! فبينا هو يراجعه الكلام إذ رماه رجل من أصحاب عثمان فقتله بسهم، وزعموا أنّ الذي رماه كثير بن الصلت الكندي؛ فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتل نيار بن عياض فلنقتله به، فقال: لم أكن لأقتل رجلًا نصرني وأنتم تريدون قتلي؛ فلمّا رأوا ذلك ثاروا إلى بابه فأحرقوه؛ وخرج عليهم مروان بن الحكم من دار عثمان في عصابة، وخرج سعيد بن العاص في عصابة، وخرج المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زُهرة في عصابة؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ وكان الذي حداهم على القتال أنه بلغهم أن مددًا من أهل البصرة قد نزلوا صرارًا - وهي من المدينة على ليلة - وأن أهل الشام قد توجّهوا مقبلين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا على باب الدار، فحمل المغيرة بن الأخنس الثقفي على القوم وهو يقول مرتجزًا: قد علمت جارية عطبول ** لها وشاح ولها حجول أتى بنصل السيف خنشليل فحمل عليه عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وهو يقول: إن تك بالسّيف كما تقول ** فاثبت لقرن ماجد يصول بمشرفي حدّه مصقول فضربه عبد الله فقتله، وحمل رفاعة بن رافع الأنصاري ثم الزرقي على مروان بن الحكم، فضربه فصرعه، فنزل عنه وهو يرى أنه قتله؛ وجرح عبد الله بن الزبير جراحات، وانهزم القوم حتى لجئوا إلى القصر، فاعتصموا ببابه، فاقتتلوا عليه قتالًا شديدًا، فقتل في المعركة على الباب زياد بن نعيم الفهري في ناس من أصحاب عثمان، فلم يزل الناس يقتتلون حتى فتح عمرو ابن حزم الأنصاري باب داره وهو إلى جنب دار عثمان بن عفان، ثمّ نادى الناس فأقبلوا عليه من داره، فقاتلوهم في جوف الدار حتى انهزموا، وخلّى لهم عن باب الدار؛ فخرجوا هرّابًا في طرق المدينة؛ وبقي عثمان في أناس من أهل بيته وأصحابه فقتلوا معه؛ وقتل عثمان رضي الله عنه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر بن سليمان التيمي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري، قال: أشرف عليهم عثمان رضي الله عنه ذات يوم، فقال: السلام عليكم، قال: فما سمع أحدًا من الناس ردّ عليه إلّا أن يردّ رجل في نفسه، فقال: أنشدكم بالله هل علمتم أني اشتريت رومة من مالي يستعذب بها، فجعلت رشائي منها كرشاء رجل من المسلمين! قال: قيل: نعم. قال: فما يمنعني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر! قال: أنشدكم الله هل علمتم أنّي اشتريت كذا وكذا من الأرض فزدته في المسجد؟ قيل: نعم، قال: فهل علمتم أحدًا من الناس منع أن يصلّي فيه قبلي! قال: أنشدكم الله، هل سمعتم نبي الله ﷺ يذكر كذا وكذا؛ أشياء في شأنه، وذكر الله إياه أيضًا في كتابه المفصّل. قال: ففشا النهى. قال: فجعل الناس يقولون: مهلًا عن أمير المؤمنين، قال: وفشا النهي. قال: وقام الأشتر - قال: ولا أدري يومئذ أو في يوم آخر - فقال: لعله قد مكر به وبكم! قال: فوطئه الناس، حتى لقي كذا وكذا، قال: فرأيته أشرف عليهم مرّة أخرى، فوعظهم وذكّرهم، فلم تأخذ فيهم الموعظة. وكان الناس تأخذ فيهم الموعظة أوّل ما يسمعونها؛ فإذا أعيدت عليهم لم تأخذ فيهم. قال: ثم إنه فتح الباب ووضع المصحف بين يديه. قال: وذاك أنه رأى من الليل أنّ نبي الله ﷺ يقول: " أفطر عندنا الليلة ". قال أبو المعتمر: فحدثنا الحسن: أنّ محمد بن أبي بكر دخل عليه فأخذ بلحيته. قال: فقال له: قد أخذت منّا مأخذًا، وقعدت مني مقعدًا ما كان أبو بكر ليقعده أو ليأخذه. قال: فخرج وتركه. قال: ودخل عليه رجل يقال له الموت الأسود. قال: فخنقه تم خفقه. قال: ثم خرج فقال: والله ما رأيت شيئًا قطّ ألين من حلقه؛ والله لقد خنقته حتى رأيت نفسه يتردّد في جسده كنفس الجانّ. قال: فخرج. قال في حديث أبي سعيد: دخل على عثمان رجل، فقال: بيني وبينك كتاب الله - قال: والمصحف بين يديه - قال: فيهوي له بالسيف، فاتّقاه بيده، فقطعها، فقال: لا أدري أبانها أم قطعها ولم يبنها. قال: فقال: أما والله إنها لأوّل كفّ خطّت المفصّل. وقال في غير حديث أبي سعيد: فدخل عليه التجيبي، فأشعره مشقصًا فانتضح الدم على هذه الآية: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ". قال: فإنها في المصحف ما حكّت. قال: وأخذت ابنة الفرافصة - في حديث أبي سعيد - حليها فوضعته في حجرها، وذلك قبل أن يقتل، قال: فلما أشعر - أو قال: قتل - ناحت عليه. قال: فقال بعضهم: قاتلها الله! ما أعظم عجيزتها! قال: فعلمت أن عدوّ الله لم يرد إلّا الدنيا. وأما سيف، فإنه قال - فيما كتب إلى السري، عن شعيب، عنه: ذُكر عن بدر بن عثمان، عن عمّه، قال: آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة: إنّ الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إنّ الدنيا تفنى، والآخرة تبقى؛ فلا تبطرنّكم الفانية، ولا تشغلنّكم عن الباقية؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى؛ فإن الدنيا منقطعة؛ وإنّ المصير إلى الله. اتقوا الله جلّ وعزّ، فإنّ تقواه جنّة من بأسه، ووسيلة عنده؛ واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم، لا تصيروا أحزابًا، " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ". كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما قضى عثمان في ذلك المجلس حاجاته وعزم وعزم له المسلمون على الصبر والامتناع عليهم بسلطان الله، قال: اخرجوا رحمكم الله فكونوا بالباب، وليجامعكم هؤلاء الذين حبسوا عني. وأرسل إلى طلحة والزبير وعلي وعدّة: أن ادنوا. فاجتمعوا فأشرف عليهم، فقال: يأيّها الناس؛ اجلسوا، فجلسوا جميعًا؛ المحارب الطارىء، والمسالم المقيم، فقال: يا أهل المدينة؛ إنّي أستودعكم الله، وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي؛ وإنّي والله لا أدخل على أحد بعد يومي هذا حتى يقضي الله في قضاءهه؛ ولأدعنّ هؤلاء وما وراء بابي غير معطيهم شيئًا يتّخذونه عليكم دخلا في دين الله أو دنيا حتى يكون الله عز وجل الصانع في ذلك ما أحبّ. وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلّا الحسن ومحمدًا وابن الزبير وأشباهًا لهم؛ فجلسوا بالباب عن أمر آبائهم؛ وثاب إليهم ناس كثير، ولزم عثمان الدار. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة، قالوا: كان الحصر أربعين ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة، قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قد تهيّأ إليهم من الآفاق: حبيب من الشأم، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الكوفة، ومجاشع من البصرة؛ فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان؛ ومنعوه كلّ شيء حتى الماء؛ وقد كان يدخل علي بالشيء مما يريد. وطلبوا العلل فلم تطلع عليهم علّة، فعثروا في داره بالحجارة ليرموا؛ فيقولوا: قوتلنا - وذلك ليلًا - فناداهم: ألا تتّقون الله! ألا تعلمون أنّ في الدار غيري! قالوا: لا والله ما رميناك. قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله، قال: كذبتم؛ إنّ الله عز وجل لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطئوننا. وأشرف عثمان على آل حزم وهم جيرانه؛ فسرّح ابنًا لعمرو إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئًا من الماء فافعلوا. وإلى طلحة وإلى الزبير، وإلى عائشة رضي الله عنها وأزواج النبي ﷺ؛ فكان أوّلهم إنجادًا له علي وأمّ حبيبة؛ جاء علي في الغلس، فقال: يأيّها الناس؛ إنّ الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين؛ لا تقطعوا عن هذا الرجل المادّة؛ فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي؛ وما تعرّض لكم هذا الرجل؛ فبم تستحلّون حصره وقتله! قالوا: لا والله ولا نعمة عين؛ لا نتركه يأكل ولا يشرب؛ فرمى بعمامته في الدار بأنّي قد نهضت فيما أنهضتني؛ فرجع. وجءات أم حبيبة على بغلة لها برحالة مشتملةً على إداوة، فقيل: أم المؤمنين أم حبيبة، فضربوا وجه بغلتها، فقالت: إنّ وصايا بني أميّة إلى هذا الرجل، فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كيلا تهلك أموال أيتام وأرامل. قالوا: كاذبة، وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فندّت بأمّ حبيبة، فتلقّاها الناس، وقد مالت رحالتها، فتعلّقوا بها وأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها. وتجهزّت عائشة خارجة إلى الحجّ هاربة، واستتبعت أخاها، فأبى؛ فقالت: أما والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلنّ. وجاء حنظلة الكاتب حتى قام على محمد بن أبي بكر، فقال: يا محمد، تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها، وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحلّ فتتبعهم! فقال: ما أنت وذاك يا بن التميمّية! فقال: يا بن الخثعميّة؛ إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف، وانصرف وهو يقول: عجبت لما يخوض الناس فيه ** يرومون الخلافة أن تزولا ولو زالت لزال الخير عنهم ** ولاقوا بعدها ذلًّا ذليلا وكانوا كاليهود أو النصارى ** سواء كلّهم ضلّوا السبيلا ولحق بالكوفة. وخرجت عائشة وهي ممتلئة غيظًا على أهل مصر، وجاءها مروان بن الحكم فقال: يا أمّ المؤمنين؛ لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأمّ حبيبة، ثم لا أجد من يمنعني! لا والله ولا أعيّر ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء! وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة، فلزموا بيوتهم، وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات، عليهم الرقباء، فأشرف عثمان على الناس، فقال: يا عبد الله بن عباس - فدعى له - فقال: اذهب فأنت على الموسم - وكان ممّن لزم الباب - فقال: والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحبّ إلي من الحج؛ فأقسم عليه لينطلقنّ. فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة؛ ورمى عثمان إلى الزبير بوصيّته، فانصرف بها - وفي الزبير اختلاف: أأدرك مقتله أو خرج قبله - وقال عثمان: " يا قوم لا يجرمنّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح.. " الآية، اللهم حل بين الأحزاب وبين ما يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، قال: بعثت ليلى ابنة عميس إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فقالت: إنّ المصباح يأكل نفسه، ويضيء للناس؛ فلا تأثما في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما؛ فإنّ هذا الأمر الذي تحاولون اليوم لغيركم غدًا، فاتّقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم؛ فلجّا وخرجا مغضبين يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان؛ وتقول: ما صنع بكما! ألّا ألزمكما الله! فلقيهما سعيد بن العاص، وقد كان بين محمد بن أبي بكر وبينه شيء، فأنكره حين لقيه خارجًا من عند ليلى، فتمثل له في تلك الحال بيتًا: استبق ودّك للصّديق ولا تكن ** فيئًا يعضّ بخاذل ملجاجا فأجابه سعيد متمثلًا: ترون إذًا ضربًا صميمًا من الذي ** له جانب ناءٍ عن الجرم معور كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: فلمّا بويع الناس جاء السابق فقدم بالسلامة، فأخبرهم من الموسم أنهم يريدون جميعًا المصريين وأشياعهم، وأنهم يريدون أن يجمعوا ذلك إلى حجّهم؛ فلمّا أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار، أعلقهم الشيطان، وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلّا قتل هذا الرجل؛ فيشتغل بذلك الناس عنّا، ولم يبق خصلة يرجون بها النجداة إلا قتله. فراموا الباب؛ فمنعهم من ذلك الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم، واجتلدوا، فناداهم عثمان: الله الله! أنتم في حلٍّ من نصرتي فأبوا، ففتح الباب، وخرج ومعه الترس والسيف لينهنههم؛ فلما رأوه أدبر المصريون، وركبهم هؤلاء، ونهنههم فتراجعوا وعظم على الفريقين، وأقسم على الصحابة ليدخلنّ، فأبوا أن ينصرفوا، فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين - وقد كان المغيرة بن الأخنس بن شريق فيمن حجّ، ثم تعجّل في نفر حجّوا معه، فأدرك عثمان قبل أن يقتل وشهد المناوشة، ودخل الدار فيمن دخل وجلس على الباب من داخل؛ وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألّا ندعهم حتى نموت! فاتّخذ عثمان تلك الأيام القرآن نحبًا، يصلّى وعنده المصحف؛ فإذا أعيا جلس فقرأ فيه - وكانوا يرون القراءة في المصحف من العبادة - وكان القوم الذين كفكفهم بينه وبين الباب؛ فلما بقي المصريون لا يمنعهم أحد من الباب ولا يقدرون على الدخول جاءوا بنار، فأحرقوا الباب والسقيفة، فتأجّج الباب والسقيفة؛ حتى إذا احترق الخشب خرّت السقيفة على الباب، فثار أهل الدار وعثمان يصلّي؛ حتى منعوهم الدخول؛ وكان أول من برز لهم المغيرة بن الأخنس، وهو يرتجز: قد علمت جارية عطبول ** ذات وشاح ولها جديل أنّي بنصل السيف خنشليل ** لأمنعنّ منكم خليلي بصارم ليس بذي فلول وخرج الحسن بن علي وهو يقول: لا دينهم ديني ولا أنا منهم ** حتى أسير إلى طمار شمام وخرج محمد بن طلحة وهو يقول: أنا ابن من حامى عليه بأحد ** وردّ أحزابًا على رغم معدّ وخرج سعيد بن العاص وهو يقول: صبرنا غداة الدار والموت واقب ** بأسيافنا دون ابن أروى نضارب وكنّا غداة الروع في الدار نصرة ** نشافههم بالضّرب والموت ثاقب فكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير؛ وأمره عثمان أن يصير إلى أبيه في وصيّة بما أراد، وأمره أن يأتي أهل الدار فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم؛ فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم؛ فما زال يدّعي بها، ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: وأحرقوا الباب وعثمان في الصلاة، وقد افتتح " طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " - وكان سريع القراءة، فما كرثه ما سمع، وما يخطىء وما يتتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه - ثم عاد فجلس إلى عند المصحف وقرأ: " الذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ". وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه: قد علمت ذات القرون الميل ** والحلي والأنامل الطفول لتصدقنّ بيعتي خليلي ** بصارم ذي رونق مصقول لا أستقيل إن أقلت قيلي وأقبل أبو هريرة، والناس محجمون عن الدار إلا أولئك العصبة، فدسروا فاستقتلوا، فقام معهم، وقال: أنا إسوتكم؛ وقال هذا يوم طاب امضرب - يعني أنه حلّ القتال، وطاب وهذه لغة حمير - ونادى: يا قوم، مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار! وبادر مروان يومئذ ونادى: رجل رجل، فبرز له رجل من بني ليث يدعى النباع؛ فاختلفا، فضربه مروان أسفل رجليه، وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه، فانكبّ مروان، واستلقى، فاجترّ هذا أصحابه، واجترّ الآخر أصحابه؛ فقال المصريون: أما والله لولا أن تكونوا حجة علينا في الأمة لقد قتلناكم بعد تحذير، فقال المغيرة: من يبارز؟ فبرز له رجل فاجتلد، وهو يقول: أضربهم باليابس ** ضرب غلام بائس من الحياة آيس فأجابه صاحبه** وقال الناس: قتل المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: إنا لله! فقال له عبد الرحمن بن عديس: مالك؟ قال: إني أتيت فيما يرى النائم، فقيل لي: بشّر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار؛ فابتُليت به، وقتل فباث الكناني نيار بن عبد الله الأسلمي، واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها حتى ملئوها ولا يشعر الذين بالباب، وأقبلت القباس على أبنائهم؛ فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم، وندبوا رجلًا لقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت، فقال: اخلعها وندعك، فقال: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهليّة ولا إسلام، ولا تغنّيت ولا تمنّيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله ﷺ؛ ولست خالعًا قميصًا كسانيه الله عز وجل، وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة، ويهين أهل الشقاء. فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: علقنا والله؛ والله ما ينجينا من الناس إلا قتله، وما يحلّ لنا قتله؛ فأدخلوا عليه رجلًا من بني ليث، فقال: ممن الرجل؟ فقال: ليثي؛ فقال: لستَ بصاحبي، قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي ﷺ في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: فلن تضيع؛ فرجع وفارق القوم، فأدخلوا عليه رجلًا من قريش، فقال: يا عثمان؛ إني قاتلك، قال: كلّا يا فلان، لا تقتلني، قال: وكيف؟ قال: إنّ رسول الله ﷺ استغفر لك يوم كذا وكذا؛ فلن تقارف دمًا حرامًا. فاستغفر ورجع، وفارق أصحابه فأقبل عبد الله بن سلام حتى قام على باب الدار ينهاهم عن قتله، وقال: يا قوم لا تسلّوا سيف الله عليكم؛ فوالله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إنّ سلطانكم اليوم يقوم بالدّرّة؛ فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إنّ مدينتكم محفوفة بملائكة الله؛ والله لئن قتلتموه لتتركنّها؛ فقالوا: يا بن اليهودية؛ وما أنت وهذا! فرجع عنهم. قالوا: وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويلك! أعلى الله تغضب! هل لي إليك جرم إلّا حقّه أخذته منك! فنكل ورجع. قالوا: فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان ابن حمران السكونيّان والغافقي؛ فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله فاستدار المصحف، فاستقرّ بين يديه؛ وسالت عليه الدماء؛ وجاء سودان بن حمران ليضربه، فانكبّت عليه نائلة ابنة الفرافصة، واتّقت السيف بيدها، فتعمّدها، ونفح أصابعها، فأطنّ أصابع يدها وولّت؛ فغمز أوراكها، وقال: إنها لكبيرة العجيزة، وضرب عثمان فقتله، ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه - وقد كان عثمان أعتق من كفّ منهم - فلمّا رأوا سودان قد ضربه، أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت؛ وأخرجوا من فيه، ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى. فلما خرجوا إلى الدار، وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة فقتله، ودار القوم فأخذوا ما وجدوا؛ حتى تناولوا ما على النساء، وأخذ رجل ملاءة نائلة - والرجل يدعى كلثوم بن تجيب - فتنحّت نائلة، فقال: ويح أمّك من عجيزة ما أتمّك! وبصر به غلام لعثمان فقتله وقتل، وتنادى القوم: أبصر رجل من صاحبه، وتنادوا في الدار: أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه؛ وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم؛ وليس فيه إلّا غرارتان، فقالوا: النجاء؛ فإن القوم إنّما يحاولون الدنيا، فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه، وماج الناس فيه، فالتّانىء يسترجع ويبكي، والطارىء يفرح. ندم القوم، وكان الزبير قد خرج من المدينة، فأقام على طريق مكة لئلّا يشهد مقتله، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! رحم الله عثمان. وانتصر له؛ وقيل: إنّ القوم نادمون؛ فقال: دبّروا دبّروا، " وحيل بينهم وبين ما يشتهون.. " الآية. وأتى الخبر طلحة، فقال: رحم الله عثمان! وانتصر له وللإسلام؛ وقيل له: إن القوم نادمون، فقال تبًّا لهم! وقرأ: " فلا يستطيعون توصيةً ولا إلى أهلهم يرجعون ". وأتى عليٌّ فقيل: قتل عثمان، فقال رحم الله عثمان، وخلف علينا بخير! وقيل: ندم القوم، فقرأ: " كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر.. "، الآية. وطلب سعد، فإذا هو في حائطه، وقد قال: لا أشهد قتله، فلما جاءه قتله قال: فررنا إلى المدنية تدنينا؛ وقرأ: " الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا ". اللهمّ أندمهم ثم خذهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن لامجالد، عن الشعبي، عن المغيرة بن شعبة، قال: قلت لعلي: إنّ هذا الرجل مقتول؛ وإنّه إن قتل وأنت بالمدينة اتّخذوا فيك، فاخرج فكن بمكان كذا وكذا؛ فإنك إن فعلت وكنت في غار باليمن طلبك الناس؛ فأبى وحصر عثمان اثنين وعشرين يومًا؛ ثم أحرقوا الباب؛ وفي الدار أناس كثير؛ فيهم عبد الله بن الزبير ومروان، فقالوا: ائذن لنا؛ فقال: إنّ رسول الله ﷺ عهد إلي عهدًا، فأنا صابر عليه؛ وإنّ القوم لم يحرقوا باب الدار إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه؛ فأحرّج على رجل يستقتل ويقاتل؛ وخرج الناس كلهم؛ ودعا بالمصحف يقرأ فيه والحسن عنده، فقال: إنّ أباك الآن لفي أمر عظيم، فأقسمت عليك لما خرجت! وأمر عثمان أبا كرب - رجلًا من همدان - وآخر من الأنصار أن يقوما على باب بيت المال؛ وليس فيه إلا غرارتان من ورق؛ فلما أطفئت النار بعد ما ناوشهم ابن الزبير ومروان، وتوعّد محمد بن أبي بكر ابن الزبير ومروان؛ فلما دخل على عثمان هربا. ودخل محمد بن أبي بكر على عثمان؛ فأخذ بلحيته، فقال: أرسل لحيتي؛ فلم يكن أبوك ليتناولها. فأرسلها؛ ودخلوا عليه؛ فمنهم من يجؤه بنعل سيفه، وآخر يلكزه؛ وجاءه رجل بمشاقص معه، فوجأه في ترقوته، فسال الدم على المصحف وهم في ذلك يهابون في قتله؛ وكان كبيرًا؛ وغشي عليه. ودخل آخرون فلما رأوه مغشيًّا عليه جرّوا برجله؛ فصاحت نائلة وبناته؛ وجءا التجيبي مخترطًا سيفه ليضعه في بطنه، فوقته نائلة، فقطع يدها، واتّكأ بالسيف عليه في صدره. وقتل عثمان رضي الله عنه قبل غروب الشمس، ونادى مناد: ما يحلّ دمه ويحرج ماله؛ فانتهبوا كلّ شيء، ثم تبادروا بيت المال، فألقى الرجلان المفاتيح ونجوا، وقالوا: الهرب الهرب! هذا ما طلب القوم. وذكر محمد بن عمر، أنّ عبد الرحمن بن عبد العزيز حدثه عن عبد الرحمن ابن محمد، أنّ محمد بن أبي بكر تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم، ومعه كنانة بن بشر بن عتّاب، وسودان بن حمران، وعمرو بن الحمق؛ فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة وهو يقرأ في المصحف في سورة البقرة، فتقدّمهم محمد بن أبي بكر؛ فأخذ بلحية عثمان، فقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال عثمان: لست بنعثل؛ ولكني عبد الله وأمير المؤمنين. قال محمد: ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان! فقال عثمان: يا بن أخي، دع عنك لحيتي؛ فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه. فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك؛ وما أريد بك أشدّ من قبضي على لحيتك؛ قال عثمان: أستنصر الله عليك وأستعين به. ثم طعن جبينه بمشقص في يده. ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده، فوجأ بها في أصل أذن عثمان، فمضت حتى دخلت في حلقه، ثمّ علاه بالسيف حتى قتله؛ فقال عبد الرحمن: سمعت أبا عون يقول: ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدّم رأسه بعمود حديد، فخرّ لجبينه، فضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه فقتله. قال محمد بن عمر: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزنّاد، عن عبد الرحمن ابن الحراث، قال: الذي قتله كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي. وكانت امرأة منظور بن سيار الفزاري تقول: خرجنا إلى الحجّ؛ وما علمنا لعثمان بقتل؛ حتى إذا كنّا بالعرج سمعنا رجلًا يتغنّى تحت الليل: ألا إنّ خير الناس بعد ثلاثة ** قتيل التجيبي الذي جاء من مصر قال: وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان، فجلس على صدره وبه رمق، فطعنه تسع طعنات. قال عمرو: فأما ثلاث منهنّ فإني طعنتهنّ إيّاه لله؛ وأما ستّ فإني طعنتهن إيّاه لما كان في صدري عليه. قال محمد: وحدثني إسحاق بن يحيى، عن موسى بن طلحة، قال: رأيت عروة بن شيَيْم ضرب مروان يوم الدار بالسيف على رقبته، فقطع إحدى علباويه، فعاش مروان أوقص؛ ومروان الذي يقول: ما قلت يوم الدار للقوم حاجزوا ** رويدًا ولا استبقوا الحياة على القتل ولكنّي قد قلت للقوم ماصعوا ** بأسيافكم كيما يصلن إلى الكهل قال محمد الواقدي: وحدثني يوسف بن يعقوب، عن عثمان بن محمد الأخنسي، قال: كان حصر عثمان قبل قدوم أهل مصر، فقدم أهل مصر يوم الجمعة، وقتلوه في الجمعة الأخرى. وحدثني عبد الله بن أحمد المروزوي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن حرملة بن عمران، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، قال: وليَ قتلَ عثمان نهران الأصبحي، وكان قاتل عبد الله بن بسرة؛ وهو رجل من بني عبد الدار. قال محمد بن عمر: وحدثني الحكم بن القاسم، عن أبي عون مولى المسور بن مخرمة، قال: مازال المصرّيون كافّين عن دمه وعن القتال؛ حتى قدمت أمداد العراق من البصرة ومن الكوفة ومن الشأم؛ فلما جاءوا شجعوا القوم؛ وبلغهم أنّ البعوث قد فصلت من العراق ومن مصر من عند ابن سعد؛ ولم يكن ابن سعد بمصر قبل ذلك؛ كان هاربًا قد خرج إلى الشأم، فقالوا: نعاجله قبل أن تقدم الأمداد. قال محمد: وحدثني الزبير بن عبد الله، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال: أشرف عثمان عليهم وهو محصور؛ وقد أحاطوا بالدّار من كلّ ناحية، فقال: أنشدكم بالله جلّ وعزّ؛ هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يخير لكم، وأن يجمعكم على خيركم! فما ظنّكم بالله! أتقولونه: لم يستجب لكم، وهنتم على الله سبحانه، وأنتم يومئذ أهل حقّه من خلقه، وجميع أموركم لم تتفرق! أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولّاه، والدّين يومئذ يعبد به الله ولم يتفرّق أهله؛ فتوكّلوا أو تخذلوا، وتعاقبوا! أم تقولون: لم يدر الله ما عاقبة أمري؛ فكنت في بعض أمري محسنًا، ولأهل الدين رضًا، فما أحدثت بعد في أمري ما يسخط الله، وتسخطون مما لم يعلم الله سبحانه يوم اختارني وسربلني سربال كرامته! وأنشدكم بالله، هل تعلمون لي من سابقة خير وسلف خير قدّمه الله لي، وأشهدنيه من حقه! وجهاد عدوّه حقّ على كلّ من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها. فمهلًا، لا تقتلوني؛ فإنه لا يحلّ إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إسلامه، أو تقل نفسًا بغير نفس فيقتل بها؛ فإنكم إن قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم؛ ثم لم يرفعه الله عز وجل عنكم إلى يوم القيامة. ولا تقتلوني فإنكم إن قتلتموني لم تصلّوا من بعدي جميعًا أبدًا، ولم تقتسموا بعدي فيئًا جميعًا أبدًا، ولن يرفع الله عنكم الاختلاف أبدًا. قالوا له: أمّا ما ذكرت من استخارةِ الله عز وجل الناس بعد عمر رضي الله عنه فيمن يولّون عليهم، ثم ولّوك بعد استخارة الله؛ فإنّ كلّ ما صنع الله الخيرة؛ ولكن الله سبحانه جعل أمرك بليّةً ابتلى بها عباده. وأما ما ذكرت من قدمك وسبقك مع رسول الله ﷺ، فإنك قد كنت ذا قدمٍ وسلفٍ، وكنت أهلًا للولاية؛ ولكن بدّلت بعد ذلك، وأحدثت ما قد علمت. وأما ما ذكرت مما يصيبنا إن نحن قتلناك من البلاء؛ فإنه لا ينبغي ترك إقامة الحقّ عليك مخافة الفتنة عامًا قابلًا. وأما قولك: إنه لا يحلّ إلّا قتل ثلاثة؛ فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سمّيت؛ قتل من سعى في الأرض فسادًا، وقتل من بغى ثم قاتل لعى بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه ثم قاتل دونه وكابر عليه؛ وقد بغيت، ومنعت الحقّ، وحلت دونه؛ وكابرت عليه؛ تأبى أن تقيد من نفسك من ظلمت عمدًا، وتمسّكت بالإمارة علينا وقد جرت في حكمك وقسمك! فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليه، وأنّ الذين قاموا دونك ومنعوك منّا إنما يقاتلون بغير أمرك؛ فإنما يقاتلون لتمسّكك بالإمارة؛ فلو أنّك خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال دونك. ذكر بعض سير عثمان بن عفان رضي الله عنه حدثني زياد بن أيّوب، قال: حدثنا هشيم، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت المسجد؛ فإذا أنا بعثمان بن عفان متّكئًا على ردائه، فأتاه سقّاءان يختصمان، فقضى بينهما. وفيما كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمارة بن القعقاع، عن الحسن البصري، قال: كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلّا بإذن وأجلٍ، فشكوه فبلغه، فقام فقال: ألا إنّي قد سننت الإسلام سنّ البعير؛ يبدأ فيكون جذعًا، ثم ثنيًّا، ثم رباعيًّا، ثم سديسًا، ثم بازلا، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان! ألا فإنّ الإسلام قد بزل. ألا وإنّ قريشًا يريدون أن يتّخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حي فلا؛ إني قائم دون شعب الحرّة، آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر، فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا، ورآهم الناس، انقطع إليهم من لم يكن له طول ولا مزيّة في الإسلام؛ فكان مغمومًا في الناس، وصاروا أوزاعًا إليهم وأمّلوهم، وقتدّموا في ذلك فقالوا: يملكون فنكون قد عرفناهم، وتقدّمنا في التقرّب والانقطاع إليهم، فكان ذلك أوّل وهنٍ دخل على الإسلام؛ وأوّل فتنة كانت في العامّة، ليس إلا ذلك. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملّته قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة، فامتنع عليهم، وقال: إنّ أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد؛ فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو - وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين؛ ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة - فيقول: قد كان في غزوك مع رسول الله ﷺ ما يبلّغك؛ وخير لك من الغزو اليوم ألّا ترى الدنيا ولا تراك، فلما ولي عثمان خلّى عنهم، فاضطربوا في البلاد، وانقطع إليهم الناس، فكان أحبّ إليهم من عمر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما ولي عثمان حجّ سنواته كلها إلا آخر حجّة، وحجّ بأزواج رسول الله ﷺ كما كان يصنع عمر؛ فكان عبد الرحمن بن عوف في موضعه؛ وجعل في موضع نفسه سعيد بن زيد؛ هذا في مؤخّر القطار، وهذا في مقدّمه، وأمن الناس؛ وكتب في الأمصار أن يوافيه العمّال في كلّ موسم ومن يشكونهم. وكتب إلى الناس إلى الأمصار؛ أن ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، ولا يذلّ المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلومًا إن شاء الله. فكان الناس بذلك، فجرى ذلك إلى أن اتّخذه أقوامٌ وسيلةً إلى تفريق الأمة. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لم تمض سنة من إمارة عثمان حتى اتّخذ رجال من قريش أموالًا في الأمصار، وانقطع إليهم الناس، وثبتوا سبع سنين، كلّ قوم يحبّون أن يليَ صاحبهم. ثم إنّ ابن السوداء أسلم، وتكلّم وقد فاضت الدنيا، وطلعت الأحداث على يديه، فاستطالوا عمر عثمان رضي الله عنه. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عثمان بن حكيم ابن عبّاد بن حنيف، عن أبيه، قال: أوّل منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا، وانتهى وسع الناس طيران الحمام والرّمي على الجلاهقات، فاستعمل عليها عثمان رجلًا من بني ليث سنة ثمان، فقصّها وكسر الجلاهقات. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن عمرو بن شعيب، قال: أوّل من منع الحمام الطيّارة والجلاهقات عثمان؛ ظهرت بالمدينة فأمرّ عليها رجلًا، فمنعهم منها. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، عن أبيه نحوًا منه؛ وزاد: وحدث بين الناس النشو. قال: فأرسل عثمان طائفًا يطوف عليهم بالعصا، فمنعهم من ذلك، ثم اشتدّ ذلك فأفشى الحدود، ونبّأ ذلك عثمان، وشكاه إلى الناس، فاجتمعوا على أن يجلدوا في النبيذ، فأخذ نفر منهم فجلدوا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر بن الفضيل، عن سالم بن عبد الله، قال: لما حدثت الأحداث بالمدينة خرج منها رجال إلى الأمصار مجاهدين، وليدنوا من العرب؛ فمنهم من أتى البصرة، ومنهم من أتى الكوفة، ومنهم من أتى الشام، فهجموا جميعًا من أبناء المهاجرين بالأمصار على مثل ما حدث في أبناء المدينة إلّا ما كان من أبناء الشام، فرجعوا جميعًا إلى المدينة إلّا من كان بالشام، فأخبروا عثمان بخبرهم؛ فقام عثمان في الناس خطيبًا، فقال: يا أهل المدينة؛ أنتم أصل الإسلام؛ وإنّما يفسد الناس بفسادكم، ويصلحون بصلاحكم؛ والله والله والله لا يبلغني عن أحد منكم حدث أحدثه إلّا سيّرته؛ ألا فلا أعرفنّ أحدًا عرض دون أولئك بكلام ولا طلب، فإنّ من كان قبلكم كانت تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم أحد منهم بما عليه ولا له. وجعل عثمان لا يأخذ أحدًا منهم على شرّ أو شهر سلاح: عصًا فما فوقها إلّا سيّره؛ فضجّ آباؤهم من ذلك حتى بلغه أنهم يقولون: ما أحدث التسيير إلّا أنّ رسول الله ﷺ سيّر الحكم بن أبي العاص، فقال: إنّ الحكم كان مكيًّا، فسيّره رسول الله ﷺ منها إلى الطائف، ثم ردّه إلى بلده؛ فرسول الله ﷺ سيّره بذنبه، ورسول الله ﷺ ردّه بعفوه. وقد سيّر الخليفة من بعده؛ وعمر رضي الله عنه من بعد الخليفة، وايمُ الله لآخذنّ العفو من أخلاقكم، ولأبذلنّه لكم من خلقي؛ وقد دنت أمور، ولا أحبّ أن تحلّ بنا وبكم؛ وأنا على وجلٍ وحذر، فاحذروا واعتبروا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت ويحيى بن سعيد، قالا: سأل سائل سعيد بن المسيّب عن محمد بن أبي حذيفة: ما دعاه إلى الخروج على عثمان؟ فقال: كان يتيمًا في حجر عثمان، فكان عثمان والي أيتام أهل بيته؛ ومحتمل كلّهم؛ فسأل عثمان العمل حين وُلّيَ، فقال: يا بني، لو كنت رضًا ثم سألتني العمل لاستعملتك، ولكن لست هناك! قال: فأذن لي فلأخرج فلأطلب ما يقوتني، قال: اذهب حيث شئت؛ وجهّزه من عنده، وحمله وأعطاه، فلما وقع إلى مصر كان فيمن تغيّر عليه أن منعه الولاية. قيل: فعمّار بن ياسر؟ قال: كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام، فضربهما عثمان، فأورث ذاك بين آل عمّار وآل عتبة شرًا حتى اليوم، وكنى عمّا ضربا عليه وفيه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد بن ثابت، قال: فسألت ابن سليمان بن أبي حثمة، فأخبرني أنه تقاذف. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، قال: سألت سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر: ما دعاه إلى ركوب عثمان؟ فقال: الغضب والطمع، قلت: ما الغضب والطمع؟ قال: كان من الإسلام بالمكان الذي هو به، وغرّه أقوام فطمع. وكانت له دالّة فلزمه حقّ، فأخذه عثمان من ظهره، ولم يدهن؛ فاجتمع هذا إلى هذا، فصار مذمّما بعد أن كان محمّدا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مبشّر، عن سالم بن عبد الله، قال: لما ولّيَ عثمان لان لهم، فانتزع الحقوق انتزاعًا، ولم يعطّل حقًّا، فأحبّوه على لينه، فأسلمهم ذلك إلى أمر الله عز وجل. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل، عن القاسم، قال: كان مما أحدث عثمان فرضي به منه أنه ضرب رجلًا في منازعة استخفّ فيها بالعباس بن عبد المطلب، فقيل له، فقال: نعم، أيفخّم رسول الله ﷺ عمّه، وأرخّص في الاستخفاف به! لقد خالف رسول الله ﷺ من فعل ذلك، ومن رضي به منه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن رزيق بن عبد الله الرازي، عن علقمة بن مرثد، عن حمران بن أبان؛ قال: أرسلني عثمان إلى العباس بعد ما بويع، فدعوته إليه، فقال: مالك تعبّدتني! قال: لم أكن قطّ أحوج إليك مني اليوم، قال: الزم خمسًا؛ لا تنازعك الأمة خزائمها ما لزمتها، قال: وما هنّ؟ قال: الصبر عن القتل، والتحبّب، والصفح، والمداراة، وكتمان السرّ. وذكر محمد بن عمر، قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن أميّة الضمري، قال: إن قريشًا كان من أسنّ منهم مولعًا بأكل الخزيرة؛ وإني كنت أتعشّى مع عثمان خزيرًا من طبخ من أجود ما رأيت قطّ، فيها بطون الغنم، وأدمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى هذا الطعام؟ فقلت: هذا أطيب ما أكلت قطّ، فقال: يرحم الله ابن الخطّاب! أكلت معه هذه الخزيرة قطّ؟ قلت: نعم؛ فكادت اللقمة تفرث في يدي حين أهوي بها إلى فمي؛ وليس فيها لحم؛ وكان أدمها السمن ولا لبن فيها. فقال عثمان: صدقت، إنّ عمر رضي الله عنه أتعب والله من تبع أثره؛ وإنه كان يطلب بثنيه عن هذه الأمور ظلفًا. أما والله ما آكله من مال المسلمين؛ ولكني آكله من مالي؛ أنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالًا، وأجدّهم في التجارة؛ ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه؛ وقد بلغت سنًّا فأحبّ الطعام إلي ألينه؛ ولا أعلم لأحد علي في ذلك تبعةً. قال محمد: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر، قال: كنت أفطر مع عثمان في شهر رمضان؛ فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر، قد رأيت على مائدة عثمان الدرمك الجيّد وصغار الضأن كلّ ليلة؛ وما رأيت عمر قطّ أكل من الدقيق منخولا، ولا أكل من الغنم إلّا مسانّها، فقلت لعثمان في ذلك، فقال: يرحم الله عمر! ومن يطيق ما كان عمر يطيق! قال محمد: وحدثني عبد الملك بن يزيد بن السائب، عن عبد الله بن السائب، قال: أخبرني أبي، قال: أوّل فسطاط رأيته بمنىً فسطاط لعثمان، وآخر لعبد الله بن عامر بن كريز، وأوّل من زاد النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء عثمان، وأوّل من نخل له الدقيق من الولاة عثمان رضي الله عنه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بلغ عثمان أنّ ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيرنجًا - قال محمد بن سلمة: إنما هو نيرج - فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك؛ فإن أقرّ به فأوجعه، فدعا به فسأله، فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه؛ فأمر به فعزّر، وأخبر الناس خبره، وقرأ عليهم كتاب عثمان: إنه قد جدّ بكم، فعليكم بالجدّ؛ وإياكم والهزّال؛ فكان الناس عليه؛ وتعجّبوا من وقوف عثمان على مثل خبره، فغضب، فنفر في الذين نفروا، فضرب معهم، فكتب إلى عثمان فيه، فلما سيّر إلى الشأم من سيّر، سيّر كعب بن ذي الحبكة ومالك ابن عبد الله - وكان دينه كدينه - إلى دنباوند؛ لأنها أرض سحرة، فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة للوليد: لعرمي لئن طردتني ما إلى التي ** طمعت بها من سقطتي لسبيل رجوت رجوعي يا بن أروى ورجعتي ** إلى الحقّ دهرًا غال ذلك غول وإنّ اغترابي في البلاد وجفوتي ** وشتمي في ذات الإله قليل وإنّ دعائي كلّ يوم وليلة ** عليك بدنباوندكم لطويل فلما ولي سعيد أقله، وأحسن إليه واستصلحه، فكفره، فلم يزدد إلا فسادًا. واستعار ضابىء بن الحارث البرجمي في زمان الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلبًا يدعى قرحان، يصيد الظباء، فحبسه عنهم، فنافره الأنصاريون، واستغاثوا عليه بقومه فكاثروه، فانتزعوه منه وردّوه على الأنصار، فهجاهم وقال في ذلك: تحشّم دوني وفد قرحان خطةً ** تضلّ لها الوجناء وهي حسير فباتوا شباعًا ناعمين كأنما ** حباهم ببيت المرزبان أمير فكلبكم لا تتركوا فهو أمّكم ** فإنّ عقوق الأمّهات كبير فاستعدوا عليه عثمان، فأرسل إليه، فعزّره وحبسه كما كان يصنع بالمسلمين، فاستثقل ذلك، فما زال في الحبس حتى مات فيه. وقال في الفتك يعتذر إلى أصحابه: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** فعلت وولّيت البكاء حلائله وقائلة قد مات في السجن ضابىء ** ألا من لخصم لم يجد من يجادله! وقائلة لا يبعد الله ضابئًا ** فنعم الفتى تخلو به وتحاوله فلذلك صار عمير بن ضابىء سبئيًا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المستنير، عن أخيه، قال: والله ما علمت ولا سمعت بأحد غزا عثمان رضي الله عنه، ولا ركب إليه إلّا قتل؛ لقد اجتمع بالكوفة نفر، فيهم الأشتر وزيد بن صوحان وكعب ابن ذي الحبكة وأبو زينب وأبو مورّع وكميل بن زياد وعمير بن ضابىء، فقالوا: لا والله لا يرفع رأس مادام عثمان على الناس؛ فقال عمير بن ضابىء وكميل بن زياد: نحن نقتله. فركبا إلى المدينة؛ فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل بن زياد فإنه جسر وثاوره؛ وكان جالسًا يرصده حتى أتى عليه عثمان، فوجأ عثمان وجهه، فوقع على استه، وقال: أوجعتني يا أمير المؤمنين! قال: أولست بفاتك! قال: لا والله الذي لا إله إلّا هو؛ فحلف وقد اجتمع عليه الناس، فقالوا: نفتّشه يا أمير المؤمنين، فقال: لا، قد زرق الله العافية، ولا أشتهي أن أطّلع منه على غير ما قال. وقال: إن كان كما قلت يا كميل فاقتدْ منّي - وجثا - فوالله ما حسبتك إلّا تريدني، وقال: إن كنت صادقًا فأجزل الله، وإن كنت كاذبًا فأذلّ الله. وقعد له على قدميه وقال: دونك! قال: قد تركت. فبقيا حتى أكثر الناس في نجائهما، فلمّا قدم الحجّاج قال: من كان من بعث المهلّب فليواف مكتبه؛ ولا يجعل على نفسه سبيلا. فقام إليه عمير، وقال: إني شيخ ضعيف، ولي ابنان قويّان؛ فأخرج أحدهما مكاني أو كليهما، فقال: من أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابىء، فقال: والله لقد عصيت الله عز وجل منذ أربعين سنة؛ ووالله لأنكلّنّ بك المسلمين، غضبت لسارق الكلب ظالمًا، إنّ اباك إذ غل لهمّ؛ وإنّك هممت ونكلت، وإني أهمّ ثم لا أنكل. فضربت عنقه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، قال: حدثنا رجل من بني أسد، قال: كان من حديثه أنه كان قد غزا عثمان رضي الله عنه فيمن غزاه؛ فلما قدم الحجّاج ونادى بما نادى به، عرض رجل عليه ما عوض نفسه، فقبل منه، فلما ولّى قال أسماء بن خارجة: لقد كان شأن عمير مما يهمّني، قال: ومن عمير؟ قال: هذا الشيخ، قال: ذكّرتني الطعن وكنت ناسيًا أليس فيمن خرج إلى عثمان؟ قال: بلى، قال: فهل بالكوفة أحد غيره؟ قال: نعم، كميل، قال: علي بعمير، فضرب عنقه، ودعا بكميل فهرب؛ فأخذ النخع به، فقال له الأسود بن الهيثم: ما تريد من شيخ قد كفاكه الكبر! فقال: أما والله لتحبسنّ عني لسانك أو لأحسّنّ رأسك بالسيف. قال: أفعل. فلما رأى كميل ما لقي قومه من الخوف وهما ألفا مقاتل، قال: الموت خير من الخوف إذا أخيف ألفان من سبي وحرموا. فخرج حتى أتى الحجّاج، فقال له الحجّاج: أنت الذي أردت ثم لم يكشفك أمير المؤمنين، ولم ترض حتى أقعدته للقصاص إذ دفعك عن نفسه؟ فقال: على أي ذلك تقتلني! تقتلني على عفوه أو على عافيتي؟ قال: يا أدهم بن المحرز، اقتله؛ قال: والأجر بيني وبينك؟ قال: نعم، قال أدهم: بل الأجر لك؛ وما كان من إثم فعلي. وقال مالك بن عبد الله - وكان من المسيّرين: مضت لابن أروى في كميل ظلامة ** عفاها له والمستقيد يلام وقال له لا أقبح اليوم مثلةً ** عليك أبا عمرو وأنت إمام رويدك رأسي والذي نسكت له ** قريش بنا على الكبير حرام وللعفو أمن يعرف الناس فضله ** وليس علينا في القصاص أثام ولو علم الفاروق ما أنت صانع ** نهى عنك نهيًا ليس فيه كلام حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، عن سحيم بن حفص، قال: كان ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب شريك عثمان في الجاهليّة، فقال العباس بن ربيعة لعثمان: اكتب لي إلى ابن عامر يسلفني مائة ألف؛ فكتب، فأعطاه مائة ألف وصله بها، وأقطعه داره؛ دار العباس ابن ربيعة اليوم. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى ابن طلحة، قال: كان لعثمان على طلحة خمسون ألفًا فخرج عثمان يومًا إلى المسجد، فقال له طلحة: قد تهيّأ مالك فاقبضه، قال: هو لك يا أبا محمد معونةً لك على مروءتك.. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن عبد ربّه، عن نافع، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: قال علي لطلحة: أنشدك الله إلّا رددت الناس عن عثمان! قال: لا والله حتى تعطي بنو أمية الحقّ من أنفسها. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو بكر البكري، عن هشام بن حسان، عن الحسن؛ أنّ طلحة بن عبيد الله باع أرضًا له من عثمان بسبعمائة ألف، فحملها إليه، فقال طلحة: إنّ رجلا تتّسق هذه عنده وفي بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله عز وجل لغرير بالله سبحانه! فبات ورسوله يختلف بها في سكك المدينة يقسمها حتى أصبح، فأصبح وما عنده منها درهم. قال الحسن: وجاء هاهنا يطلب الدينار والدرهم - أو قال: الصفراء والبيضاء. وحجّ بالناس في هذه السنة - أعني سنة خمس وثلاثين - عبد الله بن عباس بأمر عثمان إياه بذلك؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله أمر عثمان ابن عباس أن يحج بالناس في هذه السنة ذكر محمد بن عمر الواقدي أنّ أسامة بن زيد حدثه عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما حصر عثمان الحصر الآخر قال عكرمة: فقلت لابن عبّاس: أوكانا حصرين؟ فقال ابن عباس: نعم، الحصر الأوّل، حصر اثنتي عشرة - وقدم المصريون فلقيهم علي بذي خشب؛ فردّهم عنه؛ وقد كان والله علي له صاحب صدق، حتى أوغر نفس علي عليه؛ جعل مروان وسعيد وذووهما يحملونه على علي فيتحمّل؛ ويقولون: لو شاء ما كلّمك أحد؛ وذلك أن عليًّا كان يكلمه وينصحه ويغلظ عليه في المنطق في مروان وذويه، فيقولون لعثمان: هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمّه وابن عمته؛ فما ظنّك بما غاب عنك منه! فلم يزالوا بعلي حتى أجمع ألّا يقوم دونه؛ فدخلت عليه اليوم الذي خرجت فيه إلى مكة، فذكرت له أنّ عثمان دعاني إلى الخروج فقال لي: ما يريد عثمان أن ينصحه أحدٌ؛ اتّخذ بطانة أهل غشّ ليس منهم أحد إلّا قد تسبّب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذلّ أهلها؛ فقلت له: إنّ له رحمًا وحقًّا؛ فإن رأيت أن تقوم دونه فعلت؛ فإنك لا تعذر إلا بذلك. قال ابن عباس: فالله يعلم أنّي رأيت فيه الانكسار والرّقة لعثمان؛ ثم إني لأراه يؤتى إليه عظيم. ثم قال عكرمة: وسمعت ابن عباس يقول: قال لي عثمان: يا بن عباس، اذهب إلى خالد بن العاص وهو بمكة، فقل له: يقرأ عليك أمير المؤمنين السلام، ويقول لك: إني محصور منذك كذا وكذا يومًا، لا أشرب إلّا من الأجاج من داري، وقد منعت بئرًا اشتريتها من صلب مالي، رومة؛ فإنما يشربها الناس ولا اشرب منها شيئًا، ولا آكل إلّا مما في بيتي، منعت أن آكل مما في السوق شيئًا وأنا محصور كما ترى؛ فأمره وقل له: فليحجّ بالناس؛ وليس بفاعل؛ فإن أبي فاحجج أنت بالناس. فقدمت الحجّ في العشر، فجئت خالد بن العاص، فقلت له ما قال لي عثمان، فقال لي: هل طاقة بعداوة من ترى؟ فأبى أن يحجّ وقال: فحجّ أنت بالناس: فأنت ابن عمّ الرجل؛ وهذا الأمر لا يفضي إلّا إليه - يعني عليًّا - وأنت أحقّ أن تحمل له ذلك، فحججت بالناس، ثم قفلت في آخر الشهر، فقدمت المدينة وإذا عثمان قد قتل؛ وإذا الناس يتواثبون على رقبة علي بن أبي طالب. فلما رآني علي ترك الناس، وأقبل علي فانتجاني، فقال: ما ترى فيما وقع؟ فإنه قد وقع أمر عظيم كما ترى لا طاقة لأحد به؛ فقلت: أرى أنه لا بدّ للناس منك اليوم؛ فأرى أنه لا يبايع اليوم أحدٌ إلّا اتّهم بدم هذا الرجل، فأبى إلّا أن يبايع فاتّهم بدمه. قال محمد: فحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عكرمة، قال: قال ابن عباس: قال لي عثمان رضي الله عنه: إني قد استعملت خالد بن العاص بن هشام على مكة؛ وقد بلغ أهل مكة ما صنع الناس؛ فأنا خائف أن يمنعوه الموقف فيأبى، فيقاتلهم في حرم الله جلّ وعزّ وأمنه. وإن قومًا جاءوا من كلّ فجّعميق، ليشهدوا منافع لهم؛ فرأيت أن أولّيك أمر الموسم. وكتب معه إلى أهل الموسم بكتاب يسألهم أن يأخذوا له بالحقّ ممن حصره. فخرج ابن عباس، فمرّ بعائشة في الصلصل؛ فقالت: يا بن عباس؛ أنشدك الله - فإنك قد أعطيت لسانًا إزعيلا - أن تخذّل عن هذا الرجل، وأن تشكّك فيه الناس؛ فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت، ورفعت لهم المنار، وتحلّبوا من البلدان لأمر قد حمّ؛ وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتّخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر، قال: قلت يا أمّه لو حدث بالرّجل حدث ما فزع الناس إلّا إلى صاحبنا. فقالت: إيهًا عنك! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك. قال ابن أبي سبرة: فأخبرني عبد المجيد بن سهيل؛ أنه انتسخ رسالة عثمان التي كتب بها من عكرمة، فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمان أمير المؤمنين إلى المؤمنين والمسلمين؛ سلام عليكم، فإنّي أذكّركم بالله جلّ وعزّ الذي أنعم عليكم وعلّمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البيّنات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدوّ، وأسبغ عليكم نعمتع؛ فإنّ الله عز وجل يقول وقوله الحق: " وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفَّار ". وقال عز وجل: " يأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون واعتصمموا بحبل الله جميعًا " إلى قوله: " لهم عذاب عظيم ". وقال وقوله الحقّ: " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الَّذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ". وقال وقوله الحقّ: " يأيُّها الَّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ " إلى قوله: " فضلًا من الله ونعمة والله عليم حكيم ". وقوله عز وجل: " إنَّ الَّذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا " إلى " ولهم عذاب أليم ". وقال وقوله الحق: " فاتٌّقوا الله ما استطعم " إلى " فأولئك هم المفلحون ". وقال وقوله الحق ": " ولاتنقضوا الإيمان بعد توكيدها " إلى قوله: " ولنجزينَّ الَّذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ". وقال وقوله الحق: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " إلى " وأحسن تأويلًا ". وقال وقوله الحق: م " وعد الله الَّذين آمنوا منكم وعملوا الصَّالحات " إلى قوله: " ومن مكفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ". وقال وقوله الحق: " إنَّ الَّذين يبايعونك إنَّما يبايعون الله " إلى " فسيؤتيه أجرًا عظيمًا ". أما بعد، فإنّ الله عز وجل رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذّركم المعصية والفرقة والاختلاف، ونبّأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدّم إليكم فيه ليكون له الحجّة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله عز وجل واحذروا عذابه؛ فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلّا من بعد أن تختلف؛ إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعًا، وسلِّط عليكم عدوّكم، ويستحلّ بعضكم حرم بعض؛ ومتى يفعل ذلك لا يقم لله سبحانه دين، وتكونوا مشيعًا، وقد قال الله جلّ وعزّ لرسوله ﷺ: " إنَّ الَّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شعيًا لست منهم في شيء إنَّما أمرهم إلى الله ثمَّ ينبِّئهم بما كانوا يفعلون ". وإني أوصيكم بما أوصاكم الله، وأحذّركم عذابه؛ فإن شعيبًا ﷺ قال لقومه: " ويا قوم لا يجر منَّكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح " إلى قوله: " رحيم ودود ". أما بعد؛ فإنّ أقوامًا ممن كان يقول في هذا الحديث، أظهروا للناس أنَّما يدعون إلى كتاب الله عز وجل والحقّ، ولا يريدون الدنيا ولا منازعة فيها؛ فلما عرض عليهم الحقّ إذا الناس في ذلك شتى؛ منهم آخذ للحقّ، ونازع عنه حين يعطاه؛ ومنهم تارك للحقّ ونازل عنه في الأمر، يريد أن يبتزّه بغير الحقّ؛ طال عليهم عمري، وراث عليهم. أملهم الإمرة؛ فاستعجلوا القدر؛ وقد كتبوا إليكم أنهم قد رجعوا بالذي أعطيتهم؛ ولا أعلم أني تركت من الذي عاهدتهم عليه شيئًا؛ كانوا زعموا أنهم يطلبون الحدود، فقلت: أقيموها على من علمتم تعدّاها في أحد، أقيموها على من ظلمكم من قريب أو بعيد. قالوا: كتاب الله يتلى، فقلت: فليتله من تلاه غير غال فيه بغير ما أنزل الله في الكتاب. وقالوا: المحروم يرزق، والمال يوفَّى ليستنّ فيه السنّة الحسنة، ولا يعتدي في الخمس ولا في الصدقة، ويؤمَّر ذو القوّة والأمانة، وتردُّ مظالم مالناس إلى أهلها؛ فرضيت بذلك واصطبرت له؛ وجئت نسوة مالنبي ﷺ محتى كلّمتهنّ، فقلت: ما تأمرنني؟ فقلن: تؤمِّر عمرو بن العاص وعبد الله بن قيس وتدع معاوية؛ فإنما أمّره أمير قبلك؛ فإنه مصلح لأرضه، راض به جنده؛ واردد عمرًا؛ فإنّ جنده راضون به، وامّره فليصلح أرضه؛ فكلّ ذلك فعلت. وإنه اعتدى علي بعد ذلك، وعدي على الحقّ. كتبت إليكم وأصحابي الذين زعموا في الأمر؛ استعجلوا القدر، ومنعوا مني الصلاة، وحالوا بيني وبين المسجد، وابتزُّوا ما قدروا عليه بالمدينة. كتبت إليكم كتابي هذا؛ موهم يخيّرونني إحدى ثلاث: إما يقيدونني بكلّ رجل أصبتهه خطأ أو صوابًا، غير متروك منه شيء؛ وإمّا أعتزل الأمر فيؤمِّرون آخر غيري، وإمّا يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرّءون من الذي جعل الله سبحانه لي عليهم من السمع والطاعة. فقلت لهم: إمّا إقادتي من نفسي فقد كان من قبلي خلفاء تخطيء وتصيب؛ فلم يستقد من أحد منهم؛ وقد علمت أنما يريدون نفسي؛ وأمّا أن أتبرأ من الإمارة فأن يكلبوني أحبّ إلي من أن أتبرّأ من عمل الله عز وجل وخلافته. وأما قولكم: يرسلون إلى الأجناد وأهل المدينة فيتبرءون من طاعتي؛ فلست عليكم بوكيل؛ ولم أكن استكرهتهم من مقبل على السمع والطاعة؛ ولكن أتوها طائعين، يبتغون مرضاة الله عز وجل وإصلاح ذات البين؛ ومن يكن إنما يريد وجه الله والدار الآخرة وصلاح الأمة وابتغاء مرضات الله عز وجل والسنّة الحسنة التي استنّ بها رسول الله ﷺ والخليفتان من بعده رضي الله عنهما؛ فإنما يجزي بذلكم الله؛ وليس بدي جزاؤكم؛ ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثم لدينكم، ولم يغن معنكم شيئًا، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده؛ فمن يرض بالنَّكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضي الله سبحانه أن تنكثوا عهده. وأما الذي يخيّرونني فإنما كله النزع والتأمير. فملكت نفسي ومن معي؛ ونظرت حكم الله وتغيير النعمة من الله سبحانه، وكرهت سنَّة السوء وشقاق الأمّة وسفك الدماء؛ فإني أنشدكم بالله والإسلام ألّا تأخذوا إلّا الحق وتعطوه مني وترك البغي على أهله، وخذوا بيننا بالعدل كما أمركم الله عز وجل، فإني أنشدكم الله سبحانه الذي جعل عليكم العهد والموازرة في أمر الله؛ فإنّ الله سبحانه قال وقوله الحق: " وأفووا بالعهد إنَّ العهد كان مسئولًا "، فإنّ هذه معذرة إلى الله ولعلكم تذكّرون. أما بعد، فإني لا أبرىء نفسي، " إنّ النَّفس لأمَّارة بالسُّوء إلَّا ما رحم ربِّ إنَّ ربِّي غفور رحيم "، وإن عاقبت أقوامًا فما ابتغي بذلك إلّا الخير، وإني أتوب إلى الله عز وجل من كلّ عمل عملته، وأستغفره إنه لا يغفر الذنوب إلّا هو، إنّ رحمة ربي وسعت كلّ شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلّا القوم الضَّالون، وإنه يقبل التَّوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. أنا أسأل الله عز وجل أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلّف قلوب هذه الأمة على الخير، ويكرّه إليها الفسق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيها المؤمنون والمسلمون. قال ابن عباس: فقرأت هذا الكتاب عليهم قبل التَّروية بمكة بيوم. قال: وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن معبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان، فاستعملني على الحجّ. قال: فخرجت إلى مكة، فأقمت للنّاس الحجّ، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم؛ ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلي. ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه عثمان رضي الله عنه ومن صلي عليه وولى أمره بعد ما قتل إلى فرغ من أمره ودفنه حدثني جعفر بن عبد الله المحمّدي، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي ابن حسين، قالا: حدثنا حسين بن عيسى، عن أبيه، عن أبي ميمونة، عن أبي بشير العابدي، قال: نبذ عثمان رضي الله عنه ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي ثم أحد بني أسد بن عبد العزّي، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، كلّما عليًّا في دفنه، وطلبًا إليه أن يأذن لأهله في ذلك، ففعل، وأذن لهم علي، فلما سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله؛ وهم يريدون به حائطًا بالمدينة، ياقل له: حشّ كوكب. كانت اليهود تدفن فيه موتاهم؛ فلما خرج به على الناس رجموا سريره، وهمّوا بطرحه، فبلغ ذلك عييًّا، فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفّنّ عنه، ففعلوا، فانطلق حتى دفن رضي الله عنه في حشّ كوكب؛ فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به إلى البقيع؛ فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتّصل ذلك بماقبرالمسلمين. وحدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن المجالد بن سعيد الهمداني، عن يسار بن أبي كرب، عن أبيه. وكان أبو كرب عاملًا على بيت مال عثمان، قال: دفن عثمان رضي الله عنه بين المغرب والعتمة؛ ولم يشهد جنازته إلّا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة، فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه، وأخذ الناس الحجارة وقالوا: نعثل نعثل! وكادت ترجم؛ فقالوا: الحائط الحائط؛ فدفن في حائط خارجًا. وأما الواقدي فإنه ذكر أنّ سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان، أنه قال: لم قتل عثمان رضي الله عنه قال رجل: يدفن بدير سلع مقبرة اليهود، فقال حيكم بن حزام: والله لا يكون هذا أبدًا وأحد من ولد قصي حيُّ؛ حتى كاد الشرّ يلتحم، فقال ابن عديس البلوي: أيّها الشيخ، وما يضرّك أين يدفن! فقال حكيم بن حزام: لا يدفن إلا ببقيع الغرقد حيث دفن سلفه وفرطه؛ فخرج به حكيم بن حزام في أثني عشر رجلًا، وفيهم الزبير، فصلّى عليه حكيم بن حزام. قال الواقدي: الثبت عندنا أنه صلّى عليه جبير بن مطعم. قال محمد بن عمر: وحدثني الضحّاك بن عثمان، عن مخرمة عن سليمان الوالبي، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة ضحوة، فلميقدروا على دفنه، وأرسلت نائلة ابنة الفارفصة إلى حويطب بن عبد العزَّي وجبير بن مطعم وأبي جهم بن حذيفة وحكيم بن حزام ونيار الأسلمي، فقالوا: إنّا لا نقدر أن نخرج به نهارًا، وهؤلاء المصريّون على الباب، فأمهلوا محتى كان بين المغرب والعشاء، فدخل القوم، فحيل بينهم وبينه، فقال أبو جهم: والله لا يحول بيني وبينه أحد إلامتّ دونه؛ احملوه، فحمل إلى البقيع؛ قال: وتبعتهم نائلة بسراج الستسرجته بالبقيع وغلام لعثمان، حتى انتهوا إلى نخلات عليها حائط؛ فدقّوا الجدار، ثم قبروه في تلك النَّخلات، وصلّى عليه جبير ابن مطعم، فذهبت نائلة تريد أن تتكلم، فزبرها القوم، وقالو: إنا نخاف عليه من هؤلاء الغوغاء أن ينبشوه، فرجعت نائلة إلى منزلها. قال محمد: وحدثني معبد الله بن يزيد الهذلي، عن عبد الله بن ساعدة، قال: لبث عثمان بعد ما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حمله أربعة: حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حذيفة؛ فلما وضع ليصلَّي عيه، جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه، فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حيّة المازني، في عدّة؛ ومنعوهم أن يدفن بالبقيع؛ فقال أبو جهم: ادفنوه، فقد صلى الله عليه وملائكته، فقالوا لا والله، لا يدفن في مقابر المسلمين أبدًا، فدفنوه في حشّ كوكب. فلما ملكت بنو أميّة أدخلوا ذلك الحشّ في البقيع؛ فهو اليوم مقبرة بني أميّة. قال محمد: وحدثني عبد الله بن موسى المخزومي، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أرادوا حزَّ رأسه، فوقعت عليه نائلة وأمّ النين، فمنعنهم، وصحن وضربن الوجوه، وخرقن ثيابهنّ، فقال ابن عديس: اتركوه؛ فأخرج عثمان ولم يغسل إلى البقيع، وأرادوا أن يصلّوا عليه في موضع الجنائز؛ فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابيء وعثمان موضوع على باب، فنزا عليه، فكسر ضلعًا من أضلاعه، وقال: سجنت ضابئًا حتى مات في السجن. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا أبو بكر ابن عبد الله بن أبي أويس، قال: حدثني عمّ جدّي الربيع بن مالك بن أبي عامر، عن أبيه، قال: كنت أحد حملة عثمان رضي الله عنه حين قتل: حملناه على باب، وإن رأسهع لتقرع الباب لإسراعنا به؛ وإنّ بنا من الخوف لأمرًا عظيمًا حتى واريناه في قبره في حشّ كوكب. وأما سيف، فإنه روى فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عنه، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة؛ أنّ عثمان لما قتل أرسلت نائلة إلى عبد الرحمن ابن عديس، فقالت له: إنك أمسّ القوم رحمًا، وأولاهم بأن تقوم بأمري؛ أغرب عنِّي هؤلاء الأموات. قال فشتمها وزجرها؛ حتى إذا كان في جوف الليل خرج مروان حتى أتي دار عثمان، فأتاه زيد بن ثابت وطلحة بن عبيد الله وعلي والحسن وكعب بن مالك وعامّة من ثمَّ من صحابه، فتوا في إلى موضع الجنائز صبيان ونساء؛ فأخرجوا عثمان فصلّى عليه مروان، ثمّ خرجوا به حتى انتهوا إلى البقيع، فدفنوه فيه مما يلي حشّ كوكب؛ حتى إذا أصبحوا أتوا أعبد عثمان الذين قتلوا معه فأخرجوهم فرأوهم فمنعوهم من أن يدفنوا، فأدخلوهم حشّ كوكب؛ فلما أمسوا خرجوا بعبدين منهم فدفنوهما إلى جنب عثمان، ومع كلّ واحد منهما خمسة نفر وامرأة؛ فاطمة أم إبراهيم بن عدي. ثم رجعوا فأتوا كنانة بن بشر، فقالوا: إنك أمسّ القوم بنا رحمًا، فأمر بهاتين الحيفيتين اللتين في الدار أن تخرجا، فكلّمهم في ذلك، فأبوا، فقال: أنا جار لآل عثمان من أهل مصر ومن لفّ لفهم، فأخرجوهما فارموا بهما؛ فجرّا بأرجلهما فرمى بهما على البلاط، فأكلتهما الكلاب؛ وكان لاعبدان اللذان قتلا يوم الدار يقال لهما نجيع وصبيح؛ فكان أسماهما الغالب على الرقيق لفضلهما وبلائهما؛ ولم يحفظ الناس اسم الثالث، ولم يغسل عثمان، وكفِّن في ثيابه ودمائه ولا غسل غلاماه. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي قال: دفن عثمان رضي الله عنه من الليل، وصلّى عليه مروان بن الحكم، وخرجت ابنته تبكي في أثره، ونائلة ابنة الفرافصة، رحمهم الله. ذكر الخبر عن الوقت الذي قتل فيه عثمان رضي الله عنه اختلف في ذلك بعد إجماع جميعهم على أنه قتل في ذي الحجّة، فقال بعضهم: قتل لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين من الهجرة، فقال الجمهور منهم: قتل لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين. ذكر الرواية بذلك عن بعض من قال إنه قتل في سنة ست وثلاثين: حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن عثمان بن محمد الأخنسي، قال الحارث: وحدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة غير اثني عشر يومًا؛ وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. وقال أبو بكر: أخبرنا مصعب بن عبد الله، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين بعد العصر. وقال آخرون: قتل في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين لثماني عشرة ليلة خلت منه. ذكر من قال ذلك حدثني جعفر بن عبد الله، قال: حدثنا عمرو بن حماد وعلي، قالا: حدثنا حسن، عن أبيه، عن المجالد بن سعيد الهمداني، عن عامر الشعبي، أنه قال: حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه في الدار اثنتين وعشرين ليلة، وقتل صبحة ثماني عشر ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وعشرين من وفاة رسول الله ﷺ. وحدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلّا اثني عشر يومًا. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا من مقتل عمر رضي الله عنه. وحدثّت عن زكرياء بن عدي، قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن ابن عقيل، قال: قتل عثمان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة، قالوا: قتل عثمان رضي الله عنه لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة يوم الجمعة في آخر ساعة. وقال آخرون: قتل يوم الجمعة ضحوة. ذكر من قال ذلك ذكر عن هشام بن الكلبي، أنه قال: قتل عثمان رضي الله عنه صبيحة الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا ثمانية أيام. حدثنا الحارث، عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني الضحاك بن عثمان؛ عن مخرمة بن سلمان الوالبي، قال: قتل عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة ضحوة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجّة سنة خمس وثلاثين. وقال آخرون: قتل في أيام التشريق. ذكر من قال ذلك حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خيثمة، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بن زيد الأيلي، عن الزُّهري، قال: قتل عثمان رضي الله عنه، فزعم بعض الناس أنه قتل في أيام التشريق. وقال بعضهم: قتل يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة. ذكر الخبر عن قدر مدة حياته اختلف السلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم كانت مدّة ذلك اثنتين وثمانين سنة. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر؛ أنّ عثمان رضي الله عنه قتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. قال محمد بن عمر: وحدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، قال: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. قال محمد: وحدثني سعد بن راشد عن صالح بن كيسان، قال: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر. وقال آخرون: قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثماني. ذكر من قال ذلك حدثت عن الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا أبو هلال؛ عن قتادة: أنّ عثمان رضي الله عنه قتل وهو ابن تسعين أو ثمان وثمانين سنة. وقال آخرون: قتل وهو ابن خمس وسبعين سنة؛ وذلك قول ذكر عن هشام بن محمد. وقال بعضهم: قتل وهو ابن ثلاث وستين، وهذا قول نسبه سيف بن عمر إلى جماعة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، أن أبا حارثة وأبا عثمان ومحمدًا وطلحة، مقالوا: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال آخرون: قتل وهو ابن ستّ وثمانين. ذكر من قال ذلك حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، قال: قتل عثمان رضي الله عنه وهو ابن ستّ وثمانين. ذكر الخبر عن صفة عثمان حدثني زياد بن أيُّوب، قال: حدثنا هشيم، قال: زعم أبو المقدام، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: دخلت المسجد؛ فإذا أنا بعثمان رضي الله عنه متكئًا على ردائه، فنظرت إليه؛ فإذا رجل حسن الوجه؛ وإذا بوجهه نكتات من جدري؛ وإذا شعره قد كسا ذراعيه. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: سألت عمرو بن عبد الله بن عنبسة وعروة بن خالد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان وعبد الرحمن بن أبي الزناد عن صفة عثمان، فلم أر بينهم اختلافًا، قالوا: كان رجلًا ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، رقيق البشرة، كثّ اللحية عظيمها؛ أسمر اللون، عظيم الكراديس؛ عظيم ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفّر لحيته. وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي يقول: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزُّهري، قال: كان عثمان رجلًا مربوعًا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع أروح الرجلين. ذكر الخبر عن وقت إسلامه وهجرته حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: كان إسلام عثمان قديمًا قبل دخول رسول الله ﷺ دار الأرقم. قال: وكان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية، ومعه فيهما جميعًا امرأته رقيّة بنت رسول الله ﷺ. ذكر الخبر عما كان يكنى به عثمان بن عفان رضي الله عنه حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما كان في الإسلام ولد له من رقيّة بنت رسول الله ﷺ غلام فسّماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله؛ فبلغ عبد الله ستة سنين، فنقره ديك على عينه، فمرض فمات في جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة، فصلّى عليه رسول الله ﷺ، ونزل في حفرته عثمان رضي الله عنه. وقال هشام بن محمد: كان يكنى أبا عمرو. ذكر نسبه هو عثمان بن عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وأمه أروى ابنة كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأمّها أم حكيم بنت عبد المطلب. ذكر أولاده وأزواجه رقيّة وأم كلثوم ابنتا رسول الله ﷺ؛ ولدت له رقيّة عبد الله. وفاختة ابنة غزوان بن جابر بن نسيب بن وهيب بن زيد بن مالك ابن عبد بن عوف بن الحارث بن مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. ولدت له ابنًا فسماه عبد الله؛ وهو عبد الله الأصغر، هلك. وأمّ عمرو بنت جندب بن عمرو بن حممة بن الحارث بن رفاعة بن سعد بن ثعلبة بن لؤي بن عامر بن غنم بن دهمان بن منهب بن دوس، من الأزد؛ ولدت له عمرًا وخالدًا وأبانًا وعمر ومريم. وفاطمة ابنة الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له الوليد وسعيدًا وأمَّ سعيد، بني عثمان. وأمّ البنين بنتعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري؛ ولدت له عبد الملك بن عثمان، هلك. ورملة ابنة شيبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي؛ ولدت له عائشة وأمّ أبان وأمّ عمرو، بنات عثمان. ونائلة ابنة الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن كلب؛ ولدت له مريم ابنة عثمان. وقال هشام بن الكلبي: ولدت أمّ البنين بنت عيينة بن حصن لعثمان عبد الملك وعتبة. وقال أيضًا: ولدت نائلة عنبسة. وزعم الواقدي أن لعثمان ابنة تدعى أمّ البنين بنت عثمان من نائلة، قال: وهي التي كانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان. وقتل عثمان رضي الله عنه وعنده رملة ابنة شيبة ونائلة وأمّ البنين بنت عيينة وفاختة ابنة غزوان؛ غير أنه - فيما زعم علي بن محمد - طلَق أمّ البنين وهو محصور. فهؤلاء أزواجه اللواتي كنّ له في الجاهليّة والإسلام وأولاده: رجالهم ونساؤهم. ذكر أسماء عمال عثمان رضي الله عنه في هذه السنة على البلدان قال محمد بن عمر: قتل عثمان رضي الله عنه وعمّاله على الأمصار - فيما حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد - على مكة عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثَّقفي، وعلى صنعاء يعلي بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر بن كريز - خرج منها فلم يولِّ عليها عثمان أحدًا - وعلى الكوفة سعيد بن العاص - أخرج منها فلم يترك يدخلها - وعلى مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح - قدم على عثمان، وغلب محمد بنأبي حذيفة عليها. وكان عبد الله بن سعد استخلف على مصر السائب ابن هشام بن عمرو العامري، فأخرجه محمد بن أبي حذيفة - وعلى الشأم معاوية ابن أبي سفيان. وفيما كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: مات عثمان رضي الله عنه وعلى الشأم معاوية، وعامل معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وعلى قنَّسرين حبيب بن مسلمة، وعلى الأردنّ أبو الأعور بن سفيان، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكناني، وعلى البحر عبد الله بن قيس الفزاري. وعلى القضاء أبو الدرداء. وتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، قال: مات عثمان رضي الله عنه وعلى الكوفة رضي الله عنه وعلى الكوفة، على صلاتها أبو موسى، وعلى خراج السَّواد جابر بن عمرو المزني - وهو صاحب المسنَاة إلى جانب الكوفة - وسماك الأنصاري. وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسياء جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس، وعلى حلوان عتيبة بن النَّهَاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النُّسير، وعلى الري سعيد بن قيس، وعلى إصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ما سبذان حبيش، وعلى بيت المال عقبة ابن عمرو. وكان على قضاء عثمان يومئذ زيد بن ثابت. ذكر بعض خطب عثمان رضي الله عنه كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن القاسم بن محمد، عن عون بن عبد الله بن عتبة، قال: خطب عثمان الناس بعدما بويع، فقال: أمَّا مبعد؛ فإني قد حمِّلت وقد قبلت؛ ألا وإني متّبع ولست بمتبتدع؛ ألا وإنّ لكم علي بعد كتاب الله عز وجل وسنَّة نبيه ﷺ ثلاثًا: اتّباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسنُّ سنة أهل الخير فيما لم تسنُّوا عن ملإ، والكفّ عنكم إلّا فيما استوجبتم. ألا وإن الدنيا خضرة قد شهّيت إلى الناس، ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها، فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن بدر بن عثمان، عن عمّه، قال: آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة: إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها؛ إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى، فلا تبطرنَّكم الفانية، ولا تشغلنَّكم عن الباقية، فآثروا ما يبقى على ما يفنى؛ فإنّ الدنيا منقطعة؛ وإنّ المصير إلى الله. اتّقوا الله جلّ وعزّ؛ فإن تقواه جنّة من بأسه، ووسيلة عنده؛ واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا، " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ". إلى آخر القصّة. ذكر الخبر عمن كان يصلي بالناس في مسجد رسول الله ﷺ حين حصر عثمان قال محمد بن عمر: حدثني ربيعة بن عثمان: جاء المؤذن، سعد القرظ إلى علي بن أبي طالب في ذلك اليوم، فقال: من يصلّي بالناس؟ فقال علي: ناد خالد بن زيد، فنادى خالد بن زيد، فصلّى بالناس - فإنه لأوّل يوم عرف أن أبا أيُّوب خالد بن زيد - فكان يصلّي بهم أيامًا، ثم صلى علي بعد ذلك بالناس. قال محمد: وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: جاء المؤذّن إلى عثمان فآذنه بالصّلاة، فقال: لا أنزل أصلّي؛ اذهب إلى من يصلي. فجاء المؤذن إلى علي، فأمر سهل بن حنيف، فصلّى اليوم الذي حصر فيه عثمان الحصر الآخر؛ وهو ليلة رثى هلال ذي الحجّة، فصلى بهم؛ حتى إذا كان يوم العيد صلى علي العيد، ثم صلى بهم حتى قتل رضي الله عنه. قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لما حصر عثمان صلى بالناس أبو أيُّوب أيامًا، ثم صلى بهم علي الجمعة والعيد، حتى قتل رضي الله عنه. ذكر ما رثي به من الأشعار وتقاول الشعراء بعد مقتله فيه؛ فمن مادح وهاج، فمن مادح وهاج، ومن نائح باك، ومن سار فرح؛ فكان ممّن يمدحه حسّان بن ثابت وكعب بن مالك الأنصاريّان وتميم بن أبي بن مقبل في آخرين غيرهم. مما مدحه به وبكاه حسان وهجا به قاتله: أتركتم غزو الدُّروب وراءكم ** وغزوتمونا عند قبر محمَّد! فلبئس هدى المسلمين هديتم ** ولبئس أمر الفاجر المتعمِّد! إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم ** حول المدينة كلَّ لين مذود أو تدبروا فلبئس مما سافرتم ** ولمثل أمر أميركم لم يرشد وكأن أصحاب النبِّي عشيَّة ** بدن تذبَّح عند باب المسجد أبكى أبا عمرو لحسن بلائه ** أمسى مقيمًا في بقيع الغرقد وقال أيضًا: إن تمس دار ابن أروى منه خاوية ** باب صريع وباب محرق خرب فقد يصادف باغي الخير حاجته ** فيها ويهوى إليها الذِّكر والحسب يأيُّها الناس أبدوا ذات أنفسكم ** لا يستوي الصدق عند الله والكذب قوموا بحقِّ مليك الناس تعترفوا ** بغارة عصب من خلفها عصب فيهم حبيب شهاب الموت يقدمهم ** مستلئمًا قال بدا في وجهه الغضب وله فيه أشعار كثيرة. وقال كعب بن مالك الأنصاري: يا للرِّجال للبِّك المخطوف ** ولدمعك المترقرق المنزوف ويح لأمر قد أتاني رائع ** هدَّ الجبال فانقضت برجوف قتل الخليفة كان أمرًا مفظعًا ** قامت لذاك بليَّة التخويف قتل الإمام له النجوم خواضع ** والشمس بازغة له بكسوف يا لهف نفسي إذ تولَّوا غدوة ** بالنعش فوق عواتق وكتوف! ولَّوا ودلَّوا في الضَّريح أخاهم ** ماذا أجنَّ ضريحه المسقوف! من نائل أو سودد وحمالة ** سبقت له في الناس أو معروف كم من يتيم كان جبر عظمه ** أمسى بمنزله الضَّياع يطوف مازال يقبلهم ويرأب ظلمهم ** حتى سمعت برنَّة التَّلهيف أمسى مقيمًا بالبقيع وأصبحوا ** متفرِّقين قد أجمعوا بخفوف النار موعدهم بقتل إمامهم ** عثمان ظهرا في البلاد عفيف النار موعدهم بقتل إمامهم ** عثمان ظهرًا في البلاد، عفيف جمع الحمالة بعد حلم راجح ** والخير فيه مبيَّن معروف يا كعب لا تنفك تبكي مالكًا ** ما دمت حيًّا في البلاد تطوف فأبكى أبا عمرو عتيقًا واصلًا ** ولواءهم إذ كان غير سخيف وليبكه عند الحفاظ لمعظم ** والخيل بين مقانب وصفوف قتلوك يا عثمان غير مدنَّس ** قتلًا لعمرك واقفًا بسقيف وقال حسَّان: من سرَّه الموت صرفًا لا مزاج له ** فليأت مأسدة في دار عثمانا مستشعري حلق الماذي قد شفعت ** قبل المخاطيم بيض زان أبدانا صبرًا فدىً لكم أمي وما ولدت ** قد ينفع الصَّبر في المكروه أحيانًا فقد رضينا أهل الشأم نافرة ** وبالأمير وبالإخوان إخوانا إنِّي لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ** ما دمت حيًّا وما مّيت حسَّانا لتسمعنَّ وشيكًا في ديارهم ** الله أكبر يا ثارات عثمانا يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ** ما كان شأن علي وابن عفانا! وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط يحرّض عمارة بن عقبة: ألا إنَّ خير الناس بعد ثلاثة ** قتيل التُّجيبي الذي جاء من مصر فإن يك ظنِّي بابن أمِّي صادقًا ** عمارة لا يطلب بذحل ولا وتر يبيت وأوتار ابن عفان عنده ** مخيمة بين الخورنق والقصر فأجابه الفضل بن عباس: أتطلب ثأرًا لست منه ولا له ** وأين ابن ذكوان الصَّفوري من عمرو! كما اتَّصلت بنت الحمار بأمِّها ** وتنسى أباها إذ تسامى أولى الفخر ألا إنَّ خير الناس بعد محمَّد ** وصلىّ النَّبي المصطفى عند ذي الذِّكر وأوَّل من صلّى وصنو نبيّه ** وأوَّل من أردى الغواة لدى بدر فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمِّكم ** لكانوا له من ظلمه حاضري النَّصر كفى ذاك عيبًا أن يشيروا بقتله ** وأن يسلموه للأحابيش من مصر وقال الحباب بن يزيد المجاشعي، عمّ الفرزدق: لعمر أبيك فلا تجز عن ** لقد ذهب الخير إلّا قليلًا لقد سفه الناس في دينهم ** وخلى ابن عفان شرًّا طويلًا أعاذل كلُّ امرىء هالك ** فسيرى إلى الله سيرًا جميلًا خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفي هذه السنة بويع لعلي بن أبي طالب بالمدينة بالخلافة ذكر الخبر عن بيعة من بايعه والوقت الذي بويع فيه اختلف السلف من أهل السِّير في ذلك، فقال بعضهم: سأل عليًّا أصحاب رسول الله ﷺ أن يتقلّد لهم وللمسلمين، فأبى عليهم؛ فلما أبوا عليه، وطلبوا إليه، تقلد ذلك لهم. ذكر الرواية بذلك عمن رواه حدثني جعفر بن عبد الله ما لمحمّدي، قال: حدثنا عمرو بن حمّاد وعلي ابن حسين، قالا: حدثنا حسين عن أبيه، عن عبد الملك بن أبي سليمان الفزاري، عن سالم بن أبي الجعد الأشجعي، عن محمّد الحنفيّة، قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله ﷺ، فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولا بدّ الناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدًا أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله ﷺ. فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا؛ فقالوا: لا، والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك؛ قال: ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون حفيًّا، ولا تكون إلّا عن رضا المسلمين. قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه؛ وأبى هو إلا المسجد، فلمّا دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعوه الناس. وحدثني جعفر، قال: حدثنا عمرو وعلي، قالا: حدثنا حسين، عن أبيه، عن أبي ميمونة، عن أبي بشير العابدي، قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان رضي الله عنه، واجتمع المهاجرون والأنصار، فيهم طلحة والزُّبير، فأتوا عليًّا فقالوا: يا أبا حسن؛ هلمّ نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به، فاختاروا والله فقالوا: ما نختار غيرك؛ قال: فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مرارًا، ثمّ أتوه في آخر ذلك، فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلّا بإمرة، وقد طال الأمر، فقال لهم: إنكم قد اختلفتم إلي وأتيتم، وإنّي قائل لكم قولًا إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلّا فلا حاجة لي فيه. قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه، فقال: إني قد كنت كارهًا لأمركم، فأبيتم إلّا أن أكون عليكم؛ ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، إلّا أن مفاتيح ما لكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهمًا دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم؛ قال: اللهمّ اشهد عليهم، ثمّ بايعهم على ذلك. قال أبو بشير: وأنا يومئذ عند منبر رسول الله ﷺ قائم أسمع ما يقول. وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: أخبرنا أبو بكر الهذلي، عن أبي المليح، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه، خرج علي إلى السوق، وذلك يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فاتّبعه الناس وبهشوا في وجهه، فدخل حائط بني عمرو بن مبذول، وقال لأبي عمرة بن عمرو بن محصن: أغلق الباب، فجاء الناس فقرعوا الباب، فدخلوا، فيهم طلحة والزّبير، فقالا: يا علي ابسط يدك. فبايعه طلحة والزّبير، فنظر حبيب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع، فقال: أوّل من بدأ بالبيعة يد شلّاء؛ لا يتمّ هذا الأمر! وخرج عليٌّ إلى المسجد فصعد المنبر وعليه إزار وطاق وعمامة خزّ، ونعلاه في يده، متوكئًا على قوس؛ فبايعه الناس. وجاءوا بسعد، فقال علي: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس؛ قال: خلّوا سبيله. وجاءوا بابن عمر، فقال: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، قال: ائتني بحميل، قال: لا أرى حميلًا، قال الأشتر: خلِّ عنّي أضرب عنقه، قال علي: دعوه، أنا حميله، إنك - ما علمت - لسيِّيء الخلق صغيرًا وكبيرًا. وحدثني محمد بن سنان القزّاز، قال: حدثنا إسحاق بن إدريس، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حميد، عن الحسن، قال: رأيت الزبير ابن العوّام بايع عليًا في حشّ من حشّان المدينة. وحدثني أحمد بن زهير، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وهب ابن جرير، قال: سمعت أبي، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزُّهري، قال: بايع الناس علي بن أبي طالب، فأرسل إلى الزبير وطلحة فدعاهم إلى البيعة، فتلكّأ طلحة، فقام مالك الأشتر وسلّ سيفه وقال: والله لتبايعنّ أو لأربنّ به ما بين عينيك، فقال طلحة: وأين المهرب عنه! فبايعه، وبايعه الزبير والناس. وسأل طلحة والزّبير أن يؤمّرهما على الكوفة والبصرة، فقال: تكونان عندي فأتحمَّل بكما، فإني وحش لفراقكما. قال الزهري: وقد بلغنا أنه قال لهما: إن أحببتما أن تبايعا لي وإن أحببتما بايعتكما، فقالا: بل نبايعك؛ وقالا بعد ذلك: إنما صنعنا ذلك خشية على أنفسنا، وقد عرفنا أنه لم يكن ليبايعنا. فظهرا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر. وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن الحنفيَّة، قال: كنت أمسي مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه حتى دخل بيته، فأتاه ناس من أصحاب رسول الله ﷺ، فقالوا: إنّ هذاالرجل قد قتل، ولا بدّ من إمام للناس، قال: أو تكون شورى؟ قالوا: أنت لنا رضًا، قال: فالمسجد إذًا يكون عن رضًا من الناس. فخرج إلى المسجد فبايعه من بايعه؛ وبايعت الأنصار عليًّا إلّا نفيرًا يسيرًا، فقال طلحة: ما لنا من هذا الأمر إلا كحسَّة أنف الكلب. وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: أخبرنا شيخ من بني هاشم، عن عبد الله بن الحسن، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه بايعت الأنصار عليًّا إلّا نفيرًا يسيرًا، منهم حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلَّد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، كانوا عثمانيّة. فقال رجل لعبد الله بن حسن: كيف أبي هؤلاء بيعة علي! وكانوا عثمانية. قال: أما حسّان فكان شاعرًا لا يبالي ما يصنع؛ وأما زيد ابن ثابت فولّاه عثمان الديوان وبيت المال، فلما حصر عثمان؛ قال: يا معشر الأنصار، كونوا أنصارًا لله.. مرّتين، فقال أبو أيُّوب: ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العضدان. فأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك ما أخذ منهم له. قال: وحدثني من سمع الزهري يقول: هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا عليًّا، ولم يبايعه قدامة بن مظعون، وعبد الله بن سلام، والمغيرة بن شعبة. وقال آخرون: إنما بايع طلحة والزبير عليًّا كرهًا. وقال بعضهم: لم يبايعه الزبير. ذكر من قال ذلك حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان؛ قال: حدثني عبد ه، عن جرير بن حازم، قال: حدثني هشام ابن أبي هشام مولى عثمان بن عفان، عن شيخ من أهل الكوفة، يحدثه عن شيخ آخر، قال: حصر عثمان وعلي بخيبر، فلما قدم أرسل إليه عثمان يدعوه، فانطلق، فقلت: لأنطلقنّ معه ولأسمعنّ مقالتهما، فلما دخل عليه كلّمه عثمان، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّ لي عليك حقوقًا؛ محقّ الإسلام، وحقّ الإخاء - وقد علمت أن رسول الله ﷺ حين آخى بين الصحابة آخى بيني وبينك - وحقّ القرابة والصِّهر، وما جعلت لي في عنقك من العهد والميثاق، فوالله لو لم يكن من هذا شيء ثم كنّا إنما نحن في جاهليّة، لكان مبطَّأ على بني عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم. فتكلم عليٌّ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فكلّ ما ذكرت من حقّك عليَّ على ما ذكرت، أمّا قولك: لو كنا في جاهليّة لكان مبطَّأ على بني عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم فصدقت، وسيأتيك الخبر. ثمّ خرج فدخل المسجد فرأى أسامة جالسًا، فدعاه، فاعتمد على يده، فخرج يمشي إلى طلحة وتبعته، فدخلنا دار طلحة بن عبيد الله وهي دحاس من الناس، فقام إليه، فقال: يا طلحة، ما هذا الأمر الّذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا حسن، بعد ما مسّ الحزام الطبيين! فانصرف علي ولم يحر إليه شيئًا حتى أتى بيت المال، فقال: افتحوا هذا الباب، فلم يقدر على المفاتيح، فقال: اكسروه؛ فكسر باب بيت المال، فقال: أخرجوا المال، فجعل بعطي الناس فبلغ الذين في دار طلحة الذي صنع علي، فجعلوا يتسلّلون إليه حتى ترك طلحة وحده. وبلغ الخبر عثمان، فسرّ بذلك، ثمّ أقبل طلحة يمشي عائدًا إلى دار عثمان، فقلت: والله لأنظرنّ ما يقول هذا؛ فتبعته، فاستأذن على عثمان، فلمّا دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، أستغفر الله وأتوب إليه، أردت أمرًا فحال الله بيني وبينه، فقال عثمان: إنك والله ما جئت تائبًا، ولكنك جئت مغلوبًا، الله حسيبك يا طلحة! وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا بن عمر، قال: حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، عن سعد، قال: قال طلحة: بايعت والسيف فوق رأسي - فقال سعد: لا أدري والسيف على رأسه أم لا، إلّا أني أعلم أنه بايع كارهًا - قال وبايع الناس عليًّا بالمدينة، وتربّص سبعة نفر فلم يبايعوه؛ منهم: سعد بن أبي وقّاص، ومنهم ابن عمر، وصهيب، وزيد بن ثابت، ومحمد ماب مسلمة، وسلمة بن وقش، وأسامة بن زيد، ولم يتخلَّف أحد من الأنصار إلّا بايع فيما نعلم. وحدثنا الزبير بن بكّار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: حدثني أبي عبد الله بن مصعب، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، قال: لما قتل الناس عثمان رضي الله عنه وبايعوا عليًّا، جاء عليٌّ إلى الزبير فاستأذن عليه، فأعلمته به، فسلّ السيف ووضعهتحت فراشه، ثم قال: ائذن له، فأذنت له، فدحل فسلّم على الزبير وهو واقف بنحره، ثمّ خرج. فقال الزبير، لقد دخل المرء ما أقصاه، قم في مقامه فانظر هل ترى من السيف شيئًا؟ فقمت في مقامه فرأيت ذباب السيف، فأخبرته فقال: ذاك أعجل الرجل. فلما خرج علي سأله الناس، فقال: وجدت أبرّ ابن أخت وأوصله. فظنّ الناس خيرًا، فقال علي: إنه بايعه. ومما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف بن عمر، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة، وطلحة بن الأعلم، وأبو حارثة، وأبو عثمان، قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان رضي الله عنه خمسة أيام، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، يأتي المصريّون عليًّا فيختبىء منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدههم وتبرّأ منهم ومن مقالتهم مرّة بعد مرّة؛ ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه، فأرسلوا إليه حيث هو رسلًا، فباعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ ويطلب البصريّون طلحة فإذا لقيهم باعدهم وتبرّأ من مقالتهم؛ مرّة بعد مرّة؛ وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئًا ولا مجيبًا جمعهم الشرّ على أولّ من أجابهم، وقالوا: لا نولّى أحدًا من هؤلاء الثلاثة، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقّاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع، فاقدم نبايعك، فبعث إليهم: إني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال؛ وتمثّل: لا تخلطنَّ خبيثات بطيِّبة ** واخلع ثيابك منها وانج عريانا ثمّ إنهم أتوا ابن عمر عبد الله، فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال: إنّ لهذا الأمر انتقامًا والله لا أتعرّض له، فالتمسوا غيري. فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: كانوا إذا لقوا طلحة أبى وقال: ومن عجب الأيام والدّهر أنني ** بقيت وحيدًا لا أمرّ ولا أحلي فيقولون: إنّك لتوعدنا. فيقومون فيتركونه، فإذا لقوا الزبير وأرادوه أبى وقال: متى أنت عن دار بفيحان راحل ** وباحتها تخنو عليك الكتائب فيقولون: إنك لتوعدنا! فإذا لقوا عليًّا وأرادوه أبى، وقال: لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرًا يديخ الأعاديا فيقولون: إنك لتوعدنا! فيقومون ويتركونه. وحدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: أخبرنا مسلمة بن محارب، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه أتى الناس عليًّا وهو في سوق المدينة، وقالوا له: ابسط يدك نبايعك، قال: لا تعجلوا فإنّ عمر كان رجلًا مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون. فارتدّ الناس عن علي؛ ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة، فعادوا إلى علي، فأخذ الأشتر بيده فقبضها علي، فقال: أبعد ثلاثة! أما والله لئن تركتها لتقصرنّ عنيتك عليها حينًا، فبايعته العامّة. وأهل الكوفة يقولون: إنّ أوّل من بايعه الأشتر. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه، جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعدًا والزّبير خارجين، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا بني أميّة قد هربوا إلّا من لم يطق الهرب، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أوّل من خرج، وتبعهم مروان، وتتابع على ذلك من تتابع، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلًا تنصّبونه، ونحن لكم تبع. فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون. وأخبرنا علي بن مسلم، قال: حدثنا حبّان بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن عوف، قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إنّ عليًّا جاء فقال لطلحة: ابسط يدك، قال: فبسط علي يده فبايعه. وكتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فقالوا لهم: دونكم يا أهل المدينة فقد أجّلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلنّ غدًا عليًّا وطلحة والزّبير وأناسًا كثيرًا. فغشى الناس عليًّا فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام؛ وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي: دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمرًا له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله ألا ترى ما نرى! ألا ترى الإسلام! ألا ترى الفتنة! ألا تخاف الله! فقال: قد أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلّا أني أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم. ثمّ افترقوا على ذلك واتّعدوا الغد. وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت. فبعث البصريّون إلى الزبير بصريًّا، وقالوا: احذر لاتحادّه - وكان رسولهم حكيم بن جبلة العبدي في نفر - فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وإلى طلحة كوفيًا وقالوا له: احذر لاتحادّه، فبعثوا الأشتر في نفر فجاءوا به يحدّونه بالسيف. وأهل الكوفة وأهل البصرة شامتون بصاحبهم، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشّع أهل الكوفة وأهل البصرة أن صاروا أتباعًا لأهل مصر وحشوة فيهم، وازدادوا بذلك على طلحة والزّبير. غيظًا، فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، وجاء علي حتى صعد المنبر، فقال: يأيّها الناس - عن ملإ وإذن - إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلّا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. وجاء القوم بطلحة فقالوا: بايع، فقال: إني إنّما أبايع كرهًا، فبايع - وكان به شلل - أوّل الناس، وفي الناس رجل يعتاف، فنظر من بعيد، فلما رأى طلحة أوّل من بايع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! أوّل يدٍ بايعت أمير المؤمنين يدٌ شلّاء، لا يتمّ هذا الأمر! ثم جىء بالزّبير فقال مثل ذلك وبايع - وفي الزبير اختلاف - ثمّ جىء بقوم كانوا قد تخلّفوا فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد، والعزيز والذّليل، فبايعهم؛ ثمّ قام العامّة فبايعوا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن أبي زهير الأزدي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع الناس على علي، ذهب الأشتر فجاء بطلحة، فقال له: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه وجاء به يتلّه تلًّا عنيفًا، وصعد المنبر فبايع. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن الحارث الوالبي، قال: جاء حكيم بن جبلة بالزّبير حتى بايع؛ فكان الزبير يقول: جاءني لصّ من لصوص عبد القيس فبايعت واللّجّ على عنقي. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وبايع الناس كلهم. قال أبو جعفر: وسمح بعد هؤلاء الذين اشترطوا الذين جىء بهم، وصار لأمر أمر أهل المدينة، وكانوا كما كانوا فيه، وتفرّقوا إلى منازلهم لولا مكان النزّاع والغوغاء فيهم. اتساق الأمر في البيعة لعلي بن أبي طالب عليه السلام وبويع علي يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجّة - والناس يحسبون من يوم قتل عثمان رضي الله عنه - فأوّل خطبة خطبها علي حين استخلف - فيما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن علي بن الحسين - حمد الله وأثنى عليه، فقال: إنّ الله عز وجل أنزل كتابًا هاديًا بيّن فيه الخير والشرّ، فخذوا بالخير ودعوا الشرّ. الفرائض أدّوها إلى الله سبحانه يؤدكم إلى الجنّة. إنّ الله حرّم حرمًا غير مجهولة، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد المسلمين. والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده إلا بالحقّ، لا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصّة أحدكم الموت، فإنّ الناس أمامكم، وإنّ ما من خلفكم الساعة تحدوكم. تخفّفوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتّقوا الله عباده في عباده وبلاده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله عز وجل ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشرّ فدعوه، " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ". ولما فرغ علي من خطبته وهو على المنبر قال المصريون: خذها.. واحذرًا أبا حسن ** إنّا نمرّ الأمر إمرار الرسن وإنما الشعر: خذها إليك واحذرًا أبا حسن فقال علي مجيبًا: إني عجزت عجزة ما أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما أراد علي الذهاب إلى بيته قالت السبئيّة: خذها إليك واحذرًا أبا حسن ** إنّا نمرّ الأمر إمرار الرسن صولة أقوام كأسداد السفن ** بمشرفيّات كغدران اللبن ونطعن الملك بلين كالشّطن ** حتى يمرّنّ على غير عنن فقال علي وذكر تركهم العسكر والكينونة على عدة ما منّوا حين غمزوهم ورجعوا إليهم، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حتى.. إنّي عجزت عجزةً لا أعتذر ** سوف أكيس بعدها وأستمر أرفع من ذيلي ما كنت أجرّ ** وأجمع الأمر الشتيت المنتشر إن لم يشاغبني العجول المنتصر ** أو يتركوني والسّلاح يبتدر واجتمع إلى علي بعد ما دخل طلحة والزّبير في عدّة من الصحابة، فقالوا: يا علي، إنّا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإنّ هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلّوا بأنفسهم. فقال لهم: يا إخوتاه، إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلّا رأيًا ترونه إن شاء الله؛ إنّ هذا الأمر أمر جاهليّة، وإنّ لهؤلاء القوم مادّة؛ وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قطّ فيبرح الأرض من أخذ بها أبدًا. إنّ الناس من هذا الأمر إن حرّك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني وانظروا ماذا يأتيكم، ثمّ عودوا. واشتدّ على قريش، وحال بينهم وبين الخروج على حال، وإنما هيّجه على ذلك هرب بني أميّة. وتفرّق القوم؛ وبعضهم يقول: والله لئن ازداد الأمر لا قدرنا على انتصار من هؤلاء الأشرار؛ لترك هذا إلى ما قال علي أمثل. وبعضهم يقول: نقضي الّذي علينا ولا نؤخّره، ووالله إنّ لعيّا لمستغنٍ برأيه وأمره عنا، ولا نراه إلّا سيكون على قريش أشدّ من غيره. فذكر ذلك لعلي فقام فحمد الله وأثنى عليه وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم، وأنه ليس له من سلطانهم إلّا ذلك، والأجر من الله عز وجل عليه، ونادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه. فتذامرت السبئيّة والأعراب، وقالوا: لنا غدًا مثلها، ولا نستطيع نحتجّ فيهم بشيء. وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: خرج علي في اليوم الثالث على الناس، فقال: يأيّها الناس، أخرجوا عنكم الأعراب. وقال: يا معشر الأعراب، الحقوا بمياهكم. فأبت السبئيّة وأطاعهم الأعراب. ودخل علي بيته ودخل عليه طلحة والزّبير وعدّة من أصحاب النبي ﷺ، فقال: دونكم ثأركم فاقتلوه؛ فقالوا: عشوا عن ذلك، قال: هم والله بعد اليوم أعشى وآبى. وقال: لو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** أمرتهم أمرًا يديخ الأعاديا وقال طلحة: دعني فلآت البصرة فلا يفجؤك إلّا وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك. وقال الزبير: دعني آت الكوفة فلا يفجؤك إلّا وأنا في خيل، فقال: حتى أنظر في ذلك؛ وسمع المغيرة بذلك المجلس فجاء حتى دخل عليه، فقال: إنّ لك حقّ الطاعة والنصيحة، وإنّ الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإنّ الضياع اليوم تضيّع به ما في غد؛ أقرر معاوية على عمله، وأقرر ابن عامر على عمله، وأقرر العمّال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعة الجنود استبدلت أو تركت. قال: حتى أنظر. فخرج من عنده وعاد إليه من الغد، فقال: إني أشرت عليك بالأمس برأي، وإنّ الرأي أن تعاجلهم بالنزوع، فيعرف السامع من غيره ويستقبل أمرك؛ ثمّ خرج وتلقّاه ابن عباس خارجًا وهو داخل، فلما انتهى إلى علي قال: رأيت المغيرة خرج من عندك ففيم جاءك؟ قال: جاءني أمس بذيّة وذيّة، وجاءني اليوم بذيّة وذيّة، فقال: أمّا أمس فقد نصحك، وأما اليوم فقد غشّك. قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج حين قتل الرجل أو قبل ذلك، فتأتي مكة فتدخل دارك وتغلق عليك بابك، فإن كانت العرب جائلة مضطربة في أثرك لا تجد غيرك؛ فأمّا اليوم فإنّ في بني أميّة من يستحسنون الطلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر، ويشبّهون على الناس، ويطلبون مثل ما طلب أهل المدينة، ولا تقدر على ما يريدون ولا يقدرون عليه، ولو صارت الأمور إليهم حتى يصيروا في ذلك أموت لحقوقهم؛ وأترك لها إلا ما يعجّلون من الشبهة. وقال المغيرة: نصحته والله، فلما لم يقبل غششته. وخرج المغيرة حتى لحق بمكة. حدثني الحارث، عن ابن سعد، عن الواقدي، قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد المجيد بن سهيل، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحجّ، فخرجت إلى مكة فأقمت للناس الحجّ، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثمّ قدمت المدينة وقد بويع لعلي؛ فأتيته في داره فوجدت المغيرة بن شعبة مستخليًا به، فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عمّال عثمان بعهودهم تقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فإنّهم يهدّئون البلاد ويسكّنون الناس؛ فأبيت ذلك عليه يومئذ وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا ولّيت هؤلاء ولا مثلهم يولّى. قال: ثمّ انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أني مخطىء؛ ثمّ عاد إلي الآن فقال: إنّي أشرت عليك أوّل مرّة بالذي اشرت عليك وخالفتني فيه، ثمّ رأيت بعد ذلك رأيًا، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنتزعهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان. قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرّة الأولى فقد نصحك، وأما المرّة الآخرة فقد غشّك؛ قال له علي: ولم نصحني؟ قال ابن عباس: لأنّك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا؛ ويؤلّبون عليك فينتقض عليك أهل الشأم وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزّبير أن يكرّا عليك. فقال علي: أمّا ما ذكرت من إقرارهم فوالله ما أشكّ أنّ ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأما الذي يلزمني من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان فوالله لا أولّي منهم أحدًا أبدًا؛ فإن أقبلوا فذلك خير لهم: وإن أدبروا بذلت لهم السيف. قال ابن عباس: فأطعني وادخل دارك، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإنّ العرب تجلو جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غدًا. فأبى علي، فقال لابن عباس: سر إلى الشأم فقد ولّيتكها؛ فقال ابن عباس: ما هذا برأي؛ معاوية رجلٌ من بني أميّة وهو ابن عمّ عثمان وعامله على الشأم، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم علي. فقال له علي: ولم؟ قال: لقرارة ما بيني وبينك، وإنّ كلّ ما حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده. فأبى علي وقال: والله لا كان هذا أبدًا. قال محمّد: وحدثني هشام بن سعد، عن أبي هلا، قال: قال ابن عبّاس: قدمت المدينة من مكة بعد قتل عثمان رضي الله عنه بخمسة أيام، فجئت عليًّا أدخل عليه، فقيل لي: عنده المغيرة بن شعبة؛ فجلست بالباب ساعة، فخرج المغيرة فسلّم علي فقال: متى قدمت؟ فقلت: الساعة. فدخلت على علي فسلّمت عليه، فقال لي: لقيت الزبير وطلحة؟ قال: قلت: لقيتهما بالنّواصف. قال: من معهما؟ قلت: أبو سعيد بن الحارث بن هشام في فئة من قريش. فقال علي: أما إنهم لن يدعوا أن يخرجوا يقولون: نطلب بدم عثمان؛ والله نعلم أنهم قتلة عثمان. قال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن شأن المغيرة، ولم خلا بك؟ قال: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين، فقال لي: أخلني، ففعلت؛ فقال: إنّ النصح رخيص وأنت بقيّة الناس، وإني لك ناصح، وإني أشير عليك بردّ عمال عثمان عامك هذا؛ فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت. فقلت: والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدني في أمري. قال: فإن كنت قد أبيت علي فانزع من شئت واترك معاوية، فإنّ لمعاوية جرأة، وهو في أهل الشأم يسمع منه، ولك حجّة في إثباته؛ كان عمر بن الخطاب قد ولّاه الشأم كلها، فقلت: لا والله، لا أستعمل معاوية يومين أبدًا. فخرج من عندي على ما أشار به، ثمّ عاد فقال لي: إنّي أشرت عليك بما أششرت به فأبيت علي، ثمّ نظرت في الأمر فإذا أنت مصيب، لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا يكون في أمرك دلسة. قال: فقال ابن عباس: فقلت لعلي: أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك، وأما الآخر فغشّك؛ وأنا أشير عليك بأن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله. قال علي: لا والله، لا أعطيه إلّا السيف. قال: ثم تمثّل بهذا البيت: ما ميتة إن متّها غير عاجز ** بعار إذا ما غالت النفس غولها فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع لست بأرب بالحرب، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول: " الحرب خدعة "! فقال علي: بلى، فقال ابن عباس: أما والله لئن أطعتني لأصدرنّ بهم بعد ورد، ولأتركنّهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا بن عباس، لست من هنيئاتك وهنيات معاوية في شيء، تشير علي وأرى، فإذا عصيتك فأطعني. قال: فقلت: أفعل، إنّ أيسر مالك عندي الطاعة. مسير قسطنطين ملك الروم يريد المسلمين وفي هذه السنة - أعني سنة خمس وثلاثين - سار قسطنطين بن هرقل - فيما ذكر محمد بن عمر الواقدي عن هشام بن الغاز، عن عبادة بن نسي - في ألف مركب يريد أرض المسلمين، فسلّط الله عليهم قاصفًا من الريح فغرّقهم، ونجا قسطنطين بن هرقل، فأتى صقلّيّة، فصنعوا له حمّامًا فدخله فقتلوه فيه؛ وقالوا: قتلت رجالنا. ثم دخلت سنة ست وثلاثين تفريق علي عماله على الأمصار ولمّا دخلت سنة ستّ وثلاثين فرّق علي عمّاله؛ فممّا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بعث علي عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وكانت له هجرة؛ وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشأم؛ فأمّا سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشأم، قالوا: إن كان عثمان بعثك فحيّهلًا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع! قال: أوما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى؛ فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعيد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: من فالّة عثمان، فأنا أطلب من آوى إليه وأنتصر به، قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد، قالوا: امض؛ فمضى حتى دخل مصر، فافترق أهل مصر فرقًا؛ فرقة دخلت في الجماعة وكانوا معه، وفرقة وقفت واعتزلت إلى خربتا وقالوا: إن قتل قتلة ععثمان فنحن معكم، وإلّا فنحن على جديلتنا حتى نحرّك أو نصيب حاجتنا؛ وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد إخواننا، وهم في ذلك مع الجماعة؛ وكتب قيس إلى أمير المؤمنين بذلك. وأمّا عثمان بن حنيف فسار فلم يردّه أحد عن دخول البصرة ولم يوجد في ذلك لابن عامر رأي ولا حزم ولا استقلال بحرب. وافترق الناس بها، فاتّبعت فرقة القوم، ودخلت فرقة في الجماعة، وفرقة قالت: ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنع كما صنعوا. وأما عمارة فأقبل حتى إذا كان بزبالة لقيه طليحة بن خويلد؛ وقد كان حين بلغهم خبر عثمان خرج يدعو إلى الطلب بدمه ويقول: لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه! يا ليتني فيها جذع ** أكر فيها وأضع فخرج حين رجع القعقاع من إغاثة عثمان فيمن أجابه حتى دخل الكوفة، فطلع عليه عمارة قادمًا على الكوفة، فقال له: ارجع فإنّ القوم لا يريدون بأميرهم بدلًا، وإن أبيت ضربت عنقك. فرجع عمارة وهو يقول: احذر الخطر ما يماسّك، الشر خير من شرّ منه. فرجع إلى علي بالخبر. وغلب على عمارة بن شهاب هذا المثل من لدن اعتاصت عليه الأمور إلى أن مات. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن، فجمع يعلى بن أميّة كلّ شيء من الجباية وتركه وخرج بذلك وهو سائر على حاميته إلى مكة فقدمها بالمال. ولما رجع سهل بن حنيف من طريق الشأم وأتته الأخبار ورجع من رجع، دعا علي طلحة والزّبير، فقال: إنّ الذي كنت أحذّركم قد وقع يا قوم، وإنّ الأمر الذي وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة كالنار؛ كلّما سعّرت ازدادت واستنارت. فقالا له: فأذن لنا أن نخرج من المدينة، فإمّا أن نكابر وإما أن تدعنا، فقال: سأمسك الأمر ما استمسك؛ فإذا لم أجد بدًّا فآخر الدواء الكي. وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى. وكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبيّن الكاره منهم للّذي كان، والرّاضي بالذي قد كان، ومن بين ذلك حتى كأن عليًّا على المواجهة من أمر أهل الكوفة. وكان رسول علي إلى أبي موسى معبد الأسلمي؛ وكان رسول أمير المؤمنين إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه فلم يكتب معاوية بشيء ولم يجبه وردّ رسوله، وجعل كلما تنجّز جوابه لم يزد على قوله: أدم إدامة حصن أو خدًا بيدي ** حربًا ضروسًا تشبّ عالجزل والضّرما في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ** شنعاء شيّبت الأصداغ واللّمما أعيا المسود بها والسّيّدون فلم ** يوجد لها غيرنا مولىً ولا حكما وجعل الجهني كلما تنجّز الكتاب لم يزده على هذه الأبيات؛ حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، دعا معاوية برجل من بني عبس، ثم أحد بني رواحة يدعى قبيصة، فدفع إليه طومارًا مختومًا، عنوانه: من معاوية إلى علي. فقال: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثمّ أوصاه بما يقول وسرّح رسول علي. وخرجا فقدما المدينة في ربيع الأوّل لغرّته، فلما دخلا المدينة رفع العبسي الطومار، ففضّ خاتمه فلم يجد في جوفه كتابةً، فقال للرّسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إنّ الرسل آمنة لا تقتل؛ قال: ورائي أني تركت قومًا لا يرضون إلا بالقود، قال: ممن؟ قال: من خيط نفسك، وتركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق. فقال: منّي يطلبون دم عثمان! ألست موتورًا كترة عثمان! اللهمّ إني أبرأ إليك من دم عثمان؛ نجا والله قتلة عثمان إلّا أن يشاء الله، فإنّه إذا أراد أمرًا أصابه؛ اخرج؛ قال: وأنا آمن؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئيّة قالوا: هذا الكلب، هذا وافد الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر، يا آل قيس، الخيل والنّبل، إني أحلف بالله جلّ اسمه ليردّنّها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحولة والرّكاب! وتعاووا عليه ومنعنه مضر، وجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله، لا يفلح هؤلاء أبدًا، فلقد أتاهم ما يوعدون. فيقولون له: اسكت، فيقول: لقد حلّ بهم ما يحذرون، انتهت والله أعمالهم، وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذلّ فيهم. استئذان طلحة والزبير عليا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: استأذن طلحة والزّبير عليًّا في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ وأحبّ أهل المدينة أن يعلموا ما رأى علي في معاوية وانتقاضه، ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة؛ أيجسر عليه أو ينكل عنه! وقد بلغهم أنّ الحسن بن علي دخل عليه ودعاه إلى القعود وترك الناس، فدسّوا إليه زياد بن حنظلة التميمي - وكان منقطعًا إلى علي - فدخل عليه فجلس إليه ساعةً ثمّ قال له علي: يا زياد، تيسّر؛ فقال: لأي شيء؟ فقال: تغزو الشأم، فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، فقال: ومن لا يصانع في أمور كثيرة ** يضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم فتمثّل علي وكأنه لا يريده: متى تجممع القلب الذكي وصارمًا ** وأنفًا حميًّا تجتنبك المظالم فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم، فعرفوا ما هو فاعل. ودعا عليٌّ محمد بن الحنفيّة فدفع إليه اللواء، وولّى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة - أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد - ولّاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجرّاح؛ ابن أخي أبي عبيدة بن الجرّاح، فجعله على مقدّمته، واستخلف على المدينة قثم بن عبّاس، ولم يولّ ممن خرج على عثمان أحدًا، وكتب إلى قيس بن سعد أن يندب الناس إلى الشأم، وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى مثل ذلك، وأقبل على التهيّؤ والتجهّز، وخطب أهل المدينة فدعاهم إلى النهوض في قتال أهل الفرقة، وقال: إنّ الله عز وجل بعث رسولًا هاديًا مهديًّا بكتاب ناطق وأمر قائم واضح؛ لا يهلك عنه إلا هالك، وإنّ المبتدعات والشبهات هنّ المهلكات إلّا من حفظ الله، وإنّ في سلطان الله عصمة أمركم، فأعطوه طاعتكم غير ملويّة ولا مستكره بها، والله لتفعلنّ أو لينقلنّ الله عنكم سلطان الإسلام ثمّ لا ينقله إليكم أبدًا حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون يفرّقون جماعتكم، لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق، وتقضون الذي عليكم. فبينا هم كذلك إذ جاء الخبر عن أهل مكة بنحو آخر وتمام على خلاف، فقام فيهم بذلك؛ فقال: إنّ الله عز وجل جعل لظالم هذه الأمة العفو والمغفرة، وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز والنّجاة، فمن لم يسعه الحقّ أخذ بالباطل. ألا وإنّ طلحة والزّبير وأمّ المؤمنين قد تمالئوا على سخط إمارتي، ودعوا الناس إلى الإصلاح، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكفّ إن كفّوا، وأقتصر على ما بلغني عنهم. ثمّ أتاه أنهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح، فتعبّى للخروج إليهم، وقال: إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين وما كان عليهم في المقام فينا مؤونة ولا إكراه. فاشتدّ على أهل المدينة الأمر، فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلا النخعي، فجاء به فقال: انهض معي، فقال: أنا مع أهل المدينة، إنما أنا رجل منهم وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم لا أفارقهم، فإن يخرجوا أخرج وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني زعيمًا بألّا تخرج، قال: ولا أعطيك زعيمًا، قال: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيرًا وكبيرًا لأنكرتني، دعوه فأنا به زعيم. فرجع عبد الله بن عمر إلى المدينة وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإنّ هذا الأمر لمشتبه علينا، ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر. فخرج من تحت ليلته وأخبر أمّ كلثوم بنت علي بالذي سمع من أهل المدينة، وأنه يخرج معتمرًا مقيمًا على طاعة علي ما خلا النهوض؛ وكان صدوقًا فاستقرّ عندها؛ وأصبح علي فقيل له: حدث البارحة حدث هو أشدّ عليك من طلحة والزبير وأمّ المؤمنين ومعاوية. قال: وما ذلك؟ قال: خرج ابن عمر إلى الشأم؛ فأتى علي السوق ودعا بالظّهر فحمل الرجال وأعدّ لكل طريق طلّابًا. وماج أهل المدينة، وسمعت أمّ كلثوم بالذي هو فيه، فدعت ببغلتها فركبتها في رحل ثمّ أتت عليًا وهو واقف في السوف يفرّق الرجال في طلبه، فقالت: مالك لا تزنّد من هذا الرجل؟ إنّ الأمر على خلاف ما بلّغته وحدثته. قالت: أنا ضامنة له، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، لا والله ما كذبت ولا كذب، وإنه عندي ثقة فانصرفوا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما رأى علي من أهل المدينة ما رأى لم يرض طاعتهم حتى يكون معها نصرته، قام فيهم وجمع إليه وجوه أهل المدينة، وقال: إنّ آخر هذا الأمر لا يصلح إلّا بما صلح أوّله، فقد رأيتم عواقب قضاء الله عز وجل على من مضى منكم، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فأجابه رجلان من أعلام الأنصار؛ أبو الهيثم بن التيّهان - وهو بدري - وخزيمة بن ثابت؛ وليس بذي الشهادتين؛ مات ذو الشهادتين في زمن عثمان رضي الله عنه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن عبيد الله، عن الحكم، قال: قيل له: أشهد خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين الجمل؟ فقال: ليس به، ولكنّه غيره من الأنصار؛ مات ذو الشهادتين في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مجالد، عن الشعبي، قال: بالله الذي لا إله إلّا هو؛ ما نهض في تلك الفتنة إلّا ستّة بدريّين ما لهم سابع، أو سبعة ما لهم ثامن. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: بالله الذي لا إله إلّا هو ما نهض في ذلك الأمر إلّا ستة بدرّيين ما لهم سابع. فقلت: اختلفتما. قال: لم نختلف، إنّ الشعبي شكّ في أبي أيوب: أخرج حيث أرسلته أمّ سلمة إلى علي بعد صفين، أم لم يخرجّ إلّا أنه قدم عليه فمضى إليه، وعلي يومئذ بالنّهروان. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عبد الله بن سعيد ابن ثابت، عن رجل، عن سعيد بن زيد، قال: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي ﷺ ففازوا على الناس بخير يحوزونه إلّا وعلي بن أبي طالب أحدهم. ثم إنّ زياد بن حنظلة لما رأى تثاقل الناس عن علي ابتدر إليه وقال: من تثاقل عنك فإنا نخفّ معك ونقاتل دونك. وبينما عليٌّ يمشي في المدينة إذ سمع زينب ابنة أبي سفيان وهي تقول: ظلامتنا عند مدمّم وعند مكحلة، فقال: إنها لتعلم ما همّا لها بثأر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة؛ أن عثمان قتل في ذي الحجة لثمان عشرة خلت منه، وكان على مكة عبد الله بن عامر الحضرمي. وعلى الموسم يومئذ عبد الله بن عباس، بعثه عثمان وهو محصور، فتعجّل أناس في يومين فأدركوا مع ابن عباس، فقدموا لامدينة بعد ما قتل وقبل أن يبايع علي، وهرب بنو أميّة فلحقوا بمكة، وبويع علي لخمس بقين من ذي الحجّة يوم الجمعة؛ وتساقط الهرّاب استخبرتهم فأخبروها أن قد قتل عثمان رضي الله عنه ولم يجبهم إلى التأمير أحد؛ فقالت عائشة رضي الله عنها: ولكن أكياس، هذا غبّ ما كان يدور بينكم من عتاب الاستصلاح؛ حتى إذا قضت عمرتها وخرجت فانتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث - وكانت واصلة لهم، رفيقة عليهم - يقال له عبيد بن أبي سلمة يعرف بأمّه أمّ كلاب، فقالت: مهيم! فأصمّ ودمدم، فقالت: ويحك! علينا أو لنا؟ فقال: لا تدري، قتل عثمان وبقوا ثمانيًا، قالت: ثمّ صنعوا ماذا؟ فقال: أخذوا أهل المدينة بالاجتماع على علي، والقوم الغالبون على المدينة. فرجعت إلى مكة وهي لاتقول شيئًا ولا يخرج منها شيء، حتى نزلت على باب المسجد وقصدت للحجر فستّرت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: يأيّها الناس، إنّ الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب واستعمال من حدثت سنّه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من مواضع الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحًا لهم، فلما لم يجدوا حجّةً ولا عذرًا خلجوا وبادوا بالعدوان ونبا فعلهم عن قولهم؛ فسفكوا الدم الحرام واستحلّوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام، واستحلّوا الشهر الحرام. والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم. فنجاة من اجتماعكم عليهم حتى ينكل بهم غيرهم ويشرّد من بعدهم، ووالله لو أن الّذي اعتدّوا به عليه كان ذنبًا لخلّص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء. فقال عبد الله بن عامر الحضرمي: هأنذا لها أوّل طالب - وكان أوّل مجيب ومنتدب. حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن المدائني، قال: حدثنا سحيم مولى وبرة التميمي، عن عبيد بن عمرو القرشي، قال: خرجت عائشة رضي الله عنها وعثمان محصور، فقدم عليها مكّة رجل يقال له أخضر، فقالت: ما صنع الناس؟: فقال: قتل عثمان المصريين، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! أيقتل قومًا جاءوا يطلبون الحقّ وينكرون الظلم! والله لا نرضى بهذا. ثمّ قدم آخر فقالت: ما صنع الناس؟ قال: قتل المصرّيون عثمان، قالت: العجب لأخضر، زعم أنّ المقتول هو القاتل!. فكان يضرب به المثل: " أكذب من أخضر ". كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: خرجت عائشة رضي الله عنها نحو المدينة من مكّة بعد مقتل عثمان، فلقيها رجل من أخوالها، فقالت: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان واجتمع الناس على علي، والأمر أمر الغوغاء. فقالت: ما أظنّ ذلك تامًّا ردّوني. فانصرفت راجعة إلى مكة، حتى إذ دخلتها أتاها عبد الله ابن عامر الحضرمي - وكان أمير عثمان عليها - فقال: ما ردّك يا أمّ المؤمنين؟ قالت: ردّني أنّ عثمان قتل مظلومًا، وأنّ الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزّوا الإسلام. فكان أوّل من أجابها عبد الله بن عامر الحضرمي، وذلك أوّل ما تكلمت بنو أميّة بالحجاز ورفعوا رءوسهم، وقام معهم سعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، وسائر بني أميّة. وقد قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة؛ ويعلى بن أميّة من اليمن، وطلحة والزّبير من المدينة، واجتمع ملؤهم بعد نظر طويل في أمرهم على البصرة، وقالت: أيّها الناس، إنّ هذا حدث عظيم وأمر منكر، فانهضوا فيه إلى إخوانكم من أهل البصرة فأنكروه، فقد كفاكم أهل الشأم ما عندهم، لعلّ الله عز وجل يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان أوّل من أجاب إلى ذلك عبد الله بن عامر وبنو أميّة؛ وقد كانوا سقطوا إليها بعد مقتل عثمان، ثم قدم عبد الله بن عامر، ثمّ قدم يعلى بن أميّة، فاتّفقا بمكة، ومع يعلى ستمائة بعير وستمائة ألف، فأناخ بالأبطح معسكرًا؛ وقدم معهما طلحة والزّبير، فلقيا عائشة رضي الله عنها، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: وراءنا أنا تحملنا بقلّيّتنا هرّابًا من المدينة من غوغاء وأعراب، وفارقنا قومًا حيارى لا يعرفون حقًّا ولا ينكرون باطلًا ولا يمنعون أنفسهم. قالت: فائتمروا أمرًا؛ ثمّ انضهوا إلى هذه الغوغاء. وتمثّلت: ولو أنّ قومي طاوعتني سراتهم ** لأنقذتهم من الحبال أو الخبل وقال القوم فيما ائتمروا به: الشأم. فقال عبد الله بن عامر: قد كفاكم الشأم من يستمرّ في حوزته، فقال له طلحة والزّبير: فأين؟ قال: البصرة، فإنّ لي بها صنائع ولهم في طلحة هولًا، قالوا: قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلّا أقمت كما أقام معاوية فنكتفي بك، ونأتي الكوفة فنسدّ على هؤلاء القوم المذاهب! فلم يجدوا عنده جوابًا مقبولًا، حتى إذا استقام لهم الرأي على البصرة قالوا: يا أمّ المؤمنين، دعي المدينة فإنّ من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها، واشخصي معنا إلى البصرة، فإنّا نأتي بلدًا مضيّعًا، وسيحتجون علينا فيه ببيعة علي بن أبي طالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكّة ثم تقعدين، فإن أصلح الله الأمر كان الذي تريدين، وإلّا احتسبنا ودفعنا عن هذا الأمر بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد. فلما قالوا ذلك لها - ولم يكن ذلك مستقيمًا إلّا بها - قالت: نعم؛ وقد كان أزواج النبي ﷺ معها على قصد المدينة، فلمّا تحوّل رأيها إلى البصرة تركن ذلك؛ وانطلق القوم بعدها إلى حفصة، فقالت: رأيي تبعٌ لرأي عائشة؛ حتى إذا لم يبق إلّا الخروج قالوا: كيف نستقلّ وليس معنا مال نجهّز به الناس! فقال يعلى بن أميّة: معي ستمائة ألف وستمائة بعير فاركبوها؛ وقال ابن عامر: معي كذا وكذا فتجهّزوا به. فنادى المنادي: إنّ أمّ المؤمنين وطلحة والزّبير شاخصون إلى البصرة، فمن كان يريد إعزاز الإسلام وقتال المحلّين والطلب بثأر عثمان ومن لم يكن عنده مركب ولم يكن له جهاز فهذا جهاز وهذه نفقة، فحملوا ستمائة رجل على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب - وكانوا جميعًا ألفا - وتجهّزوا بالمال، ونادوا بالرّحيل واستقلّوا ذاهبين. وأرادت حفصة الخروج فأتاها عبد الله بن عمر فطلب إليها أن تقعد، فقعدت وبعثت إلى عائشة: أن عبد الله حال بيني وبين الخروج، فقالت: يغفر الله لعبد الله! وبعثت أمّ الفضل بنت الحارث رجلًا من جهينة يدعى ظفرًا، فاستأجرته على أن يطوي ويأتي عليًّا بكتابها، فقدم على علي بكتاب أمّ الفضل بالخبر. حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا علي، عن أبي مخنف، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبيه، قال: قال أبو قتادة لعلي: يا أمير المؤمنين، إنّ رسول الله ﷺ قلّدني هذا السيف وقد شمته فطال شيمه، وقد أنَى تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لم يألوا الأمّة غشًّا، فإن أحببت أن تقدّمني، فقدّمني. وقامت أمّ سلمة فقال: يا أمير المؤمنين، لولا أن أعصي الله عز وجل وأنك لا تقبله منّي لخرجت معك؛ وهذا ابني عمر - والله لهو أعزّ علي من نفسي - يخرج معك فيشهد مشاهدك. فخرج لم يزل معه، واستعمله على البحرين ثم عزله، واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا مسلمة، عن عوف، قال: أعان يعلى بن أميّة الزبير بأربعمائة ألف، وحمل سبعين رجلًا من قريش، وحمل عائشة رضي الله عنها على جمل يقال له عسكر، أخذه بثمانين دينارًا، وخرجوا. فنظر عبد الله بن الزبير إلى البيت؛ فقال: ما رأيت مثلك بركة طالب خير، ولا هارب من شرّ. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمّد وطلحة، قالا: خرج المغيرة وسعيد بن العاص معهم مرحلةً من مكّة، فقال سعيد للمغيرة: ما الرأي؟ قال: الرأي والله الاعتزال، فإنّهم ما يفلح أمرهم، فإن أظفره الله أتيناه، فقلنا: كان هوانا وصغونا معك؛ فاعتزلا فجلسا، فجاء سعيد مكة فأقام بها، ورجع معهما عبد الله بن خالد بن أسيد. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، قال: ثمّ ظهرا - يعني طلحة والزّبير - إلى مكة بعد قتل عثمان رضي الله عنه بأربعة أشهر وابن عامر بها يجرّ الدنيا، وقدم يعلى بن أميّة معه بمال كثير، وزيادة على أربعمائة بعير، فاجتمعوا في بيت عائشة رضي الله عنها فأرادوا الرأي، فقالوا: نسير إلى علي فنقاتله، فقال بعضهم: ليس لكم طاقة بأهل المدينة، ولكنّا نسير حتى ندخل البصرة والكوفة، ولطلحة بالكوفة شيعةٌ وهوىً، وللزّبير بالبصرة هوىً ومعونة. فاجتمع رأيهم على أن يسيروا إلى ابصرة وإلى الكوفة، فأعطاهم عبد الله بن عامر مالًا كثيرًا وإبلا، فخرجوا في سبعمائة رجل من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل، فبلغ عليًّا مسيرهم، فأمّر على المدينة سهل ابن حنيف الأنصاري، وخرج فسار حتى نزل ذاقار، وكان مسيره إليها ثمان ليال، ومعه جماعة من أهل المدينة. حدثني أحمد بن منصور، قال: حدثني يحيى بن معين، قال: حدثنا هشام بن يوسف قاضي صنعاء، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن موسى بن عقبة، عن علقمة بن وقّاص الليثي، قال: لما خرج طلحة والزّبير وعائشة رضي الله عنههم عرضوا الناس بذات عرق، واستصغروا عروة بن الزبير وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فردّوهما. حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: أخبرنا أبو عمرو، عن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، قال: لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بذات عرق، فقال: أين تذهبون وثأركم على أعجاز الإبل! اقتلوهم ثمّ ارجعوا إلى منازلكم لا تقتلوا أنفسكم؛ قالوا: بل نسير فلعلّنا نقتل قتلة عثمان جميعًا. فخلا سعيد بطلحة والزّبير، فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ أصدقاني؛ قالا: لأحدنا أيّنا اختاره الناس. قال: بل اجعلوه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه، قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم! قال: أفلا أراني أسعى لأخرجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما رأى سعيد، من كان ها هنا من ثقيف فليرجع؛ فرجع ومضى القوم، معهم أبان بن عثمان والوليد بن عثمان، فاختلفوا في الطريق فقالوا: من ندعو لهذا الأمر؟ فخلا الزبير بابنه عبد الله، وخلا طلحة بعلقمة بن وقّاص الليثي - وكان يؤثره على ولده - فقال أحدهما: ائت الشأم، وقال الآخر: ائت العراق، وحاور كلّ واحد منهما صاحبه ثم اتّفقا على البصرة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن قيس، عن الأغرّ، قال: لما اجتمع إلى مكّة بنو أميّة ويعلى بن منية وطلحة والزّبير، ائتمروا أمرهم، وأجمع ملؤهم على الطلب بدم عثمان وقتال السبئيّة حتى يثأروا وينتقموا؛ فأمّرتهم عائشة رضي الله عنها بالخروج إلى المدينة، واجتمع القوم على البصرة وردّوها عن رأيها، وقال لها طلحة والزّبير: إنا نأتي أرضًا قد أضيعت وصارت إلى علي، وقد أجبرنا علي على بيعته، وهم محتجّون علينا بذلك وتاركو أمرنا إلّا أن تخرجي فتأمري بمثل ما أمرت بمكة، ثمّ ترجعي. فنادى المنادي: إن عائشة تريد البصرة وليس في ستمائة بعير ما تغنون به غوغاء وجلبة الأعراب وعبيدًا قد انتشروا وافترشوا أذرعهم مسعدين لأوّل واعية. وبعثت إلى حفصة، فأرادت الخروج، فعزم عليها ابن عمر فأقامت؛ فخرجت عائشة ومعها طلحة والزّبير، وأمّرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، فكان يصلّي بهم في الطريق وبالبصرة حتى قتل، وخرج معها مروان وسائر بني أميّة إلّا من خشع، وتيامنت عن أوطاس؛ وهم ستمائة راكب سوى من كانت له مطيّة، فتركت الطريق ليلةً وتيامنت عنها كأنهم سيّارة ونجعة، مساحلين لم يدن من المنكدر ولا واسط ولا فلج منهم أحد، حتّى أتوا البصرة في عام خصيب. وتمثّلت: دعي بلاد جموع الظلم إذ صلحت ** فيها المياه وسيري سير مذعور تخيّري النبت فارعي ثمّ ظاهرة ** وبطن واد من الضمّار ممطور حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عمر بن راشد اليمامي، عن أبي كثير السحيمي، عن ابن عباس، قال: خرجد أصحاب الجمل في ستمائة، معهم عبد الرحمن بن أبي بكرة وعبد الله بن صفوان الجمحي، فلما جاوزا بئر ميمون إذا هم بجزور قد نحرت ونحرها ينثعب، فتطيّروا. وأذّن مروان حين فصل من مكة ثمّ جاء حتى وقف عليهما، فقال: أيّكما أسلّم بالإمرة وأؤذّن بالصّلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد. فأرسلت عائشة رضي الله عنها إلى مروان فقالت: مالك؟ أتريد أن تفرّق أمرنا! ليصلّ ابن أختي، فكان يصلّي بهم عبد الله بن الزبير حتى قدم البصرة، فكان معاذ بن عبيد الله يقول: والله لو ظفرنا لافتتنّا ما خلّى الزبير بين طلحة والأمر، ولا خلّى طلحة بين الزبير والأمر. خروج علي إلى الربذة يريد البصرة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد، قال: جاء عليًّا الخبر عن طلحة والزّبير وأمّ المؤمنين، فأمّر على المدينة تمّام بن العباس، وبعث إلى مكّة قثم بن العباس، وخرج وهو يرجو أن يأخذهم بالطريق وأراد أن يعترضهم، فاستبان له بالرّبذة أن قد فاتوه، وجاءه بالخبر عطاء بن رئاب مولى الحارث بن حزن. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بلغ عليًّا الخبر - وهو بالمدينة - باجتماعهم على الخروج إلى البصرة وبالّذي اجتمع عليه ملؤهم؛ طلحة والزّبير وعائشة ومن تبعهم، وبلغه قول عائشة، وخرج علي يبادرهم في تعبيته التي كان تعبّى بها إلى الشام، وخرج معه من نشط من الكوفيّين والبصريّين متخفّفين في سبعمائة رجل، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها؛ فوالله لئن خرجت منها لا ترجع إليها ولا يعود إليها سلطان المسلمين أبدًا. فسبّوه، فقال: دعو الرجل؛ فنعم الرجل من أصحاب محمد ﷺ! وسار حتى انتهى إلى الربذة فبلغه ممرّهم، فأقام حين فاتوه يأتمر بالرّبذة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن خالد بن مهران البجلي، عن مروان بن عبد الرحمن الخميسي، عن طارق بن شهاب، قال: خرجنا من الكوفة معتمرين حين أتانا قتل عثمان رضي الله عنه، فلما انتهينا إلى الربذة - وذلك في وجه الصبح - إذا الرفاق وإذا بعضهم يحدو بعضًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين، فقلت: ما له؟ قالوا: غلبة طلحة والزّبير، فخرج يعترض لهم ليردّهما، فبلغه أنهما قد فاتاه، فهو يريد أن يخرج في آثارهما، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! آتي عليًّا فأقاتل معه هذين الرجلين وأمّ المؤمنين أو أخالفه! إنّ هذا لشديد. فخرجت فأتيته، فأقيمت الصلاة بغلس، فتقدّم فصلّى، فلما انصرف أتاه ابنه الحسن فجلس فقال: قد أمرتك فعصيتني، فتقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخنّ خنين الجارية! وما الّذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثمّ أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمممصار والعرب وبيعة كلّ مصر، ثمّ أمرتك حين فعل هذان الرجلان مما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك؛ فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أمّا قولك: لو خرجت من الممدينة حين أحيط بعثمان؛ فولله لقد أحيط بنا كما أحيط به. وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإنّ الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر. وأما قولك حين خرج طلحة والزّبير، فإنّ ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، ووالله ما زلت مقهورًا مذ وليت، منقوصًا لا أصل إلى شيء مما ينبغي. وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني! أو من تريدني؟ أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاطب ها ويقال: دباب دباب! ليست ها هنا حتى يحلّ عرقوباها ثم تخرج؛ وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه! فكفّ عنك أي بني. شراء الجمل لعائشة رضي الله عنها وخبر كلاب الحوءب حدثني إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: أخبرنا علي بن عابس الأزرق، قال: حدثنا أبو الخطّاب الهجري، عن صفوان بن قبيضة الأحمسي، قال: حدثني العرني صاحب الجمل، قال: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: يا صاحب الجمل، تبيع جملك؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بألف درهم، قال: مجنون أنت! جملٌ يباع بألف درهم! قال: قلت: نعم، جملي هذا، قال: وممّ ذلك؟ قلت: ما طلبت عليه أحدًا قطّ إلّا أدركته، ولا طلبني وأنا عليه أحد إلا فتّه. قال: لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا، قال: قلت: ولمن تريده؟ قال: لأمّك، قلت: لقد تركت أمي في بيتها قاعدة ما تريد براحا، قال: إنما أريده لأمّ المؤمنين عائشة، قلت: فهو لك، فخذه بغير ثمن، قال: لا، ولكن ارجع معنا إلى الرحل فلنعطك ناقة مهريّة ونزيدك دراهم، قال: فرجعت فأعطوني ناقةً لها مهرّية، وزادوني أربعمائة أو ستمائة درهم، فقال لي: يا أخا عرينة، هل لك دلالة بالطريق؟ قال: قلت: نعم، أنا من أدرك الناس، قال: فسر معنا، فسرت معهم فلا أمرّ على واد ولا ماء إلّا سألوني عنه؛ حتى طرقنا ماء الحوءب فنبحتنا كلابها، قالوا: أي ماء هذا؟ قلت: ماء الحوءب، قال: فصرخت عائشة بأعلى صوتها، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، ثم قالت: أنا والله صاحبة كلاب الحوءب طروقًا، ردّوني! تقول ذلك ثلاثًا. فأناخت وأناخوا حولها وهم على ذلك، وهي تأبى حتى كانت الساعة التي أناخوا فيها من الغد. قال: فجاءها ابن الزبير فقال: النجاء النجاء، فقد أدرككم والله علي بن أبي طالب! قال: فارتحلوا وشتموني، فانصرفت، فما سرت إلّا قليلًا وإذا أنا بعلي وركب معه نحو من ثلثمائة، فقال لي علي: يأيّها الراكب! فأتيته فقال: أين أتيت الظعينة؟ قلت: في مكان كذا وكذا، وهذه ناقتها، وبعتهم جملي، قال: وقد ركبته؟ قلت: نعم؛ وسرت معهم حتى أتينا ماء الحوءب فنبحت عليها كلابها، فقالت كذا وكذا، فلما رأيت اختلاط أمرهم انفتلت وارتحلوا؛ فقال علي: هل لك دلالة بذي قار؟ قلت: لعلي أدلّ الناس، قال: فسر معنا؛ فسرنا حتى نزلنا ذا قار، فأمر علي بن أبي طالب بجوالقين فضمّ أحدهما إلى صاحبه، ثم جىء برحل فوضع عليهما، ثم جاء يمشي حتى صعد عليه، وسدل رجليه من جانب واحد، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على محمّد ﷺ، ثم قال: قد رأيتم ما صنع هؤلاء القوم وهذه المرأة. فقام إليه الحسن فبكى، فقال له علي: قد جئت تخنّ خنين الجارية! فقال: أجل، أمرتك فعصيتني، فأنت اليوم تقتل بمضيعة لا ناصر لك، قال: حدث القوم بما أمرتني به، قال: أمرتك حين سار الناس إلى عثمان ألّا تبسط يدك ببيعة حتى تجول جائلة العرب، فإنهم لن يقطعوا أمرًا دونك، فأبيت علي، وأمرتك حين سارت هذه المرأة وصنع هؤلاء القوم ما صنعوا أن تلزم المدينة وترسل إلى من استجاب لك من شيعتك، قال علي: صدق والله، ولكن والله يا بني ما كنتُ لأكون كالضّبع تستمع للّدم، إنّ النبي ﷺ قبض وما أرى أحدًا أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر، فبايعت كما بايعوا، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه هلك وما أرى أحدًا أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر بن الخطاب، فبايعت كما بايعوا، ثمّ إنّ عمر رضي الله عنه عنه هلك وما أرى أحدًا أحقّ بهذا الأمر منّي، فجعلني سهمًا من ستّة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعت كما بايعوا، ثم سار الناس إلى عثمان رضي الله عنه فقتلوه، ثم أتوني فبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مقاتل من خالفني بمن اتّبعني حتى يحكم الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين. قول عائشة والله لأطلبن بدم عثمان وخروجها وطلحة والزبير فيمن تبعهم إلى البصرة كتب إلي علي بن أحمد بن الحسن العجلي أن الحسين بن نصر العطار، قال: حدثنا أبي نصر بن مزاحم العطار، قال: حدثنا سيف بن عمر، عن محمد بن نويرة وطلحة بن الأعلى الحنفي. قال: وحدثنا عمر بن سعد، عن أسد بن عبد الله، عمّن أدرك من أهل العلم؛ أنّ عائشة رضي الله عنها لما انتهت إلى سرف راجعة في طريقها إلى مكة، لقيها عبد بن أمّ كلاب - وهو عبد بن أبي سلمة، ينسب إلى أمه - فقالت له: مهيم؟ قال: قتلوا عثمان رضي الله عنه، فمكثوا ثمانيًا؛ قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع، فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز؛ اجتمعوا على علي بن أبي طالب. فقالت: والله ليت أنّ هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لصاحبك! ردّوني ردّوني، فانصرفت إلى مكّة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلومًا، والله لأطلبنّ بدمه، فقال لها ابن أمّ كلاب: ولم؟ فوالله إنّ أول من أمال حرفه لأنت! ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلًا فقد كفر؛ قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل؛ فقال لها ابن أمّ كلاب: فمنك البداء ومنك الغير ** ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام ** وقلت لنا إنّه قد كفر فهبنا أطعناك في قتله ** وقاتله عندنا من أمر ولم يسقط السقف من فوقنا ** ولم تنكسف شمسنا والقمر وقد بايع الناس ذا تدرإ ** يزيل الشبا ويقيم الصعر ويلبس للحرب أثوابها ** وما من وفى مثل من قد غدر فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر، فستّرت واجتمع إليها الناس، فقالت: يأيّها الناس، إنّ عثمان قتل مظلومًا، ووالله لأطلبنّ بدمه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان علي في همّ من توجه القوم لا يدري إلى أين يأخذون! وكان أن يأتوا البصرة أحبّ إليه. فلما تيقّن أنّ القوم يعارضون طريق البصرة سرّ بذلك، وقال: الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم، فقال له ابن عباس: إنّ الذي يسرّك من ذلك ليسوؤني، إنّ الكوفة فسطاط فيه أعلام من أعلام العرب، ولا يحملهم عدّة القوم، ولا يزال فيهم من يسمو إلى أمر لا يناله؛ فإذا كان كذلك شغب علي الذي قد نال حتى يفشأه فيفسد بعضهم على بعض. فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول، ولكنّ الأثرة لأهل الطاعة وألحق بأحسنهم سابقة وقدمة، فإن استووا أعفيناهم واجتبرناهم، فإن أقنعهم ذلك كان خيرًا لهم، وإن لم يقنعهم كلّفونا إقامتهم وكان شرًّا على من هو شرّ له. فقال ابن عباس: إن ذلك لأمر لا يدرك إلّا بالقنوع. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لمّا اجتمع الرأي من طلحة والزّبير وأمّ المؤمنين ومن بمكة من المسلمين على السير إلى البصرة والانتصار من قتلة عثمان رضي الله عنه، خرج الزبير وطلحة حتى لقيا ابن عمر ودعواه إلى الخفوف، فقال: إني امرؤ من أهل المدينة، فإن يجتمعوا على النهوض أنهض، وإن يجتمعوا على القعود أقعد، فتركاه ورجعا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن سعيد بن عبد الله، عن ابن أبي مليكة، قال: جمع الزبير بنيه حين أراد الرحيل، فودّع بعضهم وأخرج بعضهم، وأخرج ابني أسماء جميعًا، فقال: يا فلان أقم، يا عمرو أقم. فلما رأى ذلك عبد الله بن الزبير، قال: يا عروة أقم، ويا منذر أقم، فقال الزبير: ويحك! أستصحب ابني وأستمتع منهما، فقال: إن خرجت بهم جميعًا فاخرج، وإن خلّفت منهم أحدًا فخلّفهما ولا تعرّض أسماء للثّكل من بين نسائك. فبكى وتركهما، فخرجوا حتى إذا انتهوا إلى جبال أوطاس تيامنوا وسلكوا طريقًا نحو البصرة، وتركوا طريقها يسارًا، حتى إذا دنوا منها فدخلوها ركبوا المنكدر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن الشهيد، عن ابن أبي مليكة، قال: خرج الزبير وطلحة ففصلا، ثمّ خرجت عائشة فتبعها أمّهات المؤمنين إلى ذات عرق، فلم ير يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام أو باكيًا له من ذلك اليوم، كان يسمّى يوم النحيب. وأمّرت عبد الرحمن بن عتّاب، فكان يصلّي بالناس، وكان عدلًا بينهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن يزيد بن معن السلمي، قال: لما تيامن عسكرها عن أوطاس أتوا على مليح بن عوف السلمي، وهو مطلع ما له، فسلّم على الزبير، وقال: يا أبا عبد الله، ما هذا؟ قال: عدي على أمير المؤمنين رضي الله عنه فقتل بلا ترة ولا عذر، قال: ومن؟ قال: الغوغاء من الأمصار ونزّاع القبائل، وظاهرهم الأعراب والعبيد، قال: فتريدون ماذا؟ قال: ننهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلّا يبطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا؛ إذا لم يفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلّا قتله هذا الضرب، قال: والله إنّ ترك هذا لشديد، ولا تدرون إلى أين ذلك يسير! فودّع كلّ واحد منهما صاحبه، وافترقا ومضى الناس. دخولهم البصرة والحرب بينهم وبين عثمان بن حنيف كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ومضى الناس حتى إذا عاجوا عن الطريق وكانوا بفناء البصرة، لقيهم عمير ابن عبد الله التميمي، فقال: يا أمّ المؤمنين، أنشدك بالله أن تقدمي اليوم على قوم تراسلي منهم أحدًا فيكفيكهم! فقالت: جئتني بالرأي، امرؤ صالح، قال: فعجّلي ابن عامر فليدخل، فإنّ له صنائع فليذهب إلى صنائعه فليلقوا الناس حتى تقدمي ويسمعوا ما جئتم فيه. فأرسلته فاندسّ إلى البصرة، فأتى القوم. وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى رجال من أهل البصرة، وكتبت إلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم من الوجوه، ومضت حتى إذا كانت بالحفير انتظرت الجواب بالخبر؛ ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين - وكان رجل عامّة - وألزّه بأبي الأسود الدؤلي - وكان رجل خاصّة - فقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها، فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير، فاستأذنا فأذنت لهما، فسلّما وقالا: إنّ أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك، فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطّى لبنيه الخبر. إنّ الغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع القبائل غزوا حرم رسول الله ﷺ وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر، فاستحلّوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال الحرام، وأحلّوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارّين مضرّين، غير نافعين ولا متّقين؛ لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا. وقرأت: " لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ". ننهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل وأمر رسول الله ﷺ؛ الصغير والكبير والذّكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به، ونحضّكم عليه، ومنكر ننهاكم عنه، ونحثّكم على تغييره. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: فخرج أبو الأسود وعمران من عندها فأتيا طلحة فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليًّا؟ قال: بلى، واللّجّ على عنقي، وما أستقيل عليًّا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان، ثمّ أتيا الزبير فقالا: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قالا: ألم تبايع عليًّا؟ قال: بلى، واللجّ على عنقي، وما أستقيل عليًّا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. فرجعا إلى أمّ المؤمنين فودّعاها فودّعت عمران، وقالت: يا أبا الأسود إيّاك أن يقودك الهوى إلى النار، " كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط.. " الآية. فسرّحتهما؛ ونادى مناديها بالرّحيل، ومضى الرجلان حتى دخلا على عثمان بن حنيف، فبدر أبو الأسود عمران فقال: يا بن حنيف قد أتيت فانفر ** وطاعن القوم وجالد واصبر وابرز لهم مستلئمًا وشمّر فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت رحا الإسلام وربّ الكعبة؛ فانظروا بأي زيفان تزيف! فقال عمران: إي والله لتعركنّكم عركًا طويلًا ثم لا يساوي ما بقي منكم كثير شيء؛ قال: فأشر علي يا عمران، قال: إني قاعد فاقعد، فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين علي، قال عمران: بل يحكم الله ما يريد، فانصرف إلى بيته، وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: يا عثمان، إنّ هذا الأمر الذي تروم يسلم إلى شرٍّ مما تكره، إنّ هذا فتق لا يرتق، وصدع لا يجبر، فسامحهم حتى يأتي أمر علي ولا تحادّهم، فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بالتّهيّؤ، ولبسوا السلاح، واجتمعوا إلى المسجد الجامع، وأقبل عثمان على الكيد فكاد الناس لينظر ما عندهم، وأمرهم بالتهيّؤ، وأمر رجلًا ودسّه إلى الناس خدعًا كوفيًّا قيسيًّا، فقام فقال: يأيّها الناس، أنا قيس بن العقدّية الحميسي، إنّ هؤلاء القوم الذين جاءوكم إن كانوا جاءوكم خائفين فقد جاءوا من المكان الذي يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان رضي الله عنه فما نحن بقتلة عثمان. أطيعوني في هؤلاء القوم فردّوهم من حيث جاءوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي، فقال: أو زعموا أنّا قتلة عثمان رضي الله عنه! فإنما فزعوا إلينا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا، فإن كان القوم أخرجوا من ديارهم كما زعمت، فمن يمنعهم من إخراجهم الرجال أو البلدان! فحصبه الناس، فعرف عثمان أنّ لهم بالبصرة ناصرًا ممن يقوم معهم، فكسره ذلك. وأقبلت عائشة رضي الله عنها فيمن معها، حتى إذا انتهوا إلى المربد ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يخرج إليها ويكون معها، فاجتمعوا بالمربد وجعلوا يثوبون حتى غصّ بالناس. فتكلّم طلحة وهو في ميمنة المربد ومعه الزبير وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر عثمان رضي الله عنه وفضله والبلد وما استحلّ منه، وعظّم ما أتي إليه، ودعا إلى الطلب بدمه، وقال: إنّ في ذلك إعزاز دين الله عز وجل وسلطانه، وأما الطلب بدم الخليفة المظلوم فإنه حدّ من حدود الله، وإنّكم إن فعلتم أصبتم وعاد أمركم إليكم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان، ولم يكن لكم نظام. فتكلم الزبير بمثل ذلك. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرًا، وقالا الحق، وأمرا بالحقّ. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا، وقالا الباطل، وأمرا به، قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان! وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا. فتكلّمت عائشة - وكانت جهوريّة يعلو صوتها كثرة كأنّه صوت امرأة جليلة - فحمدت الله جلّ وعزّ وأثنت عليه، وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان رضي الله عنه ويزرون على عمّاله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنًا من كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده بريًّا تقيًّا وفيًّا ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون. فلما قووا على المكاثرة كاثروه فاقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام، والمال الحرام، بلا ترة ولا عذر، ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان رضي الله عنه وإقامة كتاب الله عز وجل: " ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ". فافترق أصحاب عثمان ابن حنيف فرقتين، فقالت فرقة: صدقت والله وبرت؛ وجاءت والله بالمعروف؛ وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما تقولون، فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا، فلما رأت ذلك عائشة انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا في المربد في موضع الدبّاغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال بعضهم إلى عائشة، وبقي بعضهم مع عثمان على فم السكة. وأتى عثمان ابن حنيف فيمن معه، حتى إذا كانوا على فم السكة، سكة المسجد عن يمين الدباغين استقبلوا الناس فأخذوا عليهم بفمها. وفيما ذكر نصر بن مزاحم، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن القاسم ابن محمد، قال: وأقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال: يا أمّ المؤمنين؛ والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت حرمتك، إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك، وإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مستكرهةً فاستعيني بالناس. قال: فخرج غلام شاب من بنس سعد إلى طلحة والزّبير، فقال: أمّا أنت يا زبير فحواري رسول الله ﷺ، وأمّا أنت يا طلحة فوقيت رسول الله ﷺ بيدك، وأرى أمّكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا، قال: فما أنا منكما في شيء، واعتزل. وقال السعدي في ذلك: صنتم حلائلكم وقدتم أمّكم ** هذا لعمرك قّلة الإنصاف أمرت بجر ذيولها في بيتها ** فهوت تشقّ البيد بالإيجاف غرضًا يقاتل دونها أبناؤها ** بالنّبل والخطّي والأسياف هتكت بطلحة والزُّبير ستورها ** هذا مالمخبر عنهم والكافي وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة - وكان محمد رجلًا عابدًا - فقال أخبرني عن قتلة عثمان! فقال: نعم، دم عثمان ثلاثة أثلاث، ثلث على صاحبة الهودج - يعني عائشة - وثلث على صاحب الجمل الأحمر - يعني طلحة، وثلث على علي بن أبي طالب؛ وضحك الغلام وقال: ألا أراني على ضلال! من ولحق بعلي، وقال في ذلك مشعرًا: سألت ابن طلحة عن هالك ** بجوف المدينة لم يقبر فقال ثلاثة رهط هم ** أماتوا ابن عفّان واستعبر فثلث على تلك في خدرها ** وثلث على راكب الأحمر وثلث على ابن أبي طالب ** ونحن بدوّيّة قرقر فقلت صدقت على الأوّلين ** وأخطأت في الثالث الأزهر رجع الحديث إلى حديث سيف عن محمد وطلحة. قال: فخرج أبو الأسود وعميان وأقبل حكيم بن جبلة؛ وقد خرج وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رضي الله عنها رماحهم وأمسكوا ليمسكوا فلم ينته ولم يثن، فقاتلهم وأصحاب عائشة كافّون إلّا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، ويقول: إنها قريش ليردينّها جبنها والطيّش، واقتتلوا على فم السكة، وأشرف أهل الدور ممن كان له في واحد من الفريقين هوى، فرموا باقي الآخرين بالحجارة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها مليًّا، وثار إليهم الناس، فحجز الليل بينهم. فرجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم، وجاء أبو الجرباء؛ أحد بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم إلى عائشة وطلحة والزّبير، فأشار عليهم بأمثل من مكانهم فاستنصحوه وتابعوا رأيه، فساروا من مقبرة بني مازن فأخذوا على مسنّاة البصرة من قبل الجبَّانة حتى انتهوا إلى الزابوقة، ثم أتوا مقبرة بني حصن وهي متنحيّة إلى دار الرزق، فباتوا يتأهّبون، وبات الناس يسيرون إليهم، وأصبحوا وهم على رجل في ساحة دار الرق، وأصبح عثمان بن حنيف فغاداهم، وغدا حكيم بن جبلة وهو يبربر وفي يده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسبّ وتقول له ما أسمع؟ قال: عائشة، قال: يا بن الخبيثة، ألأمّ المؤمنين تقول هذا! فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله. ثمّ مرّ بامرأة وهو يسبّها - يعني عائشة - فقالت: من هذا الذي ألجأك إلى هذا؟ قال: عائشة، قالت: يابن الخبيثة، ألأمّ المؤمنين تقول هذا! فطعنها بين ثدييها فقتلها. ثمّ سار، فلما اجتمعوا واقفوهم، فاقتتلوا بدار الرزق قتالًا شديدًا من حين بزغت الشمس إلى أن زال النهار وقد كثر القتلى في أصحاب ابن حنيف وفشت الجراحة في الفريقين، ومنادى عائشة يناشدهم ويدعوههم إلى الكفّ فيأبون، حتى إذا مسّهم الشرّ وعضَهم نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح والمتات. فأجابوهم وتواعدوا، وكتبوا بينهم كتابًا على أن يبعثوا رسولًا إلى المدينة؛ وحتى يرجع الرسول من المدينة، فإن كانا أكرها خرج عثمان عنهما وأخلى لهما البصرة، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزّبير: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اصطلح عليه طلحة والزّبير ومن معهما من المؤمنين والمسلمين، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين. إنّ عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما في يده، وإنّ طلحة والزّبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما في أيديهما، حتى يرجع أمين الفريقين ورسولهم كعب بن مسور من المدينة. ولا يضارّ واحدٌ من الفريقين الآخر في مسجد ولا سوق ولا طيريق ولا فرضة، بينهم عيبة مفتوحة حتى يرجع كعب بالخبر؛ فإن رجع بأنّ القوم أكرهوا طلحة والزّبير فالأمر أمرهما، وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيّته، وإن شاء دخل معهما؛ وإن رجع بأنّهما لم يكرها فالأمر أمر عثمان، فإن شاء طلحة والزّبير أقاما على طاعة علي وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيّتهما؛ والمؤمنون أعوان الفالح منهما. فخرج كعب حتى يقدم المدينة، فاجتمع الناس لقدومه، وكان قدومه يوم جمعة، فقام كعب فقال: يا أهل المدينة، إني رسول أهل البصرة إليكم؛ أأكره هؤلاء القوم هذيه الرجلين على بيعة علي، أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد من القوم إلّا ما كان من أسامة بن زيد، فإنه قام فقال: اللهم إنهما لم يبايعا إلّا وهما كارهان. فأمر به تمّام، فواثبه سهل بن حنيف والناس، وثار صهيب بن سنان وأبو أيّوب بن زيد، في عدّة من أصحاب رسول الله ﷺ، فيهم محمد بن مسلمة، حين خافوا أن يقتل أسامة، فقال: اللهم نعم؛ فانفرجوا عن الرجل؛ فانفرجوا عنه، وأخذ صهيب بيده حتى أخرجه فأدخله منزله، وقال: قد علمت أن أمّ عامر حامقة، أما وسعك ما وسعنا من السكوت! قال: لا والله، ما كنت أرى أن الأمر يترامى إلى ما رأيت وقد أبسلنا لعظيم. فرجع كعب وقد اعتدّ طلحة والزّبير فيما بين ذلك بأشياء كلها كانت مما يعتدّ به، منها أنّ محمد بن طلحة - وكان صاحب صلاة - قام مقامًا قريبًا من عثمان بن حنيف، فخشى بعض الزطّ والسيابجة أن يكون جاء لغير ما جاء له، فنحيّاه، فبعثا إلى عثمان، هذه واحدة. وبلغ عليّا الخبر الذي كان بالمدينة من ذلك، فبادر بالكتاب إلى عثمان يعجّزه ويقول: والله ما أكرها إلا كرهًا على فرقة، ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا. فقدم الكتاب على عثمان بن حنيف، وقدم كعب فأرسلوا إلى عثمان أن اخرج عنا، فاحتجّ عثمان بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه؛ فجمع طلحة والزّبير الرجال في ليلة مظلمة باردة ذات رياح ونجى. ثمّ قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء - وكانوا يؤخّرونها - فأبطأ عثمان بن حنيف فقدّ ما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزطّ والسيابجة السلاح ثم وضعوه فيهم. فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد وصبروا لهم، فأناموهم وهم أربعون، وأدخلوا الرجال على عثمان ليخرجوه إليهما، فلما وصل إليهما توطّؤوه وما بقيت في وجههه شعرة، فاسعظما ذلك، وأرسلا إلى عائشة بالذي كان، واستطلعا رأيها. فأرسلت إليهما أن خلّوا سبيله فليذهب حيث شاء ولا تحبسوه، فأخرجوا الحرس الذين كانوا مع عثمان في القصر ودخلوه، وقد كانوا يعتقبون حرس عثمان في كلّ يوم وفي كلّ ليلة أربعون، فصلّى عبد الرحمن بن عتاب بالناس العشاء والفجر، وكان الرسول مفيما بين عائشة وطلحة والزّبير هو، أتاها بالخبر، وهو رجع إليهما بالجواب، فكان رسول القوم. حدثنا عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، عن سهل بن سعد، قال: لماأخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: اقتلوه، فقالت لها امرأة: نشدتك بالله يا أمّ المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله ﷺ! قالت: ردّوا أبانًا، فردّوه، فقالت: احبسوه ولا تقتلوه، فقال: لو علمت أنّك تدعينني لهذا لم أرجع، فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا شعر لحيته، فضربوه أرعين سوطًا، ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثناأبي، قال: حدثني وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهرّي، قال بلغني أنه لما بلغ طلحة والزّبير منزل علي بذي قار انصرفوا إلى البصرة، فأخذوا على المنكدر، فسمعت عائشة رضي الله عنه نباح الكلاب، فقالت: أي ماء هذا؟ فقالوا: الحوءب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعوه! إني لهيه، قد سمعت رسول صه ﷺ يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوءب!. فأرادت الرجوع، فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال: كذب من قال إنّ هذا الحوءب. ولم يزل حتى مضت، فقدموا البصرة وعليها عثمان بن حنيف، فقال لهم عثمان: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منّا، وقد صنع ما صنع، قال: فإنّ الرجل أمرني فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم له، على أن أصلّي بالناس حتى يأتينا كتابه، فوقفوا عليه وكتب، فلم يلبث إلّا يومين حتى وثبوا عليه فقاتلوه بالزّابوقة عند مدينة الرزق، فظهروا، وأخذوا عثمان فأرادوا قتله، ثم خشوا غضب الأنصار، فنالوه في شعره وجسده. فقام طلحة والزّبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة، توبة بحوبة، إنما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان ولم نرد قتله، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه. فقال الناس لطقحة: يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا، فقال الزبير: فهل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثمّ ذكر قتل عثمان رضي الله عنه وما أتي إليه، وأظهر عيب علي. فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: أيّها الرجل، أنصب حتى نتكلّم، فقال عبد الله بن الزبير: ومالك وللكلام! فقال العبدي: يا معشر المهاجرين، أنتم أوّل من أجاب رسول الله ﷺ، فكان لكم بذلك فضل، ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله ﷺ بايعتم رجلًا منكم، والله ما استأمرتمونا في شيء من ذلك فرضينا واتّبعناكم، فجعل الله عز وجل للمسلمين في إمارته بركة، ثمّ مات رضي الله عنه واستخلف عليكم رجلًا منكم، فلم تشاورونا في ذلك، فرضينا وسلّمنا، فلمّا توفي الأمير جعل الأمر إلى ستّة نفر، فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غيرمشورة منا، ثمّ أنكرتم من ذلك الرجل شيئًا، فقتلتموه عن غير مشورة منا، ثمّ باعيتم عليًّا عن غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استاثر بفيء، أو علم بغير الحقّ؟ أو عمل شيئًا تنكرونه فنكون معكم عليه! وإلّا فما هذا! فهمّوا بقتل ذلك الرجل، فقال من دونه عشيرته؛ فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من كان معه، فقتلوا سبعين رجلًا. رجع الحديث إلى حديث سيف، عن محمد وطلحة. قالا: فأصبح طلحة والزّبير وبيت مالمال والحرس في أيديهما، والناس مععنما، ومن لم يكن معهما مغمور مستسرّ، وبعثا حين أصبحا بأن حكيمًا في الجمع، فبعثت: لا تحبسا عثمان ودعاه. ففعلا، فخرج عثمان فمضى لطلبته، وأصبح حكيم بن جبلة في خيله على رجل فيمن تبعه من عبد القيس ومن نزع إليهم من أفناء ربيعة، ثمّ وجّهوا نحو دار الرزق وهو يقول: لست بأخيه إن لم أنصره، وجعل يشتم عائشة رضي الله عنه، فسمعته امرأة من قومه فقالت: يابن الخبيثة. أنت أولى بذلك! فطعنها فتقلها، فغضبت عبد القيس إلّا من كان اغتمر منهم، فقالوا: فعلت بالأمس وعدت لمثل ذلك اليوم! والله لندعنّك حتى يقيدك الله. فرجعوا وتركوه، ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه عثمان بن عفان وحصره من نزّاع القبائل كلها، وعرفوا أن لا مقام لهم بالبصرة، فاجتمعوا إليه، فانتهى بهم إلى الزابوقة عند دار الرزق، وقالت عائشة: لا تقتلوا إلّا من قاتلكم، ونادوا من لم يكن من قتلة عثمان رضي الله عنه فليكفف عنا، فإنا لا نريد إلا قتله معثمان ولا نبدأ أحدًا، فأنشب حكيم القتال ولم يرع للمنادى، فقال طلحة والزّبير: الحمد الله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهمّ لا تبق منهم أحدًا، وأقد منهم اليوم فاقتلهم. فجادّ وهم القتال فاقتتلوا أشدّ قتال ومعه أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريج بحيال الزبير، وابن المحرّش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فزحف طلحة لحكم وهو في ثلثمائة رجل، وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول: أضربهم باليابس ** ضرب غلام عابس من الحياة آيس ** في الغرفات نافس فضرب رجل رجله فقطعها، فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه، فأصاب جسده فصرعه، فأتاه حتى قتله، ثم أتّكأ عليه وقال: يا فخذ لن تراعى ** إنّ معي ذراعي أحمى بها كراعي وقال وهو يرتجز: ليس علي أن أوت عار ** والعار في الناس هو الفرار والمجد لا يفضحه الدمار فأتى عليه رجل وهو رثيث، رأسه على الآخر، فقال: مالك يا حكيم؟ قال: قتلت، قال من قتلك؟ قال: وسادتي؛ فاحتمله فضمّه في سعين من أصحابه، فتكلم يومئذ حكيم وإنه لقائم على رجل، وإن السيوف لتأخذهم فما يتعتع، مويقول: إنا خلّفنا هذين وقد بايعا عليًّا وأعطياه الطاعة، ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان بن عفان، فففرّقا بيننا، ونحن أهل دار وجوار. اللهمّ إنهما لم يريدا عثمان. فنادى مناد: يا خبيث، جزعت حين عضّك نكال الله عز وجل إلى كلام من نصّبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم، وفرّقتم من الجماعة، وأصبتم من الدماء، ونلتم من الدنيا! فدق وبال الله عز وجل وانتقامه، وأقيموا فيمن أنتم. وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه فلجئوا إلى قومهم، ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة: ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم. فجيء بهم كما يجاء بالكلاب، فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعًا إلّا حرقوص بن زهير؛ فإنّ بني سعد منعوه، وكان من بني سعد، فمسّهم في ذلك أمر شديد، وضربوا لهم فيه أجلًا وخشنّوا صدور بني سعد وإنّهم لعثمانية حتى قالوا: نعتزل؛ وغضبت عبد القسيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم طاعة علي، فأمرا للنّاس بأعطياتهم وأرزاقهم وحقوقهم، وفضّلا بالفضل أهل السمع والطاعة. فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حين زووا عنهم الفضلو، فبادروا إلى بيت المال، وأكبّ عليهم الناس فأصابوا منهم، وخرج القوم حتى نزلوا على طريق علي، وأقام طلحة والزّبير ليس معهما بالبصرة ثأر إلّا حرقوص، وكتبوا إلى أهل الشأم بما صنعوا وصاروا إليه: إنا خرجنا لوضع مالحرب، وإقامة كتاب الله عز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع والكثير والقليل، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يردّنا عن ذلك، فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم؛ وخالفنا شرارهم ونزّاعهم، فردّونا بالسلاح وقالوا فيما قالوا: نأخذ أمّ المؤمنين رهينة؛ أن أمرتهم بالحقّ وحثّتهم عليه. فأعطاهم الله عز وجل سنّة المسلمين مرّة بعد مرّة، حتى إذا لم يبق حجّة ولا عذر استبسل قتلة أمير المؤمنين فخرجوا إلى مضاجعهم فلم يفلت منهم مخبر إلّا حرقوص بن زهير، والله سبحانه مقيده إن شاء الله. وكانوا كما وصف الله عز وجل؛ وإنا نناشدكم الله في أنفسكم إلّا نهضتم بمثل ما نهضنا به؛ فنلقى الله عز وجل وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا. وبعثوا به مع سيّار العجلي، وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثله مع رجل من بني عمرو بن أسد يدعى مظفّر بنم معرَض. وكتبوا إلى أهل المدينة معابن قدامة القشيري، فدسّه إلى أهل المدينة. وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى أهل الكوفة مع رسولهم: أمّا بعد فإني أذكركم الله عز وجل والإسلام، أقيموا كتاب الله بإقامة ما فيه، اتقوا الله واعتصموا بحبله، وكونوا مع كتابه، فإنا قدمنا البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده، فأجابنا الصالحون إلى ذلك؛ واسقبلنا من لا خير فيه بالسلاح، وقالوا: لنتبعنّكم عثمان، ليزيدوا الحدود تعطيلًا، فعاندوا فشهدوا علينا بالكفر وقالوا لنا لامنكر، فقرأنا عليهم: " ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ". فأذعن لي بعضهم، واختلفوا بينهم، فتركناهم وذلك، فلم يمنع ذلك من كان ممنهم على رأيه الأوّل من وضع مالسلاح في أصحابي، وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلّا قاتلوني حتى منعني الله عز وجل بالصّالحين، فردّ كيدهم في نحورهم، فمكثنا ستّا وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده - وهو حقن الدماء أن تهراق دون من قد حلّ دمه - فأبوا واحتجوا بأشياء، فاصطلحنا عليها، فخافوا وغدروا وخانوا، فجمع عز وجل لعثمان رضي الله عنه ثأرهم، فأقادهم فلم يفلت منهم إلّا رجل، وأرد أنا ه، ومنعنا منهم بعمير ابن مرثد ومرثد بن قيس، ونفر من قيس، ونفر من الرباب والأزد. فالزموا الرضا إلّا عن قتلة عثمان بن عفان حتى يأخذ الله حقّه، ولا تخاصموا الخائنين ولا تمنعوهم، ولا ترضوا بذوي حدود الله فتكونوا من الظالمين. فكتبت إلى رجال بأسمائهم. فثبّطوا الناس عن منع هؤلاء القوم ونصرتهم واجلسوا في بيتوتكم؛ فإنّ هؤلاء القوم لم يرضوا بما صنعوا بعثمان بن عفان رضي الله عنه، وفرّقوا بين جماعة الأمة، وخالفوا الكتاب والسنّة، حتى شهدوا علينا فيما أمرناهم به، وحثثناهم عليه من إقامة كتاب الله وإقامة حدوده بالكفر، وقالوا لنا المنكر، فأنكر ذلك الصالحون وعظّموا ما قالوا، وقالوا لنا المنكر، فأنكر ذلك الصالحون وعظّموا ما قالوا، وقالوا: ما رضيتم أن قتلتم الإمام حتى خرجتم على زوجة نبيكم ﷺ وأئمة المسلمين! فعزموا وعثمان بن حني مععم على من أطاعهم من جهّال الناس وغوغائهم على زطّهم وسيابجهم، فلذنا منهم بطائفة من الفسطاط؛ فكان ذلك الدأب ستة وعشرين يومًا ندعوهم إلى الحقّ وألّا يحولوا بيننا وبين الحقّ فغدروا وخانوا فلم نقايسهم، واحتجّوا ببيعة طلحة والزّبير؛ فأبردوا بريدًا فجاءهم بالحجّة فلم يعرفوا الحقّ، ولم يصبروا عليه؛ فغادوني في الغلس ليقتلوني؛ والذي يحاربهم غيري، فلم يبرحوا حتى بلغوا سدّة بيتي ومعهم هاد يهديهم إلي، فوجدوا نفرًا على باب بيتي؛ منهمعمير بن مرثد، ومرثد بن قيس، ويزيد بن عبد الله بن مرثد؛ ونفر من قيس، ونفر من الرباب والأزد، فدارت عليهم الرحا، فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم، وجمع الله عز وجل كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة؛ فإذا قتلنا بثأرنا وسعنا العذر. وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلايين. وكتب عبيد بن كعب في جمادى. حدثنا معمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عامر بن حفص، عن أشياخه، قال: ضرب عن حكيم بن جبلة رجل من الحدّان يقال له صخيم، فمال رأسه، فتعلّق بجلده، فصار وجههه في قفاه. قال ابن المثني الحدّاني: الذي قتل حكيمًا يزيد بن الأسحم الحداني، وجد حكيم قتيلًا بين يزيد بن الأسحم وكعب بن الأسحم، وهما مقتولان. حدثني عمر، قال: حدثني أبو الحسن، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن أبي المليح، قال: لما قتل حكيم بن جبلة أرادوا أن يقتلوا عثمان بن حنيف، فقال: ما شئتم، أما إن سهل بن حنيف وال على المدينة، وإن قتلتموني انتصر. فخلّوا سبيله. واختلفوا في الصلاة، فأمّرت عائشة رضي الله عنها عبد الله ابن الزبير فصلّى بالناس، وأراد الزبير أن يعطي الناس أرزاقهم ويقسم ما في بيت المال، فقال عبد الله ابنه: إن ارتزق الناس تفرّقوا. واصطلحوا على عبد الرحمن بن أبي بكر، فصيّروه على بيت المال. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن علي، عن أبي بكر الهذلي، عن الجارود بن أبي سبرة، قال: لمّا كانت الليلة التي أخذ فيها عثمان بن حنيف، وفي رحبة مدينة الرزق طعام يرتزقه الناس، فأراد عبد الله أن يرزقه أصحابه وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان، فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره، فجاء في جماعة من عبد القيس وبكر بن وائل وأكثرهم عبد القيس، فأتي ابن الزبير مدينة الرزق، فقال: مالك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تخلّوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، والله لو أجد أعوانًا عليكم أخبطكم بهم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم، ولقد أصبحتم وإنّ دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم من إخواننا، أما تخافون الله عز وجل! بم تستحلون سفك الدماء! قال: بدم عثمان ابن عفان، قال: فالّذين قتلتموهم قتلوا عثمان! أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله بن الزبير: لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلي سبيل عثمان ابن حنيف حتى يخلع عليًّا، قال حكيم: اللهمّ إنك حكم عدل فاشهد. وقال لأصحابه: إنّي لست في شكّ من قتال هؤلاء، فمن كان في شكّ فلينصرف. وقاتلهم فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وضرب رجل ساق حكيم فأخذ حكيم ساقه فرماه بها، فأصاب عنقه فصرعه ووقذه ثم حبا إليه فقتله واتّكأ عليه، فمرّ به رجل فقال: من قتلك؟ قال: وسادتي، وقتل سبعون رجلًا من عبد القيس. قال الهذلي: قال حكيم حين قطعت رجله: أقول لما جدّ بي زماعي ** للرّجل يا رجلي لن تراعي إنّ معي من نجدة ذراعي قال عامر ومسلمة: قتل مع حكيم ابنة الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا المثنّى بن عبد الله، عن عوف الأعرابي، مقال: جاء رجل إلى طلحة والزّبير وهما في المسجد بالبصرة، فقال: نشدتكما مبالله في مسيركما! أعهد إليكما فيه رسول الله ﷺ شيئًا! فقام طلحة ولم يجبه، فناشد الزبير فقال: لا، ولكن بلغنا أنّ عندكم دراهم فجئنا نشارككم فيها. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا سليمان بن أرقم، عن قتادة، عن أبي عمرة ملوى الزبير، قال: لما بايع أهل البصرة الزبير وطلحة، قال الزبير: إلا ألف فارس أسير بهم إلى علي، فإما بيّتّه وإما صبّحته، لعلّي أقتله قبل أن يصل إليها! فلم يجبه أحد، فقال: إنّ هذه لهي الفتنة التي كنا نحدث عنها؛ فقال له مولاه: أتسميّها فتنة وتقاتل فيها! قال: ويحك! إنا نبصّر ولا نبصر، ما كان أمر قطّ إلّا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر! حدثني أحمد بن منصور، قال: حدثني يحيى بن معين، قال: حدثنا هشام بن يوسف، قاضي صنعاء، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت ابن عبد الله بن الزبير، عن موسى بن عقبة، عن علقمة بن وقّاص الليثي، قال: لما خرج طلحة والزّبير وعائشة رضي الله عنه رأيت طلحة وأحبّ المجالس إليه أخلاها، وأنت ضارب بلحيتك على زورك؛ إن كرهت شيئًا فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بن وقّاص، بينا نحن يد واحدة على من سوانا، إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضًا، إنه كان منّي مفي عثمان شيء ليس توبتي إلّا أن يسفك دمي في طلب دمه. قال: قلت: فردّ محمد ابن طلحة فإنّ لك ضيعة وعيالًا؛ فإن يك شيء يخلفك؛ فقال: ما أحبّ أن مأرى أحدًا يخفّ في هذا الأمر فأمنعه. قال: فأتيت محمد بن طلحة فقلت له: لو أقمت، فإن حدث به حدث كنت تخلفه في عياله وضيعته، قال: ما أحبّ أن أسأل الرجال عن أمره. حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن مجالد بن سعيد، قال: لما قدمت عائشة رضي الله عنه البصرة كتبت إلى زيد بن صوحان: من عائشة ابنة أبي بكر أمّ المؤمنين حبيبة رسول الله ﷺ إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان أمّا بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم؛ فانصرنا على أمرنا هذا، فإن لم تفعل فخذّل الناس عن علي. فكتب إليها: من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر الصدّيق حبيبة رسول الله ﷺ، أمّا بعد: فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر ورجعت إلى بيتك، وإلّا فأنا أوّل من نابذك. قال زيد ابن صوحان: رحم الله أمّ المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به، وصنعت ما أمرنا ونهتنا عنه! ذكر الخبر عن مسير علي بن أبي طالب نحو البصرة مما كتب به إلي السري، أن شعيبًا حدثه، قال: حدثنا سيف، عن عبيدة بن معتّب، عن يزيد الضخم، قال: لما أتي عليًّا الخبر وهو بالمدينة بأمر عائشة وطلحة والزّبير أنهم قد توجّهوا نحن العراق، خرج يبادر وهو يرجو أن يدركهم ويردّهم، فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام بالرّبذة أيامًا، وأتاه عن القوم أنهم يريدون البصرة، فسرّي بذلك عنه، وقال: إنّ أهل الكوفة أشدّ إلي حبًّا، وفيهم رءوس العرب وأعلامهم. فكتب إليهم: إنّي قد اخترتكم على الأمصار وإنّي بالأثرة. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قال: كتب علي إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإني اخترتكم والنزول بين أظهركم لما أعرف من مودّتكم وحبكم لله عز وجل ولرسوله ﷺ، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحقّ وقضى الذي عليه. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن. قال: حدثنا حبّان بن موسى، عن طلحة بن الأعلم موبشر بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه قال: بعث محمد بن أبي بكر إلى الكوفة ومحمّد بن عون، فجاء الناس إلى أبي موسى يستشيرونه في الخروج، فقال أبو موسى: أمّا سبيل الآخر فأن تقيموا، وأمّا سبيل الدنيا فأن تخرجوا، وأنتم أعلم. وبلغ المحمّدين قول أبي موسى، فبايناه وأغلظا له، فقال: أما والله إنّ بيعة عثمان في عنقي وعنق صاحبكما الذي أرسلكما، إن أردنا أن نقاتل لا نقاتل حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان. وخر ج علي من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد العزّى ابن عبد شمس: لاهم مفاعقر بعلي جمله ** ولا تبارك في بعير حمله ألا علي بن عدي ليس له حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن نمير ابن وعلة، عن الشعبي؛ قال: لمّا نزل عليٌّ بالرّبذة أتته جماعة من طيّىء، فقيل لعلي: هذه جماعة من طيّء قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك؛ قال: جزى الله كلّا خيرًا وفضّل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا. ثمّ دخلوا عليه فقال علي: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكلّ ما تحبّ، قال: جزاكم الله خيرًا! فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ من الناس من يعبّر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما كلّ ما أجد في قلبي يعبّر عنه لساني وسأجهد وبالله التوفيق، أمّا أنا فسأنصح لك في السرّ والعلانية وأقاتل عدوّك في كلّ موطن وأرى لك من الحقّ ما لا أراه لأحد من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. قال: رحمك الله! قد أدّى لسانك عما يجنّ ضميرك. فقتل معه بصفّين رحمه الله. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما قدم علي الربذة أقام بها وسرّح منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر؛ وكتب إليهم: إني اخترتكم معلى الأمصار وفزعتت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعوانًا وأنصارًا، وأيّدونا وانهضوا إلينا فالإصلاح ما نريد، لتعود الأمة إخوانًا، ومن أحبّ ذلك وآثره فقد أحبّ الحقّ وآثره، ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحقّ وغمصه. فمضى الرجلان وبقى علي بالرّبذة يتهيّأ، وأرسل إلى المدينة فلحقه ما أراد ما دابّة وسلاح، وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم؛ وقال: إنّ الله عز وجل أعزّنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخوانًا بعد ذلّة وقلّة وتباغض وتباعد؛ فجرى الناس على ذلك ما شاء الله؛ الإسلام دينهم والحقّ فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة، ألا إنّ هذه الأمّة لا بدّ مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم، فنعوذ بالله من شرّ ما هو كائن. ثمّ عاد ثانية، فقال: إنه لا بدّ مما هو كائن أن يكون، ألا وأنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ شرّها فرقة تنتحلى ولا تعمل بعملي، فقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم واهدوا بهدى نبيّكم ﷺ، وأتّبعوا سنته، واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردّوه، وارضوا بالله جلّ وعزّ ربّا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ نبيًّا، وبالقرآن حكمًا وإمامًا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما أردا علي الخروج من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أمّا الذي نريد وننوي فالإصلاح؛ إن قبلوا منّا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحقّ ونصبر؛ قال: فإن لم يرضوا؟ قال ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتعنا منهم، قال: فنعم إذًا. وقام الحجّاج بن غزّية الأنصاري فقال: لأرضينّك بالفعل كما أرضيتني بالقول. وقال: دراكها دراكها قبل الفوت ** وانفر بنا واسم بنا نحو الصوت لا وألت نفسي إن هبت الموت والله لأنصرنّ الله عز وجلّ كما سمّانًا أنصارًا. فخرج أمير المؤمنين وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجرّاح، والرّاية مع محمّد بن الحنفيّة، وعلى الميمنة عبد الله بن عباس، وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وخرج علي وهو في سبعمائة وستين؛ وراجز علي يرجز به: سيروا أبابيل وحثّوا السيرا ** إذ عزم السير وقولوا خيرا حتّى يلاقوا وتلاقوا خيرا ** نغزو بها طلحة والزّبيرا وهو أمام أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين علي على ناقة له حمراء يقود فرسًا كميتًا. فتلقّاهم بفيد غلام من بني سعد بن ثعلبة بن عامر يدعى مرّة، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: أمير المؤمنين، فقال: سفرة فانية فيها دماء من نفوس فانية، فسمعها علي فدعاه، فقال: ما اسمك؟ قال: مرّة، قال: أمرّ الله عيشك، كاهن سائر اليوم؟ قال: بل عائف؛ فلما نزل بفيد أتته أسد وطيّيء فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، في المهاجرين كفاية. وقدم رجل من أهل الكوفة فيد قبل خروج علي فقال: من الرجل؟ قال: عامر بن مطر، قال: الليثي؟ قال الشيباني: قال: أخبرني عما وراءك، قال: فأخبره حتى سأله عن أبي موسى، مفقال: إن أردت الصلح مفأبو موسى صاحب ذلك، وإن أردت القتال فأبو موسى ليس بصاحب ذلك، قال: والله ما أريد إلا الإصلاح حتى يردّ علينا، قال: قد أخبرتك لخبر، وسكت وسكت علي. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي محمد، عن عبد الله بن عمير، معن محمد بن الحنفيّة. قال: قدم عثمان بن حنيف على علي بالرّبذة وقد نتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، فقال: يا أمير المؤمنين، يعثتني ذا لحية وجئتك أمرد، قال: أصبت أجرًا وخيرًا، إنّ الناس وليهم قبلي رجلان، فعملا بالكتاب، ثمّ وليهم ثالث، فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني، وبايعني طلحة والزّبير، ثمّ نكثًا بيعتي وألبّا الناس علي، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وخلافهما علي، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن قد مضى، اللهم فاحلل ما عقدا، ولا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملًا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولمّا نزل علي الثعلبيّة أتاه الّذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فقام وأخبر القوم الخبر، وقال: اللهمّ عافني مما ابتليت به طلحة والزّبير من قتل المسلمين، وسلّمنا منهم أجمعين. ولما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: الله أكبر، ما ينجيني من طلحة والزّبير إذ أصابا ثأرهما أو ينجيهما! وقرأ: " ما أصاب من مصيبة في الأرض مولا في أنفسكم إلّا في كتاب من قبل أن نبرأها ". وقال: دعا حكيم دعوة الزماع ** حلّ بها منزلة النزاع ولما اتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها عثمان بن حنيف، وليس في وجهه شعر، فلما رآه علي نظر إلى أصحابه فقال: انطلق هذا من عندنا وهو شيخ، فرجع إلينا وهو شابّ. فلم يزل قار يتلوّم محمدًا ومحمدًا، وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس ونزلوهم بالطريق، فقال: عبد القيس خير ربيعة، في كلّ ربيعة خير. وقال: يا لهف نفس على ربيعة ** ربيعة السامعة المطيعة قد سبقتني فيهم الوقيعة ** دعا علي دعوة سميعة حلّوا بها المنزلة الرفيعة قال: وعرضت عليه بكر بن وائل، فقال لهم مثل ما قال لطيّء وأسد. ولما قدم محمد ومحمد على الكوفة وأتيا أبا موسى بكتاب أمير المؤمنين، وقاما في الناس بأمره، لم يجابا إلى شيء، مفلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجي على أبي موسى، فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرأي بالأمس ليس باليوم، إنّ الّذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جرّ عليكم ما ترون؛ وما بقي إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا. فلم ينفر إليه أحد، فغضب الرجلان وأغلظا لأبي موسى، فقال أبو موسى: والله إنّ بيعة عثمان رضي الله عنه لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بدّ من قتال لا نقاتل أحدًا حتى يفرغمن قتلة عثان حيث كانوا فانطلقا إلى علي قوافياه بذي قار وأخبراه الخبر، وقد خرج مع الأشتر وقد كان يعجل إلى الكوفة، فقال علي: يا أشتر، أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كلّ شيء، اذهب أنت وعبد الله بن عبّاس فأصلح ما أفسدت. فخرج عبد الله بن عباس ومعه الأشتر، فقدما الكوفة وكلّما أبا موسى واستعانا عليه بأناس من الكوفة، فقال الكوفيين: أنا صاحبكم يوم الجرعة وأنا صاحبكم ماليوم؛ فجمع الناس فخطبهم وقال: يأيّها الناس، إنّ أصحاب النبي ﷺ الّذين صحبوه في المواطن أعلم بالله جلّ وعزّ وبرسوله ﷺ ممّن لم يصحبه، وإنّ لكم علينا حقًّا فأنا مؤدّيه إليكم. كان الرأي ألّا تستخفّوا بسلطان الله عز وجل ولا تجترثوا على الله عز وجل، وكان لارّأي الثاني أن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردّوهم إليها حتى يجتمعوا، وهم أعلم بمن تصلح له الإمامة منكم، ولا تكلّفوا الدخول في هذا، فأمّا إذ كان ما كان فإنها فتنة صمّاء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، فاغمدوا السيوف، وأنصلوا الأسنّة، واقطعوا الأوتار، وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر، وتنجلي هذه الفتنة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما رجع ابن عباس إلى علي بالخبر دعا الحسن بن علي فأرسله، فأرسل معه عمّار بن ياسر، فقال له: انطلق فأصلح ما أفسدت؛ فأقبلا حتى دخلا المسجد، فكان أوّل من أتاهما مسروق بن الأجدع، فسلّم عليهما، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان، علام قتلتم عثمان رضي الله عنه؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا؟ فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان خيرًا للصّابرين. فخرج أبو موسى، فلقى الحسن فضمّه إليه، وأقبل على عمّار فقال: يا أبا اليقظان، أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين، فأحللت نفسك مع الفجار؟ فقال: لم أفعل، ولم تسوؤني؟ وقطع عليهما الحسن، فأقبل علي أبي موسى، فقال: يا أبا موسى، لم تثبّط الناس عنا؟ فو الله ما أردنا إلّا الإصلاح، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء. فقال: صدقت بأبي أنت وأمي؟ ولكنّ المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله ﷺ يقول: إ، ها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب؛ قد جعلنا الله عز وجل إخوانًا، وحرّم عليها أموالنا مودماءنا، وقال: " يأيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "، " ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيما ". وقال جلّ وعزّ: " ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم ". فغذب عمار وساءه وقام وقال: يأيّها الناس، إنما قال له خاصّة، أنت فيها قاعدًا خير منك قائمًا. وقام رجل من بني تمين، فقال لعمّار: اسكت أيّها العبد، أنت أمس معمالغوغاء واليوم تسافه أميرنا؛ وثار زيد بن صوحان وطبقثه وثار الناس، وجعل أبو موسى يكفكف الناس، ثمّ انطلق حتى أتي المنبر، وسكن الناس، وأقبل زيد على حمار حتى وقف بباب المسجد ومعه الكتابان من عائشة رضي الله عنه إليه وإلى أهل الكوفة، وقد كان طلب كتاب العامّة فضمّه إلى كتابه، فأقبل بهما ومعه كتاب الخاصة وكتاب العامّة: أمّا بعد، فثبّطوا أيّها الناس اجلسوا في بيوتكم إلّا عن قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فلما فرغ من الكتاب قال: أمرت بأمر وأمرنا بأمر؛ أمرت أن تقرّ في بيتها، وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما مرت به وركبت ما أمرنا به. فقام إليه شبث بن ربعي فقال: يا عماني - وزيد من عبد القيس عمان وليس من أهل البحرين - سرقت بجلولاء فقطعك الله، وعصيت أم المؤمنين فقتلك الله! ما أمرت إلا بما أمر الله عز وجل به بالإصلاح بين الناس؛ فقلت: وربّ الكعبة؛ وتهاوى الناس. وقام أبو موسى فقال: يا أيّها الناس، أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلم ويأمن فيكم الخائف، إنّا أصحاب محمد ﷺ أعلم بما سمعنا، إن الفتنة إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت بيّنت، وإنّ هذه الفتنة باقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصّبا والدّبور، فتسكن أحيانًا فلا يدري من أين تؤتي، تذر الحليم كابن أمس، شيموا سيوفكم وقصّدوا رماحكم، وأرسلوا سهامكم، واقطعوا أوتاركم، والزموا بيوتكم. خلّوا قريشًا - إذ أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم بالإمرة - ترتق فتقها، وتشعب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها سعت، وإن أبت فعلى أنفسها منبت سمنها تهريق في أديمها؛ استنصحوني ولا تستغشّوني، وأطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياكم، ويشقى بحرّ هذه الفتنة من جناها. فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس؛ ردّ الفرات عن دراجده، اردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه. ثمّ قرأ: " الم أحسب الناس مأن يتركوا " إلى آخر الآيتين؛ سيروا إلى أمير المؤمنين وسيّد المسلمين، وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحقّ. فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح، وعليكم شفيق، أحبّ أن ترشدوا، ولأقولنّ لكم قولًا هو الحقّ، أمّا ما قال الأمير فهو الأمر لو أنّ إليه سبيلًا، وأمّا ما قال زيد فزيد في الأمر فلا تستنصحوه فإنّه لا ينتزع أحد من الفتنة طعن فيها وجرى إليها؛ والقول الذي هو القول إنه لا بدّ من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم ويعزّ المظلوم، وهذا علي يلي بما ولي، وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا من هذا الأمر بمرأيى ومسمع. وقال سيحان: أيّها الناس، إنه لا بدّ لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع الظالم ويعزّ المظلوم ويجمع الناس، وهذا وإليكم يدعوكم لينظر فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمّة، الفقيه في الدين، فمن نهض إليه فإنا سائرون ممعه. ولان عمّار بعد نزوته الأولى. فلما فرغ سيحان من خطبته، تكلم عمار فقال: هذا ابن عمّ رسول الله ﷺ يستنفركم إلى زوجة رسول الله ﷺ وإلى طلحة والزّبير، وإني أشهد أنّها زوجته في الدينا والآخرة، فانظروا ثمّ انظروا في الحق فقاتلوا معه؛ فقال رجل: يا أبا اليقظان، لهو مع من شهدت له بالجنّة على من لم تشهد له. فقال الحسسن: اكفف عنّا يا عمار، فإنّ للإصلاح أهلًا. وقام الحسن بن علي، فقال: يأيّها الناس؛ أجيبوا دعوة أميركم؛ وسيروا إلى أخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أول النهى أمثل في العاجلة وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم. فسامح الناس وأجابوا ورضوا به. وأتى قوم من طيّء عديًّا فقالوا: ماذا ترى وماذا تأمر؟ فقال: ننتظر ما يصنع الناس، فأخبر بقيام الحسن وكلام من تكلم، فقال: قد بايعنا هذا الرجل، وقد دعانا إلى جميل، وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون. وقام هند بن عمرو، فقال: إنّ أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه، فاسمعوا إلى قوله، وانتهوا إلى أمره، وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم. وقام حجر بن عدي، فقال: أيّها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافًا وثقا لامروا، أنا أولكم. وقام الأشتر فذكروا الجاهليّة وشدّتها، والإسلام ورخاءه، وذكر عثمان رضي الله عنه. فقام إليه المقطّع بن الهيثم بن فجيع العامري ثم البكائي، فقال: اسكت قبحك الله! كلب خلّى والنّباح، فثار الناس فأجلسوه. وقام المقطّع، فقال: إنا والله لا نحتمل بعدها أن يبوء أححد بذكر أحد من أئمّتنا، وأنّ عليّا عندنا لمقنع، والله لئن يكن هذا الضرب لا يرضى بعلي. فعضّ امرؤ على لسانه في مشاهدنا؛ فأقبلوا على أحثّاكم. فقال الحسن: صدق الشيخ، وقال الحسن: أيّها الناس، إنّي غاد فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر، ومن شاء فليخرج في الماء فنفر معه تسعة آلاف، فأخذ بعضهم البرّ، وأخذ بعضهم الماء وعلى كل سبع رجل؛ أخذ البرّ ستة آلاف ومائتان، وأخذ الماء ألفان وثمانمائة. وفيما ذكر نصر بن مزاحم العطار، عن عمر بن سعيد، عن أسد بن عبد الله، عمّن أدرك من أهل العلم: أن عبد خير الخيواني قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى، هل كان هذا الرجلان - يعني طلحة والزبير - ممن بايع عليّا؟ قال: نعم، قال: هل أحدث حدثًا يحلّ به نقض بيعته؟ قال: لا أدري، قال: لا دربت، فإنا تاركوك حتى تدري! يا أبا موسى هل تعلم أحدًا خارجًّا من هذه الفتنة التي تزعم أنها هي فتنة؟ إنما بقي أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشأم، وفرقة أخرى بالحجاز، لا يجبي بها فيء، ولا يقاتل بها عدوّ؛ فقال له أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة؛ فقال له عبد خير: يا أبا موسى، غلب عليك غشّك. قال: وقد كان الأشتر قام إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد بعثت إلى أهل الكوفة رجلًا قبل هذين فلم أره أحكم شيئًا ولا قدر عليه، وهذان أخلق من بعثت أن ينشب بهم الأمر على ما تحبّ، ولست أدري ما يكون، فإن رأيت - أكرمك الله - يا أمير المؤمنين أن تبعثي في أثرهم، فإنّ أهل المصر أحسن شيء لي طاعة، وإن قدمت عليهم رجوت ألّا يخالفني منهم أحجد. فقال له علي: الحق بهم؛ فأقبل الأشتر حتى جخل الكوفة وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمرّ بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلّا دعاهم ويقول: اتّبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ويثبّطهم، يقول: أيّها الناس، إنّ هذه فتنة عمياء صماء تطأ خطامها النائم فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من لاماشي، والماشي فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الراكب؛ إنها فتنة باقرة كداء البطن، أتتكم من قبل مأمنكم، تدع الحليم فيها حيران كابن أمس. إنا معاشر أصحاب محمد ﷺ أعلم بالفتنة، إنها إذا أقبلت شبّهت وإذا أدبرت أسفرت. وعمّار يخاطبه والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أمّ لك! وتنحّ عن منبرنا. وقال له عمار: أنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ؟ فقال أبو موسى: هذه يدي بما قلت، فقال له عمّار: إنما قال لك رسول الله ﷺ هذا خاصة، فقال: أنت فيها قاعدًا خير منك قائمًا، ثمّ قال عمّار: غلب الله من غلالبه وجاحده. قال نصر بن مزاحم: حدثنا عمر بن سعيد، قال: حدثني رجل، عن نعيم، عن أبي مريم الثقفي، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ وعمّار يخاطب أبا موسى ويقول له ذلك القول، إذ خرج علينا غلمان لأبي موسى يشتدّون ينادون: يا أبا موسى، هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا؛ فنزل أبو موسى، فدخل القصر، فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أمّ لكّ أخرج الله نفسك، فو الله إنك لمن المنافقين قديمًا، قال: أجّلني هذه العشيّة، فقال: هي لك، ولا تبينّ في القصر الليلة. ودخل الناس ينتهبون متاع مأبي موسى؛ فمنعهم الأشتر وأخرجهم من القصر، وقال: إني قد أخرجته، فكفّ الناس عنه. نزول أمير المؤمنين ذا قار كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي، قال: لما التقوا بذي قار تلقّاهم علي في أناس، فيهم ابن عباس فرحّب بهم، وقال: يا أهل الكوفة، أنتم ولّيتم شوكة العجم وملوكهم، وفضضتم جموعهم؛ حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم، وأعنتم الناس على عدوّهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة؛ فإن يرجعوا فذاك ما نيريد وإن يلجّوا داويناهم بالرفق، وباينّاهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، ولا قوّة إلا بالله. فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان، وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرون مرور علي بهم، وهم آلاف - وفي الماء ألفان وأربعمائة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة بإسنادها قالا: لما نزل علي ذا قار أرسل ابن عباس والأشتر بعد محمد بن أبي بكر ومحمد ابن جعفر، وأرسل الحسن بن علي وعمرًا بعد ابن عباس والأشتر، فخفّ في ذلك الأمر جميع من كان نفر فيه، ولم يقدم فيه الوجوه أتباعهم فكانوا خمسة آلاف أخذ نصفهم في البرّ ونصفهم في البحر، وخفّ من لم ينفر فيها ولم يعمل لها. وكان على طاعته ملازمًا للجماعة فكانوا أربعة آلاف، فكان رؤساء الجماعة: القعقاع بن عمرو وسعر بن مالك وهند بن عمرو والهيثم ابن شهاب؛ وكان رؤساء النفّار: زيد بن صوحان، والأشتر مالك بن الحارث، وعدي بن حاتم، والمسيّب بن نجبة، ويزيد بن قيس ومعهم أتباعهم وأمثال هلم لسوا دونهم إلّا أنهم لم يؤمّروا؛ منهم حجر بن عدي وابن محدوج البكري؛ وأشباه لهما لم يكن في أهل الكوفة أحد على ذلك الرأي غيرهم. فبادروا في الوقعة إلا قليلًا، فلما نزلوا على ذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذيه الرجلين يا بن الحنظليّة - وكان القعقاع من أصحاب النبي ﷺ - فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الفرقة، وقال له: كيف أنت صانع فيما جاءك منهما مما ليس عندك فيه وصاة منّي؟ فقال: نلقاهم بالّذي أمرت به، فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا الرأي وكلّمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة، فبدأ بعائشة رضي الله عنه فسلّم عليها، وقال: أي أمّه؛ ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني، إصلاح بين الناس، قال: فابعثي إلى طلحة والزّبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا، فقال: إني سألت أمّ المؤمنين: ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان، قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فو الله لئن عرفنا لنصلحنّ، ولئن أنكرناه لا نصلح. قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه، فإن هذا إن ترك كان تركًا للقرآن؛ وإن علم به كان إحياء للقرآن. فقال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة، وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة إلّا رجلًا، فغضب لهم ستة آلاف. واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم ذلك الّذي أفلت - يعني حرقوص بن زهير - فمنعه ستة آلاف وهم على رجل، فإن تركتموه كنتم تاركين لما تقولان؛ وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكن فالّذي حذرتم وقربتم به هذا الأمر أعظم ممّا أراكم تكروهون؛ وأنتم أحميتم مضر وربيعة من هذه البلاد، فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير. فقالت أمّ المؤمنين: فتقول أنت ماذا؟ قال: أقول هذا الأمر دواؤه التسكين، وإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل، وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلّا مكابرة هذا الأمر واعتسافه، كانت علامة شرّ، وذهاب هذا الثأر، وبعثة الله في هذه الأمة هزاهزها، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم تكونون، ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرّضوا له فيصرعنا وإياكم. وأيم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف إلّا يتمّ حتى يأخذ الله عز وجل حاجته من هذه الأمة مالت قلّ متاعها ونزل بها ما نزل، فإنّ هذا الأمر الّذي حدث أمر ليس يقدّر، وليس كالأمور، ولا كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة الرجل. فقالوا: نعم، إذًا قد أحسنت وأصبت المقالة؛ فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح؛ كثره ذلك من كرهه، ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود البصرة نحو علي حين نزل بذي قار، فجاءت وفود تميم وبكر قبل رجوع القعقاع لنظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة، وعلى أي حال نهضوا إليهم، وليعلموهم أنّ الذي عليه رأيهم الإصلاح، ولا يخطر لهم قتال على بال. فلمّا لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل البصرة وقال لهم الكوفيون مثل مقالتهم، وأدخلوهم على علي فأخبروه خبرهم؛ سأل علي بن شرس عن طلحة والزّبير، فأخبره عن دقيق أمرهما وجليله حتى تمثل له: ألا أبلغ بني بكر رسولا ** فليس إلي بني كعب سبيل سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول وتمثل علي عندها: ألم تعلم أبا سمعنا أنّا ** نردّ الشيخ مثلك ذا الصداع! ويذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم فيستجيب ليغير داع فدافع عن خزاعة جمع بكر ** وما بك يا سراقة من دفاع قال أبو جعفر: أخرج إلي زياد بن أيوب كتابًا فيه أحاديث عن شيوخ ذكر أنه سمعها منهم؛ قرأ علي بعضها ولم يقرأ علي بعضها، فممّا لم يقرأ علي من ذلك فكتبته منه؛ قال: حدثنا مصعب بن سلام التميمي، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، قال: رأيت فيما يرى النائم في زمان عثمان بن عفان أنّ رجلًا يلي أمور الناس مريًا على فراشه وعند رأسه امرأة؛ والناس يريدونه ويبهشون إليه، فلو نهتهم المرأة لانتهوا؛ ولكنها لم تفعل، فأخذوه فقتلوه. فكنت أقصّ رؤياي على الناس في الحضر ولاسفر، فيعجبون ولا يدرون ما تأوليها! فلما قتل عثمان رضي الله عنه أتانا الخبر ونحن راجعون من غزاتنا؛ فقال أصحابنا: رؤياك يا كليب. فانتهينا إلى البصرة فلم نلبث إلّا قليلًا حتى قيل: هذا طلحة والزّبير معهما أمّ المؤمنين؛ فراع ذلك الناس وتعجّبوا، فإذا هم يزعمون للناس أنهم إنما خرجوا غضبًا لعثمان وتوبة مما صنعوا من خذلانه، وإنّ أمّ المؤمنين تقول: غضبنا لكم على عثمان في ثلاث: إمارة الفتي، وموقع الغمامة، وضربة السوط والعصا، فما أنصفنا إن لم نغضب له عليكم في ثلاث جررتموها إليه: حرمة الشهر، والبلد، والدم. فقال الناس: أفلم تبايعوا عليًّا وتدخلوا في أمره! فقالوا: دخلنا واللّجّ على أعناقنا. وقيل هبذا علي قد أظلّكم، فقال قومنا لي ولرجلين معي: انطلقوا حتى تأتوا عليًّا وأصحابه فسلوهم عن هذا الأمر الّذي قد اختلط علينا؛ فخرجنا حتى إذا دنونا من العسكر طلع علينا رجل جميل على بغلة، فقلت لصاحبي: أرأيتم المرأة التي كنت أحدثكم عنها أنها كانت عند رأس الوالي؟ فإنها أشبه الناس بهذا، ففطن أنّا نخوص فيه، فلما انتهى إليها قال: قفوا، ما الّذي قلتم حين رأيتموني؟ فأبينا عليه، فصاح بنا وقال: والله لا تبرحون حتى تخبروني، فدخلتنا منه هيبة، فأخبرناه فجاوزنا وهو يقول: والله لقد رأيت عجبًا، فقلنا لأدنى أهل العسكر إلينا: من هذا؟ فقال: محمّد بن أبي بكر، فعرفنا أن تلك المرأة عائشة رضي الله عنه، فازددنا لأمرها كراهية، وانتهينا إلى علي فسلمنا عليه، ثم سألناه عن هذا الأمر، فقال: عدا الناس على هذا الرجل وأنا معتزل فقتلوه، ثمّ ولّوني وأنا كاره ولولا خشية على الدين لم أجبهم، ثمّ طفق هذان في النكث فأخذت عليهما وأخذت عهودهما عند ذلك، وأذنت لهما في العمرة، فقدما على أمّها حليلة رسول الله ﷺ فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه، وعرّضاها لما لا يحلّ لهما ولا يصلح؛ فاتّبعتهما لكيلا يفتقوا في الإسلام فتقًا، ولا يخرقوا جماعة. ثم قال أصحابه: والله ما نريد قتالهم إلّا أن يقاتلوا وما خرجنا إلّا لإصلاح0. فصاح بنا أصحاب علي: بايعوا بايعوا، فبايع صاحبي، وأمّا أنا فأمسكت وقلبت: بعثني قومي لأمر، فلا أحدث شيئًا حتى أرجع إليهم. فقال علي: فإن لم يفعلوا؟ فقلت: لم أفعل، فقال: أرأيت لو أنهم بعثوك رائدًا فرجعت إليهم، فأخبرتهم عن الكلإ والماء فحالوا إلى المعاطش والجدوبة ما كنت صانعًا؟ قال: قلت: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلإ والماء، قال: فمدّ يدك، فو الله ما استطعت أن أمتنع، فبسطت يدي فبايعته. وكان يقول: علي من أدهى العرب. وقال: ما سمعت من طلحة والزّبير؟ فقلت: أما الزبير فإنه يقول: بايعنا كرهًا، وأمّا طلحة فمقبل على أن يتمثّل الأشعار، ويقول: ألا أبلغ بني بكر رسولًا ** فليس إلى بني كعب سبيل سيرجع ظلمكم منكم عليكم ** طويل الساعدين له فضول فقال: ليس كذلك، ولكن: ألم تعلم أبا سمعان أنّا ** نصمّ الشيخ مثلك ذا الصداع ويذهل عقله بالحرب حتى ** يقوم فيستجيب لغير داع ثم سار حتى نزل إلى جانب البصرة؛ وقد خندق طليحة والزّبير، فقال لنا أصحابنا من أهل البصرة: مما سمعتم إخواننا من أهل الكوفة يريدون ويقولون؟ فقلنا: يقولون خرجنا للصّلح وما نريد قتالًا؛ فبينا هم على ذلك لا يحدثون أنفسهم بغيره، إذ خرج صبيان العسكرين فتسابّوا ثم تراموا، ثم تتابع عبيد العسكرين، ثم ثلَّث السفهاء، ونشبت الحرب، وألجأتهم إلى الخندق، فاقتتلوا عليه حتى أجلوا إلى موضع القتال؛ فدخل منه أصحاب علي وخرج الآخرون. ونادى علي: ألا لا نتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدور، ونهى الناس، ثم بعث إليهم أن اخرجوا للبيعة، فبايعهم على الرايات وقال: من عرف شيئًا فليأخذه، حتى ما بقي في العسكرين شيء إلّا قبض، فانتهى إليه قوم من قيس شباب، فخطب خطيبهم، فقال: أين أمراؤكم؟ فقال الخطيب: أصيبوا تحت نظّار الجمل؛ ثم أخذ في خطبته، فقال علي: أما إنّ هذا لهو الخطيب السحسح. وفرغ من البيعة؛ واستعمل عبد الله ابن عباس وهو يريد أن يقيم حتى يحكم أمرها. فأمرني الأشتر أن أشتري له أثمن بعير بالبصرة ففعلت، فقال: ائت به عائشة، وأقرئها مني السلام، ففعلت، فدعت عليه وقالت: اردده عليه؛ فأبلغته، فقال: تلومني عائشة أن أفلتّ ابن أختها؟ وأتاه الخبر باستعمال علي ابن عباس فغضب وقال: غلام قتلنا الشيخ! إذ اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي. ثم دعا بدابتّه فركب رجعًا. وبلغ ذلك عليًّا فنادى الرحيل، ثم أجدّ السير فلحق به فلم يره أنه قد بلغه عنه وقال: ما هذا السير؟ سفتنا! وخشي إ، ترك والخروج أن يوقع في أنفس الناس شرًّا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما جاءت وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أمّ المؤمنين وطلحة الزبير بمثل رأيهم، جمع علي الناس، ثمّ قام على الغرائر، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ. وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمّة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله ﷺ، ثمّ الذي يليه، ثمّ حدث هذا الحدث الّذي جرّه على هذه الأمّة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة، وأرادوا ردّ الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد. ألا وإنّ راحل غدًا فارتحلوا، ألا ولا يرتحلنّ غدًا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس، وليغن السفّهاء عني أنفسهم. فاجتمع نفر، منهم علباء بن الهيثم، وعدي بن حاتم، وسالم بن ثعلبة العبسي، وشريح بن أوفى بن ضبيعة، والأشتر؛ في عدّة ممن سار إلى عثمان، ورضيَ بسير من من سار، وجاء معهم المصرّيون: ابن السوداء وخالد بن ملجم وتشاوروا، فقالوا: ما الرأي؟ وهذا والله علي، وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممّن يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول، ولم ينفر إليه إلّا هم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شامّ القوم وشامّوه، وإذا رأوا قلّتنا في كثرتهم! أنتم والله ترادون، وما أنتم بأنجى من شيء. فقال الأشتر: أمّا طلحة والزّبير فقد عرفنا أرمهما، وأمّا علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم، ورأي الناس فينا والله واحد، وإن يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا؛ فهلمّوا فلنتواثب على علي فنلحقه بعثمان؛ فتعود فتنة يرضى منّا فيها بالسّكون. فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت! أنتم يا قتلة عثمان من أهل الكوفة بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظليّة وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلًا، فارقأ على ظلعك. وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلّوا كان أقوى لعدّوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم؛ دعوهم وارجعوا فتعلّقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتّقون به، وامتنعوا من الناس. فقال عدي بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردّد من تردّد عن قتله في خوض اعلحديث، فأمّا إذ وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة، فإنّ لنا عتادًا من خيول وسلاح محمودًا، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا. فقال ابن السوداء: أحسنت! وقال سالم بن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإنّي لم أرد ذلك، والله لئن لقيتهم غدًا لا أرجع إلى بيتي، ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا يزد على جزر جزور، وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير أمورهم إلّا إلى السيف. فقال ابن السوداء: قد قال قولًا. وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخّروا أمرًا ينبغي لكم تعجيله؛ ولا تعجّلوا أمرًا ينبغي لكم تأخيره؛ فإنّا عند الناس بشرّ المنازل، فلا أدري ما الناس صانعون غدًا إذا ما هم التقوا! وتكلّم ابن السوداء فقال: يا قوم، إنّ عزّكم في خلطة الناس، فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فأنشبوا القتال، ولا تفرّغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بدًّا من أن يمتنع؛ ويشغل الله عليًّا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عمّا تكرهون. فأبصروا الرأي، وتفرّقوا عليه والناس لا يشعرون. وأصبح علي على ظهر، فمضى ومضى الناس حتى إذا انتهى إلى عبد القيس نزل بهم وبمن خرج من أهل الكوفة وهم أمام ذلك، ثم ارتحل حتى نزل على أهل اعلكوفة وهم أمام ذلك، والناس متلاحقون به وقد قطعهم، ولما بلغ أهل البصرة رأيهم ونزل عليٌّ بحيث نزل، قام أبو الجرباء إلى الزبير بن العوّام فقال: إنّ الرأي أن تبعث الآن ألف فارس فيمسّوا هذا الرجل ويصبّحوه قبل أن يوافي أصحابه؛ فقال الزبير: يا أبا الجرباء، إنا لنعرف أمور الحرب؛ ولكنهم أهل دعوتنا؛ وهذا أمر حدث في أشياء لم تكن قبل اليوم، هذا أمر من لم يلق الله عز وجل فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة؛ ومع ذلك إنه قد فارقنا وافدهم على أمر، وأنا أرجو أن يتمّ لنا الصح؛ فأبشروا واصبروا، وأقبل صبرة بن شيمان فقال: يا طلحة، يا زبير، انتهزا بنا هذا الرجل فإنّ الرأي في الحرب خير من الشدّة. فقالا: يا صبرة إنا وهم مسلمون، وهذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن، أو يكون فيه من رسول الله ﷺ سنّة، إنما هو حدث. وقد زعم قوم أنه لا ينبغي تحريكه اليوم. وهمّ علي ومن معه، فقلنا: نحن لا ينبغي لنا أن نتركه اليوم ولا نؤخّره. فقال علي: هذا الّذي ندعوكم إليه من إقرار هؤلاء القوم شرّ وهو خير من شرّ منه، وهو كأمر لا يدرك، وقد كاد أن يبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بإيثار أعمّها منفعةً وأحوطها. وأقبل كعب بن سور فقال: ما تنتظرون يا قوم بعد تورّدكم أوائلهم! اقطعوا هذا العنق من هؤلاء. فقالوا: يا كعب، إنّ هذا أمر بيننا وبين إخواننا، وهو أمر ملتبس، لا والله ما أخذ أصحاب محمد ﷺ مذ بعث الله عز وجل نبيّه طريقًا إلّا علموا أين مواقع أقدامهم؛ حتى حدث هذا فإنهم لا يدرون أمقبلون هم أم مدبرون! إن الشيء يحسن عندنا اليوم ويقبح عند إخواننا؛ فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم؛ وإنا لنحتجّ عليهم بالحجّة فلا يرونها حجّة، ثم يحتجّون بها على أمثالها، ونحن نرجو الصلح إن أجابوا إليه وتمّوا، وإلّا فإن آخر الدواء الكي. وقام إلى علي بن أبي طالب أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على القوم، فقام إليه فيمن قام الأعور بن بنان المنقري؛ فقال له علي: على الإصلاح وإطفاء النائرة، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم؛ وقد أجابوني، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم. وقام إليه أبو سلامة الدألاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله عزّ وجل بذلك؟ قال: نعم، قال: فترى لك حجّة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعًا، قال: فما حالنا وحالكم إن ابتلينا غدًا؟ قال: إنّي لأرجو ألّا يقتل أحد نقّى قلبه لله منّا ومنهم إلا أدخله الله الجنّة. وقام إليه مالك بن حبيب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أنّ الإصلاح الكفّ عن هذا الأمر، فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلّا القتال فصدع لا يلتئم؛ قال: فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عز وجل نفعه ذلك وكان نجاءه. وقام علي، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يأيّها الناس، املكوا أنفسكم، كفّوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم، فإنهم إخوانكم واصبروا على ما يأتيكم، وإياكم أن تسبقونا فإنّ المخصوم غدًا من خصم اليوم. ثم ارتحل وأقدم ودفع تعبيته التي قدم فيها حتى إذا أطلّ على القوم بعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع ابن عمرو فكفّوا وأقرّونا ننزل وننظر في هذا الأمر. فخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمّرين؛ قد منعوا حرقوص ابن زهير، ولا يرون القتال مع علي بن أبي طالب. فقال: يا علي، إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غدًا أنك تقتل رجالهم وتسبي نساءهم. فقال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحلّ هذا إلّا ممّن تولّى وكفر، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: " لست عليهم بمصيطر، إلّا من تولّى وكفر "، وهم قوم مسلمون! هل أنت مغنٍ عني قومك؟ قال: نعم، واختر مني واحدة من ثنتين، إمّا أن أكون آتيك فأكون معك بنفسي، وإمّا أن أكفّ عنك عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود وقد بدأ فقال فقال: يال خندف، فأجابه ناس، ثمّ نادى يال تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يال سعد؛ فلم يبق سعدي إلّا أجابه، فاعتزل بهم، ثم نظر ما يصنع الناس، فلما وقع القتال وظفر علي جاءوا وافرين، فدخلوا فيما دخل فيه الناس. وأما الّذي يرويه المحدثون من أمر الأحنف، فغير ما رواه سيف عمن ذكر من شيوخه. والذي يرويه المحدثون من ذلك ما حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت حصينًا يذكر عن عمرو بن جأوان، عن الأحنف بن قيس، قال: قدمنا المدينة ونحن نريد الحجّ، فإنا لبمنازلنا نضع رحالنا إذ أتانا آت فقال: قد فزعوا وقد اجتمعوا في المسجد، فانطلقنا فإذا الناس مجتمعون على نفر في وسط المسجد، وإذا علي والزّبير وطلحة وسعد بن أبي وقّاص، وإنا لكذلك إذ جاء عثمان بن عفان؛ فقيل: هذا عثمان قد جاء وعليه مليئة له صفراء قد قنّع بها رأسه، فقال: أهاهنا علي؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا الزبير؟ قالوا: نعم، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال أنشدكم بالله الذي لا إله إلّا هو؛ أتعلمون أنّ رسول الله ﷺ قال: من يبتع مربد بني فلان غفر الله له؛ فابتعته بعشرين أو بخمسة وعشرين ألفًا، فأتيت النبي ﷺ فقلت: يا رسول الله، قد ابتعته، قال: " اجعله في مسجدنا وأجره لك "! قالوا: اللهمّ نعم، وذكر أسشياء من هذا النوع. قال الأحنف: فلقيت طلحة والزّبير فقلت: من تأمراني به وترضيانه لي؟ فإني لا أرى هذا الرجل إلّا مقتولًا، قالا: علي؟ قلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ قالا: نعم، فانطلقت حتى قدمت مكة، فبينا نحن بها إذ أتانا قتل عثمان رضي الله عنه وبها عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، فلقيتها فقلت: من تأمريني أن أبايع؟ قالت: علي، قلت: تأمرينني به وترضينه لي؟ قالت: نعم؛ فمررت على علي بالمدينة فبايعته، ثمّ رجعت إلى أهلي بالبصرة ولا أرى الأمر إلّا قد استقام، قال: فبينا أنا كذلك؛ إذ آتاني آت فقال: هذه عائشة وطلحة والزّبير قد نزلوا جانب الخريبة، فقلت: ما جاء بهم؟ قالوا: أرسلوا إليك يدعونك يستنصرون بك على دم عثمان رضي الله عنه، فأتاني أفظع أمر أتاني قطّ! فقلت: إنّ خذلاني هؤلاء ومعهم أمّ المؤمنين وحواري رسول الله ﷺ لشديد، وإنّ قتالي رجلًا ابن عمّ رسول الله ﷺ قد أمروني ببيعته لشديد. فلما أتيتهم قالوا: جئنا لنستنصر على دم عثمان رضي الله عنه، قتل مظلومًا؛ فقلت: علي؟ فقلت: أتأمرينني به وترضينه لي؟ قلت نعم! قالت: نعم، ولكنه بدّل. فقلت: يا زبير يا حواري رسول الله ﷺ، يا طلحة، أنشدكما الله، أقلت لكما: ما تأمراني فقلتما: علي؟ فقلت: أتأمراني به وترضيانه لي؟ فقلتما نعم! قالا: نعم، ولكنه بدّل. فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين وحواري رسول الله ﷺ ولا أقاتل رجلًا ابن عمّ رسول الله ﷺ، أمرتموني ببيعته؛ اختاروا مني واحدةً من ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي الجسر فألحق بأرض الأعاجم حتى يقضي الله عز وجل من أمره ما قضى، أو أعتزل فأكون قريبًا. قالوا: إنا نأتمر، ثم نرسل إليك. فائتمروا فقالوا: نفتح له الجسر ويخبرهم بأخباركم! ليس ذاكم برأي، اجعلوه ها هنا قريبًا حيث تطئون على صماخه وتنظرون إليه. فاعتزل بالجلحاء من البصرة على فرسخين، فاعتزل معه زهاء على ستة آلاف. ثم التقى القوم فكان أوّل قتيل طلحة رضي الله عنه، وكعب بن سور معه المصحف يذكّر هؤلاء وهؤلاء؛ حتى قتل من قتل منهم، ولحق الزبير بسفوان، من البصرة كمكان القادسيّة منكم، فلقيه النعر؛ رجل من مجاشع، فقال: أين تذهب يا حواري رسول الله ﷺ؟ إلي فأنت في ذمتي لا يوصل إليك؛ فأقبل معه؛ فأتى الأحنف خبره فقيل: ذاك الزبير قد لقي بسفوان فما تأمر؟ قال: جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم حواجب بعض بالسيوف ثم يلحق ببيته، فسمعه عمير بن جرموز وفضالة بن حابس، ونفيع؛ فركبوا في طلبه، فلقوه مع النعر، فأتاه عمير بن جرموز من خلفه وهو على فرس له ضعيفة، فطعنه طعنةً خفيفة، وحمل عليه الزبير وهو على فرس له يقال له ذو الخمار، حتى إذا ظنّ أنه قاتله نادى عمير بن جرموز: يا نافع، يا فضالة، فحملوا عليه فقتلوه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: معتمر بن سليمان، قال: نبّأني أبي، عن حصين، قال: حدثنا عمرو بن جأوان؛ رجل من بني تميم، وذاك أنى قلت له: أرأيت اعتزال الأحنف ما كان؟ فقال: سمعت الأحنف يقول: أتيت المدينة وأنا حاجّ؛ فذكر نحوه. الحمد لله على ما قضى وحكم. بعثة علي بن أبي طالب من ذي قار ابنه الحسن وعمار بن ياسر ليستنفرا له أهل الكوفة حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا بشير بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه، قال: خرج هاشم بن عتبة إلى علي بالرّبذة؛ فأخبره بقدوم محمد بن أبي بكر وقول أبي موسى، فقال: لقد أردت عزله، وسألني الأشتر أن أقرّه فردّ علي هاشمًا إلى الكوفة وكتب إلى أبي موسى: إنّي وجّهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إلي، فأشخص الناس فإنّي لم أولّك الذي أنت به إلّا لتكون من أعواني على الحقّ. فدعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري، فقال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تتبع ما كتب به إليك، قال: لكني لا أرى ذلك. فكتب هاشم إلى علي: إني قد قدمت على رجل غال مشاقّ ظاهر الغلّ والشنآن. وبعث بالكتاب مع المحلّ بن خليفة الطائي. فبعث علي الحسن بن علي وعمّار بن ياسر يستنفران له الناس، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميرًا على الكوفة، وكتب معه: إلى أبي موسى: أما بعد، فقد كنت أرى أن بعدك من هذا الأمر الّذي لم يجعل الله عز وجل لك منه نصيبًا سيمنعك من ردّ أمري، وقد بعثت الحسن بن علي وعمّار بن ياسر يستنفران الناس، وبعثت قرظة بن كعب واليًا على المصر، فاعتزل عملنا مذمومًا مدحورًا، فإن لم تفعل فإنّي قد أمرته أن ينابذك، فإن نابذته فظفر بك أن يقطّعك آرابًا. فلما قدم الكتاب على أبي موسى اعتزل، ودخل الحسن وعمار المسجد فقالا: أيّها الناس، إنّ أمير المؤمنين يقول: إني خرجت مخرجي هذا ظالمًا أو مظلومًا؛ وإني أذكّر الله عز وجل رجلًا رعى لله حقًّا إلا نفر، فإن كنت مظلومًا أعانني، وإن كنت ظالمًا أخذ مني، والله إنّ طلحة والزّبير لأوّل من بايعني، وأوّل من غدر، فهل استأثرت بمال، أو بدّلت حكمًا! فانفروا، فمروا بمعروف وانهوا عن منكر. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي، عن أبي الطفيل، قال: قال علي: يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل، فقعدت على نجفة ذي قار، فأحصيتهم فما زادوا رجلًا، ولا نقصوا رجلًا. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه، قال: خرج إلى علي اثنا عشر ألف رجل، وهم أسباع: على قريش وكنانة وأسد وتميم والرّباب ومزينة معقل بن يسار الرياحي، وسبع قيس عليهم سعد بن مسعود الثقفي، وسبع بكر بن وائل وتغلب عليهم وعلة بن مخدوج الذهلي، وسبع مذحج والأشعرين عليهم حجر ابن عدي، وسبع بجيلة وأنمار وخثعم والأزد عليهم مخنف بن سليم الأزدي. نزول علي الزاوية من البصرة حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن مسلمة بن محارب، عن قتادة، قال: نزل علي الزاوية وأقام أيامًا، فأرسل إليه الأحنف: إن شئت أتيتك، وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف، فأرسل إليه علي: كيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال! قال: إنّ من الوفاء لله عز وجل قتالهم، فأرسل إليه: كفّ من قدرت على كفّه. ثم سار علي من الزاوية، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله - أو عبد الله - بن زياد، فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدي: أن اخرج، فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي. فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل، فعدلوا إلى عسكر أمير المؤمنين، فقال الناس: من كان هؤلاء معه غلب، ودفع شقيق بن ثور رايتهم إلى مولىً له يقال له: رشراشة، فأرسل إليه وعلة بن محدوج الذهلي: ضاعت الأحساب، دفعت مكرمة قومك إلى رشراشة، فأرسل شقيق: أن أغن شأنك؛ فإنا نغني شأننا. فأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، يرسل إليهم علي، ويكلّمهم ويردعهم. حدثنا عمر، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن قتادة، قال: سار علي من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة، وساروا من الفرضة يريدون عليًا فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين يوم الخميس، فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه سلاح، فقيل لعلي: هذا الزبير؛ قال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذكّر بالله أن يذكره، وخرج طلحة، فخرج إليهما علي، فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابّهم، فقال علي: لعمري لقد أعددتما سلاحًا وخيلًا ورجالًا، إن كنتما أعددتما عند الله عذرًا فاتّقيا الله سبحانه، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثًا. ألم أكن أخاكما في دينكما، تحرّمان دمي وأحرّم دماءكما! فهل من حدث أحلّ لكما دمي؟ قال طلحة: ألّبت الناس على عثمان رضي الله عنه، قال علي: " يومئذ يوفّيهم الله دينهم الحقّ ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين "؛ يا طلحة، تطلب بدم عثمان رضي الله عنه! فلعن الله قتلة عثمان. يا زبير، أتذكر يوم مررت مع رسول الله ﷺ في بني غنم، فنظر إلي فضحك وضحكت إليه، فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله ﷺ: " صه، إنه ليس به زهو، ولتقاتلنه وأنت له ظالم "؟ فقال: اللهمّ نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدًا. فانصرف علي إلى أصحابه، فقال: أمّا الزبير فقد أعطى الله عهدًا ألّا يقاتلكم، ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت إلّا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا، قالت: فما تريد أن تضنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب؛ فقال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين الغارين، حتى إذا حدّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب! أحسست رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد؛ قال: إني قد حلفت ألّا أقاتله، وأحفظه ما قال له، فقال: كفّر عن يمينك، وقاتله، فدعا بغلام له يقال له مكحول، فأعتقه، فقال عبد الرحمن بن سليمان التيمي: لم أر كاليوم أخا إخوان ** أعجب من مكفّر الأيمان بالعتق في معصية الرحمن وقال رجل من شعرائهم: يعتق مكحولا لصون دينه ** كفّارة لله عن يمينه والنّكث قد لاح على جبينه رجع الحديث إلى حديث سيف عن محمد وطلحة: فأرسل عمران ابن حصين في الناس يخذّل من الفريقين جميعًا، كما صنع الأحنف، وأرسل إلى بني عدي فيمن أرسل، فأقبل رسوله حتى نادى على باب مسجدهم: ألا إنّ أبا نجيد عمران بن الحصين يقرئكم السلام، ويقول لكم: والله لأن أكون في جبل حضن مع أعنز خضر وضأن، أجزّ أصوافها، وأشرب ألبانها، أحبّ إلي من أن أرمي في شيء من هذين الصفين بسهم، فقالت بنو عدي جميعًا بصوت واحد: إنا والله لا ندع ثقل رسول الله ﷺ لشيء - يعنون أمّ المؤمنين. حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا أبو نعامة العدوي، عن حجير بن الربيع، قال: قال لي عمران بن حصين: سر إلى قومك أجمع ما يكونون، فقم فيهم قائمًا، فقل: أرسلني إلأيكم عمران بن حصين صاحب رسول الله ﷺ، يقرأ عليكم السلام ورحمة الله، ويحلف بالله الذي لا إله إلّا هو، لأن يكون عبدًا حبشيًا مجدّعًا يرعى أعنزًا حضنيّات في رأس جبل حتى يدركه الموت، أحبّ إلي من أن يرمي بسهم واحد بين الفريقين؛ قال: فرفع شيوخ الحي رءوسهم إليه، فقالوا: إنا لا ندع ثقل رسول الله ﷺ لشيء أبدًا. رجع الحديث إلى حديث سيف عن محمد وطلحة: وأهل البصرة فرق: فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة لا ترى القتال مع أحد من الفريقين، وجاءت عائشة رضي الله عنها من منزلها الذي ساحتهم، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إنّ الجموع إذا تراءوا لم تستطع، وإنما هي بحور تدفّق، فأطعني ولا تشهدهم، واعتزل بقومك، فإني أخاف ألّا يكون صلح، وكن وراء هذه النطفة، ودع هذين الغارين من مضر وربيعة، فهما أخوان، فإن اصطلحا فالصّلح ما أردنا، وإن اقتتلا كنا حكّامًا عليهم غدًا - وكان كعب في الجاهليّة نصرانيًّا - فقال صبرة: أخشى أن يكون فيك شيء من النصرانيّة؛ أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس، وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردّوا عليهم الصلح، وأدع الطلب بدم عثمان! لا والله لا أفعل ذلك أبدًا، فأطبق أهل اليمن على الحضور. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الضريس البجلي، عن ابن يعمر، قال: لما رجع الأحنف بن قيس من عند علي لقيه هلال بن وكيع بن مالك بن عمرو، فقال: ما رأيك؟ قال: الاعتزال، فما رأيك؟ قال: مكانفة أمّ المؤمنين، أفتدعنا وأنت سيّدنا! قال: إنما أكون سيّدكم غدًا إذا قتلت وبقيت؛ فقال هلال: هذا وأنت شيخنا! فقال: أنا الشيخ المعصي، وأنت الشابّ المطاع. فاتّبعت بنو سعد الأحنف، فاعتزل بهم إلى وادي السباع، واتّبعت بنو حنظلة هلالًا، وتابعت بنو عمرو أبا الجرباء فقاتلوا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد، عن أبي عثمان، قال: لما أقبل الأحنف نادى: يا لأدّ، اعتزلوا هذا الأمر، وولّوا هذين الفريقين كيسه وعجزه، فقام المنجاب بن راشد فقال: يال الرباب! لا تعتزلوا، واشهدوا هذا الأمر، وتولوا كيسه، ففارقوا. فلما قال: يال تميم؛ اعتزلوا هذا الأمر وولوا هذين الفريقين كيسه وعجزه، قام أبو الجرباء - وهو من بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم - فقال: يال عمرو، لا تعتزلوا هذا الأمر وتولّوا كيسه. فكان أبو الجرباء على بني عمرو بن تميم، والمنجاب بن راشد على بني ضبّة، فلما قال: يال زيد مناة، اعتزلوا هذا الأمر، وولّوا هذين الفريقين كيسه وعجزه قال هلال بن وكيع: لا تعتزلوا هذا الأمر؛ ونادى: يال حنظلة توّلوا كيسه؛ فكان هلال على حنظلة، وطاوعت سعد الأحنف، واعتزلوا إلى وادي السباع. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان على هوازن وعلى بني سليم والأعجاز مجاشع بن مسعود السلمي، وعلى عامر زفر بن الحارث، وعلى غطفان أعصر بن النعمان الباهلي، وعلى بكر بن وائل مالك بن مسمع، واعتزلت عبد القيس إلى علي إلّا رجلًا فإنه أقام، ومن بكر بن وائل قيّام، واعتزل منهم مثل من بقي منهم، عليهم سنان، وكانت الأزد على ثلاثة رؤساء: صبرة بن شيمان، ومسعود، وزياد ابن عمرو، والشواذب عليهم رجلان: على مضر الخرّيت بن راشد، وعلى قضاعة والتوابع الرعبي الجرمي - وهو لقب - وعلى سائر اليمن ذو الآجرة الحميري. فخرج طلحة والزبير فنزلا بالناس من الزابوقة، في موضع قرية الأرزاق، فنزلت مضر جميعًا وهم لا يشكّون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم جميعًا وهم لا يشكّون في الصلح، ونزلت اليمن جميعًا أسفل منهم، وهم لا يشكّون في الصلح، وعائشة في الحدّان، والناس في الزابوقة، على رؤسائهم هؤلاء وهم ثلاثون ألفًا، وردّوا حكيمًا ومالكًا إلى علي؛ بأنّا على ما فارقنا عليه القعقاع فاقدم. فخرجا حتى قدما عليه بذلك، فارتحل حتى نزل عليهم بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم؛ مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكّون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلّا الصلح، وخرج أمير المؤمنين فيمن معه، وهم عشرون ألفًا، وأهل الكوفة على رؤسائهم الذين قدموا معهم ذا قار، وعبد القيس على ثلاثة رؤساء: جذيمة وبكر على ابن الجارود، والعمور على عبد الله بن السوداء، وأهل هجر على ابن الأشجّ، وبكر بن وائل من أهل البصرة على ابن الحارث بن نهار، وعلى دنور بن علي الزط والسيابجة، وقدم علي ذا قار في عشرة آلاف، وانضمّ إليه عشرة آلاف. حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفيّة، قال: أقبلنا من المدينة بسبعمائة رجل، وخرج إلينا من حولنا ألفان، أكثرهم بكر بن وائل، ويقال: ستة آلاف. رجع الحديث إلى حديث محمد وطلحة: قالا: فلما نزل الناس واطمأنوا، خرج علي وخرج طلحة والزبير، فتواقفوا، وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع، وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك، ورجع علي إلى عسكره، وطلحة والزبير إلى عسكرهما. أمر القتال وكتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وبعث علي من العشي عبد الله بن عبّاس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما من العشي محمد بن طلحة إلى علي، وأنم يكلم كل واحد منهما أصحابه، فقالوا: نعم، فلما أمسوا - وذلك في جمادى الآخرة - أرسل طلحة والزّبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، ما خلا أولئك الّذين هضّوا عثمان، فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه، والنّزوع عمّا اشتهى الذين اشتهوا، وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشرّ ليلة باتوها قطّ، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلّها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرّ، واستسرّوا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشرّ، فغدوا مع الغلس، وما يشعر بهم جيرانهم، انسلّوا إلى ذلك الأمر انسلالا، وعليهم ظلمة، فخرج مضريّهم إلى مضريّهم، وربعيهم إلى ربعيّهم، ويمانيهم إلى يمانيّهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة، وثار كلّ قوم في وجوه أصحابهم الذين بهتوهم، وخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس من مضر فبعثا إلى الميمنة، وهم ربيعة يعبؤها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب ابن أسيّد، وثبتا في القلب، فقال: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلًا، فقالا: قد علمنا أنّ عليًّا غير منته حتى يسفك الدماء، ويستحلّ الحرمة، وأنه لن يطاوعنا، ثم رجعا بأهل البصرة، وقصف أهل البصرة، أولئك حتى ردّوهم إلى عسكرهم، فسمع علي وأهل الكوفة الصوت، وقد وضعوا رجلًا قريبًا من علي ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال: ذاك الرجل ما فجئنا إلّا وقوم منهم بيّتونا، فرددناهم من حيث جاءوا، فوجدنا القوم على رجل فركبونا، وثار الناس، وقال علي لصاحب ميمنته: ائت الميمنة، وقال لصاحب ميسرته: ائت الميسرة، ولقد علمت أنّ طلحة والزّبير غير منتهيين حتى يسفكا الدماء، ويستحلّا الحرمة، وأنهما لن يطاوعانا، والسّبئيّة لا تفتر إنشابًا. ونادى علي في الناس: أيها الناس، كفّوا فلا شي، فكان من رأيهم جميعًا في تلك الفتنة ألّا يقتتلوا حتى يبدءوا؛ يطلبون بذلك الحجّة، ويستحقون على الآخرين، ولا يقتلوا مدبرًا، ولا يجهزوا على الحجّة، ويستحقون على الآخرين، ولا يقتلوا مدبرًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا. فكان مما اجتمع عليه الفريقان ونادوا فيما بينهما. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي عمرو، قالوا: وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة رضي الله عنها، فقال: أدركي فقد أبى القوم إلّا القتال، لعلّ الله يصلح بك. فركبت، وألبسوا هودجها الأدراع، ثم بعثوا جملها، وكان جملها يدعى عسكرًا، حملها عليه يعلى بن أميّة، اشتراه بمائتي دينار، فلما برزت من البيوت - وكانت بحيث تسمع الغوغاء - وقفت، فلم تلبث أن سمعت غوغاء شديدة، فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجّة العسكر؛ قالت: بخير أو بشرّ؟ قالوا: بشرّ. قالت: فأي الفريقين كانت منهم هذه الضجّة فهم المهومون. وهي واقفة، فوالله ما فجئها إلّا الهزيمة، فمضى الزبير من سننه في وجهه، فسلك وادي السباع، وجاء طلحة سهم غرب يخلّ ركبته بصفحة الفرس، فلما امتلأ موزجه دمًا وثقل قال لغلامه: اردفني وأمسكني، وابغني مكانًا أنزل فيه، فدخل البصرة وهو يتمثّل مثله ومثل الزبير: فإن تكن الحوادث أقدتني ** وأخطأهنّ سهمي حين أرمى فقد ضيّعت حين تبعت سهمًا ** سفاهًا مّا سفهت وضلّ حلمي ندمت ندامة الكسعي لمّا شريت رضا بني سهمٍ برغمي أطعتهم بفرقة آل لأيٍ ** فألقوا للسّباع دمي ولحمي خبر وقعة الجمل من رواية أخرى قال أبو جعفر: وأما غير سيف فإنه ذكر من خبر هذه الوقعة وأمر الزبير وانصرافه عن الموقف الذي كان فيه ذلك اليوم غير الذي ذكر سيف عن صاحبيه، والذي ذكر من ذلك بعضهم ما حدثنيه أحمد بن زهير، قال: حدثنا أبي أبو خيثمة، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: سمعت أبي قال: سمعت يونس بن يزيد الأيلي، عن الزهري، في قصة ذكرها من خبر علي وطلحة والزبير وعائشة في مسيرهم الذي نحن في ذكره في هذا الموضع، قال: وبلغ الخبر عليًّا - يعني خبر السبعين الذين قتلوا مع العبدي بالبصرة - فأقبل - يعني عليًّا - في اثني عشر ألفًا، فقدم البصرة، وجعل يقول: يا لهف نفسي على ربيعة ** ربيعة السامعة المطيعه سنّتها كانت بها الوقيعة فلما تواقفوا خرج علي على فرسه، فدعا الزبير، فتواقفا، فقال علي للزبير: ما جاء بك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلًا، ولا أولى به منّا؛ فقال علي: لست له أهلًا بعد عثمان! قد كنا نعدّك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرّق بيننا وبينك؛ وعظّم عليه أشياء، فذكر أن النبي ﷺ مرّ عليهما فقال لعلي: " ما يقول ابن عمتك؟ ليقاتلنّك وهو لك ظالم ". فانصرف عنه الزبير، وقال: فإني لا أقاتلك. فرجع إلى ابنه عبد الله فقال: ما لي في هذه الحرب بصيرة، فقال له ابنه: إنك قد خرجت على بصيرة، ولكنك رأيت رايات ابن أبي طالب، وعرفت أن تحتها الموت، فجبنت. فأحفظه حتى أرعد وغضب، وقال: ويحك! إني قد حلفت له ألّا أقاتله، فقال له ابنه: كفّر عن يمينك بعتق غلامك سرجس، فأعتقه، وقام في الصفّ معهم، وكان علي قال للزّبير: أتطلب مني دم عثمان وأنت قتلته! سلّط الله على أشدّنا عليه اليوم ما يكره. وقال علي: يا طلحة، جئت بعرس رسول الله ﷺ تقاتل بها وخبّأت عرسك في البيت! أما بايعتني! قال: بايعتك وعلى عنقي اللج، فقال علىّ لأصحابه: أيّكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى، وإن قطعت أخذه بأسنانه؟ قال فتىً شابّ: أنا، فطاف علي على أصحابه يعرض ذلك عليهم، فلم يقبله إلّا ذلك الفتى، فقال له علي: اعرض عليهم هذا، وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، والله في دمائنا ودمائكم. فحمل على الفتى وفي يده المصحف، فقطعت يداه، فأخذه بأسنانه حتى قتل، فقال علي: قد طاب لكم الضراب فقاتلوهم، فقتل يومئذ سبعون رجلًا، كلهم يأخذ بخطام الجمل، فلما عقر الجمل وهزم الناس، أصابت طلحة رمية فقتلته، فيزعمون أن مروان بن الحكم رماه، وقد كان ابن الزبير أخذ بخطام جمل عائشة، فقالت: من هذا؟ فأخبرها؛ فقالت: واثكل أسماء! فجرح، فألقى نفسه في الجرحى، فاستخرج فبرأ من جراحته، واحتمل محمد بن أبي بكر عائشة، فضرب عليها فسطاط، فوقف علي عليها فقال: استفززت الناس وقد فزّوا، فألّبت بينهم، حتى قتل بعضهم بعضا.. في كلام كثير. فقالت عائشة: يا بن أبي طالب، ملكت فأسجح، نعم ما أبليت قومك اليوم! فسرّحها علي، وأرسل معها جماعةً من رجال ونساء، وجهزّها، وأمر لها باثني عشر ألفًا من المال؛ فاستقلّ ذلك عبد الله بن جعفر، فأخرج لها مالًا عظيمًا، وقال: إن لم يجزه أمير المؤمنين فهو علي. وقتل الزبير، فزعموا أن ابن جرموز لهو الذي قتله، وأنه وقف بباب أمير المؤمنين؛ فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزبير؛ فقال علي: ائذن له، وبشّره بالنار. حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا فضيل، عن سفيان بن عقبة، عن قرّة بن الحارث، عن جون بن قتادة. قال قرّة بن الحارث: كنت معالأحنف بن قيس، وكان جون ابن قتادة ابن عمّي مع الزبير بن العوام، فحدثني جون بن قتادة، قال: كنت مع الزبير رضي الله عنه، فجاء فارس يسير - وكانوا يسلّمون على الزبير بالإمرة - فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ قال: وعليك السلام؛ قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا، فلم أر قومًا أرثّ سلاحًا، ولا أقلّ عددًا، ولا أرعب قلوبًا من قوم أتوك، ثمّ انصرف عنه. قال: ثمّ جاء فارس فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ قال: وعليك السلام؛ قال: هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا، فلم أر قومًا أرثّ سلاحًا، ولا أقلّ عددًا، ولا أرعب قلوبًا من قوم أتوك، ثمّ انصرف عنه. قال: ثمّ جاء فارس فقال: السلام عليك أيّها الأمير؛ فقال: وعليك السلام، قال: جاء القوم حتى أتوا مكان كذا وكذا، فسمعوا بما جمع الله عز وجل لكم من العدد والعدّة والحدّ، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فولّوا مدبرين؛ قال الزبير: إيهًا عنك الآن؛ فوالله لو لم يجد ابن أبي طالب إلاالعرفج لدبّ إلينا فيه؛ ثم انصرف. ثم جاء فارس وقد كادت الخيول أن تخرج من الرهج فقال: السلام عليك أيّها الأمير، قال: وعليك السلام، قال: هؤلاء القوم قد أتوك، فلقيت عمّارًا فقلت له وقال لي؛ فقال الزبير: إنه ليس فيهم، فقال: بلى والله إنه لفيهم؛ قال: والله ما جعله الله فيهم، فقال: والله لقد جعله الله فيهم. قال: والله ما جعله الله فيهم؛ فلمّا رأى الرجل يخالفه قال لبعض أهله: اركب فانظر: أحقّ ما يقول! فركب معه، فانطلقا وأنا أنظر إليهما حتى وقفا في جانب الخيل قليلا، ثم رجعا إلينا، فقال الزبير لصاحبه: ما عندك؟ قال: صدق الرجل؛ قال الزبير: يا جدع أنفاه - أو يا قطع ظهراه؟ - قال محمد بن عمارة: قال عبيد الله: قال فضيل: لا أدري أيذهما قال - ثم أخذه أفكل، فجعل السلاح ينتفض، فقال جون: ثكلتني أمي، هذا الذي كنت أريد أن أموت معه، أو أعيش معه، والذي نفسي بيده ما أخذ هذا ما أرى إلّا لشيء قد سمعه أو رآه من رسول الله ﷺ. فلمّا تشاغل الناس انصرف فجلس على دابته، ثم ذهب، فانصرف جون فجلس على دابّته، فلحق بالأحنف، ثم جاء فارسان حتى أتيا الأحنف وأصحابه، فنزلا، فأتيا فأكبّا عليه، فناجياه ساعة، ثم انصرفا. ثم جاء عمرو بن جرموز إلى الأحنف، فقال: أدركته في وادي السباع فقتلته، فكان يقول: والذي نفسي بيده إن صاحب الزبير الأحنف. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا بشير ابن عاصم، عن الحجّاج بن أرطاة، عن عمار بن معاوية الدهني - حي من أحمس بجيلة - قال: أخذ علي مصحفًا يوم الجمل، فطاف به في أصحابه، وقال: من يأخذ هذا المصحف، يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقام إليه فتىُ من أهل الكوفة عليه قباء أبيض محشوّ، فقال: أنا، فأعرض عنه، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقال الفتى: أنا، فأعرض عنه، ثم قال: من يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟ فقال الفتى: أنا؛ فدفعه إليه، فدعاهم فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى، فدعاهم فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه، فقتل رضي الله عنه، فقال علي: الآن حلّ قتالهم، فقالت أمّ الفتى بعد ذلك فيما ترثي: لا همّ إنّ مسلمًا دعاهم ** يتلو كتاب الله لا يخشاهم وأمّهم قائمة تراهم ** يأتمرون الغي لا تنهاهم قد خضبت من علق لحاهم حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي، قال: حملت ميمنة أمير المؤمنين على ميسرة أهل البصرة، فاقتتلوا، ولاذ الناس بعائشة رضي الله عنها، أكثرهم ضبّة الأزد، وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر؛ ويقال: إلى أن زالت الشمس، ثم انهزموا، فنادى رجل من الأزد: كرّوا، فضربه محمد بن علي فقطع يده، فنادى: يا معشر الأزد فرّوا، واستحرّ القتل بالأزد، فنادوا: نحن على دين علي بن أبيس طالب؛ فقال رجل من بني ليث بعد ذلك: سائل بنا يوم لقينا الأزدا ** والخيل تعدو أشقرًا ووردا لمّا قطعنا كبدهم والزّندا ** سحقًا لهم في رأيهم وبعدا! حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، قال: حمل عمّار على الزبير يوم الجمل، فجعل بنحوزه بالرمح، فقال: أتريد أن تقتلني؟ قال: لا، انصرف؛ وقال عامر بن حفص: أقبل عمارٌ حتى حاز الزبير يوم الجمل بالرمح، فقال: أتقتلني يا أبا اليقظان! قال: لا يا أبا عبد الله. رجع الحنديث إلى حديث سيف، عن محمد وطلحة: قالا: ولما انهزم الناس في صدر النهار، نادى الزبير: أنا الزبير، هلمّوا إلي أيّها الناس، ومعه مولىً له ينادي: أعن حواري رسول الله ﷺ تنهزمون! وانصرف الزبير نحو وادي السباع، واتّبعه فرسان، وتشاغل الناس عنه بالناس، فلما رأى الفرسان تتبعه عطف عليهم، ففرّق بينهم، فكرّوا عليه، فلمّا عرفوه قالوا: الزبير! فدعوه، فلما نفر فيهم علياء بن الهيثم؛ ومرّ القعقاع في نفر بطلحة وهو يقول: إلي عباد الله، الصبر الصبر! قال له: يا أبا محمد؛ إنك لجريح، وإنك عمّا تريد لعليل؛ فادخل الأبيات، فقال: يا غلام، أدخلني وابغني مكانًا. فأدخل البصرة ومعه غلام ورجلان، فافتتل الناس بعده، فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة. فلمّا رأوا الجمل أطافت به مضر عادوا قلبًا كما كانوا حيث التفوا، وعادوا إلى أمر جديد، ووقفت ربيعة البصرة، منهم ميمنة ومنهم ميسرة، وقالت عائشة: خلّ يا كعب عن البعير؛ وتقدّم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفًا. وأقبل القوم وأمامهم السبئيّة يخافون أن يجرى الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلّا إقدامًا، فلما دعاهم كعب رشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ورموا عائشة في هودجها، فجعلت تنادي: يا بني، البقيّة البقيّة - وبعلو صوتها كثرة - الله الله، اذكروا الله عز وجل والحساب، فيأبون إلّا إقدامًا، فكان أوّل شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيّها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم، وأقبلت تدعو. وضجّ أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجّة؟ فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم. وأرسلت إلى عبد الرحمن ابن عتّاب وعبد الرحمن بن الحارث: اثبتا مكانكما، وذمرت الناس حين رأت أنّ القوم لا يريدون غيرها، ولا يكفّون عن الناس، فازدلفت مضر البصرة، فقصفت مضر الكوفة حتى زوحم علي، فنخس علي قفا محمد، وقال: أحمل، فنكل، فأخوى علي إلى الراية ليأخذها منه، فحمل، فترك الراية في يده، وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوا قدّام الجمل حتى ضرسوا، والمجنّبات على حالها، لا تصنع شيئًا، ومع علي أقوام غير مضر، فمنهم زيد بن صوحان، فقال له رجل من قومه: تنحّإلى قومك، مالك ولهذا الموقف! ألست تعلم أن مضر بحيالك، وأنّ الجمل بين يديك، وأن الموت دونه! فقال: الموت خير من الحياة، الموت ما أريد؛ فأصيبوأخوه سيحان، وارتث صعصعة، واشتدّت الحرب. فلما رأى ذلك علي بعث إلى اليمن وإلى ربيعة: أن اجتمعوا على من يليكم، فقام رجل من عبد القيس فقال: ندعوكم إلى كتاب الله عز وجل؛ قالوا: وكيف يدعونا إلى كتاب الله من لا يقيم حدود الله سبحانه، ومن قتل داعي الله كعب بن سور! فرمته ربيعة رشقًا واحدًا فقتلوه، وقام مسلم بن عبد الله العجلي مقامه، فرشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان القتال الأوّل يستحرّ إلى انتصاف النهار، وأصيب فيه طلحة رضي الله عنه، وذهب فيه الزبير، فلما أووا إلى عائشة وأبى أهل الكوفة إلّا القتال، ولم يريدوا إلّا عائشة، ذمرتهم عائشة، فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا، فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا، وذلك يوم الخميس في جمادى الآخرة، فاقتتلوا صدر النهار مع طلحة والزبير، وفي وسطه مع عائشة، وتزاحف الناس، فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة، وربيعة البصرة ربيعة الكوفة، ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر البصرة، وقال: إن الموت ليس منه فوت، يدرك الهارب، ولا يترك المقيم. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو عبد الله القرشي، عن يونس بن أرقم، عن علي بن عمرو الكندي، عن زيد بن حساس، قال: سمعت محمد بن الحنفيّة يقول: دفع إلي أبى الراية يوم الجمل، وقال: تقدّم؛ فتقدّمت حتى لم أجد متقدّمًا إلّا على رمح؛ قال: تقدّم لا أمّ لك! فتكاكأت وقلت: لا أجد متقدّمًا إلّا على سنان رمح، فتناول الراية من يدي متناول لا أدري من هو! فنظرت فإذا أبى بين يدي وهو يقول: أنت الّتي غرّك منّي الحسنى ** يا عيش إنّ القوم قوم أعدا الخفض خير من قتال الأبنا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: اقتتلت المجنّبتان حين تزاحفتا قتالًا شديدًا، يشبه ما فيه القلبان، واقتتل أهل اليمن، فقتل على راية أمير المؤمنين من أهل الكوفة عشرة، كلما أخذها رجل قتل خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن، فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها، فثبتت في يده وهو يقول: قد عشت يا نفس وقد غنيت ** دهرًا فقطك اليوم ما بقيت أطلب طول العمر ما حييت وإنما تمثّلها وهو قول الشاعر قبله. وقال نمران بن أبي نمران الهمذاني: جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمزد كلّ طويل الساعدين نهد وأقبلت ربيعة، فقتل على راية الميسرة من أهل الكوفة زيد، وصرع صعصعة، ثم سيحان، ثم عبد الله بن رقبة بن المغيرة، ثم أبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللهمّ أنت هديتنا من الضلالة، واستنقذتنا من الجهالة، وابتليتنا بالفتنة، فكنّا في شبهة وعلى ريب؛ حتى قتل، ثمّ الحصين ابن معبد بن النعمان، فأعطاها ابنه معبدًا، وجعل يقول: يا معبد، قرّب لها بوّها تحدب، فثبتت في يده. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: لما رأت الكماة من مضر الكوفة ومضر البصرة الصبر تنادوا في عسكر عائشة وعسكر علي: يأيها الناس، طرّفوا إذا فرغ الصبر، ونزع النصر. فجعلوا يتوجّئون الأطراف: الأيدي والأرجل، فما رئيت وقعة قطّ قبلها ولا بعدها، ولا يسمع بها أكثر يدًا مقطوعة ورجلًا مقطوعة منها، لا يدري من صاحبها. وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتّاب يومئذ قبل قتله، وكان الرجل من هؤلاء وهؤلاء إذا أصيب شيء من أطرافه استقتل إلى أن يقتل. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة ابن بلال، عن أبيه، قال: اشتدّ الأمر حتى أرزت ميمنة الكوفة إلى القلب، حتى لزقت به، ولزقت ميسرة البصرة بقلبهم، ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم، وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة الكوفة وميمنة البصرة، فقالت عائشة - رضي الله عنها - لمن عن يسارها: من القوم؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد، قالت: يآل غسّان! حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثّلت: وجالد من غسّان أهل حفاظها ** وهنب وأوس جالدت وشبيب وقالت لمن عن يمينها: من القوم؟ قالوا: بكر بن وائل؛ قالت: لكم يقول القائل: وجاءوا إلينا في الحديد كأنّهم ** من العزّة القعساء بكر بن وائل إنما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشدّ القتال من قتالهم قبل ذلك، وأقبلت على كتيبة بين يديها، فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية، قالت: بخ بخ! سيوف أبطحيّة، وسيوف قرشيّة، فجالدوا جلادًا يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبّة، فقالت: ويهًا جمرة الجمرات! حتى إذا رقّوا خالطهم بنو عدي، وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدّي، خالطنا إخواننا، فقالت: مازال رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبّة حولي، فأقاموا رأس الجمل، ثم ضربوا ضربًا ليس بالتعذير، ولا يعدّلون بالتطريف؛ حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعًا. راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع. وأرزت مجنّبتا علي فصارتا في القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضًا. وتلاقوا جميعًا بقلبيهم، وأخذ ابن يثربي برأس الجمل وهو يرتجز، وادّعى قتل علباء ابن الهيثم وزيد بن صوحان وهند بن عمرو، فقال: أنا لمن ينكرني ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي وابن لصوحان علي دين علي فناداه عمّار: لقد لعمري لذت بحريز، وما إليك سبيل، فإن كنت صادقًا فاخرج من هذه الكتيبة إلي؛ فترك الزمام في يد رجل من بني عدي حتى كان بين أصحاب عائشة وأصحاب علي، فزحم الناس عمّارًا حتى أقبل إليه، فاتّقاه عمار بدرقته، فضربه انتشب سيفه فيها، فعالجه فلم يخرج، فخرج عمّار إليه لا يملك من نفسه شيئًا، فأسفّ عمار لرجليه فقطعهما، فوقع على استه، وحمله أصحابه، فارتثّ بعد، فأتى به علي، فأمر بضرب عنقه. ولما أصيب ابن يثربي ترك ذلك العدوي الزمام، ثم خرج فنادى: من يبارز؟ فخنّس عمّار، وبرز إليه ربيعة العقيلي - والعدوي يدعى عمرة بن بجرة، أشدّ الناس صوتًا، وهو يقول: يا أمّنا أعقّ أمّ نعلم ** والأمّ تغذو ولدًا وترحم ألا ترين كم شجاع يكلم ** وتخلي منه يد ومعصم ثم اضطربا، فأثخن كلّ واحد منهما صاحبه، فماتا. وقال عطيّة بن بلال: ولحق بنا من آخر النهار رجل يدعى الحارث، من بني ضبّة، فقام مقام العدوي، فما رأينا رجلًا قطّ أشدّ منه، وجعل يقول: نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننعى ابن عفان بأطرفاف الأسل الموت أحلى عندنا من العسل ** ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن المفضّل بن محمد، عن عدي بن أبي عدي، عن أبي رجاء العطاردي، قال: إني لأنظر إلى رجل يوم الجمل وهو يقلّب سيفًا بيده كأنه مخراق، وهو يقول: نحن بني ضبّة أضحاب الجمل ** ننازل الموت إذا الموت نزل والموت أشهى عندنا من العسل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن الهذلي، قال: كان عمرو بن يثربي يحضّض قومه يوم الجمل، وقد تعاوروا الخطام يرتجزون: نحن بني ضبّة لا نفرّ ** حتى نرى جماجمًا تخرّ يخرّ منها العلق المحمرّ يا أمّنا يا عيش لن تراعى ** كلّ بنيك بطل شجاع يا أمّنا يا زوجة النبي ** يا زوجة المبارك المهديّ حتى قتل على الخطام أربعون رجلًا، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبّة. وقتل يومئذ عمرو بن يثربي علياء بن الهيثم السدوسي، وهند بن عمرو الجملي، وزيد بن صوحان وهو يرتجز ويقول: أضربهم ولا أرى أبا حسن ** كفى بهذا حزنًا من الحزن إنا نمرّ الأمر إمرار الرسن فزعم الهذلي أنّ هذا الشعر تمثّل به يوم صفّين. وعرض عمار لعمرو بن يثربي - وعمار يومئذ ابن تسعين سنة، عليه فرو قد شدّ وسطه بحبل من ليف - فبدره عمرو بن يثربي فنحّى له درقته فنشب سيفه فيها، ورماه الناس حتى صرع وهو يقول: إن تقتلوني فأنا ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي ثمّ ابن صوحان على دين علي وأخذ أسيرًا حتى انتهي به إلى علي، فقال: استبقني. فقال: أبعد ثلاثة تقبل عليهم بسيفك تضرب به وجوههم! فأمر به فتقل. وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو مخنف، عن إسحاق بن راشد، عن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: مشيت يوم الجمل وبي سبع وثلاثون جراحة من ضربة وطعنة، وما رأيت مثل يوم الجمل قط، ما ينهزم منا أحد، وما نحن إلّا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلّا قتل، فأخذه عبد الرحمن بن عتاب فقتل، فأخذه الأسود بن أبي البختري فصرع، وجئت فأخذت بالخطام، فقالت عائشة: من أنت؟ قلت: عبد الله بن الزبير. قالت: واثكل أسماء! ومرّ بي الأشتر، فعرفته فعانقته، فسقطنا جميعًا، وناديت: " اقتلوني ومالكًا "؛ فجاء ناس منا ومنهم، فقاتلوا عنا حتى تحاجزنا، وضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرّقوا؛ فضربه رجلٌ فسقط، فما سمعت صوتًا قطّ أشدّ من عجيج الجمل. وأمر علي محمد بن أبي بكر فضرب عليها قبّة، وقال: انظر، هل وصل إليها شيء؟ فأدخل رأسه، فقالت: من أنت؟ ويلك! فقال: أبغض أهلك إليك، قالت: ابن الخثعميّة؟ قال: نعم؛ قالت: يأبي أنت وأمي! الحمد لله الذي عافاك. حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، قال: سمعت أبا بكر بن عيّاش يقول: قال علقمة: قلت للأشتر: قد كنت كارهًا لقتل عثمان رضي الله عنه. فما أخرجك بالبصرة؟ قال: إنّ هؤلاء بايعوه، ثم نكثوا - وكان ابن الزبير هو الذي أكره عائشة على الخروج - فكنت أدعو الله عز وجل أن يلقّينيه، فلقيني كفّةً لكفّة، فما رضيت بشدّة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته. قلنا فهو القائل: " اقتلوني ومالكًا "؟ قال: لا، ما تركته وفي نفسي منه شيء، ذاك عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، لقيني فاختلفنا ضربتين، فصرعتني وصرعته، فجعل يقول: " اقتلوني ومالكًا "، ولا يعلمون من مالك، فلو يعلمون لقتلوني. ثم قال أبو بكر بن عياش: هذا كتابك شاهده. حدثني به المغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قلت للأشتر: حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن طلحة بن النضر، عن عثمان بن سليمان، عن عبد الله بن الزبير، قال: وقف علينا شابّ، فقال: احذروا هذين الرجلين؛ فذكره - وعلامة الأشتر أنّ إحدى قدميه بادية من شيء يجد بها - قال: لما التقينا قال الأشتر: لما قصد لي سوّى رمحه لرجلي، قلت: هذا أحمق، وما عسى أن يدرك منى لو قطعها! ألست قاتله! فلما دنا مني جمع يديه في الرمح، ثم التمس به وجهي، قلت: أحد الأقران. حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن ابن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، عن جدّه، قال: كان عمرو ابن الأشرف أخذ بخطام الجمل، لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بسيفه، إذ أقبل الحارث بن زهير الأزدي وهو يقول: يا أمّنا يا خير أم نعلم ** أما ترين كم شجاع يكلم! وتختلي هامته والمعصم! فاختلفا ضربتين، فرأيتهما يفحصان الأرض بأرجلهما حتى ماتا فدخلت على عائشة رضي الله عنها بالمدينة، فقالت: من أنت؟ قلت: رجل من الأزد، أسكن الكوفة؛ قالت: أشهدتنا يوم الجمل؟ قلت: نعم؛ قالت: ألنا أم علينا؟ قلت: عليكم؛ قالت: أفتعرف الذي يقول: يا أمّنا يا خير أم نعلم قلت: نعم، ذاك ابن عمّي، فبكت حتى ظننت أنها لا تسكت. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: لقيت عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، فلقيت أشدّ الناس وأروغه، فعانقته، فسقطنا إلى الأرض جميعًا، فنادى: " اقتلوني ومالكًا ". حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي ليلى، عن دينار بن العيزار، قال: سمعت الأشتر يقول: رأيت عبد الله بن حكيم بن حزام معه راية قريش؛ وعدّي بن حاتم الطائي وهما يتصاولان كالفحلين، فتعاورناه فقتلناه - يعني عبد الله - فطعن عبد الله عديًّا ففقأ عينه. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن أبي مخنف، عن عمّه محمّد بن مخنف، قال: حدثني عدّة من أشياخ الحي كلّهم شهد الجمل، قالوا: كانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم، فقتل يومئذ، فتناول الراية من أهل بيته الصقعب وأخوه عبد الله بن سليم، فقتلوه، فأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح، وهي في يده، وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن مسلم، فقتل وقتل معه زيد بن صوحان وسيحان ابن صوحان؛ وأخذ الراية عدّة منهم فقتلوا؛ منهم عبد الله بن رقية، وراشد. ثم أخذها منقذ بن النعمان، فدفعها إلى ابنه مرّة بن منقذ، فانقضى الأمر وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل من أهل الكوفة في بني ذهل، كانت مع الحارث بن حسّان بن خوط الذهلي، فقال أبو العرفاء الرقاشي: أبق على نفسك وقومك، فأقدم وقال: يا معشر بكر بن وائل، إنّه لم يكن أحدٌ له من رسول الله ﷺ مثل منزلة صاحبكم، فانصروه، فأقدم، فقتل وقتل ابنه وقتل خمسة إخوة له، فقال له يومئذ بشر بن خوط وهو يقاتل: أنا ابن حسّان بن خوط وأبي ** رسول بكر كلها إلى النبي وقال ابنه: أنعى الرئيس الحارث بن حسّان ** لآل ذهل ولآل شيبان وقال رجل من ذهل: تنعى لنا خير امرىء من عدنان ** عند الطعان ونزال الأقران وقتل رجال من بني محدوج، وكانت الرياسة لهم من أهل الكوفة، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلًا، فقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي، ما أحسن قتالنا إن كنّا على حقّ! قال: فإنا على الحقّ، إن الناس أخذوا يمينًا وشمالًا، وإنما تمسّكنا بأهل بيت نبيّنا؛ فقاتلا حتى قتلا. وكانت رياسة عبد القيس من أهل البصر - وكانوا مع علي - لعمرو بن مرحوم، ورياسة بكر بن وائل لشقيق بن ثور، والرّاية مع رشراشة مولاه، ورياسة الأزد من أهل البصرة - وكانوا مع عائششة - لعبد الرحمن بن جشم بن أبي حنين الحمّامي - فيما حدثني عامر بن حفص، ويقال لصبرة بن شيمان الحدّاني - والراية مع عمرو بن الأشرف العتكي، فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلًامن أهل بيته. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا أبو ليلى، عن أبي عكّاشة الهمداني، عن رفاعة البجلي، عن أبي البختري الطائي، قال: أطافت ضبّة والأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد بعائشة يوم الجمل، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتّونه ويشمّونه، ويقولون: بعر جمل أمّنا ريحه ريح المسك؛ ورجل من أصحاب علي يقاتل ويقول: جرّدت سيفي في رجال الأزد ** أضرب في كهولهم والمرد كلّ طويل الساعدين نهده وماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل؛ فضربه بجير بن دلجة الضبي من أهل الكوفة، فقيل له: لم عقرته؟ فقال: رأيت قومي يقتلون، فخفت أن يفنوا، ورجوت إن عقرته أن يبقي لهم بقيّة. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا الصلت بن دينار، قال: انتهى رجل من بني عقيل إلى كعب بن سور - رحمه الله - وهو مقتول، فوضع زجّ رمحه في عينه، ثم خضخضه، وقال: ما رأيت مالًا قطّ أحكم نقدًا منك. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا عوانة، قال: اقتتلوا يوم الجمل يومًا إلى الليل، فقال بعضهم: شفى السيف من زيد وهند نفوسنا ** شفاء ومن عيني عدي بن حاتم صبرنا لهم يومًا إلى الليل كلّه ** بصمّ القنا والمرهفات الصوارم وقال ابن صامت: يا ضبّ سيرى فإنّ الأرض واسعة ** على شمالك إن الموت بالقاع كتيبة كشعاع الشمس إذ طلعت ** لها أتي إذا ما سال دفّاع إذًا نقيم لكم في كلّ معترك ** بالمشرفيّة ضربًا غير إبداع حدثنا العباس بن محمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا روح، عن أبي رجاء، قال: رأيت رجلًا قد اصطلمت أذنه، قلت: أخلقة، أم شيء أصابك؟ قال: أحدثك؛ بينا أنا أمشي بين القتلى يوم الجمل، فإذا رجل يفحص برجله، وهو يقول: لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** فلم ننصرف إلّا ونحن رواء أطعنا قريشًا ضلّة من حلومنا ** ونصرننا أهل الحجاز عناء قلت: يا عبد الله، قل لا إله إلّا الله، قال: ادن مني، ولقّنّي فإنّ في أذني وقرًا، فدنوت منه، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: رجل من الكوفة؛ فوثب علي، فاصطلم أذني كما ترى، ثمّ قال: إذا لقيت أمك فأخبرها أن عمير بن الأهلب الضبّي فعل بك هذا. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا المفضّل الراوية وعامر بن حفص وعبد المجيد الأسدي، قالوا: جرح يوم الجمل عمير بن الأهلب الضبي، فمرّ به رجلٌ من أصحاب علي وهو في الجرحى، فقال له عمير: ادن منى، فدنا منه، فقطع أذنه، وقال عمير بن الأهلب: لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا ** فلم ننصرف إلا ونحن رواء لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه ** وشيعتها مندوحة وغناء أطعنا بني تيم بن مرّة شقوة ** وهل تيم إلّا أعبد وإماء! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن المقدام الحارثي، قال: كان منّا رجل يدعي هانىء بن خطّاب، وكان ممن غزا عثمان، ولم يشهد الجمل، فلمّا سمع بهذا الرج. - يعني رجز القائل: نحن بني ضبّة أصحاب الجمل في حديث الناس، نقض عليه وهو بالكوفة: أبت شيوخ مذجح وهمدان ** ألا يردّوا نعثلًا كما كان خلقًا جديدًا بعد خلق الرحمن كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: جعل أبو الجرباء يومئذ يرتجز ويقول: أسامع أنت مطيع لعلي ** من قبل أن تذوق حدّ المشرفي وخاذل في الحقّ أزواج النبي ** أعرف قومًا لست فيه بعنى كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كانت أمّ المؤمنين في حلقة من أهل النجدات والبصائر من أفناء مضر، فكان لا يأخذ أحد بالزمام إلّا كان يحمل الراية واللواء لا يحسّن تركها، وكان لا يأخذه إلّا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب لها: أنا فلان بن فلان، فوالله إن كانوا ليقاتلون عليه؛ وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أصحاب علي إلّا قتل أو أفلت، ثم لم يعد. ولما اختلط الناس بالقلب جاء عدي بن حاتم فحمل عليه، ففقئت عينه ونكل، فجاء الأشتر فحامله عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد وإنه لأقطع منزوف، فاعتنقه، ثم جلد به الأرض عن دابّته، فاضطرب تحته، فأفلت وهو جريض. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كان لا يجىء رجل فيأخذ بالزّمام حتى يقول: أنا فلان بن فلان يا أمّ المؤمنين، فجاء عبد الله بن الزبير، فقالت حين لم يتكلم: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله، أنا ابن أختك، قالت: واثكل أسماء! - تعنى أختها - وانتهى إلى الجمل الأشتر وعدي بن حاتم، فخرج عبد الله ابن حكيم بن حزام إلى الأشتر، فمشى إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقتله الأشتر، ومشى إليه عبد الله بن الزبير، فضربه الأشتر على رأسه، فجرحه جرحًا شديدًا، وضرب عبد الله الأشتر ضربة خفيفة، واعتنق كلّ واحد منهما صاحبه، وخرّا إلى الأرض يعتركان، فقال عبد الله بن الزبير: " اقتلوني ومالكًا ". وكان مالك يقول: ما أحبّ أن يكون قال: " والأشتر " وأنّ لي حمر النعم. وشدّ أناس من أصحاب علي وأصحاب عائشة فافترقا، وتنقّذ كلّ واحد من الفريقين صاحبه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: وجاء محمد بن طلحة فأخذ بزمام الجمل، فقال: يا أمّتاه، مريني بأمرك. قالت: آمرك أن تكون كخير بني آدم إن تركت. قال: فحمل فجعل لا يحمل عليه أحد إلّا حمل عليه ويقول: " حم لا ينصرون "، واجتمع عليه نفر، فكلّهم ادّعى قتله: المكعبر الأسدي، والمكعبر الضبي، ومعاوية بن شدّاد العبسي، وعفّان بن الأشقر النصري، فأنفذه بعضهم بالرّمح، ففي ذلك يقول قاتله منهم: وأشعث قوّام بآيات ربّه ** قليل الأذى فيما ترى العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه ** فخرّ صريعًا لليدين وللفم يذكّرني حم والرمح شاجر ** فهلا تلا حم قبل التقدّم! على غير شيء غير أن ليس تابعًا ** عليًا ومن لا يتبع الحقّ يندم كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: قال القعقاع بن عمرو للأشتر يؤلّبه يومئذ: هل لك في العود؟ فلم يجبه. فقال: يا أشتر، بعضنا أعلم بقتال بعض منك. فحمل القعقاع، وإنّ الزمام مع زفر بن الحارث، وكان آخر من أعقب في الزمام، فلا والله ما بقي من بني عامر يومئذ شيخ إلّا أصيب قدّام الجمل، فقتل فيمن قتل يومئذ ربيعة جدّ إسحاق بن مسلم، وزفر يرتجز ويقول: يا أمّنا يا عيش لن تراعي ** كلّ بنيك بطل شجاع ليس بوهّام ولا براعي وقام القعقاع يرتجز ويقول: إذا وردنا آجنًا جهرناه ** ولا يطاق ورد ما منعناه تمثّلها تمثّلًا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان من آخر من قاتل ذلك اليوم زفر بن الحارث، فزحف إليه القعقاع، فلم يبق حول الجمل عامري مكتهل إلّا أصيب، يتسرّعون إلى الموت، وقال القعقاع: يا بحير بن دلجة، صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا وتصاب أمّ المؤمنين؛ فقال: يال ضبة، يا عمرو بن دلجة، ادع بي إليك؛ فدعا به، فقال: أنا آمن حتى أرجع؟ قال: نعم. قال: فاجتثّ ساق البعير، فرمى بنفسه على شقّه وجرجر البعير. وقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون. واجتمع هو وزفر على قطع بطان البعير، وحملا الهودج فوضعاه، ثم أطافا به، وتفارّ من وراء ذلك من الناس. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطيّة، عن أبيه، قال: لما أمسى الناس وتقدّم علي وأحيط بالجمل ومن حوله، وعقره بجير بن دلجة، وقال: إنكم آمنون؛ كفّ بعض الناس عن بعض. وقال علي في ذلك حين أمسى وانخنس عنهم القتال: إليك أشكو عجري وبجري ** ومعشرًا غشّوا علي بصري قتلت منهم مضرًا بمضري ** شفيت نفسي وقتلت معشري كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، قال: قال طلحة يومئذ: اللهمّ أعط عثمان منّي حتى يرضى؛ فجاء سهم غرب وهو واقف، فخلّ ركبته بالسرج، وثبت حتى امتلأ موزجه دمًا، فلما ثقل قال لمولاه: اردفني وابغني مكانًا لا أعرف فيه، فلم أر كاليوم شيخًا أشيع دمًا مني. فركب مولاه وأمسكه وجعل يقول: قد لحقنا القوم، حتى انتهى به إلى دار من دور البصرة خربة، وأنزله في فيئها، فمات في تلك الخربة، ودفن رضي الله عنه في بني سعد. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن البختري العبدي، عن أبيه، قال: كانت ربيعة مع علي يوم الجمل ثلث أهل الكوفة، ونصف الناس يوم الوقعة، وكانت تعبيتهم مضر ومضر، وربيعة وربيعة، واليمن واليمن؛ فقال بنو صوحان: يا أمير المؤمنين، ائذن لنا نقف عن مضر؛ ففعل، فأتى زيد فقيل له: ما يوقفك حيال الجمل وبحيال مضر! الموت معك وبإزائك، فاعتزل إلينا؛ فقال: الموت نريد. فأصيبوا يومئذ، وأفلت صعصعة من بينهم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن عطية، قال: كان رجل منا يدعى الحارث، فقال يومئذ: يال مضر؛ علام يقتل بعضكم بعضًا! تبادرون لا ندري إلّا أنّا إلى قضاء، وما تكفون في ذلك. حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن جرير، قال: حدثني الزبير بن الخرّيت، قال: حدثني شيخ من الحرامين يقال له أبو جبير، قال: مررت بكعب بن سور وهو آخذ بخطام جمل عائشة رضي الله عنها يوم الجمل، فقال: يا أبا جبير، أنا والله كما قالت القائلة: بني لا تبن ولا تقاتل فحدثني الزبير بن الخرّيت، قال: مرّ به علي وهو قتيل، فقام عليه فقال: والله إنك - ما علمت - كنت لصليبًا في الحقّ، قاضيًا بالعدل، وكيت وكيت؛ فأثنى عليه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن ابن صعصعة المزني - أو عن صعصعة - عن عمرو بن جأوان، عن جرير بن أشرس، قال: كان القتال يومئذ في صدر النهار مع طلحة والزبير، فانهزم الناس وعائشة توقّع الصلح، فم يفجأها إلّا الناس، فأحاطت بها مضر، ووقف الناس للقتال، فكان القتال نصف النهار مع عائشة. وعلي.. كعب بن سور أخذ مصحف عائشة وعلي فبدر بين الصفين يناشدهم الله عز وجل في دمائهم، وأعطى درعه فرمى بها تحته، وأتى بترسه فتنكبّه، فرشقوه رشقًا واحدًا، فقتلوه رضي الله عنه، ولم يمهلوهم أن شدّوا عليهم، والتحم القتال، فكان أول مقتول بين يدي عائشة من أهل الكوفة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن مخلد بن كثير، عن أبيه، قال: أرسلنا مسلم بن عبد الله يدعو بنى أبينا، فرشقوه - كما صنع القلب بكعب - رشقًا واحدًا، فقتلوه، فكان أوّل من قتل بين يدي أمير المؤمنين وعائشة رضي الله عنها، فقالت أمّ مسلم ترثيه: لا همّ إنّ مسلمًا أتاهم ** مستسلمًا للموت إذ دعاهم إلى كتاب الله لا يخشاهم ** فرمّلوه من دم إذ جاهم وأمّهم قائمة تراهم ** يأتمرون الغي لا تنهاهم كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم ابن شريك، عن أبيه، عن جدّه، قال: لما انهزمت مجنّبتا الكوفة عشيّة الجمل، صاروا إلى القلب - وكان ابن يثربي قاضي البصرة قبل كعب بن سور، فشهدهم هو وأخوه يوم الجمل، وهما عبد الله وعمرو، فكان واقفًا أمام الجمل على فرس - فقال علي: من رجل يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو المرادي، فاعترضه ابن يثربي، فاختلفا ضربتين، فقتله ابن يثربي، ثم حمل سيحان بن صوحان، فاعترضه ابن يثربي، فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي، ثم حمل علباء بن الهيثم، فاعترضه ابن يثربي، فقتله، ثم حمل صعصعة فضربه، فقتل ثلاثة أجهز عليهم في المعركة: علباء، وهند، وسيحان، وارتثّ صعصعة وزيد، فمات أحدهما، وبقى الآخر. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عمرو بن محمد، عن الشعبي، قال: أخذ الخطام يوم الجمل سبعون رجلًا من قريش، كلّهم يقتل وهو آخذ بالخطام، وحمل الأشتر فاعترضه عبد الله بن الزبير، فاختلفا ضربتين، ضربه الأشتر فأمّه، وواثبه عبد الله، فاعتنقه فخرّ به، وجعل يقول: اقتلوني ومالكًا - وكان الناس لا يعرفونه بمالك، ولو قال: والأشتر، وكانت له ألف نفس ما نجا منها شئ - وما زال يضطرب في يدي عبد الله حتى أفلت، وكان الرجل إذا حمل على الجمل ثم نجا لم يعد. وجرح يومئذ مروان وعبد الله بن الزبير. حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني عمّي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: حدثني محمد بن أبي يعقوب وابن عون، عن أبي رجاء، قال: قال يومئذ عمرو بن يثربي الضبي؛ وهو أخو عميرة القاضي: نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننزل بالموت إذا الموت نزل وزاد ابن عون - وليس في حديث ابن أبي يعقوب: القتل أحلى عندنا من العسل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن داود بن أبي هند، عن شيخ من بني ضبة، قال: ارتجز يومئذ ابن يثربي: أنا لمن أنكرني ابن يثربي ** قاتل علباء وهند الجملي وابن لصوحان على دين علي وقال: من يبارز؟ فبرز له رجل، فقتله، ثم برز له آخر فقتله، وارتجز وقال: اقتلهم وقد أرى عليًّا ** ولو أشا أوجرته عمريًّا فبرز له عمّار بن ياسر؛ وإنه لأضعف من بارزه، وإنّ الناس ليسترجعون حين قام عمار، وأنا أقول لعمار من ضعفه: هذا والله لاحق بأصحابه، وكان قضيفًا، حمش الساقين، وعليه سيف حمائله تشفّ عنه قريب من إبطه، فيضربه ابن يثربي بسيفه، فنشب في حجفته، وضربه عمار وأوهطه، ورمى أصحاب علي ابن يثربي بالحجارة حتى أثخنوه وارتثّوه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن حمّاد البرجمي، عن خارجة بن الصلت، قال: لما قال الضبّي يوم الجمل: نحن بني ضبّة أصحاب الجمل ** ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل ردّوا علينا شيخنا ثمّ بجل قال عمير بن أبي الحارث: كيف نردّ شيخكم وقد قحل ** نحن ضربنا صدره حتّى انجفل! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، قال: عقر الجمل رجل من بني ضبّة يقال له: ابن دلجة - عمرو أو بجير - وقال في ذلك الحارث بن قيس - وكان من أصحاب عائشة: نحن ضربنا ساقه فانجلا ** من ضربة بالنّفر كانت فيصلا لو لم نكوّن للرّسول ثقلا ** وحرمة لاقتسمونا عجّلا وقد نحل ذلك المثنّى بن مخرمة من أصحاب علي. شدة القتال يوم الجمل وخبر أعين بن ضبيعة واطلاعه في الهودج كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن نويرة، عن أبي عثمان، قال: قال القعقاع: ما رأيت شيئًا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفّين، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنّتنا ونتّكئ على أزجّتنا، وهم مثل ذلك حتى لو أنّ الرجال مشت عليها لاستقلّت بهم. حدثني عيسى بن عبد الرحمن المروزي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين العرني، قال: حدثنا يحيى بن يعلي الأسلمي، عن سليمان بن قرم، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان الكاهلي، قال: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنّبل حتى فنيت، وتطاعنّا بالرّماح حتى تشبّكت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت عليها الخيل لسارت، ثم قال علي: السيوف يا أبناء المهاجرين. قال الشيخ: فما دخلت دار الوليد إلا ذكرت ذلك اليوم. حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: حدثنا أبو فقيم، قال: حدثنا فطر، قال: سمعت أبا بشير قال: كنت مع مولاي زمن الجمل، فما مررت بدار الوليد قطّ، فسمعت أصوات القصّارين يضربون إلّا ذكرت قتالهم. حدثني عيسى بن عبد الرحمن المروزي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين، قال: حدثنا يحيى بن يعلي، عن عبد الملك بن مسلم، عن عيسى ابن حطّان قال: حاص الناس حيصة، ثم رجعنا وعائشة على جمل أحمر، في هودج أحمر، ما شبّهته إلا بالقنفذ من النبل. حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي؛ قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، قال: حدثني ابن عون، عن أبي رجاء، قال: ذكروا يوم الجمل فقلت: كأنّي أنظر إلى خدر عائشة كأنه قنفذ مما رمى في من النبل، فقلت لأبي رجاء: أقاتلت يومئذ؟ قال: والله لقد رميت بأسهم فما أدري ما صنعن. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن راشد السلمي، عن ميسرة أبي جميلة، أنّ محمد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر أتيا عائشة وقد عقر الجمل، فقطعا غرضة الرحل، واحتملا الهودج، فنحّياه حتى أمرهما علي فيه أمره بعد؛ قال: أدخلاها البصرة، فأدخلاها دار عبد الله بن خلف الخزاعي. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: أمر علي نفرًا بحمل الهودج من بين القتلى، وقد كان القعقاع وزفر بن الحارث أنزلاه عن ظهر البعير، فوضعاه إلى جنب البعير، فأقبل محمد ابن أبي بكر إليه ومعه نفر، فأدخل يده فيه، فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البرّ، قالت: عقوق. قال: عمّار بن ياسر: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أمّه؟ قالت: من أنت؟ قال: أنا ابنك البارّ عمّار؛ قالت: لست لك بأمّ؛ قال: بلى، وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم، وأتيتم مثل ما نقمتم، هيهات؛ والله لن يظفر من كان هذا دأبه. وأبرزوها بهودجها من القتلى، ووضعوها ليس قربها أحد، وكأنّ هودجها فرخ مقصّب مما فيه من النبل، وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعي حتى اطّلع في الهودج، فقالت: إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلّا حميراء؛ قالت: هتك الله سترك، وقطع يدك، وأبدى عورتك! فقتل بالبصرة وسلب، وقطعت يده، ورمى به عريانّا في خربة من خربات الأزد، فانتهى إليها علي، فقال: أي أمّه، يغفر الله لنا ولكم؛ قالت: غفر الله لنا ولكم. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الصعب بن حكيم ابن شريك، عن أبيه، عن جده، قال: انتهى محمد بن أبي بكر ومعه عمّار، فقطع الأنساع عن الهودج، واحتملاه، فلما وضعناه أدخل محمد يده وقال: أخوك محمد، فقالت: مذّمم، قال: يا أخيّة، هل أصابك شئ؟ قالت: ما أنت من ذاك؟ قال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت: بخير، قال: يغفر الله لك. قالت: ولك. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ولما كان من آخر الليل خرج الليل خرج محمد بعائشة حتى أدخلها البصرة، فأنزلها في دار عبد العزّي بن عثمان بن عبد الدار، وهي أمّ طلحة الطلحات بن عبد الله ابن خلف. وكانت الوقعة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين، في قول الواقدي. مقتل الزبير بن العوام رضي الله عنه كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الوليد بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انهزم الناس يوم الجمل عن طلحة والزّبير، ومضى الزبير رضي الله عنه حتى مرّ بعسكر الأحنف، فلما رآه وأخبر به قال: والله ما هذا بخيار، وقال للناس: من يأتينا بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه: أنا، فأتبعه، فلما لحقه نظر إليه الزبير - وكان شديد الغضب - قال: ما وراءك؟ قال: إنما أردت أن أسألك؛ فقال غلام للزّبير يدعى عطية كان معه: إنه معدّ؛ فقال: ما يهولك من رجل! وحضرت الصلاة، فقال ابن جرموز: الصلاة؛ فقال: الزبير: الصلاة، فنزلا، واستدبره ابن جرموز فطعنه من خلفه في جربّان درعه، فقتله، وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه، وخلّى عن الغلام، فدفنه بوادي السباع؛ ورجع إلى الناس بالخبر. فأما الأحنف فقال: والله ما أدري أحسنت أم أسأت! ثمّ انحدر إلى علي وابن جرموز معه، فدخل عليه، فأخبره، فدعا بالسيف، فقال: سيف طالما جلّى الكرب عن وجه رسول الله ﷺ! وبعث بذلك إلى عائشة، ثم أقبل على الأحنف فقال: تربّصت؛ فقال: ما كنت أراني إلّا قد أحسنت، وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإنّ طريقك الذي سلكت بعيد، وأنت إلي غدًا أحوج منك أمس، فاعرف إحساني، واستصف مودّتي لغد، ولا تقولنّ مثل هذا، فإني لم أزل لك ناصحًا. من انهزم يوم الجمل فاختفى ومضى في البلاد كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ومضى الزبير في صدر يوم الهزيمة راجلًا نحو المدينة، فقتله ابن جرموز، قالا: وخرج عتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم يوم الهزيمة، قد شجّجوا في البلاد، فلقوا عصمة بن أبير التيمي، فقال: هل لكم في الجوار؟ قالوا: من أنت؟ قال: عصمة بن أبير. قالوا: نعم، قال: فأنتم في جواري إلى الحول؛ فمضى بهم، ثم حماهم وأقام عليهم حتى برءوا، ثم قال: اختاروا أحبّ بلد إليكم أبلغكموه، قالوا: الشأم، فخرج بهم في أربعمائة راكب من تيم الرباب، حتى إذا وغلوا في بلاد كلب بدومة قالوا: قد وفّيت ذمّتك وذممهم، وقضيت الذي عليك فارجع، فرجع. وفي ذلك يقول الشاعر: وفي ابن أبير والرّماح شوارع ** بآل أبي العاصي وفاء مذكّرا وأما ابن عامر فإنه خرج أيضًا مشجّجًا، فتلقاه رجل من بني حرقوص يدعى مريًّا، فدعاه للجوار، فقال: نعم، فأجاره وأقام عليه، وقال: أي البلدان أحبّ إليك؟ قال: دمشق، فخرج به في ركب من بي حرقوص حتى بلغوا به دمشق. وقال حارثة بن بدر - وكان مع عائشة، وأصيب في الوقعة ابنه أو أخوه زراع: أتاني من الأنباء أنّ ابن عامر ** أناخ وألقي في دمشق المرسيا وأوى مروان بن الحكم إلى أهل بيت من عنزة يوم الهزيمة، فقال لهم: أعلموا مالك بن مسمع بكاني، فأتوا مالكًا فأخبروه بمكانه، فقال لأخيه مقاتل: كيف نصنع بهذا الرجل الذي قد بعث إليها يعلمنا بمكانه؟ قال: ابعث ابن أخي فأجره، والتمسوا له الأمان من علي، فإن آمنه فذاك الذي نحبّ وإن لم يؤمنه خرجنا به وبأسيافنا؛ فإن عرض له جالدنا دونه بأسيافنا، فإمّا أن نسلم، وأمّا أن نهلك كرامًا. وقد استشار غيره من أهله من قبل في الذي استشار فيه مقاتلًا، فنهاه، فأخذ برأي أخيه، وترك رأيهم، فأرسل إليه فأنزله داره، وعزم على منعه إن اضطر إلى ذلك، وقال: الموت دون الجوار وفاء، وحفظ لهم بنو مروان ذلك بعد، وانتفعوا به عندهم، وشرّفوهم بذلك، وأوى عبد الله بن الزبير إلى دار رجل من الأزد يدعى وزيرًا؛ وقال: ائت أمّ المؤمنين فأعلمها بمكاني، وإيّاك أن يطّلع على هذا محمد بن أبي بكر، فأتى عائشة رضي الله عنها فأخبرها، فقالت: علي بمحمد، فقال: يا أمّ المؤمنين، إنه قد نهاني أن يعلم به محمد، فأرسلت إليه فقالت: اذهب مع هذا الرجل حتى تجيئني بان أختك؛ فانطلق معه فدخل بالأزدي على ابن الزبير، قال: جئتك والله بما كرهت، وأبت أمّ المؤمنين إلّا ذلك، فخرج عبد الله ومحمد وهما يتشاتمان، فذكر محمد عثمان فشتمه وشتم عبد الله محمدًا حتى انتهى إلى عائشة في دار عبد الله بن خلف - وكان عبد الله ابن خلف قبل يوم الجمل مع عائشة، وقتل عثمان أخوه علي - وأرسلت عائشة في طلب من كان جريحًا فضمّت منهم ناسًا، وضمّت مروان فيمن ضمّت، فكانوا في بيوت الدار. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وغشى الوجوه عائشة وعلي في عسكره، ودخل القعقاع بن عمرو على عائشة في أوّل من دخل، فسلّم عليها، فقالت: إني رأيت رجلين بالأمس اجتلدا بين يدي واتجزا بكذا، فهل تعرف كوفيّك منهما؟ قال: نعم، ذاك الذي قال: أعقّ أمّ نعلم، وكذب والله، إنك لأبرّ أمّ نعلم، ولكن لم تطاعي. فقالت: والله لوددت أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وخرج فأتى عليًّا فأخبره أنّ عائشة سألته، فقال: ويحك! من الرجلان؟ قال: ذلك أبو هالة الذي يقول: كيما أرى صاحبه عليّا فقال: والله لوددت أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة، فكان قولهما واحدًا. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وتسلّل الجرحى في جوف الليل، ودخل البصرة من كان يطيق الانبعاث منهم، وسألت عائشة يومئذ عن عدّة من الناس، منهم من كان معها، ومنهم من كان عليها، وقد غشيها الناس، وهي في دار عبد الله بن خلف، فكلما نعى لها منهم واحد قالت: يرحمه الله، فقال لها رجل من أصحابها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله ﷺ: فلان في الجنة، وفلان في الجنة. وقال علي بن أبي طالب يومئذ: إني لأرجو ألّا يكون أحد من هؤلاء نقّي قلبه إلّا أدخله الله في الجنّة. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن عطيّة، عن أبي أيّوب، عن علي، قال: ما نزّل على النبي ﷺ آية أفرح له من قول الله عز وجل: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير "، فقال ﷺ: " ما أصاب المسلم في الدنيا من مصيبة في نفسه فبذنب، وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر، وما أصابه في الدنيا فهو كفّارة له وعفو منه لا يعتدّ عليه فيه عقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عز وجل عنه في الدنيا فقد عفا عنه، والله أعظم من أن يعدو في عفوه ". توجع علي على قتلى الجمل ودفنهم وجمعه ما كان في العسكر والبعث به إلى البصرة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وأقام علي بن أبي طالب في عسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة، وندب الناس إلى موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، فطاف علي معهم في القتلى، فلما أتى بكعب بن سور قال: زعمتم أنما خرج معهم السفهاء، وهذا الحبر قد ترون. وأتى علي عبد الرحمن بن عتّاب فقال: هذا يعسوب القوم - يقول الذي كانوا يطيفون به - يعني أنهم قد كانوا اجتمعوا عليه، ورضوا به لصلاتهم. وجعل علي كلما مرّ برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلّا الغوغاء، هذا العابد المجتهد. وصلّى على قتلاهم من أهل البصرة، وعلا قتلاهم من أهل الكوفة؛ وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء، فكانوا مدنيّين ومكيّين، ودفن علي الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في المعسكر من شئ، ثم بعث به إلى مسجد البصرة؛ أن من عرف شيئًا فليأخذه، إلّا سلاحًا كان في الخزائن عليه سمة السلطان، فإنه لمّا بقي لم يعرف، خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال الله عز وجل، لا يحلّ لمسلم من مال المسلم المتوفىّ شئ، وإنما كان ذلك السلاح في أيديهم من غير تنفيل من السلطان. عدد قتلى الجمل كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: كان قتلى الجمل حول الجمل عشرة آلاف؛ نصفهم من أصحاب علي، ونصفهم من أصحاب عائشة؛ من الأزد ألفان، ومن سائر اليمن خمسمائة، ومن مضر ألفان، وخمسمائة من قيس، وخمسمائة من تميم، وألف من بني ضبّة، وخمسمائة من بكر بن وائل. وقيل: قتل من أهل البصرة في المعركة الأولى خمسة آلاف، وقتل من أهل البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف، فذلك عشرة آلاف قتيل من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة خمسة آلاف. قالا: وقتل من بني عدي يومئذ سبعون شيخًا، كلهم قد قرأ القرآن، سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زلت أرجو النصر حتى خفيت أصوات بني عدي. دخول علي على عائشة وما أمر به من العقوبة فيمن تناولها كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: ودخل علي البصرة يوم الاثنين، فانتهى إلى المسجد، فصلى فيه، ثم دخل البصرة، فأتاه الناس، ثم راح إلى عائشة على بغلته، فلما انتهى إلى دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة، وجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابنى خلف مع عائشة، وصفيّة ابنة الحارث مختمرة تبكي، فلما رأته قالت: يا علي، يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجمع، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت ولد عبد الله منه! فلم يردّ عليها شيئًا، ولم يزل على حاله حتى دخل على عائشة، فسلّم عليها، وقعد عندها، وقال لها: جبهتنا صفيّة، أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم، فلما خرج علي أقبلت عليه فأعادت عليه الكلام، فكفّ بغلته وقال: أما لهممت - وأشار إلى الأبواب من الدار - أن أفتح هذا الباب واقتل من فيه، ثم هذا فأقتل من فيه، ثم هذا فأقتل من فيه - وكان أناس من الجرحى قد لجئوا إلى عائشة، فأخبر علي بمكانهم عندها، فتغافل عنهم - فسكتت. فخرج علي، فقال رجل من الأزد: والله لا تفلتنا هذه المرأة. فغضب وقال: صه! لا تهتكنّ سترًا، ولا تدخلنّ دارًا، ولا تهيّجنّ امرأة بأذى، وإن شتمن أعراضكم، وسفّهن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهنّ ضعاف؛ ولقد كنا نؤمر بالكفّ عنهنّ، وإنهنّ لمشركات، وإن الرجل ليكافئ المرأة ويتناولها بالضّرب فيعيّر بها عقبه من بعده، فلا يبلغنّي عن أحد عرض لامرأة فأنكّل به شرار الناس. ومضى علي، فلحق به رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، قام رجلان من لقيت على الباب، فتناولا من هو أمضّ لك شتيمة من صفيّة. قال: ويحك! لعلها عائشة. قال: نعم، قام رجلان منهم على باب الدار فقال أحدهما: جزيت عنّا أمّنا عقوقا وقال الآخر: يا أمّنا توبي فقد خطيت فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين، فقال: اضرب أعناقهما، ثم قال: لأنهكنّهما عقوبة. فضربهما مائة مائة، وأخرجهما من ثيابهما. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن الحارث بن حصيرة، عن أبي الكنود، قال: هما رجلان من أزد الكوفة يقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله. بيعة أهل البصرة عليا وقسمه ما في بيت المال عليهم كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: بايع الأحنف من العشي لأنه كان خارجًا هو وبنو سعد، ثم دخلوا جميعًا البصرة، فبايع أهل البصرة على راياتهم، وبايع علي أهل البصرة حتى الجرحى والمستأمنة، فلما رجع مروان لحق بمعاوية. وقال قائلون: لم يبرح المدينة حتى فرغ من صفين. قالا: ولما فرغ علي من بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه الوقعة، فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة خمسمائة، وقال: لكم إن أظفركم الله عز وجل بالشأم مثلها إلى أعطياتكم. وخاض في ذلك السبئيّة، وطعنوا على علي من وراء وراء. سيرة علي فيمن قاتل يوم الجمل كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن راشد، عن أبيه، قال: كان في سيرة علي ألّا يقتل مدبرًا ولا يذفّف على جريح، ولا يكشف سترًا، ولا يأخذ مالًا؛ فقام قوم يومئذ: ما يحلّ لنا دماءهم، ويحرم علينا أموالهم؟ فقال علي: القوم أمثالكم، من صفح عنّا فهو منّا، ونحن منه، ومن لجّ حتى يصاب فقاتله منّى على الصدر والنّحر، وإنّ لكم في خمسه لغنى، فيومئذ تكلّمت الخوارج. بعثة الأشتر إلى عائشة بجمل اشتراه لها وخروجها من البصرة إلى مكة حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: لما فرغوا يوم الجمل أمرني الأشتر فانطلقت فاشتريت له جملًا بسبعمائة درهم من رجل من مهرة، فقال: انطلق به إلى عائشة فقل لها: بعث به إليك الأشتر مالك ابن الحارث، وقال: فهذا عوض من بعيرك، فانطلقت به إليها، فقلت: مالك يقرئك السلام ويقول: إنّ هذا البعير مكان بعيرك؛ قالت: لا سلّم الله عليه؛ إذ قتل يعسوب العرب - تعني ابن طلحة - وصنع بابن أختي ما صنع! قال: فرددته إلى الأشتر، وأعلمته، قال: فأخرج ذراعين شعراوين؛ وقال: أرادوا قتلي فما أصنع! كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: قصدت عائشة مكة فكان وجهها من البصرة، وانصرف مروان والأسود بن أبي البختري إلى المدينة من الطريق، وأقامت عائشة بمكّة إلى الحجّ، ثم رجعت إلى المدينة. ما كتب به علي بن أبي طالب من الفتح إلى عامله بالكوفة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وكتب علي بالفتح إلى عامله بالكوفة حين كتب في أمرها وهو يومئذ بمكة: من عبد الله علي أمير المؤمنين. أمّا بعد، فإنا التقينا في النصف من جمادى الآخرة بالخريبة - فناء من أفنية البصرة - فأعطاهم الله عز وجل سنّة المسلمين، وقتل منّا ومنهم قتلى كثيرة، وأصيب ممّن أصيب منا ثمامة بن المثني، وهند بن عمرو، وعلباء بن الهيثم، وسيحان وزيد ابنا صوحان، ومحدوج. وكتب عبيد الله بن رافع. وكان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة في جمادى الآخرة. أخذ علي البيعة على الناس وخبر زياد بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن أبي بكرة وكان في البيعة: عليك عهد الله وميثاقه بالوفاء لتكوننّ لسلمنا سلما، ولحربنا حربًا، ولتكفّنّ عنّا لسانك ويدك. وكان زياد بن أبي سفيان من اعتزل ولم يشهد المعركة، قعد. وكان في بيت نافع بن الحارث، وجاء عبد الرحمن ابن أبي بكرة في المستأمنين مسلّمًا بعد ما فرغ علي من البيعة، فقال له علي: وعمّك المتربصّ المقاعد بي! فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنه لك لوادّ، وإنه على مسرّتك لحريص، ولكنه بلغني أنه يشتكي، فأعلم لك علمه ثم آتيك. وكتم عليًّا مكانه حتى استأمره، فأمره أن يعلمه فأعلمه، فقال علي: امش أمامي فاهدني إليه، ففعل؛ فلما دخل عليه قال: تقاعدت عني، وتربّصت - ووضع يده على صدره، وقال: هذا وجع بيّن - فاعتذر إليه زياد، فقبل عذره واستشاره. وأراده علي على البصرة، فقال: رجل من أهل بيتك يسكن إليه الناس؛ فإنه أجدر أن يطمئنّوا أو ينقادوا، وسأكفيكه وأشير عليه. فافترقا على ابن عباس، ورجع علي إلى منزله. تأمير ابن عباس على البصرة وتولية زياد الخراج وأمّر ابن عبّاس على البصرة، وولّى زيادًا الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه، فكان ابن عباس يقول: استشرته عند هنة كانت من الناس، فقال: إن كنت تعلم أنك على الحقّ، وأنّ من خالفك على الباطل، أشرت عليك بما ينبغي، وإن كنت لا تدري، أشرت عليك بما ينبغي كذلك. فقلت: إنّي على الحقّ، وإنهم على الباطل، فقال: اضرب بمن أطاعك من عصاك ومن ترك أمرك، فإن كان أعزّ للإسلام وأصلح له أن يضرب عنقه فاضرب عنقه. فاستكتبته، فلما ولّى رأيت ما صنع، وعلمت أنه قد اجتهد لي رأيه، وأعجلت السبئيّة عليًّا عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمرًا إن كانوا أرادوه، وقد كان له فيها مقام. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: علم أهل المدينة بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس من نسر مرّ بما حول المدينة، معه شئ متعلّقة، فتأمّله الناس فوقع، فإذا كفّ فيها خاتم، نقشه عبد الرحمن بن عتّاب، وجفل من بين مكة والمدينة من أهل البصرة، من قرب من البصرة أو بعد، وقد علموا بالوقعة مما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام. تجهيز علي عليه السلام عائشة رضي الله عنها من البصرة كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة، قالا: وجهّز علي عائشة بكلّ شئ ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع، وأخرج معها كلّ من نجا ممّن خرج معها إلّا من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهّز يا محمّد، فبلّغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه، جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس وودّعوها وودّعتهم، وقالت: يا بني، تعتّب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة، فلا يعتدّنّ أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك؛ إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلّا ما يكون بين المرأة وأحمائها؛ وإنه عندي على معتبّي من الأخيار. وقال علي: يا أيها الناس، صدقت والله وبرّت، ما كان بيني وبينها إلّا ذلك، وإنها لزوجة نبيّكم ﷺ في الدنيا والآخرة. وخرجت يوم السبت لغرّة رجب سنة ست وثلاثين، وشيّعها علي أميالا، وسرّح بنيه معها يومًا. ما روي من كثرة القتلى يوم الجمل حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، قال: حدثنا محمد ابن الفضل بن عطيّة الخراساني، عن سعيد القطعي، قال: كّنا نتحدث أنّ قتلى الجمل يزيدون على ستّة آلاف. حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان بن صالح، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: حدثني الزبير بن الخرّيت، عن أبي لبيد لمازة بن زياد، قال: قلت له: لم تسبّ عليًّا؟ قال: ألا أسبّ رجلًا قتل منا ألفين وخمسمائة، والشمس ها هنا! قال جرير بن حازم: وسمعت ابن أبي يعقوب يقول: قتل علي بن أبي طالب يوم الجمل ألفين وخمسمائة؛ ألف وثلثمائة وخمسون من الأزد وثمانمائة من بني ضبّة، وثلثمائة وخمسون من سائر الناس. وحدثني أبي، عن سليمان، عن عبد الله، عن جرير، قال: قتل المعرّض بن علاط يوم الجمل، فقال أخوه الحجّاج: لم أر يومًا كان أكثر ساعيًا ** بكفّ شمال فارقتها يمينها قال معاذ: وحدثني عبد الله، قال: قال جرير: قتل المعرّض بن علاط يوم الجمل، فقال أخوه الحجّاج: لم أر يومًا كان أكثر ساعيًا ** بكفّ شمال فارقتها يمينها ما قال عمار بن ياسر لعائشة حين فرغ من الجمل حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، عن سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، قال: سمعت أبا يزيد المديني يقول: قال عمّار بن ياسر لعائشة - رضي الله عنها - حين فرغ القوم: يا أمّ المؤمنين، ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك! قالت: أبو اليقظان! قال: نعم، قالت: والله إنّك - ما علمت - قوّال بالحق؛ قال: الحمد لله الذي قضى لي على لسانك. آخر حديث الجمل - بعثة علي بن أبي طالب قيس بن سعد بن عبادة أميرا على مصر وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ وثلاثين - قتل محمد بن أبي حذيفة، وكان سبب قتله أنه لما خرج المصريّون إلى عثمان مع محمد بن أبي بكر، أقام بمصر، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وضبطها، فلم يزل بها مقيمًا حتى قتل عثمان رضي الله عنه، وبويع لعلي، وأظهر معاوية الخلاف، وبايعه على ذلك عمرو بن العاص، فسار معاوية وعمرو إلى محمد بن أبي حذيفة قبل قدوم قيس بن سعد مصر، فعالجا دخول مصر، فلم يقدرا على ذلك، فلم يزالا يخدعان محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى عريش مصر في ألف رجل، فتحصّن بها، وجاءه عمرو فنصب المنجنيق عليه حتى نزل في ثلاثين من أصحابه وأخذوا وقتلوا رحمهم الله. وأما هشام بن محمد فإنه ذكر أن أبا مخنف لوط بن يحيى بن سعيد ابن مخنف بن سليم، حدثه عن محمد بن يوسف الأنصاري من بني الحارث بن الخزرج، عن عبّاس بن سهل الساعدي أنّ محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف هو الذي كان سرّب المصريّين إلى عثمان بن عفان، وإنهم لما ساروا إلى عثمان فحصروه وثب هو بمصر على عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي القرشي، وهو عامل عثمان يومئذ على مصر، فطرده منها، وصلّى بالناس، فخرج عبد الله ابن سعد من مصر فنزل على تخوم أرض مصر مما يلي فلسطين، فانتظر ما يكون من أمر عثمان، فطلع راكب فقال: يا عبد الله، ما وراءك؟ خبّرنا بخبر الناس خلفك؛ قال: أفعل، قتل المسلمون عثمان رضي الله عنه، فقال عبد الله بن سعد: " إنّا لله وإنّا إليه راجهون! "، يا عبد الله، ثم صنعوا ماذا؟ قال: ثم بايعوا ابن عم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب، قال عبد الله بن سعد: " إنّا لله وإنّا إليه راجعون "، قال له الرجل: كأنّ ولاية علي بن أبي طالب عدلت عندك قتل عثمان! قال: أجل. قال: فنظر إليه الرجل، فتأملّه فعرفه وقال: كأنّك عبد الله بن أبي سرح أمير مصر! قال: أجل؛ قال له الرجل: فإن كان لك في نفسك حاجة فالنّجاء النجاء، فإنّ رأى أمير المؤمنين فيك وفي أصحابك سيّئ، إن ظفر بكم قتلكم أو نفاكم عن بلاد المسلمين، وهذا بعدي أمير يقدم عليك. قال له عبد الله: ومن هذا الأمير؟ قال: قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري؛ قال عبد الله بن سعد: أبعد الله محمد بن أبي حذيفة! فإنه بغى على ابن عمّه، وسعى عليه، وقد كان كفله ورّباه وأحسن إليه، فأساء جواره، ووثب على عمّاله، وجهز الرجال إليه حتى قتل، ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان، لم يمتّعه بسلطان بلاده حولا ولا شهرًا، ولم يره لذلك أهلًا، فقال له الرجل: انج بنفسك، لا تقتل. فخرج عبد الله بن سعد هاربًا حتى قدم على معاوية ابن أبي سفيان دمشق. قال أبو جعفر: فخبر هشام هذا يدلّ على أن قيس بن سعد ولى مصر ومحمد بن أبي حذيفة حي. وفي هذه السنة بعث علي بن أبي طالب على مصر قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فكان من أمره ما ذكر هشام بن محمد الكلبي، قال: حدثني أبو مخنف، عن محمد بن يوسف بن ثابت، عن سهل بن سعد، قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه وولى علي بن أبي طالب الأمر، دعا قيس ابن سعد الأنصاري فقال له: سر إلى مصر فقد ولّيتكها، واخرج إلى رحلك، واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوّك وأعزّ لولّيك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن، واشتدّ على المريب، وارفق بالعامة والخاصّة، فإنّ الرفق يمن. فقال له قيس بن سعد: رحمك الله يا أمير المؤمنين! فقد فهمت ما قلت، أمّا قولك: اخرج إليها بجند، فوالله لئن لم أدخلها إلّا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدًا، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن أنت احتجت كانوا عدّة لك، وأنا أصير إليها بنفسي وأهل بيتي. وأمّا ما أوصيتني به من المرفق والإحسان، فإنّ الله عز وجل هو المستعان على ذلك. قال: فخرج قيس بن سعد في سبعة نفر من أصحابه حتى دخل مصر، فصعد المنبر، فجلس عليه، وأمر بكتاب معه من أمير المؤمنين فقرئ على أهل مصر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أمّا بعد، فإنّ الله عز وجل بحسن صنعه وتقديره وتدبيره، اختار الإسلام دينًا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل عليهم السلام إلى عباده، وخصّ به من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله عز وجل به هذه الأمّة، وخصّهم به من الفضيلة أن بعث إليهم محمدًا ﷺ، فعلّمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنّة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما لا يتفرّقوا، وزكّاهم لكيما يتطّهروا، ورفّههم لكيما لا يجوروا، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عز وجل صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم إنّ المسلمين استخلفوا به أميرين صالحين، عملا بالكتاب والسنّة، وأحسنا السيرة، ولم يعدوا السنّة، ثم توفّاهما الله عز وجل، رضي الله عنهما. ثم ولى بعدهما وال فأحدث أحداثًا، فوجدت الأمة عليه مقالًا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيّروا، ثم جاءوني فبايعوني، فأستهدي الله عز وجل بالهدى، وأستعينه على التقوى. ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة رسوله ﷺ، والقيام عليكم بحقه والتنفيذ لسنّته، والنّصح لكم بالغيب، والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة أميرًا، فوازروه وكانفوه، وأعينوه على الحقّ، وقد أمرته بالإحسان إلى محسنكم، والشدّة على مريبكم، والرّفق بعوامّكم وخواصّكم، وهو ممّن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته. أسأل الله عز وجل لنا ولكم عملًا زاكيًا، وثوابًا جزيلًا، ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب عبيد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين. قال: ثمّ إنّ قيس بن سعد قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على محمد ﷺ، وقال: الحمد لله الذي جاء بالحقّ، وأمات الباطل، وكبت الظالمين. أيّها الناس، إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد محمد نبينا ﷺ، فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ﷺ، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم. فقام الناس فبايعوا، واستقامت له مصر، وبعث عليها عمّاله، إلّا أن قرية منها يقال لها: خربتا فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبها رجل من كنانة ثم من بنى مدلج يقال له يزيد بن الحارث من بني الحارث بن مدلج. فبعث هؤلاء إلى قيس بن سعد: إنّا لا نقاتلك فابعث عمّالك، فالأرض أرضك، ولكن أقرّنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس. قال: ووثب مسلمة بن مخلّد الأنصاري، ثمّ من ساعده من رهط قيس ابن سعد، فنعى عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس بن سعد: ويحك، علي تثب! فوالله ما أحبّ أنّ لي ملك الشأم إلى مصر وأني قتلتك. فبعث إليه مسلمة: إني كافّ عنك ما دمت أنت والي مصر. قال: وكان قيس بن سعد له حزم ورأي، فبعث إلى الذين بخربتا: إنّي لا أكرهكم على البيعة، وأنا أدعكم وأكفّ عنكم. فهادنهم وهادن مسلمة بن مخلّد، وجبى الخراج، ليس أحد من الناس ينازعه. قال: وخرج أمير المؤمنين إلى أهل الجمل وهو على مصر، ورجع إلى الكوفة من البصرة وهو بمكانه، فكان أثقل خلق الله على معاوية بن أبي سفيان لقربه من الشأم، مخافة أن يقبل إليه علي في أهل العراق، ويقبل إليه قيس بن سعد في أهل مصر، فيقع معاوية بينهما. وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد - وعلي بن أبي طالب يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفّين: من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد. سلام عليك، أمّا بعد، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان بن عفان رضي الله عنه في أثرة رأيتموها، أو ضربة سوط ضربها، أو شتيمة رجل، أو في تسييره آخر، أو في استعماله الفتي، فإنكم قد علمتم - إن كنتم تعلمون - أنّ دمه لم يكن يحلّ لكم، فقد ركبتم عظيمًا من الأمر، وجئتم شيئًا إدًّا، فتب إلى الله عز وجل يا قيس ابن سعد. فإنك كنت في المجلبين على عثمان بن عفان - إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئًا - فأمّا صاحبك فإنا استيقنّا أنّه الذي أغرى به الناس، وحملهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يسلم دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان فافعل. تابعنا على أمرنا، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني غير هذا مما تحبّ، فإنّك لا تسألني شيئًا إلا أوتيته، واكتب إلي برأيك فيما كتبت به إليك. والسلام. فلما جاءه كتاب معاوية أحبّ أن يدافعه ولا يبدي له أمره، ولا يتعجّل له حربه، فكتب إليه: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من قتل عثمان، وذلك أمر لم أقارفه، ولم أطف به. وذكرت أنّ صاحبي هو أغرى الناس بعثمان، ودسّهم إليه حتى قتلوه، وهذا ما لم أطّلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان، فأوّل الناس كان فيه قيامًا عشيرتي. وأمّا ما سألتني من متابعتك، وعرضت علي من الجزاء به، فقد فهمته، وهذا أمر لي فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كافّ عنك، ولن يأتيك من قبلي شئ تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله، والمستجار الله عز وجل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. قال: فلما قرأ معاوية كتابه، لم يره إلّا مقاربًا مباعدًا، ولم يأمن أن يكون له في ذلك مباعدًا مكايدًا، فكتب إليه معاوية أيضًا: أمّا بعد، فقد قرأت كتابك، فلم أرك تدنو فأعدّك سلمًا، ولم أرك تباعد فأعدّك حربًا، أنت فيما هاهنا كحنك الجزور، وليس مثلي يصانع المخادع، ولا ينتزع للمكايد، ومعه عدد الرجال، وبيده أعنّة الخيل؛ والسلام عليك. فلما قرأ قيس بن سعد كتاب معاوية، ورأى أنه لا يقبل معه المدافعة والمماطلة، أظهر له ذات نفسه، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من قيس بن سعد، إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد، فإنّ العجب من اغترارك بي، وطمعك في، واستسقاطك رأيي. أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقولهم للحق، وأهداهم سبيلًا، وأقربهم من رسول الله ﷺ وسيلة، وتأمرني بالدّخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم للزّور، وأضلّهم سبيلًا، وأبعدهم من الله عز وجل ورسوله ﷺ وسيلة، ولد ضالّين مضلّين، طاغوت من طواغيت إبليس! وأمّا قولك إني مالئ عليك مصر خيلًا ورجلًا فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمّ إليك؛ لذو جدّ، والسلام. فلما بلغ معاوية كتاب قيس أيس منه، وثقل عليه مكانه. حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: كانت مصر من حين علي، عليها قيس بن سعد بن عبادة وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله ﷺ، وكان من ذوي الرأي والبأس، وكان معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص جاهدين على أن يخرجاه من مصر ليلغبا عليها، فكان قد امتنع فيها بالدّهاء والمكايدة، فلم يقدرا عليه، ولا على أن يفتتحا مصر؛ حتى كاد معاوية قيس بن سعد من قبل علي، وكان معاوية يحدث رجالًا من ذوي الرأي من قريش يقول: ما ابتدعت مكايدة قطّ كانت أعجب عندي من مكايدة كدت بها قيسًا من قبل علي وهو بالعراق حين امتنع منّي قيس. قلت لأهل الشأم: لا تسبّوا قيس بن سعد، ولا تدعوا إلى عزوه، فإنه لنا شيعة، يأتينا كيّس نصيحته سرًّا. ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، ويؤمّن سربهم؛ ويحسن إلى كلّ راكب قدم عليه منكم، لا يستنكرونه في شئ!. قال معاوية: وهممت أن أكتب بذلك إلى شيعتي من أهل العراق، فيسمع بذلك جواسيس علي عندي وبالعراق. فبلغ ذلك عليًّا، ونماه إليه محمد بن أبي بكر ومحمّد بن جعفر بن أبي طالب. فلما بلغ ذلك عليًّا اتهم قيسًا، وكتب إليه يأمره بقتال أهل خربتا - وأهل خربتا يومئذ عشرة آلاف - فأبى قيس بن سعد أن يقاتلهم، وكتب إلى علي: إنهم وجوه أهل مصر وأشرافهم، وأهل الحفاظ منهم، وقد رضوا منّي أن أؤمّن سربهم، وأجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم، وقد علمت أنّ هواهم مع معاوية، فلست مكايدهم بأمر أهون علي وعليك من الذي أفعل بهم، ولو أني غزوتهم كانوا لي قرنًا، وهو أسود العرب، ومنهم بسر بن أبي أرطأة، ومسلمة بن مخلّد، ومعاوية بن حديح، فذرني فأنا أعلم بما أداري منهم. فأبى علي إلّا قتالهم، وأبى قيس أن يقاتلهم. فكتب قيس إلى علي: إن كنت تتهمني فاعزلني عن عملك، وابعث إليه غيري. فبعث علي الأشتر أميرًا إلى مصر، حتى إذا صار بالقلزم شرب شربة عسل كان فيها حتفه. فبلغ حديثهم معاوية وعمرا، فقال عمرو: إن لله جندًا من عسل. فلما بلغ عليًّا وفاة الأشتر بالقلزم بعث محمد بن أبي بكر أميرًا على مصر. فالزّهري يذكر أنّ عليًّا بعث محمد بن أبي بكر أميرًا على مصر بعد مهلك الأشتر بقلزم، وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر في خبره أنّ عليًّا بعث بالأشتر أميرًا على مصر بعد مهلك محمد بن أبي بكر. رجع الحديث إلى حديث هشام بن أبي مخنف: ولما أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره، شقّ عليه ذلك، لما يعرف من حزمه وبأسه، وأظهر للناس قبله؛ أنّ قيس بن سعد قد تابعكم، فادعوا الله له، وقرأ عليهم كتابه الذي لان له فيه وقاربه. قال: واختلق معاوية كتابًا من قيس بن سعد، فقرأه على أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد، سلام عليك، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعد، فإنّي لمّا نظرت رأيت أنه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلمًا محرّمًا برًّا تقيًّا، فنستغفر الله عز وجل لذنوبنا، ونسأله العصمة لديننا. ألا وأنّي قد ألقيت إليكم بالسّلم، وإني أجبتك إلى قتال قتلة عثمان، إمام الهدى المظلوم، فعوّل علي فيما أحببت من الأموال والرجال أعجّل عليك، والسلام. فشاع في أهل الشام أنّ قيس بن سعد قد بايع معاوية بن أبي سفيان، فسرّحت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك؛ فلما أتاه ذلك أعظمه وأكبره، وتعجّب له، ودعا بنيه، ودعا عبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك، فقال: ما رأيكم؟ فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل قيسًا عن مصر. قال لهم علي: إني والله ما أصدّق بهذا على قيس؛ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، اعزله، فوالله لئن كان هذا حقًّا لا يعتزل لك إن عزلته. فإنهم كذلك إذ جاء كتاب من قيس بن سعد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أنّ قبلي رجالًا معتزلين قد سألوني أن أكفّ عنهم، وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس، فنرى ويروا رأيهم، فقد رأيت أن أكفّ عنهم، وألّا أتعجّل حربهم، وأن أتألّفهم فيما بين ذلك لعلّ الله عز وجل أن يقبل بقلوبهم، ويفرّقهم عن ضلالتهم، إن شاء الله. فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، ما أخوفني أن يكون هذا ممالأة لهم منه، فمره يا أمير المؤمنين بقتالهم، فكتب إليه علي: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فسر إلى القوم الّذين ذكرت، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون وإلّا فناجزهم إن شاء الله. فلما أتى قيس بن سعد الكتاب فقرأه، لم يتمالك أن كتب إلى أمير المؤمنين: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد عجبت لأمرك، أتأمرني بقتال قوم كافّين عنك، مفرّغيك لقتال عدوّك! وإنّك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوّك، فأطعني يا أمير المؤمنين، واكفف عنهم، فإنّ الرأي تركهم، والسلام. فلما أتاه هذا الكتاب قال له عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين، ابعث محمد بن أبي بكر على مصر يكفك أمرها، واعزل قيسًا، والله لقد بلغني أن قيسًا يقول: والله إنّ سلطانًا لا يتمّ إلّا بقتل مسلمة بن مخلّد لسلطان سوء؛ والله ما أحبّ أنّ لي ملك الشأم إلى مصر وأني قتلت ابن المخلّد. قال: وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمّه، فبعث علي محمد بن أبي بكر على مصر، وعزل عنها قيسًا. ولاية محمد بن أبي بكر مصر قال هشام، عن ابن مخنف: فحدثني الحارث بن كعب الوالبي - من والبة الأزد - عن أبيه، أنّ عليًّا كتب معه إلى أهل مصر كتابًا، فلما قدم به على قيس قال له قيس: ما بال أمير المؤمنين! ما غيّره؟ أدخل أحد بيني وبينه؟ قال له: لا، وهذا السلطان سلطانك؟! قال: لا، والله لا أقيم معك ساعة واحدة. وغضب حين عزله، فخرج منها مقبلًا إلى المدينة، فقدمها، فجاءه حسان بن ثابت شامتًا به - وكان حسان عثمانيًّا - فقال له: نزعك علي بن أبي طالب، وقد قتلت عثمان فبقى عليك الإثم، ولم يحسن لك الشكر! فقال له قيس بن سعد: يا أعمى القلب والبصر، والله لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حربًا لضربت عنقك؛ اخرج عنّي. ثم إن قيسًا خرج هو وسهل بن حنيف حتى قدما على علي، فخبّره قيس؛ فصدّقه علي. ثم إن قيسًا وسهلًا شهدا مع علي صفّين. وأما الزهري، فإنه قال فيما حدثني به عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري، أنّ محمد بن أبي بكر قدم مصر وخرج قيس فلحق بالمدينة، فأخافه مروان والأسود بن أبي البخترّي، حتى إذا خاف أن يؤخذ أو يقتل، ركب راحلته، فظهر إلى علي. فبعث معاوية إلى مروان والأسود يتغيّظ عليهما، ويقول: أمددتما عليًّا بقيس بن سعد ورأيه ومكانه، فوالله لو أنّكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لي من إخراجكما قيس بن سعد إلى علي. فقدم قيس بن سعد على علي، فلما باثّه الحديث وجاءهم قتل محمد ابن أبي بكر، عرف أنّ قيس بن سعد كان يقاسي أمورًا عظامًا من المكايدة، وأنّ من كان يهزه على عزل قيس بن سعد لم ينصح له، فأطاع علي قيس ابن سعد في الأمر كلّه. قال هشام: عن أبي مخنف، قال: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن أبيه، قال: كنت مع محمد بن أبي بكر حين قدم مصر، فلمّا قدم قرأ عليهم عهده: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى محمد بن أبي بكر حين ولّاه مصر، وأمره بتقوى الله والطاعة في السرّ والعلانية، وخوف الله عز وجل في الغيب والمشهد، وباللين على المسلمين، وبالغلظة على الفاجر، وبالعدل على أهل الذمّة، وبإنصاف المظلوم، وبالشدّة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين، ويعذّب المجرمين. وأمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة والجماعة، فإنّ لهم في ذلك من العاقبة وعظيم المثوبة ما لا يقدرون قدره، ولا يعرفون كنهه، وأمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل، لا ينتقص منه ولا يبتدع فيه، ثمّ يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه من قبل، وأن يلين لهم جناحه، وأن يواسي بينهم في مجلسه ووجهه، وليكن القريب والبعيد في الحقّ سواء. وأمره أن يحكم بين الناس بالحقّ، وأن يقوم بالقسط، ولا يتّبع الهوى، ولا يخف في الله عز وجل لومة لائم، فإنّ الله جلّ ثناؤه مع من اتقى وآثر طاعته وأمره على ما سواه. وكتب عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ لغرّة شهر رمضان. قال: ثمّ إن محمد بن أبي بكر قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الحمد لله الذي هدانا وإيّاكم لما اختلف فيه من الحقّ، وبصّرنا وإيّاكم كثيرًا مما عمي عنه الجاهلون. ألا إنّ أمير المؤمنين ولّاني أموركم، وعهد إلي ما قد سمعتم، وأوصاني بكثير منه مشافهة، ولن آلوكم خيرًا ما استطعت، " وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب "؛ فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله وتقوى؛ فاحمدوا الله عز وجل على ما كان من ذلك، فإنه هو الهادي، وإن رأيتم عاملًا عمل غير الحقّ زائغًا، فارفعوه إلي، وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد، وأنتم بذلك جديرون. وفّقنا الله وإيّاكم لصالح الأعمال برحمته، ثمّ نزل. وذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: وحدثني يزيد بن ظبيان الهمداني، أنّ محمد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لمّا ولّيَ؛ فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه ممّا لا يحتمل سماعها العامّة. قال: ولم يلبث محمد بن أبي بكر شهرًا كاملًا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم. فقال: يا هؤلاء، إمّا أن تدخلوا في طاعتنا، وإمّا أن تخرجوا من بلادنا، فبعثوا إليه: إنا لا نفعل، دعنا حتى ننظر إلى ما تصير إليه أمورنا، ولا تعجل بحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا منه، وأخذوا حذرهم، فكانت وقعة صفّين، وهم لمحمّد هائبون، فلما أتاهم صبر معاوية وأهل الشأم لعلي، وأنّ عليًّا وأهل العراق قد رجعوا عن معاوية وأهل الشأم، وصار أمرهم إلى الحكومة، اجترءوا على محمد بن أبي بكر، وأظهروا له المبارزة، فلما رأى ذلك محمد بعث الحارث بن جمهان الجعفي إلى أهل خربتا، وفيها زيد بن الحارث من بني كنانة، فقاتلهم، فقتلوه. ثم بعث إليهم رجلًا من كلب يدعى ابن مضاهم، فقتلوه. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة فيما قيل: قدم ماهويه مرزبان مرو مقرًّا بالصلح الذي كان جرى بينه وبين ابن عامر على علي. ذكر من قال ذلك قال علي بن محمد المدائني، عن أبي زكرياء العجلاني، عن ابن إسحاق، عن أشياخه، قال: قدم ماهويه أبراز مرزبان مرو على علي بن أبي طالب بعد الجمل مقرًّا بالصلح، فكتب له علي كتابًا إلى دهاقين مرو والأساورة والجند سلارين ومن كان في مرو: بسم الله الرحمن الرحيم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإن ما هويه أبراز مرزبان مرو جاءني، وإنّي رضيت عنه وكتب سنة ست وثلاثين. ثم إنهم كفروا وأغلقوا أبرشهر. توجيه علي خليد بن طريف إلى خراسان قال علي بن محمد المدائني: أخبرنا أبو مخنف، عن حنظلة بن الأعلم، عن ماهان الحنفي، عن الأصبغ بن نباتة المجاشعي، قال: بعث علي خليد بن قرّة اليربوعي - ويقال خليد بن طريف - إلى خراسان. ذكر خبر عمرو بن العاص ومبايعته معاوية وفي هذه السنة - أعني سنة ستّ وثلاثين - بايع عمرو بن العاص معاوية، ووافقه على محاربة علي، وكان السبب في ذلك ما كتب به إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان، قالوا: لما أحيط بعثمان - رضي الله عنه - خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجّهًا نحو الشأم، وقال: والله يا أهل المدينة، ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلّا ضربه الله عز وجل بذلّ؛ من لم يستطع نصره فليهرب. فسار وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، وخرج بعده حسّان بن ثابت، وتتابع علي ذلك ما شاء الله. قال سيف، عن أبي حارثة وأبي عثمان، قالا: بينا عمرو بن العاص جالس بعجلان ومعه ابناه، إذ مرّ بهم راكب فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة، فقال عمرو: ما اسمك؟ قال: حصيرة. قال عمرو: حصر الرجل، قال: فما الخبر؟ قال: تركت الرجل محصورًا؛ قال عمرو: يقتل. ثم مكثوا أيامًا، فمرّ بهم راكب، فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة؛ قال عمرو: ما اسمك؟ قال: قتّال؛ قال عمرو: قتل الرجل، فما الخبر؟ قال: قتل الرجل. قال: ثم لم يكن إلّا ذلك إلى أن خرجت، ثم مكثوا أيّامًا، فمرّ بهم راكب، فقالوا: من أين؟ قال: من المدينة؛ قال عمرو: ما اسمك؟ قال: حرب، قال عمرو: يكون حرب؛ فما الخبر؟ قال: قتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وبويع لعلي بن أبي طالب، قال عمرو: أنا أبو عبد الله؛ تكن حرب من حكّ فيها قرحة نكأها، رحم الله عثمان ورضي الله عنه، وغفر له! فقال سلامة بن زنباع الجذامي: يا معشر قريش، إنه والله قد كان بينكم وبين العرب باب، فاتخذوا بابًا إذ كسر الباب. فقال عمرو: وذاك الّذي نريد. ولا يصلح الباب إلا أشاف تخرج الحقّ من حافرة البأس، ويكون الناس في العدل سواء، ثم تمثّل عمرو في بعض ذلك: يا لهف نفسي على مالك ** وهل يصرف اللهف حفظ القدر! أنزع من الحرّ أودي بهم ** فأعذرهم أم بقومي سكر! ثم ارتحل راجلًا يبكي كما تبكي المرأة، ويقول: واعثماناه! أنعي الحياء والدين! حتى قدم دمشق، وقد كان سقط إليه من الذي يكون علم، فعمل عليه. كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن عبد الله، عن أبي عثمان، قال: كان النبي ﷺ قد بعث عمرًا إلى عمان، فسمع هنالك من حبر شيئًا، فلما رأى مصداقه وهو هناك أرسل إلى ذلك الحبر، فقال: حدثني بوفاة رسول الله ﷺ، وأخبرني من يكون بعده؟ قال: الذي كتب إليك يكون بعده، ومدّته قصيرة، قال: ثمّ من؟ قال: رجل من قومه مثله في المنزلة؛ قال: فما مدّته؟ قال: طويلة؛ ثم يقتل. قال: غيلة أم عن ملإ؟ قال: غيلة؛ قال: فمن يلي بعده؟ قال: رجل من قومه مثله في المنزلة، قال: فما مدّته؟ قال: طويلة، ثم يقتل، قال: أغيلة أم عن ملإ؟ قال: عن ملإ. قال: ذلك أشدّ؛ فمن يلي بعده؟ قال: رجل من قومه ينتشر عليه الناس، وتكون على رأسه حرب شديدة بين الناس، ثمّ يقتل قبل أن يجتمعوا عليه، قال: أغيلة أم عن ملإ؟ قال: غيلة، ثم لا يرون مثله. قال: فمن يلي بعده؟ قال: أمير الأرض المقدّسة، فيطول ملكه، فيجتمع أهل تلك الفرقة وذلك الانتشار عليه، ثم يموت. وأما الواقدي، فإنه فيما حدثني موسى بن يعقوب، عن عمّه، قال: لما بلغ عمرًا قتل عثمان رضي الله عنه، قال: أنا عبد الله، قتلته وأنا بوادي السباع، من يلي هذا الأمر من بعده! إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبًا، وإن يله ابن أبي طالب فلا أراه إلّا سيستنظف الحقّ، وهو أكره من يليه إلي. قال: فبلغه أنّ عليًّا قد بويع له، فاشتدّ عليه، وتربّص أيامًا ينظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير طلحة والزبير وعائشة وقال: أستأني وأنظر ما يصنعون، فأتاه الخبر أنّ طلحة والزبير قد قتلا، فأرتج عليه أمره، فقال له قائل: إن معاوية بالشأم لا يريد أن يبايع لعلي، فلو قاربت معاوية! فكان معاوية أحبّ إليه من علي بن أبي طالب. وقيل له: إنّ معاوية يعظم شأن قتل عثمان بن عفان، ويحرّض على الطلب بدمه؛ فقال عمرو: ادعوا لي محمدًا وعبد الله، فدعيا له، فقال: قد كان ما قد بلغكما من قتل عثمان رضي الله عنه، وبيعة الناس لعلي، وما يرصد معاوية من مخالفة علي، وقال: ما تريان؟ أمّا علي فلا خير عنده، وهو رجل يدلّ بسابقته، وهو غير مشركي في شئ من أمره. فقال عبد الله بن عمرو: توفّي النبي ﷺ وهو عنك راض، أرى أن تكفّ يدك، وتجلس في بيتك، حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال محمد بن عمرو: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك في صوت ولا ذكر. قال عمرو: أمّا أنت يا عبد الله فأمرتني بالذي هو خير لي في آخرتي، وأسلم في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بالّذي أنبه لي في دنياي، وشرّ لي في آخرتي. ثم خرج عمرو بن العاص ومعه ابناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشأم يحضّون معاوية على الطلب بدم عثمان، فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحقّ، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم - ومعاوية لا يلتفت إلى قول عمرو - فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك! انصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال: والله لعجب لك! إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني! أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إنّ في النفس من ذلك ما فيها، حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته؛ ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية وعطف عليه. توجيه علي بن أبي طالب جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى الدخول في طاعته وفي هذه السنة وجّه علي عند منصرفه من البصرة إلى الكوفة وفراغه من الجمل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، وكان جرير حين خرج علي إلى البصرة لقتال من قاتله بها بهمذان عاملًا عليها، كان عثمان استعمله عليها، وكان الأشعث بن قيس على أذر بيجان عاملًا عليها، كان عثمان استعمله عليها، فلما قدم علي الكوفة منصرفًا إليها من البصرة، كتب إليهما يأمرهما بأخذ البيعة له على من قبلهما من الناس، والانصراف إليه. ففعلا ذلك، وانصرفا إليه. فلما أراد علي توجيه الرسول إلى معاوية، قال جرير بن عبد الله - فيما حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عوانة: ابعثني إليه، فإنه لي ودّ حتى آتيه فأدعوه إلى الدخول في طاعتك، فقال الأشتر لعلي: لا تبعثه، فوالله إنّي لأظنّ هواه معه؛ فقال علي: دعه حتى ننظر ما الذي يرجع به إلينا؛ فبعثه إليه، وكتب معه كتابًا يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ونكث طلحة والزبير، وما كان من حربه إياهما، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرين والأنصار من طاعته، فشخص إليه جرير، فلمّا قدم عليه ماطله واستنظره، ودعا عمرًا فاستشاره فيما كتب به إليه، فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشأم، ويلزم عليًّا دم عثمان، ويقاتله بهم، ففعل ذلك معاوية، وكان أهل الشأم - فيما كتب إلي السري يذكر أن شعيبًا حدثه عن سيف، عن محمد وطلحة - لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان رضي الله عنه - الذي قتل فيه مخضّبًا بدمه وبأصابع نائلة زوجته مقطوعة بالبراجم؛ إصبعان منها وشئ من الكفّ، وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام - وضع معاوية القميص على المنبر، وكتب بالخبر إلى الأجناد، وثاب إليه الناس، وبكوا سنة وهو على المنبر والأصابع معلّقة فيه، وآلي الرجال من أهل الشأم ألّا يأتوا النساء، ولا يمسّهم الماء للغسل إلّا من احتلام، ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم. فمكثوا حول القميص سنة، والقميص يوضع كلّ يوم على المنبر ويجلّله أحيانًا فيلبسه. وعلّق في أردانه أصابع نائلة رضي الله عنها. فلما قدم جرير بن عبد الله على علي - فيما حدثني عمر بن شبّة، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عوانة - فأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشأم معه على قتاله، وأنّهم يبكون على عثمان، ويقولون: إنّ عليًّا قتله، وآوى قتلته، وإنّهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه. فقال الأشتر لعلي: قد كنت نهيتك أن تبعث جريرًا، وأخبرتك بعداوته وغشّه، ولو كنت بعثتني كان خيرًا من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع بابًا يرجو فتحه إلّا فتحته، ولا بابًا يخاف منه إلّا أغلقته. فقال جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك؛ لقد ذكروا أنّك من قتلة عثمان رضي الله عنه، فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يعيني جوابهم، ولحملت معاوية على خطّة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه حتى تستقيم هذه الأمور. فخرج جرير بن عبد الله إلى قرقيسياء، وكتب إلى معاوية، فكتب إليه بأمره بالقدوم عليه. وخرج أمير المؤمنين فعسكر بالنّخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عباس بمن نهض معه من أهل البصرة. خروج علي بن أبي طالب إلى صفين حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، عن سليمان، عن عبد الله، عن معاوية بن عبد الرحمن، عن أبي بكر الهذلي، أن عليًّا لما استخلف عبد الله بن عبّاس على البصرة سار منها إلى الكوفة، فتهيّأ فها إلى صفّين، فاستشار الناس في ذلك، فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم؛ وأشار آخرون بالمسير. فأبى إلّا المباشرة؛ فجهّز الناس. فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص فاستشاره. فقال: أمّا إذ بلغك أنه يسير فسر بنفسك، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك. قال: أمّا إذًا يا أبا عبد الله فجهّز الناس. فجاء عمرو فحضّض الناس، وضعّف عليًّا وأصحابه، وقال: إنّ أهل العراق قد فرّقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم، وفلّوا حدّهم. ثم إنّ أهل البصرة مخالفون لعلي، قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، ومنهم من قد قتل خليفتكم؛ فالله الله في حقّكم أن تضّيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه! وكتب في أجناد أهل الشأم، وعقد لواءه لعمرو، فعقد لوردان غلامه فيمن عقد، ولابنيه عبد الله ومحمد، وعقد علي لغلامه قنبر، ثم قال عمرو: هل يغنين وردان عنّي قنبرا ** وتغني السكون عنّي حميرا إذا الكماة لبسوا السنوّرا فبلغ ذلك عليًّا فقال: لأصبحنّ العاصي ابن العاصي ** سبعين ألفًا عاقدي النواصي مجنّبين الخيل بالقلاص ** مستحقبين حلق الدلاص فلما سمع ذلك معاوية قال: ما أرى ابن أبي طالب إلّا قد وفى لك؛ فجاء معاوية يتأنى في مسيره. وكتب إلى كلّ من كان يرى أنه يخاف عليًّا أو طعن عليه ومن أعظم دم عثمان واستعواهم إليه. فلما رأى ذلك الوليد بعث إليه يقول: ألا أبلغ معاوية بن حرب ** فإنّك من أخي ثقة مليم قطعت الدهر كالدّم المعنّى ** تهدّر في دمشق فما تريم وإنّك والكتاب إلى علي ** كدابغة وقد حلم الأديم يمينك الإمارة كلّ ركب ** لأنقاض العراق بها رسيم وليس أخو الترات بمن توانى ** ولكن طالب الترة الغشوم ولو كنت القتيل وكان حيًّا ** لجرّد؛ لا ألفّ ولا سئوم ولا نكل عن الأوتار حتّى ** يبئ بها، ولا برم جثوم وقومك بالمدينة قد أبيروا ** فهم صرعى كأنهم الهشيم وقال غير أبي بكر: فدعا معاوية شدّاد بن قيس كاتبه وقال: ابغني طومارًا، فأتاه بطومار، فأخذ القلم فكتب، فقال: لا تعجل، اكتب: ومستعجب مما يرى من أناتنا ** ولو زبنته الحرب لم يترمرم ثم قال: اطو الطومار، فأرسل به إلى الوليد، فلما فتحته لم يجد فيه غير هذا البيت. قال أبو بكر الهذلي: وكتب رجل من أهل العراق حيث سار علي بن أبي طالب إلى معاوية بيتين: أبلغ أمير المؤمني ** ن أخا العراق إذا أتيتا أنّ العراق وأهلها ** عنق إليك فعيت هيتا عاد الحديث إلى حديث عوانة. فبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، وبعث معه شريح بن هانئ في أربعة آلاف، وخرج علي من النخيلة بمن معه، فلمّا دخل المدائن شخص معه من فيها من المقاتلة، وولّى على المدائن سعد بن مسعود الثقفي عمّ المختار بن أبي عبيد، ووجّه علي من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه. ما أمر به علي بن أبي طالب من عمل الجسر على الفرات فلما انتهى علي إلى الرقة قال: فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي - لأهل الرقة: اجسروا لي جسرًا حتى أعبر من هذا المكان إلى الشأم، فأبوا. وقد كانوا ضمّوا إليهم السفن، فنهض من عندهم ليعبر من جسر منبج، وخلّف عليهم الأشتر، وذهب ليمضي بالناس كيما يعبر بهم على جسر منبج، فناداهم الأشتر، فقال: يا أهل هذا الحصن، ألا أني أقسم لكم بالله عز وجل؛ لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسّروا له عند مدينتكم جسرًا حتى يعبر لأجردنّ فيكم السيف، ثم لأقتلنّ الرجال ولأخرّبنّ الأرض، ولآخذّن الأموال. قال: فلقي بعضهم بعضًا، فقالوا: أليس الأشتر يفي بما حلف عليه، أو يأتي بشرّ منه؟ قالوا: نعم، فبعثوا إليه: إنّا ناصبون لكم جسرًا، فأقبلوا. وجاء علي فنصبوا له الجسر، فعبر عليه بالأثقال والرجال. ثم أمر علي الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس، حتى لم يبق من الناس أحد إلّا عبر، ثم إنه عبر آخر الناس رجلًا. قال أبو مخنف: وحدثني الحجّاج بن علي، عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث، أنّ الخيل حين عبرت زحم بعضها بعضًا، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي، فنزل فأخذها ثم ركب، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجّاج الأزدي، فنزل فأخذها، ثم ركب، وقال لصاحبه: فإن يك ظنّ الزاجري الطير صادقًا ** كما زعموا أقتل وشيكًا وتقتل فقال له عبد الله بن أبي الحصين: ما شئ أوتاه أحبّ إلي مما ذكرت؛ فقتلا جميعًا يوم صفّين. قال أبو مخنف: فحدثني خالد بن قطن الحارثي، أنّ عليًّا لما قطع الفرات دعا زياد بن النضر، وشريح بن هانئ، فسرّحهما أمامه نحو معاوية على حالهما التي كانا خرجا عليها من الكوفة. قال: وقد كانا حيث سرّحهما من الكوفة أخذا على شاطئ الفرات من قبل البرّ مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات، فبلغهما أخذ علي على طريق الجزيرة، وبلغهما أنّ معاوية قد أقبل من دمشق في جنود أهل الشأم لاستقبال علي، فقالا: لا والله ما هذا لنا برأي؛ أن نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر! وما لا خير في أن نلقى جنود أهل الشأم بقلّة من معنا منقطعين من العدد والمدد. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهل عانات، وحبسوا عنهم السفن، فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت، ثم لحقوا عليًّا بقرية دون قرقيسياء؛ وقد أرادوا أهل عانات، فتحصّنوا وفرّوا، ولما لحقت المقدّمة عليًّا قال: مقدّمتي تأتيني من ورائي. فتقدّم إليه زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانئ؛ فأخبراه بالذي رأيا حين بلغهما من الأمر ما بلغهما، فقال: سددتما. ثم مضى علي، فلما عبر الفرات قدّمهما أمامه نحو معاوية، فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان في جند من أهل الشأم؛ فأرسلا إلى علي: إنّا قد لقينا أبا الأعور السلمي في جند من أهل الشأم، وقد دعوناهم فلم يجبنا منهم أحد، فمرنا بأمرك. فأرسل علي إلى الأشتر؛ فقال: يا مالك، إنّ زيادًا وشريحًا أرسلا إلي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور السلمي في جمع من أهل الشأم، وأنبأني الرسول أنه تركهم متواقفين، فالنّجاء إلى أصحابك النجاء، فإذا قدمت عليهم فأنت عليهم. وإيّاك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدءوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع، ولا يجرمنّك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم، والاعذار إليهم مرة بعد مرّة، واجعل على ميمنتك زيادًا، وعلى ميسرتك شريحًا، وقف من أصحابك وسطًا، ولا تدن منهم دنوّ من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم بعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك، فإنّي حثيث السير في أثرك إن شاء الله. قال: وكان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي، فكتب علي إلى زياد وشريح: أمّا بعد، فإني قد أمّرت عليكما مالكًا، فاسمعا له وأطيعا، فإنه ممن لا يخاف رهقه ولا سقاطه ولا بطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم، ولا الإسراع إلى ما الإبطاء عنه أمثل، وقد أمرته بمثل كنت أمرتكما به ألّا يبدأ القوم حتى يلقاهم فيدعوهم ويعذر إليهم. وخرج الأشتر حتى قدم على القوم، فاتّبع ما أمره علي وكفّ عن القتال فلم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي، فثبتوا له، واضطربوا ساعة. ثم إنّ أهل الشأم انصرفوا، ثم خرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة الزهري في خيل ورجال حسن عددها وعدّتها، وخرج إليه أبو الأعور فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال، وصبر القوم بعضهم لبعض، ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر، فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي، قتله يومئذ ظبيان بن عمّار التميمي، وما هو إلّا فتى حدث، وإن كان التنوخي لفارس أهل الشأم، وأخذ الأشتر يقول: ويحكم! أروني أبا الأعور. ثم إن أبا الأعور دعا الناس، فرجعوا نحوه، فوقف من وراء المكان الذي كان فيه أوّل مرّة، وجاء الأشتر حتى صفّ أصحابه في المكان الذي كان فيه أبو الأعور، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي: انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى المبارزة، فقال: إلى مبارزتي أو مبارزتك؟ فقال له الأشتر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم، والله لو أمرتني أن أعترض صفّهم بسيفي ما رجعت أبدًا حتى أضرب بسيفي في صفّهم، قال له الأشتر: يا بن أخي، أطال الله بقاءك! قد والله ازددت رغبة فيك، لا أمرتك بمبارزته، إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي؛ أنه لا يبرز إن كان ذلك من شأنه إلّا لذوي الأسنان والكفاءة والشرف، وأنت - لربّك الحمد - من أهل الكفاءة والشرف، غير أنّك فتى حدث السنّ، فليس بمبارز الأحداث، ولكن ادعه إلى مبارزتي. فأتاه فنادى: آمنوني فإنّي رسول. فأومن، فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي، قال: حدثني سنان، قال: فدنوت منه فقلت: إنّ الأشتر يدعوك إلى مبارزته. قال: فسكت عني طويلًا ثم قال: إنّ خفّة الأشتر وسوء رأيه هو حمله على إجلاء عمّال ابن عفان رضي الله عنه من العراق، وانتزاؤه عليه يقبّح محاسنه، ومن خفّة الأشتر وسوء رأيه أن سار إلى ابن عفان رضي الله عنه في داره وقراره حتى قتله فيمن قتله، فأصبح متبعًا بدمه؛ ألا لا حاجة لي في مبارزته. قال: قلت: إنك قد تكلمت، فاسمع حتى أجيبك، فقال: لا، لا حاجة في الاستماع منك ولا في جوابك، اذهب عني. فصاح بي أصحابه فانصرفت عنه، ولو سمع إلي لأخبرته بعذر صاحبي وحجّته. فرجعت إلى الأشتر، فأخبرته أنه قد أبى المبارزة، فقال: لنفسه نظر، فواقفناهم حتى حجز الليل بيننا وبينهم، وبتنا متحارسين، فلما أصبحنا نظرنا فإذا القوم قد انصرفوا من تحت ليلتهم، ويصبّحنا علي بن أبي طالب غدوة. فقدم الأشتر فيمن كان معه في تلك المقدّمة حتى انتهى إلى معاوية، فواقفه، وجاء علي في أثره فلحق بالأشتر سريعًا، فوقف وتواقفوا طويلًا. ثمّ إنّ عليًّا طلب موضعًا لعسكره، فلما وجده أمر الناس فوضعوا الأثقال، فلما فعلوا ذهب شباب الناس وغلمتهم يستقون، فمنعهم أهل الشأم. فاقتتل الناس على الماء، وقد كان الأشتر قال له قبل ذلك: إنّ القوم قد سبقوا إلى الشريعة وإلى سهولة الأرض وسعة المنزل، فإن رأيت سرنا نجوزهم إلى القرية التي خرجوا منها، فإنهم يشخصون في أثرنا، فإذا هم لحقونا نزلنا فكنّا نحن وهم على السواء، فكره ذلك علي، وقال: ليس كلّ الناس يقوى على المسير، فنزل بهم. القتال على الماء قال أبو مخنف: وحدثني تميم بن الحارث الأزدي، عن جندب بن عبد الله، قال: إنّا لما انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل أفيح قد اختاره قبل قدومنا إلى جانب شريعة الفرات، ليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيّزه، وبعث عليها أبا الأعور يمنعها ويحميها، فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغني بها عن شريعتهم فلم نجدها، فأتينا عليًّا فأخبرناه بعطش الناس، وأنا لا نجد غير شريعة القوم. قال: فقاتلوهم عليها. فجاءه الأشعث بن قيس الكندي فقال: أنا أسير إليهم، فقال له علي: فسر إليهم. فسار وسرنا معه، حتى إذا دنونا من الماء ثاروا في وجوهنا ينضحوننا بالنّبل، ورشقناهم والله بالنّبل ساعة، ثم اطّعنّا والله بالرماح طويلًا، ثم صرنا آخر ذلك نحن والقوم إلى السيوف، فاجتلدنا بها ساعة. ثم إنّ القوم أتاهم يزيد بن أسد البجلي ممدًّا في الخيل والرجال، فأقبلوا نحونا، فقلت في نفسي: فأمير المؤمنين لا يبعث إلينا بمن يغني عنا هؤلاء، فذهب فالتفتّ فإذا عدّة القوم أو أكثر، قد سرّحهم إلينا ليغنوا عنّا يزيد بن أسد وأصحابه، عليهم شبث بن ربعي الرياحي، فوالله ما ازداد القتال إلّا شدّة. وخرج إلينا عمرو بن العاص من عسكر معاوية في جند كثير، فأخذ يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، وخرج الأشتر من قبل علي في جمع عظيم. فلمّا رأى الأشتر عمرو بن العاص يمدّ أبا الأعور ويزيد بن أسد، أمّد الأشعث بن قيس وشبث بن ربعي، فاشتدّ قتالنا وقتالهم، فما أنسى قول عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي: خلّوا لنا ماء الفرات الجاري ** أو اثيتوا لجحفل جرّار لكلّ قرم مستميت شاري ** مطاعن برمحه كرّار ضرّاب هامات العدا مغوار قال أبو مخنف: وحدثني رجل من آل خارجة بن التميمي أن ظبيان ابن عمارة جعل يومئذ يقاتل وهو يقول: هل لك يا ظبيان من بقاء ** في ساكن الأرض بغير ماء لا وإله الأرض والسّماء ** فاضرب وجوه الغدر الأعداء بالسّيف عن حمس الوغاء ** حتّى يجيبوك إلى السواء قال ظبيان: فضربناهم والله حتى خلّونا وإيّاه. قال أبو مخنف: وحدثني أبي يحيى بن سعيد، عن عمّه محمد بن مخنف، قال: كنت مع أبي مخنف بن سليم يومئذ، وأنا ابن سبع عشرة سنة، ولست في عطاء، فلما منع الناس الماء قال لي أبي: لا تبرحنّ الرحل، فلما رأيت المسلمين يذهبون نحو الماء لم أصبر، فأخذت سيفي، وخرجت مع الناس فقاتلت، قال: وإذا أنا بغلام مملوك لبعض أهل العراق ومعه قربة، فلما رأى أهل الشأم قد أفرجوا عن الشريعة اشتدّ حتى ملأ قربته، ثم أقبل، ويشدّ عليه رجل من أهل الشأم فيضربه فيصرعه، وسقطت القربة منه. قال: وأشدّ على الشامي فأضربه فأصرعه، واشتدّ أصحابه فاستنقذوه، فسمعتهم وهم يقولون: لا نأمن عليك. ورجعت إلى المملوك فاحتملته، فإذا هو يكّلمني وبه جرح رغيب، فما كان أسرع من أن جاءه مولاه، فذهب به، وأخذت قربته وهي مملوءة، وآتي بها أبي مخنفًا، فقال: من أين جئت بها؟ فقلت: اشتريتها - وكرهت أن أخبره الخبر، فيجد علي - فقال: اسق القوم، فسقيتهم، ثم شرب آخرهم، ونازعتني نفسي والله إلى القتال، فأنطلق فأتقدّم فيمن يقاتل، فقاتلناهم ساعة، ثم أشهد أنهم خلّوا لنا عن الماء، فما أمسينا حتى رأينا سقاتنا وسقاتهم يزدحمون على الشريعة، وما يؤذي إنسان إنسانًا، فأقبلت راجعًا، فإذا أنا بمولى صاحب القربة، فقلت: هذه قربتك عندنا، فأرسل من يأخذها، أو أعلمني مكانك حتى أبعث بها إليك، فقال: رحمك الله! عندنا ما نكتفي به؛ فانصرفت وذهب، فلما كان من الغد مرّ على أبي، فوقف فسلّم عليه، ورآني إلى جنبته، فقال: ما هذا الفتى منك؟ قال: ابني؛ قال: أراك الله فيه السرور، أنقذ الله عز وجل أمس غلامي به من القتل، حدثني شباب الحي أنه كان أمس أشجع الناس، فنظر إلي أبي نظرة عرفت منها في وجهه الغضب، فسكتّ حتى إذا مضى الرجل قال: هذا ما تقدّمت إليك فيه! فحلّفني ألّا أخرج إلى قتال إلّا بإذنه، فما شهدت من قتالهم إلّا ذلك اليوم حتى كان يوم من أيامهم. قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مهران مولى يزيد بن هانئ، قال: والله إنّ مولاي يزيد بن هانئ ليقاتل على الماء، وإنّ القربة لفي يده، فلما انكشف أهل الشأم انكشافة عن الماء، استدرت حتى أسقي، وإنّي فيما بين ذلك لأقاتل وأرامي. قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، قال: لما قدمنا على معاوية وأهل الشأم بصفّين، وجدناهم قد نزلوا منزلًا اختاروه مستويًا بساطًا واسعًا، أخذوا الشريعة، فهي في أيديهم، وقد صفّ أبو الأعور السلمي عليها الخيل والرجال، وقد قدّم المرامية أمام من معه، وصفّ صفًّا معهم من الرماح والدّرق، وعلى رءوسهم البيض، وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين، فخبّرناه بذلك، فدعا صعصعة ابن صوحان فقال له: ائت معاوية وقل له: إنّا سرنا مسيرنا هذا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنك قدّمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، وبدأتنا بالقتال، ونحن من رأينا الكفّ عنك حتى ندعوك ونحتجّ عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، قد حلّتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، ويكفّوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم له، وإن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له، ونترك الناس يقتتلون على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب. فعلنا. فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد ابن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حصروه أربعين صباحًا يمتعونه برد الماء، ولين الطعام، اقتلهم عطشًا، قتلهم الله عطشًا! فقال له عمرو بن العاص: خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا وأنت رّيان؛ ولكن بغير الماء، فانظر ما بينك وبينهم. فأعاد الوليد بن عقبة مقالته؛ وقال عبد الله بن أبي سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا، ولو قد رجعوا كان رجوعهم فلًّا، امنعهم الماء منعهم الله يوم القيامة! فقال صعصعة: إنما يمنعه الله عز وجل يوم القيامة الكفرة الفسقة وشربة الخمر؛ ضربك وضرب هذا الفاسق - يعني الوليد بن عقبة - قال: فتواثبوا إليه يشتمونه ويتهدّدونه، فقال معاوية: كفوّا عن الرجل فإنه رسول. قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، أن صعصعة رجع إلينا فحدثنا عمّا قال لمعاوية، وما كان منه وما ردّ، فقلنا: فما ردّ عليك؟ فقال: لما أردت الانصراف من عنده قلت: ما ترد علي؟ قال معاوية: سيأتيكم رأيي، فوالله ما راعنا إلا تسريته الخيل إلى أبي الأعور ليكفّهم عن الماء. قال: فأبرزنا علي إليهم، فارتمينا ثم اطّعنّا، ثم اضطربنا بالسيوف، فنصرنا عليهم، فصار الماء حاجتكم، وارجعوا إلى عسكركم، وخلّوا عنهم؛ فإنّ الله عز وجل قد نصركم عليهم بظلمهم وبغيهم. دعاء علي معاوية إلى الطاعة والجماعة قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرّة الحنفي، أنّ عليًّا قال: هذا يوم نصرتم فيه بالحميّة، وجاء الناس حتى أتوا عسكرهم، فمكث علي يومين لا يرسل إلى معاوية أحدًا، ولا يرسل إليه معاوية. ثم إن عليًّا دعا بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة، فقال له شبث بن ربعي: يا أمير المؤمنين، ألا تطمعه في سلطان توليّه إياه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال علي: ائتوه فالقوه واحتجّوا عليه، وانظروا ما رأيه - وهذا في أول ذي الحجّة - فأتوه، ودخلوا عليه، فحمد الله وأثنى عليه أبو عمرة بشير بن عمرو، وقال: يا معاوية، إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإنّ الله عز وجل محاسبك بعملك، وجازيك بما قدّمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرّق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها! فقطع عليه الكلام، وقال: هلّا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إنّ صاحبي ليس مثلك، صاحبي أحقّ البريّة كلّها بهذا الأمر في الفضل والدّين والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول ﷺ. قال: فيقول مادا؟ قال: يأمرك بتقوى الله عز وجل، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ، فإنّه أسلم لك في دنياك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال معاوية: ونطلّ دم عثمان رضي الله عنه! لا والله لا أفعل ذلك أبدًا. فذهب سعيد بن قيس يتكلّم، فبادره شبث بن ربعي، فتكلّم فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا معاوية، إني قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفي علينا ما تغزو وما تطلب؛ إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم، إلّا قولك: قتل إمامكم مظلومًا، فنحن نطلب بدمه، فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، وربّ متمنّي أمر وطالبه، الله عز وجل يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمنّي أمنيته وفوق أمنيتّه، ووالله ما لك في واحدة منهما خير، لئن أخطأت ما ترجو إنك لشرّ العرب حالًا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنّى لا تصيبه حتى تستحقّ من ربّك صلي النار، فاتّق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن أوّل ما عرفت فيه سفهك وخفّة حلمك، قطعك على هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثم عنيت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت، ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كلّ ما ذكرت ووصفت. انصرفوا من عندي، فإنه ليس بيني وبينكم إلّا السيف. وغضب، وخرج القوم وشبث يقول: أفعلينا تهوّل بالسيف! أقسم بالله ليعجلن بها إليك. فأتوا عليًّا وأخبروه بالذي كان من قوله، وذلك في ذي الحجة، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف، فيخرج معه جماعة، ويخرج إليه من أصحاب معاوية آخر معه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ورجالهما ثم ينصرفان. وأخذوا يكرهون أن يلقوا بجمع أهل العراق أهل الشأم لما يتخوّفون أن يكون في ذلك من الاستئصال والهلاك، فكان علي يخرج مرّة الأشتر، ومرّة حجر بن عدي الكندي، ومرّة شبث بن ربعي، ومرّة خالد بن المعمّر، ومرّة زياد بن النضر الحارثي، ومرّة زياد بن خصفة التيمي، ومرّة سعيد بن قيس، ومرّة معقل بن قيس الرياحي، ومرّة قيس بن سعد. وكان أكثر القوم خروجًا إليهم الأشتر، وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد المخزومي، وأبا الأعور السلمي، ومرّة حبيب ابن مسلمة الفهري، ومرّة ابن ذي الكلاع الحميري، ومرة عبيد الله بن عمر ابن الخطّاب، ومرّة شرحبيل بن السمط الكندي، ومرّة حمزة بن مالك الهمداني، فاقتتلوا من ذي الحجة كلها، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرّتين أوّله وآخره. قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، قال: حدثني رجل من قومي أنّ الأشتر خرج يومًا يقاتل بصفيّن في رجال من القرّاء، ورجال من فرسان العرب، فاشتدّ قتالهم، فخرج علينا رجل والله لقلّما رأيت رجلًا قطّ هو أطول ولا أعظم منه، فدعا إلى المبارزة، فلم يخرج إليه أحد إلّا الأشتر، فاختلفا ضربتين، فضربه الأشتر، فقتله، وايم الله لقد كنا أشفقنا عليه، وسألناه ألّا يخرج إليه، فلما قتله الأشتر نادى مناد من أصحابه: يا سهم سهم ابن أبي العيرار ** يا خير من نعلمه من زار وزارة: حي من الأزد، وقال: أقسم بالله لأقتلنّ قاتلك أو ليقتلنّي، فخرج فحمل على الأشتر، وعطف عليه الأشتر فضربه، فإذا هو بين يدي فرسه، وحمل فيه أصحابه فاستنقذوه جريحًا، فقال أبو رفيقة الفهمي: هذا كان نارًا، فصادف إعصارًا، واقتتل الناس ذا الحجّة كلّه، فلما انقضى ذو الحجّة تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض المحرّم، لعلّ الله أن يجري صلحًا أو اجتماعًا، فكفّ بعضهم عن بعض. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بأمر علي إيّاه بذلك، كذلك حدثني أحمد بن ثابت الرازي، عمّن ذكره، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر. وفي هذه السنة مات قدامة بن مظعون، فيما زعم الواقدي. المقدمة ثم دخلت سنة ست عشرة ثم دخلت سنة سبع عشرة ثم دخلت سنة ثمان عشرة ثم دخلت سنة تسع عشرة ثم دخلت سنة عشرين ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ثم دخلت سنة أربع وعشرين ثم دخلت سنة خمس وعشرين ثم دخلت سنة ست وعشرين ثم دخلت سنة سبع وعشرين ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ثم دخلت سنة تسع وعشرين ثم دخلت سنة ثلاثين ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ثم دخلت سنة ست وثلاثين ======================================================= الجزء الخامس { 55555555555555555555555555555555 5 } المحتويات تاريخ الطبري/الجزء الخامس تاريخ الرسل والملوك للطبري الجزء الرابع الجزء الخامس الجزء السادس بسم الله الرحمن الرحيك ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث موادعة الحرب بين علي ومعاوية فكان في أول شهر منها - وهو المحرم - موادعة الحرب بين علي ومعاوية، قد توادعا على ترك الحرب فيه إلى انقضائه طمعًا في الصلح؛ فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف الأزدي، قال: حدثني سعد أبو المجاهد الطائي، عن المحل بن خليفة الطائي، قال: لما توادع علي ومعاوية يوم صفين، اختلف فيما بينهما الرسل رجاء الصلح، فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد ابن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة إلى معاوية، فلما دخلوا حمد الله عدي بن حاتم، ثم قال: أما بعد، فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل. فقال معاوية: كأنك إنما جئت متهددًا، لم تأت مصلحًا! هيهات يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، ما يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عز وجل به. هيهات يا عدي بن حاتم! قد حلبت بالساعد الأشد. فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة - وتنازعا جوابًا واحدًا: أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال! دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وغياك نفعه. وتكلم يزيد بن قيس، فقال: إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن على ذلك لم ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وأنك راجع به إلى الألفة والجماعة. إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك؛ إن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي، ولن يميلوا بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية، ولا تخالف عليًا، فإنا والله ما رأينا رجلًا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار تقتله! فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك! والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان. فقال له شبث: وإله الأرض وإله السماء، ما عدلت معتدلا. لا والذي لا إله إلا هو لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها. فقال له معاوية: إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق. وتفرق القوم عن معاوية، فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن خصفة التيمي، فخلا به، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليًا قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا. وإني أسألك النصر عليه بأسرتك وعشيرتك، ثم لك عهد الله جل وعز وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت. قال أبو مخنف: فحدثني سعد أبو المجاهد، عن المحل بن خليفة، قال: سمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث، قال: فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله عز وجل وأثنيت عليه، ثم قلت: أما بعد، فإني على بينة من ربي وبما أنعم علي، فلن أكون ظهيرًا للمجرمين، ثم قمت. فقال معاوية لعمرو بن العاص - وكان إلى جنبه جالسًا: ليس يكلم رجل منا رجلًا منهم فيجيب إلى خير. ما لهم عضبهم الله بشر! ما قلوبهم إلا كقلب رجل واحد. قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد الأزدي، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، أن معاوية بعث إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه وأنا عنده، فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفةً مهديًا، يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه؛ فتادفع إلينا قتلة عثمان - إن زعمت أنك لم تقتله - نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال له علي بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر! اسكت فإنك لست هنك ولا بأهل له! فقام وقال له: والله لتريني بحيث تكره. فقال علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك! لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي؛ أحقرةً وسوءًا! اذهب فصوب وصعد ما بدا لك. وقال شرحبيل بن السمط: إني إن كلمتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال علي: نعم لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله جل ثناؤه بعث محمدًا ﷺ بالحق، فأنقذ به من الضلالة، وانتاش به من الهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه ﷺ، ثم استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، وقد وجدنا عليهما أن توليا علينا - ونحن آل رسول الله ﷺ - فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك!، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس؛ فبايعتهم، فلم يرعني إلا قاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عز وجل له سابقةً في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل الله عز وجل ولرسوله ﷺ وللمسلمين عدوًا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين، فلا غرو إلا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم ﷺ الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا حلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحدًا. ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة. فقالا: اشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلومًا، فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلومًا، ولا إنه قتل ظالمًا، قالا: فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلومًا فنحن منه برآء، ثم قاما فانصرفا. فقال علي: " إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن ستمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون " ثم أقبل عليٌّ على أصحابه فقال: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالهم منكم بالجد في حقكم وطاعة ربكم. قال أبو مخنف: حدثني جعفر بن حذيفة، من آل عامر بن جوين، أن عائذ بن قيس الحزمري واثب عدي بن حاتم في الراية بصفين - وكانت حزمر أكثر من بني عدي رهط حاتم - فوثب عليهم عبد الله بن خليفة الطائي السبولاني عند علي، فقال: يا بني حزمر، على عدي تتوثبون! وهل فيكم مثل عدي أو في آبائكم مثل أبي عدي! أليس بحامي القربة ومانع الماء يوم روية؟ أليس بابن ذي المرباع وابن جواد العرب؟! أليس بابن المنهب ماله، ومانع جاره؟! اليس من لم يغدر ولم يفجر، ولم يجهل ولم يبخل، ولم يمنن ولم يجبن؟! هاتوا في آبائكم مثل أبيه، أو هاتوا فيكم مثله. أوليس أفضلكم في الإسلام! أوليس وافدكم إلى رسول الله ﷺ! أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء الوقيعة ويوم نهاوند ويوم تستر؟! فما لكم وله! والله ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي تطلبون. فقال له علي بن أبي طالب: حسبك يابن خليفة، هلم أيها القوم إلي، وعلي بجماعة طيىء، فأتوه جميعًا، فقال علي: من كان رأسكم في هذه المواطن؟ قالت له طيىء: عدي. فقال له ابن خليفة: فسلهم يا أمير المؤمنين، أليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة؟ ففعل، فقالوا: نعم، فقال لهم: عدي أحقكم بالراية. فسلموها له، فقال علي - وضجت بنو الحزمر -: إني أراه رأسكم قبل اليوم، ولا أرى قومه كلهم إلا مسلمين له غيركم؛ فأتبع في ذلك الكثرة. فأخذها عدي. فلما كان أزمان حجر بن عدي طلب عبد الله بن خليفة ليبعث به مع حجر - وكان من أصحابه - فسير إلى الجبلين؛ وكان عدي قد مناه أن يرده، وأن يطلب فيه، فطال عليه ذلك، فقال: وتنسونني يوم الشريعة والقنا ** بصفين في أكتفهم قد تكسرا جزى ربه عنى عدي بن حاتمٍ ** برفضي وخذلاني جزاءً موفرا أتنسى بلائي سادرًا يابن حاتمٍ ** عشية ما أغنت عديك حزمرا فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ** وكنت أنا الخصم الألد العذورا فولوا وما قاموا مقامي كأنما ** رأوني ليثًا بالأباءة مخدرا نصرتك إذ خام القريب وأبعط ال ** بعيد وقد أفردت نصرًا مؤزرا فكان جزائي أن أجرد بينكم ** سجينًا، وأن أولى الهوان وأوسرا وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ** فلم تغن بالميعاد عني حبترا تكتيب الكتائب وتعبئة الناس للقتال قال: ومكث الناس حتى إذ دنا انسلاخ المحرم أمر علي مرثد بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشأم عند غروب الشمس: الا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله عز وجل، فدعوتكم إليه، فلم تناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حق، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. ففزع أهل الشأم إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو بن العاص في الناس يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علي ليلته كلها يعبي الناس، ويكتب الكتائب، ويدور في الناس يحرضهم. قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه، أن عليًا كان يأمرنا في كل موطن لقينا فيه معه عدوًا فيقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم، فأنتم بحمد الله عز وجل على حجة، وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورةً، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترًا، ولا تدخلوا دارًا إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئًا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأةً بأذىً، وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس. قال أبو مخنف: وحدثني إسماعيل بن يزيد، عن أبي صادق، عن الحضرمي، قال: سمعت عليًا يحرض الناس في ثلاثة مواطن: يحرض الناس يوم صفين، ويوم الجمل، ويوم النهر، يقول: عباد الله، اتقوا الله، وغضوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمناضلة والمجالدة والمعانقة والمكادمة والملازمة، فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون. ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين. اللهم ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر. فأصبح علي من الغد، فبعث على الميمنة والميسرة والرجالة والخيل. قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج الكندي أن عليًا بعث على خيل أهل الكوفة الأشتر. وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة أهل الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد وهاشم ابن عتبة ومعه رايته، ومسعر بن فدكي التميمي على قراء أهل البصرة، وصار أهل الكوفة إلى عبد الله بن بديل وعمار بن ياسر. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن يزيد بن جابر الأزدي، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية، أن معاوية بعث على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميرة، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته يوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمي - وكان على خيل أهل دمشق - وعمرو بن العاص على خيول أهل الشأم كلها، ومسلم بن عقبة المري على رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلها. وبايع رجال من أهل الشأم على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، فكان المعقلون خمسة صفوف، وكانوا يخرجون ويصفون عشرة صفوف، ويخرج أهل العراق أحد عشر صفًا، فخرجوا أول يوم من صفين فاقتتلوا. وعلى من خرج يومئذ من أهل الكوفة الأشتر، وعلى أهل الشأم حبيب بن مسلمة، وذلك يوم الأربعاء، فاقتتلوا قتالًا شديدًا جل النهار، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض، ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسنٍ عددها وعدتها، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم ذلك، يحمل الخيل على الخيل، والرجال على الرجال، ثم انصرفوا وقد كان القوم صبر بعضهم لبعض. وخرج اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتل الناس كأشد القتال، وأخذ عمار يقول: يا أهل العراق، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما، وبغى على المسلمين، وظاهر المشركين، فلما رأى الله عز وجل يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي ﷺ فأسلم، وهو فيما نرى راهب غير راغب؛ ثم قبض الله عز وجل رسوله ﷺ! فوالله إن زال بعده معروفًا بعداوة المسلم، وهوادة المجرم. فاثبتوا له وقاتلوه فإنه يطفىء نور الله، ويظاهر أعداء الله عز وجل. فكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل، فأمره أن يحمل في الخيل، فحمل، وقاتله الناس وصبروا له، وشد عمار في الرجال، فأزال عمرو بن العاص عن موقفه. وبارز يومئذ زياد بن النضر أخًا له لأمه يقال له عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل - وكانت أمهما امرأة من بني يزيد - فلما التقيا تعارفا فتواقفا، ثم انصرف كل واحد منهما عن صاحبه، وتراجع الناس. فلما كان من الغد خرج محمد بن علي وعبيد الله بن عمر في جمعين عظيمين، فاقتتلوا كأشد القتال. ثم إن عبيد الله بن عمر أرسل إلى ابن الحنفية: أن اخرج إلي؛ فقال: نعم، ثم خرج يمشي، فبصر به أمير المؤمنين فقال: من هذان المتبارزان؟ فقيل: ابن الحنفية وعبيد الله بن عمر؛ فحرك دابته ثم نادى محمدًا، فوقف له، فقال: أمسك دابتي، فأمسكها، ثم مشى إليه علي فقال: أبرز لك، هلم إلي؛ فقال: ليست لي في مبارزتك حاجة، فقال: بلى، فقال: لا، فرجع ابن عمر. فأخذ ابن الحنفية يقول لأبيه: يا أبت، لم منعتني من مبارزته؟ فوالله لو تركتني لرجوت أن أقتله، فقال: لو بارزته لرجوت أن تقتله، وما كنت آمن أن يقتلك، فقال: يا أبت أو تبرز لهذا الفاسق! والله لو أبوه سألك المبارزة لرغبت بك عنه؛ فقال علي: يا بني، لا تقل في أبيه إلا خيرًا. ثم إن الناس تحاجزوا وتراجعوا. قال: فلما كان اليوم الخامس خرج عبد الله بن عباس والوليد بن عقبة فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ودنا ابن عباس من الوليد بن عقبة، فأخذ الوليد يسب بني عبد المطلب، وأخذ يقول: يابن عباس، قطعتم أرحامكم، وقتلتم إمامكم، فكيف رأيتم الله صنع بكم؟! لم تعطوا ما طلبتم، ولم تدركوا ما أملتم، والله إن شاء مهلككم وناصرٌ عليكم. فأرسل إليه ابن عباس: أن ابرز لي؛ فابى. وقاتل ابن عباس يومئذ قتالًا شديدًا، وغشي الناس بنفسه. ثم خرج قيس بن سعد الأنصاري وابن ذي الكلاع الحميري فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثم انصرفا، وذلك في اليوم السادس. ثم خرج الأشتر، وعاد إليه حبيب بن مسلمة اليوم السابع، فاقتتلا قتالًا شديدًا، ثم انصرفا عند الظهر، وكلٌّ غير غالب، وذلك يوم الثلاثاء. قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب، أن عليًا قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا! فقام في الناس عشية الثلاثاء، ليلة الأربعاء بعد العصر، فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض، وما أبرم لا ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار، فلفت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء عجل النقمة، وكان منه التغيير، حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين مصيره؛ ولكنه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألا إنكم لاقو القوم غدًا، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله عز وجل النصر والصبر، والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين. ثم انصرف، ووثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها، ومر بهم كعب بن جعيل التغلبي وهو يقول: أصبحت الأمة في أمرٍ عجب ** والملك مجموعٌ غدًا لمن غلب فقلت قولًا صادقًا غير كذب ** إن غدًا تهلك أعلام العرب قال: فلما كان من الليل خرج عليٌّ فعبى الناس ليلته كلها، حتى إذا أصبح زحف بالناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشأم، فأخذ عليٌّ يقول: من هذه القبيلة؟ ومن هذه القبيلة؟ فنسبت له قبائل أهل الشأم، حتى إذا عرفهم ورأى مراكزهم قال للأزد: اكفوني الأزد، وقال لخثعم: اكفوني خثعم. وأمر كل قبيلة من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشأم، ليس منهم بالعراق واحد، مثل بجيلة لم يكن منهم بالشأم إلا عدد قليل، فصرفهم إلى لخم. ثم تناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالًا شديدًا نهارهم كله، ثم انصرفوا عند المساء وكلٌّ غير غالب، حتى إذا كان غداة الخميس صلى عليٌّ بغلس. قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه، قال: ما رأيت عليًا غلس بالصلاة أشد من تغليسه يومئذ، ثم خرج بالناس إلى أهل الشأم فزحف إليهم، فكان يبدؤهم فيسير إليهم، فإذا رأوه قد زحف إليهم استقبلوه بوجوههم. قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب الجهني، أن عليًا خرج إليها غداة الأربعاء فاستقبلهم فقال: اللهم رب السقف المرفوع، المحفوظ المكفوف، الذي جعلته مغيضًا لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت سكانه سبطًا من الملائكة، لا يسأمون العبادة. ورب هذه الأرض التي جعلتها قرارًا للأنام، والهوام والأنعام، وما لا يحصى مما لا يرى ومما يرى من خلقك العظيم. ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والأرض، ورب البحر المسجور المحيط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادًان وللخلق متاعًا؛ إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي، وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة، واعصم بقية أصحابي من الفتنة. قال: وازدلف الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا كأشد القتال يومهم حتى الليل، لا ينصرف بعضهم عن بعض إلا للصلاة، وكثرت القتلى بينهم، وتحاجزوا عند الليل وكلٌّ غير غالب، فأصبحوا من الغد، فصلى بهم عليٌّ غداة الخميس، فغلس بالصلاة اشد التغليس، ثم بدأ أهل الشأم بالخروج، فلما رأوه قد أقبل إليهم خرجوا إليه بوجوههم، وعلى ميمنته عبد الله بن بديل، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس، وقراء أهل العراق مع ثلاثة نفر: مع عمار ابن ياسر، ومع قيس بن سعد، ومع عبد الله بن بديل؛ والناس على راياتهم ومراكزهم، وعليٌّ في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة، وعظم من معه من أهل المدينة الأنصار، ومعه من خزاعة عدد حسن، ومن كنانة وغيرهم من أهل المدينة. ثم زحف إليهم بالناس، ورفع معاوية قبةً عظيمة قد ألقى عليها الكرابيس وبايعه عظم الناس من أهل الشأم على الموت، وبعث خيل أهل دمشق فاحتاطت بقبته، وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة، فلم يزل يحوزه، ويكشف خيله من الميسرة حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر. قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب الجهني، أن ابن بديل قام في أصحابه فقال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس أهله، ونازع هذا الأمر من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، قد زين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وزادهم رجسًا إلى رجسهم، وأنتم على نور من ربكم، وبرهان مبين. فقاتلوا الطغاة الجفاة، ولا تخشوهم، فكيف تخشوهم وفي أيديكم كتاب الله عز وجل طاهرًا مبرورًا! " أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين "، وقد قاتلناهم مع النبي ﷺ مرة، وهذه ثانية، والله ما هم في هذه بأتقى ولا أزكى ولا أرشد، قوموا إلى عدوكم بارك الله عليكم! فقاتل قتالًا شديدًا هو وأصحابه. قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، عن أبيه ومولىً له، أن عليًا حرض الناس يوم صفين، فقال: إن الله عز وجل قد دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تشفي بكم على الخير: الإيمان بالله عز وجل وبرسوله ﷺ، والجهاد في سبيل الله تعالى ذكره، وجعل ثوابه مغفرة الذنب، ومساكن طيبة في جنات عدن. ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص؛ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أصون للأسنة. وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، وأولى بالوقار. راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، فإن المانع للذمار، والصابر عند نزول الحقائق، هم أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم ويكنفونها؛ يضربون حفافيها خلفها وأمامها، ولا يضعونها أجزأ امرؤٌ وقذ قرنه - رحمكم الله - وآسى أخاه بنفسه، ولم يكل قرنه إلى أخيه، فيكسب بذلك لائمةً، ويأتي به دناءة. وأنى لا يكون هذا هكذا! وهذا يقاتل اثنين، وهذا ممسك بيده يدخل قرنه على أخيه هاربًا منه، أو قائمًا ينظر إليه! من يفعل هذا يمقته الله عز وجل، فلا تعرضوا لمقت الله سبحانه فإنما مردكم إلى الله، قال الله عز من قائل لقوم: " لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذًا لا تمتعون إلا قليلًا ". وايم الله لئن سلمتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة. واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل الله النصر. الجد في الحرب والقتال قال أبو مخنف: حدثني أبو روق الهمداني، أن يزيد بن قيس الأرحبي حرض الناس فقال: إن المسلم السليم من دينه ورأيه، وإن هؤلاء القوم والله إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه، وإحياء حقٍّ رأونا أمتناه، وإن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا جبابرةً فيه ملوكًا، فلو ظهروا عليكم - لا أراهم الله ظهورًا ولا سرورًا - لزموكم بمثل سعيد والوليد وعبد الله بن عامر السفيه الضال، يخبر أحدهم في مجلسه بمثل ديته ودية أبيه وجده، يقول: هذا لي ولا إثم علي، كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمه، وإنما هو مال الله عز وجل، أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا، فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين، الحاكمين بغير ما أنزل الله، ولا يأخذكم في جهادهم لوم لائم، فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم؛ وهم من قد عرفتم وخبرتم؛ وايم الله ما ازدادوا إلى يومهم هذا إلا شرًا. وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالًا شديدًا حتى انتهى إلى قبة معاوية. ثم إن الذين تبايعوا على الموت أقبلوا إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة، وبعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة، فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلا ابن بديل في مائتين أو ثلثمائة من القراء، قد أسند بعضهم ظهره إلى بعض، وانجفل الناس، فأمر عليٌّ سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموعٌ لأهل الشأم عظيمة، فاحتملتهم حتى ألحقتهم بالميمنة، وكان في الميمنة إلى موقف عليٍّ في القلب أهل اليمن، فلما كشفوا انتهت الهزيمة إلى علي، فانصرف يتمشى نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة، وثبتت ربيعة. قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني، قال: مر علي معه بنوه نحو الميسرة. ومعه ربيعة وحدها، وإني لأرى النبل يمر بين عاتقه ومنكبه، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه. فيكره عليٌّ ذلك، فيتقدم عليه، فيحول بين أهل الشأم وبينه، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه، فبصر به أحمر - مولى أبي سفيان، أو عثمان، أو بعض بني أمية - فقال علي: ورب الكعبة؛ قتلني الله إن لم أقتلك أو تقتلني! فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علي، فاختلفا ضربتين، فقتله مولى ب ني أمية، وينتهزه عليٌّ، فيقع بيده في جيب درعه، فيحبذه، ثم حمله على عاتقه؛ فكأني أنظر إلى رجيلتيه، تختلفان على عنق علي، ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضديه، وشد ابنا علي عليه: حسين ومحمد، فضرباه بأسيافهما، حتى بردا، فكأني أنظر إلى علي قائمًا وإلى شبليه يضربان الرجل، حتى إذا قتلاه وأقبلا إلى أبيهما، والحسن قائمًا قال له: يا بني، ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك؟ قال: كفياني يا أمير المؤمنين. ثم إن أهل الشأم دنوا منه ووالله ما يزيده قربهم منه سرعةً في مشيه، فقال له الحسن: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء الذين قد صبروا لعدوك من أصحابك؟ فقال: يا بني، إن لأبيك يومًا لن يعدوه ولا يبطىء به عند السعي، ولا يعجل به إليه المشي، إن أباك والله ما يبالي أوقع على الموت، أو وقع الموت عليه. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن مولى للأشتر، قال: لما انهزمت ميمنة العراق وأقبل عليٌّ نحو الميسرة، مر به الأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فقال له علي: يا مالك، قال: لبيك؛ قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه، إلى الحياة التي لن تبقى لكم! فمضى فاستقبل الناس منهزمين، فقال لهم هذه الكلمات التي قالها له عليٌّ. وقال: إلي أيها الناس، أنا مالك بن الحارث، أنا مالك بن الحارث، ثم ظن أنه بالأشتر أعرف في الناس، فقال: أنا الأشتر، إلي أيها الناس. فأقبلت إليه طائفة، وذهبت عنه طائفة، فنادى: أيها الناس، عضضتم بهن آبائكم! ما أقبح ما قاتلتم منذ اليوم! أيها الناس، أخلصوا إلي مذحجًا، فأقبلت إليه مذحج، فقال: عضضتم بصم الجندل! ما أرضيتم ربكم، ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف بذلك وأنتم أبناء الحروب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان؛ الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم، ولا تطل دماؤهم، ولا يعرفون في موطن بخسفٍ، وأنتم حد أهل مصركم، وأعد حيٍّ في قومكم، وما تفعلوا في هذا اليوم، فإنه مأثور بعد اليوم؛ فاتقوا مأثور الأحاديث غد، واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين. والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء - وأشار بيده إلى أهل الشام - رجلٌ على مثال جناح بعوضة من محمد ﷺ. أنتم ما أحسنتم القراع، اجلوا سواد وجهي يرجع في وجهي دمي. عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله عز وجل لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه. قالوا: خذ بنا حيث أحببت. وصمد نحو عظمهم فيما يلي الميمنة، فأخذ يزحف إليهم، ويردهم، ويستقبله شبابٌ من همدان - وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ - وقد انهزموا آخر الناس، وكانوا قد صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل، وقتل منهم أحد عشر رئيسًا، كلما قتل منهم رجل أخذ الراية آخر، فكان الأول كريب بن شريح، ثم شرحبيل ابن شريح، ثم مرثد بن شريح، ثم هبيرة بن شريح، ثم يريم بن شريح، ثم سمير بن شريح، فقتل هؤلاء الإخوة الستة جميعًا. ثم أخذ الراية سفيان ابن زيد، ثم عبد بن زيد، ثم كريب بن زيد، فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة جميعًا، ثم أخذ الراية عميرة بن بشير، ثم الحارث بن بشير، فقتلا، ثم أخذ الراية وهب بن كريب أخو القلوص، فأراد أن يستقبل، فقال له رجل من قومه: انصرف بهذه الراية - رحمك الله - فقد قتل أشراف قومك حولها، فلا تقتل نفسك ولا من بقي من قومك؛ فانصرفوا وهم يقولون: ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت، ثم نستقدم نحن وهم فلا ننصرف حتى نقتل أو نظفر. فمروا بالأشتر وهم يقولون هذا القول، فقال لهم الأشتر: إلي أنا أحالفكم وأعاقدكم على ألا نرجع أبدًا حتى نظفر أو نهلك. فأتوه فوقفوا معه، ففي هذا القول قال كعب بن جعيل التغلبي: وهمدان زرقٌ تبتغي من تحالف وزحف الأشتر نحو الميمنة، وثاب إليه ناس تراجعوا من أهل الصبر والحياء والوفاء، فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها، ولا لجمع إلا حازه ورده؛ فإنه لكذلك إذ مر بزياد بن النضر يحمل إلى العسكر، فقال: من هذا؟ فقيل: زياد بن النضر، استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة، فتقدم زياد فرفع لأهل الميمنة رايته، فصبروا، وقاتل حتى صرع، ثم لم يمكثوا إلا كلا شيء حتى مر بيزيد بن قيس الأرحبي محمولًا نحو العسكر، فقال الأشتر: من هذا؟ فقالوا: يزيد بن قيس، لما صرع زياد ابن النضر رفع لأهل الميمنة رايته، فقاتل حتى صرع، فقال الأشتر: هذا والله الصبر الجميل، والفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف لا يقتل ولا يقتل، أو يشفى به على القتل! قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، عن الحر بن الصياح النخعي؛ أن الأشتر يومئذ كان يقاتل على فرس له في يده صفيحة يمانية، إذا طأطأها خلت فيها ماء منصبًا، وإذا رفعها كاد يعشي البصر شعاعها، وجعل يضرب بسيفه ويقول: الغمرات ثم ينجلينا قال: فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي والأشتر متقنع في الحديد، فلم يعرفه، فدنا منه فقال له: جزاك الله خيرًا منذ اليوم عن أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين! فعرفه الأشتر، فقال يا بن جمهان، مثلك يتخلف عن مثل موطني هذا الذي أنا فيه! فنظر إليه ابن جمهان فعرفه، فكان من أعظم الرجال وأطول - وكان في لحيته خفلةٌ قليلة - فقال: جعلت فداك! لا والله ما علمت بمكانك إلا الساعة، ولا أفارقك حتى أموت. قال: ورآه منقذٌ وحمير ابنا قيس الناعطيان، فقال منقذ لحمير: ما في العرب مثل هذا، إن كان ما أرى من قتاله على نيته، فقال له حمير: وهل النية إلا ما تراه يصنع! قال: إني أخاف أن يكون يحاول ملكًا قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، عن مولىً للأشتر، أنه لما اجتمع إليه عظم من كان انهزم عن الميمنة حرضهم، ثم قال: عضوا على النواجذ من الأضراس، واستقبلوا القوم بهامكم، وشدوا شدة قوم موتورين ثأرًا بآبائهم وإخوانهم، حناقًا على عدوهم، قد وطنوا على الموت أنفسهم كيلا يسبقوا بوتر، ولايلحقوا في الدنيا عارًا، وايم الله ما وتر قوم قط بشيء أشد عليهم من أن يوتروا دينهم، وإن هؤلاء القوم لا يقاتلونكم إلا عن دينكم ليميتوا السنة، ويحيوا البدعة، ويعيدوكم في ضلالة قد أخرجكم الله عز وجل منها بحسن البصيرة. فطيبوا عباد الله أنفسًا بدمائكم دون دينكم، فإن ثوابكم على الله، والله عنده جنات النعيم. وإن الفرار من الزحف فيه السلب للعز، والغلبة على الفيء، وذل المحيا والممات، وعار الدنيا والآخرة. وحمل عليهم حتى كشفهم، فألحقهم بصفوف معاوية بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصبة من القراء بين المائتين والثلثمائة، وقد لصقوا بالأرض كأنهم جشًا فكشف عنهم أهل الشأم، فأبصروا إخوانهم قد دنوا منهم، فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؟ قالوا: حيٌّ صالح في الميسرة، يقاتل الناس أمامه، فقالوا: الحمد لله، قد كنا ظننا أن قد هلك وهلكتم. وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا؛ فأرسل الأشتر إليه: ألا تفعل، اثبت مع الناس فقاتل، فإنه خيرٌ لهم وأبقى لك ولأصحابك. فأبى، فمضى كما هو نحو معاوية، وحوله كأمثال الجبال، وفي يده سيفان، وقد خرج فهو أمام أصحابه، فأخذ كلما دنا منه رجلٌ ضربه فقتله، حتى قتل سبعة، ودنا من معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب، وأحيط به وبطائفة من أصحابه، فقاتل حتى قتل، وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة قد جرحوا منهزمين، فبعث الأشتر ابن جمهان الجعفي فحمل على أهل الشأم الذين يتبعون من نجا من أصحاب ابن بديل حتى نفسوا عنهم، وانتهوا إلى الأشتر، فقال لهم: ألم يكن رأيي لكم خيرًا من رأيكم لأنفسكم! ألم آمركم أن تثبتوا مع الناس! وكان معاوية قال لابن بديل وهو يضرب قدمًا: أترونه كبش القوم! فلما قتل أرسل إليه، فقال: انظروا من هو؟ فنظر إليه ناس من أهل الشأم فقالوا: لا نعرفه، فأقبل إليه حتى وقف عليه، فقال: بلى، هذا عبد الله بن بديل، والله لو استطاعت نساء خزاعة أن تقاتلنا فضلًا على رجالها لفعلت، مدوه، فمدوه، فقال: هذا والله كما قال الشاعر: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ** وإن شمرت يومًا به الحرب شمرا والبيت لحاتم طيىء. وإن الأشتر زحف إليهم فاستقبله معاوية بعك والأشعرين، فقال الأشتر لمذحج: اكفونا عكا، ووقف في همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وأخذ يخرج إلى قومه فيقول: إنما هم عك، فاحملوا عليهم، فيجثون على الركب ويرتجزون: يا ويل أم مذحجٍ من عك ** هاتيك أم مذحجٍ تبكي فقاتلوهم حتى المساء. ثم إنه قاتلهم في همدان وناس من طوائف الناس، فحمل عليهم فأزالهم عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم شد عليهم شدة أخرى فصرع الصفوف الأربعة، - وكانوا معقلين بالعمائم - حتى انتهوا إلى الخامس الذي حول معاوية، ودعا معاوية بفرس فركب - وكان يقول: اردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة من الأنصار - كان جاهليًا، والإطنابة امرأة من بلقين: أبت لي عفتي وحياء نفسي ** وإقدامي على البطل المشيح وإعطائي على المكروه مالي ** وأخذي الحمد بالثمن الربيح وقولي كلما جشأت وجاشت ** مكانك تحمدي أو تستريحي فمنعني هذا القول من الفرار. قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجني، عن زيد بن وهب، أن عليًا لما رأى ميمنته قد عادت إلى مواقعها ومصافها وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال: إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، يحوزكم الطغاة الجفاة وأعراب أهل الشأم، وأنتم لهاميم العرب، والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون، فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم، وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره، وكنتم من الهالكين؛ ولكن هون وجدي، وشفى بعض أحاح نفسي، أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم، وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تحسونهم بالسيوف، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطردة الهيم؛ فالآن فاصبروا، نزلت عليكم السكينة، وثبتكم الله عز وجل باليقين، ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه؛ إن الفرار موجدة الله عز وجل عليه، والذل اللازم، والعار الباقي، واعتصار الفيء من يده، وفساد العيش عليه. وإن الفار منه لا يزيد في عمره، ولا يرضي ربه، فموت المرء محقًا قبل إتيان هذه الخصال، خير من الرضا بالتأنيس لها، والإقرار عليها. قال أبو مخنف: حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر الأحمسي، أن راية بجيلة بصفين كانت في أحمس بن الغوث بن أنمار مع أبي شداد - وهو قيس بن مكشوح بن هلال بن الحارث بن عمرو بن جابر بن علي ابن أسلم بن أحمس بن الغوث - وقالت له بجيلة: خذ رايتنا؛ فقال: غيري خيرٌ لكم مني، قالوا: ما نريد غيرك، قال: والله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب قالوا: اصنع ما شئت، فأخذها ثم زحف، حتى انتهى بهم إلى صاحب الترس المذهب - وكان في جماعة عظيمة من أصحاب معاوية، وذكروا أنه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي - فاقتتل الناس هنالك قتالًا شديدًا، فشد بسيفه نحو صاحب الترس، فتعرض له رومي، مولىً لمعاوية فيضرب قدم أبي شداد فيقطعها، ويضربه أبو شداد فيقتله، وأشرعت إليه الأسنة فقتل، وأخذ الراية عبد الله ابن قلع الأحمسي وهو يقول: لا يبعد الله أبا شداد ** حيث أجاب دعوة المنادي وشد بالسيف على الأعادي ** نعم الفتى كان لدى الطراد وفي طعان الرجل والجلاد فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية أخوه عبد الرحمن بن قلع، فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس، فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس، وقتل حازم بن أبي حازم الأحمسي - أخو قيس بن أبي حازم - يومئذ، وقتل نعيم بن صهيب بن العلية البجلي يومئذ، فأتى ابن عمه وسمية نعيم بن الحارث ابن العلية معاوية - وكان معه - فقال: إن هذا القتيل ابن عمي، فهبه لي أدفنه، فقال: لا تدفنه فليس لذلك أهلًا، والله ما قدرنا على دفن ابن عفان رضي الله عنه إلا سرًا. قال: والله لتأذنن في دفنه أو لألحقن بهم ولأدعنك. قال معاوية: أترى أشياخ العرب قد أحالتهم أمورهم، فأنت تسألني في دفن ابن عمك! ادفنه إن شئت أو دع. فدفنه. قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن حصيرة الأزدي، عن أشياخ من النمر من الأزد، أن مخنف بن سليم لما ندبت الأزد للأزد، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن من الخطإ الجليل، والبلاء العظيم، أنا صرفنا إلى قومنا وصرفوا إلينا، والله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا، وما هي إلا أجنحتنا نجدها بأسيافنا، فإن نحن لم نؤاس جماعتنا، ولم نناصح صاحبنا كفرنا، وإن نحن فعلنا فعزنا أبحنا، ونارنا أخمدنا، فقال له جندب بن زهير: والله لو كنا آباءهم وولدناهم - أو كنا أبناءهم وولدونا - ثم خرجوا من جماعتنا، وطغوا على إمامنا، وإذًا هم الحاكمون بالجور على أهل ملتنا وذمتنا، ما افترقنا بعد أن اجتمعنا حتى يرجعوا عما هم عليه، ويدخلوا فيما ندعوهم إليه، أو تكثر القتلى بيننا وبينهم. فقال له مخنف - وكان ابن خالته: أعز الله بك النية؛ والله ما علمت صغيرًا وكبيرًا إلا مشؤومًا، والله ما ميلنا الرأي قط أيهما نأتي أو أيهما ندع - في الجاهلية ولا بعد أن أسلمنا - إلا اخترت أعسرهما وأنكدهما، اللهم إن تعافي أحب إلينا من أن تبتلي، فأعط كل امرىء منا ما يسألك. وقال أبو بريدة بن عوف: اللهم احكم بيننا بما هو أرضى لك. يا قوم إنكم تبصرون ما يصنع الناس، وإن لنا الأسوة بما عليه الجماعة إن كنا على حق، وإن يكونوا صادقين فإن أسوةً في الشر - والله ما علمنا - ضررٌ في المحيا والممات. وتقدم جندب بن زهير، فبارز رأس أزد الشأم، فقتله الشامي، وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عبد الله من بني ثعلبة، وقتل مع مخنف من رهطه عبد الله وخالد ابنا ناجد، وعمرو وعامر ابنا عويف، وعبد الله بن الحجاج وجندب بن زهير، وأبو زينب بن عوف بن الحارث، وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في الفقراء الذين مع عمار بن ياسر فأصيب معه. قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة، عن أشياخ النمر، أن عقبة بن حديد النمري قال يوم صفين: ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيمًا، وأصبح شجرها خضيدًا، وجديدها سملًا، وحلوها مر المذاق. ألا وإني أنبئكم نبأ امرىء صادق: إني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها، وقد كنت أتمنى الشهادة، وأتعرض لها في كل جيش وغارة؛ فأبى الله عز وجل إلا أن يبلغني هذا اليوم. ألا وإني متعرض لها من ساعتي هذه، قد طمعت ألا أحرمها، فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ خوفًا من الموت القادم عليكم، الذاهب بأنفسكم لا محالة، أو من ضربة كفٍّ بالسيف! تستبدلون الدنيا بالنظر في وجه الله عز وجل وموافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار القرار! ما هذا بالرأي السديد. ثم مضى فقال: يا إخوتي، قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها لا يبرح وجوهكم، ولا يقطع الله عز وجل رجاءكم. فتبعه إخوته: عبيد الله وعوف ومالك، وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقبح الله العيش بعدك! اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك! فاستقدموا فقاتلوا حتى قتلوا. قال أبو مخنف: حدثني صلة بن زهير النهدي، عن مسلم بن عبد الله الضبابي، قال: شهدت صفين مع الحي ومعنا شمر بن ذي الجوشن الضبابي، فبارزه أدهم بن محرز الباهلي، فضرب أدهم وجه شمر بالسيف، وضربه شمر ضربةً لم تضرره، فرجع شمر إلى رحله فشرب شربةً - وكان قد ظمىء - ثم أخذ الرمح، فأقبل وهو يقول: إني زعيمٌ لأخي باهله ** بطعنةٍ إن لم أصب عاجله أو ضربةٍ تحت القنا والوغى ** شبيهةٍ بالقتل أو قاتله ثم حمل على أدهم فصرعه، ثم قال: هذه بتلك. قال أبو مخنف: حدثني عمرو بن عمرو بن عوف بن مالك الجشمي أن بشر بن عصمة المزني كان لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين بصر بشر بن عصمة بمالك بن العقدية - وهو مالك بن الجلاح الجشمي، ولكن العقدية غلبت عليه - فرآه بشر وهو يفري في أهل الشأم فريًا عجيبًا، وكان رجلًا مسلمًا شجاعًا، فغاظ بشرًا ما رأى منه، فحمل عليه فطعنه فصرعه، ثم انصرف، فندم لطعنته إياه جبارًا، فقال: وإني لأرجو من مليكي تجاوزًا ** ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس دلفت له تحت الغبار بطعنةٍ ** على ساعةٍ فيها الطعان تخالس فبلغت مقالته ابن العقدية، فقال: ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني ** شغلت وألهاني الذين أمارس فصادفت مني غرةً وأصبتها ** كذلك والأبطال ماضٍ وخالس ثم حمل عبد الله بن الطفيل البكائي على جمع لأهل الشأم، فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم - يقال له قيس بن قرة، ممن لحق بمعاوية من أهل العراق - فيضع الرمح بين كتفي عبد الله بن الطفيل، ويعترضه يزيد ابن معاوية، ابن عم عبد الله بن الطفيل، فيضع الرمح بين كتفي التميمي، فقال: والله لئن طعنته لأطعننك، فقال: عليك عهد الله وميثاقه لئن رفعت السنان على ظهر صاحبك لترفعن سنانك عني! فقال له: نعم، لك بذلك عهد الله؛ فرفع السنان عن ابن الطفيل، ورفع يزيد السنان عن التميمي، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني عامر؛ فقال له: جعلني الله فداكم! أينما ألفكم ألفكم كرامًا، وإني لحادي عشر رجلًا من أهل بيتي ورهطي قتلتموهم اليوم، وأنا كنت آخرهم. فلما رجع الناس إلى الكوفة عتب على يزيد بن الطفيل في بعض ما يعتب فيه الرجل على ابن عمه، فقال له: ألم ترني حاميت عنك مناصحًا ** بصفين إذ خلاك كل حميم ونهنهت عنك الحنظلي وقد أتى ** على سابحٍ ذي يمعةٍ وهزيم! قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: خرج رجل من أهل الشأم يدعو إلى المبارزة، فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي، ثم الطمحي، فتجاولا ساعة. ثم إن عبد الرحمن حمل على الشأمي فطعنه في ثغرة نحره فصرعه، ثم نزل إليه فسلبه درعه وسلاحه، فإذا هو حبشي، فقال: إنا لله! لمن أخطرت نفسي! لعبد أسود! وخرج رجل من عك يسأل المبارزة، فخرج إليه قيس بن فهدان الكناني، ثم البدني، فحمل عليه العكي فضربه واحتمله أصحابه فقال قيس بن فهدان: لقد علمت عكٌّ بصفين أننا ** إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا ونحمل رايات الطعان بحقها ** فنوردها بيضًا ونصدرها حمرا قال أبو مخنف: وحدثني فضيل بن خديج أن قيس بن فهدان كان يحرض أصحابه فيقول: شدوا إذا شددتم جميعًا، وإذا انصرفتم فأقبلوا معًا، وغضوا الأبصار، وأقلوا اللفظ، واعتوروا الأقران، ولا يؤتين من قبلكم العرب. قال: وقتل نهيك بن عزير - من بني الحارث بن عدي وعمرو بن يزيد من بني ذهل، وسعيد بن عمرو - وخرج قيس بن يزيد وهو ممن فر إلى معاوية من علي، فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه أخوه أبو العمرطة بن يزيد، فتعارفا، فتواقفا وانصرفا إلى الناس، فأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه. قال أبو مخنف: حدثني جعفر بن حذيفة من آل عامر بن جوين الطائي، أن طيئًا يوم صفين قاتلت قتالًا شديدًا، فعبيت لهم جموع كثيرة، فجاءهم حمزة بن مالك الهمداني، فقال: ممن أنتم، لله أنتم! فقال عبد الله ابن خليفة البولاني - وكان شيعيًا شاعرًا خطيبًا: نحن طيىء السهل وطيىء الرمل، وطيىء الجبل، الممنوع ذي النخل؛ نحن حماة الجبلين، إلى ما بين العذيب والعين، نحن طيىء الرماح، وطيىء النطاح، وفرسان الصباح. فقال حمزة بن مالك: بخٍ بخٍ! إنك لحسن الثناء على قومك؛ فقال: إن كنت لم تشعر بنجدة معشرٍ ** فأقدم علينا ويب غيرك تشعر ثم اقتتل الناس أشد القتال، فأخذ يناديهم ويقول: يا معشر طيىء، فدىً لكم طارفي وتالدي! قاتلوا على الأحساب، وأخذ يقول: أنا الذي كنت إذا الداعي دعا ** مصممًا بالسيف ندبًا أروعا فأنزل المستلئم المقنعا ** وأقتل المبالط السميدعا وقال بشر بن العسوس الطائي ثم الملقطي: يا طيىء السهول والأجبال ** ألا انهدوا بالبيض والعوالي وبالكماة منكم الأبطال ** فقارعوا أئمة الجهال السالكين سبل الضلال ففقئت يومئذ عين ابن العسوس، فقال في ذلك: ألا ليت عيني هذه مثل هذه ** فلم أمش في الآناس إلا بقائد ويا ليتني لم أبق بعد مطرفٍ ** وسعدٍ وبعد المستنير بن خالد فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم ** إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد ويا ليت رجلي ثم طنت بنصفها ** ويا ليت كفي ثم طاحت بساعدي قال أبو مخنف: حدثني أبو الصلت التيمي، قال: حدثني أشياخ محارب، أنه كان منهم رجل يقال له خنثر بن عبيدة بن خالد، وكان من أشجع الناس، فلما اقتتل الناس يوم صفين، جعل يرى أصحابه منهزمين، فأخذ ينادي: يا معشر قيس، أطاعة الشيطان آثر عندكم من طاعة الرحمن! الفرار فيه معصية الله سبحانه وسخطه، والصبر فيه طاعة الله عز وجل ورضوانه، فتختارون سخط الله تعالى على رضوانه، ومعصيته على طاعته! فإنما الراحة بعد الموت لمن مات محاسبًا لنفسه. وقال: لا وألت نفس امرىءٍ ولى الدبر ** أنا الذي لا ينثني ولا يفر ولا يرى مع المعازيل الغدر فقاتل حتى ارتث. ثم إنه خرج مع الخمسمائة الذين كانوا اعتزلوا مع فروة بن نوفل الأشجعي، فنزلوا بالدسكرة والبندنيجين، فقاتلت النخع يومئذ قتالًا شديدًا، فأصيب منهم يومئذ بكر بن هوذة وحيان بن هوذة وشعيب بن نعيم من بني بكر النخع، وربيعة بن مالك بن وهبيل، وأبي بن قيس أخو علقمة بن قيس الفقيه، وقطعت رجل علقمة يومئذ، فكان يقول: ما أحب أن رجلي اصح ما كانت، وإنها لمما أرجو به حسن الثواب من ربي عز وجل. وقال: لقد كنت أحب أن أرى في نومي أخي أو بعض إخواني، فرأيت أخي في النوم فقلت: يا أخي، ماذا قدمتم عليه؟ فقال لي: إنا التقينا نحن والقوم، فاحتججنا عند الله عز وجل، فحججناهم، فما سررت منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا. قال أبو مخنف: حدثني سويد بن حية الأسدي، عن الحضين ابن المنذر، أن أناسًا كانوا أتوا عليًا قبل الوقعة فقالوا له: إنا لا نرى خالد بن المعمر إلا قد كاتب معاوية، وقد خشينا أن يتابعه. فبعث إليه علي وإلي رجال من أشرافنا، فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد يا معشر ربيعة، فأنتم أنصاري ومجيبو دعوتي ومن أوثق حيٍّ في العرب في نفسي، وقد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم خالد بن المعمر، وقد أتيت به، وجمعتكم لأشهدكم عليه ولتسمعوا أيضًا ما أقوله. ثم أقبل عليه، فقال: يا خالد بن المعمر، إن كان ما بلغني حقًا فإني أشهد الله ومن حضرني من المسلمين أنك آمنٌ حتى تلحق بأرض العراق أو الحجاز أو أرضٍ لا سلطان لمعاوية فيها، وإن كنت مكذوبًا عليك، فإن صدورنا تطمئن إليك. فحلف بالله ما فعل، وقال جال منا كثير: لو كنا نعلم أنه فعل أمثلناه، فقال شقيق بن ثور السدوسي: ما وفق خالد بن المعمر أن نصر معاوية وأهل الشأم على علي وربيعة؛ فقال زياد بن خصفة التيمي: يا أمير المؤمنين، استوثق من ابن المعمر بالأيمان لا يغدرنك. فاستوثق منه، ثم انصرفنا. فلما كان يوم الخميس انهزم الناس من قبل الميمنة، فجاءنا علي حتى انتهى إلينا ومعه بنوه، فنادى بصوت عالٍ جهير، كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قلنا: رايات ربيعة، فقال: بل هي رايات الله عز وجل، عصم الله أهلها، فصبرهم، وثبت أقدامهم. ثم قال لي: يا فتى، ألا تدني رايتك هذه ذراعًا؟ قلت: نعم والله وعشرة أذرع؛ فقمت بها فأدنيتها، حتى قال: إن حسبك مكانك، فثبت حيث أمرني، واجتمع أصحابي. قال أبو مخنف: حدثنا أبو الصلت التيمي، قال: سمعت أشياخ الحي من تيم الله بن ثعلبة يقولون: إن راية ربيعة؛ أهل كوفتها وبصرتها، كانت مع خالد بن المعمر من أهل البصرة. قال: وسمعتهم يقولون: إن خالد ابن المعمر وسفيان بن ثور السدوسي اصطلحا على أن وليا راية بكر بن وائل من أهل البصرة الحضين بن المنذر الذهلي، وتنافسا في الراية، وقالا: هذا فتىً منا له حسب، نجعلها له حتى نرى من رأينا. ثم إن عليًا ولى خالد بن المعمر بعد راية ربيعة كلها. قال: وضرب معاوية لحمير بسهمهم على ثلاث قبائل، لم تكن لأهل العراق قبائل أكثر عددًا منها يومئذ: على ربيعة وهمدان ومذحج، فوقع سهم حمير على ربيعة، فقال ذو الكلاع: قبحك الله من سهم! كرهت الضراب! فأقبل ذو الكلاع في حمير ومن تعلقها، ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قراء أهل الشأم، وعلى ميمنتهم ذو الكلاع، فحملوا على ربيعة، وهم ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عباس، وهو على الميسرة، فحمل عليهم ذو الكلاع وعبيد الله بن عمر حملةً شديدة بخيلهم ورجلهم، فتضعضعت رايات ربيعة إلا قليلًا من الأخيار والأبدال. قال: ثم إن أهل الشأم انصرفوا، فلم يمكثوا إلا قليلًا حتى كروا، وعبيد الله بن عمر يقول: يا أهل الشأم، إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأنصار علي بن أبي طالب، وإن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم في عثمان وهلك علي بن أبي طالب وأهل العراق، فشدوا على الناس شدةً، فثبتت لهم ربيعة، وصبروا صبرًا حسنًا إلا قليلًا من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر منهم والحفاظ، فلم يزولوا، وقاتلوا قتالًا شديدًا. فلما رأى خالد بن المعمر ناسًا من قومه انصرفوا انصرف، ولما رأى أصحاب الرايات قد ثبتوا ورأى قومه قد صبروا رجع وصاح بمن انهزم، وأمرهم بالرجوع، فقال: من أراد من قومه أن يتهمه؛ أراد الانصراف. فلما رآنا قد ثبتنا رجع إلينا وقال هو: لما رأيت رجالًا منا انهزموا رأيت أن أستقبلهم وأردهم إليكم، وأقبلت غليكم فيمن أطاعني منهم، فجاء بأمر مشبه. قال أبو مخنف: حدثني رجل من بكر بن وائل، عن محرز بن عبد الرحمن العجلي، أن خالدًا قال يومئذ: يا معشر ربيعة، إن الله عز وجل قد أتى بكل رجل منكم من منبته ومسقط رأسه، فجمعكم في هذا المكان جمعًا لم يجمعكم مثله منذ نشرك في الأرض، فإن تمسكوا بأيديكم، وتنكلوا عن عدوكم، وتزولوا عن مصافكم لا يرض الله فعلكم، ولا تقدموا من الناس صغيرًا أو كبيرًا إلا يقول: فضحت ربيعة الذمار، وحاصت عن القتال، وأتيت من قبلها العرب، فإياكم أن يتشاءم بكم العرب والمسلمون اليوم. وإنكم إن تمضوا مقبلين مقدمين، وتصيروا محتسبين فإن الإقدام لكم عادة، والصبر منكم سجية، واصبروا ونيتكم صادقة أن تؤجروا، فإن ثواب من نوى ما عند الله شرف الدنيا وكرامة الآخرة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملًا. فقام رجل من ربيعة فقال: ضاع والله أمر ربيعة حين جعلت إليك أمورها! تأمرنا ألا نزول ولا نحول حتى تقتل أنفسنا، وتسفك دماءنا! ألا ترى الناس قد انصرف جلهم! فقام إليه رجال من قومه فنهروه وتناولوه بألسنتهم. فقال لهم خالد: أخرجوا هذا من بينكم، فإن هذا إن بقي فيكم ضركم، وإن خرج منكم لم ينقصكم، هذا الذي لا ينقص العدد، ولا يملأ البلد، برحك الله من خطيب قوم كرام! كيف جنبت السداد! واشتد قتال ربيعة وحمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت بينهم القتلى، فقتل سمير بن الريان بن الحارث العجلي، وكان من أشد الناس بأسًا. قال أبو مخنف: حدثني جيفر بن أبي القاسم العبدي، عن يزيد بن علقمة، عن زيد بن بدر العبدي، أن زياد بن خصفة أتى عبد القيس يوم صفين وقد عبيت قبائل حمير مع ذي الكلاع - وفيهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب - لبكر بن وائل، فقوتلوا قتالًا شديدًا، خافوا فيه الهلاك. فقال زياد بن خصفة: يا عبد القيس، لا بكر بعد اليوم. فركبنا الخيول، ثم مضينا فواقفناهم، فما لبثنا إلا قليلًا حتى أصيب ذو الكلاع، وقتل عبيد الله بن عمر رضي الله عنه، فقالت همدان: قتله هانىء بن خطاب الأرحبي؛ وقالت حضرموت: قتله مالك بن عمرو التنعي، وقالت بكر ابن وائل: قتله محرز بن الصحصح من بني عائش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة، وأخذ سيفه ذا الوشاح، فأخذ به معاوية بالكوفة بكر بن وائل، فقالوا: إنما قتله رجل منا من أهل البصرة، يقال له: محرز بن الصحصح، فبعث إليه بالبصرة فأخذ منه السيف، وكان رأس النمر بن قاسط عبد الله بن عمرو من بني تيم الله بن النمر. قال هشام بن محمد: الذي قتل عبيد الله بن عمر رضي الله عنه محرز بن الصحصح، وأخذ سيفه ذا الوشاح، سيف عمر، وفي ذلك قول كعب بن جعيل التغلبي: ألا إنما تبكي العيون لفارسٍ ** بصفين أجلت خيله وهو واقف يبدل من أسماء أسياف وائلٍ ** وكان فتىً لو أخطأته المتالف تركن عبيد الله بالقاع مسندًا ** تمج دم الخرق العروق الذوارف وهي أكثر من هذا. وقتل منهم يومئذ بشر بن مرة بن شرحبيل، والحارث بن شرحبيل، وكانت أسماء ابنة عطارد بن حاجب التميمي تحت عبيد الله بن عمر، ثم خلف عليها الحسن بن علي. قال أبو مخنف: حدثني ابن أخي غياث بن لقيط البكري أن عليًا حيث انتهى إلى ربيعة، تبارت ربيعة بينها، فقالوا: إن أصيب علي فيكم وقد لجأ إلى رايتكم افتضحتم. وقال لهم شقيق بن ثور: يا معشر ربيعة، لا عذر لكم في العرب إن وصل إلى علي فيكم وفيكم رجلٌ حي، وإن منعتموه فمجد الحاية اكتسبتموه. فقاتلوا قتالًا شديدًا حين جاءهم علي لم يكونوا قاتلوا مثله، ففي ذلك قال علي: لمن رايةٌ سوداء يخفق ظلها ** إذا قيل قدمها حضين تقدما يقدمها في الموت حتى يزيرها ** حياض المنايا تقطر الموت والدما جزى الله قومًا صابروا في لقائهم ** لدى الموت قومًا ما أعف وأكرما! وأطيب أخبارًا وأكرم شيمةً ** إذا كان أصوات الرجال تغمغما ربيعة أعني أنهم أهل نجدة ** وبأسٍ إذا لاقوا جسيمًا عرمرما مقتل عمار بن ياسر قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة الحنفي، أن عمار بن ياسر خرج إلى الناس، فقال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته، اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في صدري ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهرت لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملًا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أن عملًا من الأعمال هو أرض لك منه لفعلته. قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير الأزدي، قال: سمعت عمارًا يقول: والله إني لأرى قومًا ليضربنكم ضربًا يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل. حدثنا محمد بن عباد بن موسى، قال: حدثنا محمد بن فضيل، قال: حدثنا مسلم الأعور، عن حبة بن جوين العرني، قال: انطلقت أنا وأبو مسعود إلى حذيفة بالمدائن، فدخلنا عليه، فقال: مرحبًا بكما، ما خلفتما من قبائل العرب أحدًا أحب إلي منكما. فأسندته إلى أبي مسعود، فقلنا: يا أبا عبد الله، حدثنا فإنا نخاف الفتن؛ فقال: عليكما بالفئة التي فيها ابن سمية، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وإن آخر رزقه ضياح من لبن ". قال حبة: فشهدته يوم صفين وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا، فأتى بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال: اليوم ألقى الأحبه ** محمدًا وحزبه والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، وجعل يقول: الموت تحت الأسل، والجنة تحت البارقة. حدثني محمد، عن خلف، قال: حدثنا منصور بن أبي نويرة، عن أبي محنف. وحدثت عن هشام بن الكلبي، عن أبي محنف، قال: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني، أن عمار بن ياسر رحمه الله قال يومئذ: أين من يبتغي رضوان الله عليه، ولا يثوب إلى مال ولا ولد! فأتته عصابة من الناس، فقال: أيها الناس، اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفان، ويزعمون أنه قتل مظلومًا، والله ما طلبتهم بدمه، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرءوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلومًا، ليكونوا بذلك جبابرةً ملوكًا، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا هي ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم. ثم مضى، ومضت تلك العصابة التي أجابته حتى دنا من عمرو فقال: يا عمر، بعت دينك بمصر، تبًا لك تبًا! طالما بغيت في الإسلام عوجًا. وقال لعبيد الله ابن عمر بن الخطاب: صرعك الله! بعت دينك من عدو الإسلام وابن عدوه، قال: لا، ولكن أطلب بدم عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ قال له: أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله عز وجل؛ وإنك إن لم تقتل اليوم تمت غدًا، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك. حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: أخبرنا عبيد بن الصباح، عن عطاء بن مسلم، عن الأعمش، عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت عمار بن ياسر بصفين وهو يقول لعمرو بن العاص: لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثًا مع رسول الله ﷺ، وهذه الرابعة ما هي بأبر ولا أتقى. حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا الوليد بن صالح، قال: حدثنا عطاء بن مسلم، عن الأعمش، قال: قال أبو عبد الرحمن السلمي: كنا مع علي بصفين، فكنا قد وكلنا بفرسه رجلين يحفظانه ويمنعانه من أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلةٌ يحمل فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم، وقال: لولا أنه انثنى ما رجعت - فقال الأعمش: هذا والله ضرب غير مرتاب، فقال أبو عبد الرحمن: سمع القوم شيئًا فأدوه وما كانوا بكذابين - قال: ورأيت عمارًا لا يأخذ واديًا من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب محمد ﷺ؛ ورأيته جاء إلى المرقال هاشم بن عتبة وهو صاحب راية علي، فقال: يا هاشم، أعورًا وجبنًا! لا خير في أعور لا يغشى البأس، فإذا رجلٌ بين الصفين قال: هذا والله ليخلفن إمامه، وليخذلن جنده، وليصبرن جهده، اركب يا هاشم؛ فركب، ومضى هاشم يقول: أعور يبغي أهله محلا ** قد عالج الحياة حتى ملا لا بد أن يفل أو يفلا وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين. اليوم ألقى الأحبه ** محمدًا وحزبه فلم يرجعا وقتلا - قال: يفيد لك علمهما من كان هناك من أصحاب رسول الله ﷺ، أنهما كانا علما - فلما كان الليل قلت: لأدخلن إليهم حتى أعلم: هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا! وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم، فركبت فرسي وقد هدأت الرجل، ثم دخلت فإذا أنا بأربعة يتسايرون: معاوية، وأبو الأعور السلمي، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو - وهو خير الأربعة - فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول أحد الشقين، فقال عبد الله لأبيه: يا أبت، قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله ﷺ ما قال! قال: وما قال؟ قال: ألم تكن معنا ونحن نبني المسجد، والناس ينقلون حجرًا حجرًا ولبنة لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين، فغشي عليه، فأتاه رسول الله ﷺ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: " ويحك يابن سمية! الناس ينقلون حجرًا حجرًا، ولبنة لبنة، وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبةً منك في الأجر! وأنت ويحك مع ذلك تقتلك الفئة الباغية! ". فدفع عمرو صدر فرسه، ثم جذب معاوية غليه، فقال: يا معاوية، أما تسمع ما يقول عبد الله! قال: وما يقول؟ فأخبره الخبر، فقال معاوية: إنك شيخ أخرق، ولا تزال تحدث بالحديث وأنت تدحض في بولك! أو نحن قتلنا عمارًا! إنما قتل عمارًا من جاء به. فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عمارًا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب؟ هو أو هم! قال أبو جعفر: وقد ذكر أن عمارًا لما قتل قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفًا، وتقدمهم عليٌّ على بغلته فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لأهل الشأم صف إلا انتقض، وقتلوا كل من انتهوا إليه، حتى بلغوا معاوية، وعليٌّ يقول: أضربهم ولا أرى معاويه ** الجاحظ العين العظيم الحاويه ثم نادى معاوية، فقال عليٌّ: علام يقتل الناس بيننا! هلم أحاكمك إلى الله، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور، فقال له عمرو: أنصفك الرجل، فقال معاوية: ما أنصف، وإنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، قال له عمرو: وما يجمل بك إلا مبارزته، فقال معاوية: طمعت فيها بعدي. قال هشام، عن أبي مخنف: قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن سليمان الحضرمي، قال: قلت لأبي عمرة: ألا تراهم، ما أحسن هيئتهم! يعني أهل الشأم، ولا ترانا ما أقبح رعيتنا! فقال: عليك نفسك فأصلحها، ودع الناس فإن فيهم ما فيهم. خبر هاشم بن عتبة المرقال وذكر ليلة الهرير قال أبو مخنف: وحدثني أبو سلمة؛ أن هاشم بن عتبة الزهري دعا الناس عند المساء: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلي، فأقبل إليه ناسٌ كثير، فشد في عصابة من أصحابه على أهل الشأم مرارًا، فليس من وجه يحمل عليه إلا صبر له وقاتل فيه قتالًا شديدًا، فقال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما ترون فيهم إلا حمية العرب وصبرًا تحت راياتها، وعند مراكزها، وإنهم لعلى الضلال، وإنكم لعلى الحق. يا قوم اصبروا وصابروا واجتمعوا، وامشوا بنا إلى عدونا على تؤدة رويدًا، ثم اثبتوا وتناصروا، واذكروا الله، ولا يسأل رجلٌ أخاه، ولا تكثروا الالتفات، واصمدوا صمدهم، وجاهدوهم محتسبين، حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين. ثم إنه مضى في عصابة معه من القراء، فقاتل قتالًا شديدًا هو وأصحابه عند المساء حتى رأوا بعض ما يسرون به، قال: فإنهم لكذلك إذ خرج عليهم فتىً شاب وهو يقول: أنا ابن أرباب الملوك غسان ** والدائن اليوم بدين عثمان إني أتاني خبرٌ فأشجان ** أن عليًا قتل ابن عفان ثم يشد فلا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم يشتم ويلعن ويكثر الكلام، فقال له هاشم بن عتبة: يا عبد الله، إن هذا الكلام، بعده الخصام، وإن هذا القتال، بعده الحساب، فاتق الله فإنك راجع إلى الله فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به. قال: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي، وأنتم لا تصلون أيضًا، وأقاتلكم لأن صاحبكم قتل خليفتنا، وأنتم أردتموه على قتله. فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان! إنما قتله أصحاب محمد وأبناء أصحابه وقراء الناس، حين أحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب؛ وهم أهل الدين، وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومن أصحابك، وما أظن أمر هذه الأمة وأمر هذا الدين أهمل طرفة عين. فقال له: أجل، والله لا أكذب، فإن الكذب يضر ولا ينفع. قال: فإن أهل هذا الأمر أعلم به؛ فخله وأهل العلم به. قال: ما أظنك والله إلا نصحت لي؛ قال: وأما قولك: إن صاحبنا لا يصلي، فهو أول من صلى، مع رسول الله وأفقه خلق الله في دين الله، وأولى بالرسول. وأما كل من ترى معي فكلهم قارىء لكتاب الله لا ينام الليل تهجدًا، فلا يغوينك عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون. فقال الفتى: يا عبد الله، إني أظنك امرأً صالحًا؛ فتخبرني: هل تجد لي من توبة؟ فقال: نعم يا عبد الله؛ تب إلى الله يتب عليك، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين. قال: فجشر والله الفتى الناس راجعًا، فقال له رجل من أهل الشأم: خدعك العراقي، خدعك العراقي، قال: لا، ولكن نصح لي. وقاتل هاشمٌ قتالًا شديدًا هو وأصحابه، وكان هاشم يدعى المرقال، لأنه كان يرقل في الحرب، فقاتل هو وأصحابه حتى أبروا على من يليهم، وحتى رأوا الظفر، وأقبلت إليهم عند المغرب كتيبةٌ لتنوخ فشدوا على الناس، فقاتلهم وهو يقول: أعور يبغي أهله محلا ** قد عالج الحياة حتى ملا تلهم بذي الكعوب تلا فزعموا أنه قتل يومئذ تسعةً أو عشرة. وحمل عليه الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط، وأرسل إليه عليٌّ: أن قدم لواءك، فقال لرسوله: انظر إلى بطني، فإذا هو قد شق، فقال الأنصاري الحجاج بن غزية: فإن تفخروا بابن البديل وهاشمٍ ** فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا ونحن تركنا بعد معترك اللقا ** أخاكم عبيد الله لحمًا ملحبا ونحن أحطنا بالبعير وأهله ** ونحن سقيناكم سمامًا مقشبا هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد ابن وهب يشتمونه، فخبر بذلك، فوقف فيمن يليهم من أصحابه فقال: انهدوا إليهم، عليكم السكينة والوقار، وقار الإسلام، وسيما الصالحين، فوالله لأقرب قوم من الجهل قائدهم ومؤذنهم معاوية وابن النابغة، وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود حدًا في الإسلام، وهم أولى من يقومون فينقصونني ويجدبونني، وقبل اليوم قاتلوني وأنا إذ ذاك أدعوهم إلى الإسلام، وهم يدعونني إلى عبادة الأصنام، الحمد لله، قديمًا عاداني الفاسقون قعديهم الله ألم يقبحوا! إن هذا لهو الخطب الجليل؛ إن فساقًا كانوا غير مرضيين، وعلى الإسلام وأهله متخوفين، خدعوا شطر هذه الأمة، وأشربوا قلوبهم حب الفتنة، واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان، قد نصبوا لنا الحرب في إطفاء نور الله عز وجل، اللهم فافضض خدمتهم، وشتت كلمتهم، وأبسلهم بخطاياهم فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت. قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن الشعبي، أن عليًا مر بأهل راية فرآهم لا يزولون عن موقفهم، فحرض عليهم الناس، وذكر أنهم غسان، فقال: إن هؤلاء لن يزولوا عن موقفهم دون طعن دراك يخرج منهم النسم، وضرب يفلق منه الهام، ويطيح بالعظام، وتسقط منه المعاصم والأكف، وحتى تصدع جباههم بعمد الحديد، وتنتشر حواجبهم على الصدور والأذقان. أين أهل الصبر، وطلاب الأجر! فثاب إليه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمدًا؛ فقال: امش نحو أهل هذه الراية مشيًا رويدًا على هينتك، حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح، فأمسك حتى يأتيك رأيي. ففعل، وأعد عليٌّ مثلهم، فلما دنا منهم فأشرع بالرماح في صدورهم أمر علي الذين أعد فشدوا عليهم، وأنهض محمدًا بمن معه في وجوههم، فزالوا عن مواقفهم، وأصابوا منهم رجالًا، ثم اقتتل الناس بعد المغرب قتالًا شديدًا، فما صلى أكثر الناس إلا إيماء. قال أبو مخنف: حدثني أبو بكر الكندي، أن عبد الله بن كعب المرادي قتل يوم صفين، فمر به الأسود بن قيس المرادي، فقال: يا أسود، قال: لبيك! وعرفه وهو بآخر رمق، فقال: عز والله علي مصرعك، أما والله لو شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك، ولو عرفت الذي أشعرك لأحببت ألا يتزايل حتى أقتله أو ألحق بك. ثم نزل إليه فقال: أما والله إن كان جارك ليأمن بوائقك، وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيرًا، أوصني رحمك الله! فقال: أوصيك بتقوى الله عز وجل، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المحلين حتى يظهر أو تلحق بالله. قال: وابلغه عني السلام، وقل له: قاتل عن المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من أصبح غدًا والمعركة خلف ظهره كان العالي، ثم لم يلبث أن مات، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره، فقال رحمه الله! جاهد فينا عدونا في الحياة، ونصح لنا في الوفاة. قال أبو مخنف: حدثني محمد بن إسحاق مولى بني المطلب، أن عبد الرحمن ابن حنبل الجمحي، هو الذي أشار على علي بهذا الرأي يوم صفين. قال هشام: حدثني عوانة، قال: جعل ابن حنبل يقول يومئذ: إن تقتلوني فأنا ابن حنبل ** أنا الذي قد قلت فيكم نعثل رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف: قال أبو مخنف. فاقتتل الناس تلك الليلة كلها حتى الصباح؛ وهي ليلة الهرير، حتى تقصفت الرماح ونفد النبل، وصار الناس إلى السيوف، وأخذ علي يسير فيما بين الميمنة والميسرة، ويأمر كل كتيبة من القراء أن تقدم على التي تليها، فلم يزل يفعل ذلك بالناس ويقوم بهم حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في ميمنة الناس، وابن عباس في الميسرة، وعلي في القلب، والناس يقتتلون من كل جانب، وذلك يوم الجمعة، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها، وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، وأخذ يقول لأصحابه: ازحفوا قيد هذا الرمح، وهو يزحف بهم نحو أهل الشأم، فإذا فعلوا قال: ازحفوا قاد هذا القوس، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك، حتى مل أكثر الناس الإقدام، فلما رأى ذلك الأشتر قال: أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم، ثم دعا بفرسه، وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي، وخرج يسير في الكتائب ويقول: من يشتري نفسه من الله عز وجل، ويقاتل مع الأشتر، حتى يظهر أو يلحق بالله! فلا يزال رجل من الناس قد خرج إليه، وحيان بن هوذة. قال أبو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عمارة بن ربيعة الجرمي، قال: مر بي والله الأشتر فأقبلت معه، واجتمع إليه ناسٌ كثير، فأقبل حتى رجع إلى المكان الذي كان به الميمنة، فقام بأصحابه، فقال: شدوا شدة، - فدىً لكم عمي وخالي - ترضون بها الرب، وتعزون بها الدين، إذا شددت فشدوا، ثم نزل فضرب وجه دابته، ثم قال لصاحب رايته: قدم بها، ثم شد على القوم، وشد معه أصحابه، فضرب أهل الشأم حتى انتهى بهم إلى عسكرهم؛ ثم إنهم قاتلوه عند العسكر قتالًا شديدًا، فقتل صاحب رايته، وأخذ علي - لما رأى من الظفر من قبله - يمده بالرجال. قال حدثني عبد الله، عن جويرية، قال: قال عمرو بن العاص يوم صفين لوردان: تدري ما مثلي ومثلك! مثل الأشقر إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر، لئن تأخرت لأضربن عنقك، ائتوني بقيد، فوضعه في رجليه فقال: أما والله يا أبا عبد الله لأوردنك حياض الموت، ضع يدك على عاتقي، ثم جعل يتقدم وينظر إليه أحيانًا، ويقول: لأوردنك: حياض الموت. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد، وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا اجتماعًا، ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم؛ قال: نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حكمٌ بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: بلى، ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا: بلى، نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين. فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا هذا كتاب الله عز وجل بيننا وبينكم، من لثغور أهل الشام بعد أهل الشام! ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق! فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت، قالوا: نجيب إلى كتاب الله عز وجل وننيب إليه. ما روي من رفعهم المصاحف ودعائهم إلى الحكومة قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه أن عليًا قال: عباد الله، امضوا على حقكم وصدقكم قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالًا، وصحبتهم رجالًا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم! إنهم ما رفعوها، ثم لا يرفعونها ولا يعلمون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعةً ودهنًا ومكيدة، فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله عز وجل فنأبى أن نقبله؛ فقال لهم: فإني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم هذا الكتاب، فإنهم قد عصوا الله عز وجل فيما أمرهم ونسوا عهده، ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي، في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي، أجب إلى كتاب الله عز وجل إذ دعيت إليه، وإلا ندفعك برمتك إلى القوم، أو نفعل كما فعلنا بابن عفان؛ إنه علينا أن نعمل بما في كتاب الله عز وجل فقبلنانه؛ والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك. قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم، واحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني تقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم! قالوا له: إما لا فابعث إلى الأشتر فليأتك. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن رجل من النخع، أنه رأى إبراهيم بن الأشتر دخل على مصعب بن الزبير، قال: كنت عند علي حين أكرهه الناس على الحكومة، وقالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك، قال: فأرسل علي إلى الأشتر يزيد بن هانىء السبيعي: أن ائتني؛ فأتاه فبلغه، فقال: قل له ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي، إني قد رجوت أن يفتح لي، فلا تعجلني. فرجع يزيد بن هانىء إلى علي فأخبره، فما هو إلا أن انتهى إلينا، فارتفع الرهج، وعلت الأصوات من قبل الأشتر، فقال له القوم: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل؛ قال: من أين ينبغي أن تروا ذلك! رأيتموني ساررته؟ أليس إنما كلمته على رءوسكم علانية، وأنتم تسمعونني! قالوا: فابعث إليه فليأتك، وإلا والله اعتزلناك. قال له: ويحك يا يزيد! قل له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت، فأبلغه ذلك، فقال له: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم؛ قال: أما والله لقد ظننت حين رفعت أنها ستوقع اختلافًا وفرقة، إنها مشورة ابن العاهرة، ألا ترى ما صنع الله لنا! أينبغي أن أدع هؤلاء وانصرف عنهم! وقال يزيد بن هانىء: فقلت له: أتحب أنك ظفرت ها هنا، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه أو يسلم؟ قال: لا والله، سبحان الله! قال: فإنهم قد قالوا: لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا ابن عفان. فأقبل حتى انتهى إليهم فقال: يا أهل العراق، يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم ظهرًا، وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها! وقد والله تركوا ما أمر الله عز وجل به فيها، وسنة من أنزلت عليه ﷺ، فلا تيجبوهم، أمهلوني عدو الفرس، فإني قد طمعت في النصر؛ قالوا: إذًا ندخل معك في خطيئتك؛ قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم، متى كنتم محقين! أحين كنتم تقاتلون وخياركم يقتلون! فأنتم الآن إذ أمسكتم عن القتال مبطلون، أم الآن أنتم محقون، فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم فكانوا خيرًا منكم في النار إذًا! قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في الله عز وجل، وندع قتالهم لله سبحانه، إنا لسنا مطيعيك ولا صاحبك، فاجتنبنا، فقال: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم. يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلواتكم زهادةً في الدنيا وشوقًا إلى لقاء الله عز وجل، فلا أرى فلااركم إلا إلى الدنيا من الموت، ألا قبحًا يا أشباه النيب الجلالة! وما أنتم برائين بعدها عزًا أبدًا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فسبوه، فسبهم، فضربوا وجه دابته بسياطهم، وأقبل يضرب بسوطه وجوه دوابهم، وصاح بهم علي فكفوا؛ وقال للناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكًا، فجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال له: ما أرى الناس إلا قد رضوا، وسرهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، فنظرت ما يسأل؛ قال: ائته إن شئت فسله، فأتاه فقال: يا معاوية، لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله عز وجل به في كتابه، تبعثون منكم رجلًا ترضون به، ونبعث منا رجلًا، ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتبع ما اتفقا عليه، فقال له الأشعث بن قيس: هذا الحق، فانصرف إلى علي فأخبره بالذي قال معاوية؛ فقال الناس: فإنا قد رضينا وقبلنا، فقال أهل الشأم: فإنا قد اخترنا عمرو بن العاص؛ فقال الأشعث وأولئك الذين صاروا خوارج بعد: فإنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري، قال علي: فإنكم قد عصيتموني في أول الأمر، فلا تعصوني الآن، إني لا أرى أن أولي أبا موسى. فقال الأشعث وزيد بن حصين الطائي ومسعر بن فدكي: لا نرضى إلا به، فإنه ما كان يحذرنا منه وقعنا فيه؛ قال علي: فإنه ليس لي بثقة، قد فارقنين وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس نوليه ذلك، قالوا: ما نبالي أنت كنت أم ابن عباس! لا نريد إلا رجلًا هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى منه إلى الآخر، فقال علي: فإني أجعل الأشتر. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، أن الأشعث قال: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟! قال أبو مخنف؛ عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه: إن الأشعث قال: وهل نحن إلا في حكم الأشتر! قال علي: وما حكمه؟ قال: حكمه أن يضرب بعضنا بعضًا بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد؛ قال: فقد أبيتم إلا أبا موسى! قالوا: نعم؛ قال: فاصنعوا ما أردتم؛ فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال، وهو بعرضٍ، فأتاه مولىً له؛ فقال: إن الناس قد اصطلحوا؛ فقال: الحمد لله رب العالمين! قال: قد جعلوك حكمًا؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر، وجاء الأشتر حتى أتى عليًا فقال: ألزني بعمرو بن العاص، فوالله الذي لا إله إلا هو، لئن ملأت عيني منه لأقتلنه، وجاء الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد رميت بحجر الأرض، وبمن حار الله ورسوله أنف الإسلام، وإني قد عجمت هذا الرجل وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة، قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم، ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكمًا، فاجعلني ثانيًا أو ثالثًا، فإنه لن يعقد عقدةً إلا حللتها، ولن يحل عقدة أعقدها إلا عقدت لك أخرى أحكم منها. فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب؛ فقال الأحنف: فإن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال. فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما تاضى عليه عليٌّ أمير المؤمنين.. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم فأما أميرنا فلا، وقال له الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين، فإني أتخوف إن محوتها ألا ترجع إليك أبدًا، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضًاح فأبى ذلك علي مليًا من النهار، ثم إن الأشعث بن قيس قال: امح هذا الاسم برحه الله! فمحي وقال: علي: الله أكبر، سنة بسنة، ومثل بمثل، والله إني لكاتب بين يدي رسول الله ﷺ يوم الحديبية إذ ق الوا: لست رسول الله، ولا نشهد لك به، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فكتبه، فقال عمرو بن العاص: سبحان الله! ومثل هذا أن نشبه بالكفار ونحن مؤمنون! فقال علي: يابن النابغة، ومتى لم تكن للفاسقين وليًا، وللمسلمين عدوًا! وهل تشبه إلا أمك التي وضعت بك! فقام فقال: لا يجمع بيني وبينك مجلسٌ أبدًا بعد هذا اليوم؛ فقال له علي: وإني لأرجو أن يظهر الله عز وجل مجلسي منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب. حدثني علي بن مسلم الطوسي، قال: حدثنا حبان، قال: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: أخبرن الأحنف، أن معاوية كتب إلى علي أن امح هذا الاسم إن أردت أن يكون صلح؛ فاستشار - وكانت له قبة يأذن لبني هاشم فيها، ويأذن لي معهم - قال: ما ترون فيما كتب به معاوية أن امح هذا الاسم؟ - قال مبارك: يعني أمير المؤمنين - قال: برحه الله! فإن رسول الله ﷺ حين وادع أهل مكة كتب: محمد رسول الله فأبوا ذلك حتى كتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله؛ فقلت له: أيها الرجل مالك وما لرسول الله ﷺ! إنا والله ما حابيناك ببيعتنا، وإنا لو علمنا أحدًا من الناس أحق بهذا الأمر منك لبايعناه، ثم قاتلناك، وإني أقسم بالله لئن محوت هذا الاسم الذي بايعت عليه وقاتلتهم لا يعود إليك أبدًا قال: وكان والله كما قال. قال: قلما وزن رأيه برأي رجل إلا رجح عليه. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. وكتب الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشأم ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين، إنا ننزل عند حكم الله عز وجل وكتابه، ولا يجمع بيننا غيره، وإن كتاب الله عز وجل بيننا من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا، ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله عز وجل - وهما أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص القرشي - عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله عز وجل فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق والثقة من الناس، أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنا على ما في هذه الصحيفة، وأن قد وجبت قضيتهما على المؤمنين، فإن الأمن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وشاهدهم وغائبهم، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة، ولا يرداها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان. وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه على تراضٍ منهما، وإن توفي أحد الحكمين فإن أمير الشيعة يختار مكانه، ولا يألو من أهل المعدلة والقسط، وإن مكان قضيتهما الذي يقضيان فيه مكان عدلٌ بين أهل الكوفة وأهل الشأم؛ وإن رضيا وأحبا فلا يحضرهما فيه إلا من أرادا، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود، ثم يكتبان شهادتهما على ما في هذه الصحيفة، وهم أنصارٌ على من ترك ما في هذه الصحيفة، وأراد فيه إلحادًا وظلمًا. اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة. شهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس الكندي، وعبد الله بن عباس، وسعيد بن قيس الهمداني، وورقاء بن سمي البجلي، وعبد الله بن محل العجلي، وحجر بن عدي الكندي، وعبد الله بن الطفيل العامري، وعقبة ابن زياد الحضرمي، ويزيد بن حجية التيمي، ومالك بن كعب الهمداني. ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي عمرو بن سفيان، وحبيب مسلمة الفهري، والمخارق بن الحارث الزبيدي، وزمل بن عمرو العذري، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرحمن بن خالد المخزومي، وسبيع بن يزيد الأنصاري، وعلقمة بن يزيد الأنصاري، وعتبة بن أبي سفيان، ويزيد بن الحر العبسي. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، عن عمارة بن ربيعة الجرمي، قال: لما كتبت الصحيفة دعي لها الأشتر فقال: لا صحبتني يمين، ولا نفعتني بعدها شمالي، إن خط لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة. أولست على بينة من ربي، ومن ضلال عدوي! أولستم قد رأيتم الظفر لو لم تجمعوا على الجور! فقال له الأشعث بن قيس: إنك والله ما رأيت ظفرًا ولا جورًا، هلم إلينا فإنه لا رغبة بك عنا؛ فقال: بلى والله لرغبة بي عنك في الدنيا للدنيا والآخرة للآخرة، ولقد سفك الله عز وجل بسيفي هذا دماء رجال ما أنت عندي خيرٌ منهم، ولا أحرم دمًا؛ قال عمارة: فنظرت إلى ذلك الرجل وكأنما قصع على أنفه الحمم - يعني الأشعث. قال أبو مخنف، عن أبي جناب، قال: خرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه على الناس، ويعرضه عليهم، فيقرءونه، حتى مر به على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية، وهو أخو أبي بلال، فقرأه عليهم، فقال عروة ابن أدية: تحكمون في أمر الله عز وجل الرجال! لا حكم إلا لله؛ ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابته ضربةً خفيفة، واندفعت الدابة، وصاح به أصحابه، أن املك يدك، فرجع، فغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن، فمشى الأحنف بن قيس السعدي ومعقل بن قيس الرياحي، ومسعر بن فدكي، وناس كثيرٌ من بني تميم، فتنصلوا إليه واعتذروا؛ فقبل وصفح. قال أبو مخنف: حدثني أبو زيد عبد الله الأودي، أن رجلًا من أود كان يقال له عمرو بن أوس، قاتل مع علي يوم صفين، فأسره معاوية في أسارى كثيرين، فقال له عمرو بن العاص: اقتلهم، فقال له عمرو بن أوس: إنك خالي، فلا تقتلني، وقامت إليه بنو أود فقالوا: هب لنا أخانا؛ فقال: دعوه، لعمري لئن كان صادقًا فلنستغنين عن شفاعتكم، ولئن كان كاذبًا لتأتين شفاعتكم من ورائه، فقال له: من أين أنا خالك! فوالله ما كان بيننا وبين أودٍ مصاهرة؛ قال: فإن أخبرتك فعرفته فهو أماني عندك. قال: نعم؛ قال: ألست تعلم أن أم حبيبة ابنة أبي سفيان زوج النبي ﷺ؟ قال: بلى، قال: فإني ابنها، وأنت أخوها، فأنت خالي؛ فقال معاوية: لله أبوك! ما كان في هؤلاء واحد يفطن لها غيره. ثم قال للأوديين: أيستغنى عن شفاعتكم! خلوا سبيله. قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة الهمداني، عن الشعبي، أن أسارى كان أسرهم عليٌّ يوم صفين كثير، فخلى سبيلهم، فأتوا معاوية، وإن عمرًا ليقول - وقد أسر أيضًا أسارى كثيرة: اقتلهم، فما شعروا إلا بأسرائهم قد خلي سبيلهم، فقال معاوية: يا عمرو، لو أطعناك في هؤلاء الأسرى وقعنا في قبيح من الأمر؛ ألا ترى قد خلي سبيل أسارانا! وأمر بتخلية سبيل من في يديه من الأسارى. قال أبو مخنف: حدثني إسماعيل بن يزيد، عن حميد بن مسلم، عن جندب بن عبد الله، أن عليًا قال للناس يوم صفين: لقد فعلتم فعلةً ضعضعت قوة، وأسقطت منة، وأوهنت وأورثت وهنًا وذلة، ولما كنتم الأعلين، وخاف عدوكم الاجتياح، واستحر بهم القتل ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف، ودعوكم إلى ما فيها ليفثئوكم عنهم، ويقطعوا الحرب فيما بينكم وبينهم، ويتربصوا بكم ريب المنون خديعة ومكيدة، فأعطيتموهم ما سألوا، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجوزوا! وايم الله ما أظنكم بعدها توافقون رشدًا، ولا تصيبون باب حزم. قال أبو جعفر: فكتب كتاب القضية بين علي ومعاوية - فيما قيل - يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في شهر رمضان، مع كل واحد منهما أربعمائة من أصحابه وأتباعه. فحدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان بن يوسن بن يزيد، عن الزهري، قال: قال صعصعة بن صوحان يوم صفين حين رأى الناس يتبارون: ألا اسمعوا واعقلوا، تعلمن والله لئن ظهر علي ليكونن مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وإن ظهر معاوية لا يقر لقائل بقول حق. قال الزهري: فأصبح أهل الشأم قد نشروا مصاحفهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد ﷺ، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح. فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت - وكان ذلك أول ما ظهرت - فآذنوه بالحرب، وردوا عليه: إن حكم بني آدم في حكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه! وقاتلوا، فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر ابن الخطاب وعبد الله بن الزبير في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشأم، وأبى علي وأهل العراق أن يوافوا؛ فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحدًا من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قالوا: لا نرى أحدًا يعلم ذلك، قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأراجعهما. فدخل على عمرو بن العاص وبدأ به فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة، فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمة! قال: أراكم معشر المعتزلة خلف الأبرار، وأمام الفجار! فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو، فقال أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأيًا، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم؛ قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشأم قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها؛ فكتبها أبو موسى؛ قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن نسمي رجلًا يلي أمر هذه الأمة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك علي أن أتابعك، وإلا فلي عليك أن تتابعني! قال أبو موسى: أسمي لك عبد الله بن عمر، وكان ابن عمر فيمن اعتزل؛ قال عمرو: إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان، فلم يبرحا مجلسهما حتى استبا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو مثل الذين قال الله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها "، فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدت مثل أبي موسى كمثل الذي قال عز وجل: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا "، وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار. قال ابن شهاب: فقام معاوية عشيةً في الناس، فأثنى على الله جل ثناؤه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فمن كان متكلمًا في الأمر فليطلع لنا قرنه، قال ابن عمر: فأطلقت حبوتي، فأردت أن أقول قولًا يتكلم فيه رجالٌ قاتلوا أباك على الإسلام، ثم خشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة، أو يسفك فيها دم، أو أحمل فيها على غير رأي، فكان ما وعد الله عز وجل في الجنان أحب إلي من ذلك. فلما انصرف إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذلك، ثم خشيت أن أقول كلمةً تفرق بين جميع، أو يسفك فيها دم، أو أحمل فيها على غير رأي، فكان ما وعد الله عز وجل من الجنان أحب إلي من ذلك. قال: قال حبيب: فقد عصمت. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف: قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، قال: قيل لعلي بعد ما كتبت الصحيفة: إن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة، ولا يرى إلا قتال القوم؛ قال علي: وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذا أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت، فإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا، ولا التبديل بعد الإقرار، إلا أن يعصى الله عز وجل ويتعدى كتابه، فقاتلوا من ترك أمر الله عز وجل. وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك، ولست أخافه على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين! يا ليت فيكم مثله واحدًا يرى في عدوي ما أرى، إذًا لخفت مئونتكم، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم؛ وقد نهيتكم عما أتيتم فعصيتموني، وكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية أرشد فقالت طائفة ممن معه: ونحن ما فعلنا يا أمير المؤمنين إلا ما فعلت؛ قال: نعم، فلم كانت إجابتكم إياهم إلى وضع الحرب عنا! وأما القضية فقد استوثقنا لكم فيها، وقد طمعت ألا تضلوا إن شاء الله رب العالمين. فكان الكتاب في صفر والأجل في رمضان إلى ثمانية أشهر، إلى أن يلتقي الحكمان. ثم إن الناس دفنوا قتلاهم، وأمر عليٌّ الأعور فنادى في الناس بالرحيل. قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: لما انصرفنا من صفين أخذنا غير طريقنا الذي أقبلنا فيه؛ أخذنا على طريق البر على شاطىء الفرات، حتى انتهينا إلى هيت، ثم أخذنا على صندوداء، فخرج الأنصاريون بنو سعد بن حرام، فاستقبلوا عليًا، فعرضوا عليه النزول، فبات فيهم ثم غدا، واقبلنا معه، حتى إذا جزنا النخيلة، ورأينا بيوت الكوفة، إذا نحن بشيخ جالس في ظل بيت على وجهه أثر المرض، فأقبل إليه علي ونحن معه حتى سلم عليه وسلمنا معه، فرد ردًا حسنًا ظننا أن قد عرفه، قال له علي: أرى وجهك منكفئًا فمن مه؟ أمن مرض؟ قال: نعم؛ قال: فلعلك كرهته، قال: ما أحب أنه بغير، قال: أليس احتسابًا للخير فيما أصابك منه؟ قال: بلى، قال: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك. من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا صالح بن سليم، قال: ممن؟ قال: أما الأصل فمن سلامان طيىء، وأما الجوار والدعوة ففي بني سليم بن منصور؛ فقال: سبحان الله! ما أحسن اسمك واسم أبيك واسم أدعيائك واسم من اعتزيت إليه! هل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ قال: لا، والله ما شهدتها، ولقد أردتها ولكن ما ترى من أثر لحب الحمى خزلني عنها؛ فقال: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرجٌ إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيلٍ والله غفورٌ رحيمٌ ". خبرني ما تقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال: فيهم المسرور فيما كان بينك وبينهم - وأولئك أغشاء الناس - وفيهم المكبوت الآسف بما كان من ذلك - وأولئك نصحاء الناس لك - فذهب لينصرف فقال: قد صدقت، جعل الله ما كان من شكواك حطًا لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه، ولكنه لا يدع على العبد ذنبًا إلا حطه، وإنما أجرٌ في القول باللسان والعمل باليد والرجل، وإن الله جل ثناؤه ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالمًا جمًا من عباده الجنة. قال: ثم مضى عليٌّ غير بعيد، فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري، فدنا منه، وسلم عليه وسايره، فقال له: ما سمعت الناس يقولون في أمرنا؟ قال: منهم المعجب به، ومنهم الكاره له، كما قال عز وجل: " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ". فقال له: فما قول ذوي الرأي فيه؟ قال: أما قولهم فيه فيقولون إن عليًا كان له جمع عظيم ففرقه، وكان له حصن حصين فهدمه، فحتى متى يبني ما هدم، وحتى متى يجمع ما فرق! فلو أنه كان مضى بمن أطاعه - إذ عصاه من عصاه - فقاتل حتى يظفر أو يهلك إذًا كان ذلك الحزم. فقال عليٌّ: أنا هدمت أم هم هدموا! أنا فرقت أم هم فرقوا! أما قولهم: إنه لو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك، إذًا كان ذلك الحزم، فوالله ما غبي عن رأيي ذلك، وإن كنت لسخيًا بنفسي عن الدنيا، طيب النفس بالموت، ولقد هممت بالإقدام على القوم، فنظرت إلى هذين قد ابتدراني - يعني الحسن والحسين - ونظرت إلى هذين قد استقدماني - يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي - فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل محمد ﷺ من هذه الأمة، فكرهت ذلك، وأشفقت على هذين أن يهلكا، وقد علمت أن لولا مكاني لم يستقدما - يعني محمد بن علي وعبد الله بن جعفر - وايم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا معي في عسكر ولا دار. ثم مضى حتى إذا جزنا بني عوف إذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية، فقال عليٌّ: ما هذه القبور؟ فقال قدامة بن العجلان الأزدي: يا أمير المؤمنين، إن خباب ابن الأرت توفي بعد مخرجك، فأوصى بأن يدفن في الظهر، وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم، فدفن بالظهر رحمه الله، ودفن الناس إلى جنبه، فقال عليٌّ: رحم الله خبابًا، فقد أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتلي في جسمه أحوالًا! وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. ثم جاء حتى وقف عليهم فقال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، بكم عما قليل لاحقون. اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم! وقال: الحمد لله الذي جعل منها خلقكم، وفيها معادكم، منها يبعثكم، وعليها يحشركم، طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله عز وجل! ثم أقبل حتى حاذى سكة الثوريين، ثم قال: خشوا، ادخلوا بين هذه الأبيات. قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، قال: مر عليٌّ بالثوريين، فسمع البكاء، فقال: ما هذه الأصوات؟ فقيل له: هذا البكاء على قتلى صفين، فقال: أما إني أشهد لمن قتل منهم صابرًا محتسبًا بالشهادة. ثم مر بالفائشيين، فسمع الأصوات، فقال مثل ذلك، ثم مضى حتى مر بالشباميين، فسمع رجةً شديدة، فوقف، فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال عليٌّ: أيغلبكم نساؤكم! ألا تنهونهن عن هذا الرنين! فقال: يا أمير المؤمنين، لو كانت دارًا أو دارين أو ثلاثًا قدرنا على ذلك، ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل، فليس دار إلا وفيها بكاء، فأما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي، ولكن نفرح لهم، ألا نفرح لهم بالشهادة! قال عليٌّ: رحم الله قتلاكم وموتاكم! واقبل يمشي معه وعليٌّ راكب، فقال له علي: ارجع، ووقف ثم قال له: ارجع، فإن مشى مثلك مع مثلي فتنةٌ للوالي، ومذلة للمؤمن. ثم مضى حتى مر بالناعطيين - وكان جلهم عثمانية - فسمع رجلًا منهم يقال له عبد الرحمن بن يزيد، من بني عبيد من الناعطيين يقول: والله ما صنع علي شيئًا، ذهب ثم انصرف في غير شيء! فلما نظروا إلى علي أبلسوا، فقال: وجوه قومٍ ما رأوا الشأم العام. ثم قال لأصحابه: قومٌ فارقناهم آنفًا خير من هؤلاء، ثم أنشأ يقول: أخوك الذي إن أجرضتك ملمةٌ ** من الدهر لم يبرح لبثك واجما وليس أخوك بالذي إن تشعبت ** عليك الأمور ظل يلحاك لائما ثم مضى، فلم يزل يذكر الله عز وجل حتى دخل القصر. قال أبو مخنف: حدثنا أبو جناب الكلبي، عن عمارة بن ربيعة، قال: خرجوا مع علي إلى صفين وهم متوادون أحباء، فرجعوا متباغضين أعداء، ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيها التحكيم، ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون ويضطربون بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله، أدهنتم في أمر الله عز وجل وحكمتم! وقال الآخرون: فارقتم إمامنا. وفرقتم جماعتنا. فلما دخل علي الكوفة لم يدخلوا معه حتى أتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفًا، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي. وأمير الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بعثة علي جعدة بن هبيرة إلى خراسان وفي هذه السنة بعث عليٌّ جعدة بن هبيرة فيما قيل إلى خراسان. ذكر الخبر عن ذلك ذكر علي بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله بن ميمون، عن عمرو بن شجيرة، عن جابر، عن الشعبي، قال: بعث عليٌّ بعد ما رجع من صفين جعدة بن هبيرة المخزومي بن هبيرة المخزومي إلى خراسان، فانتهى إلى أبرشهر، وقد كفروا وامتنعوا، فقدم على علي. فبعث خليد بن قرة اليربوعي، فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه، وصالحه أهل مرو، وأصاب جاريتين من أبناء الملوك نزلتا بأمان، فبعث بهما إلى علي، فعرض عليهما الإسلام وأن يزوجهما، قالتا: زوجنا ابنيك، فأبى، فقال له بعض الدهاقين: ادفعهما إلي، فإنه كرام تكرمني بها، فدفعهما إليه، فكانتا عنده، يفرش لهما الديباج، ويطعمهما في آنية الذهب، ثم رجعتا إلى خراسان. اعتزال الخوارج عليا وأصحابه ورجوعهم بعد ذلك وفي هذه السنة اعتزل الخوارج عليًا وأصحابه، وحكموا، ثم كلمهم عليٌّ فرجعوا ودخلوا الكوفة. ذكر الخبر عن اعتزالهم عليا قال أبو مخنف في حديثه عن أبي جناب، عن عمارة بن ربيعة، قال: ولما قدم عليٌّ الكوفة وفارقته الخوارج، وثبت إليه الشيعة فقالوا: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت؛ فقالت الخوارج: استبقتم أنتم وأهل الشأم إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشأم معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم عليًا على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى؛ فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط عليٌّ يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته، فقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت؛ ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى، ومن خالفه ضالٌّ مضل. وبعث علي ابن عباس إليهم، فقال: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك. فخرج إليهم حتى أتاهم، فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: ما نقمتم من الحكمين، وقد قال الله عز وجل: " إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما "! فكيف بأمة محمد ﷺ! فقالت الخوارج: قلنا: أما ما جعل حكمه إلى الناس، وأمر بالنظر فيه والإصلاح له فهو إليهم كما أمر به، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه؛ حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق بقطع يده، فليس للعباد أن ينظروا في هذا. قال ابن عباس: فإن الله عز وجل يقول: " يحكم به ذوا عدلٍ منكم "، فقالوا: أو تجعل الحكم في الصيد، والحدث يكون بين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين! وقالت الخوارج: قلنا له: فهذه الآية بيننا وبينك، أعدلٌ عندك ابن العاص وهو بالأمس يقاتلنا ويسفك دماءنا! فإن كان عدلًا فليس بعدول ونحن أهل حربه. وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله عز وجل حكمه في معاوية وحزبه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقيل ذلك ما دعوناهم إلى كتاب الله عز وجل فأبوه، ثم كتبتم بينكم وبينه كتابًا، وجعلتم بينكم وبينه الموادعة والاستفاضة، وقد قطع عز وجل الاستفاضة والموادعة بين المسلمين وأهل الحرب منذ نزلت براءة، إلا من أقر بالجزية. وبعث علي زياد بن النضر إليهم فقال: انظر بأي رءوسهم هم أشد إطافة، فنظر فأخبره أنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد بن قيس. فخرج علي في الناس حتى دخل إليهم، فأتى فسطاط يزيد بن قيس، فدخله فتوضأ فيه وصلى ركعتين، وأمره على إصبهان والري، ثم خرج حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس، فقال: انته عن كلامهم، ألم أنهك رحمك الله! ثم تكلم فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال: اللهم إن هذا مقامٌ من أفلج فيه كان أولى بالفح يوم القيامة، ومن نطق فيه وأوعث فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا. ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء. قال عليٌّ: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتكم يوم صفين. قال: أنشدكم بالله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم؛ إنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني صحبتهم وعرفتهم أطفالًا ورجالًا، فكانوا شر أطفال وشر رجال. امضوا على حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم هذه المصاحف خديعةً ودهنًا ومكيدة. فرددتم علي رأيي، وقلتم: لا، بل نقبل منهم. فقلت لكم: اذكروا قولي لكم، ومعصيتك إياي، فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكمًا يحكم بما في القرآن، وإن أبيا فنحن من حكمهما برآء. قالوا له: فخبرنا أتراه عدلًا تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال، إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين، لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال، قالوا: فخبرا عن الأجل، لم جعلته فيما بينك وبينهم؟ قال: ليعلم الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله عز وجل يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة. ادخلوا مصركم رحمكم الله! فدخلوا من عند آخرهم. قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، عن أبيه بمثل هذا. وأما الخوارج فيقولون: قلنا: صدقت، قد كنا كما ذكرت، وفعلنا ما وصفت، ولكن ذلك كان منا كفرًا، فقد تبنا إلى الله عز وجل منه، فتب كما تبنا نبايعك، وإلا فنحن مخالفون. فبايعنا علي وقال: ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى يجبى المال، ويسمن الكراع، ثم نخرج إلى عدونا. ولسنا نأخذ بقولهم؛ وقد كذبوا. وقدم معن بن يزيد بن الأخنس السلمي في استبطاء إمضاء الحكومة وقال لعلي: إن معاوية قد وفى. فف أنت لا يلتفتنك عن رأيك أعاريب بكر وتميم. فأمر عليٌّ بإمضاء الحكومة، وقد كانوا افترقوا من صفين على أن يقدم الحكمان في أربعمائة أربعمائة إلى دومة الجندل. وزعم الواقدي أن سعدًا قد شهد مع من شهد الحكمين، وأن ابنه عمر لم يدعه حتى أحضره أذرح، فندم، فأحرم من بيت المقدس بعمرة. اجتماع الحكمين بدومة الجندل وفي هذه السنة كان اجتماع الحكمين. ذكر الخبر عن اجتماعهما قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن زياد بن النضر الحارثي، أن عليًا بعث أربعمائة رجل، عليهم شريح بن هانىء الحارثي، وبعث معهم عبد الله بن عباس، وهو يصلي بهم، ويلي أمورهم، وأبو موسى الأشعري معهم. وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشأم، حتى توافوا بدومة الجندل بأذرح، قال: فكان معاوية إذا كتب إلى عمرو جاء الرسول وذهب لا يدري بما جاء به، ولا بما رجع به، ولا يسأله أهل الشام عن شيء؛ وإذا جاء رسول علي جاءوا إلى ابن عباس فسألوه: ما كتب به إليك أمير المؤمنين؟ فإن كتمهم ظنوا به الظنون فقالوا: ما نراه كتب إلا بكذا وكذا. فقال ابن عباس: أما تعقلون! أما ترون رسول معاوية يجيء لا يعلم بما جاء به، ويرجع لا يعلم ما رجع به، ولا يسمع لهم صياح ولا لفظ، وأنتم عندي كل يوم تظنون الظنون! قال: وشهد جماعتهم تلك عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة الثقفي؛ وخرج عمر بن سعد حتى أتى أباه على ماء لبني سليم بالبادية، فقال: ياأبت، قد بلغك ما كان بين الناس بصفين، وقد حكم الناس أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وقد شهدهم نفر من قريش؛ فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله ﷺ وأحد الشورى، ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة، فاحضر فإنك أحق الناس بالخلافة. فقال: لا أفعل، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إنه تكون فتنةٌ؛ خير الناس فيها الخفي التقي "، والله لا أشهد شيئًا من هذا الأمر أبدًا. والتقى الحكمان، فقال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، ألست تعلم أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلومًا؟ قال: أشهد، قال: ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى؛ قال: فإن الله عز وجل قال: " ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورًا "، فما يمنعك من معاوية ولي عثمان يا أبا موسى، وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن تخوفت أن يقول الناس: ولي معاوية وليست له سابقة؛ فإن لك بذلك حجة؛ تقول: إني وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير، وهو أخو أم حبيبة زوجة النبي ﷺ، وقد صحبه، فهو أحد الصحابة. ثم عرض له بالسلطان، فقال: إن ولي أكرمك كرامةً لم يكرمها خليفة. فقال أبو موسى: يا عمرو، اتق الله عز وجل! فأما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف يولاه أهله، ولو كان على الشرف لكان هذا الأمر لآل أبرهة بن الصباح، إنما هو لأهل الدين والفضل، مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفًا أعطيته علي بن أبي طالب. وأما قولك: إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر، فإني لم أكن لأوليه معاوية وأدع المهاجرين الأولين. وأما تعريضك لي بالسلطان، فوالله لو خرج لي من سلطانه كله ما وليته، وما كنت لأرتشي في حكم الله عز وجل، ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، أنه كان يقول: قال أبو موسى: أما والله لئن استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال له عمرو: إن كنت تحب بيعة ابن عمر فما يمنعك من ابني وأنت تعرف فضله وصلاحه! فقال: إن ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة. قال أبو مخنف: حدثني محمد بن إسحاق، عن نافع مولى ابن عمر، قال: قال عمرو بن العاص: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم، وكانت في ابن عمر غفلة، فقال له عبد الله بن الزبير: افطن، فانتبه، فقال عبد الله بن عمر: لا والله لا أرشو عليها شيئًا أبدًا، وقال: يابن العاص، إن العرب أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتناجزت بالرماح، فلا تردنهم في فتنة. قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح العبسي، قال: كنت مع شريح بن هانىء في غزوة سجستان، فحدثني أن عليًا أوصاه بكلمات إلى عمرو بن العاص، قال: قل له إذا أنت لقيته: إن عليًا يقول لك: إن أفضل الناس عند الله عز وجل من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه وكرثه، من الباطل وإن حن إليه وزاده، يا عمرو، والله إنك لتعلم أين موضع الحق، فلم تجاهل؟ إن أوتيت طمعًا يسيرًا كنت به لله وأوليائه عدوًا، فكأن والله ما أوتيت قد زال عنك؛ ويحك! فلا تكن للخائنين خصيمًا، ولا للظالمين ظهيرًا. أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم، وهو يوم وفاتك، تمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوةً، ولم تأخذ على حكم رشوة. قال: فبلغته ذلك، فتمعر وجهه، ثم قال: متى كنت أقبل مشورة علي أو أنتهي إلى أمره، أو أعتد برأيه! فقلت له: وما يمنعك يابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته! فقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه، ويعملان برأيه. فقال: إن مثلي لا يكلم مثلك، فقلت له: وبأي أبويك ترغب عني! بأبيك الوشيظ أم بأمك النابغة! قال: فقام عن مكانه وقمت معه. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي أن عمرًا وأبا موسى حيث التقيا بدومة الجندل، أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام، يقول: إنك صاحب رسول الله ﷺ وأنت أسن مني، فتكلم وأتكلم. فكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في كل شيء، اغتزى بذلك كله أن يقدمه فيبدأ بخلع علي. قال: فنظر في أمرهما وما اجتمعا عليه، فأراده عمرو على معاوية فأبى، وأراده على ابنه فأبى، وأراد أبو موسى عمرًا على عبد الله ابن عمر فأبى عليه، فقال له عمرو: خبرني ما رأيك؟ قال: رأيي أن نخلع هذين الرجلين، ونجعل الأمر شورى بين المسلمين، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. فقال له عمرو: فإن الرأي ما رأيت، فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال: يا أبا موسى، أعلمهم بأن رأينا قد اجتمع واتفق، فتكلم أبو موسى فقال: إن رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله عز وجل به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبر، يا أبا موسى، تقدم فتكلم. فتقدم أبو موسى ليتكلم، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك. إن كنتما قد اتفقتما على أمر، فقدمه فليتكلم بذلك الأمر قبلك، ثم تكلم أنت بعده، فإن عمرًا غادر، ولا آمن من أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس خالفك - وكان أبو موسى مغفلًا - فقال له: إنا قد اتفقنا. فتقدم أبو موسى فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها، ولا ألم لشعثها من أمرٍ قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه؛ وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، وتستقبل هذه الأمة هذا الأمر فيولوا منهم من أحبوا عليهم، وإني قد خلعت عليًا ومعاوية، فاستقبلوا أمركم. وولوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلًا؛ ثم تنحى. وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه. وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه. فقال أبو موسى: ما لك لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. قال عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارًا. وحمل شريح بن هانىء على عمرو فقنعه بالسوط، وحمل على شريح ابنٌ لعمرو فضربه بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهم. وكان شريح بعد ذلك يقول: ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ألا أكون ضربته بالسف آتيًا به الدهر ما أتى. والتمس أهل الشأم أبا موسى! حذرته وأمرته بالرأي فما عقل. فكان أبو موسى يقول: حذرني ابن عباس غدرة الفاسق، ولكني اطمأننت إليه، وظننت أنه لن يؤثر شيئًا على نصيحة الأمة. ثم انصرف عمرو وأهل الشأم إلى معاوية، وسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانىء إلى علي، وكان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمرًا وأبا الأعور السلمي وحبيبًا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد. فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليًا وابن عباس والأشتر وحسنًا وحسينًا. وزعم الواقدي أن اجتماع الحكمين كان في شعبان سنة ثمان وثلاثين من الهجرة. ذكر ما كان من خبر الخوارج عند توجيه علي الحكم للحكومة وخبر يوم النهر قال أبو مخنف: عن أبي المغفل، عن عون بن أبي جحيفة، أن عليًا لما أراد أن يبعث أبا موسى للحكومة، أتاه رجلان من الخوارج: زرعة بن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي، فدخلا عليه، فقالا له: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال لهم علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبينهم كتابًا، وشرطنا شروطًا، وأعطينا عليها عهودنا ومواثيقنا، وقد قال الله عز وجل: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا إن الله يعلم ما تفعلون ". فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه؛ فقال علي: ما هو ذنب، ولكنه عجز من الرأي، وضعفٌ من الفعل، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه. فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي، لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله عز وجل قاتلتك؛ أطلب بذلك وجه الله ورضوانه، فقال له علي: بؤسًا لك، ما أشقاك! كأني بك قتيلًا تسفي عليك الريح؛ قال: وددت أن قد كان ذلك؛ فقال له علي: لو كنت محقًا كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا، إن الشيطان قد استهواكم، فاتقوا الله عز وجل؛ إنه لا خير لكم في دنيا تقاتلون عليها؛ فخرجا من عنده يحكمان. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الملك بن أبي حرة الحنفي، أن عليًا خرج ذات يوم يخطب، فإنه لفي خطبته إذ حكمت المحكمة في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر! كلمة حق يراد بها باطل! إن سكتوا عممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم. فوثب يزيد بن عاصم المحاربي، فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغنىً عنه. اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا، فإن إعطاء الدنية في الدين إدهانٌ في أمر الله عز وجل، وذل راجع بأهله إلى سخط الله. يا علي، أبالقتل تخوفنا! أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلمن أينا أولى بها صليًا. ثم خرج بهم هو وإخوة له ثلاثة هو رابعهم، فأصيبوا مع الخوارج بالنهر، وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة. قال أبو مخنف: حدثني الأجلح بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن كثير بن بهز الحضرمي، قال: قام علي في الناس يخطبهم ذات يوم، فقال رجلٌ من جانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمون، فقال علي: الله أكبر؛ كلمة حق يلتمس بها باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثًا ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدءونا؛ ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته. قال أبو مخنف: وحدثنا عن القاسم بن الوليد، أن حكيم بن عبد الرحمن بن سعيد البكائي كان يرى رأي الخوارج، فأتى عليًا ذات يوم وهو يخطب، فقال: " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " فقال علي: " فاصبر إن وعد الله حقٌّ ولا يستخفنك الذين لايوقنون ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت إسماعيل ابن سمعي الحنفي؛ عن أبي رزين، قال: لما وقع التحكيم ورجع علي من صفين رجعوا مباينين له، فلما انتهوا إلى النهر أقاموا به، فدخل علي في الناس الكوفة، ونزلوا بحر وراء، فبعث إليهم عبد الله بن عباس، فرجع ولم يصنع شيئًا، فخرج إليهم علي فكلمهم حتى وقع الرضا بينه وبينهم، فدخلوا الكوفة، فأتاه رجل فقال: إن الناس قد تحدثوا أن الناس قد تحدثوا أنك رجعت لهم عن كفرك. فخطب الناس في صلاة الظهر، فذكر أمرهم فعابه؛ فوثبوا من نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلا لله. واستقبله رجل منهم واضع إصبعيه في أذنيه، فقال: " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين "، فقال علي: " فاصبر إن وعد الله حقٌّ ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ". حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليث بن أبي سليم يذكر عن أصحابه، قال: جعل علي يقلب يديه يقول يديه هكذا وهو على المنبر، فقال: حكم الله عز وجل ينتظر فيكم مرتين، إن لكم عندنا ثلاثًا: لا نمنعكم صلاةً في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا. قال أبو مخنف عن عبد الملك بن أبي حرة: إن عليًا لما بعث أبا موسى لإنفاذ الحكومة لقيت الخوارج بعضها بعضًا، فاجتمعوا في منزل عبد الله بن وهب الراسبي، فحمد الله عبد الله بن وهب وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فوالله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا، التي الرضا بها والركون بها والإيثار إياها عناء وتبار، آخر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بالحق، وإن من وضر فإنه من يمن ويضر في هذه الدنيا فإن ثوابه يوم القيامة رضوان الله عز وجل والخلود في جناته. فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة، فقال له حرقوص بن زهير: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق، وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فقال حمزة ابن سنان الأسدي: يا قوم، إن الرأي ما رأيتم، فولوا أمركم رجلًا منكم، فإنه لابد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها، وترجعون إليها. فعرضوها على زيد بن حصين الطائي فأبى، وعرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعلى حمزة بن سنان وشريح بن أوفى العبسي فأبيا، وعرضوها على عبد الله ابن وهب، فقال: هاتوها، أما والله لا آخذها رغبةً في الدنيا، ولا أدعها فرقًا من الموت. فبايعوه لعشر خلون من شوال - وكان يقال له ذو الثفنات - ثم اجتمعوا في منزل شريح بن أوفى العبسي، فقال ابن وهب: اشخصوا بنا إلى بلدة نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله، فإنكم أهل الحق. قال شريح: نخرج إلى المدائن فننزلها، ونأخذ بأبوابها، ونخرج منها سكانها، ونبعث إلى إخواننا من أهل البصرة فيقدمون علينا. فقال زيد بن حصين: إنكم إن خرجتم مجتمعين اتبعتم، ولكن اخرجوا وحدانًا مستخفين، فأما المدائن فإن بها من يمنعكم، ولكن سيروا حتى تنزلوا جسر النهروان، وتكاتبوا إخوانكم من أهل البصرة. قالوا: هذا الرأي. وكتب عبد الله بن وهب إلى من بالبصرة منهم يعلمهم ما اجتمعوا عليه، ويحثهم على اللحاق بهم، وسير الكتاب إليهم، فأجابوه أنهم على اللحاق به. فلما عزموا على المسير تعبدوا ليلتهم - وكانت ليلة الجمعة ويوم الجمعة - وساروا يوم السبت، فخرج شريح بن أوفى العبسي وهو يتلو قول الله تعالى: " فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين، ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ". وخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي، فاتبعه أبوه فلم يقدر عليه، فانتهى إلى المدائن ثم رجع، فلما بلغ ساباط لقيه عبد الله بن وهب الراسي في نحو عشرين فارسًا، فأراد عبد الله قتله، فمنعه عمرو بن مالك النبهاني وبشر بن زيد البولاني. وأرسل عدي إلى سعد بن مسعود عامل علي على المدائن يحذره أمرهم، فحذر، وأخذ أبواب المدائن، وخرج في الخيل واستخلف بها ابن أخيه المختار بن أبي عبيد، وسار في طلبهم، فأخبر عبد الله بن وهب خبره فرابأ طريقه، وسار على بغداذ، ولحقهم سعد بن مسعود بالكرخ في خمسمائة فارس عند المساء، فانصرف إليهم عبد الله في ثلاثين فارسًا، فاقتتلوا ساعة، وامتنع القوم منهم؛ وقال أصحاب سعد لسعد: ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر! خلهم فليذهبوا، واكتب إلى أمير المؤمنين، فإن أمرك باتباعهم اتبعتهم، وإن كفاكهم غيرك كان في ذلك عافية لك. فأبى عليهم، فلما جن عليهم الليل خرج عبد الله بن وهب فعبر دجلة إلى أرض جوخى، وسار إلى النهروان، فوصل إلى أصحابه وقد أيسوا منه، وقالوا: إن كان هلك ولينا الأمر زيد بن حصين أو حرقوص بن زهير، وسار جماعة من أهل الكوفة يريدون الخوارج ليكونوا معهم، فردهم أهلوهم كرهًا؛ منهم القعقاع بن قيس الطائي عم الطرماح بن حكيم، وعبد الله بن حكيم بن عبد الرحمن البكائي، وبلغ عليًا أن سالم بن ربيعة العبسي يريد الخروج، فأحضره عنده، ونهاه فانتهى. ولما خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليًا أصحابه وشيعته فبايعوه وقالوا: نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت، فشرط لهم فيه سنة رسول الله ﷺ، فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي - وكان شهد معه الجمل وصفين، ومعه راية خثعم - فقال له: بايع على كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ؛ فقال ربيعة: على سنة أبي بكر وعمر؛ قال له علي: ويلك! لو أن أبا بكر وعمر عملًا بغير كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ لم يكونا على شيء من الحق، فبايعه، فنظر إليه علي وقال: أما والله لكأني بك وقد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت، وكأني بك وقد وطئتك الخيل بحوافرها، فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة. وأما خوارج البصرة فإنهم اجتمعوا في خمسمائة رجل، وجعلوا عليهم مسعر ابن فدكي التميمي، فعلم بهم ابن عباس، فأتبعهم أبا الأسود الدؤلي، فلحقهم بالجسر الأكبر، فتواقفوا حتى حجز بينهم الليل، وأدلج مسعر بأصحابه، وأقبل يعترض الناس وعلى مقدمته الأشرس بن عوف الشيباني، وسار حتى لحق بعبد الله بن وهب بالنهر. فلما خرجت الخوارج وهرب أبو موسى إلى مكة، ورد عليٌّ ابن عباس إلى البصرة، قام في الكوفة فخطبهم فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ أما بعد، فإن المعصية تورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة أمري، ونحلتكم رأيي، لو كان لقصيرٍ أمر! ولكن أبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد إلا إن هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما، وأحييا ما أمات القرآن، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدىً من الله، فحكما بغير حجة بينة، ولا سنةٍ ماضية، واختلفا في حكمهما، وكلاهما لم يرشد، فبرىء الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين. استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشأم، وأصبحوا في معسكركم إن شاء الله يوم الاثنين. ثم نزل. وكتب إلى الخوارج بالنهر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب ومن معهما من الناس. أما بعد، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمهما قد خالفا كتاب الله، واتبعا أهواءهما بغير هدىً من الله، فلم يعملا بالسنة، ولم ينفذا للقرآن حكمًا، فبرىء الله ورسوله منهما والمؤمنون! فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبلوا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم، ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه. والسلام. وكتبوا إليه: أما بعد، فإنك لم تغضب لربك، إنما غضبت لنفسك، فإن شهدت على نفسك بالكفر، واستقبلت التوبة، نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواءٍ إن الله لا يحب الخائنين. فلما قرأ كتابهم أيس منهم، فرأى أن يدعهم ويمضي بالناس إلى أهل الشأم حتى يلقاهم فيناجزهم. قال أبو مخنف، عن المعلى بن كليب الهمداني، عن جبر بن نوف أبي الوداك الهمداني: إن عليًا لما نزل بالنخيلة وأيس من الخوارج، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنه من ترك الجهاد في الله وأدهن في أمره كان على شفا هلكه إلا أن يتداركه الله بنعمة؛ فاتقوا الله، وقاتلوا من حاد الله، وحاول أن يطفىء نور الله، قاتلوا الخاطئين الضالين، القاسطين المجرمين، الذين ليسوا بقراء للقرآن، ولا فقهاء في الدين، ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل سابقة في الإسلام، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل، تيسروا وتهيئوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكتب علي إلى عبد الله بن عباس مع عتبة بن الأخنس بن قيس، من بني سعد بن بكر: أما بعد، فإنا قد خرجنا إلى معسكرنا بالنخيلة، وقد أجمعنا على المسير إلى عدونا من أهل المغرب، فاشخص بالناس حتى يأتيك رسولي، وأقم حتى يأتيك أمري. والسلام. فلما قدم عليه الكتاب قرأه على الناس، وأمرهم بالشخوص مع الأحنف ابن قيس، فشخص معه مهم ألفٌ وخمسمائة رجل، فاستقلهم عبد الله بن عباس، فقام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أهل البصرة، فإنه جاءني أمر أمير المؤمنين يأمرني بإشخاصكم، فأمرتكم بالنفير إليه مع الأحنف بن قيس، ولم يشخص معه منكم إلا ألف وخمسمائة، وأنتم ستون ألفًا سوى أبنائكم وعبدانكم ومواليكم! ألا انفروا مع جارية بن قدامة السعدي، ولا يجعلن رجلٌ على نفسه سبيلًا، فإني موقع بكل من وجدته متخلفًا عن مكتبه، عاصيًا لإمامه، وقد أمرت أبا الأسود الدؤلي بحشركم، فلا يلم رجل جعل السبيل على نفسه إلا نفسه. فخرج جارية فعسكر، وخرج أبو الأسود فحشر الناس، فاجتمع إلى جارية ألف وسبعمائة، ثم أقبل حتى وافاه عليٌّ بالنخيلة، فلم يزل بالنخيلة حتى وافاه هذان الجيشان من البصرة ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فجمع إليه رءوس أهل الكوفة، ورءوس الأسباع، ورءوس القبائل، ووجوه الناس. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري، وأعواني على الحق، وصحابتي على جهاد عدوي المحلين بكم، أضرب المدبر، وأرجو تمام طاعة المقبل، وقد بعثت إلى أهل البصرة فاستنفرتهم إليكم، فلم يأتني منهم إلا ثلاثة آلاف ومائتا رجل، فأعينوني بمناصحة جلية خلية من الغش، إنكم.. مخرجنا إلى صفين، بل استجمعوا بأجمعكم، وإني أسألكم أن يكتب لي رئيس كل قوم ما في عشيرته من المقاتلة وأبناء المقاتلة الذين أدركوا القتال وعبدان عشيرته ومواليهم، ثم يرفع ذلك إلينا. فقام سعيد بن قيس الهمداني، فقال: يا أمير المؤمنين، سمعًا وطاعة، وودًا ونصيحة، أنا أول الاس جاء بما سألت، وبما طلبت. وقام معقل بن قيس الرياحي فقال له نحوًا من ذلك، وقام عدي بن حاتم وزياد بن خصفة وحجر بن عدي وأشراف الناس والقبائل فقالوا مثل ذلك. ثم إن الرءوس كتبوا من فيهم ثم رفعوهم إليه، وأمروا أبناءهم وعبيدهم ومواليهم أن يخرجوا معهم، وألا يتخلف منهم عنهم أحد، فرفعوا إليه أربعين ألف مقاتل، وسبعة عشر ألفًا من الأبناء ممن أدرك، وثمانية آلاف من مواليهم وعبيدهم، وقالوا: يا أمير المؤمنين، أما من عندنا من المقاتلة وأبناء المقاتلة ممن قد بلغ الحلم، وأطاق القتال، فقد رفعنا إليك منهم ذوي القوة والجلد، وأمرناهم بالشخوص معنا، ومنهم ضعفاء، وهم في ضياعنا وأشياء مما يصلحنا. وكانت العرب سبعةً وخمسين ألفًا من أهل الكوفة، ومن مواليهم ومماليكهم ثمانية آلاف، وكان جميع أهل الكوفة خمسةً وستين ألفًا، وثلاثة آلاف ومائتي رجل من أهل البصرة، وكان جميع من معه ثمانيةً وستين ألفًا ومائتي رجل. قال أبو مخنف، عن أبي الصلت التيمي: إن عليًا كتب إلى سعد ابن مسعود الثقفي - وهو عامله على المدائن: أما بعد، فإني قد بعثت إليك زياد ابن خصفة فأشخص معه من قبلك من مقاتلة أهل الكوفة، وعجل ذلك إن شاء الله ولا قوة إلا بالله. قال: وبلغ عليًا أن الناس يقولون: لو سار بنا إلى هذه الحرورية فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجهنا من وجهنا ذلك إلى المحلين! فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنه قد بلغني قولكم: لو أن أمير المؤمنين سار بنا إلى هذه الخارجة التي خرجت عليه فبدأنا بهم، فإذا فرغنا منهم وجهنا إلى المحلين؛ وإن غير هذه الخارجة أهم إلينا منهم، فدعوا ذكرهم، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكًا، ويتخذوا عباد الله خولا. فتنادى الناس من كل جانب: سر بنا يا أمير المؤمنين حيث أحببت. قال: فقام إليه صيفي بن فسيل الشيباني فقال: يا أمير المؤمنين، نحن حزبك وأنصارك، نعادي من عاديت، ونشايع من أناب إلى طاعتك، فسر بنا إلى عدوك؛ من كانوا وأينما كانوا؛ فإنك إن شاء الله لن تؤتى من قلة عدد، ولا ضعف نية أتباع. وقام إليه محرز بن شهاب التميمي من بني سعد فقال: يا أمير المؤمنين، شيعتك كقلب رجل واحد في الإجماع على نصرتك، والجد في جهاد عدوك، فأبشر بالنصر، وسر بنا إلى أي الفريقين أحببت، فإنا شيعتك الذين نرجو في طاعتك وجهاد من خالفك صالح الثواب، ونخاف في خذلانك والتخلف عنك شدة الوبال. حدثني يعقوب، قال: حدثني إسماعيل، قال: أخبرنا أيوب، عن حميد بن هلال، عن رجل من عبد القيس كان من الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قريةً، فخرج عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ذعرًا يجر رداءه، فقالوا: لم ترع؟ فقال: والله لقد ذعرتموني! قالوا: أأنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثًا يحدث به عن رسول الله ﷺ أنه ذكر فتنةً، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي؟ قال: فإن أدركتم ذلك فكن يا عبد الله المقتول - قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: " ولا تكن يا عبد الله القاتل " - قال: نعم؛ قال: فقدموه على ضفة النهر، فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل، وبقروا بطن أم ولده عما في بطنها. قال أبو مخنف عن عطاء بن عجلان، عن حميد بن هلال: إن الخارجة التي أقبلت من البصرة جاءت حتى دنت من إخوانها بالنهر، فخرجت عصابة منهم، فإذا هم برجل يسوق بامرأة على حمار، فعبروا إليه، فدعوه فتهددوه وأفزعوه، وقالوا له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ﷺ، ثم أهوى إلى ثوبه يتناوله من الأرض - وكان سقط عنه لما أفزعوه - فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم؛ قالوا له: لا روع عليك! فحدثنا عن أبيك بحديث سمعه من النبي ﷺ، لعل الله ينفعنا به! قال: حدثني أبي، عن رسول الله ﷺ، أن فتنةً تكون، يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمنًا ويصبح فيها كافرًا، ويصبح فيها كافرًا ويمسي فيها مؤمنًا، فقالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرًا، قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقًا في أولها وفي آخرها، قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيًا على دينه، وأنفذ بصيرةً. فقالوا: إنك تتبع الهوى، وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدًا، فأخذوه فكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متمٌّ حتى نزلوا تحت نخلٍ مواقر، فسقطت منه رطبةٌ، فأخذها أحدهم فقذف بها فمه، فقال أحدهم: بغير حلها، وبغير ثمن! فلفظها وألقاها من فمه، ثم أخذ سيفه فأخذ يمينه، فمر به خنزير لأهل الذمة فضربه بسيفه، فقالوا: هذا فسادٌ في الأرض، فأتى صاحب الخنزير فأرضاه من خنزيره، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم بأس، إني لمسلم؛ ما أحدثت في الإسلام حدثًا، ولقد أمنتموني، قلتم: لا روع عليك! فجاءوا به فأضجعوه فذبحوه، وسال دمه في الماء، وأقبلوا على المرأة، فقالت: إني إنما أنا امرأة، ألا تتقون الله! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوةٍ من طيىء، وقتلوا أم سنان الصيداوية، فبلغ ذلك عليًا ومن معه من المسلمين من قتلهم عبد الله بن خباب، واعتراضهم الناس، فبعث إليهم الحارث بن مرة العبدي ليأتيهم فينظر فيما بلغه عنهم، ويكتب به إليه على وجهه، ولا يكتمه. فخرج حتى انتهى إلى النهر ليسائلهم، فخرج القوم إليه فقتلوه، وأتى الخبر أمير المؤمنين والناس، فقام إليه الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين، علام تدع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في أموالنا وعيالنا! سر بنا إلى القوم فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم سرنا إلى عدونا من أهل الشأم. وقام إليه الأشعث بن قيس الكندي فكلمه بمثل ذلك. وكان الناس يرون أن الأشعث يرى رأيهم لأنه كان يقول يوم صفين: أنصفنا قوم يدعون إلى كتاب الله، فلما أمر عليًا بالمسير إليهم علم الناس أنه لم يكن يرى رأيهم. فأجمع على ذلك، فنادى بالرحيل، وخرج فعبر الجسر فصلى ركعتين بالقنطرة، ثم نزل دير عبد الرحمن، ثم دير أبي موسى، ثم أخذ على قرية شاهي، ثم على دباها، ثم على شاطىء الفرات، فلقيه في مسيره ذلك منجم، أشار عليه بسير وقتٍ من الهار، وقال له: إن سرت في غير ذلك الوقت لقيت أنت وأصحابك ضرًا شديدًا. فخالفه، وسار في الوقت الذي نهاه عن السير فيه. فلما فرغ من النهر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون: سار في الساعة التي أمره بها المنجم فظفر. قال أبو مخنف: حدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف، قال: لما أراد علي المسير إلى أهل النهر من الأنبار، قدم قيس بن سعد بن عبادة وأمره أن يأتي المدائن فينزلها حتى يأمره بأمره، ثم جاء مقبلًا إليهم، ووافاه قيس وسعد بن مسعود الثقفي بالنهر، وبعث إلى أهل النهر: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم نقتلهم بهم، ثم أنا تارككم وكافٌّ عنكم حتى ألقى أهل الشأم؛ فلعل الله يقلب قلوبكم، ويردكم إلى خير مما أنتم عليه من أمركم. فبعثوا إليه. فقالوا: كلنا قتلتهم، وكلنا نستحل دماءهم ودماءكم. قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن حصيرة، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، أن قيس بن سعد بن عابدة قال لهم: عباد الله، أخرجوا إلينا طلبتنا منكم، وادخلوا في هذا الأمر الذي منه خرجتم، وعودوا بنا إلى قتال عدونا وعدوكم، فإنكم ركبتم عظيمًا من الأمر، تشهدون علينا بالشرك، والشرك ظلمٌ عظيم، وتسفكون دماء المسلمين، وتعدونهم مشركين! فقال عبد الله بن شجرة السلمي: إن الحق قد أضاء لنا، فلسنا نتابعكم أو تأتونا بمثل عمر، فقال: ما نعلمه فينا غير صاحبنا، فهل تعلمونه فيكم؟ وقال: نشدتكم بالله في أنفسكم أن تهلكوها، فإني لأرى الفتنة قد غلبت عليكم! وخطبهم أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري؛ فقال: عباد الله، إنا وإياكم على الحال الأولى التي كنا عليها، ليست بيننا وبينكم فرقة، فعلام تقاتلوننا؟ فقالوا: إنا لو بايعناكم اليوم حكمتم غدًا. قال: فإني أنشدكم الله أن تعجلوا فتنة العام مخافة ما يأتي في قابل. قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين، عن زيد بن وهب، أن عليًا أتى أهل النهر فوقف عليهم فقال: أيتها العصابة التي أخرجتها عداوة المراء واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بها النزق، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم، إني نذيرٌ لكم أن تصبحوا تلفيكم الأمة غدًا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، بغير بينة من ربكم، ولا برهان بين. ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة، وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم! ونبأتكم أن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأني أعرف بهم منكم، عرفتهم أطفالًا ورجالًا، فهم أهل المكر والغدر، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم! فعصيتموني، حتى أقررت بأن حكمت، فلما فعلت شرطت واستوثقت، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات القرآن، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة، فنبذنا أمرهما، ونحن على أمرنا الأول، فما الذي بكم؟ ومن أين أتيتم! قالوا: إنا حكمنا، فلما حكمنا أثمنا، وكنا بذلك كافرين، وقد تبنا فإن تبت كما تبنا فنحن منك ومعك، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء إن الله لا يحب الخائنين. فقال علي: أصابكم حاصب، ولابقي منكم وابر! أبعد إيماني برسول الله ﷺ وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، ثم انصرف عنهم. قال أبو مخنف: حدثني أبو سلمة الزهري - وكانت أمه بنت أنس ابن مالك - أن عليًا قال لأهل النهر: يا هؤلاء، إن أنفسكم قد سولت لكم فراق هذه الحكومة التي أنتم ابتدأتموها وسألتموها وأنا لها كارهٌ، وأنبأتكم أن القوم سألوكموها مكيدةً ودهنًا، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعدلتم عني عدول النكداء العاصي، حتى صرفت رأيي إلى رأيكم؛ وأنتم والله معاشر أخفاء الهام، سفهاء الأحلام، فلم آت - لا أبا لكم - حرامًا والله ما خبلتكم عن أموركم، ولا أخفيت شيئًا من هذا الأمر عنكم، ولا أوطأتكم عشوة، ولا دنيت لكم الضراء، وإن كان أمرنا لأمر المسلمين ظاهرًا؛ فأجمع رأي ملئكم على أن اختاروا رجلين، فأخذنا عليهما أن يحكما بما في القرآن ولا يعدواه، فتاها وتركا الحق وهما يبصرانه، وكان الجور هواهما، وقد سبق استثاقنا عليهما في الحكم بالعدل، والصد للحق سوء رأيهما، وجور حكمهما. والثقة في أيدينا لأنفسنا حين خالفا سبيل الحق، وأتيا بما لا يعرف؛ فبينوا لنا بماذا تستحلون قتالنا، والخروج من جماعتنا؛ إن اختار الناس رجلين أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم، ثم تستعرضوا الناس، تضربون رقابهم، وتسفكون دماءهم! إن هذا لهو الخسران المبين. والله لو قتلتم على هذا دجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلها عند الله حرامٌ! فتنادوا: لا تخاطبوهم، ولا تكلموهم، وتهيئوا للقاء الرب، الرواح الرواح إلى الجنة! فخرج عليٌّ فعبأ الناس، فجعل على ميمنته حجر بن عدي، وعلى ميسرته شبث بن ربعي - أو مغفل بن قيس الرياحي - وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة - وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل - قيس بن سعد بن عبادة. قال: وعبأت الخوارج، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي. قال: وبعث علي الأسود بن يزيد المرادي في ألفي فارس، حتى أتى حمزة بن سنان وهو في ثلثمائة فارس من خيلهم، ورفع عليٌّ راية أمان مع أبي أيوب، فناداهم أبو أيوب: من جاء هذه الراية منكم ممن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن؛ ومن انصرف منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن وخرج من هذه الجماعة فهو آمن؛ إنه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم. فقال فروة بن نوفل الأشجعي: والله ما أدري على أي شيء نقاتل عليًا! لا أرى إلا أن انصرف حتى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو أتباعه. وانصرف في خمسمائة فارس، حتى نزل البندنيجين والدسكرة، وخرجت طائفةٌ أخرى متفرقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى علي منهم نحو من مائة، وكانوا أربعة آلاف، فكان الذين بقوا مع عبد الله بن وهب منهم ألفين وثمانمائة، وزحفوا إلى علي. وقدم علي الخيل دون الرجال، وصف الناس وراء الخيل صفين، وصف المرامية أمام الصف الأول، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم، فإنهم لو قد شدوا عليكم - وجلهم رجال - لم ينتهوا إليكم إلا لاغبين وأنتم رادون حامون. وأقبلت الخوارج، فلما أن دنوا من الناس نادوا يزيد بن قيس، فكان يزيد بن قيس على إصبهان. فقالوا: يا يزيد بن قيس، لا حكم إلا لله، وإن كرهت إصبهان! فناداهم عباس ابن شريك وقبيصة بن ضبيعة العبسيان: يا أعداء الله، أليس فيكم شريح ابن أوفى المسرف على نفسه؟ هل أنتم إلا أشباهه! قالوا: وما حجتكم على رجل كانت فيه فتنة، وفينا توبة! ثم تنادوا: الرواح الرواح إلى الجنة! فشدوا على الناس والخيل أمام الرجال، فلم تثبت خيل المسلمين لشدتهم، وافترقت الخيل فرقتين: فرقة نحو الميمنة، وأخرى نحو الميسرة، وأقبلوا نحو الرجال، فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل، وعطفت عليهم الخيل من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فوالله ما لبثوهم أن أناموهم. ثم إن حمزة بن سنان صاحب خيلهم لما رأى الهلاك نادى أصحابه أن انزلوا، فذهبوا لينزلوا فلم يتقاروا حتى حمل عليهم الأسود بن قيس المرادي، وجاءتهم الخيل من نحو علي، فأهمدوا في الساعة. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الملك بن مسلم بن سلام بن ثمامة الحنفي، عن حكيم بن سعد، قال: ما هو إلا أن لقينا أهل البصرة، فما لبثناهم، فكأنما قيل لهم: موتوا؛ فماتوا قبل أن تشتد شوكتهم، وتعظم نكايتهم. قال أبو مخنف: فحدثني أبو جناب؛ أن أبا أيوب أتى عليًا، فقال: يا أمير المؤمنين، قتلت زيد بن حصين، قال: فما قلت له وما قال لك؟ قال: طعنته بالرمح في صدره حتى نجم من ظهره؛ قال: وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار! قال: ستعلم أينا أولى بها صليًا؛ فسكت عليٌّ عليها. قال أبو مخنف، عن أبي جناب: إن عليًا قال له: هو أولى لها صليًا. قال: وجاء عائذ بن حملة التميمي، فقال: يا أمير المؤمنين، قتلت كلابًا، قال: أحسنت! أنت محق قتلت مبطلا. وجاء هانىء بن خطاب الأرحبي وزياد بن خصفة يحتجان في قتل عبد الله بن وهب الراسبي، فقال لهما: كيف صنعتما؟ فقالا: يا أمير المؤمنين، لما رأيناه عرفناه، وابتدرناه فطعناه برمحينا، فقال علي: لا تختلفا، كلاكما قاتل. وشد جيش بن ربيعة أبو المعتمر الكناني على حرقوص بن زهير فقتله، وشد عبد الله بن زحر الخولاني على عبد الله بن شجرة السلمي فقتله، ووقع شريح بن أوفى إلى جانب جدار، فقاتل على ثلمة فيه طويلًا من نهار، وكان قتل ثلاثةً من همدان، فأخذ يرتجز ويقول: قد علمت جاريةٌ عبسيه ** ناعمةٌ في أهلها مكفيه أني سأحمي ثلمتي العشيه فشد عليه قيس بن معاوية الدهني فقطع رجله، فجعل يقاتلهم، ويقول: القرم يحمى شوله معقولا ثم شد عليه قيس بن معاوية فقتله، فقال الناس: اقتتلت همدان يومًا ورجل ** اقتتلوا من غدوة حتى الأصل ففتح الله لهمدان الرجل وقال شريح: أضربهم ولو أرى عليا ** ألبسته أبيض مشرفيا قال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة، أن عليًا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو جبرة، والريان بن صبر ابن هوذة، فوجده الريان بن صبرة بن هوذة في حفرة على شاطىء النهر في أربعين أو خمسين قتيلًا. قال: فلما استخرج نظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة، له حلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذى طول يده الأخر، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة، فلما استخرج قال علي: الله أكبر! والله ما كذبت ولا كذبت، أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه ﷺ لمن قاتلهم مستبصرًا في قتالهم، عارفًا للحق الذي نحن عليه. قال: ثم مر وهم صرعى فقال: بؤسًا لكم! لقد ضركم من غركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، من غرهم؟ قال: الشيطان، وأنفسٌ بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون. قال: وطلب من به رمق منهم فوجدناهم أربعمائة رجل، فأمر بهم علي فدفعوا إلى عشائرهم، وقال: احملوهم معكم فداووهم، فإذا برئوا فوافوا بهم الكوفة، وخذوا ما في عسكرهم من شيء. قال: وأما السلاح والدواب وما شهدوا به عليه الحرب فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم رده على أهله. وطلب عدي بن حاتم ابنه طرفة فوجده، فدفنه، ثم قال: الحمد لله الذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك. ودفن رجالٌ من الناس قتلاهم، فقال أمير المؤمنين حين بلغه ذلك: ارتحلوا إذًا، أتقتلونهم ثم تدفنونهم! فارتحل الناس. قال أبو مخنف عن مجاهد، عن المحل بن خليفة: أن رجلًا منهم من بني سدوس يقال له العيزار بن الأخنس كان يرى رأي الخوارج، خرج إليهم، فاستقبل وراء المدائن عدي بن حاتم ومعه الأسود بن قيس والأسود بن يزيد المراديان، فقال له العيزار حين استقبله: أسالمٌ غانم، أم ظالمٌ آثم؟ فقال عدي: لا، بل سالمٌ غانم، فقال له المراديان: ما قلت هذا إلا لشر في نفسك، وإنك لنعرفك يا عيزار برأي القوم، فلا تفارقنا حتى نذهب بك إلى أمير المؤمنين فنخبره خبرك. فلم يكن بأوشك أن جاء علي فأخبراه خبره، وقالا: يا أمير المؤمنين، إنه يرى رأي القوم، قد عرفناه بذلك، فقالا: ما يحل لنا دمه، ولكنا نحبسه، فقال عدي بن حاتم: يا أمير المؤمنين، ادفعه إلي وأنا أضمن ألا يأتيك من قبله مكروه. فدفعه إليه. قال أبو مخنف: حدثني عمران بن حدير، عن أب مجلز، عن عبد الرحمن بن جندب بن عبد الله، أنه لم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة. قال أبو مخنف، عن نمير بن وعلة اليناعي، عن أبي درداء، قال: كان علي لما فرغ من أهل النهروان حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد أحسن بكم، وأعز نصركم، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم. قالوا: يا أمير المؤمنين، نفدت نبالنا، وكلت سيوفنا، ونصلت أسنة رماحنا، وعاد أكثرها قصدًا، فارجع إلى مصرنا، فلنستعد بأحسن عدتنا، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من هلك منا، فإنه أوفى لنا على عدونا. وكان الذي تولى ذلك الكلام الأشعث بن قيس، فأقبل حتى نزل النخيلة، فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم، ويوطنوا على الجهاد أنفسهم، وأن يقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم حتى يسيروا إلى عدوهم، فأقموا فيه أيامًا، ثم تسللوا من معسكرهم، فدخلوا إلا رجالًا من وجوه الناس قليلًا، وترك العسكر خاليًا، فلما رأى ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير. قال أبو مخنف عمن ذكره، عن زيد بن وهب: إن عليًا قال للناس - وهو أول كلام قاله لهم بعد النهر: أيها الناس، استعدوا للمسير إلى عدو في جهاده القربة إلى الله ودرك الوسيلة عنده. حيارى في الحق، جفاة عن الكتاب، نكبٌ عن الدين، يعمهون في الطغيان، ويعكسون في غمرة الضلال، فأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، وتوكلوا على الله، وكفى بالله وكيلًا، وكفى بالله نصيرًا! قال: فلا هم نفروا ولا تيسروا، فتركهم أيامًا حتى إذا أيس من أن يفعلوا، دعا رؤساءهم ووجوههم، فسألهم عن رأيهم، وما الذي ينظرهم، فمنهم المعتل، ومنهم المكرة، وأقلهم من نشط. فقام فيهم خطيبًا، فقال: عباد الله، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا اثاقلتم إلى الأرض! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، وبالذل والهوان من العز! أو كلما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت في سكرة، وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون! وكأن أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون. لله أنتم! ما أنتم إلا أسود الشرى في الدعة، وثعالب رواغة حين تدعون إلى البأس. ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، ما أنتم بركب يصال بكم، ولا ذي عز يعتصم إليه. لعمر الله، لبئس حشاش الحرب أنتم! إنكم تكادون ولا تكيدون، وينتقص أطرافكم ولا تتحاشون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلةٍ ساهون؛ إن أخا الحرب اليقظان ذو عقل، وبات لذل من وادع، وغلب المتجادلون، والمغلوب مقهور ومسلوب. ثم قال: أما بعد، فإن لي عليكم حقًا، وإن لكم علي حقًا، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم ما صحبتكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيما لا تجهلوا، وتأديبكم كي تعلموا؛ وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصح لي في الغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيرًا انتزعتم عما أكره، وتراجعوا إلى ما أحب، تنالوا ما تطلبون، وتدركوا ما تأملون. وكان غير أبي مخنف يقول: كانت الوقعة بين علي وأهل النهر سنة ثمان وثلاثين، وهذا القول عليه أكثر أهل السير. ومما يصححه أيضًا ما حدثني به عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا نعيم، قال: حدثني أبو مريم أن شبث بن ربعي وابن الكواء خرجا من الكوفة إلى حروراء، فأمر عليٌّ الناس أن يخرجوا بسلاحهم، فخرجوا إلى المسجد حتى امتلأ بهم، فأرسل إليهم: بئس ما صنعتم حين تدخلون المسجد بسلاحكم! اذهبوا إلى جبانة مراد حتى يأتيكم أمري. قال أبو مريم: فانطلقنا إلى جبانة مراد فكنا بها ساعة من نهار، ثم بلغنا أن القوم قد رجعوا وهم زاحفون. قال: فقلت: أنطلق أنا حتى أنظر إليهم، فانطلقت حتى أتخلل صفوفهم، حتى انتهيت إلى شبث بن ربعي وابن الكواء وهما واقفان متوركان على دابتيهما، وعندهما رسل عليٍّ وهم يناشدونهما الله لما رجعا بالناس! ويقولون لهم: نعيذكم بالله أن تعجلوا بفتنة العام خشية عام قابل. فقام رجل إلى بعض رسل علي فعقر دابته، فنزل الرجل وهو يسترجع، فحمل سرجه، فانطلق به وهم يقولون: ما طلبنا إلا منابذتهم، وهم يناشدونهم الله، فمكثنا ساعة، ثم انصرفوا إلى الكوفة كأنه يوم فطر أو أضحى. قال: وكان عليٌّ يحدثنا قبل ذلك أن قومًا يخرجون من الإسلام يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مخدج اليد. قال: وسمعت ذلك منه مرارًا كثيرة، قال: وسمعه نافع المخدج أيضًا - حتى رأيته يتكره طعامه من كثرة ما سمعه، يقول: وكان نافع معنا يصلي في المسجد بالنهار ويبيت فيه بالليل، وقد كنت كسوته برنسًا، فلقيته من الغد، فسألته: هل كان خرج مع الناس الذين خرجوا إلى حروراء؟ فقال: خرجت أريدهم حتى إذا بلغت إلى بني سعد، لقيني صبيان فنزعوا سلاحي، وتلعبوا بي، فرجعت حتى إذا كان الحول أو نحوه خرج أهل النهر، وسار علي إليهم، فلم أخرج معه وخرج أخي أبو عبد الله. قال: فأخبرني أبو عبد الله أن عليًا سار إليهم حتى إذا كان حذاءهم على شط النهروان أرسل إليهم يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا، فلم تزل رسله تختلف إليهم، حتى قتلوا رسوله، فلما رأى ذلك نهض إليهم فقاتلهم حتى فرغ منهم، ثم أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج، فالتمسوه، فقال بعضهم: ما نجده، حتى قال بعضهم: لا، ما هو فيهم. ثم إنه جاء رجل فبشره وقال: يا أمير المؤمنين، قد وجدناه تحت قتيلين في ساقية. فقال: اقطعوا يده المخدجة، وأتوني بها، فلما أتي بها أخذها ثم رفعها، وقال: والله ما كذبت ولا كذبت. قال أبو جعفر: فقد أنبأ أبو مريم بقوله: فرجعت حتى إذا كان الحول أو نحوه، خرج أهل النهر، أن الحرب التي كانت بين علي وأهل حروراء كانت في السنة التي بعد السنة التي كان فيها إنكار أهل حروراء على علي التحكيم، وكان ابتداء ذلك في سنة سبع وثلاثين على ما قد ثبت قبل، وإذا كان كذلك، وكان الأمر على ما روينا من الخبر عن أبي مريم، كان معلومًا أن الوقعة كانت بينه وبينهم في سنة ثمان وثلاثين. وذكر علي بن محمد، عن عبد الله بن ميمون، عن عمرو بن شجيرة، عن جابر، عن الشعبي، قال: بعث عليٌّ بعد ما رجع من صفين جعدة ابن هبيرة المخزومي، وأم جعدة أم هانىء بنت أبي طالب - إلى خراسان، فانتهى إلى أبرشهر وقد كفروا وامتنعوا، فقدم على علي، فبعث خليد بن قرة اليربوعي فحاصر أهل نيسابور حتى صالحوه، وصالحه أهل مرو. وحج بالناس في هذه السنة - أعني سنة سبع وثلاثين - عبيد الله بن عباس، وكان عامل عليٍّ على اليمن ومخاليفها. وكان على مكة والطائف قثم بن العباس، وعلى المدينة سهل بن حنيف الأنصاري، وقيل: كان عليها تمام ابن العباس. وكان على البصرة عبد الله بن العباس، وعلى قضائها أبو الأسود الدؤلي، وعلى مصر محمد بن أبي بكر، وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي. وقيل: إن عليًا لما شخص إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري؛ حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، قال: سمعت ليثًا ذكر عن عبد العزيز بن رفيع، أنه لما خرج علي إلى صفين استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري عقبة بن عمرو. وأما الشام فكان بها معاوية بن أبي سفيان. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها مقتل محمد بن أبي بكر بمصر، وهو عاملٌ عليها، وقد ذكرنا سبب تولية عليٍّ إياه مصر، وعزل قيس بن سعد عنها، ونذكر الآن سبب قتله، وأين قتل؟ وكيف كان أمره؟ ونبدأ بذكرٍ من تتمة حديث الزهري الذي قد ذكرنا أوله قبل، وذلك ما حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: لما حدث قيس بن سعد بمجيء محمد بن أبي بكر، وأنه قادم عليه أميرًا، تلقاه وخلا به وناجاه، فقال: إنك جئت من عند امرىء لا أرى له، وليس عزلكم إياي بمانعي أن أنصح لكم، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وإني في ذلك على الذي كنت أكايد به معاوية وعمرًا وأهل خربتا، فكايدهم به، فإنك إن تكايدهم بغيره تهلك. ووصف قيس ابن سعد المكايدة التي كان يكايدهم بها، واغتشه محمد بن أبي بكر، وخالف كل شيء أمره به. فلما قدم محمد بن أبي بكر وخرج قيس قبل المدينة بعث محمد أهل مصر إلى خربتا، فاقتتلوا، فهزم محمد بن أبي بكر، فبلغ ذلك معاوية وعمرًا، فسارا بأهل الشام حتى افتتحا مصر، وقتلا محمد بن أبي بكر، ولم تزل في حيز معاوية، حتى ظهر. وقدم قيس بن سعد المدينة، فأخافه مروان والأسود بن أبي البختري، حتى إذا خاف أن يؤخذ أو يقتل ركب راحلته، وظهر إلى علي. فكتب معاوية إلى مروان والأسود يتغيظ عليهما ويقول: أمددتما عليًا بقيس بن سعد ورأيه ومكايدته، فوالله لو أنكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان بأغيظ إلي من إخراجكما قيس بن سعد إلى علي. فقدم قيس بن سعد على علي، فلما باثه الحديث، وجاءهم قتل محمد بن أبي بكر، عرف أن قيس بن سعد كان يوازي أمورًا عظامًا من المكايدة، وأن من كان يشير عليه بعزل قيس بن سعد لم ينصح له. وأما ما قال في ابتداء أمر محمد بن أبي بكر في مصيره إلى مصر وولايته إياها أبو مخنف، فقد تقدم ذكرنا له، ونذكر الآن بقية خبره في روايته ما روى من ذلك عن يزيد بن ظبيان الهمداني، قال: ولما قتل أهل خربتا ابن مضاهم الكلبي الذي وجهه إليهم محمد بن أبي بكر، خرج معاوية بن حديج الكندي ثم السكوني، فدعا إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه ناس آخرون، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر، فبلغ عليًا وثوب أهل مصر على محمد بن أبي بكر، واعتمادهم إياه، فقال: ما لمصر إلا أحد الرجلين! صاحبنا الذي عزلناه عنها - يعني قيسًا - أو مالك بن الحارث - يعني الأشتر. قال: وكان علي حين انصرف من صفين رد الأشتر على عمله بالجزيرة، وقد كان قال لقيس بن سعد: أقم معي على شرطي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة، ثم اخرج إلى أذربيجان؛ فإن قيسًا مقيم مع علي على شرطته. فلما انقضى أمر الحكومة كتب علي إلى مالك بن الحارث الأشتر، وهو يومئذ بنصيبين: أما بعد، فإنك ممن استظهرته على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وأشد به الثغر المخوف. وكنت وليت محمد بن أبي بكر مصر، فخرجت عليه بها خوارج، وهو غلامٌ حدث ليس بذي تجربة للحرب، ولا بمجرب للأشياء، فاقدم علي لننظر في ذلك فيما ينبغي، واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك. والسلام. فأقبل مالكٌ إلى عليٍّ حتى دخل عليه، فحدثه حديث أهل مصر، وخبره خبر أهلها، وقال: ليس لها غيرك، اخرج رحمك الله! فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك. واستعن بالله على ما أهمك، فاخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة. قال: فخرج الأشتر من عند علي فأتى رحله، فتهيأ للخروج إلى مصر، وأتت معاوية عيونه، فأخبروه بولاية علي الأشتر، فعظم ذلك عليه، وقد كان طمع في مصر، فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشد عليه من محمد ابن أبي بكر، فبعث معاوية إلى الجايستار - رجل من أهل الخراج - فقال له: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجًا ما بقيت، فاحتل له بما قدرت عليه. فخرج الجايستار حتى أتى القلزم وأقام به، وخرج الأشتر من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجايستار، فقال: هذا منزل، وهذا طعامٌ وعلف، وأنا رجلٌ من أهل الخراج، فنزل به الأشتر، فأتاه الدهقان بعلف وطعام، حتى إذا طعم أتاه بشبة من عسل قد جعل فيها سمًا فسقاه إياه، فلما شربها مات. وأقبل معاوية يقول لأهل الشأم: إن عليًا وجه الأشتر إلى مصر، فادعوا الله أن يكفيكموه. قال: فكانوا كل يوم يدعون الله على الأشتر، وأقبل الذي سقاه إلى معاوي فأخبره بمهلك الأشتر، فقام معاوية في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان، قطعت إحداهما يوم صفين - يعني عمار بن ياسر - وقطعت الأخرى اليوم - يعني الأشتر. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، عن مولىً للأشتر، قال: لما هلك الأشتر وجدنا في ثقله رسالة علي إلى أهل مصر: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمة المسلمين الذين غضبوا لله حين عصي في الأرض، وضرب الجور بارواقه على البر والفاجر، فلا حق يستراح إليه، ولا منكر يتناهى عنه. سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد فقد بعثت إليكم عبدًا من عبيد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعادي حذار الدوائر، أشد على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه سيفٌ من سيوف الله، لا نابي الضريبة، ولا كليل الحد، فإن أمركم أن تقدموا فأقدموا، وإن أمركم أن تنفروا فانفروا، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصحه لكم، وشدة شكيمته على عدوكم، عصمكم الله بالهدى، وثبتكم على اليقين. والسلام. قال: ولما بلغ محمد بن أبي بكر أن عليًا قد بعث الأشتر شق عليه، فكتب علي إلى محمد بن أبي بكر عند مهلك الأشتر، وذلك حين بلغه موجدة محمد بن أبي بكر لقدوم الأشتر عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر، سلامٌ عليك، أما بعد؛ فقد بلغني موجدتك من تسريحي الأشتر إلى عملك، وإني لم أفعل ذلك استبطاءً لك في الجهاد، ولا ازديادًا مني لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ما هو أيسر عليك في المئونة، وأعجب إليك ولايةً منه. إن الرجل الذي كنت وليته مصر كان لنا نصيحًا، وعلى عدونا شديدًا، وقد استكمل أيامه، ولاقى حمامه، ونحن عنه راضون، فرضي الله عنه، وضاعف له الثواب، وأحسن له المآب. اصبر لعدوك، وشمر للحرب، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وأكثر ذكر الله، والاستعانة به، والخوف منه، يكفك ما أهمك، ويعنك على ما ولاك، أعاننا الله وإياك على ما لا ينال إلا برحمته. والسلام عليك. فكتب إليه محمد بن أبي بكر جواب كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عليٍّ أمير المؤمنين من محمد بن أبي بكر، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله غيره، أما بعد، فإني قد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين، ففهمته وعرفت ما فيه، وليس أحد من الناس بأرضى مني برأي أمير المؤمنين، ولا أجهد على عدوه، ولا أرأف بوليه مني، وقد خرجت فعسكرت، وأمنت الناس إلا من نصب لنا حربًا، وأظهر لنا خلافًا، وأنا متبع أمر أمير المؤمنين وحافظه، وملتجىء إليه، وقائمٌ به، والله المستعان على كل حال؛ والسلام عليك. قال أبو مخنف: حدثني أبو جهضم الأزدي - رجل من أهل الشأم - عن عبد الله بن حوالة الأزدي، أن أهل الشأم لما انصرفوا من صفين كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان، فلما انصرفا وتفرقا بايع أهل الشأم معاوية بالخلافة، ولم يزدد إلا قوة، واختلف الناس بالعراق على علي، فما كان لمعاوية همٌّ إلا مصر، وكان لأهلها هائبًا خائفًا، لقربهم منه، وشدتهم على من كان على رأي عثمان، وقد كان على ذلك علم أن بها قومًا قد ساءهم قتل عثمان، وخالفوا عليًا، وكان معاوية يرجو أن يكون إذا ظهر عليها ظهر على حرب علي، لعظم خراجها. قال: فدعا معاوية من كان معه من قريش: عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ ومن غيرهم أبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي وحمزة بن مالك الهمداني، وشرحبيل بن السمط الكندي فقال لهم: أتدرون لم دعوتكم؟ إني قد دعوتكم لأمر مهم أحب أن يكون الله قد أعان عليه، فقال القوم كلهم - أو من قال منهم: إن الله لم يطلع على الغيب أحدًا، وما يدرينا ما تريد! فقال عمرو بن العاص: أرى والله أمر هذه البلاد الكثير خراجها، والكثير عددها وعدد أهلها، أهمك أمرها، فدعوتنا إذًا لتسألنا عن رأينا في ذلك، فإن كنت لذلك دعوتنا، وله جمعتنا، فاعزم وأقدم، ونعم الرأي رأيت! ففي افتتاحها عزك وعز أصحابك، وكبت عدوك، وذل أهل الخلاف عليك. قال له معاوية مجيبًا: أهمك يا بن العاص ما أهمك - وذلك لأن عمرو بن العاص كان صالح معاوية حين بايعه على قتال علي بن أبي طالب، على أن له مصر طعمة ما بقي - فأقبل معاوية على أصحابه فقال: إن هذا - يعني عمرًا - قد ظن ثم حقق ظنه، قالوا له: لكنا لا ندري؛ قال معاوية: فإن أبا عبد الله قد أصاب، قال عمرو: وأنا أبو عبد الله؛ قال: إن أفضل الظنون ما أشبه اليقين. ثم إن معاوية حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فقد رأيتم كيف صنع الله بكم في حربكم عدوكم، جاءوكم وهم لا يرون إلا أنهم سيقيضون بيضتكم، ويخربون بلادكم، ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم، فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرًا مما أحبوا، وحاكمناهم إلى الله، فحكم لنا عليهم. ثم جمع لنا كلمتنا، وأصلح ذات بيننا، وجعلهم أعداء متفرقين يشهد بعضهم على بعض بالكفر، ويسفك بعضهم دم بعض. والله إني لأرجو أن يتم لنا هذا الأمر، وقد رأيت أن نحاول أهل مصر، فكيف ترون ارتثاءنا لها! فقال عمرو: قد أخبرتك عما سألتني عنه، وقد أشرت عليك بما سمعت؛ فقال معاوية: إن عمرًا قد عزم وصرم، ولم يفسر، فكيف لي أن أصنع! قال له عمرو: فإني أشير عليك كيف تصنع، أرى أن تبعث جيشًا كثيفًا، عليهم رجلٌ حازم صارم تأمنه وتثق به، فيأتي مصر حتى يدخلها، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا فيظاهره عى من بها من عدونا، فإذا اجتمع بها جندك ومن بها من شيعتك على من بها من أهل حربك، رجوت أن يعين الله بنصرك، ويظهر فلجك. قال له معاوية: هل عندك شيء دون هذا يعمل به فيما بيننا وبينهم؟ قال: ما أعلمه. قال: بلى، فإن غير هذا عندي. أرى أن نكاتب من بها من شيعتنا، ومن بها من أهل عدونا، فأما شيعتنا فآمرهم بالثبات على أمرهم. ثم أمنيهم قدومنا عليهم. وأما من بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا، ونمنيهم شكرنا، ونخوفهم حربنا، فإن صلح لنا ما قبلهم بغير قتال فذاك ما أحببنا، وإلا كان حربهم من وراء ذلك كله. إنك يابن العاص امرؤ بورك لك في العجلة، وأنا امرءٌ بورك لي في التؤدة؛ قال: فاعلم بما أراك الله، فوالله ما أرى أمرهم وأمرهم يصير إلا إلى الحرب العوان. قال: فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلى معاوية بن حديج الكندي - وكانا قد خالفا عليًا: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله قد ابتعثكما لأمر عظيم أعظم به أجركما، ورفع به ذكركما، وزينكما به في المسلمين؛ طلبكما بدم الخليفة المظلوم، وغضبكما لله إذ ترك حكم الكتاب. وجاهدتما أهل البغي والعدوان. فأبشروا برضوان الله، وعاجل نصر أولياء الله. والمواساة لكما في الدنيا وسلطاننا حتى ينتهي في ذلك ما يرضيكما. ونؤدي به حقكما إلى ما يصير أمركما إليه. فاصبروا وصابروا عدوكما، وادعوا المدبر إلى هداكما وحفظكما، فإن الجيش قد أضل عليكما، فانقشع كل ما تكرهان. وكان كل ما تهويان. والسلام عليكما. وكتب هذا الكتاب وبعث به مع مولً له يقال له سبيع. فخرج الرسول بكتابه حتى قدم عليهما مصر ومحمد بن أبي بكر أميرها، وقد ناصب هؤلاء الحرب بها، وهو غير متخون بها يوم الإقدام عليه. فدفع كتابه إلى مسلمة بن مخلد وكتاب معاوية بن حديج، فقال مسلمة: امض بكتاب معاوية إليه حتى يقرأه. ثم القني به حتى أجيبه عني وعنه، فانطلق الرسول بكتاب معاوية بن حديج إليه، فأقرأه إياه، فلما قرأه قال: إن مسلمة ابن مخلد قد أمرني أن أرد إليه الكتاب إذا قرأته لكي يجب معاوية عنك وعنه. قال: قل له فليفعل؛ ودفع إليه الكتاب، فأتاه. ثم كتب مسلمة عن نفسه وعن معاوية بن حديج: أما بعد، فإن هذا الأمر الذي بذلنا له نفسنا، واتبعنا أمر الله فيه، أمرٌ نرجو به ثواب ربنا، والنصر ممن خالفنا، وتعجيل النقمة لمن سعى على إمامنا، وطأطأ الركض في جهادنا، ونحن بهذا الحيز من الأرض قد نفينا من كان به من أهل البغي، وأنهضنا من كان به من أهل القسط والعدل، وقد ذكرت المواساة في سلطانك ودنياك، وبالله إن ذلك لأمرٌ ما له نهضنا، ولا إياه أردنا، فإن يجمع الله لنا ما نطلب، ويؤتنا ما تمنينا، فإن الدنيا والآخرة لله رب العالمين، وقد يؤتيهما الله معًا عالمًا من خلقه، كما قال في كتابه، ولا خلف لموعوده، قال: " فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين "، عجل علينا خيلك ورجلك، فإن عدونا قد كان علينا حربًا، وكنا فيهم قليلًا، فقد أصبحوا لنا هائبين، وأصبحنا لهم مقرنين، فإن يأتنا الله بمدد من قبلك يفتح الله عليكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ والسلام عليك. قال: فجاءه هذا الكتاب وهو يومئذ بفلسطين، فدعا النفر الذين سماهم في الكتاب فقال: ماذا ترون؟ قالوا: الرأي أن تبعث جندًا من قبلك، فإنك تفتتحها بإذن الله. قال معاوية: فتجهز يا أبا عبد الله إليها - يعني عمرو بن العاص - قال: فبعثه في ستة آلاف رجل، وخرج معاوية وودعه وقال له عند وداعه إياه: أوصيك يا عمرو بتقوى الله والرفق فإنه يمن، وبالمهل والتؤدة، فإن العجلة من الشيطان، وبأن تقبل ممن أقبل، وأن تعفو عمن أدبر، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أبلغ في الحجة، وأحسن في العاقبة، وادع الناس إلى الصلح والجماعة، فإذا أنت ظهرت فليكن أنصارك آثر الناس عندك، وكل الناس فأول حسنًا. قال: فخرج عمرو يسير حتى نزل أداني أرض مصر، فاجتمعت العثمانية إليه، فأقام بهم، وكتب إلى محمد بن أبي بكر: أما بعد، فتنح عني بدمك يابن أبي بكر، فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك، ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان، فاخرج منها، فإني لك من الناصحين؛ والسلام: أما بعد، فإن غب البغي والظلم عظيم الوبال، وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا، ومن التبعة الموبقة في الآخرة، وإنا لا نعلم أحدًا كان أعظم على عثمان بغيًا، ولا أسوأ له عيبًا، ولا أشد عليه خلافًا منك؛ سعيت عليه في الساعين، وسفكت دمه في السافكين، ثم أنت تظن أني عنك نائمٌ أو ناسٍ لك، حتى تأتي فتأمر على بلاد أنت فيها جاري، وجل أهلها أنصاري، يرون رأيي، ويرقبون قولي، ويستصرخوني عليك. وقد بعثت إليك قومًا حناقًا عليك، يستسقون دمك، ويتقربون إلى الله بجهادك، وقد أعطوا الله عهدًا ليمثلن بك، ولو لم يكن منهم إليك ما عدا قتلك ما حذرتك ولا أنذرتك، ولأحببت أن يقتلوك بظلمك وقطيعتك وعدوك على عثمان يوم يطعن بمشاقصك بين خششائه وأوداجه، ولكن أكره أن أمثل بقرشي، ولن يسلمك الله من القصاص أبدًا أينما كنت. والسلام. قال: فطوى محمد كتابيهما، وبعث بهما إلى علي، وكتب معهما: أما بعد، فإن ابن العاص قد نزل أداني أرض مصر، واجتمع إليه أهل البلد جلهم ممن كان يرى رأيهم، وقد جاء في جيش لجب خراب، وقد رأيت ممن قبلي بعض الفشل، فإن كان لك في أرض مصر حاجة فأمدني بالرجال والأموال؛ والسلام عليك. فكتب إليه علي: أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر أن ابن العاص قد نزل بأداني أرض مصر في لجبٍ من جيشه خراب، وإن من كان بها على مثل رأيه قد خرج إليه، وخروج من يرى رأيه إليه خيرٌ لك من إقامتهم عندك. وذكرت أنك قد رأيت في بعض من قبلك فشلًا، فلا تفشل، وإن فشلوا فحصن قريتك، واضمم إليك شيعتك، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والنجدة والبأس، فإني نادبٌ إليك الناس على الصعب والذلول، فاصبر لعدوك، وامض على بصيرتك، وقاتلهم على نيتك، وجاهدهم صابرًا محتسبًا، وإن كانت فئتك أقل الفئتين؛ فإن الله قد يعز القليل، ويخذل الكثير. وقد قرأت كتاب الفاجر ابن الفاجر معاوية، والفاجر ابن الكافر عمرو، المتحابين في عمل المعصية، والمتوافقين المرتشيين في الحكومة، المنكرين في الدنيا، قد استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم، فلا يهلك إرعادهما وإبراقهما، وأجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله، فإنك تجد مقالًا ما شئت؛ والسلام. قال أبو مخنف: فحدثني محمد بن يوسف بن ثابت الأنصاري. عن شيخ من أهل المدينة، قال: كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية بن أبي سفيان جواب كتابه: أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكرني من أمر عثمان أمرًا لا أعتذر إليك منه، وتأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح، وتخوفين المثلة كأنك شفيق، وأنا أرجو أن تكون لي الدائرة عليكم، فأجتاحكم في الوقعة، وإن تؤتوا النصر ويكن لكم الأمر في الدنيا، فكم لعمري من ظالم قد نصرتم، وكم من مؤمن قتلتم ومثلتم به! وإلى الله مصيركم ومصيرهم، وإلى الله مرد الأمور، وهو أرحم الراحمين، والله المستعان على ما تصفون. والسلام. وكتب محمد إلى عمرو بن العاص: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت في كتابك يابن العاص، زعمت أنك تكره أن يصيبني منك ظفر، وأشهد أنك من المبطلين. وتزعم أنك لي نصيح، وأقسم أنك عندي ظنين، وتزعم أن أهل البلد قد رفضوا رأيي وأمري، وندموا على اتباعي، فأولئك لك وللشيطان الرجيم أولياء، فحسبنا الله رب العالمين، وتوكلنا على الله رب العرش العظيم؛ والسلام. قال: أقبل عمرو بن العاص حتى قصد مصر، فقام محمد بن أبي بكر في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد معاشر المسلمين والمؤمنين، فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة، وينعشون الضلال، ويشبون نار الفتنة، ويتسلطون بالجبرية، قد نصبوا لكم العداوة، وساروا إليكم بالجنود. عباد الله! فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله؛ انتدبوا إلى هؤلاء القوم رحمكم الله مع كنانة ابن بشر. قال: فانتدب معه نحو من ألفي رجل، وخرج محمد في ألفي رجل، واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، فأقبل عمرو نحو كنانة، فلما دنا من كنانة سرح الكتائب كتيبةً بعد كتيبة، فجعل كنانة لا تأتيه كتيبةٌ من كتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه، فيضربها حتى يقربها لعمرو بن العاص. ففعل ذلك مرارًا؛ فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن حديج السكوني، فأتاه في مثل الدهم، فأحاط بكنانة وأصحابه، واجتمع أهل الشأم عليهم من كل جانب، فلما رأى ذلك كنانة بن بشر نزل عن فرسه، ونزل أصحابه وكنانة يقول: " وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ". فضاربهم بسيفه حتى استشهد رحمة الله. وأقبل عمرو بن العاص بنحو محمد بن أبي بكر، وقد تفرق عنه أصحابه لما بلغهم قتل كنانة، حتى بقي وما معه أحد من أصحابه، فلما رأى ذلك محمد خرج يمشي في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق، فأوى إليها، وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج في قارع الطريق، فسألهم: هل مر بكم أحد تنكرونه؟ فقال أحدهم: لا والله، إلا أني دخلت تلك الخربة، فإذا أنا برجل فيها جالس، فقال ابن حديج: هو هو ورب الكعبة؛ فانطلقوا يركضون حتى دخلوا عليه، فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشًا؛ فأقبلوا به نحو فسطاط مصر. قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص - وكان في جنده فقال: أتقتل أخي صبرًا! ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه، فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر، فقال معاوية: أكذاك! قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا عن محمد بن أبي بكر! هيهات، " أكفاركم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءةٌ في الزبر ". فقال لهم محمد: اسقوني من الماء، قال له معاوية بن حديج: لا سقاه الله إن سقاك قطرةً أبدًا! إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائمًا محرمًا، فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنك بابن أبي بكر فيسقيك الله الحميم والغساق! قال له محمد: يابن اليهودية النساجة، ليس ذلك إليك وإلى من ذكرت، إنما ذلك إلى الله عز وجل يسقي أولياءه، ويظمىء أعداءه؛ أنت وضرباؤك ومن تولاه، أما والله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني هذا؛ قال له معاوية: أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار؛ فقال له محمد: إن فعلتم بي ذلك، فطالما فعل ذلك بأولياء الله! وإني لأرجو هذه النار التي تحرقني بها ان يجعلها الله علي بردًا وسلامًا كما جعلها على خليله إبراهيم، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمروذ وأوليائه، إن الله يحرقك ومن ذكرته قبل وإمامك - يعني معاوية، وهذا - وأشار إلى عمرو بن العاص - بنار تلظى عليكم؛ كلما خبت زادها الله سعيرًا. قال له معاوية: إني إنما أقتلك بعثمان؛ قال له محمد: وما أنت وعثمان! إن عثمان عمل بالجور، ونبذ حكم القرآن، وقد قال الله تعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "، فنقمنا ذلك عليه فقتلناه، وحسنت أنت له ذلك ونظراؤك، فقد برأنا الله إن شاء الله من ذنبه، وأنت شريكه في إثمه وعظم ذنبه، وجاعلك على مثاله. قال: فغضب معاوية فقدمه فقتله، ثم ألقاه في جيفة حمار، ثم أحرقه بالنار؛ فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعًا شديدًا، وقنتت عليه في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو، ثم قبضت عيال محمد إليها. فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر في عيالها. وأما الواقدي فإنه ذكر لي أن سويد بن عبد العزيز حدثه عن ثابت ابن عجلان، عن القاسم بن عبد الرحمن، أن عمرو بن العاص خرج في أربعة آلاف، فيهم معاوية بن حديج، وأبو الأعور السلمي، فالتقوا بالمسناة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، حتى قتل كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، ولم يجد محمد بن أبي بكر مقاتلًا، فانهزم، فاختبأ عند جبلة بن مسروق، فدل عليه معاوية بن حديج، فأحاط به. فخرج محمد فقاتل حتى قتل. قال الواقدي: وكانت المسناة في صفر سنة ثمان وثلاثين، وأذرح في شعبان منها في عام واحد. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية عند قتله محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر: أما بعد، فإنا لقينا محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في جموع جمة من أهل مصر، فدعوناهم إلى الهدى والسنة وحكم الكتاب، فرفضوا الحق، وتوركوا في الضلال، فجاهدناهم، واستنصرنا الله عليهم، فضرب الله وجوههم وأدبارهم، ومنحونا أكتافهم، فقتل الله محمد بن أبي بكر وكنانة ابن بشر وأماثل القوم، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليك. ذكر خبر قتل محمد بن أبي حذيفة وفيها قتل محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. ذكر الخبر عن مقتله اختلف أهل السير في وقت مقتله؛ فقال الواقدي: قتل في سنة ست وثلاثين. قال: وكان سبب قتله أن معاوية وعمرًا سارا إليه وهو بمصر قد ضبطها، فنزلا بعين شمس، فعالجا الدخول، فلم يقدرا عليه، فخدعا محمد بن أبي حذيفة على أن يخرج في ألف رجل إلى العريش، فخرج وخلف الحكم بن الصلت على مصر، فلما خرج محمد بن أبي حذيفة إلى العريش تحصن، وجاء عمرو فنصب المجانيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه، فأخذوا فقتلوا. قال: وذاك قبل أن يبعث عليٌّ إلى مصر قيس بن سعد. وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه ذكر أن محمد بن أبي حذيفة إنما أخذ بعد أن قتل محمد بن أبي بكر ودخل عمرو بن العاص مصر وغلب عليها، وزعم أن عمرًا لما دخل هو وأصحابه مصر أصابوا محمد بن أبي حذيفة، فبعثوا به إلى معاوية وهو بفلسطين، فحبسه في سجن له، فمكث فيه غير كثير، ثم إنه هرب من السجن - وكان ابن خال معاوية - فأرى معاوية الناس أنه قد كره انفلاته، فقال لأهل الشأم: من يطلبه؟ قال: وقد كان معاوية يحب فيما يرون أن ينجو، فقال رجل من خثعم - يقال له عبد الله ابن عمرو بن ظلام. وكان رجلًا شجاعًا. وكان عثمانيًا: أنا أطلبه، فخرج في حاله حتى لحقه بأرض البلقاء بحوران وقد دخل في غارٍ هناك. فجاءت حمرٌ تدخله، وقد أصابها المطر، فلما رأت الحمر الرجل في الغار فزعت، فنفرت، فقال حصادون كانوا قريبًا من الغار: والله إن لنفر هذه الحمر من الغار لشأنًا. فذهبوا لينظروا، فإذا هم به، فخرجوا، ويوافقهم عبد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي، فسألهم عنه، ووصفه لهم. فقالوا له: ها هو ذا في الغار؛ قال: فجاء حتى استخرجه، وكره أن يرجعه إلى معاوية فيخلي سبيله. فضرب عنقه. قال هشام، عن أبي مخنف: قال: وحدثني الحارث بن كعب بن فقيم، عن جندب، عن عبد الله بن فقيم، عم الحارث بن كعب.. يستصرخ من قبل محمد بن أبي بكر إلى علي - ومحمد يومئذ أميرهم - فقام علي في الناس وقد أمر فنودي: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس، فحمد الله وأثى عليه، وصلى على محمد ﷺ، ثم قال: أما بعد، فإن هذا صريخ محمد بن أبي بكر وإخوانكم من أهل مصر، قد سار إليهم ابن النابغة عدو الله، وولي من عادى الله، فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم والركون إلى سبيل الطاغوت أشد اجتماعًا منكم على حقكم هذا، فإنهم قد بدءوكم وإخوانكم بالغزو، فاعجلوا إليهم بالمؤاساة والنصر. عباد الله، إن مصر أعظم من الشأم، أكثر خيرًا، وخيرٌ أهلًا، فلا تغلبوا على مصر، فإن بقاء مصر في أيديكم عزٌّ لكم، وكبتٌ لعدوكم، اخرجوا إلى الجرعة بين الحيرة والكوفة، فوافوني بها هناك غدًا إن شاء الله. قال: فلما كان من الغد خرج يمشي، فنزلها بكرةً، فأقام بها حتى انتصف النهار يومه ذلك، فلم يوافه منهم رجل واحد؛ فرجع. فلما كان من العشي بعث إلى أشراف الناس، فدخلوا عليه القصر وهو حزين كئيب، فقال: الحمد لله على ما قضى من أمري، وقدر من فعلي، وابتلاني بكم أيتها الفرقة ممن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بصبركم، والجهاد على حقكم! الموت والذل لكم في هذه الدنيا على غير الحق، فوالله لئن جاء الموت - وليأتين - ليفرقن بين وبينكم، وأنا لصحبتكم قالٍ؛ وبكم غير ضنين، لله أنتم! لا دين يجمعكم، ولا حيمة تحميكم، إذا أنتم سمعتم بعدوكم يرد بلادكم، ويشن الغارة عليكم. أو ليس عجبًا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة! ويجيبونه في السنة المرتين والثلاث إلى أي وجه شاء. وأنا أدعوكم - وأنتم أولو النهي وبقية الناس - على المعونة وطائفةً منكم على العطاء. فتقومون عني وتعصونني، وتختلفون علي! فقام إليه مالك بن كعب الهمداني ثم الأرحبي، فقال: يا أمير المؤمنين، اندب الناس فإنه لا عطر بعد عروس؛ لمثل هذا اليوم كنت أدخر نفسي، والأجر لا يأتي إلا بالكرة. اتقوا الله وأجيبوا إمامكم، وانصروا دعوته، وقاتلوا عدوه، أنا أسير إليها بأمير المؤمنين؛ قال: فأمر علي مناديه سعدًا، فنادى في الناس: ألا انتدبوا إلى مصر مع مالك بن كعب. ثم إنه خرج وخرج معه علي، فنظر فإذا جميع من خرج نحو ألفي رجل، فقال: سر فوالله ما إخالك تدرك القوم حتى ينقضي أمرهم؛ قال: فخرج بهم، فسار خمسًا. ثم إن الحجاج بن غزية الأنصاري، ثم النجاري قدم على علي من مصر، وقدم عبد الرحمن بن شبيبٍ الفزاري، فأما الفزاري فكان عينه بالشأم، وأما الأنصاري فكان مع محمد بن أبي بكر، فحدثه الأنصاري بما رأى وعاين وبهلاك محمد، وحدثه الفزاري أنه لم يخرج من الشأم حتى قدمت البشراء من قبل عمرو بن العاص تترى، يتبع بعضها بعضًا بفتح مصر وقتل محمد بن أبي بكر، وحتى أذن بقتله على المنبر، وقال: يا أمير المؤمنين، قلما رأيت قومًا قط أسر، ولا سرورًا قط أظهر من سرور رأيته بالشأم حين أتاهم هلاك محمد بن أبي بكر. فقال علي: أما إن حزننا عليه على قدر سرورهم به، لا بل يزيد أضعافًا. قال: وسرح عليٌّ عبد الرحمن بن شريح الشبامي إلى مالك بن كعب، فرده من الطريق. قال: وحزن علي على محمد بن أبي بكر حتى رئي ذلك في وجهه، وتبين فيه، وقام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله ﷺ، وقال: ألا إن مصر قد افتتحها الفجرة أولو الجور والظلم الذين صدوا عن سبيل الله، وبغوا الإسلام عوجا. ألا وإن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمه الله، فعند الله نحتسبه. أما والله إن كان ما علمت لممن ينتظر القضاء، ويعمل للجزاء، ويبغض شكل الفاجر، ويحب هدى المؤمن، إني والله ما ألوم نفسي على التقصير، وإني لمقاساة الحر لجد خبير، وإني لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم، وأقوم فيكم بالرأي المصيب، فأستصرخكم معلنًا، وأناديكم نداء المستغيث معربًا، فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرًا، حتى تصير بي الأمور إلى عواقب المساءة، فأنتم القوم لا يدرك بكم الثأر، ولا تنقض بكم الأوتار؛ دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع وخمسين ليلةً فتجرجرتم جرجرة الجمل الأشدق، وتثاقلتم إلى الأرض تثاقل من ليس له نية في جهاد العدو، ولا اكتساب الأجر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذانب كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. فأفٍّ لكم! ثم نزل. وكتب إلى عبد الله بن عباس وهو بالبصرة: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس، سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن مصر قد افتتحت، ومحمد بن أبي بكر قد استشهد، فعند الله نحتسبه وندخره، وقد كنت قمت في الناس في بدئه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم سرًا وجهرًا، وعودًا وبدءًا، فمنهم من أتى كارهًا، ومنهم من اعتل كاذبًا، ومنهم القاعد حالا، أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجًا ومخرجًا، وأن يريحني منهم عاجلًا. والله لولا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة لأحببت ألا أبقى مع هؤلاء يومًا واحًا. عزم الله لنا ولك على الرشد، وعلى تقواه وهداه، إنه على كل شيء قدير. والسلام. فكتب إليه ابن عباس: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لعبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، من عبد الله بن عباس. سلامٌ عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه افتتاح مصر، وهلاك محمد بن أبي بكر، فالله المستعان على كل حال، ورحم الله محمد بن أبي بكر وآجرك يا أمير المؤمنين! وقد سألت الله أن يجعل لك من رعيتك التي ابتليت بها فرجًا ومخرجًا، وأن يعزك بالملائكة عاجلًا بالنصرة، فإن الله صانعٌ لك ذلك، ومعزك ومجيب دعوتك، وكابتٌ عدوك. أخبرك يا أمير المؤمنين أن الناس ربما تثاقلوا ثم ينشطون، فارفق بهم يا أمير المؤمنين، وداجنهم ومنهم، واستعن بالله عليهم، كفاك الله ألمهم. والسلام. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، عن مالك بن الحور، أن عليًا قال: رحم الله محمدًا! كان غلامًا حدثًا، أما والله لقد كنت على أن أولي المرقال هاشم بن عتبة مصر، أما والله لو أنه وليها ما خلى لعمرو بن العاص وأعوانه الفجرة العرصة، ولما قتل إلا وسيفه في يده، لا بلا دمٍ كمحمد. فرحم الله محمدًا، فقد اجتهد نفسه، وقضى ما عليه. وفي هذه السنة وجه معاوية بعد مقتل محمد بن أبي بكر عبد الله بن عمرو ابن الحضرمي إلى البصرة للدعاء إلى الإقرار بحكم عمرو بن العاص فيه. وفيها قتل أعين بن ضبيعة المجاشعي، وكان عليٌّ وجهه لإخراج ابن الحضرمي من البصرة. ذكر الخبر عن أمر ابن الحضرمي وزايد وأعين وسبب قتل من قتل منهم حدثني عمر بن شبة، قال: ححدثني علي بن محمد، قال: حدثنا أبو الذيال، عن أبي نعامة، قال: لما قتل محمد بن أبي بكر بمصر، خرج ابن عباس من البصرة إلى عليٍّ بالكوفة، واستخلف زيادًا، وقدم ابن الحضرمي من قبل معاوية، فنزل في بني تميم، فأرسل زياد إلى حضين بن المنذر ومالك بن مسمع، فقال: أنتم يا معشر بكر بن وائل من أنصار أمير المؤمنين وثقاته، وقد نزل ابن الحضرمي حيث ترون، وأتاه من أتاه، فامنعوني حتى يأتيني رأي أمير المؤمنين. فقال حضين: نعم، وقال مالك - وكان رأيه مائلًا إلى بني أمية، وكان مروان لجأ إليه يوم الجمل: هذا أمرٌ لي فيه شركاء، أستشير وأنظر. فلما رأى زياد تثاقل مالك خاف أن تختلف ربيعة، فأرسل إلى نافع أن أشر علي، فأشار عليه نافع بصبرة بن شيمان الحداني، فأرسل إليه زياد، فقال: ألا تجيرني! وبيت مال المسلمين فإنه فيئكم، وأنا أمين أمير المؤمنين. قال: بلى إن حملته إلي ونزلت داري. قال: فإني حامله، فحمله، وخرج زياد حتى أتى الحدان، ونزل في دار صبرة بن شيمان، وحول بيت المال والمنبر، فوضعه في مسجد الحدان، وتحول مع زياد خمسون رجلًا، منهم أبو أبي حاضر - وكان زياد يصلي الجمعة في مسجد الحدان، ويطعم الطعام - فقال زياد لجابر بن وهب الراسبي: يا أبا محمد، إني لا أرى ابن الحضرمي يكف، لا أراه إلا سيقاتلكم، ولا أدري ما عند أصحابك فآمرهم، وانظر ما عندهم. فلما صلى زياد جلس في المسجد، واجتمع الناس إليه، فقال جابر: يا معشر الأزد، تميم تزعم أنهم هم الناس، وأنهم أصبر منكم عند البأس، وقد بلغني أنهم يريدون أن يسيروا إليكم حتى يأخذوا جاركم، ويخرجوه من المصر قسرًا، فكيف أنتم إذا فعلوا ذلك وقد أجرتموه وبيت مال المسلمين! فقال صبرة بن شيمان - وكان مفخمًا: إن جاء الأحنف جئت، وإن جاء الحتات جئت، وإن جاء شبان ففينا شبان. فكان زياد يقول: إنني استضحكت ونهضت، وما كدت مكيدةً قط كنت إلى الفضيحة بها أقرب مني للفضيحة يومئذ؛ لما غلبني من الضحك. قال: ثم كتب زياد إلى علي: إن ابن الحضرمي أقبل من الشأم فنزل في دار بني تميم، ونعى عثمان، ودعا إلى الحرب، وبايعته تميم وجل أهل البصرة، ولم يبق معي من أمتنع به، فاستجرت لنفسي ولبيت المال صبرة بن شيمان، وتحولت فنزلت معهم، فشيعة عثمان يختلفون إلى ابن الحضرمي، وفجه علي أعين بن ضبيعة المجاشعي ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فانظر ما يكون منه، فإن فرق جمع ابن الحضرمي فذلك ما تريد، وإن ترقت بهم الأمور إلى التمادي في العصيان فانهض إليهم فجاهدهم، فإن رأيت ممن قبلك تثاقلًا، وخفت ألا تبلغ ما تريد، فدارهم وطاولهم، ثم تسمع وأبصر، فكأن جنود الله قد أظلتك، تقتل الظالمين. فقدم أعين فأتى زيادًا، فنزل عنده، ثم أتى قومه، وجمع رجالًا ونهض إلى ابن الحضرمي، فدعاهم، فشتموه وناوشوه، فانصرف عنهم، ودخل عليه قوم فقتلوه، فلما قتل أعين ابن ضبيعة، أراد زياد قتالهم، فأرسلت بنو تميم إلى الأزد: إنا لم نعرض لجاركم، ولا لأحد من أصحابه، فماذا تريدون إلى جارنا وحربنا! فكرهت الأزد القتال، وقالوا: إن عرضوا لجارنا منعناهم، وإن يكفوا عن جارنا كففنا عن جارهم. فأمسكوا. وكتب زيادٌ إلى علي: أن أعين بن ضبيعة قدم فجمع من أطاعه من عشيرته، ثم نهض بهم بجد وصدق نية إلى ابن الحضرمي، فحثهم على الطاعة، ودعاهم إلى الكف والرجوع عن شقاقهم، ووافقتهم عامة قوم، فهالهم ذلك، وتصدع عنهم كثير ممن كان معهم، يمنيهم نصرته، وكانت بينهم مناوشة. ثم انصرف إلى أهله، فدخلوا عليه فاغتالوه فأصيب، رحم الله أعين! فأردت قتالهم عند ذلك، فلم يخف معي من أقوى به عليهم، وتراسل الحيان، فأمسك بعضهم عن بعض. فلما قرأ عليٌّ كتابه دعا جارية بن قدامة السعدي، فوجهه في خمسين رجلًا من بني تميم، وبعث معه شريك بن الأعور - ويقال بعث جارية خمسمائة رجل - وكتب إلى زياد كتابًا يصوب رأيه فيما صنع، وأمره بمعونة جارية ابن قدامة والإشارة عليه، فقدم جارية البصرة، فأتى زيادًا فقال له: احتفز واحذر أن يصيبك ما أصاب صاحبك، ولا تثقن بأحد من القوم. فسار جارية إلى قومه فقرأ عليهم كتاب علي، ووعدهم، فأجابه أكثرهم، فسار إلى ابن الحضرمي فحصره في دار سنبيل، ثم أحرق عليه الدار وعلى من معه، وكان معه سبعون رجلًا - ويقال أربعون - وتفرق الناس، ورجع زياد إلى دار الإمارة، وكتب إلى علي مع ظبيان بن عمارة، وكان ممن قدم مع جارية.. وأن جارية قدم علينا فسار إلى ابن الحضرمي فقتله حتى اضطره إلى دار من دور بني تميم، في عدة رجال من أصحابه بعد الإعذار والإنذار، والدعاء إلى الطاعة، فلم ينيبوا ولم يرجعوا، فأضرم عليهم الدار فأحرقهم فيها، وهدمت عليهم، فبعدًا لمن طغى وعصى! فقال عمرو بن العرندس العودي: رددنا زيادًا إلى داره ** وجار تميمٍ دخانًا ذهب لحى الله قومًا شووا جارهم ** وللشاء بالدرهمين الشصب ينادي الخناق وخمانها ** وقد سمطوا رأسه باللهب ونحن أناسٌ لنا عادةٌ ** نحامي عن الجار أن يغتصب حميناه إذ حل أبياتنا ** ولا يمنع الجار إلا الحسب ولم يعرفوا حرمةً للجوا ** ر إذ أعظم الجار قومٌ نجب كفعلهم قبلنا بالزبير ** عشية إذ بزه يستلب وقال جرير بن عطية بن الخطفي: غدرتم بالزبير فما وفيتم ** وفاء الأزد إذ منعوا زيادا فأصبح جارهم بنجاة عزٍّ ** وجار مجاشعٍ أمسى رمادا فلو عاقدت حبل أبي سعيدٍ ** لذاد القوم ما حمل النجادا وأدنى الخيل من رهج المنايا ** وأغشاها الأسنة والصعادا الخريت بن راشد وإظهاره الخلاف على علي ومما كان في هذه السنة - أعني سنة ثمان وثلاثين - إظهار الخريت بن راشد في بني ناجية الخلاف على علي وفراقه إياه؛ كالذي ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، عن الحارث الأزدي، عن عمه عبد الله بن فقيم، قال: جاء الخريت بن راشد إلى علي - وكان مع الخريت ثلثمائة رجل من بني ناجية مقيمين مع علي بالكوفة، قدموا معه من البصرة، وكانوا قد خرجوا إليه يوم الجمل، وشهدوا معه صفين والنهروان - فجاء إلى علي في ثلاثين راكبًا من أصحابه يسير بينهم حتى قام بين يدي علي، فقال له: والله يا علي لا أطيع أمرك، ولا أصلي خلفك، وإني غدًا لمفارقك. وذلك بعد تحكيم الحكمين. فقال له علي: ثكلتك أمك! إذًا تعصي ربك، وتنكث عهدك، ولا تضر إلا نفسك. خبرني لم تفعل ذلك؟ قال: لأنك حكمت في الكتاب، وضعفت عن الحق إذ جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك زارٍ، وعليهم ناقم، ولكم جميعًا مباين. فقال له علي: هلم أدارسك الكتاب، وأناظرك في السنن، وأفاتحك أمورًا من الحق أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر، وتستبصر ما أنت عنه الآن جاهل. قال: فإني عائد إليك؛ قال: لا يستهوينك الشيطان، ولا يستخفنك الجهل، ووالله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد. فخرج من عنده منصرفًا إلى أهله، فعجلت في أثره مسرعًا. وكان لي من بني عمه صديق، فأدرت أن ألقى ابن عمه ذلك فأعلمه بشأنه، ويأمره بطاعة أمير المؤمنين ومناصحته، ويخبره أن ذلك خير له في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فخرجت حتى انتهيت إلى منزله وقد سبقني، فقمت عند باب داره، وفي داره رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على علي. قال: فوالله ما جزم شيئًا مما قال، ومما رد عليه، ثم قال لهم: يا هؤلاء، إني قد رأيت أن أفارق هذا الرجل، وقد فارقته على أن أرجع إليه من غد ولا أراني إلا مفارقه من غد. فقال له أكثر أصحابه: لا تفعل حتى تأتيه، فإن أتاك بأمرٍ تعرفه قبلت منه، وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه. فقال لهم: فنعم ما رأيتم. قال: ثم إني استأذنت عليه، فأذنوا لي، فدخلت فقلت: أنشدك الله أن تفارق أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين، وأن تجعل على نفسك سبيلًا، وأن تقتل من أرى عشيرتك! إن عليًا ليعلي الحق. قال: فأنا أغدو إليه فأسمع منه حجته، وأنظر ما يعرض علي به ويذكر، فإن رأيت حقًا ورشدًا قبلت، وإن رأيت غيًا وجورًا تركت. قال: فخلوت بابن عمه ذلك - قال: وكان أحد نفره الأدنين، وهو مدرك بن الريان، وكان من رجال العرب - فقلت له: إن لك علي حقًا لإخائك وودك ذلك علي بعد حق المسلم على المسلم. إن ابن عمك كان منه ماقد ذكر لك، فأجد به، فاردد عليه رأيه، وعظم عليه ما أتى، فإني خائف إن فارق أمير المؤمنين أن يقتله نفسه وعشيرته. فقال: جزاك الله خيرًا من أخ! فقد نصحت وأشفقت، إن أراد صاحبي فراق أمير المؤمنين فارقته وخالفته، وكنت أشد الناس عليه. وأنا بعد فإني خالٍ به، ومشيرٌ عليه بطاعة أمير المؤمنين ومناصحته والإقامة معه، وفي ذلك حظه ورشده. فقمت من عنده، وأردت الرجوع إلى أمير المؤمنين لأعلمه بالذي كان، ثم اطمأننت إلى قول صاحبي، فرجعت إلى منزلي فبت به ثم أصبحت، فلما ارتفع الضحى أتيت أمير المؤمنين، فجلست عنده ساعةً وأنا أريد أن أحدثه بالذي كان من قوله لي على خلوة، فأطلت الجلوس، فلم يزدد الناس إلا كثرةً، فدنوت منه، فجلست وراءه، فأصغى إلي بأذنيه، فخبرته بما سمعت من الخريت بن راشد، وبما قلت له، وبما رد علي. وبما كان من مقالتي لابن عمه، وبما رد علي، فقال: دعه، فإن عرف الحق وأقبل إليه عرفنا ذلك وقبلنا منه، وإن أبى طلبناه. فقلت: يا أمير المؤمنين، ولم لا تأخذه الآن وتستوثق منه وتحبسه؟ فقال: إنا لو فعلنا هذا بكل من نتهمه من الناس ملأنا سجننا منهم، ولا أراه - يعني الوثوب على الناس والحبس والعقوبة - حتى يظهروا لنا الخلاف. قال: فسكت عنه، وتنحيت، فجلست مع القوم. ثم مكث ما شاء الله. ثم إنه قال: ادن مني؛ فدنوت منه، فقال لي مسرًا: اذهب إلى منزل الرجل فاعلم لي ما فعل، فإنه كل يوم لم يكن يأتيني فيه إلا قبل هذه الساعة. فأتيت منزله، فإذا ليس في منزله منهم ديار، فدعوت على أبواب دور أخر كان فيها طائفة من أصحابه، فإذا ليس فيها داعٍ ولا مجيب، فرجعت. فقال لي حين رآني: وطنوا فأمنوا، أم جنبوا فظعنوا! فقلت: بل ظعنوا فأعلنوا، فقال: قد فعلوها! بعدًا لهم كما بعدت ثمود! أما لو قد أشرعت لهم الأسنة وصببت على هامهم السيوف، لقد ندموا. إن الشيطان اليوم قد استهواهم وأضلهم، وهو غدًا متبرىء منهم، ومخلٍّ عنهم. فقام إليه زياد بن خصفة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لو لم يكن من مضرة هؤلاء إلا فراقهم إيانا لم يعظم فقدهم فنأسى عليهم، فإنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا، وقلما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعةً كثيرة ممن يقدمون عليه من أهل طاعتك، فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك إن شاء الله. فقال له علي: وهل تدري أن توجه القوم؟ فقال: لا، ولكني أخرج فأسأل وأتبع الأثر. فقال له: اخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى، ثم لا تتوجه حتى يأتيك أمري، فإنهم إن كانوا خرجوا ظاهرين للناس في جماعة، فإن عمالي ستكتب إلي بذلك، وإن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم، وسأكتب إلى عمالي فيهم. فكتب نسخةً واحدةً فأخرجها إلى العمال: أما بعد، فإن رجالًا خرجوا هرابًا ونظنهم وجهوا نحو بلاد البصرة، فسل عنهم أهل بلادك، واجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك، واكتب إلي بما ينتهي إليك عنهم؛ والسلام. فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره، وجمع أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا معشر بكر بن وائل، فإن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أمره مهم له، وأمرني بالانكماش فيه، وأنتم شيعته وأنصاره، وأوثق حيٍّ من الأحياء في نفسه، فانتدبوا معي الساعة، واعجلوا. قال: فوالله ما كان إلا ساعةً حتى اجتمع له منهم مائة وعشرون رجلًا أو ثلاثون؛ فقال: اكتفينا، لا نريد أكثر من هذا، فخرجوا حتى قطعوا الجسر، ثم دير أبي موسى، فنزله، فأقام فيه بقية يومه ذلك ينتظر أمر أمير المؤمنين. قال أبو مخنف: فحدثني أبو الصلت الأعور التيمي، عن أبي سعيد العقيلي، عن عبد الله بن وأل التيمي، قال: والله إني لعند أمير المؤمنين إذ جاءه فيج، كتابٌ بيديه، من قبل قرظة بن كعب الأنصاري: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أن خيلًا مرت بنا من قبل الكوفة متوجهةً نحو نفر، وإن رجلًا من دهاقين أسفل الفرات قد صلى يقال له: زاذان فروخ، أقبل من قبل أخواله بناحية نفر، فعرضوا له، فقالوا: أمسلم أنت أم كافر؟ فقال: بل أنا مسلم، قالوا: فما قولك في علي؟ قال: أقول فيه خيرًا، أقول: إنه أمير المؤمنين، وسيد البشر، فقالوا له: كفرت يا عدو الله! ثم حملت عليه عصابةٌ منهم فقطعوه، ووجدوا معه رجلًا من أهل الذمة، فقالوا: ما أنت؟ قال: رجل من أهل الذمة، قالوا: أما هذا فلا سبيل عليه، فأقبل إلينا ذلك الذمي فأخبرنا هذا الخبر، وقد سألت عنهم فلم يخبرني أحدٌ عنهم بشيء، فليكتب إلي أمير المؤمنين برأيه فيهم أنته إليه. والسلام. فكتب إليه: أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت من العصابة التي مرت بك فقتلت البر المسلم، وأمن عندهم المخالف الكافر، وإن أولئك قومٌ استهواهم الشيطان فضلوا وكانوا كالذين حسبوا ألا تكون فتنةٌ فعموا وصموا، فأسمع بهم وابصر يوم تخبر أعمالهم. والزم عملك، وأقبل على خراجك فإنك كما ذكرت في طاعتك ونصيحتك؛ والسلام. قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت الأعور التيمي عن أبي سعيد العقيلي، عن عبد الله بن وأل، قال: كتب عليٌّ رضي الله عنه معي كتابًا إلى زياد بن خصفة، وأنا يومئذ شاب حدث: أما بعد، فإني كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتى يأتيك أمري وذلك لأني لم أكن علمت إلى أي وجه توجه القوم، وقد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية يقال لها نفر، فاتقع آثارهم، وسل عنهم، فإنهم قد قتلوا رجلًا من أهل السواد مصليًا، فإذا أنت لحقتهم فارددهم إلي، فإن أبوا فناجزهم، واستعن بالله عليهم، فإنهم قد فارقوا الحق، وسفكوا الدم الحرام، وأخافوا السبيل. والسلام. قال: فأخذت الكتاب منه، فمضيت به غير بعيد، ثم رجعت به، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أمضي مع زياد بن خصفة إذا دفعت إليه كتابك إلى عدوك؟ فقال: يابن أخي، افعل، فوالله إني أرجو أن تكون من أعواني على الحق، وأنصاري على القوم الظالمين؛ فقلت له: أنا والله يا أمير المؤمنين كذلك ومن أولئك، وإنا حيث تحب. قال ابن وأل: فوالله ما أحب أن لي بمقالة علي تلك حمر النعم. قال: ثم مضيت إلى زياد بن خصفة بكتاب عليٍّ وأنا على فرس لي رائع كريم، وعلي السلاح، فقال لي زياد: يابن أخي، والله ما لي عنك من غناء، وإني لأحب أن تكون معي في وجهي هذا؛ فقلت له: قد استأذنت في ذلك أمير المؤمنين فأذن لي، فسر بذلك. قال: ثم خرجنا حتى أتينا نفر، فسألنا عنهم، فقيل لنا: قد ارتفعوا نحو جرجرايا، فاتبعناهم، فقيل لنا: قد أخذوا نحو المذا، فلحقناهم وهم نزول بالمذار، وقد أقاموا به يومًا وليلة، وقد استراحوا وأعلفوا وهم جامون، فأتيناهم وقد تقطعنا ولغبنا وشقينا ونصبنا، فلما رأونا وثبوا على خيولهم فاستووا عليها، وجئنا حتى انتهينا إليهم، فواقفناهم، ونادانا صاحبهم الخريت بن راشد: يا عميان القلوب والأبصار، أمع الله أنتم وكتابه وسنة نبيه، أم مع الظالمين؟ فقال له زياد بن خصفة: بل نحن مع الله ومن الله وكتابه ورسوله آثر عنده ثوابًا من الدنيا منذ خلقت إلى يوم تفنى، أيها العمي الأبصار، الصم القلوب والأسماع. فقال لنا: أخبروني ما تريدون؟ فقال له زياد - وكان مجربًا رفيقًا: قد ترى ما بنا من اللغوب والسغوب، والذي جئنا له لا يصلحه الكلام علانيةً على رءوس أصحابي وأصحابك، ولكن أنزل وتنزل، ثم نخلو جميعًا فنتذاكر أمرنا هذا جميعًا وننظر، فإن رأيت ما جئناك فيه حظًا لنفسك قبلته، وإن رأيت فيما أسمعه منك أمرًا أرجو فيه العافية لنا ولك لم أردده عليك. قال: فانزل بنا؛ قال: فأقبل إلينا زياد فقال: انزلوا بنا على هذا الماء؛ قال: فأقبلنا حتى إذا انتهينا إلى الماء، نزلناه فما هو إلا أن نزلنا فتفرقنا، ثم تحلقنا من عشرة وتسعة وثمانية وسبعة. يضعون طعامهم بين أيديهم فيأكلون، ثم يقومون إلى ذلك الماء فيشربون. وقال لنا زياد: علقوا على خيولكم، فعلقنا عليها مخاليها، ووقف زياد بيننا وبين القوم، وانطلق القوم فتنحوا ناحية، ثم نزلوا، وأقبل إلينا زياد، فلما رأى تفرقنا وتحلقنا قال: سبحان الله، أنتم أهل حرب؟ والله لو أن هؤلاء جاءوكم الساعة على هذه الحال ما أرادوا من غيركم أفضل من حالكم التي أنتم عليها. اعجلوا، قوموا إلى خيلكم، فأسرعنا، فتحشحشنا فمنا من ينتفض، ثم يتوضأ، ومنا من يشرب، ومنا من يسقي فرسه، حتى إذا فرغنا من ذلك كله، أتانا زياد وفي يده عرق ينهشه، فنهش منه نهشتين أو ثلاثًا، وأتى بأداوة فيها ماءٌ، فشرب منه، ثم ألقى العرق من يده. ثم قال: يا هؤلاء، إنا قد لقينا القوم، ووالله إن عدتكم كعدتهم، ولقد حزرتكم وإياهم فما أظن أحد الفريقين يزيد على الآخر بخمسة نفر، وإني والله ما أرى أمرهم وأمركم إلا يرجع إلى القتال، فإن كان إلى ذلك ما يصير بكم وبهم الأمور فلا تكونوا أعجز الفريقين. ثم قال لنا: ليأخذ كل امرىء منكم بعنان فرسه حتى أدنو منهم، وادعوا إلي صاحبهم فأكلمه، فإن بايعتني على ما أريد وإلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون الخيل، ثم أقبلوا إلي معًا غير متفرقين. قال: فاستقدم أمامنا وأنا معه، فأسمع رجلًا من القوم يقول: جاءكم القوم وهم كالون معيون، وأنتم جامون مستريحون، فتركتموهم حتى نزلوا وأكلوا وشربوا واستراحوا؛ هذا والله سوء الرأي! والله لا يرجع الأمر بكم وبهم إلا إلى القتال. فسكتوا، وانتهينا إليهم، فدعا زياد بن خصفة صاحبهم، فقال: اعتزل بنا فلننظر في أمرنا هذا، فوالله لقد أقبل إلي زياد في خمسة، فقلت لزياد: ادع ثلاثةً من أصحابنا حتى نلقاهم في عدتهم؛ فقال لي: ادع من أحببت منهم، فدعوت من أصحابنا ثلاثًا، فكنا خمسةً وخمسةً. فقال له زياد: ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا إذ فارقتنا؟ فقال: لم أرض صاحبكم إمامًا، ولم أرض سيرتكم سيرة، فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى من الناس، فإذا اجتمع الناس على رجل لجميع الأمة رضًا كنت مع الناس. فقال له زياد: ويحك! وهل يجتمع الناس على رجلٍ منهم يداني صاحبك الذي فارقته علمًا بالله وبسنن الله وكتابه، مع قرابته من الرسول ﷺ وسابقته في الإسلام! فقال له: ذلك ما أقول لك؛ فقال له زياد: ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ قال: ما أنا قتلته، إنما قتلته طائفةٌ من أصحابي، قال: فادفعهم إلينا؛ قال: ما إلى ذلك سبيل؛ قال: كذلك أنت فاعل؟ قال: هو ما تسمع؛ قال: فدعونا أصحابنا ودعا أصحابه، ثم أقبلنا؛ فوالله ما رأينا قتالًا مثله منذ خلقني ربي، قال: اطعنا والله بالرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح، ثم اضطربنا بالسيوف حتى انحنت وعقر عامة خيلنا وخيلهم، وكثرت الجراح فيما بيننا وبينهم، وقتل منا رجلان: مولى زياد كانت معه رايته يدعى سويدًا، ورجلٌ من الأبناء يدعى وافد بن بكر، وصرعنا منهم خمسةً، وجاء الليل يحجز بيننا وبينهم، وقد والله كرهونا وكرهناهم، وقد جرح زياد وجرحت. قال: ثم إن القوم تنحوا وبتنا في جانب، فمكثوا ساعةً من الليل، ثم إنهم ذهبوا واتبعناهم حتى أتينا البصرة، وبلغنا أنهم أتوا الأهواز، فنزلوا بجانب منها، وتلاحق بهم أناس من أصحابهم نحو من مائتين كانوا معهم بالكوفة، ولم يكن لهم من القوة ما ينهضهم معهم حتى نهضوا فاتبعوهم فلحقوهم بأرض الأهواز، فأقاموا معهم. وكتب زياد بن خصفة إلى علي: أما بعد، فإنا لقينا عدو الله الناجي بالمذار، فدعوناهم إلى الهدى والحق وإلى كلمة السواء، فلم ينزلوا على الحق، وأخذتهم العزة بالإثم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، فقصدوا لنا، وصمدنا صمدهم، فاقتتلنا قتالًا شديدًا ما بين قائم الظهيرة إلى دلوك الشمس، فاستشهد منا رجلان صالحان، وأصيب منهم خمسة نفر، وخلوا لنا المعركة، وقد فشت فينا وفيهم الجراح. ثم إن القوم لما لبسهم الليل خرجوا من تحته متنكبين إلى أرض الأهواز، فبلغنا أنهم نزلوا منها جانبًا ونحن بالبصرة نداوي جراحنا، وننتظر أمرك رحمك الله؛ والسلام عليك. فلما أتيته بكتابه قرأه على الناس، فقام إليه معقل بن قيس، فقال: أصلحك الله يا أمير المؤمنين! إنما كان ينبغي أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل رجل منهم عشرة من المسلمين، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم أعدادهم فلعمري ليصبرن لهم، هم قومٌ عرب، والعدة تصبر للعدة، وتنتصف منها. فقال: تجهز يا معقل بن قيس إليهم. وندب معه ألفين من أهل الكوفة منهم يزيد بن المغفل الأزدي. وكتب إلى ابن عباس: أما بعد، فابعث رجلًا من قبلك صليبًا شجاعًا معروفًا بالصلاح في ألفي رجل، فليتبع معقلًا، فإذا مر ببلاد البصرة فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلًا، فإذا لقي معقلًا فمعقلٌ أمير الفريقين، وليسمع من معقل وليطعه، ولا يخالفه، ومر زياد بن خصفة فليقبل، فنعم المرء زياد، ونعم القبيل قبيله! قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت الأعور، عن أبي سعيد العقيلي، قال: كتب علي إلى زياد بن خصفة: أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت من أمر الناجي وإخوانه الذين طبع الله على قلوبهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فهم يعمهون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ووصفت ما بلغ بك وبهم الأمر، فأما أنت وأصحابك فلله سعيكم، وعلى الله تعالى جزاؤكم! فأبشر بثواب الله خيرٌ من الدنيا التي يقتل الجهال أنفسهم عليها، فإن ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وأما عدوكم الذين لقيتموهم فحسبهم بخروجهم من الهدى إلى الضلال، وارتكابهم فيه، وردهم الحق، ولجاجهم في الفتنة، فذرهم وما يفترون، ودعهم في طغيانهم يعمهون، فتسمع وتبصر، كأنك بهم عن قليل بين أسير وقتيل. أقبل إلينا أنت وأصحابك مأجورين، فقد أطعتم وسمعتم، وأحسنتم البلاء؛ والسلام. ونزل الناجي جانبًا من الأهواز، واجتمع إليه علوجٌ من أهلها كثير أرادوا كسر الخراج، ولصوصٌ كثيرة، وطائفة أخرى من العرب ترى رأيه. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو احسن، عن علي بن مجاهد، قال: قال الشعبي: لما قتل عليٌّ رضي الله عنه أهل النهروان، خالفه قوم كثير، وانتقضت عليه أطرافه، وخالفه بنو ناجية، وقدم ابن الحضرمي البصرة، وانتقض أهل الأهواز، وطمع أهل الخراج في كسره، ثم أخرجوا سهل بن حنيف من فارس، وكان عامل عليٍّ عليها، فقال ابن عباس لعلي: أكفيك فارس بزياد، فأمره عليٌّ أن يوجهه إليها، فقدم ابن عباس البصرة، ووجهه إلى فارس في جمع كثير، فوطىء بهم أهل فارس، فأدوا الخراج. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن كعب، عن عبد الله بن فقيم الأزدي، قال: كنت أنا وأخي كعب في ذلك الجيش مع معقل بن قيس، فلما أراد الخروج أقبل إلى علي فودعه فقال: يا معقل، اتق الله ما استطعت، فإنها وصية الله للمؤمنين. لا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين. فقال: الله المستعان؛ فقال له علي: خير مستعان؛ قال: فخرج وخرجنا معه حتى نزلنا الأهواز، فأقمنا ننتظر أهل البصرة، وقد ابطئوا علينا، فقام فينا معقل بن قيس فقال: يأيها الناس، إنا قد انتظرنا أهل البصرة، وقد أبطئوا علينا، وليس بحمد الله بنا قلةٌ ولا وحشة إلى الناس، فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل، فإني أرجو أن ينصركم الله وأن يهلكهم. قال: فقام إليه أخي كعب بن فقيم، فقال: أصبت - أرشدك الله - رأيك! فوالله إني لأرجو أن ينصرنا الله عليهم، وإن كانت الأخرى فإن في الموت على الحق تعزيةً عن الدنيا. فقال: سيروا على بركة الله؛ قال: فسرنا ووالله ما زال معقل لي مكرمًا وادًا، ما يعدل بي من الجند أحدًا؛ قال ولا يزال يقول: وكيف قلت: إن في الموت على الحق تعزية عن الدنيا؟ صدقت والله وأحسنت ووفقت! فوالله ما سرنا يومًا حتى أدركنا فيج يشتد بصحيفة في يده من عند عبد الله بن عباس: أما بعد، فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت فيه مقيمًا، أو أدركك وقد شخصت منه، فلا تبرح المكان الذي ينتهي فيه إليك رسولي، واثبت فيه حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك، فإني قد بعثت إليك خالد بن معدان الطائي، وهو من أهل الإصلاح والدين والبأس والنجدة، فاسمع منه، واعرف ذلك له؛ والسلام. فقرأ معقل الكتاب على الناس، وحمد الله، وقد كان ذلك الوجه هالهم. قال: فأقمنا حتى قدم الطائي علينا، وجاء حتى دخل على صاحبنا، فسلم عليه بالإمرة، واجتمعا جميعًا في عسكر واحد. قال: ثم إنا خرجنا فسرنا إليهم، فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز يريدون قلعةً بها حصينة وجاءنا أهل البلد فأخبرونا بذلك، فخرجتا في آثارهم نتبعهم، فلحقناهم وقد دنوا من الجبل، فصففنا لهم، ثم أقبلنا إليهم، فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المغفل، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل البصرة، وصف الخريت بن راشد الناجي من معه من العرب، فكانوا ميمنةً، وجعل أهل البلد والعلوج ومن أراد كسر الخراج وأتباعهم من الأكراد ميسرة. قال: وسار فينا معقل بن قيس يحرضن ويقول لنا: عباد الله! لا تعدلوا القوم بأبصاركم، غضوا الأبصار، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على الطعن والضرب، وأبشروا في قتالهم بالأجر العظيم، إنما تقاتلون مارقةً مرقت من الدين، وعلوجًا منعوا الخراج وأكرادًا، انظروني فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد. فمر في الصف كله يقول لهم هذه المقالة، حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل حتى وقف وسط الصف في القلب، ونظرنا إليه ما يصنع! فحرك رايته تحريكتين، فوالله ما صبروا لنا ساعةً حتى ولوا، وشدخنا منهم سبعين عربيًا من بني ناجية، ومن بعض من اتبعهم من العرب، وقتلنا نحوًا من ثلثمائة من العلوج والأكراد. قال كعب بن فقيم: ونظرت فيمن قتل من العرب، فإذا أنا بصديقي مدرك بن الريان قتيلًا، وخرج الخريت ابن راشد وهو منهزم حتى لحق بأسياف البحر، وبها جماعة من قومه كثير، فما زال بهم يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي، ويتبين لهم فراقه، ويخبرهم أن الهدى في حربه، حتى اتبعه منهم ناس كثير، وأقام معقل بن قيس بأرض الأهواز، وكتب إلى علي معي بالفتح، وكنت أنا الذي قدمت عليه، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله علي أمير المؤمنين، من معقل بن قيس. سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا لقينا المارقين، وقد استظهروا علينا بالمشركين، فقتلناهم قتل عاد وإرم، مع أنا لم نعد فيهم سيرتك، ولم نقتل من المارقين مدبرًا ولا أسيرًا، ولم نذفف منهم على جريح، وقد نصرك الله والمسلمين، والحمد لله رب العالمين. قال: فقدمت عليه بهذا الكتاب، فقرأه على أصحابه، واستشارهم في الرأي، فاجتمع رأي عامتهم على قول واحد، فقالوا له: نرى أن تكتب إلى معقل ابن قيس فيتبع أثر الفاسق، فلا يزال في طلبه حتى يقتله أو ينفيه، فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. قال: فردني إليه، وكتب معي: أما بعد، فالحمد لله على تأييد أوليائه، وخذلان أعدائه، جزاك الله والمسلمين خيرًا، فقد أحسنتم البلاء، وقضيتم ما عليكم، وسل عن أخي بني ناجية، فإن بلغك أنه قد استقر ببلد من البلدان فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه، فإنه لن يزال للمسلمين عدوًا، وللقاسطين وليًا، ما بقي؛ والسلام عليك. فسأل معقل عن مستقره، والمكان الذي انتهى إليه، فنبىء بمكانه الأسياف، وأنه قد رد قومه عن طاعة علي، وأفسد من قبله من عبد القيس ومن والاهم من سائر العرب، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين ومنعوها في ذلك العام أيضًا، فكان عليهم عقالان، فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة، فأخذ على فارس حتى انتهى إلى أسياف البحر، فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره إليه أقبل على من كان معه من أصحابه ممن يرى رأي الخوارج، فأسر لهم: إني أرى رأيكم، فإن عليًا لن ينبغي له أن يحكم الرجال في أمر الله، وقال للآخرين منددًا لهم: إن عليًا حكم حكمًا ورضي به، فخلعه حكمه الذي ارتضاه لنفسه، فقد رضيت أنا من قضائه وحكمه ما ارتضاه لنفسه، وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة. وقال سرًا لمن يرى رأي عثمان: أنا والله على رأيكم، قد والله قتل عثمان مظلومًا، فأرضى كل صنف منهم، وأراهم أنه معهم، وقال لمن منع الصدقة: شدوا أيديكم على صدقاتكم، وصلوا بها أرحامكم، وعودوا بها إن شئتم على فقرائكم، وقد كان فيهم نصارى كثير قد أسلموا، فلما اختلف الناس بينهم قالوا: والله لديننا الذي خرجنا منه خيرٌ وأهدى من دين هؤلاء الذي هم عليه؛ ما ينهاهم دينهم عن سفك الدماء، وإخافة السبيل، وأخذ الأموال. فرجعوا إلى دينهم، فلقي الخريت أولئك، فقال لهم: ويحكم! أتدرون حكم علي فيمن أسلم من النصارى، ثم رجع إلى نصرانيته. لا والله ما يسمع لهم قولًا، ولا يرى لهم عذرًا، ولا يقبل منهم توبة ولايدعوهم إليها، وإن حكمه فيهم لضرب العنق ساعة يستمكن منهم. فما زال حتى جمعهم وخدعهم، وجاء من كان من بني ناجية ومن كان في تلك الناحية من غيرهم، واجتمع إليهم ناسٌ كثير. فحدثني علي بن الحسن الأزدي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن عبد الملك بن سعيد بن حاب، عن الحر، عن عمار الدهني، قال: حدثني أبو الطفيل، قال: كنت في الجيش الذي بعثهم علي بن أبي طالب إلى بني ناجية، فقال: فانتهينا إليهم، فوجدناهم على ثلاث فرق، فقال أميرنا لفرقة منهم: ما أنتم؟ قالوا: نحن قومٌ نصارى، لم نر دينًا أفضل من ديننا، فثبتنا عليه، فقال لهم: اعتزلوا، وقال للفرقة الأخرى: ما أنتم؟ قالوا: نحن كنا نصارى فأسلمنا، فثبتنا على إسلامنا، فقال لهم: اعتزلوا؛ ثم قال للفرقة الأخرى الثالثة: ما أنتم؟ قالوا: نحن قومٌ كنا نصارى، فأسلمنا، فلم نر دينًا هو أفضل من ديننا الأول؛ فقال لهم: أسلموا، فأبوا؛ فقال لأصحابه: إذا مسحت رأسي ثلاث مرات فشدوا عليهم، فاقتلوا المقاتلة، واسبوا الذرية. فجيء بالذرية إلى علي، فجاء مصقلة بن هبيرة، فاشتراهم بمائتي ألف، فجاء بمائة ألف فلم يقبلها علي، فانطلق بالدراهم، وعمد إليهم مصقلة فأعتقهم ولحق بمعاوية، فقيل لعلي: ألا تأخذ الذرية؟ فقال: لا، فلم يعرض لهم. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف. قال أبو مخنف: وحدثني الحارث ابن كعب، قال: لما رجع إلينا معقل بن قيس قرأ علينا كتابًا من علي: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عليٍّ أمير المؤمنين إلى من يقرأ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، والنصارى والمرتدين. سلامٌ عليكم وعلى من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وكتابه والبعث بعد الموت وأوفى بعهد الله ولم يكن من الخائنين. أما بعد، فإني أدعوكم إل كتاب الله، وسنة نبيه، والعمل بالحق، وبما أمر الله في الكتاب، فمن رجع إلى أهله منكم وكف يده واعتزل هذا الهالك الحارب الذي جاء يحارب الله ورسوله والمسلمين، وسعى في الأرض فسادًا، فله الأمان على ماله ودمه، ومن تابعه على حربنا والخروج من طاعتنا، استعنا بالله عليه، وجعلنا الله بيننا وبينه، وكفى بالله نصيرًا! وأخرج معقل راية أمانٍ فنصبها، وقال: من أتاها من الناس فهو آمن، إلا الخريت وأصحابه الذين حاربونا وبدءونا أول مرة. فتفرق عن الخريت جل من كان معه من غير قومه، وعبأ معقل بن قيس أصحابه، فجعل على ميمنته يزيد بن المغفل الأزدي، وعلى ميسرته المنجاب بن راشد الضبي، ثم زحف بهم نحو الخريت، وحضر معه قومه مسلموهم ونصاراهم ومانعة الصدقة منهم. قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن كعب، عن أبي الصديق الناجي، أن الخريت يومئذ كان يقول لقومه: امنعوا حريمكم، وقاتلوا عن نسائكم وأولادكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم. فقال له رجل من قومه: هذا والله ما جنته علينا يداك ولسانك. فقال: قاتلوا لله أنتم! سبق السيف العذل، إيهًا والله لقد أصابت قومي داهية! قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن كعب، عن عبد الله بن فقيم، قال: سار فينا معقل فحرض الناس فيما بين الميمنة والميسرة يقول: أيها الناس المسلمون، ما تزيدون أفضل مما سيق لكم في هذا الموقف من الأجر العظيم؛ إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة، وارتدوا عن الإسلام، ونكثوا البيعة ظلمًا وعدوانًا، فأشهد لمن قتل منكم بالجنة، ومن عاش فإن الله مقرٌّ عينه بالفتح والغنيمة. ففعل ذلك حتى مر بالناس كلهم. ثم إنه جاء حتى وقف في القلب برايته، ثم إنه بعث إلى يزيد بن المغفل وهو في الميمنة: أن احمل عليهم، فحمل عليهم، فثبتوا وقاتلوا قتالًا شديدًا. ثم إنه انصرف حتى وقف موقفه الذي كان به في الميمنة، ثم إنه بعث إلى منجاب ابن راشد الضبي وهو في الميسرة. ثم إن منجابًا حمل عليهم فثبتوا وقاتلوا قتالًا شديدًا طويلًا، ثم إنه رجع حتى وقف في الميسرة، ثم إن معقلًا بعث إلى الميمنة والميسرة: إذا حملت فاحملوا بأجمعكم. فحرك رايته وهزها، ثم إنه حمل وحمل أصحابه جميعًا، فصبروا ساعةً لهم. ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي من جرم بصر بالخريت بن راشد فحمل عليه، فطعنه فصرعه عن دابته، ثم نزل وقد جرحه فأثخنه، فاختلفا ضربتين، فقتله النعمان بن صهبان، وقتل معه في المعركة سبعون ومائة، وذهبوا يمينًا وشمالًا، وبعث معقل بن قيس الخيل إلى رحالهم، فسبى من أدرك منهم، فسبى رجالًا كثيرًا ونساءً وصبيانًا. ثم نظر فيهم؛ فأما من كان مسلمًا فخلاه وأخذ بيعته وترك له عياله، وأما من كان ارتد فعرض عليهم الإسلام. فرجعوا وخلى سبيلهم وسبيل عيالهم إلا شيخًا منهم نصرانيًا يقال له: الرماحس بن منصور؛ قال: والله ما زللت منذ عقلت إلا في خروجي من ديني، دين الصدق إلى دينكم دين السوء، لا والله لا أدع ديني، ولا أقرب دينكم ما حييت. فقدمه فضرب عنقه، وجمع معقل الناس فقال: أدوا ما عليكم في هذه السنين من الصدقة، فأخذ من المسلمين عقالين، وعمد إلى النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلًا بهم، وأقبل المسلمون معهم يشيعونهم، فأمر معقل بردهم، فلما انصرفوا تصافحوا فبكوا، وبكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض. قال: فأشهد أني رحمتهم رحمةً ما رحمتها أحدًا قبلهم ولا بعدهم. قال: وكتب معقل بن قيس إلى علي: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين عن جنده وعدوه؛ إنا دفعنا إلى عدونا بالأسياف فوجدنا بها قبائل ذات عدة وحدة وجد، وقد جمعت لنا، وتحزبت علينا، فدعوناهم إلى الطاعة والجماعة، وإلى حكم الكتاب والسنة، وقرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين، ورفعنا لهم راية أمان، فمالت إلينا منهم طائفة، وبقيت طائفةٌ أخرى منابذة، فقبلنا من التي أقبلت، وصمدنا صمدًا للتي أدبرت، فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم؛ فأما من كان مسلمًا فإنا مننا عليه وأخذنا بيعته لأمير المؤمنين، وأخذنا منهم الصدقة التي كانت عليهم، وأما من ارتد فإنا عرضنا عليه الرجوع إلى الإسلام وإلا قتلناه. فرجعوا غير رجل واحد، فقتلناه؛ وأما النصارى فإنا سبيناهم، وقد أقبلنا بهم ليكونوا نكالًا لمن بعدهم من أهل الذمة، لكيلا يمنعوا الجزية، ولكيلا يجترئوا على قتال أهل القبلة، وهم أهل الصغار والذل، رحمك الله يا أمير المؤمنين، وأوجب لك جنات النعيم؛ والسلام عليك! ثم أقبل بهم حتى مر بهم على مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامل علي على أردشير خره، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان، وصاح الرجال: يا أبا الفضل، يا حامي الرجال، وفكاك العناة، امنن علينا فاشترنا وأعتقنا؛ فقال مصقلة: أقسم بالله لأتصدقن عليهم، إن الله يجزي المتصدقين. فبلغها عنه معقل، فقال: والله لو أعلم أنه قاله توجعًا لهم، وزراءً عليكم، لضربت عنقه، ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر بن وائل. ثم إن مصقلة بعث ذهل بن الحارث الذهلي إلى معقل بن قيس فقال له: بعني بني ناجية؛ فقال: نعم، أبيعكم بالف ألف ودفعهم إليه، وقال له: عجل بالمال إلى أمير المؤمنين؛ فقال: أا باعث الآن بصدر، ثم أبعث بصدر آخر كذلك؛ حتى لا يبقى منه شيء إن شاء الله تعالى. وأقبل معقل بن قيس إلى أمير المؤمنين، وأخبره بما كان منه في ذلك، فقال له: أحسنت وأصبت، وانتظر عليٌّ مصقلة أن يبعث إليه بالمال، وبلغ عليًا أن مصقلة خلى سبيل الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشيء، فقال: ما أظن مصقلة إلا قد تحمل حمالةً؛ ألا أراكم سترونه عن قريب ملبدًا. ثم إنه كتب إليه: أما بعد، فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأعظم الغش على أهل المصر غش الإمام، وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف، فابعث بها إلي ساعةً يأتيك رسولي، وإلا فأقبل حين تنظر في كتابي، فإني قد تقدمت إلى رسولي إليك ألا يدعك أن تقيم ساعة واحدة بعد قدومه عليك إلا أن تبعث بالمال؛ والسلام عليك. وكان الرسول أبو جرة الحنفي، فقال له أبو جرة: إن يبعث بالمال الساعة وإلا فاشخص إلى أمير المؤمنين. فلما قرأ كتابه أقبل حتى نزل البصرة، فمكث بها أيامًا. ثم إن ابن عباس سأله المال، وكان عمال البصرة يحملون من كور البصرة إلى ابن عباس، ويكون ابن عباس هو الذي يبعث به إلى علي؛ فقال له: نعم، أنظرني أيامًا، ثم أقبل حتى أتى عليًا فأقره أيامًا، ثم سأله المال، فأدى إليه مائتي ألف، ثم إنه عجز فلم يقدر عليه. قال أبو مخنف: وحدثني أبو الصلت الأعور، عن ذهل بن الحارث، قال: دعاني مصقلة إلى رحله فقدم عشاؤه، فطعمنا منه، ثم قال: والله إن أمير المؤمنين يسألني هذا المال، ولا أقدر عليه، فقلت: والله لو شئت ما مضت عليك جمعة حتى تجم جميع المال؛ فقال: والله ما كنت لأحملها قومي، ولا أطلب فيها إلى أحد. ثم قال: أما والله لو أن ابن هند هو طالبني بها أو ابن عفان لتركها لي؛ ألم تر ابن عفان حيث أطعم الأشعث من خراج أذربيجان مائة ألف في كل سنة! فقلت له: إن هذا لا يرى هذا الرأي، لا والله ما هو بباذل شيئًا كنت أخذته، فسكت ساعةً، وسكت عنه، فلا والله ما مكث إلا ليلةً واحدة بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية. وبلغ ذلك عليًا فقال: ما له برحه الله؛ فعل فعل السيد، وفر فرار العبد، وخان خيانة الفاجر! أما والله لو أنه أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئًا أخذناه، وإن لم نقدر على مال تركناه. ثم سار إلى داره فنقضها وهدمها، وكان أخوه نعيم بن هبيرة شيعيًا، ولعليٍّ مناصحًا، فكتب إليه مصقلة من الشأم مع رجل من النصارى من بني تغلب يقال له حلوان: أما بعد، فإني كلمت معاوية فيك، فوعدك الإمارة، ومناك الكرامة، فأقبل إلي ساعة يلقاك رسولي إن شاء الله؛ والسلام. فأخذه مالك بن كعب الأرحبي، فسرح به إلى علي، فأخذ كتابه فقرأه، فقطع يد النصراني، فمات، وكتب نعيم إلى أخيه مصقلة: لا ترمين هداك الله معترضًا ** بالظن منك فما بالي وحلوانا! ذاك الحريص على ما نال من طمعٍ ** وهو البعيد فلا يحزنك إذ خانا ماذا أردت إلى إرساله سفهًا ** ترجو سقاط امرىءٍ لم يلف وسنانا عرضته لعليٍّ إنه أسدٌ ** يمشي العرضنة من آساد خفانا قد كنت في منظرٍ عن ذا ومستمعٍ ** تحمي العراق وتدعى خير شيبانا حتى تقحمت أمرًا كنت تكرهه ** للراكبين له سرًا وإعلانا لو كنت أديت ما للقوم مصطبرًا ** للحق أحييت أحيانًا وموتانا لكن لحقت بأهل الشأم ملتمسًا ** فضل ابن هندٍ وذاك الرأي أشجانا فاليوم تقرع سن الغرم من ندمٍ ** ماذا تقول وقد كان الذي كانا! أصبحت تبغضك الأحياء قاطبةً ** لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا فلما وقع الكتاب إليه علم أن رسوله قد هلك، ولم يلبث التغلبيون إلا قليلًا حتى بلغهم هلاك صاحبهم حلوان، فأتوا مصقلة فقالوا: إنك بعثت صاحبنا فأهلكته، فإما أن تحييه وإما أن تديه، فقال: أما أن أحييه فلا أستطيع، ولكني سأديه؛ فواداه. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: حدثني أبي، قال: لما بلغ عليًا مصاب بني ناجية وقتل صاحبهم قال: هوت أمه! ما كان أنقص عقله، وأجرأه على ربه! فإن جائيًا جاءني مرة فقال لي: في أصحابك رجالٌ قد خشيت أن يفارقوك، فما ترى فيهم؟ فقلت له: إني لا آخذ على التهمة، ولاأعاقب على الظن، ولا أقاتل إلا من خالفني وناصبني وأظهر لي العداوة، ولست مقاتله حتى أدعوه وأعذر إليه، فإن تاب ورجع إلينا قبلنا منه، وهو أخونا، وإن أبى إلا الاعتزام على حربنا استعنا عليه الله، وناجزناه. فكف عني ما شاء الله. ثم جاءني مرة أخرى فقال لي: قد خشيت أن يفسد عليك عبد الله بن وهب الراسي وزيد بن حصين، إني سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتها لم تفارقهما عليها حتى تقتلهما أو توبقهما، فلا تفارقهما من حبسك أبدًا، فقلت: إني مستشيرك فيهما، فماذا تأمرني به؟ قال: فإني آمرك أن تدعو بهما، فتضرب رقابهما، فعلمت أنه لا ورعٌ ولا عاقل، فقلت: والله ما أظنك ورعًا ولا عاقلًا نافعًا، والله لقد كان ينبغي لك لو أردت قتلهم أن تقول: اتق الله، لم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحدًا، ولم ينابذوك، ولم يخرجوا من طاعتك! وحج بالناس في هذه السنة قشم بن العباس من قبل علي رضي الله عنه. حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان قثم يومئذ عامل علي على مكة، وكان على اليمن عبيد الله بن العباس، وعلى البصرة عبد الله بن العباس. واختلف في عامله على خراسان فقيل: كان خليد بن قرة اليربوعي، وقيل: كان ابن أبزى؛ وأما الشأم ومصر فإنه كان بهما معاوية وعماله. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ذكر ما كان فيها من الأحداث فما كان فيها من الأحداث المذكورة: تفريق معاوية جيوشه في أطراف علي فوجه النعمان بن بشير - فيما ذكر علي بن محمد بن عوانة - في ألفي رجل إلى عين التمر، وبها مالك بن كعب مسلحةً لعلي في ألف رجل، فأذن لهم، فأتوا الكوفة، وأتاه النعمان، ولم يبق معه إلا مائة رجل، فكتب مالكٌ إلى علي يخبره بأمر النعمان ومن معه، فخطب عليٌّ الناس، وأمرهم بالخروج، فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، والنعمان في ألفي رجل ومالك في مائة رجل، وأمر مالك أصحابه أن يجعلوا جدر القرية في ظهورهم، واقتتلوا. وكتب إلى مخنف بن سليم يسأله أن يمده وهو قريب منه، فقاتلهم مالك ابن كعب في العصابة التي معه كأشد القتال، ووجه إليه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلًا، فانتهوا إلى مالك وأصحابه، وقد كسروا جفون سيوفهم، واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشأم وذلك عند المساء، ظنوا أن لهم مددًا وانهزموا، وتبعهم مالك، فقتل منهم ثلاثة نفر، ومضوا على وجوههم. حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثني سليمان، عن عبد الله، قال: حدثني عبد الله بن أبي معاوية، عن عمرو بن حسان، عن شيخ من بني فزارة، قال: بعث معاوية النعمان بن بشير في ألفين، فأتوا عين التمر، فأغاروا عليها، وبها عامل لعلي يقال له ابن فلان الأرحبي في ثلثمائة، فكتب إلى علي يستمده، فأمر الناس أن ينهضوا إليه، فتثاقلوا، فصعد المنبر، فانتهيت إليه وقد سبقيني بالتشهد وهو يقول: يا أهل الكوفة، كلما سمعتم بمنسر من مناسر أهل الشأم أظلكم وأغلق بابه انجحر كل امرىء منكم في بيته انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها؛ المغرور من غررتموه، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب. لا أحرارٌ عند النداء، ولا إخوان ثقةٍ عند النجاء، إنا لله وإنا إليه راجعون! ماذا منيت به منكم! عميٌ لا تبصرون، وبكمٌ لا تنطقون، وصمٌّ لا تستمعون إنا لله وإنا إليه راجعون. رجع الحديث إلى حديث عوانة. قال: ووجه معاوية في هذه السنة سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل، وأمره أن يأتي هيت فيقطعها، وأن يغير عليها، ثم يمضي حتى يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها، فسار حتى أتى هيت فلم يجد بها أحدًا، ثم أتى الأنبار وبها مسلحة لعلي تكون خمسمائة رجل، وقد تفرقوا فلم يبق منهم إلا مائة رجل، فقاتلهم، فصبر لهم أصحاب علي مع قلتهم، ثم حملت عليهم الخيل والرجالة، فقتلوا صاحب المسلحة، وهو أشرس بن حسان البكري في ثلاثين رجلًا، واحتملوا ما كان في الأنبار من الأموال وأموال أهلها، ورجعوا إلى معاوية. وبلغ الخبر عليًا، فخرج حتى أتى النخيلة، فقال له الناس: نحن نكفيك؛ قال: ما تكفونني ولا أنفسكم؛ وسرح سعيد ابن قيس في أثر القوم، فخرج في طلبهم حتى جاز هيت، فلم يلحقهم فرجع. قال: وفيها وجه معاوية أيضًا عبد الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء، وأمره أن يصدق من مر به من أهل البوادي، وأن يقتل من امتنع من عطائه صدقة ماله، ثم يأتي مكة والمدينة والحجاز، يفعل ذلك، واجتمع إليه بشرٌ كثير من قومه، فلما بلغ ذلك عليًا وجه المسيب ابن نجبة الفزاري، فسار حتى لحق ابن مسعدة بتيماء، فاقتتلوا ذلك اليوم حتى زالت الشمس قتالًا شديدًا، وحمل المسيب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات، كل ذلك لا يلتمس قتله ويقول له: النجاء النجاء! فدخل ابن مسعدة وعامة من معه الحصن، وهرب الباقون نحو الشأم، وانتهب الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة، وحصره ومن كان معه المسيب ثلاثة أيام، ثم ألقى الحطب على الباب، وألقى النيران فيه، حتى احترق، فلما أحسوا بالهلاك أشرفوا على المسيب فقالوا: يا مسيب، قومك! فرق لهم، وكره هلاكهم، فأمر بالنار فأطفئت، وقال لأصحابه: قد جاءتني عيون فأخبروني أن جندًا قد أقبل إليكم من الشأم، فانضموا في مكان واحد. فخرج ابن مسعدة في أصحابه ليلًا حتى لحقوا بالشأم، فقال له عبد الرحمن بن شبيب: سر بنا في طلبهم، فأبى ذلك عليه، فقال له: غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم. وفيها أيضًا وجه معاوية الضحاك بن قيس، وأمره أن يمر بأسفل واقصة، وأن يغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب، ووجه معه ثلاثة آلاف رجل، فسار فأخذ أموال الناس، وقتل من لقي من الأعراب، ومر بالثعلبية فأغار على مسالح علي، وأخذ أمتعتهم، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة، فأتى عمرو بن عميس بن مسعود، وكان في خيل لعلي وأمامه أهله، وهو يريد الحج، فأغار على من كان معه، وحبسه عن المسير، فلما بلغ ذلك عليًا سرح حجر بن عدي الكندي في أربعة آلاف، وأعطاهم خمسين خمسين، فلحق الضحاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلًا، وقتل من أصحابه رجلان، وحال بينهم الليل، فهرب الضحاك وأصحابه، ورجع حجر ومن معه. وفيها سار معاوية بنفسه إلى دجلة حتى شارفها، ثم نكص راجعًا، ذكر ذلك ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني ابن جريج، عن ابن أبي مليكة قال: لما كانت سنة تسع وثلاثين أشرف عليها معاوية. وحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر مثله. واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بالناس فيها عبيد الله بن عباس من قبل علي. وقال بعضهم: حج بهم عبد الله ابن عباس؛ فحدثني أبو زيد عمر بن شبة، قال: يقال إن عليًا وجه ابن عباس ليشهد الموسم ويصلي بالناس في سنة تسع وثلاثين، وبعث معاوية يزيد ابن شجرة الرهاوي. قال: وزعم أبو الحسن أن ذلك باطل، وأن ابن عباس لم يشهد الموسم في عمل حتى قتل علي رضي الله عنه؛ قال: والذي نازعه يزيد بن شجرة قشم ابن العباس، حتى إنهما اصطلحا على شيبة بن عثمان، فصلى بالناس سنة تسع وثلاثين. وكالذي حكيت عن أبي زيد عن أبي الحسن، قال أبو معشر في ذلك: حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى عنه. وقال الواقدي: بعث علي على الموسم في سنة تسع وثلاثين عبيد الله بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم للناس الحج، فلما اجتمعا بمكة تنازعا، وأبى كل واحد منهما أن يسلم لصاحبه، فاصطلحا على شيبة بن عثمان بن أبي طلحة. وكانت عمال عليٍّ في هذه السنة على الأمصار الذين ذكرنا أنهم كانوا عماله في سنة ثمان وثلاثين غير ابن عباس، كان شخص في هذه السنة عن عمله بالبصرة، واستخلف زيادًا - الذي كان يقول له: زياد بن أبيه - على الخراج، وأبا الأسود الدؤلي على القضاء. ذكر توجيه ابن عباس زيادا إلى فارس وكرمان وفي هذه السنة وجه ابن عباس زيادًا عن أمر علي إلى فارس وكرمان عند منصرفه من عند علي من الكوفة إلى البصرة. ذكر سبب توجيهه إياه إلى فارس حدثني عمر، قال: حدثنا علي؛ قال: لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس على علي، طمع أهل فارس وأهل كرمان في كسر الخراج، فغلب أهل كل ناحية على ما يليهم، وأخرجوا عمالهم. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو القاسم، عن سلمة بن عثمان، عن علي بن كثير، أن عليًا استشار الناس في رجل يوليه فارس حين امتنعوا من أداء الخراج، فقال له جارية بن قدامة: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صليب الرأي، عالم بالسياسة، كافٍ لما ولي؟ قال: من هو؟ قال: زياد؛ قال: هو لها؛ فولاه فارس وكرمان، ووجهه في أربعة آلاف، فدوخ تلك البلاد حتى استقاموا. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن علي بن مجاهد، قال: قال الشعبي: لما انتقض أهل الجبال وطمع أهل الخراج في كسره، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس - وكان عاملًا عليها لعلي - قال ابن عباس لعلي: أكفيك فارس؛ فقدم ابن عباس البصرة، ووجه زيادًا إلى فارس في جمع كثير، فوطىء بهم أهل فارس، فأدوا الخراج. حدثني عمر، قال: حدثني أبو الحسن، عن أيوب بن موسى، قال: حدثني شيخٌ من أهل إصطخر قال: سمعت أبي يقول: أدركت زيادًا وهو أميرٌ على فارس وهي تضرم نارًا، فلم يزل بالمداراة حتى عادوا إلى ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، لم يقف موقفًا للحرب، وكان أهل فارس يقولون: ما رأينا سيرةً أشبه بسيرة كسرى أنوشروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي. قال: ولما قدم زياد فارس بعث إلى رؤسائها، فوعد من نصره ومناه، وخوف قومًا وتوعدهم، وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا، وصفت له فارس، فلم يلق فيها جمعًا ولا حربًا، وفعل مثل ذلك بكرمان، ثم رجع إلى فارس، فسار في كورها ومناهم، فسكن الناس إلى ذلك، فاستقامت له البلاد، وأتى إصطخر فنزلها وحصن قلعةً بها ما بين بيضاء إصطخر وإصطخر، فكانت تسمى قلعة زياد، فحمل إليها الأموال، ثم تحصن فيها بعد ذلك منصور اليشكري، فهي اليوم تسمى قلعة منصور. ثم دخلت سنة أربعين ذكر ما كان فيها من الأحداث فما كان فيها من ذلك توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز. فذكر عن زياد بن عبد الله البكائي، عن عوانة، قال: أرسل معاوية ابن أبي سفيان بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة - وهو رجلٌ من بني عامر بن لؤي في جيش - فساروا من الشأم حتى قدموا المدينة، وعامل علي على المدينة يومئذ أبو أيوب الأنصاري، ففر منهم أبو أيوب، فأتى عليًا بالكوفة، ودخل بسر المدينة؛ قال: فصعد منبرها ولم يقاتله بها أحد، فنادى على المنبر: يا دينار، ويا نجار، ويا زريق، شيخي شيخي! عهدي به بالأمس، فأين هو! يعني عثمان، ثم قال: يا أهل المدينة، والله لولا ما عهد إلي معاوية ما تركت بها محتلمًا إلا قتلته. ثم بايع أهل المدينة، وأرسل إلى بني سلمة، فقال: والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله، فانطلق جابر إلى أم سلمة زوج النبي ﷺ فقال لها: ماذا تريدين؟ إني قد خشيت أن أقتل، وهذه بيعة ضلالة، قالت: أرى أن تبايع، فإني قد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع، وأمرت ختني عبد الله بن زمعة - وكانت ابنتها زينب ابنة أبي سلمة عند عبد الله بن زمعة - فأتاه جابرٌ فبايعه، وهدم بسر دورًا بالمدينة، ثم مضى حتى أتى مكة، فخافه أبو موسى أن يقتله، فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله ﷺ ذلك؛ فخلى عنه، وكتب أبو موسى قبل ذلك إلى اليمن: إن خيلًا مبعوثةً من عند معاوية تقتل الناس، تقتل من أبى أن يقر بالحكومة. ثم مضى بسر إلى اليمن، وكان عليها عبيد الله بن عباس عاملًا لعلي، فلما بلغه مسيره فر إلى الكوفة حتى أتى عليًا، واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي على اليمن، فأتاه بسر فقتله وقتل ابنه، ولقي بسر ثقل عبيد الله بن عباس. وفيه ابنان له صغيران، فذبحهما. وقد قال بعض الناس: إنه وجد ابني عبيد الله بن عباس عند رجل من بني كنانة من أهل البادية، فلما أراد قتلهما قال الكناني: علام تقتل هذين ولا ذنب لهما! فإن كنت قاتلهما فاقتلني، قال: أفعل؛ فبدأ بالكناني فقتله، ثم قتلهما ثم رجع بسر إلى الشأم. وقد قيل: إن الكناني قاتل عن الطفلين حتى قتل، وكان اسم أحد الطفلين اللذين قتلهما بسر: عبد الرحمن، والآخر قشم. وقتل بسر في مسيره ذلك جماعةً كثيرةً من شيعة عليٍّ باليمن. وبلغ عليًا خبر بسر، فوجه جارية بن قدامة في ألفين، ووهب بن مسعود في ألفين، فسار جارية حتى أتى نجران فحرق بها، وأخذ ناسًا من شيعة عثمان فقتلهم، وهرب بسر وأصحابه منه، وأتبعهم حتى بلغ مكة، فقال لهم جارية: بايعونا؛ فقالوا: قد هلك أمير المؤمنين، فلمن نبايع؟ قال: لمن بايع له أصحاب علي، فتثاقلوا، ثم بايعوا. ثم سار حتى أتى المدينة وأبو هريرة يصلي بهم، فهرب منه، فقال جارية: والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه، ثم قال لأهل المدينة: بايعوا الحسن بن علي؛ فبايعوه وأقام يومه، ثم خرج منصرفًا إلى الكوفة، وعاد أبو هريرة فصلى بهم. وفي هذه السنة - فيما ذكر - جرت بين عليٍّ وبين معاوية المهادنة - بعد مكاتبات جرت بينهما يطول بذكرها الكتاب - على وضع الحرب بينهما، ويكون لعليٍّ العراق ولمعاوية الشأم، فلا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو. قال زياد بن عبد الله؛ عن أبي إسحاق: لما لم يعط أحد الفريقين صاحبه الطاعة كتب معاوية إلى علي: أما إذا شئت فلك العراق ولي الشأم، وتكف السيف عن هذه الأمة، ولا تهريق دماء المسلمين؛ ففعل ذلك، وتراضيا على ذلك، فأقام معاوية بالشأم بجنوده يجبيها وما حولها، وعليٌّ بالعرق يجيبها ويقسمها بين جنوده. خروج ابن عباس من البصر إلى مكة وفيها خرج عبد الله بن العباس من البصرة ولحق مكة في قول عامة أهل السير، وقد أنكر ذلك بعضهم، وزعم أنه لم يزل بالبصرة عاملًا عليها من قبل أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام حتى قتل، وبعد مقتل علي حتى صالح الحسن معاوية، ثم خرج حينئذ إلى مكة. ذكر الخبر عن سبب شخوصه إلى مكة وتركه العراق حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني جماعة عن أبي مخنف، عن سليمان ابن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود، قال: مر عبد الله بن عباس على أبي الأسود الدؤلي، فقال: لو كنت من البهائم كنت جملًا، ولو كنت راعيًا ما بلغت من المرعى، ولا أحسنت مهنته في المشي. قال: فكتب أبو الأسود إلى علي: أما بعد، فإن الله جل وعلا جعلك واليًا مؤتمنًا، وراعيًا مستوليًا، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة، ناصحًا للرعية، توفر لهم فيئهم، وتظلف نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم، ولا ترتشي في أحكامهم. وإن ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك، فلم يسعني كتمانك ذلك، فانظر رحمك الله فيما هناك، واكتب إلي برأيك فيما أحببت أنته إليك. والسلام. فكتب إليه علي: أما بعد، فمثلك نصح الإمام والأمة، وأدى الأمانة، ودل على الحق، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي فيه من أمره، ولم أعلمه أنك كتبت، فلا تدع إعلامي بما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاحٌ، فإنك بذلك جدير، وهو حقٌّ واجب عليك؛ والسلام. وكتب إلى ابن عباس في ذلك، فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فإن الذي بلغك باطل، وإني لما تحت يدي ضابط قائم له وله حافظ، فلا تصدق الظنون؛ والسلام. قال: فكتب إليه علي: أما بعد، فأعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟ قال: فكتب إليه ابن عباس: أما بعد، فقد فهمت تعظيمك مرزأة ما بلغك أن رزأته من مال أهل هذا البلد، فابعث إلى عملك من أحببت، فإني ظاعنٌ عنه. والسلام. ثم دعا ابن عباس أخواله بني هلال بن عامر، فجاءه الضحاك بن عبد الله وعبد الله بن رزين بن أبي عمر والهلاليان، ثم اجتمعت معه قيس كلها فحمل مالًا. قال أبو زيد: قال أبو عبيدة: كانت أرزاقًا قد اجتمعت، فحمل معه مقدار ما اجتمع له، فبعثت الأخماس كلها، فلحقوه بالطف، فتواقفوا يريدون أخذ المال، فقالت قيس: والله لا يوصل إلى ذلك وفينا عينٌ تطرف. وقال صبرة بن شيمان الحداني: يا معشر الأزد، والله إن قيسًا لإخواننا في الإسلام، وجيراننا في الدار، وأعواننا على العدو، وإن الذي يصيبكم من هذا المال لو رد عليكم لقليل، وهم غدًا خيرٌ لكم من المال. قالوا: فما ترى؟ قال: انصرفوا عنهم ودعوهم، فأطاعوه فانصرفوا؛ فقالت بكر وعبد القيس: نعم الرأي رأي صبرة لقومه، فاعتزلوا أيضًا، فقالت بنو تميم: والله لا نفارقهم؛ نقاتلهم عليه. فقال الأحنف: قد ترك قتالهم من هو أبعد منكم رحمًا؛ فقالوا: والله لنقاتلنهم؛ فقال: إذًا لا أساعدكم عليهم، فاعتزلهم؛ قال: فرأسوا عليهم ابن المجاعة من بني تميم، فقاتلوهم، وحمل الضحاك على ابن المجاعة فطعنه، واعتنقه عبد الله بن رزين، فسقطا إلى الأرض يعتركان، وكثرت الجراح فيهم، ولم يكن بينهم قتيل؛ فقالت الأخماس: ما صنعنا شيئًا، اعتزلناهم وتركناهم يتحاربون، فضربوا وجوه بعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم: لنحن أسخى منكم أنفسًا حين تركنا هذا المال لبني عمكم، وأنتم تقاتلونهم عليه، إن القوم قد حملوا وحموا، فخلوهم، وإن أحببتم فانصرفوا. ومضى ابن عباس ومعه نحو من عشرين رجلًا حتى قدم مكة. وحدثني أبو زيد، قال: زعم أبو عبيدة - ولم أسمعه منه - أن ابن عباس لم يبرح من البصرة حتى قتل علي رضي الله عنه، فشخص إلى الحسن، فشهد الصلح بينه وبين معاوية، ثم رجع إلى البصرة وثقله بها، فحمله ومالًا من بيت المال قليلًا؛ وقال: هي أرزاقي. قال أبو زيد: ذكرت ذلك لأبي الحسن فأنكره، وزعم أن عليًا قتل وابن عباس بمكة، وأن الذي شهد الصلح بين الحسن ومعاوية عبيد الله بن عباس. ذكر الخبر عن مقتل علي بن أبي طالب وفي هذه السنة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واختلف في وقت قتله، فقال أبو معشر ما حدثني به أحمد بن ثابت، قال: حدثت عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: قتل علي في شهر رمضان يوم الجمعة لسبع عشرة خلت منه سنة أربعين، وكذلك قال الواقدي، حدثني بذلك الحارث، عن ابن سعد عنه، وأما أبو زيد فحدثني عن علي بن محمد أنه قال: قتل علي بن أبي طالب بالكوفة يوم الجمعة لإحدى عشرة. قال: ويقال: لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين. قال: وقد قيل في شهر ربيع الآخر سنة أربعين. ذكر الخبر عن سبب قتله ومقتله حدثني موسى بن عثمان بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا عبد الرحمن الحراني أبو عبد الرحمن، قال: أخبرنا إسماعيل بن راشد، قال: كان من حديث ابن ملجم وأصحابه أن ابن ملجم والبرك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي اجتمعوا، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر، فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئًا! إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم، فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا! فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب - وكان من أهل مصر - وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان؛ وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه. فأخذوا أسيافهم، فسموها، واتعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه الذي يطلب. فأما ابن ملجم المرادي فكان عداده في كندة، فخرج فلقي أصحابه بالكوفة، وكاتمهم أمره كراهة أن يظهروا شيئًا من أمره، فإنه رأى ذات يوم أصحابًا من تيم الرباب - وكان عليٌّ قتل منهم يوم النهر عشرةً - فذكروا قتلاهم، ولقي من يومه ذلك امرأةً من تيم الرباب يقال لها: قطام ابنة الشجنة - وقد قتل أباها وأخاها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال - فلما رآها التبست بعقله، ونسي حاجته التي جاء لها؛ ثم خطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تشفى لي قال: وما يشفيك؟ قالت: ثلاث آلاف وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب، قال: هو مهرٌ لك، فأما قتل عليٍّ فلا أراك ذكرته لي وأنت تريديني! قالت: بلى، التمس غرته، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي، ويهنئك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خيرٌ من الدنيا وزينتها وزينة أهلها؛ قال: فوالله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي، فلك ما سالت. قالت: إني أطلب لك من يسند ظهرك، ويساعدك على أمرك، فبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له: وردان فكلمته فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلًا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك؟ قال: قتل علي بن أبي طالب؛ قال: ثكلتك أمك! لقد جئت شيئًا إدًا، كيف تقدر على علي! قال: أكمن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خيرٌ من الدنيا وما فيها. قال: ويحك! لو كان غير عليٍّ لكان أهون علي، قد عرفت بلاءه في الإسلام، وسابقته مع النبي ﷺ وما أجدني أن أنشرح لقتله. قال: أما تعلم أنه قتل أهل النهر العباد الصالحين! قال: بلى، قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه - فجاءوا قطام - وهي في المسجد الأعظم معتكفة - فقالوا لها: قد أجمع رأينا على قتل علي؛ قالت: فإذا أردتم ذلك فأتوني، ثم عاد إليها ابن ملجم في ليلة الجمعة التي قتل في صبيحتها علي سنة أربعين - فقال: هذه الليلة التي واعدت فيها صاحبي أن يقتل كل منا صاحبه، فدعت لهم بالحرير فعصبتهم به، وأخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج ضربه شبيبٌ بالسيف. فوقع سيفه بعضادة الباب أو الطاق، وضربه ابن ملجم في قرنه بالسيف، وهرب وردان حتى دخل منزله، فدخل عليه رجل من بني أبيه وهو ينزع الحرير عن صدره، فقال: ما هذا الحرير والسيف؟ فأخبره بما كان وانصرف فجاء بسيفه فعلا به وردان حتى قتله، وخرج شبيب نحو أبواب كندة في الغلس، وصاح الناس، فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر، وفي يد شبيب السيف، فأخذه، وجثم عليه الحضرمي، فلما رأى الناس قد أقبلوا في طلبه، وسيف شبيب في يده، خشي على نفسه، فتركه، ونجا شبيب في غمار الناس، فشدوا على ابن ملجم فأخذوه، إلا أن رجلًا من همدان يكنى أبا أدماء أخذ سيفه فضرب رجله، فصرعه، وتأخر علي، ورفع في ظهره جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فصلى بالناس الغداة، ثم قال علي: علي بالرجل، فأدخل عليه، ثم قال: أي عدو الله، ألم أحسن إليك! قال: بلى، قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحًا، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه؛ فقال رضي الله عنه: لا أراك إلا مقتولًا به، ولا أراك إلا من شر خلقه. وذكروا أن ابن ملجم قال قبل أن يضرب عليًا - وكان جالسًا في بني بكر ابن وائل إذ مر عليه بجنازة أبجر بن جابر العجلي أبي حجار، وكان نصرانيًا، والنصارى حوله، وأناس مع حجار لمنزلته فيهم يمشون في جانب وفيهم شقيق ابن ثور - فقال ابن ملجم: ما هؤلاء؟ فأخبر الخبر، فأنشأ يقول: لئن كان حجار بن أبجر مسلمًا ** لقد بوعدت منه جنازة أبجر وإن كان حجار بن أبجر كافرًا ** فما مثل هذا من كفورٍ بمنكر أترضون هذا أن قيسًا ومسلمًا ** جميعًا لدى نعشٍ، فيا قبح منظر! فلولا الذي أنوي لفرقت جمعهم ** بأبيض مصقول الدياس مشهر ولكنني أنوي بذاك وسيلةً ** إلى الله أو هذا فخذ ذاك أو ذر وذكر أن محمد بن الحنفية، قال: كنت والله إني لأصلي تلك الليلة التي ضرب فيها علي في المسجد الأعظم، في رجال كثير من أهل المصر، يصلون قريبًا من السدة، ما هم إلا قيام وركوعٌ وسجود، وما يسأمون من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أيها الناس، الصلاة الصلاة! فما أدري أخرج من السدة فتكلم بهذه الكلمات أم لا! فنظرت إلى بريق، وسمعت: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك، فرأيت سيفًا، ثم رأيت ثانيًا، ثم سمعت عليًا يقول: لا يفوتنكم الرجل، وشد الناس عليه من كل جانب. قال: فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم وأدخل على علي، فدخلت فيمن دخل من الناس، فسمعت عليًا يقول: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي.؟ وذكر أن الناس دخلوا على الحسن فزعين لما حدث من أمر علي، فبينما هم عنده وابن ملجم مكتوفٌ بين يديه، إذ نادته أم كلثوم بنت علي وهي تبكي: أي عدو الله، لا بأس على أبي، والله مخزيك! قال: فعلى من تبكين؟ والله لقد اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة على جميع أهل المصر ما بقي منهم أحد. وذكر أن جندب بن عبد الله دخل على علي فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن فقدناك - ولا نفقدك - فنبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر. فرد عليه مثلها، فدعا حسنًا وحسينًا، فقال: أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شيء زوي عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة، وكونا للظالم خصمًا، وللمظلوم ناصرًا، واعملا بما في الكتاب، ولا تأخذ كما في الله لومة لائم. ثم نظر إلى محمد بن الحنفية، فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ قال: نعم، قال: فإني أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك، لعظيم حقهما عليك، فاتبع أمرهما، ولا تقطع أمرًا دونهما. ثم قال: أوصيكما به، فإنه شقيقكما، وابن أبيكما، وقد علمتما أن أباكما كان يحبه. وقال للحسن: أوصيك أي بني بتقوى الله، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلها، وحسن الوضوء، فإنه لا صلاة إلا بطهور، ولا تقبل صلاة من مانع زكاة، وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش. فلما حضرته الوفاة أوصى، فكانت وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين؛ ثم أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهلي بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: " إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام "! انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعنوا أفواههم، ولا يضيعن بحضرتكم. والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم ﷺ، ما زال يوصي به حتى ظننا أنه سيورثه. والله الله في القرآن؛ فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة، فإنها عمود دينكم. والله الله في بيت ربكم فلا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم يناظر، والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة، فإنها تطفىء غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم، فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم، فإن رسول الله أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معايشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم. الصلاة الصلاة لا تخافن في الله لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم. وقولوا للناس حسنًا كما أمركم الله، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم. وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب. حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيكم. أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله. ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض رضي الله عنه، وذلك في شهر رمضان سنة أربعين، وغسله ابناه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وكبر عليه الحسن تسع تكبيرات، ثم ولي الحسن ستة أشهر. وقد كان عليٌّ نهى الحسن عن المثلة، وقال: يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قتل أمير المؤمنين، قتل أمير المؤمنين! ألا لا يقتلن إلا قاتلي. انظر يا حسن، إن أنامت من ضربته هذه فاضربه ضربةً بضربة، ولا تمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله ﷺ: يقول: " إياكم والمثلة، ولو أنها بالكلب العقور ". فلما قبض رضي الله عنه بعث الحسن إلى ابن ملجم، فقال للحسن: هل لك في خصلة؟ إني والله ما أعطيت الله عهدًا إلا وفيت به، إني كنت قد أعطيت الله عهدًا عند الحطيم أن أقتل عليًا ومعاوية أو أموت دونهما، فإن شئت خليت بيني وبينه، ولك الله علي إن لم أقتل - أو قتلته ثم بقيت - أن آتيك حتى أضع يدي في يدك. فقال له الحسن: أما والله حتى تعاين النار فلا. ثم قدمه فقتله، ثم أخذه الناس فأدرجوه في بواري، ثم أحرقوه بالنار. وأما البرك بن عبد الله فإنه في تلك الليلة التي ضرب فيها عليٌّ قعد لمعاوية، فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بسيفه، فوقع السيف في أليته، فأخذ، فقال: إن عندي خيرًا أسرك به، فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك؟ قال: نعم؛ قال: إن أخًا لي قتل عليًا في مثل هذه الليلة، قال: فلعله لم يقدر على ذلك! قال: بلى، إن عليًا يخرج ليس معه من يحرسه؛ فأمر به معاوية فقتل. وبعث معاوية إلى الساعدي - وكان طبيبًا - فلما نظر إليه قال: اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدةً فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربةً تقطع منك الولد، وتبرأ منها، فإن ضربتك مسمومة، فقال معاوية: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني. فسقاه تلك الشربة فبرأ، ولم يولد له بعدها، وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات وحرس الليل وقيام الشرطة على رأسه إذا سجد. وأما عمرو بن بكر فجلس لعمرو بن العاص تلك الليلة، فلم يخرج، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن حذافة، وكان صاحب شرطته، وكان من بني عامر بن لؤي، فخرج ليصلي، فشد عليه وهو يرى أنه عمرو، فضربه فقتله، فأخذه الناس، فانطلقوا به إلى عمرو يسلمون عليه بالإمرة، فقال: من هذا؟ قالوا: عمرو؛ قال: فمن قتلت؟ قالوا: خارجة بن حذافة، قال: أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة، فقدمه عمرو فقتله، فبلغ ذلك معاوية، فكتب إليه: وقتلٌ وأسباب المنايا كثيرةٌ ** منية شيخٍ من لؤي بن غالب فيا عمرو مهلًا إنما أنت عمه ** وصاحبه دون الرجال الأقارب نحوت وقد بل المرادي سيفه ** من ابن أبي شيخ الأباطح طالب ويضربني بالسيف آخر مثله ** فكانت علينا تلك ضربة لازب وأنت تناغي كل يوم وليلةٍ ** بمصرك بيضًا كالظباء السوارب ولما انتهى إلى عائشة قتل علي - رضي الله عنه - قالت: فألقت عصاها واستقرت بها النوى ** كما قر عينًا بالإياب المسافر فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد؛ فقالت: فإن يك نائيًا فلقد نعاه ** غلامٌ ليس في فيه التراب فقالت زينب ابنة أبي سلمة: ألعلي تقولين هذا؟ فقالت: إني أنسى، فإذا نسيت فذكروني. وكان الذي ذهب بنعيه سفيان بن عبد شمس بن أبي وقاص الزهري. وقال ابن أبي مياس المرادي في قتل علي: ونحن ضربنا يا لك الخير حيدرًا ** أبا حسنٍ مأمومةً فتفطرا ونحن خلعنا ملكه من نظامه ** بضربة سيفٍ إذعلا وتجبرا ونحن كرامٌ في الصباح أعزةٌ ** إذا الموت بالموت ارتدى وتأزرا وقال أيضًا: ولم أر مهرًا ساقه ذو سماحةٍ ** كمهر قطامٍ من فصيحٍ وأعجم ثلاثة آلافٍ وعبدٌ وقينةٌ ** وضرب علي بالحسام المصمم فلا مهر أغلى من عليٍّ وإن غلا ** ولا قتل إلا دون قتل ابن ملجم وقال أبو الأسود الدؤلي: ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ** فلا قرت عيون الشامتينا أفي شهر الصيام فجعتمونا ** بخير الناس طرًا أجمعينا! قتلتم خير من ركب المطايا ** ورحلها ومن ركب السفينا ومن لبس النعال ومن حذاها ** ومن قرأ المثاني والمبينا إذا استقبلت وجه أبي حسينٍ ** رأيت البدر راع الناظرينا لقد علمت قريشٌ حيث كانت ** بأنك خيرها حسبًا ودينا واختلف في سنه يوم قتل، فقال بعضهم: قتل وهو ابن تسع وخمسين سنة. وحدثت عن مصعب بن عبد الله، قال: كان الحسن بن علي يقول: قتل أبي وهو ابن ثمان وخمسين سنة. وحدثنا عن بعضهم، قال: قتل وهو ابن خمس وستين سنة. وحدثني أبو زيد، قال: حدثني أبو الحسن، قال: حدثني أيوب بن عمر بن أبي عمرو، عن جعفر بن محمد، قال: قتل عليٌّ وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال: وذلك أصح ما قيل فيه. حدثني عمر، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، قال: قتل علي رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال هشام: ولي عليٌّ وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأشهر؛ وكانت خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر، ثم قتله ابن ملجم - واسمه عبد الرحمن ابن عمرو - في رمضان لسبع عشرة مضت منه، وكانت ولايته أربع سنين وتسعة أشهر، وقتل سنة أربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة. وحدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: قتل علي رضي الله عنه وهو ابن ثلاث وستين سنة صبيحة ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين، ودفن عند مسجد الجماعة في قصر الإمارة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: ضرب علي رضي الله عنه ليلة الجمعة، فمكث يوم الجمعة وليلة السبت، وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن عمر وأبو بكر السبري، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، قال: سمعت محمد بن الحنفية يقول سنة الجحاف حين دخلت سنة إحدى وثمانين هذه ولي خمسٌ وستون سنة، قد جاوزت سن أبي؛ قيل: وكم كانت سنه يوم قتل؟ قال: قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال الحارث: قال ابن سعد: قال محمد بن عمر كذلك، وهو الثبت عندنا. ذكر الخبر عن قدر مدة خلافته حدثني أحمد بن ثابت، قال: حدثت عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: كانت خلافة علي خمس سنين إلا ثلاثة أشهر. وحدثني الحارث، قال: حدثني ابن سعد قال: قال محمد بن عمر: كانت خلافة علي خمس سنين إلا ثلاثة أشهر. حدثني أبو زيد، قال: قال أبو الحسن: كانت ولاية علي أربع سنين وتسعة أشهر، ويومًا أو غير يوم. ذكر الخبر عن صفته حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي، قلت: ما كانت صفة علي رضي الله عنه؟ قال: رجلٌ آدم شديد الأدمة ثقل العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، هو إلى القصر أقرب. ذكر نسبه عليه السلام هو علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. ذكر الخبر عن أزواجه وأولاده فأول زوجةٍ تزوجها فاطمة بنت رسول الله ﷺ، ولم يتزوج عليها حتى توفيت عنده، وكان لها منه من الولد: الحسن والحسين، ويذكر أنه كان لها منه ابنٌ آخر يسمى محسنًا توفي صغيرًا، وزينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى. ثم تزوج بعد أم البنين بنت حزام - وهو أبو المجل بن خالد بن ربيعة ابن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب - فولد لها منه العباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، قتلوا مع الحسين رضي الله عنه بكربلاء، ولا بقية لهم غير العباس. وتزوج ليلى ابنة مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمي بن جندل ابن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فولدت له عبيد الله وأبا بكر. فزعم هشام بن محمد أنهما قتلا مع الحسين بالطف. وأما محمد بن عمر فإنه زعم أن عبيد الله بن علي قتله المختار بن أبي عبيد بالمذار، وزعم أنه لا بقية لعبيد الله ولا لأبي بكر ابني علي رضي الله عنه. وتزوج أسماء ابنة عميس الخثعمية، فولدت له - فيما حدثت عن هشام بن محمد - يحيى ومحمدًا الأصغر، وقال: لا عقب لهما. وأما الواقدي فإنه قال فيما حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا الواقدي أن أسماء ولدت لعليٍّ يحيى وعونًا ابني علي. ويقول بعضهم: محمد الأصغر لأم ولد، وكذلك قال الواقدي في ذلك؛ وقال: قتل محمد الأصغر مع الحسين. وله من الصهباء - وهي أم حبيب بنت ربيعة بن بجير بن العبد بن علقمة ابن الحارث بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن مرو ابن غنم بن تغلب بن وائل، وهي أم ولد من السبي الذين أصابهم خالد ابن الوليد حين أغار على عين التمر على بني تغلب بها - عمر بن علي، ورقية ابنة علي، فعمر عمر بن علي حتى بلغ خمسًا وثمانين سنة، فحاز نصف ميراث علي رضي الله عنه، ومات بينبع. وتزوج أمامة بنت أبي العاصي بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ابن عبد مناف، وأمها زينب بنت رسول الله ﷺ، فولدت له محمدًا الأوسط. وله محمد بن علي الأكبر، الذي يقال له: محمد بن الحنفية، أمه خولة ابنة جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول ابن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، توفي بالطائف فصلى عليه ابن عباس. وتزوج أم سعيد بنت عروة بن مسعود بن معتب بن مالك الثقفي، فولدت له أم الحسن ورملة الكبرى. وكان له بنات من أمهات شتى لم يسم لنا أسماء أمهاتهن؛ منهن أم هانىء، وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم سلمة، وأم جعفر، وجمانة، ونفيسة بنات علي رضي الله عنه؛ أمهاتهن أمهات أولادٍ شتى. وتزوج محياة ابنة امرىء القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب ابن عليم من كلب، فولدت له جارية، هلكت وهي صغيرة. قال الواقدي: كانت تخرج إلى المسجد وهي جارية فيقال لها: من أخوالك؟ فتقول وه، وه - تعني كلبًا. فجميع ولد علي لصلبه أربعة عشر ذكرًا، وسبع عشرة امرأة. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد عن الواقدي، قال: كان النسل من ولد علي الخمسة: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، والعباس بن الكلابية، وعمر بن التغلبية. ذكر ولاته وكان واليه على البصرة في هذه السنة عبد الله بن العباس، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك، وإليه كانت الصدقات والجند والمعاون أيام ولايته كلها، وكان يستخلف بها إذا شخص عنها على ما قد بينت قبل. وكان على قضائها من قبل علي أبو الأسود الدؤلي، وقد ذكرت ما كان من توليته زيادًا عليها، ثم إشخاصه إياه إلى فارس لحربها وخراجها، فقتل وهو بفارس، وعلى ما كان وجهه عليه. وكان عامله على البحرين وما يليها واليمن ومخاليفها عبدي الله بن العباس، حتى كان من أمره وأمر بسر بن أبي أرطاة ما قد مضى ذكره. وكان عامله على الطائف ومكة وما اتصل بذلك قثم بن العباس. وكان عامله على المدينة أبو أيوب الأنصاري، وقيل: سهل بن حنيف، حتى كان من أمره عند قدوم بسر ما قد ذكر قبل. ذكر بعض سيره عليه السلام حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا وهب، قال: أخبرني ابن أبي ذئب، عن عباس بن الفضل مولى بني هاشم، عن أبيه، عن جده ابن أبي رافع، أنه كان خازنًا لعلي رضي الله عنه على بيت المال، قال: فدخل يومًا وقد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤةً من بيت المال قد كان عرفها، فقال: من أين لها هذه؟ لله علي أن أقطع يدها؛ قال: فلما رأيت جده في ذلك قلت: أنا والله يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي، ومن أين كانت تقدر عليها لو لم أعطها! فسكت. حدثني إسماعيل بن موسى الفزاري، قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ناجية القرشي، عن عمه يزيد بن عدي بن عثمان، قال: رأيت عليًا رضي الله عنه خارجًا من همدان، فرأى فئتين يقتتلان، ففرق بينهما، ثم مضى فسمع صوتًا. يا غوثا بالله! فخرج يحضر نحوه حتى سمعت خفق نعله وهو يقول: أتاك الغوث؛ فإذا رجل يلازم رجلًا، فقال: يا أمير المؤمنين، بعت هذا ثوبًا بتسعة دراهم، وشرطت عليه ألا يعطيني مغموزًا ولا مقطوعًا - وكان شرطهم يومئذ - فأتيته بهذه الدراهم ليبدلها لي فأبى، فلزمته فلطمني، فقال: أبد له؛ فقال: بينتك على اللطمة؛ فأتاه بالبينة، فأقعده ثم قال: دونك فاقتص؛ فقال: إني قد عفوت يا أمير المؤمنين، قال: إنما أردت أن أحتاط في حقك، ثم ضرب الرجل تسع درأت، وقال: هذا حق السلطان. حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الأصبهاني، قال: حدثنا المسعودي، عن ناجية، عن أبيه، قال: كنا قيامًا على باب القصر، إذ خرج عليٌّ علينا، فلما رأيناه تنحينا عن وجهه هيبةً له، فلما جاز صرنا خلفه، فبينا هو كذلك إذ نادى رجل يا غوثا بالله! فإذا رجلان يقتتلان، فلكز صدر هذا وصدر هذا، ثم قال لهما: تنحيا، فقال أحدهما: يا أمير المؤمنين، إن هذا اشترى مني شاةً، وقد شرطت عليه ألا يعطيني مغموزًا ولا محذفًا، فأعطاني درهمًا مغموزًا، فرددته عليه فلطمني؛ فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق يا أمير المؤمنين، قال: فأعطه شرطه، ثم قال للاطم: اجلس، وقال للملطوم: اقتص. قال: أو أعفو يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إليك؛ قال: فلما جاز الرجل قال علي: يا معشر المسلمين، خذوه؛ قال: فأخذوه، فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب، ثم ضربه خمس عشرة درة، ثم قال: هذا نكالٌ لما انتهكت من حرمته. حدثني ابن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سكين ابن عبد العزيز، قال: أخبرنا حفص بن خالد، قال: حدثني أبي خالد بن جابر قال: سمعت الحسن يقول: لما قتل علي رضي الله عنه وقد قام خطيبًا، فقال: لقد قتلتم الليلة رجلًا في ليلة فيها نزل القرآن، وفيها رفع عيسى بن مريم عليه السلام، وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسى عليهما السلام. والله ما سبقه أحد كان قبله، ولا يدركه أحد يكون بعده، واله إن كان رسول الله ﷺ ليبعثه في السرية وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا ثمانمائة - أو سبعمائة - أرصدها لخادمه. ذكر بيعة الحسن بن علي وفي هذه السنة - أعني سنة أربعين - بويع للحسن بن علي رضي الله عنه بالخلافة؛ وقيل: إن أول من بايعه قيس بن سعد، قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه، وقتال المحلين؛ فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنة نبيه؛ فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط؛ فبايعه وسكت، وبايعه الناس. وحدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه المروزي، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سليمان، قال: حدثا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: جعل علي رضي الله عنه قيس بن سعد على مقدمته من أهل العراق إلى قبل أذربيجان، وعلى أرضها وشرطة الخميس الذي ابتدعه من العرب، وكانوا أربعين ألفًا، بايعوا عليًا رضي الله عنه على الموت، ولم يزل قيس يدارىء ذلك البعث حتى قتل علي رضي الله عنه؛ واستخلف أهل العراق الحسن بن علي رضي الله عنه على الخلافة، وكان الحسن لا يرى القتال، ولكنه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة، وعرف الحسن أن قيس بن سعد لا يوافقه على رأيه، فنزعه وأمر عبيد الله بن عباس، فلما علم عبد الله بن عباس بالذي يريد الحسن رضي الله عنه أن يأخذه لنفسه كتب إلى معاوية يسأله الأمان، ويشترط لنفسه على الأموال التي أصابها، فشرط ذلك له معاوية. وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا عثمان بن عبد الحميد أو ابن عبد الرحمن الحراني الخزاعي أبو عبد الرحمن، قال: حدثنا إسماعيل بن راشد، قال: بايع الناس الحسن بن علي رضي الله عنه بالخلافة، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن، وبعث قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفًا، وأقب معاوية في أهل الشأم حتى نزل مسكن، فبينا الحسن في المدائن إذ نادى منادٍ في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قد قتل، فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن رضي الله عنه حتى نازعوه بساطًا كان تحته، وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن، وكان عم المختار بن أبي عبيد عاملًا على المدائن، وكان اسمه سعد بن مسعود، فقال له المختار وهو غلام شاب: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن، وتستأمن به إلى معاوية، فقال له سعد: عليك لعنة الله، أثب على ابن بنت رسول الله ﷺ فأوثقه! بئس الرجل أنت! فلما رأى الحسن رضي الله عنه تفرق الأمر عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح، وبعث معاوية إليه عبد الله بن عامر وعبد الرحمن ابن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، فقدما على الحسن بالمدائن، فأعطياه ما أراد، وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها. ثم قام الحسن في أهل العراق فقال: يا أهل العراق، إنه سخى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي. ودخل الناس في طاعة معاوية، ودخل معاوية الكوفة، فبايعه الناس. قال زياد بن عبد الله، عن عوانة؛ وذكر نحو حديث المسروقي، عن عثمان بن عبد الرحمن هذا، وزاد فيه: وكتب الحسن إلى معاوية في الصلح، وطلب الأمان، وقال الحسن للحسين ولعبد الله بن جعفر: إني قد كتبت إلى معاوية في الصلح وطلب الأمان؛ فقال له الحسين: نشدتك الله أن تصدق أحدوثة معاوية، وتكذب أحوثة علي! فقال له الحسن: اسكت، فأنا أعلم بالأمر منك. فلما انتهى كتاب الحسن بن علي رضي الله عنه إلى معاوية، أرسل معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة، فقدما المدائن، وأعطيا الحسن ما أراد، فكتب الحسن إلى قيس بن سعد وهو على مقدمته في اثني عشر ألفًا يأمره بالدخول في طاعة معاوية، فقام قيس بن سعد في الناس فقال: يأيها الناس، اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة، أو القتال مع غير إمام؛ قالوا: لا، بل نختار أن ندخل في طاعة إمام ضلالة. فبايعوا لمعاوية، وانصرف عنهم قيس بن سعد، وقد كان صالح الحسن معاوية على أن جعل له ما في بيت ماله وخراج دارابجرد عل ألا يشتم عليٌّ وهو يسمع. فأخذ ما في بيت ماله بالكوفة، وكان فيه خمسة آلاف ألف. وحج بالناس في هذه السنة المغيرة بن شعبة. حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الخزاعي أبو عبد الرحمن، قال: أخبرنا إسماعيل بن راشد قال: لما حضر الموسم - يعني في العام الذي قتل فيه علي رضي الله عنه - كتب المغيرة بن شعبة كتابًا افتعله على لسان معاوية، فأقام للناس الحج سنة أربعين، ويقال: إنه عرف يوم التروية، ونحر يوم عرفة، خوفًا أن يفطن بمكانه. وقد قيل: إنه إنما فعل ذلك المغيرة لأنه بلغه أن عتبة بن أبي سفيان مصبحه واليًا على الموسم، فعجل الحج من أجل ذلك. وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيلياء؛ حدثني بذلك موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا إسماعيل ابن راشد - وكان قبل يدعى بالشأم أميرًا - وحدثت عن أبي مسهر، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كان علي رضي الله عنه يدعى بالعراق أمير المؤمنين، وكان معاوية يدعى بالشأم: الأمير، فلما قتل علي رضي الله عنه دعي معاوية: أمير المؤمنين. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك تسليم الحسن بن علي رضي الله عنه الأمر إلى معاوية ودخول معاوية الكوفة، وبيعة أهل الكوفة معاوية بالخلافة. ذكر الخبر بذلك حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: بايع أهل العراق الحسن بن علي بالخلافة، فطفق يشترط عليهم الحسن: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت، فارتاب أهل العراق في أمرهم حين اشترط عليهم هذا الشرط، وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال؛ فلم يلبث الحسن رضي الله عنه بعد ما بايعوه إلا قليلًا حتى طعن طعنةً أشوته، فازداد لهم بغضًا، وازداد منهم ذعرًا، فكاتب معاوية، وأرسل إليه بشروط، قال: إن أعطيتني هذا فأنا سامع مطيع، وعليك أن تفي لي به. وقعت صحيفة الحسن في يد معاوية، وقد أرسل معاوية قبل هذا إلى الحسن بصحيفة بيضاء، مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك. فلما أتت الحسن اشترط أضعاف الشروط التي سأل معاوية قبل ذلك، وأمسكها عنده، وأمسك معاوية صحيفة الحسن رضي الله عنه التي كتب إليه يسأله ما فيها، فلما التقى معاوية والحسن رضي الله عنه، سأله الحسن أن يعطيه الشروط التي شرط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله، فأبى معاوية أن يعطيه ذلك، فقال: لك ما كنت كتبت إلي أو لا تسألني أن أعطيكه، فإني قد أعطيتك حين جاءني كتابك. قال الحسن رضي الله عنه: وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك، وأعطيتني العهد على الوفاء بما فيه. فاختلفا في ذلك، فلم ينفذ للحسن رضي الله عنه من الشروط شيئًا، وكان عمرو بن العاص حين اجتمعوا بالكوفة قد كلم معاوية، وأمره أن يأمر الحسن أن يقوم ويخطب الناس، فكره ذلك معاوية، وقال: ما تريد إلى أن يخطب الناس! فقال عمرو: لكني أريد أن يبدو وعيه للناس؛ فلم يزل عمرو بمعاوية حتى أطاعه، فخرج معاوية فخطب الناس، ثم أمر رجلًا فنادى الحسن بن عليٍّ رضي الله عنه؛ فقال: قم يا حسن فكلم الناس، فتشهد في بديهة أمرٍ لم يرو فيه، ثم قال: أما بعد، يأيها الناس، فإن الله قد هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن الله تعالى قال لنبيه ﷺ: " وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حين "؛ فلما قالها قال معاوية: اجلس، فلم يزل ضرمًا على عمرو، وقال: هذا من رأيك. ولحق الحسن رضي الله عنه بالمدينة. حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: سلم الحسن بن علي رضي الله عنه إلى معاوية الكوفة، ودخلها معاوية لخمس بقين من ربيع الأول، ويقال من جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين. ذكر خبر الصلح بين معاوية وقيس بن سعد وفي هذه السنة جرى الصلح بين معاوية وقيس بن سعد بعد امتناع قيس من بيعته. ذكر الخبر بذلك حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان ابن الفضل، قال: حدثني عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: لما كتب عبيد الله بن عباس حين علم ما يريد الحسن من معاوية من طلب الأمان لنفسه إلى معاوية يسأله الأمان، ويشترط لنفسه على الأموال التي قد أصاب، فشرط ذلك له معاوية، بعث إليه معاوية ابن عامر في خيلٍ عظيمة، فخرج إليهم عبيد الله ليلًا حتى لحق بهم، ونزل وترك جنده الذي هو عليه لا أمير لهم، فيهم قيس بن سعد، واشترط الحسن رضي الله عنه لنفسه، ثم بايع معاوية، وأمرت شرطة الخميس قيس بن سعد على أنفسهم، وتعاهدوا هو وهم على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي رضي الله عنه ولمن كان اتبعه على أموالهم ودمائهم. وما أصابوا في الفتنة؛ فخلص معاوية حين فرغ من عبيد الله ابن عباس والحسن رضي الله عنه إلى مكايدة رجل هو أهم الناس عنده مكايدةً، ومعه أربعون ألفًا، وقد نزل معاوية بهم وعمرو وأهل الشأم، وأرسل معاوية إلى قيس بن سعد يذكره الله ويقول: على طاعة من تقاتل، وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك؟ فأبى قيس أن يلين له، حتى أرسل إليه معاوية بسجلٍّ قد ختم عليه في أسفله، فقال: اكتب في هذا السجل ما شئت، فهو لك. قال عمرو لمعاوية: لا تعطه هذا، وقاتله، فقال معاوية: على رسلك! فإنا لا نخلص إلى قتل هؤلاء حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشأم، فما خير العيش بعد ذلك! وإني والله لا أقاتله أبدًا حتى لا أجد من قتاله بدًا. فلما بعث إيه معاوية بذلك السجل اشترط قيس فيه له ولشيعة علي الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يسأل معاوية في سجله ذلك مالًا، وأعطاه معاوية ما سأل، فدخل قيس ومن معه في طاعته، وكانوا يعدون دهاة الناس حين ثارت الفتنة خمسة رهط، فقالوا: ذوو رأي العرب ومكيدتهم: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وقيس بن سعد؛ ومن المهاجرين عبد الله بن بديل الخزاعي؛ وكان قيس وابن بديل مع علي رضي الله عنه، وكان المغيرة بن شعبة وعمرو مع معاوية، إلا أن المغيرة كان معتزلًا بالطائف حتى حكم الحكمان، فاجتمعوا بأذرح. وقيل: إن الصلح تم بين الحسن رضي الله عنه ومعاوية في هذه السنة في شهر ربيع الآخر، ودخل معاوية الكوفة في غرة جمادى الأولى من هذه السنة، وقيل: دخلها في شهر ربيع الآخر، وهذا قول الواقدي. دخول الحسن والحسين المدينة منصرفين من الكوفة وفي هذه السنة دخل الحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنه منصرفين من الكوفة إلى المدينة. ذكر الخبر بذلك ولما وقع الصلح بين الحسن رضي الله عنه وبين معاوية بمسكن، قام - فيما حدثت عن زياد البكائي، عن عوانة - خطيبًا في الناس فقال: يا أهل العراق، إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي. قال: ثم إن الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر خرجوا بحشمهم وأثقالهم حتى أتوا الوفة، فلما قدمها الحسن وبرأ من جراحته، خرج إلى مسجد الكوفة فقال: يا أهل الكوفة، اتقوا الله في جيرانكم وضيفانكم، وفي أهل بيت نبيكم ﷺ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. فجعل الناس يبكون، ثم تحملوا إلى المدينة. قال: وحال أهل البصرة بينه وبين خراج دارابجرد؛ وقالوا: فيئنا، فلما خرج إلى المدينة تلقاه ناسٌ بالقادسية فقالوا: يا مذل العرب! ذكر خروج الخوارج على معاوية وفيها خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام علي رضي الله عنه بشهرزور على معاوية. ذكر خبرهم حدثت عن زياد، عن عوانة، قال: قدم معاوية قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة، فقالت الحرورية الخمسمائة التي كانت اعتزلت بشهرزور مع فروة بن نوفل الأشجعي: قد جاء الآن ما لا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه. فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلًا من خيل أهل الشأم، فكشفوا أهل الشأم، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم والله عندي حتى تكفوا بوائقكم؛ فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم! ما تبغون منا! أليس معاوية عدونا وعدوكم! دعونا حتى نقاتله، وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا، قالوا: لا والله حتى نقاتلكم؛ فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر، هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة. وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل - وكان سيد القوم - واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحر - رجلًا من طيىء - فقاتلوهم، فقتلوا، واستعمل معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص على الكوفة، فأتاه المغيرة بن شعبة وقال لمعاوية: استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة وعمرًا على مصر، فتكون أنت بين لحيى الأسد! فعزل عبد الله، واستعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة، وبلغ عمرًا ما قال المغيرة لمعاوية، فدخل عمرو على معاوية فقال: استعملت المغيرة على الكوفة؟ فقال: نعم؛ فقال: أجعلته على الخراج؟ فقال: نعم؛ قال: تستعمل المغيرة على الخراج فيغتال المال، فيذهب فلا تستطيع أن تأخذ منه شيئًا؛ استعمل على الخراج فيغتال المال، فيذهب فلا تستطيع أن تأخذ منه شيئًا؛ استعمل على الخراج من يخافك ويهابك ويتقيك. فعزل المغيرة عن الخراج، واستعمله على الصلاة، فلقي المغيرة عمرًا فقال: أنت المشير على أمير المؤمنين بما أشرت به في عبد الله؟ قال: نعم؛ قال: هذه بتلك؛ ولم يكن عبد الله بن عمرو بن العاص مضى فيما بلغني إلى الكوفة ولا أتاها. ذكر ولاية بسر بن أبي أرطاة على البصرة وفي هذه السنة غلب حمران بن أبان على البصرة، فوجه إليه معاوية بسرًا، أمره بقتل بني زياد. ذكر الخبر عما كان من أمره في ذلك حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، قال: لما صالح الحسن بن علي رضي الله عنه معاوية أول سنة إحدى وأربعين، وثب حمران ابن أبان على البصرة فأخذها، وغلب عليها، فأراد معاوية أن يبعث رجلًا من بني القين إليها، فكلمه عبيد الله بن عباس ألا يفعل ويبعث غيره، فبعث بسر بن أبي أرطاة، وزعم أنه أمره بقتل بني زياد. فحدثني مسلمة بن محارب، قال: أخذ بعض بني زياد فحبسه - وزياد يومئذ بفارس، كان علي رضي الله عنه بعثه إليها إلى أكراد خرجوا بها، فظفر بهم زياد، وأقام بإصطخر - قال: فركب أبو بكرة إلى معاوية وهو بالكوفة، فاستأجل بسرًا، فأجله أسبوعًا ذاهبًا وراجعًا، فسار سبعة أيام، فقتل تحته دابتين، فكلمه، فكتب معاوية بالكف عنهم. قال: وحدثني بعض علمائنا؛ أن أبا بكرة أقبل في اليوم السابع وقد طلعت الشمس، وأخرج بسر بني زياد ينتظر بهم غروب الشمس ليقتلهم إذا وجبت، فاجتمع الناس لذلك وأعينهم طامحة ينتظرون أبا بكرة، إذ رفع علم على نجيب أو برذون يكده ويجهده، فقام عليه، فنزل عنه، وألاح بثوبه، وكبر وكبر الناس، فأقبل يسعى على رجليه حتى أدرك بسرًا قبل أن يقتلهم، فدفع إليه كتاب معاوية، فأطلقهم. حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: خطب بسر على منبر البصرة، فشتم عليًا رضي الله عنه، ثم قال: نشدت الله رجلًا علم أني صادق إلا صدقني، أو كاذب إلا كذبني! قال: فقال أبو بكرة: اللهم إنا لا نعلمك إلا كاذبًا؛ قال: فأمر به فخنق، قال: فقام أبو لؤلؤة الضبي فرمى بنفسه عليه، فمنعه، فأقطعه أبو بكرة بعد ذلك مائة جريب. قال: وقيل لأبي بكرة: ما أردت إلى ما صنعت! قال: أيناشدنا بالله ثم لا نصدقه! قال: فأقام بسر بالبصرة ستة أشهر، ثم شخص لا نعلمه ولى شرطته أحدًا. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن الجارود بن أبي سبرة، قال: صالح الحسن رضي الله عنه معاوية، وشخص إلى المدينة، فبعث معاوية بسر بن أبي أرطاة إلى البصرة في رجب سنة إحدى وأربعين وزياد متحصن بفارس، فكتب معاوية إلى زياد: إن في يديك مالًا من مال الله، وقد وليت ولاية فأد ما عندك من المال. فكتب إليه زياد: إنه لم يبق عندي شيء من المال، وقد صرفت ما كان عندي في وجهه، واستودعت بعضه قومًا لنازلة إن نزلت، وحملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمة الله عليه. فكتب إليه معاوية: أن أقبل إلي ننظر فيما وليت، وجرى على يديك، فإن استقام بيننا أمرٌ فهو ذاك، وإلا رجعت إلى مأمنك؛ فلم يأته زياد، فأخذ بسر بني زياد الأكابر منهم، فحبسهم: عبد الرحمن، وعبيد الله، وعبادًا، وكتب إلى زياد: لتقدمن على أمير المؤمنين أو لأقتلن بنيك. فكتب إليه زياد: لست بارحًا من مكاني الذي أنا به حتى يحكم الله بيني وبين صاحبك، فإن قتلت من في يديك من ولدي فالمصير إلى الله سبحانه، ومن ورائنا وورائكم الحساب، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون ". فهم بقتلهم، فأتاه أبو بكرة فقال: أخذت ولدي وولد أخي غلمانًا بلا ذنب، وقد صالح الحسن معاوية على أمان أصحاب علي حيث كانوا، فليس لك على هؤلاء ولا على أبيهم سبيل؛ قال: إن على أخيك أموالًا قد أخذها فامتنع من أدائها؛ قال: ما عليه شيء، فاكفف عن بني أخي حتى آتيك بكتاب من معاوية بتخليتهم. فأجله أيامًا، قال له: إن أتيتني بكتاب معاوية بتخليتهم وإلا قتلتهم أو يقبل زيادٌ إلى أمير المؤمنين؛ قال: فأتى أبو بكرة معاوية فكلمه في زياد وبنيه، وكتب معاوية إلى بسر بالكف عنه وتخلية سبيلهم، فخلاهم. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي، قال: أخبرني شيخٌ من ثقيف، عن بسر بن عبيد الله، قال: خرج أبو بكرة إلى معاوية بالكوفة فقال له معاوية: يا أبا بكرة، أزائرًا جئت أم دعتك إلينا حاجة؟ قال: لا أقول باطلًا، ما أتيت إلا في حاجة! قال: تشفع يا أبا بكرة ونرى لك بذلك فضلًا، وأنت لذلك أهل، فما هو؟ قال: تؤمن أخي زيادًا، وتكتب إلى بسر بتخلية ولده وبترك التعرض لهم؛ فقال: أما بنو زياد فنكتب لك فيهم ما سألت؛ وأما زياد ففي يده مالٌ للمسلمين، فإذا أداه فلا سبيل لنا عليه؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن يكن عنده شيء فليس يحبسه عنك إن شاء الله. فكتب معاوية لأبي بكرة إلى بسر ألا يتعرض لأحد من ولد زياد، فقال معاوية لأبي بكرة: أتعهد إلينا عهدًا يا أبا بكرة؟ قال: نعم، أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك ورعيتك، وتعمل صالحًا فإنك قد تقلدت عظيمًا، خلافة الله في خلقه، فاتق الله فإن لك غاية لا تعدوها، ومن ولاائك طالب حثيث، فأوشك أن تبلغ المدى، فيلحق الطالب، فتصير إلى من يسألك عما كنت فيه، وهو أعلم به منك، وإنما هي محاسبة وتوقيف، فلا تؤثرن على رضا الله عز وجل شيئًا. حدثني أحمد، قال: حدثنا علي، عن سلمة بن عثمان، قال: كتب بسر إلى زياد: لئن لم تقدم لأصلبن بنيك. فكتب إليه: إن تفعل فأهل ذلك أنت، إنما بعث بك ابن آكلة الأكباد. فركب أبو بكرة إلى معاوية، فقال: يا معاوية، إن الناس لم يعطوك بيعتهم على قتل الأطفال، قال: وما ذاك يا أبا بكرة؟ قال: بسر يريد قتل أولاد زياد، فكتب معاوية إلى بسر: أن خل من بيدك من ولد زياد. وكان معاوية قد كتب إلى زياد بعد قتل علي رضي الله عنه يتوعده. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي، عن حبان بن موسى، عن المجالد، عن الشعبي، قال: كتب معاوية حين قتل علي رضي الله عنه إلى زياد يتهدده، فقام خطيبًا فقال: العجب من ابن آكلة الأكباد، وكهف النفاق، ورئيس الأحزاب؛ كتب إلي يتهددني وبيني وبينه ابنا عم رسول الله ﷺ - يعني ابن عباس والحسن بن علي - في تسعين ألفًا، واضعي سيوفهم على عواتقهم، لا ينثنون، لئن خلص إلي الأمر ليجدني أحمز ضرابًا بالسيف. فلم يزل زياد بفارس واليًا حتى صالح الحسن رضي الله عنه معاوية، وقدم معاوية الكوفة، فتحصن زيادٌ في القلعة التي يقال لها قلعة زياد. ولاية عبد الله بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان وفي هذه السنة ولى معاوية عبد الله بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان. ذكر الخبر عن سبب ولاية ذلك وبعض الكائن في أيام عمله لمعاوية بها حدثني أبو زيد، قال: حدثنا علي قال: أراد معاوية توجيه عتبة ابن أبي سفيان على البصرة، فكلمه ابن عامر وقال: إن لي بها أموالًا وودائع، فإن لم توجهني عليها ذهبت. فولاه البصرة، فقدمها في آخر سنة إحدى وأربعين وإليه خراسان وسجستان، فأراد زيد بن جبلة على ولاية شرطته فأبى، فولى حبيب بن شهاب الشامي شرطته - وقد قيل: قيس ابن الهيثم السلمي - واستقضى عميرة بن يثربي الضبي، أخا عمرو بن يثربي الضبي. حدثني أبو زيد، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: خرج في ولاية ابن عامر لمعاوية يزيد مالك الباهلي، وهو الخطيم، وإنما سمي الخطيم لضربة أصابته على وجهه - فخرج هو وسهم بن غالب الهجيمي فأصبحوا عند الجسر، فوجدوا عبادة بن قرص الليثي أحد بني بجير - وكانت له صحبة - يصلي عند الجسر، فأنكروه فقتلوه، ثم سألوه الأمان بعد ذلك، فآمنهم ابن عامر، وكتب إلى معاوية: قد جعلت لهم ذمتك. فكتب إليه معاوية: تلك ذمةٌ لو أخفرتها لا سئلت عنها، فلم يزالوا آمنين حتى عزل ابن عامر. وفي هذه السنة ولد علي بن عبد الله بن عباس - وقيل: ولد في سنة أربعين قبل أن يقتل علي رضي الله عنه، وهذا قول الواقدي. وحج بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان في قول أبي معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وأما الواقدي فإنه ذكر عنه أنه كان يقول: حج بالناس في هذه السنة - أعني سنة إحدى وأربعين - عنبسة بن أبي سفيان. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها غزا المسلمون اللان، وغزوا أيضًا الروم، فهزموهم هزيمةً منكرة - فيما ذكروا - وقتلوا جماعةً من بطارقتهم. وقيل: في هذه السنة ولد الحجاج بن يوسف. وولى معاوية في هذه السنة مروان بن الحكم المدينة، فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل. وعلى مكة خالد بن العاص بن هشام، وكان على الكوفة من قبله المغيرة بن شعبة، وعلى القضاء شريح، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، وعلى قضائها عمرو بن يثربي، وعلى خراسان قيس بن الهيثم من قبل عبد الله بن عامر. وذكر علي بن محمد، عن محمد بن الفضل العبسي، عن أبيه، قال: بعث عبد الله بن عامر قيس بن الهيثم على خراسان حين ولاه معاوية البصرة وخراسان، فأقام قيس بخراسان سنتين. وقد قيل في أمر ولاية قيس ما ذكره حمزة بن أبي صالح السلمي، عن زياد بن صالح، قال: بعث معاوية حين استقامت له الأمور قيس ابن الهيثم إلى خراسان، ثم ضمها إلى ابن عامر، فترك قيسًا عليها. ذكر الخبر عن تحرك الخوارج وفي هذه السنة تحركت الخوارج الذين انحازوا عمن قتل منهم بالنهروان ومن كان ارتث من جرحاهم بالنهروان، فبرءوا، وعفا عنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ذكر الخبر عما كان منهم في هذه السنة ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح ابن حبيب، عن جرير بن مالك بن زهير بن جذيمة العبسي، عن أبي بن عمارة العبسي، أن حيان بن ظبيان السلمي كان يرى رأي الخوارج، وكان ممن ارتث يوم النهروان، فعفا عنه علي رضي الله عنه في الأربعمائة الذين عفا عنهم من المرتثين يوم النهر، فكان في أهله وعشيرته، فلبث شهرًا أو نحوه. ثم إنه خرج إلى الري في رجال كانوا يرون ذلك الرأي، فلم يزالوا مقيمين بالري حتى بلغهم قتل علي كرم الله وجهه، فدعا أصحابه أولئك - وكانوا بضعة عشر رجلًا، أحدهم سالم بن ربيعة العبسي - فأتوه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الإخوان من المسلمين، إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم أخا مراد قعد لقتل علي بن أبي طالب عند أغباش الصبح مقابل السدة التي في المسجد مسجد الجماعة، فلم يبرح راكدًا ينتظر خروجه حتى خرج عليه حين أقام المقيم الصلاة صلاة الصبح، فشد عليه فضرب رأسه بالسيف، فلم يبق إلا ليلتين حتى مات، فقال سالم بن ربيعة العبسي: لا يقطع الله يمينًا علت قذاله بالسيف؛ قال: فأخذ القوم يحمدون الله على قتله رضي الله عنه ولا رضى عنهم ولا رحمهم! قال النضر بن صالح: فسألت بعد ذلك سالم بن ربيعة في إمارة مصعب ابن الزبير عن قوله ذلك في علي رضي الله عنه، فأقر لي به، وقال: كنت أرى رأيهم حينًا، ولكن قد تركته؛ قال: فكان في أنفسنا أنه قد تركه؛ قال: فكان إذا ذكروا له ذلك يرمضه. قال: ثم إن حيان بن ظبيان قال لأصحابه: إنه والله ما يبقى على الدهر باقٍ، وما تلبث الليالي والأيام والسنون والشهور على ابن آدم حتى تذيقه الموت، فيفارق الإخوان الصالحين، ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة، ولم تزل ضارةً لمن كانت له همًا وشجنًا؛ فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا، فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى جهاد الأحزاب، فإنه لا عذر لنا في القعود، وولاتنا ظلمة، وسنة الهدى متروكة، وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون، فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم، ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنين، وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحةً لنا، ولنا بأسلافنا أسوة. فقالوا له: كلنا قائل ما ذكرت، وحامدٌ رأيك الذي رأيت، فرد بنا المصر فإنا معك راضون بهداك وأمرك؛ فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة، فذلك حين يقول: خليلي ما بي من عزاءٍ ولا صبر ** ولا إربةٍ بعد المصابين بالنهر سوى نهضاتٍ في كتائب جمةٍ ** إلى الله ما تدعو وفي الله ما تفري إذا جاوزت قسطانة الري بغلتي ** فلست بسارٍ نحوها آخر الدهر ولكنني سارٍ وإن قل ناصري ** قريبًا فلا أخزيكما مع من يسري قال: وأقبل حتى نزل الكوفة، فلم يزل بها حتى قدم معاوية، وبعث المغيرة بن شعبة واليًا على الكوفة، فأحب العافية، وأحسن في الناس السيرة، ولم يفتش أهل الأهواء عن أهوائهم، وكان يؤتى فيقال له: إن فلانًا يرى رأي الشيعة، وإن فلانًا يرى رأي الخوارج. وكان يقول: قضى الله ألا تزالون مختلفين، وسيحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. فأمنه الناس، وكانت الخوارج يلقى بعضهم بعضًا، ويتذاكرون مكان إخوانهم بالنهروان ويرون أن في الإقامة الغبن والوكف، وأن في جهاد أهل القبلة الفضل والأجر. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح، عن أبي بن عمارة، أن الخوارج في أيام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر؛ منهم المستورد بن علفة، فخرج في ثلاثة رجل مقبلًا نحو جراجرايا على شاطىء دجلة. قال أبو مخنف: وحدثني جعفر بن حذيفة الطائي من آل عامر بن جوين، عن المحل بن خليفة، أن الخوارج في أيام المغيرة بن شعبة فزعوا إلى ثلاثة نفر؛ منهم المستورد بن علفة التيمي من تيم الرباب، وإلى حيان بن ظبيان السلمي، وإلى معاذ بن جوين بن حصين الطائي السنبسي - وهو ابن عم زيد بن حصين، وكان زيد ممن قتله علي رضي الله عنه يوم النهروان، وكان معاذ بن جوين هذا في الأربعمائة الذين ارتشوا من قتلى الخوارج، فعفا عنهم علي رضي الله عنه - فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي، فتشاوروا فيمن يولون عليهم. قال: فقال لهم المستورد: يأيها المسلمون والمؤمنون، أراكم الله ما تحبون، وعزل عنكم ما تكرهون، ولوا عليكم من أحببتم، فوالذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ما أبالي من كان الوالي علي منكم! وما شرف الدنيا نريد، وما إلى البقاء فيها من سبيل، وما نريد إلا الخلود في دار الخلود. فقال حيان بن ظبيان: أما أنا فلا حاجة لي فيها وأنا بك وبكل امرىءٍ من إخواني راضٍ، فانظروا من شئتم منكم فسموه، فأنا أول من يبايعه. فقال لهم معاذ بن جوين بن حصين: إذا قلتما أنتما هذا وأنتما سيدا المسلمين وذوا أنسابهم في صلاحكما ودينكما وقدركما، فمن يرئس المسلمين، وليس كلكم يصلح لهذا الأمر! وإنما ينبغي أن يلي على المسلمين إذا كانوا سواء في الفضل أبصرهم بالحرب، وأفقههم في الدين، وأشدهم اضطلاعًا بما حمل، وأنتما بحمد الله ممن يرضى بهذا الأمر، فليتوله أحدكما. قالا: فتوله أنت، فقد رضيناك، فأنت والحمد لله الكامل في دينك ورأيك، فقال لهما: أنتما أسن مني، فليتوله أحدكما، فقال حينئذ جماعة من حضرهما من الخوارج: قد رضينا بكم أيها الثلاثة، فولوا أيكم أجبتم؛ فليس في الثلاثة رجل إلا قال لصاحبه: تولها أنت، فإني بك راضٍ، وإني فيها غير ذي رغبة. فلما كثر ذلك بينهم قال حيان بن ظبيان، فإن معاذ بن جوين قال: إني لا ألى عليكما وأنتما أسن مني، وأنا أقول لك مثل ما قال لي ولك، لا ألى عليك وأنت أسن مني، ابسط يدك أبايعك. فبسط يده فبايعه، ثم بايعه معاذ بن جوين، ثم بايعه القوم جميعًا، وذلك في جمادى الآخرة. فاتعد القوم أن يتجهزوا ويتيسروا ويستعدوا، ثم يخرجوا في غرة الهلال هلال شعبان سنة ثلاث وأربعين، فكانوا في جهازهم وعدتهم. وقيل: في هذه السنة سار بسر بن أبي أرطاة العامري إلى المدينة ومكة واليمن، وقتل من قتله في مسيره ذلك من المسلمين. وذلك قول الواقدي، وقد ذكرت من خالفه في وقت مسيره هذا السير. وزعم الواقدي أن داود بن حيان حدثه، عن عطاء بن أبي مروان، قال: أقام بسر بن أبي أرطاة بالمدينة شهرًا يستعرض الناس، ليس أحدٌ ممن يقال هذا أعان على عثمان إلا قتله. وقال عطاء بن أبي مروان: أخبرني حنظلة بن علي الأسلمي، قال: وجد قومًا من بني كعب وغلمانهم على بئرٍ لهم فألقاهم في البئر. ذكر قدوم زياد على معاوية وفي هذه السنة قدم زيادٌ - فيما حدثني عمر - قال: حدثنا أبو الحسن، عن سليمان بن أرقم، قدم على معاوية من فارس، فصالحه على مال يحمله إليه. وكان سبب قدومه بعد امتناعه بقلعة من قلاع فارس، ما حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن مسلمة بن محارب، قال: كان عبد الرحمن بن أبي بكرة يلي ما كان لزياد بالبصرة، فبلغ معاوية أن لزياد أموالًا عند عبد الرحمن، وخاف زيادٌ على أشياء كانت في يد عبد الرحمن لزياد، فكتب إليه يأمره بإحرازها، وبعث معاوية إلى المغيرة بن شعبة لينظر في أموال زياد، فقدم المغيرة، فأخذ عبد الرحمن، فقال: لئن كان أساء إلي أبوك لقد أحسن زياد. وكتب إلى معاوية: إني لم أصب في يد عبد الرحمن شيئًا يحل لي أخذه. فكتب معاوية إلى المغيرة أن عذبه. قال: وقال بعض المشيخة: إنه عذب عبد الرحمن بن أبي بكرة إذ كتب إليه معاوية، وأراد أن يعذر ويبلغ معاوية ذلك، فقال: احتفظ بما أمرك به عمك، فألقى على وجهه حريرةً ونضحها بالماء، فكانت تلتزق بوجهه، فغشي عليه، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم خلاه، وكتب إلى معاوية: إني عذبته، فلم أصب عنده شيئًا، فحفظ لزياد يده عنده. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو الحسن، عن عبد الملك بن عبد الله الثقفي، عن أشياخ من ثقيف، قالوا: دخل المغيرة بن شعبة على معاوية، فقال معاوية حين نظر إليه: إنما موضع سر المرء إن ** باح بالسر أخوه لمنتصح فإذا بحت بسرٍّ فإلى ** ناصحٍ يستره أو لا تبح فقال: يا أمير المؤمنين، إن تستودعني تستودع ناصحًا شفيقًا ورعًا وثيقًا، فما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرت زيادًا واعتصامه بأرض فارس، وامتناعه بها، فلم أنم ليلتي؛ فأراد المغيرة أن يطأطىء من زياد، فقال: ما زياد هناك يا أمير المؤمنين! فقال معاوية: بئس الوطء العجز، داهية العرب معه الأموال، متحصن بقلاع فارس، يدبر ويربص الحيل، ما يؤمنني أن يبايع لرجل من أهل هذا البيت. فإذا هو قد أعاد علي الحرب خدعة فقال المغيرة: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في إتيانه! قال: نعم، فأته وتلطف له، فأتى المغيرة زيادًا، فقال زياد حين بلغه قدوم المغيرة: ما قدم إلا لأمر، ثم أذن له، فدخل عليه وهو في بهوٍ له مستقبل الشمس، فقال زياد: أفلح رائد! فقال: إليك ينتهي الخبر أبا المغيرة، إن معاوية استخفه الوجل حتى بعثني إليك، ولم يكن يعلم أحدًا يمد يده إلى هذا الأمر غير الحسن، وقد بايع معاوية، فخذ لنفسك قبل التوطين، فيستغني عنك معاوية، قال: أشر علي، وارم الغرض الأقصى، ودع عنك الفضول، فإن المستشار مؤتمن؛ فقال المغيرة: في محض الرأي بشاعة، ولا خير في المذيق، أرى أن تصل حبلك بحبله، وتشخص إليه؛ قال: أرى ويقضي الله. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن مسلمة بن محارب، قال: أقام زياد في القلعة أكثر من سنة، فكتب إليه معاوية: علام تهلك نفسك؟ إلي فأعلمني علم ما صار إليك مما اجتبيت من الأموال، وما خرج من يديك، وما بقي عندك، وأنت آمن، فإن أحببت المقام عندنا أقمت، وإن أحببت أن ترجع إلى مأمنك رجعت. فخرج زياد من فارس، وبلغ المغيرة بن شعبة أن زيادًا قد أجمع على إتيان معاوية، فشخص المغيرة إلى معاوية قبل شخوص زياد من فارس، وأخذ زياد من إصطخر إلى أرجان، فأتى ماه بهزاذان، ثم أخذ طريق حلوان حتى قدم المدائن، فخرج عبد الرحمن إلى معاوية يخبره بقدوم زياد، ثم قدم زياد الشأم، وقدم المغيرة بعد شهر، فقال له معاوية: يا مغيرة، زياد أبعد منك بمسيرة شهر، وخرجت قبله وسبقك. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأريب إذا كلم الأريب أفحمه؛ قال: خذ حذرك، واطو عني سرك، فقال: إن زيادًا قدم يرجو الزيادة، وقدمت أتخوف النقصان، فكان سيرنا على حسب ذلك؛ قال: فسأل معاوية زايدًا عما صار إليه من أموال فارس، فأخبره بما حمل منها إلى علي رضي الله عنه، وما أنفق منها في الوجوه التي يحتاج فيها إلى النفقة، فصدقه معاوية على ما أنفق، وما بقي عنده، وقبضه منه، وقال: قد كنت أمين خلفائنا. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو مخنف وأبو عبد الرحمن الأصبهاني وسلمة بن عثمان وشيخ من بني تميم وغيرهم ممن يوثق بهم، قال: كتب معاوية إلى زياد وهو بفارس يسأله القدوم عليه، فخرج زيادٌ من فارس مع المنجاب بن راشد الضبي وحارثة بن بدر الغداني، وسرح عبد الله بن خازم في جماعة إلى فارس، فقال: لعلك تلقى زيادًا في طريقك فتأخذه. فسار ابن خازم إلى فارس، فقال بعضهم: لقيه بسوق الأهواز، وقال بعضهم: لقيه بأرجان، فأخذ ابن خازم بعنان زياد، فقال: انزل يا زياد، فصاح به المنجاب بن راشد: تنح يابن سوداء، وإلا علقت يدك بالعنان. قال: ويقال: انتهى إليهم ابن خازم وزياد جالس، فأغلظ له ابن خازم، فشتم المنجاب بن خازم، فقال له زياد: ما تريد يابن خازم؟ قال: أريد أن تجيء إلى البصرة؛ قال: فإني آتيها؛ فانصرف ابن خازم استحياءً من زياد. وقال بعضهم: التقى زياد وابن خازم بأرجان، فكانت بينهم منازعة، فقال زياد لابن خازم قد أتاني أمان معاوية، فأنا أريده، وهذا كتابه إلي. قال: فإن كنت تريد أمير المؤمنين فلا سبيل عليك، فمضى ابن خازم إلى سابور، ومضى زياد إلى ماه بهزاذان، وقدم على معاوية، فسأله عن أموال فارس، فقال: دفعتها يا أمير المؤمنين في أرزاق وأعطيات وحمالات، وبقيت بقية أودعتها قومًا، فمكث بذلك يردده، وكتب زياد كتبًا إلى قوم منهم شعبة بن القلعم: قد علمتم ما لي عندكم من الأمانة، فتدبروا كتاب الله عز وجل؛ " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال.. " الآية، فاحتفظوا بما قبلكم. وسمي في الكتب بالمبلغ الذي أقر به لمعاوية، ودس الكتب مع رسوله، وأمره أن يعرض لبعض من يبلغ ذلك معاوية، فتعرض رسوله حتى انتشر ذلك، وأخذ فأتى به معاوية، فقال معاوية لزياد: لئن لم تكن مكرت بي إن هذه الكتب من حاجتي. فقرأها، فإذا هي بمثل ما أقر به؛ فقال معاوية: أخاف أن تكون قد مكرت بي، فصالحني على ما شئت، فصالحه على شيء مما ذكره أنه عنده، فحمله، وقال زياد: يا أمير المؤمنين، قد كان لي مال قبل الولاية، فوددت أن ذلك المال بقي، وذهب ما أخذت من الولاية. ثم سأل زياد معاوية أن يأذن له في نزول الكوفة فأذن له، فشخص إلى الكوفة، فكان المغيرة يكرمه ويعظمه، فكتب معاوي إلى المغيرة: خذ زيادًا وسليمان بن صرد وحجر بن عدي وشبث بن ربعي وابن الكواء وعمرو بن الحمق بالصلاة في الجماعة؛ فكانوا يحضرون معه في الصلاة. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي، عن سليمان بن أرقم، قال: بلغني أن زيادًا قدم الكوفة، فحضرت الصلاة، فقال له المغيرة: تقدم فصل؛ فقال: لا أفعل، أنت أحق مني بالصلاة في سلطانك. قال: ودخل عليه زياد وعند المغيرة أم أيوب بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط، فأجلسها بين يديه، وقال: لا تستري من أبي المغيرة، فلما مات المغيرة تزوجها زياد وهي حدثة، فكان زياد يأمر بفيل كان عنده، فيوقف، فتنظر إليه أم أيوب، فسمي باب الفيل. وحج بالناس في هذه السنة عنبسة بن أبي سفيان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة بسر بن أبي أرطاة الروم ومشتاه بأرضهم حتى بلغ القسطنطينية - فيما زعم الواقدي - وقد أنكر ذاك قومٌ من أهل الأخبار، فقالوا: لم يكن لبسر بأرض الروم مشتى قط. وفيها مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر، وقبل كان عمل عليها لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه أربع سنين، ولعثمان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية سنتين إلا شهرًا. وفيها ولى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص مصر بعد موت أبيه، فوليها له - فيما زعم الواقدي - نحوًا من سنتين. وفيها مات محمد بن مسلمة في صفر بالمدينة، وصلى عليه مروان بن الحكم. خبر قتل المستورد بن علفة الخارجي وفيها قتل المستورد بن علفة الخارجي، فيما زعم هشام بن محمد. وقد زعم بعضهم أنه قتل في سنة اثنتين وأربعين. ذكر الخبر عن مقتله قد ذكرنا ما كان من اجتماع بقايا الخوارج الذين كانوا راتثوا يوم النهر، ومن كان منهم انحاز إلى الري وغيرهم إلى النفر الثلاثة الذين سميت قبل، الذين حدهم المستورد بن علفة، وذكرنا بيعتهم المستورد، واجتماعهم على الخروج في غرة هلال شعبان من سنة ثلاث وأربعين. فذكر هشام، عن أبي مخنف؛ أن جعفر بن حذيفة الطائي حدثه عن المحل بن خليفة، أن قبيصة بن الدمون أتى المغيرة بن شعبة - وكان على شرطته - فقال: إن شمر بن جعونة الكلابي جاءني فخبرني أن الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي، وقد اتعدوا أن يخرجوا إليك في غرة شعبان، فقال المغيرة بن شعبة لقبيصة بن الدمون - وهو حليف لثقيف، وزعموا أن أصله كان من حضرموت من الصدف: سر بالشرطة حتى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني به، وهم لا يرون إلا أنه أمير تلك الخوارج. فسار قبيصة في الشرطة وفي كثير من الناس، فلم يشعر حيان بن ظبيان إلا والرجال معه في داره نصف النهار، وإذا معه معاذ بن جوين ونحوٌ من عشرين رجلًا من اصحابهما، وثارت امرأته؛ أم ولد له فأخذت سيوفًا كانت لهم، فألقتها تحت الفراش، وفزع بعض القوم إلى سيوفهم فلم يجدوها، فاستسلموا، فانطلق بهم إلى المغيرة ابن شعبة، فقال لهم المغيرة: ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين؟ فقالوا: ما أردنا من ذلك شيئًا؛ قال: بلى، قد بلغني ذلك عنكم، ثم قد صدق ذلك عندي جماعتكم؛ قالوا له: أما اجتماعنا في هذا المنزل فإن حيان ابن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده في منزله فنقرأ القرآن عليه. فقال: اذهبوا بهم إلى السجن، فلم يزالوا فيه نحوًا من سنة، وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا، وخرج صاحبهم المستورد بن علفة فنزل دارًا بالحيرة إلى جنب قصر العدسيين من كلب، فبعث إلى إخوانه، وكانوا يختلفون إليه ويتجهزون، فلما كثر اختلاف أصحابه إليه قال لهم صاحبهم المستورد بن علفة التيمي: تحولوا بنا عن هذا المكان، فإني لا آمن أن يطلع عليكم. فإنهم في ذلك يقول بعضهم لبعض: نأتي مكان كذا وكذا، ويقول بعضهم: نأتي مكان كذا وكذا؛ إذ أشرف عليهم حجار بن أبجر من دار كان هو فيها وطائفة من أهله، فإذا هم بفارسين قد أقبلا حتى دخلا تلك الدار التي فيها القوم، ثم لم يكن بأسرع من أن جاء آخران فدخلا، ثم لم يكن إلا قليل حتى جاء آخر فدخل، ثم آخر فدخل، وكان ذلك يعنيه، وكان خروجهم قد اقترب، فقال حجار لصاحبة الدار التي كان فيها نازلًا وهي ترضع صبيًا لها: ويحك! ما هذه الخيل التي أراها تدخل هذه الدار؟ قالت: والله ما أدري ما هم! إلا أن الرجال يختلفون إلى هذه الدار رجالًا وفرسانًا لا ينقطعون، ولقد أنكرنا ذلك منذ أيام، ولا ندري من هم! فركب حجار فرسه، وخرج معه غلام له، فأقبل حتى انتهى إلى باب دارهم، فإذا عليه رجلٌ منهم، فكلما أتى إنسان منهم إلى الباب دخل إلى صاحبه فأعلمه، فأذن له، فإن جاءه رجل من معروفيهم دخل ولم يستأذن، فلما انتهى إليه حجار لم يعرفه الرجل، فقال: من أنت رحمك الله؟ وما تريد؟ قال: أردت لقاء صاحبي، قال له: وما اسمك؟ قال له: حجار بن أبجر؛ قال: فكما أنت حتى أوذنهم بك. ثم أخرج إليك. فقال له حجار: ادخل راشدًا! فدخل الرجل، واتبعه حجار مسرعًا، فانتهى إلى باب صفة عظيمة فيها، وقد دخل إليهم الرجل فقال: هذا رجل يستأذن عليك أنكرته فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا حجار بن أبجر، فسمعهم يتفزعون ويقولون: حجار بن أبجر! والله ما جاء حجار بن أبجر بخير. فلما سمع القول منهم أراد أن ينصرف ويكتفي بذلك من الاسترابة بأمرهم، ثم أبت نفسه أن ينصرف حتى يعاينهم، فتقدم حتى قام بين سجفي باب الصفة وقال: السلام عليكم، فنظر فإذا هو بجماعة كثيرة، وإذا سلاحٌ ظاهر ودروع، فقال حجار: اللهم اجمعهم على خير، من أنتم عافاكم الله؟ فعرفه علي بن أبي شمر ابن الحصين، من تيم الرباب - وكان أحد الثمانية الذين انهزموا من الخوارج يوم النهر، وكان من فرسان العرب ونساكهم وخيارهم - فقال له: يا حجار ابن أبجر، إن كنت إنما جاء بك التماس الخبر فقد وجدته، وإن كنت إنما جاء بك أمرٌ غير ذلك فادخل، وأخبرنا ما أتى بك؛ فقال: لا حاجة لي في الدخول، فانصرف، فقال بعضهم لبعض: أدركوا هذا فاحبسوه، فإنه مؤذنٌ بكم، فخرجت منهم جماعةٌ في أثره - وذلك عند تطفيل الشمس للإياب - فانتهوا إليه وقد ركب فرسه، فقالوا له: أخبرنا خبرك، وما جاء بك؟ قال: لم آت لشيء يروعكم ولا يهولكم، فقالوا له: انتظر حتى ندنو منك ونكلمك، أو تدنو منا؛ أخبرنا فنعلمك أمرنا، ونذكر حاجتنا، فقال لهم: ما أنا بدانٍ منكم، ولا أريد أن يدنو مني منكم أحد؛ فقال له علي بن أبي شمر بن الحصين: أفمؤمننا أنت من الإذن بنا هذه الليلة وأنت محسن؛ فإن لنا قرابةً وحقًا؟ قال: نعم، أنتم آمنون من قبلي هذه الليلة وليالي الدهر كلها؛ ثم انطلق حتى دخل الكوفة وأدخل أهله معه. وقال الآخرون بعضهم لبعض: إنا لا نأمن أن يؤذن بنا هذا، فاخرجوا بنا من هذا الموضع ساعتنا هذه؛ قال: فصلوا المغرب، ثم خرجوا من الحيرة متفرقين، فقال لهم صاحبهم: الحقوا بي في دار سليم بن محدوج العبدي من بني سلمة، فخرج من الحيرة، فمضى حتى أتى عبد القيس، فأتى بني سلمة، فبعث إلى سليم بن محدوج - وكان له صهرًا - فأتاه، فأدخله وأصحابًا له خمسةً أو ستة، ورجع حجار بن أبجر إلى رحله، فأخذوا ينتظرون منه أن يبلغهم منه ذكرٌ لهم عند السلطان أو الناس، فما ذكرهم عند أحد منهم، ولا بلغهم عنه في ذلك شيء يكرهونه. ننا أنت من الإذن بنا هذه الليلة وأنت محسن؛ فإن لنا قرابةً وحقًا؟ قال: نعم، أنتم آمنون من قبلي هذه الليلة وليالي الدهر كلها؛ ثم انطلق حتى دخل الكوفة وأدخل أهله معه. وقال الآخرون بعضهم لبعض: إنا لا نأمن أن يؤذن بنا هذا، فاخرجوا بنا من هذا الموضع ساعتنا هذه؛ قال: فصلوا المغرب، ثم خرجوا من الحيرة متفرقين، فقال لهم صاحبهم: الحقوا بي في دار سليم بن محدوج العبدي من بني سلمة، فخرج من الحيرة، فمضى حتى أتى عبد القيس، فأتى بني سلمة، فبعث إلى سليم بن محدوج - وكان له صهرًا - فأتاه، فأدخله وأصحابًا له خمسةً أو ستة، ورجع حجار بن أبجر إلى رحله، فأخذوا ينتظرون منه أن يبلغهم منه ذكرٌ لهم عند السلطان أو الناس، فما ذكرهم عند أحد منهم، ولا بلغهم عنه في ذلك شيء يكرهونه. فبلغ الخبر المغيرة بن شعبة أن الخوارج خارجةٌ عليه في أيامه تلك، وأنهم قد اجتمعوا على رجل منهم، فقام المغيرة بن شعبة في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وأني والله لقد خشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفائكم، فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم الله لقد خشيت ألا أجد بدًا من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل، فكفوا أيها الناس سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم. وقد ذكر لي أن رجالًا منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف، وايم الله لا يخرجون في حيٍّ من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالًا لمن بعدهم، فنظر قومٌ لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار. فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال: أيها الأمير، هل سمي لك أحدٌ من هؤلاء القوم؟ فإن كانوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كانوا منا كفيناكهم، وإن كانوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل مصرنا، فأتتك كل قبيلة بسفهائها، فقال: ما سمي لي أحد منهم، ولكن قد قيل لي: إن جماعةً يريدون أن يخرجوا بالمصر؛ فقال له معقل: أصلحك الله! فإني أسير في قومي، وأكفيك ما هم فيه، فليكفك كل امرىء من الرؤساء قومه. فنزل المغيرة بن شعبة، وبعث إلى رؤساء الناس فدعاهم، ثم قال لهم: إنه قد كان من الأمر ما قد علمتم، وقد قلت ما قد سمعتم، فليكفني كل امرىء من الرؤساء قومه، وإلا فوالذي لا إله غيره لأتحولن عما كنتم تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون، فلا يلم لائمٌ إلا نفسه، وقد أعذر من أنذر. فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم، فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه يريد أن يهيج فتنةً، أو يفارق جماعةً؛ وجاء صعصعة بن صوحان فقام في عبد القيس. قال هشام: قال ابن مخنف: فحدثني الأسود بن قيس العبدي، عن مرة بن النعمان، قال: قام فينا صعصعة بن صوحان وقد والله جاءه من الخبر بمنزل التيمي وأصحابه في دار سليم بن محدوج، ولكنه كره على فراقه إياهم وبغضه لرأيهم، أن يؤخذوا في عشيرته، وكره مساءة أهل بيت من قومه، فقال: قولًا حسنًا، ونحن يومئذ كثيرٌ أشرافنا، حسنٌ عددنا، قال: فقام فينا بعد ما صلى العصر، فقال: يا معشر عباد الله، إن الله - وله الحمد كثيرًا - لما قسم الفضل بين المسلمين خصكم منه بأحسن القسم، فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره الله لنفسه، وارتضاه لملائكته ورسله، ثم أقمتم عليه حتى قبض الله رسوله ﷺ، ثم اختلف الناس بعده فثبتت طائفة، وارتدت طائفة، وأدهنت طائفة، وتربصت طائفة، فلزمتم دين الله إيمانًا به وبرسوله، وقاتلتم المرتدين حتى قام الدين، وأهلك الله الظالمين، فلم يزل الله يزيدكم بذلك خيرًا في كل شيء، وعلى كل حال، حتى اختلفت الأمة بينها، فقالت طائفة: نريد طلحة والزبير وعائشة، وقالت طائفة: نريد أهل المغرب، وقالت طائفة: نريد عبد الله بن وهب الراسبي، راسب الأزد، وقلتم أنتم: لا نريد إلا أهل البيت الذين ابتدأنا الله من قبلهم بالكرامة، تسديدًا من الله لكم وتوفيقًا، فلم تزالوا على الحق لازمين له، آخذين به، حتى أهلك الله بكم وبمن كان على مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل، والمارقين يوم النهر - وسكت عن ذكر أهل الشأم، لأن السلطان كان حينئذ سلطانهم - ولا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة المسلمين من هذه المارقة الخاطئة، الذين فارقوا إمامنا، واستحلوا دماءنا، وشهدوا علينا بالكفر؛ فإياكم أن تؤووهم في دوركم، أو تكتموا عليهم، فإنه ليس ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم، وقد والله ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي، وأنا باحثٌ عن ذلك وسائل، فإن كان حكي لي ذلك حقًا تقربت إلى الله تعالى بدمائهم، فإن دماءهم حلال. ثم قال: يا معشر عبد القيس، إن ولاتنا هؤلاء هم أعرف شيء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلًا، فإنهم أسرع شيء إليكم وإلى أمثالكم. ثم تنحى فجلس، فكل قومه قال: لعنهم الله! وقال: برىء الله منهم، فلا والله فلا نؤويهم، ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عليهم؛ غير سليم بن محدوج، فإنه لم يقل شيئًا، فرجع إلى قومه كئيبًا واجمًا، يكره أن يخرج أصحابه من منزله فيلوموه، وقد كانت بينهم مصاهرة، وكان لهم ثقة، ويكره أن يطلبوا في داره فيهلكوا ويهلك. وجاء فدخل رحله، وأقبل أصحاب المستورد يأتونه، فليس منهم رجلٌ غلا يخبره بما قام به المغيرة بن شعبة في الناس وبما جاءهم رؤساؤهم، وقاموا فيهم، وقالوا له: اخرج بنا، فوالله ما نأمن أن نؤخذ في عشائرنا. قال: فقال لهم: أما ترون رأس عبد القيس قام فيهم كما قامت رؤساء العشائر في عشائرهم؟ قالوا: بلى والله نرى. قال: فإن صاحب منزلي لم يذكر لي شيئًا؛ قالوا: نرى والله أنه استحيا منك، فدعاه فأتاه، فقال: يابن محدوج؛ إنه قد بلغني أن رؤساء العشائر قاموا إليهم، وتقدموا إليهم في وفي أصحابي، فهل قام فيكم أحدٌ يذكر لكم شيئًا من ذلك؟ قال: فقال: نعم؛ قد قام فينا صعصعة بن صوحان، فتقدم إلينا في ألا نؤوي أحدًا من طلبتهم، وقالوا أقاويل كثيرةً كرهت أن أذكرها لكم فتحسبوا أنه ثقل علي شيء من أمركم؛ فقال له المستورد: قد أكرمت المثوى، وأحسنت الفعل، ونحن إن شاء الله مرتحلون عنك؛ ثم قال: أما والله لو أرادوك في رحلي ما وصلوا إليك ولا إلى أحد من أصحابك حتى أموت دونكم، قال: أعاذك الله من ذلك! وبلغ الذين في محبس المغيرة ما أجمع عليه أهل المصر من الرأي في نفي من كان بينهم من الخوارج وأخذهم، فقال معاذ بن جوين بن حصين في ذلك: ألا أيها الشارون قد حان لامرىءٍ ** شرى نفسه لله أن يترحلا أقمتم بدار الخاطئين جهالةً ** وكل امرىءٍ منكم يصاد ليقتلا فشدوا على القوم العداة فإنما ** أقامتكم للذبح رأيًا مضللا ألا فاقصدوا يا قوم للغاية التي ** إذا ذكرت كانت أبر وأعدلا فيا ليتني فيكم على ظهر سابحٍ ** شديد القصيرى دارعًا غير أعزلا ويا ليتني فيكم أعادي عدوكم ** فيسقيني كأس المنية أولا يعز علي أن تخافوا وتطردوا ** ولما أجرد في المحلين منصلا ولما يفرق جمعهم كل ماجدٍ ** إذا قلت قد ولى وأدبر أقبلا مشيحًا بنصل السيف في حمس الوغى ** يرى الصبر ي بعض المواطن أمثلا وعز علي أن تضاموا وتنقصوا ** وأصبح ذا بثٍّ أسيرًا مكبلا ولو أنني فيكم وقد قصدوا لكم ** أثرت إذًا بين الفريقين قسطلا فيا رب جمعٍ قد فللت وغارةٍ ** شهدت وقرنٍ قد تركت مجدلا فبعث المستورد إلى أصحابه فقال لهم: اخرجوا من هذه القبيلة لا يصب امأ مسلمًا في سببنا بغير علمٍ معرةٌ. وكان فيهم بعض من يرى رأيهم، فاتعدوا سورًا، فخرجوا إليها متقطعين من أربعة وخمسة وعشرة، فتتاموا بها ثلثمائة رجل، ثم ساروا إلى الصراة، فباتوا بها ليلةً. ثم إن المغيرة بن شعبة أخبر خبرهم، فدعا رؤساء الناس، فقال: إن هؤلاء الأشقياء قد أخرجهم الحين وسوء الرأي، فمن ترون أبعث إليهم؟ قال: فقام إليه عدي بن حاتم، فقال: كلنا لهم عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إليهم. فقام معقل بن قيس، فقال: إنك لا تبعث إليهم أحدًا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعًا مطيعًا، ولهم مفارقًا، ولهلاكهم محبًا، ولا أرى أصلحك الله أن تبعث إليهم أحدًا من الناس أعدى لهم ولا أشد عليهم مني، فابعثني إليهم فإني أكفيكهم بإذن الله؛ فقال: اخرج على اسم الله؛ فجهز معه ثلاثة آلاف رجل. وقال المغيرة لقبيصة بن الدمون: الصق لي بشيعة عليٍّ، فأخرجهم مع معقل بن قيس، فإنه كان من رءوس أصحابه، فإذا بعثت بشيعته الذين كانوا يعرفون فاجتمعوا جميعًا، استأنس بعضهم ببعض وتناصحوا، وهم أشد استحلالًا لدماء هذه المارقة، وأجرأ عليهم من غيرهم، وقد قاتلوا قبل هذه المرة. قال ابن مخنف: فحدثني الأسود بن قيس، عن مرة بن منقذ بن النعمان، قال: كنت فيمن ندب معه يومئذ؛ قال: لقد كان صعصعة ابن صوحان قام بعد معقل بن قيس وقال: ابعثني إليهم أيها الأمير، فأنا والله لدمائهم مستحل، وبحملها مستقل؛ فقال: اجلس؛ فإنما أنت خطيب، فكان أحفظه ذلك، وإنما قال ذلك لأنه بلغه أنه يعيب عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويكثر ذكر علي ويفضله، وقد كان دعاه، فقال: إياك أن يبلغني عنك أنك تعيب عثمان عند أحد من الناس، وإياك أن يبلغني عنك أنك تظهر شيئًا من فضل عليٍّ علاينةً، فإنك لست بذاكر من فضل عليٍّ شيئًا أجهله، بل أنا أعلم بذلك، ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيرًا مما أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بدًا، ندفع به هؤلاء القوم عن أنفسنا تقية، فإن كنت ذاكرًا فضله فاذكره بينك وبين أصحابك وفي منازلكم سرًا، وأما علانيةً في المسجد فإن هذا لا يحتمله الخليفة لنا، ولا يعذرنا به، فكان يقول له: ابعثني إليهم، وجد المغيرة قد حقد عليه خلافه إياه، فقال: اجلس فإنما أنت خطيب، فأحفظه، فقال له: أوما أنا إلا خطيب فقط! أجل والله، إني للخطيب الصليب الرئيس، أما والله لو شهدتني تحت راية عبد القيس يوم الجمل حيث اختلفت القنا، فشئون تفرى، وهامةٌ تختلى، لعلمت أني أنا الليث الهزبر؛ فقال: حسبك الآن، لعمري قد أوتيت لسانًا فصيحًا، ولم يلبث قبيصة بن الدمون أن أخرج الجيش مع معقل، وهم ثلاثة آلاف نقاوة الشيعة وفرسانهم. قال ابن مخنف: فحدثني النضر بن صالح، عن سالم بن ربيعة، قال: إني جالس عند المغيرة بن شعبة حين أتاه معقل بن قيس يسلم عليه ويودعه، فقال له المغيرة: يا معقل بن قيس: إني قد بعثت معك فرسان أهل المصر، أمرت بهم فانتخبوا انتخابًا، فسر إلى هذه العصابة المارقة الذين فارقوا جماعتنا، وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم، واستعن بالله عليهم. فقال معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم الله ما أرى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل منهم الباطل، هل بلغك - أصلحك الله - أين منزل القوم؟ قال: نعم، كتب إلي سماك بن عبيد العبسي - وكان عاملًا له على المدائن - يخبرني أنهم ارتحلوا من الصراة، فأقبلوا حتى نزلوا بهرسير، وأنهم أرادوا أن يعبروا إلى المدينة العتيقة التي بها منازل كسرى وأبيض المدائن، فمنعهم سماك أن يجوزوا، فنزلوا بمدينة بهرسير مقيمين، فاخرج إليهم، وانكمش في آثارهم حتى تلحقهم، ولا تدعهم والإقامة في بلد ينتهي إليهم فيه أكثر من الساعة التي تدعوهم فيها، فإن قبلوا وإلا فناههضهم، فإنهم لن يقيموا ببلد يومين إلا افسدوا كل من خالطهم. فخرج من يومه فبات بسورا، فأمر المغيرة مولاه واردًا، فخرج إلى الناس في مسجد الجماعة، فقال: أيها الناس، إن معقل بن قيس قد سار إلى هذه المارقة، وقد بات الليلة بسورا، فلا يتخلفن عنه أحد من أصحابه. ألا وإن الأمير يخرج على كل رجل من المسلمين منهم، ويعزم عليهم أن يبيتوا بالكوفة، ألا وأيما رجل من هذا البعث وجدناه بعد يومنا بالكوفة فقد أحل بنفسه. قال ابن مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: كنت فيمن خرج مع المستورد بن علفة، وكنت أحدث رجلٍ فيهم. قال: فخرجنا حتى أتينا الصراة، فأقمنا بها حتى تتامت جماعتنا، ثم خرجنا حتى انتهينا إلى بهرسير، فدخلناها ونذر بنا سماك بن عبيد العبسي، وكان في المدينة العتيقة، فلما ذهبنا لنعبر الجسر إليهم قاتلنا عليه، ثم قطعه علينا، فأقمنا ببهرسير. قال: فدعاني المستورد بن علفة، فقال: أتكتب يابن أخي؟ قلت: نعم، فدعا لي برقٍّ ودواة، وقال: اكتب: من عبد الله المستورد أمير المؤمنين إلى سماك بن عبيد، أما بعد، فقد نقمنا على قومنا الجور في الأحكام، وتعطيل الحدود، والاستئثار بالفيء، وإنا ندعوك إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ، وولاية أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما، والبراءة من عثمان وعلي، لإحداثهما في الدين، وتركهما حكم الكتاب، فإن تقبل فقد أدركت رشدك، وإلا تقبل فقد بالغنا في الإعذار إليك، وقد آذناك بحرب، فتبذنا إليك على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. قال: فقال المستورد: انطلق إلى سماك بهذا الكتاب فادفعه إليه، واحفظ ما يقول لك، والقني. قال: وكنت فتىً حدثًا حين أدركت، لم أجرب الأمور، ولا علم لي بكثير منها، فقلت: أصلحك الله! لو أمرتني أن أستعرض دجلة فألقي نفسي فيها ما عصيتك، ولكن تأمن علي سماكًا أن يتعلق بي، فيحبسني عنك، فإذا أنا قد فاتني ما أترجاه من الجهاد! فتبسم وقال: يابن أخي، إنما أنت رسولٌ، والرسول لا يعرض له، ولو خشيت ذلك عليك لم أبعثك، وما أنت على نفسك بأشفق مني عليك. قال: فخرجت حتى عبرت إليهم في معبر، فأتيت سماك بن عبيد، وإذا الناس حوله كثير. قال: فلما أقبلت نحوهم أبدوني أبصارهم، فلما دنوت منهم ابتدرني نحوٌ من عشرة، وظننت والله أن القوم يريدون أخذي، وأن الأمر عندهم ليس كما ذكر لي صاحبي، فانتضيت سيفي، وقلت: كلا، والذي نفسي بيده، لا تصلون إلي حتى أعذر إلى الله فيكم، قالوا لي: يا عبد الله، من أنت؟ قلت: أنا رسول أمير المؤمنين المستورد بن علفة؛ قالوا: فلم انتضيت سيفك؟ قلت: لابتداركم إلي، فخفت أن توثقوني وتغدروا بي. قالوا: فأنت آمن، وإنما أتيناك لنقوم إلى جنبك، ونمسك بقائم سيفك، وننظر ما جئت له، وما تسأل؛ قال: فقلت لهم: ألست آمنًا حتى تردوني إلى أصحابي؟ قالوا: بلى، فشمت سيفي، ثم أتيت حتى قمت على رأس سماك بن عبيد وأصحابه قد ائتشبوا بي، فمنهم ممسك بقائم سيفي، ومنهم ممسكٌ بعضدي، فدفعت إليه كتاب صاحبي، فلما قرأه رفع رأسه إلي، فقال: ما كان المستورد عندي خليقًا لما كنت أرى من إخباته وتواضعه أن يخرج على المسلمين بسيفه، يعرض على المستورد البراءة من علي وعثمان، ويدعوني إلى ولايته! فبئس والله الشيخ أنا إذًا! قال: ثم نظر إلي فقال: يا بني، اذهب إلى صاحبك فقل له: اتق الله وارجع عن رأيك، وادخل في جماعة المسلمين، فإن أردت أن أكتب لك في طلب الأمان إلى المغيرة فعلت، فإنك ستجده سريعًا إلى الإصلاح، محبًا للعافية: قال: قلت له، وإن لي فيهم يومئذ بصيرة، هيهات! إنما طلبنا بهذا الأمر الذي أخافنا فيكم في عاجل الدنيا الأمن عند الله يوم القيامة؛ فقال لي: بؤسًا لك! كيف أرحمك! ثم قال لأصحابه: إنهم خلوا بهذا. ثم جعلوا يقرءون عليه القرآن ويتخضعون ويتباكون، فظن بهذا أنهم على شيء من الحق، إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلًا، والله ما رأيت قومًا كانوا أظهر ضلالة، ولا أبين شؤمًا، من هؤلاء الذين ترون! قلت: يا هذا إنني لم آتك لأشاتمك ولا أسمع حديثك وحديث أصحابك، حدثني، أنت تجيبني إلى ما في هذا الكتاب أم لا تفعل فأرجع إلى صاحبي؟ فنظر إلي ثم قال لأصحابه: ألا تعجبون إلى هذا الصبي! والله إني لأراني أكبر من أبيه، وهو يقول لي: أتجيبني إلى ما في هذا الكتاب! انطلق يا بني إلى صاحبك، إنما تندم لو قد اكتنفتكم الخيل، وأشرعت في صدوركم الرماح، هناك تمني لو كنت في بيت أمك! قال: فانصرفت من عنده فعبرت إلى أصحابي، فلما دنوت من صاحبي قال: ما رد عليك؟ قلت: ما رد خيرًا؛ قلت له: كذا وقال لي: كذا، فقصصت عليه القصة؛ قال: فقال المستورد: " إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ ". قال: فلبثنا بمكاننا ذاك يومين أو ثلاثة أيام، ثم استبان لنا مسير معقل ابن قيس إلينا. قال: فجمعنا المستورد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن هذا الخرق معقل بن قيس قد وجه إليكم وهو من السبئية المفترين الكاذبين، وهو لله ولكم عدو، فأشيروا علي برأيكم. قال: فقال له بعضنا: والله ما خرجنا نريد إلا الله، وجهاد من عادى الله، وقد جاءونا فأين نذهب عنهم! بل نقيم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين. وقالت طائفة أخرى: بل نعتزل ونتنحى، ندعو الناس ونحتج عليهم بالدعاء. فقال: يا معشر المسلمين، إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا ولا ذكرها ولا فخرها ولا البقاء، وما أحب أنها لي بحذافيرها، وأضعاف ما يتنافس فيه منها بقبال نعلي! وما خرجت إلا التماس الشهادة، وأن يهديني الله إلى الكرامة بهوان بعض أهل الضلالة، وإني قد نظرت فيما استشرتكم فيه فرأيت ألا أقيم لهم حتى يقدموا علي وهم جامون متوافرون، ولكن رأيت أن أسير حتى أمعن، فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا في طلبنا، فتقطعوا وتبددوا، فعلى تلك الحال ينبغي لنا قتالهم، فاخرجوا بنا على اسم الله عز وجل. قال: فخرجنا فمضينا على شاطىء دجلة حتى انتهينا إلى جرجرايا، فعبرنا دجلة، فمضينا كما نحن في أرض جوخى حتى بلغنا المذار، فأقمنا فيها، وبلغ عبد الله بن عامر مكاننا الذي كنا فيه، فسأل عن المغيرة بن شعبة، كيف صنع في الجيش الذي بعث إلى الخوارج؟ وكم عدتهم؟ فأخبر بعدتهم، وقيل له: إن المغيرة نظر إلى رجل شريف رئيس قد كان قاتل الخوارج مع علي رضي الله عنه، وكان مع أصحابه، فبعثه وبعث معه شيعة عليٍّ لعداوتهم لهم، فقال: أصاب الرأي، فبعث إلى شريك بن الأعور الحارثي - وكان يرى عليٍّ رضي الله عنه - فقال له: اخرج إلى هذه المارقة فانتخب ثلاثة آلاف رجل من الناس، ثم أتبعهم حتى تخرجهم من أرض البصرة أو تقتلهم. وقال له بينه وبينه: اخرج إلى أعداء الله بمن يستحل قتالهم من أهل البصرة، فظن شريك به إنما يعني شيعة علي رضي الله عنه، ولكنه يكره أن يسميهم، فانتخب الناس، وألح على فرسان ربيعة الذين كان رأيهم في الشيعة، وكان تجيبه العظماء منهم. ثم إنه خرج فيهم مقبلًا إلى المستورد بن علفة بالمذار. قال ابن مخنف: وحدثني حصيرة بن عبد الله بن الحارث، عن أبيه عبد الله بن الحارث، قال: كنت في الذين خرجوا مع معقل بن قيس، فأقبلت معه، فوالله ما فارقته ساعةً من نهار منذ خرجت، فكان أول منزل نزلنا سورا. قال: فمكثنا يومًا حتى اجتمع إليه جل أصحابه، ثم خرجنا مسرعين مبادرين لعدونا أن يفوتنا، فبعثنا طليعةً، فارتحلنا فنزلنا كوثى، فأقمنا بها يومًا حتى لحق بنا من تخلف، ثم أدلج بنا من كوثى، وقد مضى من الليل هزيع، فأقبلنا حتى دنونا من المدائن، فاستقبلنا الناس فأخبرونا أنهم قد ارتحلوا، فشق علينا والله ذلك، وأيقنا بالعناء وطول الطلب. قال: وجاء معقل بن قيس حتى نزل باب مدينة بهرسير، ولم يدخلها، فخرج إليه سماك بن عبيد، فسلم عليه، وأمر غلمانه ومواليه فأتوه بالجزر والشعير والقت، فجاءوه من ذلك بكل ما كفاه وكفى الجند الذين كانوا معه. ثم إن معقل بن قيس بعد أن أقام بالمدائن ثلاثًا جمع أصحابه فقال: إن هؤلاء المارقة الضلال إنما خرجوا فذهبوا على وجوههم إرادة أن تتعجلوا في آثارهم، فتقطعوا وتبددوا، ولا تلحقوا بهم إلا وقد تعبتم ونصبتم، وأنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله، فخرج بنا من المدائن، فقدم بين يديه أبو الرواغ الشاكري في ثلثمائة فارس، فأتبع آثارهم، فخرج معقل في أثره، فأخذ أبو الرواغ يسأل عنهم، ويركب الوجه الذي أخذوا فيه، حتى عبروا جرجرايا في آثارهم، ثم سلك الوجه الذي أخذوا فيه، فاتبعهم، فلم يزل ذلك دأبه حتى لحقهم بالمذار مقيمين، فلما دنا منهم استشار أصحابه في لقائهم وقتالهم قبل قدوم معقل عليه، فقال له بعضهم: أقدم بنا عليهم فلنقاتلهم، وقال بعضهم: والله ما نرى أن تعجل إلى قتالهم حتى يأتينا أميرنا، ونلقاهم بجماعتنا. قال ابن مخنف: فحدثني تليد بن زيد بن راشد الفائشي أن أباه كان معه يومئذ. قال: فقال لنا أبو الرواغ: إن معقل بن قيس حين سرحني أمامه أمرني أن أتبع آثارهم، فإذا لحقتهم لم أعجل إلى قتالهم حتى يأتيني. قال: فقال له جميع أصحابه: فالرأي الآن بين، تنح بنا فلنكن قريبًا منهم حتى يقدم علينا صاحبنا، فتنحينا - وذلك عند المساء - قال: فبتنا ليلتنا كلها متحارسين حتى أصبحنا، فارتفع الضحى، وخرجوا علينا، قال: فخرجنا إليهم وعدتهم ثلثمائة ونحن ثلثمائة، فلما اقتربوا شدوا علينا، فلا والله ما ثبت لهم منا إنسان؛ قال: فانهزمنا ساعة، ثم إن أبا الرواغ صاح بنا وقال: يا فرسان السوء، قبحكم الله سائر اليوم! الكرة الكرة! قال: فحمل وحملنا معه، حتى إذا دنونا من القوم كر بنا، فانصرفنا وكروا علينا، وكشفونا طويلًا، ونحن على خيل معلمة جيادٍ، ولم يصب منا أحد، وقد كانت جراحات يسيرة، فقال لنا أبو الرواغ: ثكلتكم أمهاتكم! انصرفوا بنا فلنكر قريبًا منهم، لا نزايلهم حتى يقدم علينا أمرينا، فما أقبح بنا أن نرجع إلى الجيش، وقد انهزمنا من عدونا ولم نصبر لهم حتى يشتد القتال وتكر القتلى. قال: فقال رجل منا يجيبه: إن الله لا يستحيي من الحق، قد والله هزمونا، قال أبو الرواغ: لا أكثر الله فينا ضربك! إنا ما لم ندع المعركة فلم نهزم، وإنا متى عطفنا عليهم وكنا قريبًا منهم فنحن على حال حسنة حتى يقدم علينا الجيش، ولم نرجع عن وجهنا، إنه والله لو كان يقال: انهزم أبو حرمان حمير بن بجير الهمداني، ما باليت، إنما يقال: انهزم أبو الرواغ؛ فقفوا قريبًا، فإن أتوكم فعجزتم عن قتالهم فانحازوا، فإن حملوا عليكم فعجزتم عن قتالهم فتأخروا وانحازوا إلى حامية، فإذا رجعوا عنكم فاعطفوا عليهم، وكونوا قريبًا منهم، فإن الجيش آتيكم إلى ساعة. قال: فأخذت الخوارج كلما حملت عليهم انحازوا وهم كانوا حامية، وإذا أخذوا في الكرة عليهم فتفرق جماعتهم قرب أبو الرواغ وأصحابه على خيلهم في آثارهم، فلما رأوا أنهم لا يفارقونهم، وقد طاردوهم هكذا من ارتفاع الضحى إلى الأولى. فلما حضرت صلاة الظهر نزل المستورد للصلاة، واعتزل أبو الرواغ وأصحابه على رأس ميل منهم أو ميلين، ونزل أصحابه فصلوا الظهر، وأقاموا رجلين ربيئةً، وأقاموا مكانهم حتى صلوا العصر. ثم إن فتىً جاءهم بكتاب معقل بن قيس إلى أبي الرواغ، وكان أهل القرى وعابرو السبيل يمرون عليهم ويرونهم يقتتلون، فمن مضى منهم على الطريق نحو الوجه الذي يأتي من قبله معقل استقبل معقلًا فأخبره بالتقاء أصحابه والخوارج، فيقول: كيف رأيتموهم يصنعون؟ فيقولون: رأينا الحرورية تطرد أصحابك، فيقول: أما رأيتم أصحابي يعطفون عليهم ويقاتلونهم؟ فيقولون: بلى، يعطفون عليهم وينهزمون: فقال: إن كان ظني بأبي الرواغ صادقًا لا يقدم عليكم منهزمًا أبدًا. ثم وقف عليهم، فدعا محرز بن شهاب بن بجير بن سفيان بن خالد بن منقر التميمي فقال له: تخلف في ضعفة الناس، ثم سر بهم على مهل، حتى تقدم بهم علي، ثم ناد في أهل القوة: ليتعجل كل ذي قوة معي، اعجلوا إلى إخوانكم، فإنهم قد لاقوا عدوهم، وإني لأرجو أن يهلكهم الله قبل أن تصلوا إليهم. قال: فاستجمع من أهل القوة والشجاعة وأهل الخيل الجياد نحو من سبعمائة، وسار فأسرع، فلما دنا من أبي الرواغ قال أبو الرواغ: هذه غبرة الخيل، تقدموا بنا إلى عدونا حتى يقدم علينا الجند، ونحن منهم قريب، فلا يرون أننا تنحينا عنهم ولا هبناهم. قال: فاستقدم أبو الرواغ حتى وقف مقابل المستورد وأصحابه، وغشيهم معقل في أصحابه، فلما دنا منهم غربت الشمس، فنزل فصلى بأصحابه، ونزل أبو الرواغ فصلى بأصحابه في جانب آخر، وصلى الخوارج أيضًا. ثم إن معقل بن قيس أقبل بأصحابه في جانب آخر، وصلى الخوارج أيضًا. ثم إن معقل بن قيس أقبل بأصحابه حتى إذا دنا من أبي الرواغ دعاه فأتاه، فقال له: أحسنت يا أبا الرواغ! هكذا الظن بك، الصبر والمحافظة. فقال: أصلحك الله! إن لهم شدات منكراتٍ، فلا تكن أنت تليها بنفسك، ولكن قدم بين يديك من يقاتلهم، وكن أنت من وراء الناس ردءًا لهم؛ فقال: نعم ما رأيت! فوالله ما كان إلا ريثما قالها حتى شدوا عليه وعلى أصحابه، فلما غشوه انجفل عنه عامة أصحابه، وثبت ونزل، وقال: الأرض الأرض يا أهل الإسلام! ونزل معه أبو الرواغ الشاكري وناسٌ كثيرٌ من الفرسان وأهل الحفاظ نحو مائتي رجل، فلما غشيهم المستورد وأصحابه استقبلوهم بالرماح والسيوف، وانجفلت خيل معقل عنه ساعة، ثم ناداهم مسكين بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عداس - وكان يومئذ من أشجع الناس وأشدهم بأسًا - فقال: يا أهل الإسلام، أين الفرار، وقد نزل أميركم! ألا تستحيون! إن الفرار مخزاةٌ وعار ولؤم، ثم كر راجعًا، ورجعت معه خيلٌ عظيمة، فشدوا عليهم ومعقل بن قيس يضاربهم تحت رايته مع ناس نزلوا معه من أهل الصبر، فضربوهم حتى اضطروهم إلى البيوت، ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى جاءهم محرز بن شهاب فيمن تخلف من الناس، فلما أتوهم أنزلهم ثم صف لهم، وجعل ميمنةً وميسرة، فجعل أبا الرواغ على ميمنته ومحرز بن بجير بن سفيان على ميسرته ومسكين بن عامر على الخيل، ثم قال لهم: لا تبرحوا مصافكم حتى تصبحوا، فإذا أصبحتم ثرنا إليهم فناجزناهم، فوقف الناس مواقفهم على مصافهم. قال ابن مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: لما انتهى إلينا معقل بن قيس قال لنا المستورد: لا تدعوا معقلًا حتى يعبي لكم الخيل والرجل، شدوا عليهم شدةً صادقةً، لعل الله يصرعه فيها. قال: فشددنا عليهم شدة صادقة، فانكشفوا فانفضوا ثم انجفلوا ووثب معقل عن فرسه حين رأى إدبار اصحابه عنه. فرفع رايته، ونزل معه ناس من أصحابه، فقاتلوا طويلًا، فصبروا لنا، ثم إنهم تداعوا علينا، فعطفوا علينا من كل جانب، فانحزنا حتى جعلنا البيوت في ظهورنا، وقد قاتلناهم طويلًا، وكانت بيننا جراحةٌ وقتلٌ يسير. قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه أن عمير بن أبي أشاءة الأزدي قتل يومئذ، وكان فيمن نزل مع معقل بن قيس، وكان رئيسًا. قال: وكنت أنا فيمن نزل معه، فوالله ما أنسى قول عمير بن أبي أشاءة ونحن نقتتل وهو يضاربهم بسيفه قدمًا: قد علمت أني إذا ما أقشعوا ** عني والتاث اللئام الوضع أحوس عند الروع ندبٌ أروع وقاتل قتالًا شديدًا ما رأيت أحدًا قاتل مثله، فجرح رجالًا كثيرًا، وقتل وما أدري أنه قتل، ما عدا واحدًا وقد علمت أنه اعتنقه، فخر على صدره فذبحه، فما حز رأسه حتى حمل عليه رجلٌ منهم فطعنه بالرمح في ثغرة نحره، فخر عن صدره، وانجدل ميتًا، وشددنا عليهم، وحزناهم إلى القرية، ثم انصرفنا إلى معركتنا، فأتيته وأنا أرجو أن يكون به رمق، فإذا هو قد فاظ، فرجعت إلى أصحابي فوقفت فيهم. قال ابن مخنف: وحدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: إنا لمتواقفون أول الليل إذ أتانا رجل كنا بعثناه أول الليل، وكان بعض من يمر الطريق قد أخبرنا أن جيشًا قد أقبل إلينا من البصرة، فلم نكترث، وقلنا لرجل من أهل الأرض وجعلنا له جعلًا، اذهب فاعلم هل أتانا من قبل البصرة جيش؟ فجاء ونحن مواقفو أهل الكوفة، وقال لنا: نعم، قد جاءكم شريك بن الأعور، وقد استقبلت طائفة على رأس فرسخ عند الأولى، ولا أرى القوم إلا نازلين بكم الليلة، أو مصبحيكم غدوة. فأسقط في أيدينا. وقال المستورد لأصحابه: ماذا ترون؟ قلنا: نرى ما رأيت، قال: فإني لا أرى أن أقيم لهؤلاء جميعًا، ولكن نرجع إلى الوجه الذي جئنا منه، فإن أهل البصرة لا يتبعونا إلى أرض الكوفة، ولا يتبعنا حينئذ إلا أهل مصرنا، فقلنا له: ولم ذاك؟ فقال: قتال أهل مصرٍ واحد أهون علينا من قتال أهل المصرين؛ قالوا: سر بنا حيث أحببت، قال: فانزلوا عن ظهور دوابكم فأريحوا ساعة، وأقضموها، ثم انظروا ما آمركم به؛ قال: فنزلنا عنها، فأقضمناها؛ قال: وبيننا وبينهم حينئذ ساعة قد ارتفعوا عن القرية مخافة أن نبيتهم؛ قال: فلما أرحناها وأقضمناها أمرنا فاستوينا على متونها، ثم قال: ادخلوا القرية، ثم اخرجوا من ورائها، وانطلقوا معكم بلعجٍ يأخذ بكم من ورائها، ثم يعود بكم حتى يردكم إلى الطريق الذي منه أقبلتم، ودعوا هؤلاء مكانهم، فإنهم لم يشعروا بكم عامة الليل، أو حتى تصبحوا. قال: فدخلنا القرية وأخذنا علجًا، ثم خرجنا به أمامنا، فقلنا: خذ بنا من وراء هذا الصف حتى نعود إلى الطريق الذي منه أقبلنا. ففعل ذلك، فجاء بنا حتى أقامنا على الطريق الذي منه أقبلنا، فلزمناه راجعين، ثم أقبلنا حتى نزلنا جرجرايا. قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن الحارث، قال: إني أول من فطن لذهابهم؛ قال: فقلت: أصلحك الله! لقد رابني أمر هذا العدو منذ ساعة طويلة، إنهم كانوا مواقفين نرى سوادهم، ثم لقد خفي علي ذلك السواد منذ ساعة، وإني لخائف أن يكونوا زالوا من مكانهم ليكيدوا الناس؛ فقال: وما تخاف أن يكون من كيدهم؟ قلت: أخاف أن يبيتوا الناس، قال، والله ما آمن ذلك؛ قال: فقلت له: فاستعد لذلك، قال: كما أنت حتى أنظر. يا عتاب، انطلق فيمن أحببت حتى تدنو من القرية فتنظر هل ترى منهم أحدًا أو تسمع لهم ركزا! وسل أهل القرية عنهم. فخرج في خمس الغزاة يركض حتى نظر القرية فأخذ لا يرى أحدًا يكلمه، وصاح بأهل القرية، فخرج إليه منهم ناسٌ، فسألهم عنهم، فقالوا: خرجوا فلا ندري كيف ذهبوا! فرجع إليه عتاب فأخبره الخبر، فقال معقل: لا آمن البيات، فأين مضر؟ فجاءت مضر فقال: قفوا ها هنا، وقال: أين ربيعة؟ فجعل ربيعة في وجه وتميمًا في وجه وهمدان في وجه، وبقية أهل اليمن في وجه آخر، وكان كل ربع من هؤلاء في وجه وظهره مما يلي ظهر الربع الآخر، وجال فيهم معقل حتى لم يدع ربعًا إلا وقف عليه، وقال: أيها الناس، لو أتوكم فبدؤا بغيركم فقاتلوهم فلا تبرحوا أنتم مكانكم أبدًا حتى يأتيكم أمري، وليغن كل رجل منكم الوجه الذي هو فيه، حتى نصبح فنرى رأينا. فمكثوا متحارسين يخافون بياتهم حتى أصبحوا، فلما أصبحوا نزلوا فصلوا، وأتوا فأخبروا أن القوم قد رجعوا في الطريق الذي أقبلوا منه عودهم على بدئهم، وجاء شريك بن الأعور في جيش من أهل البصرة حتى نزلوا بمعقل بن قيس فلقيه، فتساءلا ساعة، ثم إن معقلًا قال لشريك: أنا متبع آثارهم حتى ألحقهم لعل الله أن يهلكهم، فإني لا آمن إن قصرت في طلبهم أن يكثروا. فقام شريك فجمع رجالًا من وجوه أصحابه، فيهم خالد بن معدان الطائي وبيهس بن صهيب الجرمي، فقال لهم: يا هؤلاء، هل لكم في خير؟ هل لكم في أن تسيروا مع إخواننا من أهل الكوفة في طلب هذا العدو الذي هو عدو لنا ولهم حتى يستأصلهم الله ثم نرجع؟ فقال خالد بن معدان وبيهس الجرمي: لا والله، لا نفعل، إنما أقبلنا نحوهم لننفيهم عن أرضنا، ونمنعهم من دخولها، فإن كفانا الله مؤنتهم فإنا منصرفون إلى مصرنا، وفي أهل الكوفة من يمنعون بلادهم من هؤلاء الأكلب؛ فقال لهم: ويحكم! أطيعوني فيهم، فإنهم قوم سوء، لكم في قتالهم أجرٌ وحظوة عند السلطان، فقال له بيهس الجرمي: نحن والله إذًا كما قال أخو بني كنانة: كمرضعةٍ أولاد أخرى وضيعت ** بنيها فلم ترقع بذلك مرقعا أما بلغك أن الأكراد قد كفروا بجبال فارس! قال: قد بلغني، قال: فتأمرنا أن ننطلق معك نحمي بلاد أهل الكوفة، ونقاتل عدوهم، ونترك بلادنا، فقال له: وما الأكراد! إنما يكفيهم طائفة منكم؛ فقال له: وهذا العدو الذي تندبنا إليه إنما يكفيه طائفة من أهل الكوفة، إنهم لعمري لو اضطروا إلى نصرتنا لكان علينا نصرتهم، ولكنهم لم يحتاجوا إلينا بعد، وفي بلادنا فتقٌ مثل الفتق الذي في بلادهم، فليغنوا ما قبلهم، وعلينا أن نغني ما قبلنا، ولعمري لو أنا أطعناك في اتباعهم فاتبعتهم كنت قد اجترأت على أميرك، وفعلت ما كان ينبغي لك أن تطلع فيه رأيه، ما كان ليحتملها لك. فلما رأى ذلك قال لأصحابه: سيروا فارتحلوا، وجاء حتى لقي معقلًا - وكانا متحابين على رأي الشيعة متوادين عليه - فقال: أما والله لقد جهدت بمن معي أن يتبعوني حتى أسير معكم إلى عدوكم فغلبوني، فقال له معقل: جزاك الله من أخ خيرًا! إنا لم نحتج إلى ذلك، أما والله إني أرجو أن لو قد جهدوا لا يفلت منهم مخبر. قال ابن مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن أبي أمامة عبيد الله ابن جنادة، عن شريك بن الأعور، قال: حدثنا بهذا الحديث شريك ابن الأعور. قال: فلما قال: والله إني لأرجو أن لو جهدوا لا يفلت منهم مخبر، كرهتها والله له، وأشفقت عليه، وحسبت أن يكون شبه كلام البغي؛ قال: وايم الله ما كان من أهل البغي. قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن الحارث الأزدي، قال: لما أتانا أن المستورد بن علفة وأصحابه قد رجعوا عن طريقهم سررنا بذلك، وقلنا: نتبعهم ونستقبلهم بالمدائن، وإن دنوا من الكوفة كان أهلك لهم؛ ودعا معقل بن قيس أبا الرواغ فقال له: اتبعه في أصحابك الذين كانوا معك حتى تحبسه علي حتى ألحقك؛ فقال له: زدني منهم فإنه أقوى لي عليهم إن هم أرادوا مناجزتي قبل قدومك، فإنا كنا قد لقينا منهم برحا، فزاده ثلثمائة، فاتبعهم في ستمائة، وأقبلوا سراعًا حتى نزلوا جرجرايا، وأقبل أبو الرواغ في إثرهم مسرعًا حتى لحقهم بجرجرايا، وقد نزلوا، فنزل بهم عند طلوع الشمس، فلما نظروا إذا هم بأبي الرواغ في المقدمة، فقال بعضهم لبعض: إن قتالكم هؤلاء أهون من قتال من يأتي بعدهم. قال: فخرجوا إلينا، فأخذوا يخرجون لنا العشرة فرسان منهم والعشرين فارسًا، فنخرج لهم مثلهم، فتطارد الخيلان ساعةً ينتصف بعضنا من بعض، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فشدوا علينا شدةً واحدة صدقوا فيها الحملة. قال: فصرفونا حتى تركنا لهم العرصة. ثم إن أبا الرواغ نادى فيهم، فقال: يا فرسان السوء، يا حماة السوء، بئس ما قاتلتم القوم! إلي إلي! فعالج نحوًا من مائة فارس، فعطف عليهم، وهو يقول: إن الفتى كل الفتى من لم يهل ** إذا الجبان حاد عن وقع الأسل قد علمت أني إذا الباس نزل ** أروع يوم الهيج مقدامٌ بطل ثم عطف عليهم فقاتلهم طويلًا، ثم عطف أصحابه من كل جانب، فصدقوهم القتال حتى ردوهم إلى مكانهم الذي كانوا فيه، فلما رأى ذلك المستورد وأصحابه ظنوا أن معقلًا إن جاءهم على تفئة ذلك لم يكن دون قتله لهم شيء؛ فمضى هو وأصحابه حتى قطعوا دجلة، ووقعوا في أرض بهرسير، وقطع أبو الرواغ في آثارهم فاتبعهم، وجاء معقل بن قيس فاتبع إثر أبي الرواغ، فقطع في إثره دجلة، ومضى المستورد نحو المدينة العتيقة، وبلغ ذلك سماك بن عبيد، فخرج حتى عبر إليها، ثم خرج بأصحابه وبأهل المدائن، فصف على بابها، وأجلس رجالًا رماةً على السور، فبلغهم ذلك، فانصرفوا حتى نزلوا ساباط، وأقبل أبو الرواغ في طلب القوم حتى مر بسماك ابن عبيد بالمدائن، فخبره بوجههم الذي أخذوا فيه، فاتبعهم حتى نزل بهم ساباط. قال ابن مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: لما نزل بنا أبو الرواغ دعا المستورد أصحابه، فقال: إن هؤلاء الذين نزلوا بكم مع أبي الرواغ هم حر أصحاب معقل، ولا والله ما قدم إليكم إلا حماته وفرسانه، والله لو أعلم أني إذا بادرت أصحابه هؤلاء إليه أدركته قبل أن يفارقوه بساعة لبادرتهم إليه، فليخرج منكم خارج فيسأل عن معقل أين هو؟ وأين بلغ؟ قال: فخرجت أنا فاستقبلت علوجًا أقبلوا من المدائن، فقلت لهم: ما بلغكم عن معقل بن قيس؟ قالوا: جاء فيج لسماك بن عبيد من قبله كان سرحه ليستقبل معقلًا فينظر أين انتهى؟ وأين يريد أن ينزل؟ فجاءه فقال: تركته نزل ديلمايا - وهي قرية من قرى إستان بهرسير إلى جانب دجلة، كانت لقدامة بن العجلان الأزدي - قال: له: كم بيننا وبينهم من هذا المكان؟ قالوا: ثلاثة فراسخ، أو نحو ذلك. قال: فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، فقال لأصحابه: اركبوا، فركبوا، فأقبل حتى انتهى بهم إلى جسر ساباط - وهو جسر نهر الملك، وهو من جانبه الذي يلي الكوفة - وأبو الرواغ وأصحابه مما يلي المدائن، قال: فجئنا حتى وقفنا على الجسر، قال: ثم قال لنا: لتنزل طائفةٌ منكم: قال: فنزل منا نحوٌ من خمسين رجلًا، فقال: اقطعوا هذا الجسر، فنزلنا فقطعناه، قال: فلما رأونا وقوفًا على الخيل ظنوا أنا نريد أن نعبر إليهم؛ قال: فصفوا لنا، وتعبوا، واشتغلوا بذلك عنا في قطعنا الجسر. ثم إنا أخذنا من أهل ساباط دليلًا فقلنا له: احضر بين أيدينا حتى ننتهي إلى ديلمايا، فخرج بين أيدينا يسعى، وخرجنا تلمع بنا خيلنا، فكان الخبب والوجيف، فما كان إلا ساعة حتى أطللنا على معقل وأصحابه وهم يتحملون، فما هو إلا أن بصر بنا وقد تفرق أصحابه عنه، ومقدمته ليست عنده، وأصحابه قد استقدم طائفةً منهم، وطائفة تزحل، وهم غارون لا يشعرون. فلما رآنا نصب رايته، ونزل ونادى: يا عباد الله، الأرض الأرض! فنزل معه نحو من مائتي رجل؛ قال: فأخذنا نحمل عليهم فيستقبلونا بأطراف الرماح جثاةً على الركب فلا نقدر عليهم. فقال لنا المستورد: دعوا هؤلاء إذا نزلوا وشدوا على خيلهم حتى تحولوا بينها وبينهم، فإنكم إن أصبتم خيلهم فإنهم لكم عن ساعة جزرٌ؛ قال: فشددنا على خيلهم، فحلنا بينهم وبينها، وقطعنا أعنتها، وقد كانوا قرنوها، فذهبت في كل جانب؛ قال: ثم ملنا على الناس المتزحلين والمتقدمين، فحملنا عليهم حتى فرقنا بينهم، ثم أقبلنا إلى معقل بن قيس وأصحابه جثاة على الركب على حالهم التي كانوا عليها، فحملنا عليهم، فلم يتحلحلوا، ثم حملنا عليهم أخرى، ففعلوا مثلها، فقال لنا المستورد: نازلوهم، لينزل إليهم نصفكم، فنزل نصفنا، وبقي نصفنا معه على الخيل، وكنت في أصحاب الخيل، قال: فلما نزل إليهم رجالتنا قاتلتهم، وأخذنا نحمل عليهم بالخيل، وطمعنا والله فيهم. قال: فوالله إنا لنقاتلهم ونحن نرى أن قد علوناهم إذ طلعت علينا مقدمة أصحاب أبي الرواغ، وهم حر أصحابه وفرسانهم، فلما دنوا منا حملوا علينا، فعند ذلك نزلنا بأجمعنا فقاتلناهم حتى أصيب صاحبنا وصاحبهم. قال: فما علمته نجا منهم يومئذ أحدٌ غيري. قال: وإني أحدثهم رجلًا فيما أرى. قال ابن مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي، قال: وحدثنا بهذا الحديث مرتين من الزمن، مرة في إمارة مصعب ابن الزبير بباجميرا، ومرةً ونحن مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بدير الجماجم. قال: فقتل والله يومئذ بدير الجماجم يوم الهزيمة، وإنه لمقبل عليهم يضاربهم بسيفه وأنا أراه؛ قال: فقلت له بدير الجماجم: إنك قد حدثتني بهذا الحديث بباجميرا مع مصعب بن الزبير، فلم أسألك كيف نجوت من بين أصحابك؟ قال: أحدثك، والله إن صاحبنا لما أصيب قتل أصحابه إلا خمسة نفر أو ستة؛ قال: فشددنا على جماعة من أصحابه نحو من عشرين رجلًا، فانكشفوا. قال: وانتهيت إلى فرس واقف عليه سرجه ولجامه، وما أدري ما قصة صاحبه أقتل أم نزل عنه صاحبه يقاتل وتركه! قال: فأقبلت حتى أخذت بلجامه، وأضع رجلي في الركاب وأتسوي عليه. قال: وشد والله أصحابه علي، فانتهوا إلي، وغمزت في جنب الفرس، فإذا هو والله أجود ما سخر، وركض منهم ناس في أثري فلم يعلقوا بي، فأقبلت أركض الفرس، وذلك عند المساء، فلما علمت أني قد فتهم وأمنت، أخذت أسير عليه خببًا وتقريبًا. ثم إني سرت عليه بذلك من سيره، ولقيت علجًا فقلت له: اسع بين يدي حتى تخرجني الطريق الأعظم، طريق الكوفة؛ ففعل، فوالله ما كانت إلا ساعة حتى انتهيت إلى كوثى، فجئت حتى انتهيت إلى مكان من النهر واسع عريض، فأقحمت الفرس فيه، فعبرته، ثم أقبلت عليه حتى آتي دير كعب، فنزلت فعقلت فرسي وأرحته وهومت تهويمة، ثم إني هببت سريعًا، فحلت في ظهر الفرس، ثم سرت في قطع من الليل فاتخذت بقية الليل جملًا، فصليت الغداة بالمزاحمية على رأس فرسخين من قبين، ثم أقبلت حتى أدخل الكوفة حين متع الضحى، فآتي من ساعتي شريك بن نملة المحاربي، فأخبرته خبري وخبر أصحابه، وسألته أن يلقى المغيرة بن شعبة فيأخذ لي منه أمانًا، فقال لي: قد أصبت الأمان إن شاء الله، وقد جئت ببشارة، والله لقد بت الليلة وإن أمر الناس ليهمني. قال: فخرج شريك بن نملة المحاربي حتى أتى المغيرة مسرعًا فاستأذن عليه، فأذن له، فقال: إن عندي بشرى، ولي حاجة، فاقض حاجتي حتى أبشرك ببشارتي، فقال له: قضيت حاجتك، فهات بشراك؛ قال: تؤمن عبد الله بن عقبة الغنوي، فإنه كان مع القوم، قال: قد آمنته، والله لوددت أنك أتيتني بهم كلهم فآمنتهم. قال: فأبشر، فإن القوم كلهم قد قتلوا، كان صاحبي مع القوم، ولم ينج منهم فيما حدثني غيره. قال: فما فعل معقل بن قيس؟ قال: أصلحك الله! ليس له بأصحابنا علم. قال: فما فرغ من منطقة حتى قدم عليه أبو الرواغ ومسكين بن عامر بن أنيف مبشرين بالفتح، فأخبروا أن معقل بن قيس والمستورد بن علفة مشى كل واحد منهما إلى صاحبه، بيد المستورد الرمح وبيد معقل السيف، فالتقيا، فأشرع المستورد الرمح في صدر معقل حتى خرج السنان من ظهره، فضربه معقل بالسيف على رأسه حتى خالط السيف أم الدماغ، فخرا ميتين. قال ابن مخنف: حدثني حصيرة بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما رأينا المستورد بن علفة وقد نزلنا به ساباط أقبل إلى الجسر فقطعه، كنا نظن أنه يريد أن يعبر إلينا. قال: فارتفعنا عن مظلم ساباط إلى الصحراء التي بين المدائن وساباط فتعبأنا وتهيأنا، فطال علينا أن نراهم يخرجون إلينا. قال: فقال أبو الرواغ: إن لهؤلاء لشأنًا، ألا رجل يعلم لنا علم هؤلاء؟ فقلت: أنا ووهيب بن أبي أشاءة الأزدي: نحن نعلم لك علم ذلك، ونأتيك بخبرهم، فقربنا على فرسينا إلى الجسر فوجدناه مقطوعًا، فظننا القوم لم يقطعوه إلا هيبةً لنا ورعبًا منا، فرجعنا نركض سراعًا حتى انتهينا إلى صاحبنا، فأخبرناه بما رأينا، فقال: ما ظنكم؟ قال: فقلنا: لم يقطعوا الجسر إلا لهيبتنا ولما أدخل الله في قلوبهم من الرعب منا. قال: لعمري ما خرج القوم وهم يريدون الفرار، ولكن القوم قد كادوكم، أتسمعون! والله ما أراهم إلا قالوا: إن معقلًا لم يبعث إليكم أبا الرواغ إلا في حر أصحابه، فإن استطعتم فاتركوا هؤلاء بمكانهم هذا، وجدوا في السير نحو معقل وأصحابه، فإنكم تجدونهم غارين آمنين إن تأتوهم؛ فقطعوا الجسر لكيما يشغلوكم به عن لحاقكم إياهم حتى يأتوا أميركم على غرة، النجاء النجاء في الطلب! قال: فوقع في أنفسنا أن الذي قال لنا كما قال. قال: فصحنا بأهل القرية؛ قال: فجاءوا سراعًا: فقلنا لهم: عجلوا عقد الجسر، واستحثناهم فما لبثوا أن فرغوا منه، ثم عبرنا عليه، فاتبعناهم سراعًا ما نلوي على شيء، فلزمنا آثارهم، فوالله ما زلنا نسأل عنهم، فيقال: هم الآن أمامكم، لحقتموهم، ما أقربكم منهم، فوالله ما زلنا في طلبهم حرصًا على لحاقهم حتى كان أول من استقبلنا من الناس فلهم وهم منهزمون لا يلوي أحدٌ على أحد. فاستقبلهم أبو الرواغ، ثم صاح بالناس: إلي إلي؛ فأقبل الناس إليه، فلاذوا به، فقال: ويلكم! ما وراءكم؟ فقالوا: لا ندري، لم يرعنا إلا والقوم معنا في عسكرنا ونحن متفرقون، فشدوا علينا، ففرقوا بيننا، قال: فما فعل الأمير؟ فقائل يقول: نزل وهو يقاتل؛ وقائل يقول: ما نراه إلا قتل؛ فقال لهم: أيها الناس، ارجعوا معي، فإن ندرك أميرنا حيًا نقاتل معه، وإن نجده قد هلك قاتلناهم، فنحن فرسان أهل المصر المنتخبون لهذا العدو، فلا يفسدن فيكم رأي أميركم بالمصر، ولا رأى أهل المصر، وايم الله لا ينبغي لكم إن عاينتموه وقد قتلوا معقلًا أن تفارقوهم حتى تبيروهم أو تباروا، سيروا على بركة الله. فساروا وسرنا، فأخذ لا يستقبل أحدًا من الناس إلا صاح به ورده، ونادى وجوه أصحابه وقال: اضربوا وجوه الناس وردوه. قال: فأقبلنا نرد الناس حتى انتهينا إلى العسكر، فإذا نحن براية معقل بن قيس منصوبة، فإذا معه مائتا رجل أو أكثر فرسان الناس ووجوههم ليس فيهم إلا راجل، وإذا هم يقتتلون أشد قتال سمع الناس به، فلما طلعنا عليهم إذا نحن بالخوارج قد كادوا يعلون أصحابنا، وإذا أصحابنا على ذلك صابرون يجالدونهم، فلما رأونا كروا ثم شدوا على الخوارج، فارتفعت الخوارج عنهم غير بعيد، وانتهينا إليهم، فنظر أبو الرواغ إلى معقل فإذا هو مستقدم يذمر أصحابه ويحرضهم، فقال له: أحيٌّ أنت فداك عمي وخالي! قال: نعم؛ فشد القوم، فنادى أبو الرواغ أصحابه: ألا ترون أميركم حيًا، شدوا على القوم، قال: فحمل وحملنا على القوم بأجمعنا؛ قال: فصدمنا خيلهم صدمةً منكرة، وشد عليهم معقل وأصحابه، فنزل المستورد، وصاح بأصحابه: يا معشر الشراة، الأرض الأرض، فإنها والله الجنة! والذي لا إله غيره لمن قتل صادق النية في جهاد هؤلاء الظلمة وجلاحهم، فتنازلوا من عند آخرهم، فنزلنا من عند آخرنا، ثم مضينا إليه منصلتين بالسيوف، فاضطربنا بها طويلًا من النهار كأشد قتال اقتتله الناس قط، غير أن المستورد نادى معقلًا فقال: يا معقل، ابرز لي، فخرج إليه معقل، فقلنا له: ننشدك أن تخرج إلى هذا الكلب الذي قد آيسه الله من نفسه! قال: لا والله لا يدعوني رجل إلى مبارزة أبدًا فأكون أنا الناكل؛ فمشى إليه بالسيف، وخرج الآخر إليه بالرمح، فناديناه أن القه برمح مثل رمحه، فأبى، وأقبل عليه المستورد فطعنه حتى خرج سنان الرمح من ظهره، وضربه معقلٌ بالسيف حتى خالط سيفه أم الدماغ، فوقع ميتًا، وقتل معقل، وقال لنا حين برز إليه: إن هلكت فأميركم عمرو بن محرز بن شهاب السعدي ثم المنقري: قال: فلما هلك معقل أخذ الراية عمرو بن محرز، وقال عمرو: إن قتلت فعليكم أبو الرواغ، فإن قتل أبو الرواغ فأميركم مسكين بن عامر بن أنيف، وإنه يومئذ لفتىً حدث، ثم شد برايته، وأمر الناس أن يشدوا عليهم؛ فما لبثوهم أن قتلوهم. هلك معقل أخذ الراية عمرو بن محرز، وقال عمرو: إن قتلت فعليكم أبو الرواغ، فإن قتل أبو الرواغ فأميركم مسكين بن عامر بن أنيف، وإنه يومئذ لفتىً حدث، ثم شد برايته، وأمر الناس أن يشدوا عليهم؛ فما لبثوهم أن قتلوهم. ذكر ولاية عبد الله بن خازم خراسان ومما كان في هذه السنة تولية عبد الله بن عامر عبد الله بن خازم بن ظبيان خراسان وانصراف قيس بن الهيثم عنه، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر أبو مخنف عن مقاتل بن حيان - أن ابن عامر استبطأ قيس بن الهيثم بالخراج، فأراد أن يعزله، فقال له ابن خازم: ولني خراسان فأكفيكها وأكفيك قيس بن الهيثم. فكتب له عهده أو هم بذلك، فبلغ قيسًا أن ابن عامر وجد عليه، وإمساكه عن الهدية، وأنه قد ولي ابن خازم، فخاف ابن خازم أن يشاغبه ويحاسبه، فترك خراسان، وأقبل فازداد عليه ابن عامر غضبًا، وقال: ضيعت الثغر! فضربه وحبسه، وبعث رجلًا من بني يشكر على خراسان. قال ابن مخنف: بعث ابن عامر أسلم بن زرعة الكلابي حين عزل قيس ابن الهيثم؛ قال علي بن محمد: أخبرنا أبو عبد الرحمن الثقفي، عن أشياخه، أن ابن عامر استعمل قيس بن الهيثم على خراسان أيام معاوية، فقال له ابن خازم: إنك وجهت إلى خراسان رجلًا ضعيفًا، وإني أخاف إن لقي حربًا أن ينهزم بالناس، فتهلك خراسان، وتفتضح أخوالك. قال ابن عامر: فما الرأي؟ قال: تكتب لي عهدًا: إن هو انصرف عن عدوك قمت مقامه. فكتب له، فجاشت جماعةٌ من طخارستان، فشاور قيس ابن الهيثم فأشار عليه ابن خازم أن ينصرف حتى يجتمع إليه أطرافه؛ فانصرف، فلما سار من مكانه مرحلةً أو مرحلتين أخرج ابن خازم عهده، وقام بأمر الناس، ولقي العدو فهزمهم، وبلغ الخبر المصرين والشأم فغضب القيسية وقالوا: خدع قيسًا وابن عامر؛ فأكثروا في ذلك حتى شكوا إلى معاوية، فبعث إليه فقدم، فاعتذر مما قيل فيه؛ فقال له معاوية: قم فاعتذر إلى الناس غدًا؛ فرجع ابن خازم إلى أصحابه فقال: إني قد أمرت بالخطبة، ولست بصاحب كلام، فاجلسوا حول المنبر، فإذا تكلمت فصدقوني، فقام من الغد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنما يتكلف الخطبة إمامٌ لا يجد منها بدًا، أو أحمق يهمر من رأسه لا يبالي ما خرج منه، ولست بواحد منهما؛ وقد علم من عرفني أني بصير بالفرس وثاب عليها، وقاف عند المهالك، أنفذ بالسرية، وأقسم بالسوية؛ أنشدكم بالله من كان يعرف ذلك مني لما صدقني! قال أصحابه حول المنبر: صدقت؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك ممن نشدت فقل بما تعلم؛ قال: صدقت. قال علي: أخبرنا شيخٌ من بني تميم يقال له معمر، عن بعض أهل العلم أن قيس بن الهيثم قدم على ابن عامر من خراسان مراغمًا لابن خازم، قال: فضربه ابن عامر مائةً وحلقه وحبسه، قال: فطلبت إليه أمه، فأخرجه. وحج بالناس في هذه السنة - فيما قيل - مروان بن الحكم، وكان على المدينة، وكان على مكة خالد بن العاص بن هشام، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة وفارس وسجستان وخراسان عبد الله بن عامر، وعلى قضائها عمير بن يثربي. ثم دخلت سنة أربع وأربعين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك دخول المسلمين مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بلاد الروم ومشتاهم بها، وغزو بسر بن أبي أرطاة البحر. عزل عبد الله بن عامر عن البصرة وفي هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة. ذكر الخبر عن سبب عزله كان سبب ذلك أن ابن عامر كان رجلًا لينًا كريمًا، لا يأخذ على أيدي السفهاء، ففسدت البصرة بسبب ذلك أيام عمله بها لمعاوية فحدثني عمر بن شبة، قال: أخبرنا يزيد الباهلي، قال: شكا ابن عامر إلى زياد فساد الناس وظهور الخبث، فقال: جرد فيهم السيف، فقال: إني أكره أن أصلحهم بفساد نفسي. حدثني عمر، قال: قال أبو الحسن: كان ابن عامر لينًا سهلًا، سهل الولاية، لا يعاقب في سلطانه، ولا يقطع لصًا، فقيل له في ذلك؛ فقال: أنا أتألف الناس، فكيف أنظر إلى رجل قد قطعت أباه وأخاه! حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا مسلمة بن محارب، قال: وفد ابن الكواء، واسم ابن الكواء عبد الله بن أبي أوفى إلى معاوية، فسأله عن الناس، فقال ابن الكواء: أما أهل البصرة فقد غلب عليها سفهاؤها، وعاملها ضعيف، فبلغ ابن عامر قول ابن الكواء، فاستعمل طفيل ابن عوف اليشكري على خراسان، وكان الذي بينه وبين ابن الكواء متباعدًا، فقال ابن الكواء: إن ابن دجاجة لقليل العلمفي، أظن أن ولاية طفيل خراسان تسوءني! لوددت أنه لم يبق في الأرض يشكريٌّ إلا عاداني، وأنه ولاهم. فعزل معاوية ابن عامر، وبعث الحارث بن عبد الله الأزدي. قال: وقال القحذمي: قال ابن عامر: أي الناس أشد عداوةً لابن الكواء؟ قالوا: عبد الله بن أبي شيخ، فولاه خراسان؛ فقال ابن الكواء ما قال. وذكر عن عمر، عن أبي الحسن، عن شيخ من ثقيف وابي عبد الرحمن الإصبهاني، أن ابن عامر أوفد إلى معاوية وفدًا، فوافقوا عنده وفد أهل الكوفة، وفيهم ابن الكواء اليشكري، فسألهم معاوية عن العراق وعن أهل البصرة خاصة؛ فقال له ابن الكواء: يا أمير المؤمنين، إن أهل البصرة أكلهم سفهاؤهم، وضعف عنهم سلطانهم، وعجز ابن عامر وضعفه. فقال له معاوية: تكلم عن أهل البصرة وهم حضور! فلما انصرف الوفد إلى البصرة بلغوا ابن عامر ذلك، فغضب، فقال: أي أهل العراق أشد عداوةً لابن الكواء! فقيل له: عبد الله بن أبي شيخ اليشكري، فولاه خراسان، وبلغ ابن الكواء ذلك فقال ما قال. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: لما ضعف ابن عامر عن عمله، وانتشر الأمر بالبصرة عليه، كتب إليه معاوية يستزيره، قال عمر: فحدثني أبو الحسن أن ذلك كان في سنة أربع وأربعين، وأنه استخلف على البصرة قيس ابن الهيثم، فقدم على معاوية، فرده على عمله، فلما ودعه قال له معاوية: إني سائلك ثلاثًا، فقل: هن لك. قال: هن لك وأنا ابن أم حكيم، قال: ترد علي عملي. ولا تغضب، قال: قد فعلت؛ قال: وتهب لي مالك بعرفة؛ قال: قد فعلت. قال: وتهب لي دورك بمكة؛ قال: قد فعلت، قال: وصلتك رحم! قال: فقال ابن عامر: يا أمير المؤمنين، إني سائلك ثلاثًا فقل: هن لك؛ قال: هن لك وأنا ابن هند؛ قال: ترد علي مالي بعرفة، قال: قد فعلت، قال: ولا تحاسب لي عاملًا، ولا تتبع لي أثرًا. قال: قد فعلت، قال: وتنكحني ابنتك هندًا؛ قال: قد فعلت. قال: ويقال: إن معاوية قال له: اختر بين أن أتتبع أثرك وأحاسبك بما صار إليك، وأردك إلى عملك، وبين أن أسوغك ما أصبت، وتعتزل، فاختار أن يسوغه ذلك ويعتزل. استلحاق معاوية نسب زياد ابن سمية بأبيه وفي هذه السنة استلحق معاوية نسب زياد بن سمية بأبيه أبي سفيان فيما قيل. حدثني عمر بن شبة، قال: زعموا أن رجلًا من عبد القيس كان مع زياد لما وفد على معاوية، فقال لزياد: إن لابن عامر عندي يدًا، فإن أذنت لي أتيته، قال: على أن تحدثني ما يجري بينك وبينه؛ قال: نعم، فأذن له فأتاه، فقال له ابن عامر: هيه هيه! وابن سمية يقبح آثاري، ويعرض بعمالي! لقد هممت أن آتي بقسامة من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم ير سمية؛ قال: فلما رجع سأله زياد، فأبى أن يخبره، فلم يدعه حتى أخبره، فأخبر ذلك زيادٌ معاوية، فقال معاوية لحاجبه: إذا جاء ابن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب، ففعل ذلك به، فأتى ابن عامر يزيد، فشكا إليه ذلك، فقال له: هل ذكرت زيادًا؟ قال: نعم، فركب معه يزيد حتى أدخله، فلما نظر إليه معاوية قام فدخل، فقال يزيد لابن عامر: اجلس فكم عسى أن تقعد في البيت عن مجلسه! فلما أطالا خرج معاوية وفي يده قضيبٌ يضرب به الأبواب، ويتمثل: لنا سياقٌ ولكم سياق ** قد علمت ذلكم الرفاق ثم قعد فقال: يابن عامر، أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب أني كنت أعزها في الجاهلية، وإن الإسلام لم يزدني إلا عزًا، وأني لم أتكثر بزيادٍ من قلة، ولم أتعزز به من ذلة، ولكن عرفت حقًا له فوضعته موضعه، فقال: يا أمير المؤمنين، نرجع إلى ما يحب زياد، قال: إذًا نرجع إلى ما تحب؛ فخرج ابن عامر إلى زياد فترضاه. حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا عمرو بن هاشم، عن عمر بن بشير الهمداني، عن أبي إسحاق، أن زيادًا لما قدم الكوفة، قال: قد جئتكم في أمرٍ ما طلبته إلا إليكم، قالوا: ادعنا إلى ما شئت، قال: تلحقون نسبي بمعاوية؛ قالوا: أما بشهادة الزور فلا؛ فأتى البصرة، فشهد له رجل. وحج بالناس في هذه السنة معاوية. وفيها عمل مروان المقصورة، وعملها - أيضًا فيما ذكر - معاوية بالشأم. وكانت العمال في الأمصار فيها العمال الذين ذكرنا قبل أنهم كانوا العمال في سنة ثلاث وأربعين. ثم دخلت سنة خمس وأربعين ذكر الأحداث المذكورة التي كانت فيها فمن ذلك استعمال معاوية الحارث بن عبد الله الأزدي فيها على البصرة. فحدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: عزل معاوية ابن عامر وولى الحارث بن عبد الله الأزدي البصرة في أول سنة خمس وأربعين، فأقام بالبصرة أربعة أشهر، ثم عزله. قال: وقد قيل: هو الحارث بن عمرو وابن عبد عمرو، وكان من أهل الشأم، وكان معاوية عزل ابن عامر ليولي زيادًا، فولى الحارث كالفرس المحلل، فولى الحارث شرطته عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي، ثم عزله معاوية وولاها زيادًا. ذكر الخبر عن ولاية زياد البصرة حدثني عمر، قال: حدثنا عليٌّ، قال: حدثنا بعض أهل العلم أن زيادًا لما قدم الكوفة ظن المغيرة أنه قدم واليًا على الكوفة، فأقام زياد في دار سلمان بن ربيعة الباهلي، فأرسل إليه المغيرة وائل بن حجر الحضرمي أبا هنيدة، وقال له: اعلم لي علمه. فأتاه فلم يقدر منه على شيء، فخرج من عنده يريد المغيرة، وكان زاجرًا، فرأى غرابًا ينعق، فرجع إلى زياد فقال: يا أبا المغيرة، هذا الغراب يرحلك عن الكوفة. ثم رجع إلى المغيرة، وقدم رسول معاوية على زياد من يومه: أن سر إلى البصرة. وأما عبد الله بن أحمد المروزي فحدثني، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن إسحاق - يعني ابن يحيى - عن معبد بن خالد الجدلي، قال: قدم علينا زيادٌ - الذي يقال له ابن أبي سفيان - من عند معاوية، فنزل دار سلمان بن ربيعة الباهلي ينتظر أمر معاوية. قال: فبلغ المغيرة بن شعبة - وهو أميرٌ على الكوفة - أن زيادًا ينتظر أن تجيء إمارته على الكوفة، فدعا قطن بن عبد الله الحارثي فقال: هل فيك من خير؟ تكفيني الكوفة حتى آتيك من عند أمير المؤمنين؛ قال: ما أنا بصاحب ذا، فدعا عتيبة بن النهاس العجلي، فعرض عليه فقبل، فخرج المغيرة إلى معاوية، فلما قدم عليه سأله أن يعزله، وأن يقطع له منازل بقرقيسيا بين ظهري قيس، فلما سمع بذلك معاوية خاف بائقته، وقال: والله لترجعن إلى عملك يا أبا عبد الله. فأبى عليه، فلم يزده ذلك إلا تهمة، فرده إلى عمله، فطرقنا ليلًا، وإني لفوق القصر أحرسه، فلما قرع الباب أنكرناه، فلما خاف أن ندلي عليه حجرًا تسمى لنا، فنزلت إليه فرحبت له وسلمت، فتمثل: بمثلي فافزعي يا أم عمرٍو ** إذا ما هاجني السفر النعور اذهب إلى ابن سمية فرحله حتى لا يصبح إلا من وراء الجسر. فخرجنا فأتينا زيادًا، فأخرجناه حتى طرحناه من وراء الجسر قبل أن يصبح. فحدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا مسلمة والهذلي وغيرهما أن معاوية استعمل زيادًا على البصرة وخراسان وسجستان، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان، وقدم البصرة في آخر شهر ربيع الآخر - أو غرة جمادى الأولى - سنة خمس، والفسق بالبصرة ظاهر، فاشٍ، فخطب خطبةً بتراء لم يحمد الله فيها، وقيل: بل حمد الله فقال: الحمد لله على إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيد من نعمه، اللهم كما رزقتنا نعمًا، فألهمنا شكرًا على نعمتك علينا. أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والفجر الموقد لأهله النار، الباقي عليهم سعيرها، ما يأتي سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى منها الكبير، كأن لم تسمعوا بآي الله، ولم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمد الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به؛ من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة، في النهر المبصر، والعدد غير قليل! ألم تكن منكم نهاةٌ تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار! قربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتغطون على المختلس، كل امرىءٍ منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عقابًا، ولا يرجو معادًا. ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كنوسًا في مكانس الريب. حرم علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، لينٌ في غير ضعف، وشدة في غير جبرية وعنف. وإني اقسم بالله لآخذن الولي بالولي، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة المنبر تبقى مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، وإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في واعلموا أن عندي أمثالها من بيت منكم فأنا ضامنٌ لما ذهب له. إياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إلي. وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أجد أحدًا ادعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قومًا غرقته، ومن حرق على قوم حرقناه، ومن نقب بيتًا نقبت عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفنته فيه حيًا؛ فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي، لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنًا فليزدد إحسانًا، ومن كان مسيئًا فلينزع عن إساءته. إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعًا، ولم أهتك له سترًا، حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل لم أناظره؛ فاستأنفوا أموركم، وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئسٍ بقدومنا سيسر، ومسرورٍ بقدومنا سيبتئس. أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسةً، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم. واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقًا بليل؛ ولا حابسًا رزقًا ولا عطاءً عن إبانه، ولا مجمرًا لكم بعثًا. فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى تصلحوا يصلحوا. ولا تشربوا قلوبكم بغضهم، فيشتد لذلك غيظكم، ويطول له حزنكم، ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم كان شرًا لكم. أسأل الله أن يعين كلًا على كل؛ وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على أذلاله، وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرىءٍ منكم أن يكون من صرعاي. قال: فقام عبد الله بن الأهتم فقال: أشهد أيها الأمير أنك قد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود عليه السلام. قال الأحنف: قد قلت فأحسنت أيها الأمير، والثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلى؛ فقال زياد: صدقت. فقام أبو بلال مرداس بن أدية يهمس وهو يقول: أنبأ الله بغير ما قلت، قال الله عز وجل: " وإبراهيم الذي وفى، ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى "؛ فأوعدنا الله خيرًا مما واعدت يا زياد، فقال زياد: إنا لا نجد إلى ما تريد أنت وأصحابك سبيلًا حتى نخوض إليها الدماء. حدثني عمر، قال: حدثنا خلاد بن يزيد، قال: سمعت من يخبر عن الشعبي، قال: ما سمعت متكلمًا قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفًا أن يسيء إلا زيادًا، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلامًا. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن مسلمة، قال: استعمل زيادٌ على شرطته عبد الله بن حصن، فأمهل الناس حتى بلغ الخبر الكوفة، وعاد إليه وصول الخبر إلى الكوفة، وكان يؤخر العشاء حتى يكون آخر من يصلي ثم يصلي؛ يأمر رجلًا فيقرأ سورة البقرة، ومثلها، يرتل القرآن، فإذا فرغ أمهل بقدر ما يرى أن إنسانًا يبلغ الخريبة، ثم يأمر صاحب شرطته بالخروج، فيخرج ولا يرى إنسانًا إلا قتله. قال: فأخذ ليلةً أعرابيًا، فأتى به زيادًا فقال: هل سمعت النداء؟ قال: لا والله، قدمت بحلوبة لي، وغشيني الليل، فاضطررتها إلى موضع، فأقمت لأصبح، ولا علم لي بما كان من الأمير. قال: أظنك والله صادقًا، ولكن في قتلك صلاح هذه الأمة؛ ثم أمر به فضربت عنقه. وكان زياد أول من شد أمر السلطان، وأكد الملك لمعاوية، وألزم الناس الطاعة، وتقدم في العقوبة، وجرد السيف، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة، وخافه الناس في سلطانه خوفًا شديدًا، حتى أمن الناس بعضهم بعضًا، حتى كان الشيء يسقط من الرجل أو المرأة فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه، وتبيت المرأة فلا تغلق عليها بابها، وساس الناس سياسةً لم ير مثلها، وهابه الناس هيبةً لم يهابوها أحدًا قبله، وأدر العطاء، وبنى مدينة الرزق. قال: وسمع زياد جرسًا من دار عمير، فقال: ما هذا؟ فقيل: محترس. قال: فليكف عن هذا، أنا ضامنٌ لما ذهب له، ما أصاب من إصطخر. قال: وجعل زياد الشرط أربعة آلاف، عليهم عبد الله بن حصن، أحد بني عبيد بن ثعلبة صاحب مقبرة ابن حصن، والجعد بن قيس النميري صاحب طاق الجعد، وكانا جميعًا على شرطه، فبينا زياد يومًا يسير وهما بين يديه يسيران بحربتين، تنازعا بين يديه، فقال زياد: يا جعد، ألق الحربة، فألقاها، وثبت ابن حصن على شرطه حتى مات زياد. وقيل: إنه ولي الجعد أمر الفساق، وكان يتتبعهم؛ وقيل لزياد: إن السبل مخوفة؛ فقال: لا أعاني شيئًا سوى المصر حتى أغلب على المصر وأصلحه، فإن غلبني المصر فغيره أشد غلبة؛ فلما ضبط المصر تكلف ما سوى ذلك فأحكمه. وكان يقول: لو ضاع حبلٌ بيني وبين خراسان علمت من أخذه. وكت خمسمائة من مشيخة أهل البصرة في صحابته، فرزقهم ما بين الثلثمائة إلى الخمسمائة، فقال فيه حارثة بن بدر الغداني: ألا من مبلغٌ عني زيادًا ** فنعم أخو الخليفة والأمير! فأنت إمام معدلةٍ وقصدٍ ** وحزمٍ حين تحضرك الأمور أخوك خليفة الله ابن حربٍ ** وأنت وزيره، نعم الوير! تصيب على الهوى منه وتأتي ** محبك ما يجن لنا الضمير بأمر الله منصورٌ معانٌ ** إذا جار الرعية لا تجور يدر على يديك لما أرادوا ** من الدنيا لهم حلبٌ غزير وتقسم بالسواء فلا غنيٌّ ** لضيمٍ يشتكيك ولا فقير تقاسمت الرجال به هواها ** فما تخفي ضغائنها الصدور وخاف الحاضرون وكل بادٍ ** يقيم على المخافة أو يسير فلما قام سيف الله فيهم ** زيادٌ قام أبلج مستنير قويٌّ لا من الحدثان غرٌّ ** ولا جزعٌ ولا فانٍ كبير حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: استعان زيادٌ بعدةٍ من أصحاب النبي ﷺ، منهم عمران بن الحصين الخزاعي ولاه قضاء البصرة، والحكم بن عمرو الغفاري ولاه خراسان، وسمرة ابن جندب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة؛ فاستعفاه عمران فأعفاه. واستقضى عبد الله بن فضالة الليثي، ثم أخاه عاصم بن فضالة، ثم زرارة بن أوفى الحرشي، وكانت أخته لبابة عند زياد. وقيل: إن زيادًا أول من سير بين يديه بالحراب، ومشى بين يديه بالعمد، واتخذ الحرس رابطة خمسمائة، واستعمل عليهم شيبان صاحب مقبرة شيبان، من بني سعد، فكانوا لا يبرحون المسجد. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: جعل زيادٌ خراسان أرباعًا، واستعمل على مرو أمير بن أحمر اليشكري، وعلى أبرشهر خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى مرو الروذ والفارياب والطالقان قيس بن الهيثم، وعلى هراة وباذغيس وقادس وبوشنج نافع بن خالد الطاحي. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا مسلمة بن محارب وابن أبي عمرو؛ شيخ من الأزد، أن زيادًا عتب على نافع بن خالد الطاحي، فحبسه، وكتب عليه كتابًا بمائة ألف، وقال بعضهم: ثمانمائة ألف، وكان سبب موجدته عليه أنه بعث بخوان بازهر قوائمه منه، فأخذ نافع قائمة، وجعل مكانها قائمة من ذهب، وبعث بالخوان إلى زياد مع غلام له يقال له زيد، كان قيمه على أمره كله، فسعى زيدٌ بنافع، وقال لزياد: إنه قد خانك، وأخذ قائمةً من قوائم الخوان، وجعل مكانها قائمة من ذهب، قال: فمشى رجال من وجوه الأزد إلى زياد، فيهم سيف بن وهب المعولي، وكان شريفًا، وله يقول الشاعر: اعمد بسيفٍ للسماحة والندى ** واعمد بصبرة للفعال الأعظم قال: فدخلوا على زياد وهو يستاك، فتمثل زيادٌ حين رآهم: اذكر بنا موقف أفراسنا ** بالحنو إذ أنت إلينا فقير قال: وأما الأزد فيقولون: بل تمثل سيف بن وهب أبو طلحة المعولي بهذا البيت حين دخل على زياد، فقال: نعم. قال: وإنما ذكره أيام أجاره صبرة، فدعا زياد بالكتاب فمحاه بسواكه وأخرج نافعًا. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي، عن مسلمة، أن زيادًا عزل نافع بن خالد الطاحي وخليد بن عبد الله الحنفي وأمير بن أحمر اليشكري، فاستعمل الحكم بن عمرو بن مجدع بن حذيم بن الحارث بن نعيلة بن مليك - ونعيلة أخو غفار بن مليك - ولكنهم قليل، فصاروا إلى غفار. قال مسلمة: أمر زيادٌ حاجبه فقال: ادع لي الحكم - وهو يريد الحكم ابن أبي العاص الثقفي - فخرج الحاجب فرأى الحكم بن عمرو الغفاري فأدخله، فقال: زيادٌ: رجل له شرف وله صحبةٌ من رسول الله ﷺ، فعقد له على خراسان، ثم قال له: ما أردتك، ولكن الله عز وجل أرادك. حدثني عمر قال: حدثنا علي قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن الثقفي ومحمد بن الفضل، عن أبيه؛ أن زيادًا لما ولي العراق استعمل الحكم بن عمرو الغفاري على خراسان، وجعل معه رجالًا على كورٍ، وأمرهم بطاعته، فكانوا على جباية الخراج، وهم أسلم بن زرعة، وخليد بن عبد الله الحنفي، ونافع بن خالد الطاحي، وربيعة بن عسل اليربوعي، وأمير بن أحمر اليشكري، وحاتم بن النعمان الباهلي؛ فمات الحكم بن عمرو، وكان قد غزا طخارستان، فغنم غنائم كثيرة، واستخلف أنس بن أبي أناس بن زنيم، وكان كتب إلى زياد: إني قد رضيته لله وللمسلمين ولك، فقال زياد: اللهم إني لا أرضاه لدينك ولا للمسلمين ولا لي. وكتب زيادٌ إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان، ثم بعث الربيع بن زياد الحارثي إلى خراسان في خمسين ألفًا؛ من البصرة خمسة وعشرين ألفًا، ومن الكوفة خمسةً وعشرين ألفًا، على أهل البصرة الربيع، وعلى أهل الكوفة عبد الله ابن أبي عقيل، وعلى الجماعة الربيع بن زياد. وقيل: حج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم وهو على المدينة، وكانت الولاة والعمال على الأمصار في هذه السنة من تقدم ذكره قبل؛ المغيرة ابن شعبة على الكوفة، وشريح على القضاء بها، وزياد على البصرة، والعمال من قد سميت قبل. وفي هذه السنة كان مشتى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بأرض الروم. ثم دخلت سنة ست وأربعين ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك مشتى مالك بن عبد الله بأرض الروم، وقيل: بل كان ذلك عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وقيل بل كان مالك بن هبيرة السكوني. خبر انصراف عبد الرحمن بن خالد إلى حمص وهلاكه وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص، فدس ابن أثال النصراني إليه شربةً مسمومةً - فيما قيل - فشربها فقتلته. ذكر الخبر عن سبب هلاكه وكان السبب في ذلك ما حدثني عمر، قال: حدثني علي، عن مسلمة ابن محارب؛ أن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشأم، ومال إليه أهلها، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه، حتى خافه معاوية، وخشي على نفسه منه، لميل الناس إليه، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله، وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن بن خالد حمص منصرفًا من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربةً مسمومةً مع بعض مماليكه، فشربها فمات بحمص، فوفى له معاوية بما ضمن له، وولاه خراج حمص، ووضع عنه خراجه. قال: وقدم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المدينة، فجلس يومًا إلى عروة بن الزبير، فسلم عليه، فقال له عروة: من أنت؟ قال: أنا خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد؛ فقال له عروة: ما فعل ابن أثال؟ فقام خالد من عنده، وشخص متوجهًا إلى حمص، ثم رصد بها ابن أثال، فرآه يومًا راكبًا، فاعترض له خالد بن عبد الرحمن، فضربه بالسيف، فقتله، فرفع إلى معاوية، فحبسه أيامًا، وأغرمه ديته، ولم يقده منه. ورجع خالدٌ إلى المدينة، فلما رجع إليها أتى عروة فسلم عليه، فقال له عروة: ما فعل ابن أثال؟ فقال: قد كفيتك ابن أثال، ولكن ما فعل ابن جرموز؟ فسكت عروة. وقال خالد بن عبد الرحمن حين ضرب ابن أثال: أنا ابن سيف الله فاعرفوني ** لم يبق إلا حسبي وديني وصارمٌ صل به يميني ذكر خروج سهم والخطيم وفيها خرج الخُطيم وسهم بن غالب الهجيمي، فحكما، وكان من أمرهما ما حدثني به عمر، قال: حدثنا علي، قال: لما ولي زياد خافه سهم ابن غالب الهجيمي والخطيم - وهو يزيد بن مالك الباهلي - فأما سهم فخرج إلى الأهواز فأحدث وحكم، ثم رجع فاختفى وطلب الأمان، فلم يؤمنه زياد، وطلبه حتى أخذه وقتله وصلبه على بابه. وأما الخطيم فإن زيادًا سيره إلى البحرين، ثم أذن له فقدم، فقال له: الزم مصرك؛ وقال لمسلم ابن عمرو: اضمنه؛ فأبى وقال: إن بات عن بيته أعلمتك. ثم أتاه مسلم فقال: لم يبت الخطيم الليلة في بيته، فأمر به فقتل، وألقي في باهلة. وحج بالناس في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان. وكان العمال والولاة فيها العمال والولاة في السنة التي قبلها. ثم دخلت سنة سبع وأربعين ذكر الأحداث التي كانت فيها ففيها كان مشتى مالك بن هبيرة بأرض الروم، ومشتى أبي عبد الرحمن القيني بأنطاكية. ذكر عزل عبد الله بن عمرو عن مصر وولاية ابن خديج وفيها عزل عبد الله بن عمرو بن العاص عن مصر، ووليها معاوية ابن حديج، وسار - فيما ذكر الواقدي - في المغرب، وكان عثمانيًا. قال: ومر به عبد الرحمن بن أبي بكر وقد جاء من الإسكندرية، فقال له: يا معاوية، قد لعمري أخذت من معاوية جزاءك، قتلت محمد بن أبي بكر لأن تلي مصر، فقد وليتها. قال: ما قتلت محمد بن أبي بكر إلا بما صنع بعثمان؛ فقال عبد الرحمن: فلو كنت إنما تطلب بدم عثمان لم تشرك معاوية فيما صنع حيث صنع عمرو بن العاص بالأشعري ما صنع، فوثبت أول الناس فبايعته. ذكر غزو الغور وقال بعض أهل السير: وفي هذه السنة وجه زياد الحكم بن عمرو الغفاري إلى خراسان أميرًا، فغزا جبال الغور وفراونده، فقهرهم بالسيف عنوةً ففتحها، وأصاب فيها مغانم كثيرة وسبايا؛ وسأذكر من خالف هذا القول بعد إن شاء الله تعالى. وذكر قائل هذا القول أن الحكم بن عمرو قفل من غزوته هذه، واختلفوا فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي: أقام الحج في هذه السنة عتبة بن أبي سفيان. وقال غيره: بل الذي حج في هذه السنة عنبسة بن أبي سفيان. وكانت الولاة والعمال على الأمصار الذين ذكرت أنهم كانوا العمال والولاة في السنة التي قبلها. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ذكر الأحداث التي كانت فيها وكان فيها مشتى أبي عبد الرحمن القيني أنطاكية، وصائفة عبد الله ابن قيس الفزاري وغزوة مالك بن هبيرة السكوني البحر، وغزوة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر البحر، وبأهل المدينة، وعلى أهل المدينة المنذر بن الزهير، وعلى جميعهم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. وقال بعضهم: فيها وجه زيادٌ غالب بن فضالة الليثي على خراسان، وكانت له صحبةٌ من رسول الله ﷺ. وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم في قول عامة أهل السير، وهو يتوقع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه، وارتجاعه منه فدك، وقد كان وهبها له. وكانت ولاة الأمصار وعمالها في هذه السنة الذين كانوا في السنة التي قبلها. ثم دخلت سنة تسع وأربعين ذكر ما كان فيها من الأحداث فكان فيها مشتى مالك بن هبيرة السكوني بأرض الروم. وفيها كانت غزوة فضالة بن عبيد جربة، وشتا بجربة، وفتحت على يديه، وأصاب فيها سبيًا كثيرًا. وفيها كانت صائفة عبد الله بن كرز البجلي. وفيها كانت غزوة يزيد بن شجرة الرهاوي في البحر، فشتا بأهل الشأم. وفيها كانت غزوة عقبة بن نافع البحر، فشتا بأهل مصر. وفيها كانت غزوة يزيد بن معاوية الروم حتى بلغ قسطنطينية، ومعه ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري. وفيها عزل معاوية مروان بن الحكم عن المدينة في شهر ربيع الأول. وأمر فيها سعيد بن العاص على المدينة في شهر ربيع الآخر؛ وقيل في شهر ربيع الأول. وكانت ولاية مروان كلها بالمدينة لمعاوية ثمان سنين وشهرين. وكان على قضاء المدينة لمروان - فيما زعم الواقدي - حين عزل عبد الله بن الحارث بن نوفل، فلما ولي سعيد بن العاص عزله عن القضاء، واستقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. وقيل: في هذه السنة وقع الطاعون بالكوفة، فهرب المغيرة بن شعبة من الطاعون، فلما ارتفع الطاعون قيل له: لو رجعت إلى الكوفة! فقدمها فطعن فمات؛ وقد قيل: مات المغيرة سنة خمسين، وضم معاوية الكوفة إلى زياد، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة. وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص. وكانت الولاة والعمال في هذه السنة التي قبلها، إلا عامل الكوفة فإن في تاريخ هلاك المغيرة اختلافًا، فقال: بعض أهل السير: كان هلاكه في سنة تسع وأربعين؛ وقال بعضهم: في سنة خمسين. ثم دخلت سنة خمسين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها كانت غزوة بسر بن أبي أرطاة وسفيان بن عوف الأزدي أرض الروم. وقيل: كانت فيها غزوة فضالة بن عبيد الأنصاري البحر. ذكر وفاة المغيرة بن شعبة وولاية زياد الكوفة وفيها - في قول الواقدي والمدائني - كانت وفاة المغيرة بن شعبة. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن أبي موسى الثقفي، عن أبيه، قال: كان المغيرة بن شعبة رجلًا طوالًا، مصاب العين، أصيب باليرموك، توفي في شعبان سنة خمسين وهو ابن سبعين سنة. وأما عوانة فإنه قال - فيما حدثت عن هشام بن محمد، عنه: هلك المغيرة سنة إحدى وخمسين. وقال بعضهم: بل هلك سنة تسع وأربعين. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن محمد، قال: كان زيادٌ على البصرة وأعمالها إلى سنة خمسين، فمات المغيرة بن شعبة بالكوفة وهو أميرها، فكتب معاوية إلى زياد بعهده على الكوفة والبصرة، فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة، فاستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وشخص إلى الكوفة، فكان زياد يقيم ستة أشهر بالكوفة، وستة أشهر بالبصرة. حدثني عمر، قال: حدثني علي، عن مسلمة بن محارب، قال: لما مات المغيرة جمعت العراق لزياد، فأتى الكوفة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة، فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة البصرة، ثم ذكرت أنكم أهل حق، وأن حقكم طالما دفع الباطل، فأتيتكم في أهل بيتي، فالحمد لله الذي رفع مني ما وضع الناس، وحفظ مني ما ضيعوا.. حتى فرغ من الخطبة، فصحب على المنبر، فجلس حتى أمسكوا، ثم دعا قومًا من خاصته، وأمرهم، فأخذوا أبواب المسجد، ثم قال: ليأخذ لك رجل منكم جليسه، ولا يقولن: لا أدري من جليسي؟ ثم أمر بكرسي فوضع له على باب المسجد، فدعاهم أربعةً أربعةً يحلفون بالله ما منا من حصبك، فمن حلف خلاه، ومن لم يحلف حبسه وعزله، حتى صار إلى ثلاثين، ويقال: بل كانوا ثمانين، فقطع أيديهم على المكان. قال الشعبي: فوالله ما تعلقنا عليه بكذبة، وما وعدنا خيرًا ولا شرًا إلا أنفذه. حدثني عمر قال: حدثنا علي، عن سلمة بن عثمان، قال: بلغني عن الشعبي أنه قال: أول رجل قتله زيادٌ بالكوفة أوفى بن حصن، بلغه عنه شيء فطلبه فهرب، فعرض الناس زياد، فمر به، فقال: من هذا؟ قالوا أوفى بن حصن الطائي؛ فقال زياد: أتتك بحائن رجلاه، فقال أوفى: إن زيادًا أبا المغيرة لا ** يعجل والناس فيهم عجله خفتك والله فاعلمن حلفي ** خوف الحفافيث صولة الأصلة فجئت إذ ضاقت البلاد فلم ** يكن عليها لخائفٍ وأله قال: ما رأيك في عثمان؟ قال ختن رسول الله ﷺ على ابنتيه، ولم أنكره، ولي محصور رأي، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: جواد حليم؛ قال: فما تقول في؟ قال: بلغني أنك قلت بالبصرة: والله لآخذن البريء بالسقيم، والمقبل بالمدبر؛ قال: قد قلت ذاك، قال: خبطتها عشواء؛ قال زياد: ليس النافخ بشر الزمرة، فقتله؛ فقال عبد الله بن همام السلولي: خيب الله سعي أوفى بن حصنٍ ** حين أضحى فروجة الرقاء قاده الحين والشقاء إلى لي ** ث عرينٍ وحيةٍ صماء قال: ولما قدم زياد الكوفة أتاه عمارة بن عقبة بن أبي معيط، فقال: إن عمرو بن الحمق يجتمع إليه من شيعة أبي تراب، فقال له عمرو بن حريث: ما يدعوك إلى رفع ما لا تيقنه ولا تدري ما عاقبته! فقال زياد: كلاكما لم يصب، أنت حيث تكلمني في هذا علانيةً وعمرو حين يردك عن كلامك، قوما إلى عمرو بن الحمق فقولا له: ما هذه الزرافات التي تجتمع عندك! من أرادك أو أردت كلامه ففي المسجد. قال: ويقال: إن الذي رفع على عمرو بن الحمق وقال له: قد أنغل المصرين، يزيد بن رويم، فقال عمرو بن الحريث: ما كان قط أقبل على ما ينفعه منه اليوم؛ فقال زياد ليزيد بن رويم: أما أنت فقد أشطت بدمه، وأما عرمو فقد حقن دمه، ولو علمت أن مخ ساقه قد سال من بغضي ماهجته حتى يخرج علي. واتخذ زيادٌ المقصورة حين حصبه أهل الكوفة. وولى زياد حين شخص من البصرة إلى الكوفة سمرة بن جندب. فحدثني عمر، قال: حدثني إسحاق بن إدريس، قال: حدثني محمد ابن سليم قال: سألت أنس بن سيرين: هل كان سمرة قتل أحدًا؟ قال: وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب! استخلفه زيادٌ على البصرة، وأتى الكوفة، فجاء وقد قتل ثمانية آلافٍ من الناس، فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدًا بريئًا؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت - أو كما قال. حدثني عمر، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا نوح بن قيس، عن أشعث الحداني، عن أبي سوار العدوي، قال: قتل سمرة من قومي في غداةٍ سبعة وأربعين رجلًا قد جمع القرآن. حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، عن جعفر الصدفي، عن عوف، قال: أقبل سمرة من المدينة، فلما كان عند دور بني أسد خرج رجل من بعض أزقتهم، ففجأ أوائل الخيل، فحمل عليه رجلٌ من القوم فأوجره الحربة. قال: ثم مضت الخيل، فأتى عليه سمرة بن جندب، وهو متشحط في دمه، فقال: ما هذا؟ قيل: اصابته أوائل خيل الأمير؛ قال: إذا سمعتم بنا قد ركبنا فاتقوا أسنتنا. خروج قريب وزحاف حدثني عمر قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا غسان بن مضر، عن سعيد بن زيد، قال: خرج قريب وزحاف، وزياد بالكوفة، وسمرة بالبصرة، فخرجا ليلًا، فنزلا بني يشكر، وهم سبعون رجلًا، وذلك في رمضان، فأتوا بني ضبيعة وهم سبعون رجلًا، فمروا بشيخ منهم يقال له حكام، فقال حين رآهم: مرحبًا بأبي الشعثاء! فرآه ابن حصين فقتلوه، وتفرقوا في مساجد الأزد، وأتت فرقةٌ منهم رحبة بني علي، وفرقة مسجد المعادل، فخرج عليهم سيف بن وهب في أصحاب له، فقتل من أتاه، وخرج على قريب وزحاف شبابٌ من بني علي وشبابٌ من بني راسب، فرموهم بالنبل. قال قريب: هل في القوم عبد الله بن أوس الطاحي؟ وكان يناضله؛ قيل: نعم؛ قال: فهلم إلى البراز؛ فقتله عبد الله وجاء برأسه، وأقبل زيادٌ من الكوفة فجعل يؤنبه، ثم قال: يا معشر طاحية، لولا أنكم أصبتم في القوم لنفيتكم إلى السجن. قال: وكان قريب من إياد، وزحاف من طيىء، وكانا ابني خالة، وكانا أول من خرج بعد أهل النهر. قال غسان: سمعت سعيدًا يقول: إن أبا بلال قال: قريب لا قربه الله، وايم الله لأن أقع من السماء أحب إلي من أن أصنع ما صنع - يعني الاستعراض. حدثني عمر، قال: حدثنا زهير، قال: حدثني وهب، قال: حدثني أبي أن زيادًا اشتد في أمر الحرورية بعد قريب وزحاف، فقتلهم وأمر سمرة بذلك، وكان يستخلفه على البصرة إذا خرج إلى الكوفة، فقتل سمرة منهم بشرًا كثيرًا. حدثني عمر، قال: حدثنا أبو عبيدة، قال: قال زياد يومئذ على المنبر: يا أهل البصرة، والله لتكفني هؤلاء أو لأبدأن بكم، والله لئن أفلت منهم رجلٌ لا تأخذون العام من عطائكم درهمًا، قال: فثار الناس بهم فقتلوهم. ذكر إرادة معاوية نقل المنبر إلى المدينة قال محمد بن عمر: وفي هذه السنة أمر معاوية بمنبر رسول الله ﷺ، أن يحمل إلى الشأم، فحرك، فكسفت الشمس حتى رئيت النجوم باديةً يومئذ، فأعظم الناس ذلك، فقال: لم أرد حمله، إنما خفت أن يكون قد أرض، فنظرت إليه. ثم كساه يومئذ. وذكر محمد بن عمر، أنه حدثه بذلك خالد بن القاسم، عن شعيب بن عمرو الأموي. قال محمد بن عمر: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: قال معاوية: إني رأيت أن منبر رسول الله ﷺ وعصاه لا يتركان بالمدينة، وهم قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصا وهي عند سعد القرظ، فجاءه أبو هريرة وجابر بن عبد الله، فقالا: يا أمير المؤمنين؛ نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، فإن هذا لا يصلح، تخرج منبر رسول الله ﷺ من موضع وضعه، وتخرج عصاه إلى الشأم؛ فانقل المسجد؛ فأقصر وزاد فيه ست درجات، فهو اليوم ثماني درجات، واعتذر إلى الناس مما صنع. قال محمد بن عمر: وحدثني سويد بن عبد العزيز، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن قبيصة بن ذؤيب، قال: كان عبد الملك قد هم بالمنبر، فقال له قبيصة بن ذؤيب: أذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا، وأن تحوله! إن أمير المؤمنين معاوية حركه فكسفت الشمس، وقال رسول الله ﷺ: " من حلف على منبري آثمًا فليتبوأ مقعده من النار "، فتخرجه من المدينة وهو مقطع الحقوق بينهم بالمدينة! فأقصر عبد الملك عن ذلك، وكف عن أن يذكره. فلما كان الوليد وحج هم بذلك وقال: خبراني عنه، وما أراني إلا سأفعل: فأرسل سعيد بن المسيب إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: كلم صاحبك يتق الله عز وجل ولا يتعرض لله سبحانه ولسخطه، فكلمه عمر بن عبد العزيز، فأقصر وكف عن ذكره، فلما حج سليمان بن عبد الملك أخبره عمر بن عبد العزيز بما كان الوليد هم به وإرسال سعيد بن المسيب إليه، فقال سليمان: ما كنت أحب أن يذكر هذا عن أمير المؤمنين عبد الملك ولا عن الوليد، هذا مكابرة، وما لنا ولهذا! أخذنا الدنيا فهي في أيدينا، ونريد أن نعمد إلى علم من أعلام الإسلام يوفد إليه، فنحمله إلى ما قبلنا! هذا ما لا يصلح. وفيها عزل معاوية بن حديج عن مصر وولى مسلمة بن مخلد مصر وإفريقية، وكان معاوية بن أبي سفيان قد بعث قبل أن يولي مسلمة مصر وإفريقية عقبة بن نافع الفهري إلى إفريقية، فافتتحها، واختط قيروانها، وكان موضعه غيضةً - فيما زعم محمد بن عمر - لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الداب. فدعا الله عز وجل عليها فلم يبق منها شيء إلا خرج هاربًا، حتى إن السباع كانت تحمل أولادها. قال محمد بن عمر: حدثني موسى بن علي، عن أبيه، قال: نادى عقبة بن نافع: إنا نازلونا ** فاظعنوا عزينا فخرجن من جحرتهن هوارب. قال: وحدثني المفضل بن فضالة، عن زيد بن أبي حبيب، عن رجل من جند مصر، قال: قدمنا مع عقبة بن نافع، وهو أول الناس اختطها وأقطعها للناس مساكن ودورًا، وبنى مسجدها. فأقمنا معه حتى عزل، وهو خير والٍ وخير أمير. ثم عزل معاوية في هذه السنة - أعني سنة خمسين - معاوية بن حديج عن مصر، وعقبة بن نافع عن إفريقية، وولى مسلمة بن مخلد مصر والمغرب كله، فهو أول من جمع له المغرب كله ومصر وبرقة وإفريقية وطرابلس، فولى مسلمة بن مخلد مولىً له يقال له: أبو المهاجر أفريقية، وعزل عقبة ابن نافع، وكشفه عن أشياء، فلم يزل واليًا على مصر والمغرب، وأبو المهاجر على إفريقية من قبله حتى هلك معاوية بن أبي سفيان. وفي هذه السنة مات أبو موسى الأشعري، وقد قيل: كانت وفاة أبي موسى سنة اثنتين وخمسين. واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال بعضهم: حج بهم معاوية، وقال بعضهم: بل حج بهم ابنه يزيد، وكان الوالي في هذه السنة على المدينة سعيد بن العاص، وعلى البصرة والكوفة والمشرق وسجستان وفارس والسند والهند زياد. ذكر هرب الفرزدق من زياد وفي هذه السنة طلب زيادٌ الفرزدق، واستعدت عليه بنو نهشل وفقيم، فهرب منه إلى سعيد بن العاص - وهو يومئذ والي المدينة من قبل معاوية - مستجيرًا به، فأجاره. ذكر الخبر عن ذلك حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو عبيدة وأبو الحسن المدائني وغيرهما، أن الفرزدق لما هجا بني نهشل وبني فقيم. لم يزد أبو زيد في إسناد خبره على ما ذكرت؛ وأما محمد بن علي فإنه حدثني عن محمد بن سعد، عن أبي عبيدة، قال: حدثني أعين بن لبطة بن الفرزدق، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما هاجيت الأشهب بن رميلة والبعيث فسقطا، استعدت علي بنو نهشل وبنو فقيم زياد بن أبي سفيان. وزعم غيره أن يزيد بن مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمي بن جندل بن نهشل استعدى أيضًا عليه. فقال أعين: فلم يعرفه زياد حتى قيل له: الغلام الأعرابي الذي أنهب ورقه وألقى ثيابه؛ فعرفه. قال أبو عبيدة: أخبرني أعين بن لبطة، قال: أخبرني أبي، عن أبيه، قال: بعثني أبي غالبٌ في عير له وجلبٍ أبيعه وأمتار له وأشتري لأهله كسًا، فقدمت البصرة، فبعت الجلب، فأخذت ثمنه فجعلته في ثوبي أزاوله، إذ عرض لي رجل أراه كأنه شيطان، فقال: لشد ما تستوثق منها! فقلت: وما يمنعني! قال: أما لو كان مكانك رجل أعرفه ما صبر عليها؛ فقلت: وما هو؟ قال: غالب بن صعصعة؛ قال: فدعوت أهل المربد فقلت: دونكموها - ونثرتها عليهم - فقال لي قائل: ألق رداءك يابن غالب، فألقيته. وقال آخر: ألق قميصك؛ فألقيته، وقال آخر: ألق عمامتك فألقيتها حتى بقيت في إزارٍ، فقالوا: ألق إزارك، فقلت: لن ألقيه وأمشي مجردًا، إني لست بمجنون. فبلغ الخبر زيادًا، فأرسل خيلًا إلى المربد ليأتوه بي، فجاء رجل من بني الهجيم على فرس؛ قال: أتيت فالنجاء! وأردفني خلفه، وركض حتى تغيب، وجاءت الخيل وقد سبقت، فأخذ زياد عمين لي: ذهيلا والزحاف ابني صعصعة - وكانا في الديوان على ألفين ألفين، وكانا معه - فحبسهما فأرسلت إليهما: إن شئتما أتيتكما، فبعثا إلي: لا تقربنا، إنه زياد! وما عسى أن يصنع بنا، ولم نذنب ذنبًا! فمكثا أيامًا. ثم كلم زياد فيهما، فقالوا: شيخان سامعان مطيعان، ليس لهما ذنب مما صنع غلام أعرابي من أهل البادية؛ فخلى عنهما؛ فقالا لي: أخبرنا بجميع ما أمرك أبوك من ميرةٍ أو كسوة؛ فخبرتهما به أجمع، فاشترياه وانطلقت حتى لحقت بغالب، وحملت ذلك معي أجمع، فأتيته وقد بلغه خبري، فسألني: كيف صنعت؟ فأخبرته بما كان؛ قال: وإنك لتحسن مثل هذا! ومسح رأسي. ولم يكن يومئذ يقول الشعر، وإنما قال الشعر بعد ذلك، فكانت في نفس زياد عليه. ثم وفد الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة، من بني ربيعة بن كعب ابن سعد والجون بن قتادة العبشمي والحتات بن يزيد أبو منازل، أحد بني حوى بن سفيان بن مجاشع إلى معاوية بن أبي سفيان، فأعطى كل رجل منهم مائة ألف، وأعطى الحتات سبعين ألفًا، فلما كانوا في الطريق سأل بعضهم بعضًا، فأخبروه بجوائزهم، فكان الحتان أخذ سبعين ألفًا، فرجع إلى معاوية، فقال: ما ردك يا أبا منازل؟ قال: فضحتني في بني تميم، أما حسبي بصحيح! أو لست ذا سن! أو لست مطاعًا في عشيرتي! فقال معاوية: بلى؛ قال: فما بالك خسست بي دون القوم! فقال: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانيًا - فقال: وأنا فاشتر مني ديني، فأمر له بتمام جائزة القوم. وطعن في جائزته، فحبسها معاوية، فقال الفرزدق في ذلك: أبوك وعمي يا معاوي أورثا ** تراثًا فيحتاز التراث أقاربه فما بال ميراث الحتات أخذته ** وميراث حربٍ جامدٌ لك ذائبه! فلو كان هذا الأمر في جاهليةٍ ** علمت من المرء القليل حلائبه ولو كان في دينس سوى ذا شنئتم ** لنا حقنا أو غص بالماء شاربه ولو كان إذ كنا وفي الكف بسطةٌ ** لصممٌ غضبٌ فيك ماضٍ مضاربه - وأنشد محمد بن علي وفي الكف مبسط وقد رمت شيئًا يا معاوي دونه ** خياطف علودٍّ صعاب مراتبه وما كنت أعطي النصف من غير قدرةٍ ** سواك، ولو مالت علي كتائبه ألست أعز الناس قومًا وأسرةً ** وأمنعهم جارًا إذا ضيم جانبه وما ولدت بعد النبي وآله ** كمثلي حصانٌ في الرجال يقاربه أبى غالبٌ والمرء ناجية الذي ** إلى صعصعٍ ينمى، فمن ذا يناسبه! وبيتي إلى جنب الثريا فناؤه ** ومن دونه البدر المضيء كواكبه أنا ابن الجبال الصم في عدد الحصى ** وعرق الثرى عرقي، فمن ذا يحاسبه! أنا ابن الذي أحيا الوئيد وضامنٌ ** على الدهر إذ عزت لدهرٍ مكاسبه وكم من أبٍ لي يا معاوي لم يزل ** أغر يباري الريح ما ازور جانبه نمته فروع المالكين ولم يكن ** أبوك الذي من عبد شمسٍ يقاربه تراه كنصل السيف يهتز للندى ** كريمًا يلاقي المجد ما طر شاربه طويل نجاد السيف مذ كان لم يكن ** قصيٌّ وعبد الشمس ممن يخاطبه فرد ثلاثين ألفًا على أهله، وكانت أيضًا قد أغضبت زيادًا عليه. قال: فلما استعدت عليه نهشل وفقيم ازداد عليه غضبًا، فطلبه فهرب، فأتى عيسى بن خصيلة بن معتب بن نصر بن خالد البهزي، ثم أحد بني سليم، والحجاج بن علاط بن خالد السلمي. قال ابن سعد: قال أبو عبيدة: فحدثني أبو موسى الفضل بن موسى ابن خصيلة، قال: لما طرد زياد الفرزدق جاء إلى عمي عيسى بن خصيلة ليلًا فقال: يا أبا خصيلة، إن هذا الرجل قد أخافني، وإن صديقي وجميع من كنت أرجو قد لفظوني، وإني قد أتيتك لتغيبني عندك؛ قال: مرحبًا بك! فكان عنده ثلاث ليالٍ، ثم قال: إنه قد بدا لي أن ألحق بالشام، فقال: ما أحببت؛ إن أقمت معي ففي الرحب والسعة؛ وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها. قال: فركب بعد ليل، وبعث عيسى معه حتى جاوز البيوت، فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث ليالٍ، فقال الفرزدق في ذلك: حباني بها البهزي حملان من أبي ** من الناس والجاني تخاف جرائمه ومن كان يا عيسى يونب ضيفه ** فضيفك محبورٌ هنيٌّ مطاعمه وقال تعلم أنها أرحبيةٌ ** وأن لها الليل الذي أنت جاشمه فأصبحت والملقى ورائي وحنبلٌ ** وما صدرت حتى علا النجم عاتمه تزاور عن أهل الحفير كأنها ** ظليمٌ تبارى جنح ليلٍ نعائمه رأت بين عينيها دوية وانجلى ** لها الصبح عن صعلٍ أسيلٍ مخاطمه كأن شراعًا فيه مجرى زمامها ** بدجلة إلا خطمه وملاغمه إذا أنت جاوزت الغريين فاسلمي ** وأعرض من فلجٍ ورائي مخارمه وقال أيضًا: تداركني أسباب عيسى من الردى ** ومن يك مولاه فليس بواحد وهي قصيدة طويلة. قال: وبلغ زيادًا أنه قد شخص، فأرسل علي بن زهدم، أحد بني نولة بن فقيم في طلبه. قال أعين: فطلبه في بيت نصرانية يقال لها ابنة مرار، من بني قيس ابن ثعلبة تنزل قصيمة كاظمة؛ قال: فسلته من كسر بيتها، فلم يقدر عليه؛ فقال في ذلك الفرزدق: أتيت ابنة المرار أهبلت تبتغي ** وما يبتغى تحت السوية أمثالي ولكن بغائي لو أردت لقاءنا ** فضاء الصحارى لا ابتغاءٌ بأدغال وقيل: إنها ربيعة بنت المرار بن سلامة العجلي أم أبي النجم الراجز. قال أبو عبيدة: قال مسمع بن عبد الملك: فأتى الروحاء، فنزل في بكر بن وائل، فأمن، فقال يمدحهم: وقد مثلت أين المسير فلم تجد ** لفورتها كالحي بكر بن وائل أعف وأوفى ذمةً يعقدونها ** إذا وازنت شم الذرا بالكواهل وهي قصيدة طويلة. ومدحهم بقصائد أخر غيرها. قال: فكان الفرزدق إذا نزل زياد البصرة نزل الكوفة، وإذا نزل زيادٌ الكوفة نزل الفرزدق البصرة، وكان زياد ينزل البصرة ستة أشهر والكوفة ستة أشهر، فبلغ زيادًا ما صنع الفرزدق، فكتب إلى عامله على الكوفة عبد الرحمن ابن عبيد: إنما الفرزدق فحل الوحوش يرعى القفار، فإذا ورد عليه الناس ذعر ففارقهم إلى أرض أخرى فرتع؛ فاطلبه حتى تظفر به. قال الفرزدق: فطلبت أشد طلب، حتى جعل من كان يؤويني يخرجني من عنده، فضاقت علي الأرض، فبينا أنا ملفف رأسي في كسائي على ظهر الطريق، إذ مر بي الذي جاء في طلبي، فلما كان الليل أتيت بعض أخوالي من بني ضبة وعندهم عرس - ولم أكن طعمت قبل ذلك طعامًا، فقلت: آتيهم فأصيب من الطعام - قال: فبينا أنا قاعد إذ نظرت إلى هادي فرسٍ وصدر رمح قد جاوز باب الدار داخلًا إلينا، فقاموا إلى حائط قصب فرفعوه، فخرجت منه، وألقوا الحائط فعاد مكانه، ثم قالوا: ما رأيناه، وبحثوا ساعةً ثم خرجوا، فلما أصبحنا جاءوني فقالوا: اخرج إلى الحجاز عن جوار زياد لا يظفر بك، فلو ظفر بك البارحة أهلكتنا؛ وجمعوا ثمن راحلتين، وكلموا لي مقاعسًا أحد بني تيم الله ابن ثعلبة - وكان دليلًا يسافر للتجار - قال: فخرجنا إلى بانقيا حتى انتهينا إلى بعض القصور التي تنزل، فلم يفتح لنا الباب، فألقينا رحالنا إلى جنب الحائط والليلة مقمرة، فقلت: يا مقاعس، أرأيت إن بعث زياد بعد ما نصبح إلى العتيق رجالًا، أيقدرون علينا؟ قال: نعم، يرصدوننا - ولم يكونوا جاوزوا العتيق وهو خندق كان للعجم - قال: فقلت: ما تقول العرب؟ قال: يقولون: أمهله يومًا وليلة ثم خذه. فارتحل؛ فقال إني أخاف السباع، فقلت: السباع أهون من زياد، فارتحلنا لا نرى شيئًا إلا خلفناه، ولزمنا شخصٌ لا يفارقنا، فقلت: يا مقاعس، أترى هذا الشخص! لم نمرر بشيء إلا جاوزناه غيره، فإنه يسايرنا منذ الليلة. قال: هذا السبع، قال: فكأنه فهم كلامنا، فنقدم حتى ربض على متن الطريق، فلما رأينا ذلك نزلنا فشددنا أيدي ناقتينا بثنايين وأخذت قوسي. وقال مقاعس: يا ثعلب، أتدري ممن فررنا إليك؟ من زياد، فأحصب بذنبه حتى غشينا غباره وغشي ناقتينا، قال: فقلت: أرميه، فقال: لا تهجه، فإنه إذا أصبح ذهب؛ قال: فجعل يرعد ويبرق ويزئر، ومقاعس يتوعده حتى انشق الصبح، فلما رآه ولى، وأنشا الفرزدق يقول: ما كنت أحسبني جبانًا بعد ما ** لاقيت ليلة جانب الأنهار ليثًا كأن على يديه رحالةً ** شئن البراثن مؤجد الأظفار لما سمعت له زمازم أجهشت ** نفسي إلي وقلت أين فراري! وربطت جروتها وقلت لها اصبري ** وشددت في ضيق المقام إزاري فلأنت أهون من زيادٍ جانبًا ** اذهب إليك مخرم الأسفار قال ابن سعد: قال أبو عبيدة: فحدثني أعين بن لبطة، قال: حدثني أبي، عن شبث بن ربعي الرياحي، قال: فأنشدت زيادًا هذه الأبيات فكأنه رق له، وقال: لو أتاني لآمنته وأعطيته، فبلغ ذلك الفرزدق؛ فقال: تذكر هذا القلب من شوقه ذكرا ** تذكر شوقًا ليس ناسيه عصرا تذكر ظمياء التي ليس ناسيا ** وإن كان أدنى عهدها حججًا عشرا وما مغزلٌ بالغور غور تهامةٍ ** ترعى أراكًا في منابته نضرا من الأدم حواء المدامع ترعوي ** إلى رشإٍ طفلٍ تخال به فترا أصابت بوادي الولولان حبالةً ** فما استمسكت حتى حسبن بها نفرا بأحسن من ظمياء يوم تعرضت ** ولا مزنةٌ راحت غمامتها قصرا وكم دونها من عاطفٍ في صريمة ** وأعداء قومٍ ينذرون دمي نذرا! إذا أوعدوني عند ظمياء ساءها ** وعيدي وقالت لا تقولوا له هجرا دعاني زيادٌ للعطاء ولم أكن ** لآتيه ما ساق ذو حسبٍ وفرا وعند زيادٍ لو يريد عطاءهم ** رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهم فقرا قعودٌ لدى الأبواب طلاب حاجةٍ ** غوانٍ من الحاجات أو حاجةً بكرا فلما خشيت أن يكون عطاؤه ** أداهم سودًا أو محدرجةً سمرا نميت إلى حرفٍ أضر بنيها ** سرى الليل واستعراضها البلد القفرا تنفس في بهوٍ من الجوف واسعٍ ** إذا مد حيزوما شراسيفها الضفرا تراها إذا صام النهار كأنما ** تسامى فنيقًا أو تخالسه خطرا تخوض إذا صاح الصدى بعد هجعةٍ ** من الليل ملتجًا غياطله خضرا فإن أعرضت زوراء أو شمرت بها ** فلاةٌ ترى منها مخارمها غبرا تعاودين عن صهب الحصى وكأنما ** طحن به من كل رضراضةٍ جمرا وكم من عدوٍّ كاشحٍ قد تجاوزت ** مخافته حتى تكون لها جسرا يؤم بها الموماة من لا يرى له ** إلى ابن أبي سفيان جاهًا ولا عذرا ولا تعجلاني صاحبي فربما ** سبقت بورد الماء غاديةً كدرا وحضنين من ظلماء ليلٍ سريته ** بأغيد قد كان النعاس له سكرا رماه الكرى في الرأس حتى كأنه ** أميم جلاميدٍ تركن به وقرا من السير والإدلاج تحسب أنما ** سقاه الكرى في كل منزلة خمرا جررنا وفديناه حتى كأنما ** يرى بهوادي الصبح قنبلةً شقرا قال: فمضينا وقدمنا المدينة وسعيد بن العاص بن أمية عليها، فكان في جنازة، فتبعته فوجدته قاعدًا والميت يدفن حتى قمت بين يديه، فقلت: هذا مقام العائذ من رجل لم يصب دمًا ولا مالًا! فقال: قد أجرت إن لم تكن أصبت دمًا ولا مالًا؛ وقال: من أنت؟ قلت: أنا همام بن غالب بن صعصعة، وقد أثنيت على الأمير، فإن رأي أن يأذن في فأسمعه فليفعل؛ قال: هات، فأنشدته: وكومٍ تنعم الأضياف عينًا ** وتصبح في مباركها ثقالا حتى أتيت إلى آخرها؛ قال: فقال مروان: قعودًا ينظرون إلى سعيد قلت: والله إنك لقائم يا أبا عبد الملك. قال: وقال كعب بن جعيل: هذه والله الرؤيا التي رأيت البارحة؛ قال سعيد: وما رأيت؟ قال: رأيت كأني أمشي في سكة من سكك المدينة، فإذا أنا بابن قترة في جحر، فكأنه أراد أن يتناولني، فاتقيته، قال: فقام الحطيئة فشق ما بين رجلين حتى تجاوز إلي، فقال: قل ما شئت فقد أدركت من مضى، ولا يدركك من بقي. وقال لسعيد: هذا والله الشعر، لا يعلل به منذ اليوم. قال: فلم نزل بالمدينة مرة وبمكة مرة. وقال الفرزدق في ذلك: ألا من مبلغٌ عني زيادًا ** مغلغلةً يخب بها البريد بأني قد فررت إلى سعيدٍ ** ولا يسطاع ما يحمي سعيد فررت إليه من ليثٍ هزبرٍ ** تفادي عن فريسته الأسود فإن شئت انتسبت إلى النصارى ** وإن شئت انتسبت إلى اليهود وإن شئت انتسبت إلى فقيمٍ ** وناسبني وناسبت القرود ويروى: وناسبني وناسبت اليهود وأبغضهم إلي بنو فقيمٍ ** ولكن سوف آتي ما تريد وقال أيضًا: أتاني وعيدٌ من زيادٍ فلم أنم ** وسيل اللوى دوني فهضب التهائم فبت كأني مشعرٌ خيبريةً ** سرت في عظامي أو سمام الأراقم زياد بن حربٍ لن أظنك تاركي ** وذا الضغن قد خشمته غير ظالم قال: وأنشدنيه عمرو: وبالضغن قد خشمتني غير ظالم وقد كافحت مني العراق قصيدةٌ ** رجومٌ مع الماضي رءوس المخارم خفيفة أفواه الرواة ثقيلة ** على قرنها نزالةٌ بالمواسم وهي طويلة. فلم نزل بين مكة والمدينة حتى هلك زياد. وفي هذه السنة كانت وفاة الحكم بن عمرو الغفاري بمرو منصرفه من غزوة أهل جبل الأشل. ذكر الخبر عن غزوة الحكم بن عمرو جبل الأشل وسبب هلاكه حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني حاتم بن قبيصة، قال: حدثنا غالب بن سليمان، عن عبد الرحمن بن صبح، قال: كنت مع الحكم بن عمرو بخراسان، فكتب زيادٌ إلى عمرو: إن أهل جبل الأشل سلاحهم اللبود، وآنيتهم الذهب. فغزاهم حتى توسطوا، فأخذوا بالشعاب والطرق، فأحدقوا به، فعي بالأمر، فولي المهلب الحرب، فلم يزل المهلب يحتال حتى أخذ عظيمًا من عظمائهم، فقال له: اختر بين أن أقتلك، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق؛ فقال له: أوقد النار حيال الطريق من هذه الطرق، ومر بالأثقال فلتوجه نحوه، حتى إذا ظن القوم أنكم قد دخلتم الطريق لتسلكوه فإنهم يستجمعون لكم، ويعرون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى غيره فإنهم لا يدركونك حتى تخرج منه. ففعلوا ذلك، فنجا وغنموا غنيمةً عظيمة. حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد؛ قال: لما قفل الحكم بن عمرو من غزوة جبل الأشل ولى المهلب ساقته، فسلكوا في شعاب ضيقة، فعارضه الترك فأخذوا عليهم بالطرق، فوجدوا في بعض تلك الشعاب رجلًا يتغنى من وراء حائط ببيتين: تعز بصبرٍ لا وجدك لا ترى ** سنام الحمى أخرى الليالي الغوابر كأن فؤادي من تذكري الحمى ** وأهل الحمى يهفو به ريش طائر فأتى به الحكم، فسأله عن أمره، فقال: غايرت ابن عم لي، فخرجت ترفعني أرض وتخفضني أخرى، حتى هبطت هذه البلاد. فحمله الحكم إلى زياد بالعراق. قال: وتخلص الحكم من وجهه حتى أتى هراة، ثم رجع إلى مرو. حدثني عمر، قال: حدثني حاتم بن قبيصة، قال: حدثنا غالب ابن سليمان، عن عبد الرحمن بن صبح، قال: كتب إليه زياد: والله لئن بقيت لك لأقطعن منك طابقًا سحتا، وذلك أن زيادًا كتب إليه لما ورد بالخبر عليه بما غنم: إن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له صفراء وبيضاء والروائع فلا تحركن شيئًا حتى تخرج ذلك. فكتب إليه الحكم: أما بعد، فإن كتابك ورد، تذكر أن أمير المؤمنين كتب إلي أن أصطفي له كل صفراء وبيضاء والروائع، ولا تحركن شيئًا؛ فإن كتاب الله عز وجل قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السموات والأرض رتقًا على عبدٍ اتقى الله عز وجل جعل الله سبحانه وتعالى له مخرجًا. وقال للناس: اغدوا على غنائمكم؛ فغدا الناس، وقد عزل الخمس، فقسم بينهم تلك الغنائم، قال: فقال الحكم: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني؛ فمات بخراسان بمرو. قال عمر: قال علي بن محمد: لما حضرت الحكم الوفاة بمرو، استخلف أنس بن أبي أناس، وذلك في سنة خمسين. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم، وغزوة بسر بن أبي أرطاة الصائفة، ومقتل حجر بن عدي وأصحابه. ذكر مقتل حجر بن عدي وأصحابه ذكر سبب مقتله قال هشام بن محمد؛ عن أبي مخنف، عن المجالد بن سعيد، والصقعب ابن زهير، وفضيل بن خديج، والحسين بن عقبة المرادي، قال: كلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث حجر ابن عدي الكندي وأصحابه: إن معاوية بن أبي سفيان لما ولي المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة إحدى وأربعين دعاه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا، وقد قال المتلمس: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ** وما علم الإنسان إلا ليعلما وقد يجزي عنك الحكيم بغير التعليم، وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة، فأنا تاركها اعتمادًا على بصرك بما يرضيني ويسعد سلطاني، ويصلح به رعيتي، ولست تاركًا إيصاءك بخصلة: لا تتحم عن شتم علي وذمه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب علي، والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم؛ وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه، والإدناء لهم، والاستماع منهم. فقال المغيرة: قد جربت وجربت، وعملت قبلك لغيرك، فلم يذمم بي دفع ولا رفع ولا وضع، فستبلو فتحمد أو تذم. قال: بل نحمد إن شاء الله. قال ابن مخنف: قال الصقعب بن زهير: سمعت الشعبي يقول: ما ولينا والٍ بعده مثله، وإن كان لاحقًا بصالح من كان قبله من العمال. وأقام المغيرة على الكوفة عاملًا لمعاوية سبع سنين وأشهرًا، وهو من أحسن شيء سيرةً، وأشده حبًا للعافية، غير أنه لا يدع ذم علي والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان، واللعن لهم، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له، والتزكية لأصحابه، فكان حجر بن عدي إذا سمع ذلك قال: بل إياكم فذمم الله ولعن! ثم قام فقال: إن الله عز وجل يقول: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله "، وأنا أشهد أن من تذمون وتعيرون لأحق بالفضل، وأن من تزكون وتطرون أولى بالذم فيقول المغيرة: يا حجر، لقد رمي بسهمك، إذ كنت أنا الوالي عليك، يا حجر ويحك! اتق السلطان، اتق غضبه وسطوته، فإن غضبة السلطان أحيانًا مما يهلك أمثالك كثيرًا. ثم يكف عنه ويصفح. فلم يزل حتى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في علي وعثمان كما كان يقول، وكانت مقالته: اللهم ارحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه، وأجزه بأحسن عمله، فإنه عمل بكتابك، واتبع سنة نبيك ﷺ، وجمع كلمتنا، وحقن دماءنا، وقتل مظلومًا؛ اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه! ويدعو على قتلته. فقام حجر بن عدي فنعر نعرةً بالمغيرة سمعها كل من كان في المسجد وخارجًا منه، وقال: إنك لا تدري بمن تولع من هرمك! أيها الإنسان، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنك قد حبستها عنا، وليس ذلك لك، ولم يكن يطمع في ذلك من كان قبلك، وقد أصبحت مولعًا بذم أمير المؤمنين، وتقريظ المجرمين. قال: فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق والله حجر وبر، مر لنا بأرزاقنا وأعطياتنا، فإنا لا ننتفع بقولك هذا، ولا يجدي علينا شيئًا؛ وأكثروا في مثل هذا القول ونحوه. فنزل المغيرة، فدخل واستأذن عليه قومه، فأذن لهم، فقالوا: علام تترك هذا الرجل يقول هذه المقالة، ويجترىء عليك في سلطانك هذه الجرأة! إنك تجمع على نفسك بهذا خصلتين: أما أولهما فتهوين سلطانك، وأما الأخرى فإن ذلك إن بلغ معاوية كان أسخط له عليه - وكان أشدهم له قولًا في أمر حجر والتعظيم عليه عبد الله أبي عقيل الثقفي - فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته؛ إنه سيأتي أميرٌ بعدي فيحسبه مثل فيصنع به شبيهًا بما ترونه يصنع بي، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة؛ إنه قد اقترب أجلي، وضعف عملي، ولا أحب أن أبتدىء أهل هذا المصر بقتل خيارهم، وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك وأشقى، ويعز في الدنيا معاوية، ويذل يوم القيامة المغيرة؛ ولكني قابلٌ من محسنهم، وعافٍ عن مسيئهم، وحامدٌ حليمهم، وواعظٌ سفيههم، حتى يفرق بيني وبينهم الموت، وسيذكرونني لو قد جربوا العمال بعدي. قال ابن مخنف: سمعت عثمان بن عقبة الكندي، يقول: سمعت شيخًا للحي يذكر هذا الحديث يقول: قد والله جربناهم فوجدناه خيرهم، أحمده للبرىء، وأغفرهم للمسيء، وأقبلهم للعذر. قال هشام: قال عوانة: فولي المغيرة الكوفة سنة إحدى وأربعين في جمادى، وهلك سنة إحدى وخمسين، فجمعت الكوفة والبصرة لزياد بن أبي سفيان، فأقبل زياد حتى دخل القصر بالكوفة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنا قد جربنا وجربنا، وسسنا وساسنا السائسون، فوجدنا هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله، بالطاعة اللينة المشبه سرها بعلانيتها، وغيب أهلها بشاهدهم، وقلوبهم بألسنتهم، ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني والله لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته على أذلاله، وليس من كذبة الشاهد عليها من الله والناس أكبر من كذبة إمام على المنبر. ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرظهم، وذكر قتلته ولعنهم. فقام حجر ففعل مثل الذي كان يفعل بالمغيرة، وقد كان زيادٌ قد رجع إلى البصرة وولي الوفة عمرو بن الحريث، ورجع إلى البصرة فبلغه أن حجرًا يجتمع إليه شيعة علي، ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه، وأنهم حصبوا عمرو بن الحريث، فشخص إلى الكوفة حتى دخلها، فأتى القصر فدخله، ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر، قد فرق شعره، وحجر جالسٌ في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن غب البغي والغي وخيم، إن هؤلاء جموا فأشروا، وأمنوني فاجترءوا علي، وايم الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم؛ وقال: ما أنا بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حجر وأدعه نكالًا لمن بعده! ويل أمك يا حجر! سقط العشاء بك على سرحان، ثم قال: أبلغ نصيحة أن راعي إبلها ** سقط العشاء به على سرحان وأما غير عوانة، فإنه قال في سبب أمر حجر ما حدثني علي بن حسن قال: حدثنا مسلم الجرمي، قال: حدثنا مخلد بن الحسن، عن هشام، عن محمد بن سيرين، قال: خطب زياد يومًا في الجمعة فأطال الخطبة وأخر الصلاة، فقال له حجر بن عدي: الصلاة! فمضى في خطبته، ثم قال: الصلاة! فمضى في خطبته، فلما خشي حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من الحصا، وثار إلى الصلاة وثار الناس معه، فلما رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره، وكثر عليه. فكتب إليه معاوية أن شده في الحديد، ثم احمله إلي. فلما أن جاء كتاب معاوية أراد قوم حجر أن يمنعوه، فقال: لا، ولكن سمعٌ وطاعة، فشد في الحديد، ثم حمل إلى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له معاوية: أمير المؤمنين! أما والله لا أقيلك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه، فأخرج من عنده، فقال حجر للذين يلون أمره: دعوني حتى أصلي ركعتين؛ فقالوا: صل؛ فصلى ركعتين خفف فيهما، ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي أنا عليه لأحببت أن تكونا أطول مما كانتا، ولئن لم يكن فيما مضى من الصلاة خيرٌ فما في هاتين خير؛ ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عني حديدًا، ولا تغسلوا عني دمًا، فإني ألاقي معاوية غدًا على الجادة. ثم قدم فضربت عنقه. قال مخلد: قال هشام: كان محمد إذا سئل عن الشهيد يغسل، حدثهم حديث حجر. قال محمد: فلقيت عائشة أم المؤمنين معاوية - قال مخلد: أظنه بمكة - فقالت: يا معاوية، أين كان حلمك عن حجر! فقال لها: يا أم المؤمنين، لم يحضرني رشيد! قال ابن سيرين: فبلغنا أنه لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالصوت ويقول: يومي منك يا حجر يومٌ طويل! قال هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني إسماعيل بن نعيم النمري، عن حسين بن عبد الله الهمداني، قال: كنت في شرط زياد، فقال زياد: لينطلق بعضكم إلى حجر فليدعه؛ قال: فقال لي أمير الشرطة - وهو شداد ابن الهيثم الهلالي: اذهب إليه فادعه؛ قال: فأتيته، فقلت: أجب الأمير؛ فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة! قال: فرجعت إليه فأخبرته، فأمر صاحب الشرطة أن يبعث معي رجالًا، قال: فبعث نفرًا؛ قال: فأتيناه فقلنا: أجب الأمير، قال: فسبونا وشتمونا، فرجعنا إليه فأخبرناه الخبر، قال: فوثب زياد بأشراف أهل الكوفة، فقال: يا أهل الكوفة، أتشجون بيدٍ وتأسون بأخرى! أبدانكم معي وأهواؤكم مع حجر! هذا الهجهاجة الأحمق المذبوب أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر! هذا والله من دحسكم وغشكم! والله لتظهرن لي براءتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم! فوثبوا إلى زياد، فقالوا: معاذ الله سبحانه أن يكون لنا فيما ها هنا رأي إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين، وكل ما ظننا أن فيه رضاك، وما يستبين به طاعتنا وخلافنا لحجر فمرنا به، قال: فليقم كل امرىء منكم إلى هذه الجماعة حول حجر فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه. ففعلوا ذلك، فأقاموا جل من كان مع حجر بن عدي، فلما رأى زياد أن جل من كان مع حجر أقيم عنه، قال لشداد بن الهيثم الهلالي - ويقال: هيثم بن شداد أمير شرطته -: انطلق إلى حجر، فإن تبعك فأتني به، وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق، ثم يشدوا بها عليهم حتى يأتوني به ويضربوا من حال دونه. فأتاه الهلالي فقال: أجب الأمير؛ قال: فقال أصحاب حجر: لا ولا نعمة عين! لا نجيبه. فقال لأصحابه: شدوا على عمد السوق، فاشتدوا إليها، فأقبلوا بها قد انتزعوها، فقال عمير بن يزيد الكندي من بني هند - وهو أبو العمرطة: إنه ليس معك رجل معه سيفٌ غيري، وما يغني عنك! قال: فما ترى؟ قال: قم من هذا المكان فالحق بأهلك يمنعك قومك. فقام زياد ينظر إليهم وهو على المنبر، فغشوا بالعمد، فضرب رجل من الحمراء - يقال له بكر ابن عبيد - رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع، وأتاه أبو سفيان بن عويمر والعجلان بن ربيعة - وهما رجلان من الأزد - فحملاه؛ فأتيا به دار رجل من الأزد - يقال له عبيد الله بن مالك - فخبأه بها، فلم يزل بها متواريًا حتى خرج منها. قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، قال: لما انصرفنا من غزوة باجميرا قبل مقتل مصعب بعام، فإذا أنا بأحمري يسايرني - ووالله ما رأيته من ذلك اليوم الذي ضرب فيه عمرو بن الحمق، وما كنت أرى لو رأيته أن أعرفه - فلما رأيته ظننت أنه هو هو؛ وذاك حين نظرنا إلى أبيات الكوفة، فكرهت أن أسأله: أنت الضارب عمرو بن الحمق؟ فيكابرني، فقلت له: ما رأيتك من اليوم الذي ضربت فيه رأس عمرو بن الحمق بالعمود في المسجد إلى يومي هذا، ولقد عرفتك الآن حين رأيتك؛ فقال لي: لا تعدم بصرك، ما أثبت نظرك! كان ذلك أمر الشيطان، أما إنه قد بلغني أنه كان امرأ صالحًا، ولقد ندمت على تلك الضربة، فأستغفر الله. فقلت له: ألا ترى والله لا أفترق أنا وأنت حتى أضربك على رأسك مثل الضربة التي ضربتها عمرو بن الحمق أو أموت أو تموت! فناشدني الله وسألني الله، فأبيت عليه، ودعوت غلامًا لي يدعى رشيدًا من سبي أصبهان معه قناة له صلبة، فأخذتها منه، ثم أحمل عليه بها، فنزل عن دابته، وألحقه حين استوت قدماه بالأرض، فأصفع بها هامته، فخر لوجهه، ومضيت وتركته، فبرأ بعد؛ فلقيته مرتين من الدهر، كل ذلك يقول: الله بيني وبينك! وأقول: الله عز وجل بينك وبين عمرو بن الحمق! ثم رجع إلى أول الحديث. قال: فلما ضرب عمرًا تلك الضربة وحمله ذانك الرجلان، انحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة، ويضرب رجلٌ من جذام كان في الشرطة رجلًا يقال له عبد الله بن خليفة الطائي بعمود، فضربه ضربةً فصرعه، فقال وهو يرتجز: قد علمت يوم الهياج خلتي ** أني إذا ما فئتي تولت وكثرت عداتها أو قلت ** أني قتالٌ غداة بلت وضربت يد عائذ بن حملة التميمي وكسرت نابه، فقال: إن تكسروا نابي وعظم ساعدي ** فإن في سورة المناجد وبعض شغب البطل المبالد وينتزع عمودًا من بعض الشرطة، فقاتل به وحمى حجرًا وأصحابه؛ حتى خرجوا من تلقاء أبواب كندة، وبغلة حجر موقوفة، فأتى بها أبو العمرطة إليه، ثم قال: اركب لا أب لغيرك! فوالله ما أراك إلا قد قتلت نفسك، وقتلتنا معك؛ فوضع حجر رجله في الركاب؛ فلم يستطع أن ينهض، فحمله أبو العمرطة على بغلته، ووثب أبو العمرطة على فرسه؛ فما هو إلا أن استوى عليه حتى انتهى إليه يزيد بن طريف المسلي - وكان يغمز - فضرب أبا العمرطة بالعمود على فخذه، ويخترط أبو العمرطة سيفه، فضرب به رأس يزيد بن طريف، فخر لوجهه. ثم إنه برأ بعد، فله يقول عبد الله بن همام السلولي: ألؤم ابن لؤمٍ ما عدا بك حاسرًا ** إلى بطلٍ ذي جرأةٍ وشكيم! معاود ضرب الدارعين بسيفه ** على الهام عند الروع غير لئيم إلى فارس الغارين يوم تلاقيا ** بصفين قرمٍ خير نجل قروم حسبت ابن برصاء الحتار قتاله ** قتالك زيدًا يوم دار حكيم وكان ذلك السيف أول سيف ضرب به في الكوفة في الاختلاف بين الناس. ومضى حجر وأبو العمرطة حتى انتهيا إلى دار حجر، واجتمع إلى حجر ناس كثير من أصحابه، وخرج قيس بن فهدان الكندي على حمار له يسير في مجالس كندة، يقول: يا قوم حجرٍ دافعوا وصاولوا ** وعن أخيكم ساعةً فقاتلوا لا يلفيا منكم لحجرٍ خاذل ** أليس فيكم رامحٌ ونابل وفارسٌ مستلئمٌ وراجل ** وضاربٌ بالسيف لا يزايل! فلم يأته من كندة كثير أحد. وقال زياد وهو على المنبر: ليقم همدان وتميم وهوازن وأبناء أعصر ومذحج وأسد وغطفان فليأتوا جبانة كندة، فليمضوا من ثم إلى حجر فليأتوني به. ثم إنه كره أن يسير طائفةً من مضر مع طائفة من أهل اليمن فيقع بينهم شغب واختلاف، وتفسد ما بينهم الحمية، فقال: لتقم تميم وهوازن وأبناء أعصر وأسد وغطفان، ولتمض مذحج وهمدان إلى جبانة كندة، ثم لينهضوا إلى حجر فليأتوني به، وليسر سائر أهل اليمن حتى ينزلوا جبانة الصائديين فليمضوا إلى صاحبهم، فليأتوني به. فخرجت الأزد وبجيلة وخثعم والأنصار وخزاعة وقضاعة، فنزلوا جبانة الصائديين، ولم تخرج حضرموت مع أهل اليمن لمكانهم من كندة، وذلك أن دعوة حضرموت مع كندة، فكرهوا الخروج في طلب حجر. قال أبو مخنف: حدثني يحيى بن سعيد بن مخنف، عن محمد بن مخنف، قال: إني لمع أهل اليمن في جبانة الصاديين إذ اجتمع رءوس أهل اليمن يتشاورون في أمر حجر، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: أنا مشير عليكم برأيٍ إن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة والإثم، أرى لكم أن تلبثوا قليلًا فإن سرعان شباب همدان ومذحج يكفونكم ما تكرهون أن تلوا من مساءة قومكم في صاحبكم قال: فأجمع رأيهم على ذلك، قال: فوالله ما كان إلا كلا ولا حتى أتينا، فقيل لنا: إن مذحج وهمدان قد دخلوا فأخذوا كل من وجدوا من بني جبلة. قال: فمر أهل اليمن في نواحي دور كندة معذرة، فبلغ ذلك زيادًا، فأثنى على مذحج وهمدان وذم سائر أهل اليمن. وإن حجرًا لما انتهى إلى داره فنظر إلى قلة من معه من قومه، وبلغه أن مذحج وهمدان نزلوا جبانة كندة وسائر أهل اليمن جبانة الصائديين قال لأصحابه: انصرفوا فوالله ما لكم طاقةٌ بمن قد اجتمع عليكم من قومكم، وما أحب أن أعرضكم للهلاك؛ فذهبوا لينصرفوا، فلحقتهم أوائل خيل مذحج وهمدان. فعطف عليهم عمير بن يزيد وقيس بن يزيد وعبيدة بن عمرو البدي وعبد الرحمن بن محرز الطمحي وقيس ابن شمر، فتقاتلوا معهم، فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا، وأسر قيس بن يزيد، وأفلت سائر القوم، فقال لهم حجر: لا أبا لكم! تفرقوا لا تقاتلوا فإني آخذ في بعض السكك. ثم آخذ طريقًا نحو بني حرب، فسار حتى انتهى إلى دار رجل منهم يقال له سليم بن يزيد، فدخل داره، وجاء القوم في طلبه حتى انتهوا إلى تلك الدار، فأخذ سليم بن يزيد سيفه، ثم ذهب ليخرج إليهم، فبكت بناته؛ فقال له حجر: ما تريد؟ قال: أريد والله أسألهم أن ينصرفوا عنك، فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي دونك؛ فقال حجر: لا أبا لغيرك! بئس ما دخلت به إذًا على بناتك! قال: إني والله ما أمونهن، ولا رزقهن إلا على الحي الذي لا يموت؛ ولا أشتري العار بشيء ابدًا، ولا تخرج من داري أسيرًا أبدًا وأنا حي أملك قائم سيفي، فإن قتلت دونك فاصنع ما بدا لك. قال حجر: أما في دارك هذه حائط أقتحمه، أو خوخة أخرج منها، عسى أن يسلمني الله عز وجل منهم ويسلمك، فإذا القوم لم يقدروا علي عندك لم يضروك! قال: بلى هذه خوخة تخرجك إلى دور بني العنبر وإلى غيرهم من قومك، فخرج حتى مر ببني ذهل، فقالوا له: مر القوم آنفًا في طلبك يقفون أثرك. فقال: منهم أهرب؛ قال: فخرج ومعه فتية منه يتقصون به الطريق، ويسلكون به الأزقة حتى أفضي إلى النخع، فقال لهم عند ذلك: انصرفوا رحمكم الله! فانصرفوا عنه، وأقبل إلى دار عبد الله بن الحارث أخي الأشتر فدخلها، فإنه لكذلك قد ألقى له الفرش عبد الله، وبسط له البسط، وتلقاه ببسط الوجه، وحسن البشر، إذ أتى فقيل له: إن الشرط تسأل عنك في النخع - وذلك أن أمةً سوداء يقال لها: أدماء، لقيتهم، فقالت: من تطلبون؟ قالوا: نطلب حجرًا؛ قالت: ها هو ذا قد رأيته في النخع، فانصرفوا نحو النخع - فخرج من عند عبد الله متنكرًا، وركب معه عبد الله بن الحارث ليلًا حتى أتى دار ربيعة بن ناجد الأزدي في الأزد، فنزلها يومًا وليلة، فلما أعجزهم أن يقدروا عليه دعا زياد بمحمد بن الأشعث فقال له: يا أبا ميثاء، أما والله لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلةً إلا قطعتها، ولا دارًا إلا هدمتها ثم لا تسلم مني حتى أقطعك إربًا إربًا؛ قال: أمهلني حتى أطلبه؛ قال: قد أمهلتك ثلاثًا، فإن جئت به وإلا عد نفسك مع الهلكى. وأخرج محمد نحو السجن منتقع اللون يتل تلًا عنيفًا، فقال حجر بن يزيد الكندي لزياد: ضمنيه وخل سبيله يطلب صاحبه؛ فإنه مخلىً سربه - أحرى أن يقدر عليه منه إذا كان محبوسًا. فقال أتضمنه؟ قال: نعم؛ قال: أما والله لئن حاص عنك لأزيرنك شعوب، وإن كنت الآن علي كريمًا. قال: إنه لا يفعل، فخلى سبيله. ثم إن حجر بن يزيد كلمه في قيس بن يزيد، وقد أتي به أسيرًا، فقال لهم: ما على قيس بأس، قد عرفنا رأيه في عثمان، وبلاءه يوم صفين مع أمير المؤمنين، ثم أرسل إليه فأتي به، فقال له: إني قد علمت أنك لم تقاتل مع حجر؛ أنك ترى رأيه، ولكن قاتلت معه حمية قد غفرتها لك لما أعلم من حسن رأيك، وحسن بلائك؛ ولكن لن أدعك حتى تأتيني بأخيك عمير؛ قال: أجيئك به إن شاء الله؛ قال: فهات من يضمنه لي معك، قال: هذا حجر بن يزيد يضمنه لك معي؛ قا حجر بن يزيد: نعم أضمنه لك، على أن تؤمنه على ماله ودمه، قال: ذلك لك، فانطلقا فأتيا به وهو جريح، فأمر به فأوقر حديدًا، ثم أخذته الرجال ترفعه، حتى إذا بلغ سررها ألقوه، فوقع على الأرض، ثم رفعوه وألقوه، ففعلوا به ذلك مرارًا، فقام إليه حجر بن يزيد فقال: ألم تؤمنه على ماله ودمه أصلحك الله! قال: بلى، قد آمنته على ماله ودمه، ولست أهريق له دمًا، ولا آخذ له مالًا. قال: أصلحك الله! يشفى به على الموت؛ ودنا منه وقام من كان عنده من أهل اليمن، فدنوا منه وكلموه، فقال: أتضمنوه لي بنفسه، فمتى ما أحدث حدثًا أتيتموني به؟ قالوا: نعم؛ قال: وتضمنون لي أرش ضربة المسلى، قالوا: ونضمنها؛ فخلى سبيله. ومكث حجر بن عدي في منزل ربيعة بن ناجد الأزدي يومًا وليلة، ثم بعث حجر إلى محمد بن الأشعث غلامًا له يدعى رشيدًا من أهل إصبهان: إنه قد بلغني ما استقبلك به هذا الجبار العنيد، فلا يهولنك شيء من أمره، فإني خارج إليك؛ أجمع نفرًا من قومك ثم أدخل عليه فأسأله أن يؤمنني حتى يبعث بي إلى معاوية فيرى في رأيه. فخرج ابن الأشعث إلى حجر بن يزيد وإلى جرير بن عبد الله وإلى عبد الله بن الحارث أخي الأشتر، فأتاهم فدخلوا إلى زياد فكلموه وطلبوا إليه أن يؤمنه حتى يبعث به إلى معاوية فيرى فيه رأيه، ففعل، فبعثوا إليه رسوله ذلك يعلمونه أن قد أخذنا الذي تسأل، وأمروه أن يأتي؛ فأقبل حتى دخل على زياد فقال زياد: مرحبًا بك أبا عبد الرحمن! حرب في أيام الحرب، وحربٌ وقد سالم الناس! على أهلها تجني براقش. قال: ما خالعت طاعة، ولا فارقت جماعة، وإني لعلى بيعتي؛ فقال: هيهات هيهات يا حجر! تشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذ أمكن الله منك أن نرضى! كلا والله. قال: ألم تؤمني حتى آتي معاوية فيرى في رأيه! قال: بلى قد فعلنا، انطلقوا به إلى السجن، فلما قفي به من عنده قال زياد: أما والله لولا أمانه ما برح أو يلفظ مهجة نفسه. قال هشام بن عروة: حدثني عوانة، قال: قال زياد: والله لأحرصن على قطع خيط رقبته. قال هشام بن محمد؛ عن أبي مخنف، وحدثني المجالد بن سعيد، عن الشعبي وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق؛ أن حجرًا لما قفي به من عند زياد نادى بأعلى صوته: اللهم إني على بيعتي، لا أقيلها ولا أستقيلها، سماع الله والناس. وكان عليه برنس في غداة باردة، فحبس عشر ليال، وزيادٌ ليس له عمل إلا طلب رؤساء أصحاب حجر، فخرج عمرو بن الحمق ورفاعة بن شداد حتى نزلا المدائن، ثم ارتحلا حتى أتيا أرض الموصل، فأتيا جبلًا فكمنا فيه، وبلغ عامل ذلك الرستاق أن رجلين قد كمنا في جانب الجبل، فاستنكر شأنهما - وهو رجل من همدان يقال له عبد الله بن أبي بلتعة - فسار إليهما في الخيل نحو الجبل ومعه أهل البلد، فلما انتهى إليهما خرجا، فأما عمرو بن الحمق فكان مريضًا، وكان بطنه قد سقى، فلم يكن عنده امتناع؛ وأما رفاعة بن شداد - وكان شابًا قويًا - فوثب على فرس له جواد، فقال له: أقاتل عنك؟ قال: وما ينفعني أن تقاتل! انج بنفسك إن استطعت، فحمل عليهم، فأفرجوا له، فخرج تنفر به فرسه، وخرجت الخيل في طلبه - وكان راميًا - فأخذ لا يلحقه فارسٌ إلا رماه فجرحه أو عقره، فانصرفوا عنه، وأخذ عمرو بن الحمق، فسألوه: من أنت؟ فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، وإن قتلتموه كان أضر لكم؛ فسألوه: فأبى أن يخبرهم، فبعث به ابن أبي بلتعة إلى عامل الموصل - وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي - فلما رأى عمرو بن الحمق عرفه، وكتب إلى معاوية بخبره، فكتب إليه معاوية: إنه زعم أنه طعن عثمان ابن عفان تسع طعنات بمشاقص كانت معه، وإنا لا نريد أن نعتدي عليه، فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان، فأخرج فطعن تسع طعنات، فمات في الأولى منهن أو الثانية. قال أبو مخنف: وحدثني المجالد، عن الشعبي وزكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق. قال: وجه زياد في طلب أصحاب حجر، فأخذوا يهربون منه، ويأخذ من قدر عليه منهم، فبعث إلى قبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي صاحب الشرطة - وهو شداد بن الهيثم - فدعا قبيصة في قومه، وأخذ سيفه، فأتاه ربعي بن خراش بن جحش العبسي ورجال من قومه ليسوا بالكثير، فأراد أن يقاتل، فقال له صاحب الشرطة: أنت آمن على دمك ومالك، فلم تقتل نفسك؟ فقال له أصحابه: قد أومنت، فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك! قال: ويحكم! إن هذا الدعي ابن العاهرة، والله لئن وقعت في يده لا أفلت منه أبدًا أو يقتلني؛ قالوا: كلا، فوضع يده في أيديهم، فأقبلوا به إلى زياد، فلما دخلوا عليه قال زياد: وحي عبسٍ تعزوني على الدين، أما والله لأجعلن لك شاغلًا عن تلقيح الفتن، والتوثب على الأمراء؛ قال: إني لم آتك إلا على الأمان؛ قال: انطلقوا به إلى السجن، وجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له: إن امرأً منا من بني همام يقال له: صيفي بن فسيل من رءوس أصحاب حجر، وهو أشد الناس عليك، فبعث إليه زياد، فأتي به، فقال له زياد: يا عدو الله، ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب؛ قال: ما أعرفك به! قال: ما أعرفه، قال: أما تعرف علي بن أبي طالب؟ قال: بلى، قال: فذاك أبو تراب، قال: كلا، ذاك أبو الحسن والحسين، فقال له صاحب الشرطة: يقول لك الأمير: هو أبو تراب، وتقول أنت: لا! قال: وإن كذب الأمير أتريد أن أكذب وأشهد له على باطل كما شهد! قال له زياد: وهذا أيضًا مع ذنبك! علي بالعصا، فأتي بها، فقال: ما قولك في علي؟، قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد الله أقوله في المؤمنين، قال: اضربوا عاتقه بالعصا حتى يلصق بالأرض، فضرب حتى لزم الأرض. ثم قال: أقلعوا عنه، إيهٍ، ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرحتني بالمواسى والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني؛ قال لتلعننه أو لأضربن عنقك؛ قال: إذًا تضربها والله قبل ذلك، فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بالله، وشقيت أنت؛ قال: ادفعوا في رقبته، ثم قال: أوقروه حديدًا، وألقوه في السجن. ثم بعث إلى عبد الله بن خليفة الطائي - وكان شهد مع حجر وقاتلهم قتالًا شديدًا - فبعث إليه زيادٌ بكير بن حمران الأحمري - وكان تبيع العمال - فبعثه في أناس من أصحابه، فأقبلوا في طلبه فوجدوه في مسجد عدي بن حاتم، فأخرجوه، فلما أرادوا أن يذهبوا به - وكان عزيز النفس - امتنع منهم فحاربهم وقاتلهم، فشجوه ورموه بالحجارة حتى سقط، فنادت ميثاء أخته: يا معشر طيىء، أتسلمون ابن خليفةٍ لسانكم وسنانكم! فلما سمع الأحمري نداءها خشي أن تجتمع طيىء فيهلك، فهرب وخرج نسوةٌ من طيىء فأدخلنه دارًا، وينطلق الأحمري حتى أتى زيادًا، فقال: إن طيئًا اجتمعت إلي فلم أطقهم، فأتيتك، فبعث زيادٌ إلى عدي - وكان في المسجد - فحبسه وقال: جئني به - وقد أخبر عدي بخبر عبد الله - فقال عدي: كيف آتيك برجل قد قتله القوم؟ قال: جئني حتى أرى أن قد قتلوه، فاعتل له وقال: لا أدري أين هو، ولا ما فعل! فحبسه، فلم يبق رجلٌ من أهل المصر من أهل اليمن وربيعة ومضر إلا فزع لعدي، فأتوا زيادًا فكلموه فيه، وأخرج عبد الله فتغيب في بحتر، فأرسل إلى عدي: إن شئت أن أخرج حتى أضع يدي في يدك فعلت؛ فبعث إليه عدي: والله لو كنت تحت قدمي ما رفعتهما عنك. فدعا زياد عديًا، فقال له: إني أخلي سبيلك على أن تجعل لي لتنفيه من الكوفة، ولتسير به إلى الجبلين؛ قال: نعم، فرجع وأرسل إلى عبد الله بن خليفة: اخرج، فلو قد سكن غضبه لكلمته فيك حتى ترجع إن شاء الله؛ فخرج إلى الجبلين. وأتى زياد بكريم بن عفيف الخثعمي فقال: ما اسمك؟ قال: أنا كريم ابن عفيف؛ قال: ويحك، أو ويلك! ما أحسن اسمك واسم أبيك، وأسوأ عملك ورأيك! قال: أما والله إن عهدك برأيي لمنذ قريب، ثم بعث زيادٌ إلى أصحاب حجر حتى جمع اثني عشر رجلًا في السجن. ثم إنه دعا رءوس الأرباع، فقال: اشهدوا على حجر بما رأيتم منه - وكان رءوس الأرباع يومئذ: عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة، وخالد بن عرفطة على ربع تميم وهمدان، وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة على ربع ربيعة وكندة، وأبو بردة بن أبي موسى على مذحج وأسد - فشهد هؤلاء الأربعة أن حجرًا جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين؛ وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل أبي طالب، ووثب بالمصر وأخرج عامل أمير المؤمنين، وأظهر عذر أبي تراب والترحم عليه، والبراءة من عدوه وأهل حربه، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رءوس أصحابه، وعلى مثل رأيه وأمره. ثم أمر بهم ليخرجوا، فأتاه قيس بن الوليد فقال: إنه قد بلغني أن هؤلاء إذا خرج بهم عرض لهم. فبعث زياد إلى الكناسة فابتاع إبلًا صعابًا، فشد عليها المحامل، ثم حملهم عليها في الرحبة أول النهار، حتى إذا كان العشاء قال زياد: من شاء فليعرض، فلم يتحرك من الناس أحد، ونظر زياد في شهادة الشهود فقال: ما أظن هذه الشهادة قاطعة، وإني لأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة. قال أبو مخنف: فحدثني الحارث بن حصيرة، عن أبي الكنود - وهو عبد الرحمن بن عبيد - وأبو مخنف، عن عبد الرحمن بن جندب وسليمان بن أبي راشد، عن أبي الكنود بأسماء هؤلاء الشهود: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين؛ شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله عز وجل كفرةً صلعاء. فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا، أما والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق، فشهد رءوس الأرباع الثلاثة الآخرون على مثل شهادته - وكانوا أربعة - ثم إن زيادًا دعا الناس فقال: اشهدا على مثل شهادة رءوس الأرباع. فقرأ عليهم الكتاب، فقام أول الناس عناق بن شرحبيل بن أبي دهم التيمي تيم الله بن ثعلبة، فقال: بينوا اسمي، فقال زياد: ابدءوا بأسامي قريش، ثم اكتبوا اسم عناق في الشهود، ومن نعرفه ويعرفه أمير المؤمنين بالنصيحة والاستقامة. فشهد إسحاق بن طلحة بن عبيد الله، وموسى بن طلحة، وإسماعيل بن طلحة ابن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعبد الرحمن ابن هناد، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وعامر بن مسعود بن أمية بن خلف، ومحرز بن جارية بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس، وعبيد الله بن مسلم ابن شعبة الحضرمي، وعناق بن شرحبيل بن أبي دهم، ووائل بن حجر الحضرمي، وكثير بن شهاب بن حصين الحارثي، وقطن بن عبد الله بن حصين، والسري بن وقاص الحارثي - وكتب شهادته وهو غائب في عمله - والسائب بن الأقرع الثقفي، وشبث بن ربعي، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي، ومصقلة بن هبيرة الشيباني، والقعقاع بن شور الذهلي، وشداد بن المنذر بن الحارث بن وعلة الذهلي - وكان يدعى ابن بزيعة، فقال: ما لهذا أبٌ ينسب إليه! القوا هذا من الشهود، فقيل له: إنه أخو الحضين، وهو ابن المنذر؛ قال: فانسبوه إلى أبيه، فبلغت شدادًا، فقال: ويلي على ابن الزانية! أوليست أمه أعرف من أبيه! والله ما ينسب إلا إلى أمه سمية. وحجار بن أبجر العجلي فغضبت ربيعة على هؤلاء الشهود الذين شهدوا من ربيعة وقالوا لهم: شهدتم على أوليائنا وحلفائنا! فقالوا: ما نحن إلا من الناس، وقد شهد عليهم ناس من قومهم كثير - وعمرو بن الحجاج الزبيدي ولبيد بن عطارد التميمي، ومحمد بن عمير بن عطارد التميمي، وسويد بن عبد الرحمن التميمي من بني سعد، وأسماء بن خارجة الفزاري - كان يعتذر من أمره - وشمر بن ذي الجوشن العامري، وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان، ومحفز بن ثعلبة من عائذة قريش، والهيثم بن الأسود النخعي - وكان يعتذر إليهم - وعبد الرحمن بن قيس الأسدي، والحارث وشداد ابنا الأزمع الهمدانيان، ثم الوادعيان، وكريب بن سلمة بن يزيد الجعفي، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وزحر بن قيس الجعفي، وقدامة بن العجلان الأزدي وعزرة بن عزرة الأحمسي - ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة بن المغيرة بن شعبة ليشهدوا عليه، فراغا - وعمر بن قيس ذي اللحية وهانىء بن أبي حية الوادعيان. فشهد عليه سبعون رجلًا، فقال زياد: ألقوهم إلا من قد عرف بحسب وصلاح في دينه، فألقوا حتى صيروا إلى هذه العدة، وألقيت شهادة عبد الله بن الحجاج الثعلبي، وكتبت شهادة هؤلاء الشهود في صحيفة، ثم دعفها إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي، وبعثهما عليهم، وأمرهما أن يخرجا بهم. وكتب في الشهود شريح ابن الحارث القاضي وشريح بن هانىء الحارثي؛ فأما شريح فقال: سألني عنه، فأخبرته أنه كان صوامًا قوامًا، وأما شريح بن هانىء الحارثي فكان يقول: ما شهدت، ولقد بلغني أن قد كتبت شهادتي، فأكذبته ولمسته، وجاء وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأخرج القوم عشية، وسار معهم صاحب الشرطة حتى أخرجهم من الكوفة. فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره وهي في جبانة عزرم، فإذا بناته مشرفات، فقال لوائل وكثير: ائذنا لي فأوصي أهلي، فأذنا له، فلما دنا منهن وهن يبكين، سكت عنهن ساعة ثم قال: اسكتن؛ فسكتن، فقال: اتقين الله عز وجل، واصبرن، فإني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين: إما الشهدة، وهي السعادة؛ وإما الانصراف إليكن في عافية، وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مؤنتكن هو الله تعالى - وهو حي لا يموت - أرجو ألا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ثم انصرف فمر بقومه، فجعل القوم يدعون الله له بالعافية، فقال: إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي. يقول: حيث لا ينصرونني، وكان رجا أن يتخلصوه. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح العبسي، عن عبيد الله بن الحر الجعفي، قال: والله إني لواقف عند باب السري بن أبي وقاص حين مروا بحجر وأصحابه، قال: فقلت: ألا عشرة رهط أستنقذ بهم هؤلاء! ألا خمسة! قال: فجعل يتلهف، قال: فلم يجبني أحدٌ من الناس؛ قال: فمضوا بهم حتى انتهوا بهم إلى الغريين، فلحقهم شريح بن هانىء معه كتاب، فقال لكثير: بلغ كتابي هذا إلى أمير المؤمنين، قال: ما فيه؟ قال: لا تسألني فيه حاجتي؛ فأبى كثير وقال: ما أحب أن آتي أمير المؤمنين بكتاب لا أدري ما فيه، وعسى ألا يوافقه! فأتى به وائل بن حجر فقبله منه. ثم مضوا بهم حتى انتهوا بهم إلى مرج عذراء، وبينها وبين دمشق اثنا عشر ميلًا. تسمية الذين بعث بهم إلى معاوية حجر بن عدي بن جبلة الكندي، والأرقم بن عبد الله الكندي من بني الأرقم، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل، وقبيصة بن ضبيعة بن حرملة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، من بني عامر بن شهران ثم من قحافة، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمى البجلي، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيان من بني هميم، ومحرز بن شهاب التميمي من بني منقر، وعبد الله بن حوية السعدي من بني تميم؛ فمضوا حتى نزلوا مرج عذراء، فحبسوا بها. ثم إن زيادًا أتبعهم برجلين آخرين مع عامر بن الأسود العجلي؛ بعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر بن هوازن، وسعيد بن نمران الهمداني ثم الناعطي، فتموا أربعة عشر رجلًا، فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما، وفض كتابهما، فقرأه على أهل الشام، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من زياد بن أبي سفيان. أما بعد، فإن الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء، فكاد له عدوه، وكفاه مؤنة من بغى عليه. إن طواغيت من هذه الترابية السبئية، رأسهم حجر بن عدي خالفوا أمير المؤمنين، وفارقوا جماعة المسلمين، ونصبوا لنا الحرب، فأظهرنا الله عليهم، وأمكننا منهم، وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي السن والدين منهم، فشهدوا عليهم بما رأوا وعملوا، وقد بعثت بهم إلى أمير المؤمنين، وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا. فلما قرأ الكتاب وشهادة الشهود عليهم، قال: ماذا ترون في هؤلاء النفر الذين شهد عليهم قومهم بما تستمعون؟ فقال له يزيد بن أسد البجلي: أرى أن تفرقهم في قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها. ودفع وائل بن حجر كتاب شريح بن هانىء إلى معاوية، فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من شريح بن هانىء أما بعد؛ فإنه بلغني أن زيادًا كتب إليك بشهادتي على حجر بن عدي، وأن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويديم الحج والعمرة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام الدم والمال، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه. فقرأ كتابه على وائل بن حجر وكثير، فقال: ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم. فحبس القوم بمرج عذراء، وكتب معاوية إلى زياد: أما بعد، فقد فهمت ما اقتصصت به من أمر حجر وأصحابه، وشهادة من قبلك عليهم، فنظرت في ذلك، فأحيانًا أرى قتلهم أفضل من تركهم، وأحيانًا ارى العفو عنهم أفضل من قتلهم. والسلام. فكتب إليه زيادٌ مع يزيد بن حجية بن ربيعة التيمي: أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت رأيك في حجر وأصحابه، فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم، وقد شهد عليهم بما قد سمعت من هو أعلم بهم، فإن كانت لك حاجةٌ في هذا المصر فلا تردن حجرًا وأصحابه إلي. فأقبل يزيد بن حجية حتى مر بهم بعذراء. فقال: يا هؤلاء، أما والله ما أرى براءتكم، ولقد جئت بكتاب فيه الذبح، فمروني بما أحببتم مما ترون أنه لكم نافع أعمل به لكم وأنطق به. فقال حجر: أبلغ معاوية أنا على بيعتنا، لا نستقيلها ولا نقيلها، وأنه إنما شهد علينا الأعداء والأظناء. فقدم يزيد بالكتاب إلى معاوية فقرأه، وبلغه يزيد مقالة حجر؛ فقال معاوية: زياد أصدق عندنا من حجر؛ فقال عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي - ويقال: عثمان بن عمير الثقفي: جذاذها جذاذها؛ فقال له معاوية: لا تعن أبرًا. فخرج أهل الشأم ولا يدرون ما قال معاوية وعبد الرحمن، فأتوا النعمان بن بشير فقالوا له مقالة ابن أم الحكم، فقال النعمان: قتل القوم، واقبل عامر بن الأسود العجلي وهو بعذراء يريد معاوية ليعلمه علم الرجلين اللذين بعث بهما زياد، فلما ولى ليمضي قام إليه حجر بن عدي يرسف في القيود، فقال: يا عمر، اسمع مني، أبلغ معاوية أن دماءنا عليه حرام، وأخبره أنا قد أومنا وصالحناه، فليتق الله، ولينظر في أمرنا. فقال له نحوًا من هذا الكلام، فأعاد عليه حجر مرارًا، فكان الآخر عرض، فقال قد فهمت لك - أكثرت، فقال له حجر: إني ما سمعت بعيب، وعلى أيةٍ تلوم! إنك والله تحبي وتعطي، وإن حجرًا يقدم ويقتل، فلا ألومك أن تستثقل كلامي، اذهب عني، فكأنه استحيا، فقال: لا والله ما ذلك بي، ولأبلغن ولأجهدن، وكأنه يزعم أنه قد فعل، وأن الآخر أبى. فدخل عامر على معاوية فأخبره بأمر الرجلين. قال: وقام يزيد بن أسد البجلي فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ابني عمي - وقد كان جرير بن عبد الله كتب فيهما: إن امرأين من قومي من أهل الجماعة والرأي الحسن، سعى بهما ساعٍ ظنين إلى زياد، فبعث بهما في النفر الكوفيين الذين وجه بهم زياد إلى أمير المؤمنين وهما ممن لا يحدث حدثًا في الإسلام ولا بغيًا على الخليفة، فلينفعهما ذلك عند أمير المؤمنين - فلما سالهما يزيد ذكر معاوية كتاب جرير، فقال: قد كتب إلي ابن عمك فيهما جرير، محسنًا عليهما الثناء، وهو أهلٌ أن يصدق قوله، وتقبل نصيحته، وقد سألتني ابني عمك، فهما لك. وطلب وائل بن حجر في الأرقم فتركه له، وطلب أبو الأعور السلمي في عتبة بن الأخنس فوهبه له، وطلب حمرة بن مالك الهمداني في سعيد ابن نمران الهمداني فوهبه له، وكلمه حبيب بن مسلمة في ابن حوية، فخلى سبيله. وقام مالك بن هبيرة السكوني، فقال لمعاوية: يا أمير المؤمنين، دع لي ابن عمي حجرًا، فقال: إن ابن ابن عمك حجرًا رأس القوم، وأخاف إن خليت سبيله أن يفسد علي مصري، فيضطرنا غدًا إلى أن نشخصك وأصحابك إليه بالعراق. فقال له: والله ما أنصفتني يا معاوية، قاتلت معك ابن عمك فتلقاني منهم يومٌ كيوم صفين، حتى ظفرت كفك، وعلا كعبك ولم تخف الدوائر، ثم سألتك ابن عمي فسطوت وبسطت من القول بما لا أننفع به؛ وتخوفت فيما زعمت عاقبة الدوائر! ثم انصرف فجلس في بيته، فبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي من بني سلامان بن سعد والحصين ابن عبد الله الكلابي وأبا شريف البدي، فأتوهم عند المساء، فقال الخثعمي حين رأى الأعور مقبلًا: يقتل نصفنا وينجو نصفنا؛ فقال سعيد بن نمران: اللهم اجعلني ممن ينجو وأنت عني راضٍ؛ فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي: اللهم اجعلني ممن يكرم بهوانهم وأنت عني راضٍ؛ فطالما عرضت نفسي للقتل، فابى الله إلا ما أراه! فجاء رسول معاوية إليهم بتخلية ستة وبقتل ثمانية، فقال لهم رسول معاوية: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وإن أمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت له بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنه قد عفا عن ذلك، فابرءوا من هذا الرجل نخل سبيلكم. قالوا: اللهم إنا لسنا فاعلي ذلك. فأر بقبورهم فحفرت، وأدنيت أكفانهم، وقاموا الليل كله يصلون، فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية: يا هؤلاء، لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا ما قولكم في عثمان؟ قالوا: هو أول من جار في الحكم، وعمل بغير الحق؛ فقال أصحاب معاوية: أمير المؤمنين كان أعلم بكم؛ ثم قاموا إليهم فقالوا: تبرءون من هذا الرجل! قالوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ منه؛ فأخذ كل رجل منهم رجلًا ليقتله، ووقع قبيصة بن ضبيعة في يدي أبي شريف البدي، فقال له قبيصة: إن الشر بين قومي وقومك أمنٌ، فليقتلني سواك؛ فقال له: برتك رحم! فأخذ الحضرمي فقتله، وقتل القضاعي قبيصة بن ضبيعة. قال: ثم إن حجرًا قال لهم: دعوني أتوضأ، قالوا له: توضأ، فلما أن توضأ قال لهم: دعوني أصل ركعتين فأيمن الله ما توضأت قط إلا صليت ركعتين؛ قالوا: لتصل؛ فصلى، ثم انصرف فقال: والله ما صليت صلاةً قط أقصر منها، ولولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها. ثم قال: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا، وإن أهل الشأم يقتلوننا، أما والله لئن قتلتموني بها إني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها. فمشى إليه الأعور هدبة بن فياض بالسيف، فأرعدت خصائله، فقال: كلا، زعمت أنك لا تجزع من الموت؛ فأنا أدعك فابرأ من صاحبك، فقال: ما لي لا أجزع وأنا أرى قبرًا محفورًا، وكفنًا منشورًا، وسيفًا مشهورًا؛ وإني والله إن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرب. فقتله؛ وأقبلوا يقتلونهم واحدًا واحدًا حتى قتلوا ستة. فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي: ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين، فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته؛ فبعثوا إلى معاوية يخبرونه بمقالتهما، فبعث إليهم أن آئتوني بهما. فلما دخلا عليه قال الخثعمي: الله الله يا معاوية، فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ثم مسؤل عما أردت بقتلنا، وفيم سفكت دماءنا؛ فقال معاوية: ما تقول في علي؟ قال: أقول فيه قولك، قال: أتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به؟ فسكت، وكره معاوية أن يجيبه. وقام شمر بن عبد الله من بني قحافة، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي ابن عمي؛ قال: هو لك؛ غير أني حابسه شهرًا، فكان يرسل إليه بين كل يومين فيكلمه، وقال له: إني لأنفس بك على العراق أن يكون فيهم مثلك. ثم إن شمرًا عاوده فيه الكلام؛ فقال: نمرك على هبة ابن عمك، فدعاه فخلى سبيله على ألا يدخل إلى الكوفة ما كان له سلطان، فقال: تخير أي بلاد العرب أحب إليك أن أسيرك إليها؛ فاختار الموصل، فكان يقول: لو قد مات معاوية قدمت المصر، فمات قبل معاوية بشهر. ثم أقبل على عبد الرحمن العنزي فقال: إيهٍ يا أخا ربيعة! ما قولك في علي؟ قال؛ دعني ولا تسألني فإنه خيرٌ لك؛ قال: والله لا أدعك حتى تخبرني عنه؛ قال: اشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرًا، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس؛ قال: فما قولك في عثمان؟ قال: هو أول من فتح باب الظلم، وأرتج أبواب الحق؛ قال: قتلت نفسك؛ قال: بل إياك قتلت؛ ولا ربيعة بالوادي - يقول حين كلم شمر الخثعمي في كريم بن عفيف الخثعمي، ولم يكن له أحدٌ من قومه يكلمه فيه - فبعث به معاوية إلى زياد، وكتب إليه: أما بعد، فإن هذا العنزي شر من بعثت، فعاقبه عقوبته التي هو أهلها، واقتله شر قتلة. فلما قدم به على زياد بعث به زياد إلى قس الناطف، فدفن به حيًا. قال: ولما حمل العنزي والخثعمي إلى معاوية قال العنزي لحجر: يا حجر، لا يبعدنك الله، فنعم أخو الإسلام كنت! وقال الخثعمي: لا تبعد ولا تفقد، فقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثم ذهب بهما وأتبعهما بصره، وقال: كفى بالموت قطاعًا لحبل القرائن! فذهب بعتبة بن الأخنس وسعيد بن نمران بعد حجر بأيام، فخلى سبيلهما. تسمية من قتل من أصحاب حجر رحمه الله حجر بن عدي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري، وكدام بن حيان العنزي، وعبد الرحمن بن حسان العنزي؛ فبعث به إلى زياد فدفن حيًا بقس الناطف، فهم سبعة قتلوا وكفنوا وصلي عليهم. قال: فزعموا أن الحسن لما بلغه قتل حجر وأصحابه، قال: صلوا عليهم، وكفنوهم، واستقبلوا بهم القبلة، قالوا: نعم؛ قال: حجوهم ورب الكعبة! تسمية من نجا منهم كريم بن عفيف الخثعمي، وعبد الله بن حوية التميمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمى البجلي، والأرقم بن عبد الله الكندي، وعتبة بن الأخنس، من بني سعيد بن بكر، وسعيد بن نمران الهمداني فهم سبعة. وقال مالك بن هبيرة السكوني حين أبى معاوية أن يهب له حجرًا وقد اجتمع إليه قومه من كندة والسكون وناس من اليمن كثير، فقال: والله لنحن أغنى عن معاوية من معاوية عنا، وإنا لنجد في قومه منه بدلًا، ولا يجد منا في الناس خلفًا، سيروا إلى هذا الرجل فلنخله من أيديهم؛ فأقبلوا يسيرون ولم يشكوا أنهم بعذراء لم يقتلوا، فاستقبلتهم قتلتهم قد خرجوا منها، فلما رأوه في الناس ظنوا أنما جاء بهم ليخلص حجرًا من فسكت عنهم، ومضى نحو عذراء، فاستقبله بعض من جاء منها فأخبره أن القوم قد قتلوا، فقال: علي بالقوم! وتبعتهم الخيل وسبقوهم حتى دخلوا على معاوية فأخبروه خبر ما أتى له مالك بن هبيرة ومن معه من الناس، فقال لهم معاوية: اسكنوا، فإنما هي حرارةٌ يجدها في نفسه، وكأنها قد طفئت، ورجع مالك حتى نزل في منزله، ولم يأت معاوية، فأرسل إليه معاوية فأبى أن يأتيه، فلما كان الليل بعث إليه بمائة ألف درهم، وقال له: إن أمير المؤمنين لم يمنعه أن يشفعك في ابن عمك إلا شفقة عليك وعلى أصحابك أن يعيدوا لكم حربًا أخرى، وإن حجر بن عدي لو قد بقي خشيت أن يكلفك وأصحابك الشخوص إليه، وأن يكون ذلك من البلاء على المسلمين ما هو أعظم من قتل حجر؛ فقبلها، وطابت نفسه، وأقبل إليه من غده في جموع قومه حتى دخل عليه ورضي عنه. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أن عائشة رضي الله عنها بعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: غاب عني حين غاب مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت. قال أبو مخنف: قال عبد الملك بن نوفل: كانت عائشة تقول: لولا أنا لم تغير شيئًا إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كان ما علمت لمسلمًا حجاجًا معتمرًا. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل، عن سعيد المقبري، أن معاوية حين حج مر على عائشة - رضوان الله عليها - فاستأذن عليها، فأذنت له، فلما قعد قالت له: يا معاوية، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عليهم. قال أبو مخنف: حدثني زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، قال: أدركت الناس وهم يقولون: إن أول ذل دخل الكوفة موت الحسن بن علي وقتل حجر بن عدي، ودعوة زياد. قال أبو مخنف: وزعموا أن معاوية قال عند موته: يومٌ لي من ابن الأدبر طويلٌ! ثلاث مرات - يعني حجرًا. قال أبو مخنف: عن الصقعب بن زهير، عن الحسن، قال: أربع خصال كن في معاوية؛ لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتراؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذو الفضيلة؛ واستخلافه ابنه بعده سكيرًا خميرًا، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير؛ وادعاؤه زيادًا؛ وقد قال رسول الله ﷺ: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر "، وقتله حجرًا، ويلًا له من حجرٍ! مرتين. وقالت هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية، وكانت تشيع ترثي حجرًا: ترفع أيها القمر المنير ** تبصرهل ترى حجرًا يسير يسير إلى معاوية بن حربٍ ** ليقتله كما زعم الأمير تجبرت الجبابر بعد حجرٍ ** وطاب لها الخورنق والسدير وأصبحت البلاد بها محولًا ** كأن لم يحيها مزنٌ مطير ألا يا حجر حجر بني عديٍّ ** تلقتك السلامة والسرور أخاف عليك ما أردي عديًا ** وشيخًا في دمشق له زئير يرى قتل الخيار عليه حقًا ** له من شر أمته وزير ألا يا ليت حجرًا مات موتًا ** ولم ينحر كما نحر البعير! فإن تهلك فكل زعيم قومٍ ** من الدنيا إلى هلكٍ يصير وقالت الكندية ترثي حجرًا - ويقال: بل قائلها هذه الأنصارية: دموع عيني ديمةٌ تقطر ** تبكي على حجرٍ وما تفتر لو كانت القوس على أسره ** ما حمل السيف له الأعور وقال الشاعر يحرض بني هند من بني شيبان على قيس بن عباد حين سعى بصيفي بن فسيل: دعا ابن فسيل يال مرة دعوةً ** ولاقى ذباب السيف كفًا ومعصما فحرض بني هند إذا ما لقيتهم ** وقل لغياثٍ وابنه يتكلما لتبك بني هندٍ قتيلة مثل ما ** بكت عرس صيفيٍّ وتبعث مأتما غياث بن عمران بن مرة بن الحارث بن دب بن مرة بن ذهل بن شيبان، وكان شريفًا، وقتيلة أخت قيس بن عباد، فعاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث في مواطنه، فقال حوشب للحجاج بن يوسف: إن منا امرأ صاحب فتن ووثوب على السلطان، لم تكن فتنةٌ في العراق قط إلا وثب فيها، وهو ترابي، يلعن عثمان، وقد خرج مع ابن الأشعث فشهد معه في مواطنه كلها، يحرض الناس حتى إذا أهلكهم الله، جاء فجلس في بيته، فبعث إليه الحجاج فضرب عنقه، فقال بنو أبيه لآل حوشب: إنما سعيتم بنا سعيًا، فقالوا لهم: وأنتم إنما سعيتم بصاحبنا سعيًا. فقال أبو مخنف: وقد كان عبد الله بن خليفة الطائي شهد مع حجر ابن عدي، فطلبه زياد فتوارى، فبعث إليه الشرط، وهم أهل الحمراء يومئذ، فأخذوه، فخرجت أخته النوار فقالت: يا معشر طيىء، أتسلمون سنانكم ولسانكم عبد الله بن خليفة! فشد الطائيون على الشرط فضربوهم وانتزعوا منهم عبد الله بن خليفة، فرجعوا إلى زياد، فأخبروه، فوثب على عدي ابن حاتم وهو في المسجد، فقال: ائتني بعبد الله بن خليفة؛ قال: وما له! فأخبره، قال: فهذا شيء كان في الحي لا علم لي به؛ قال: والله لتأتيني به؛ قال: لا، والله لا آتيك به أبدًا، أجيئك بابن عمي تقتله! والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. قال: فأمر به إلى السجن؛ قال: فلم يبق بالكوفة يمانيٌّ ولا ربعيٌّ إلا أتاه وكلمه، وقالوا: تفعل هذا بعدي بن حاتم صاحب رسول الله ﷺ؟! قال: فإني أخرجه على شرط، قالوا: ما هو؟ قال: يخرج ابن عمه عني فلا يدخل الكوفة ما دام لي بها سلطان. فأتى عدي فأخبر بذلك، فقال: نعم، فبعث عدي إلى عبد الله ابن خليفة فقال: يابن أخي، إن هذا قد لج في أمرك، وقد أبى إلا إخراجك عن مصرك ما دام له سلطان، فالحق بالجبلين، فخرج؛ فجعل عبد الله ابن خليفة يكتب إلى عدي، وجعل عديٌّ يمينه، فكتب إليه: تذكرت ليلى والشبيبة أعصرا ** وذكر الصبا برحٌ على من تذكرا وولى الشباب فافتقدت غصونه ** فيا لك من وجد به حين أدبرا! فدع عنك تذكار الشباب وفقده ** وآثاره إذ بان منك فأقصرا وبك على الخلان لما تخرموا ** ولم يجدوا عن منهل الموت مصدرا دعتهم مناياهم ومن حان يومه ** من الناس فاعلم أنه لن يؤخرا أولئك كانوا شيعةً لي وموئلًا ** إذا اليوم ألفى ذا احتدام مذكرا وما كنت أهوى بعدهم متعللًا ** بشيءٍ من الدنيا ولا أن أعمرا أقول ولا والله أنسى ادكارهم ** سجيس الليالي أو أموت فأقبرا على أهل عذراء السلام مضاعفًا ** من الله وليسق الغمام الكنهورا ولاقى بها حجرٌ من الله رحمةً ** فقد كان أرضى الله حجرٌ وأعذرا ولا زال تهطال ملثٌّ وديمة ** على قبر حجرٍ أو ينادى فيحشرا فيا حجر من للخيل تدمى نحورها ** وللملك المغزى إذا ما تغشمرا ومن صادعٌ بالحق بعدك ناطق ** بتقوى ومن إن قيل بالجور غيرا فنعم أخو الإسلام كنت وإنني ** لأطمع أن تؤتى الخلود وتحبرا وقد كنت تعطي السيف في الحرب حقه ** وتعرف معروفًا وتنكر منكرا فيا أخوينا من هميمٍ عصمتما ** ويسرتما للصالحات فأبشرا ويا أخوي الخندقيين أبشرا ** فقد كنتما حييتما أن تبشرا ويا إخوتا من حضرموت وغالبٍ ** وشيبان لقيتم حسابًا ميسرا سعدتم فلم أسمع بأصوب منكم ** حجاجًا لدى لموت الجليل وأصبرا سأبكيكم ما لاح نجم وغرد ال ** حمام ببطن الواديين وقرقرا فقلت ولم أظلم أغوث بن طيىءٍ ** متى كنت أخشى بينكم أن أسيرا! هبلتم ألا قاتلتم عن أخيكم ** وقد ذب حتى مال ثم تجورا ففرجتم عني فغودرت مسلمًا ** كأني غريب في إيادٍ وأعصرا فمن لكم مثلي لدى كل غارةٍ ** ومن لكم مثلي إذا البأس أصحرا ومن لكم مثلي إذا الحرب قلصت ** وأوضع فيها المستميت وشمرا فها أنا ذا داري بأجبال طيىءٍ ** طريدًا ولو شاء الإله لغيرا نفاني عدوي ظالمًا عن مهاجري ** رضيت بما شاء الإله وقدرا وأسلمني قومي لغير جنايةٍ ** كأن لم يكونوا لي قبيلًا ومعشرا فإن ألف في دارٍ بأجبال طيىءٍ ** وكان معانًا من عصير ومحضرا فما كنت أخشى أن أرى متغربا ** لحا الله من لاحى عليه وكثرا لحا الله قتل الحضرميين وائلا ** ولاقى الفنا من السنان الموفرا ولاقى الردى القوم الذين تحزبوا ** علينا وقالوا قول زورٍ ومنكرا فلا يدعني قومٌ لغوث بن طيىءٍ ** لأن دهرهم أشقى بهم وتغيرا فلم أغزهم في المعلمين ولم أثر ** عليهم عجاجًا بالكويفة أكدرا فبلغ خليلي إن رحلت مشرقًا ** جديلة والحيين معنًا وبحترا ونبهان والأفناء من جذم طيىءٍ ** ألم أك فيكم ذا الغناء العشنزرا! ألم تذكروا يوم العذيب أليتي ** أمامكم ألا أرى الدهر مدبرا! وكرى على مهران والجمع حاسر ** وقتلي الهمام المستميت المسورا ويوم جلولاء الوقيعة لم ألم ** ويوم نهاوند الفتوح وتسترا وتنسونني يوم الشريعة والقنا ** بصفين في أكتافهم قد تكسرا جزى ربه عني عدي بن حاتمٍ ** برفضي وخذلاني جزاءً موفرا أتنسى بلائي سادرًا يابن حاتمٍ ** عشية ما أغنت عديك حزمرا! فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ** وكنت أنا الخصم الألد العذورا فولوا وما قاموا مقامي كأنما ** رأوني ليثًا بالأباءة مخدرا نصرتكم إذخام القريب وأبعط ال ** بعيد وقد أفردت نصرًا مؤزرا فكان جزائي أن أجرد بينكم ** سجينًا وأن أولي الهوان وأوسرا وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ** فلم تغن بالميعاد عني حبترا فأصبحت أرعى النيب طورًا وتارة ** أهرهر إن راعي الشويهات هرهرا كأني لم أركب جوادًا لغارةٍ ** ولم أترك القرن الكمي مقطرا ولم أعترض بالسيف خيلًا مغيرةً ** إذا النكس مشى القهقرى ثم جرجرا ولم أستحث الركض في إثر عصبةٍ ** ميممةٍ عليا سجاسٍ وأبهرا ولم أذعر الإبلام مني بغارةٍ ** كورد القطاثم انحدرت مظفرا ولم أر في خيل تطاعن بالقنا ** بقزوين أو شروين أو أغز كندرا فذلك دهرٌ زال عني حميده ** وأصبح لي معروفه قد تنكرا فلا يبعدن قومي وإن كانت غائبًا ** وكنت المضاع فيهم والمكفرا ولا خير في الدنيا ولا العيش بعدهم ** وإن كنت عنهم نائي الدار محصرا فمات بالجبلين قبل موت زياد. وقال عبيدة الكندي ثم البدي، وهو يعير محمد بن الأشعث بخذلانه حجرًا: أسلمت عمك لم تقاتل دونه ** فرقًا ولولا أنت كان منيعا وقتلت وافد آل بيت محمدٍ ** وسلبت أسيافًا له ودروعا لو كنت من أسدٍ عرفت كرامتي ** ورأيت لي بيت الحباب شفيعا ذكر استعمال الربيع بن زياد على خراسان وفي هذه السنة وجه زيادٌ الربيع بن زياد الحارثي أميرًا على خراسان بعد موت الحكم بن عمرو الغفاري، وكان الحكم قد استخلف على عمله بعد موته أنس بن عمرو الغفاري، وكان الحكم قد استخلف على عمله بعد موته أنس بن أبي أناس، وأنس هو الذي صلى على الحكم حين مات فدفن في دار خالد بن عبد الله أخي خليد بن عبد الله الحنفي، وكتب بذلك الحكم إلى زياد، فعزل زيادٌ أنسًا، وولى مكانه خليد بن عبد الله الحنفي. فحدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: لما عزل زيادٌ أنسًا وولى مكانه خليد بن عبد الله الحنفي قال أنسٌ: ألا من مبلغٌ عني زيادًا ** مغلغلةً يخب بها البريد أتعزلني وتطعمها خليدًا ** لقد لاقت حنيفة ما تريد عليكم باليمامة فاحرثوها ** فأولكم وآخركم عبيد فولى خليد شهرًا ثم عزله، وولى خراسان ربيع بن زياد الحارثي في أول سنة إحدى وخمسين، فنقل الناس عيالاتهم إلى خراسان، ووطنوا بها، ثم عزل الربيع. فحدثني عمر، قال: حدثني علي، عن مسلمة بن محارب وعبد الرحمن ابن أبان القرشي، قالا: قدم الربيع خراسان ففتح بلخ صلحًا، وكانوا قد أغلقوها بعد ما صالحهم الأحنف بن قيس، وفتح قهستان عنوةً، وكانت بناحيتها أتراك، فقتلهم وهزمهم، وكان ممن بقي منهم نيزك طرخان، فقتله قتيبة بن مسلم في ولايته. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: غزا الربيع فقطع النهر ومعه غلامه فروخ وجاريته شريفة، فغنم وسلم، فأعتق فروخا، وكان قد قطع النهر قبله الحكم بن عمرو في ولايته ولم يفتح. فحدثني عمر، عن علي بن محمد، قال: كان أول المسلمين شرب من النهر مولىً للحكم، اغترف بترسه فشرب، ثم ناول الحكم فشرب، وتوضأ وصلى من وراء النهر ركعتين، وكان أول الناس فعل ذلك، ثم قفل. وحج بالناس في هذه السنة يزيد بن معاوية؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي. وكان العامل في هذه السنة على المدينة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة والبصرة والمشرق كله زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة عميرة بن يثربي. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين فزعم الواقدي أن فيها كانت غزوة سفيان بن عوف الأزدي، ومشتاه بأرض الروم، وأنه توفي بها، واستخلف عبد الله بن مسعدة الفزاري. وقال غيره: بل الذي شتا بأرض الروم في هذه السنة بالناس بسر بن أبي أرطاة، ومعه سفيان بن عوف الأزدي، وغزا الصائفة في هذه السنة محمد بن عبد الله الثقفي. وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص في قول أبي معشر والواقدي وغيرهما. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال عليها كانوا في سنة إحدى وخمسين. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك مشتى عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بأرض الروم. وفيها فتحت رودس، جزيرة في البحر، ففتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي، فنزلها المسلمون - فيما ذكر محمد بن عمر - وزرعوا واتخذوا بها أموالًا ومواشي يرعونها حولها، فإذا أمسوا أدخلوها الحصن، ولهم ناطورٌ يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، فكانوا على حذرٍ منهم، وكانوا أشد شيء على الروم، فيعترضونهم في البحر فيقطعون سفنهم، وكان معاوية يدر لهم الأرزاق والعطاء، وكان العدو قد خافهم، فلما مات معاوية أقفلهم يزيد بن معاوية. وفيها كانت وفاة زياد بن سمية؛ حدثني عمر، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا وهيب، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن الزبير، عن فيل مولى زياد، قال: ملك زياد العراق خمس سنين، ثم مات سنة ثلاث وخمسين. حدثني عمر، قال، حدثنا علي بن محمد، قال: لما نزل زياد على العراق بقي إلى سنة ثلاث وخمسين، ثم مات بالكوفة في شهر رمضان وخليفته على البصرة سمرة بن جندب. ذكر سبب مهلك زياد بن سمية حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثنا أبي، قال حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني عبد الله بن شوذب، عن كثير بن زياد، أن زيادًا كتب إلى معاوية: إني ضبطت العراق بشمالي، ويميني فارغة. فضم إليه معاوية العروض - وهي اليمامة وما يليها - فدعا عليه ابن عمر، فطعن ومات. فقال ابن عمر حين بلغه الخبر: اذهب إليك ابن سمية، فلا الدنيا بقيت لك، ولا الآخرة أدركت. حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: كتب زيادٌ إلى معاوية: قد ضبطت لك العراق بشمالي ويمين فارغة، فاشغلها بالحجاز، وبعث في ذلك الهيثم بن الأسود النخعي، وكتب له عهده مع الهيثم، فلما بلغ ذلك أهل الحجاز أتى نفر منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، فذكروا ذلك له، فقال: ادعوا الله عليه يكفيكموه، فاستقبل القبلة واستقبلوها فدعوا ودعا، فخرجت طاعونةٌ على أصبعه، فأرسل إلى شريح - وكان قاضيه - فقال: حدث بي ما ترى، وقد أمرت بقطعها، فاشر علي؛ فقال له شريح: إني أخشى أن يكون الجراح على يدك، والألم على قلبك، وأن يكون الأجل قد دنا، فتلقى الله عز وجل أجذم، وقد قطعت يدك كراهيةً للقائه، أو أن يكون في الأجل تأخير وقد قطعت يدك فتعيش أجذم وتعر ولدك. فتركها؛ وخرج شريح فسألوه، فأخبرهم بما أشار به، فلاموه وقالوا: هلا أشرت عليه بقطعها! فقال: قال رسول الله ﷺ: " المستشار مؤتمن ". حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: قال عبد الله: سمعت بعض من يحدث أنه أرسل إلى شريح يستشيره في قطع يده، فقال: لا تفعل؛ إنك إن عشت صرت أجذم، وإن هلكت إياك جانيًا على نفسك، قال: أنام والطاعون في لحاف! فعزم أن يفعل، فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وترك ذلك. حدثني عمر، قال: حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي، قال: حدثني ابن أبي زياد، قال: لما حضرت زيادًا الوفاة قال له ابنه: يا أبت، قد هيأت لك ستين ثوبًا أكفنك فيها؛ قال: يا بني، قد دنا من أبيك لباسٌ خيرٌ من لباسه هذا، أو سلبٌ سريع؛ فمات فدفن بالثوية إلى جانب الكوفة، وقد توجه يزيد إلى الحجاز واليًا عليها، فقال مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم: رأيت زيادة الإسلام ولت ** جهارًا حين ودعنا زياد وقال الفرزدق لمسكين - ولم يكن هجا زيادًا حتى مات: أمسكين أبكى الله عينك إنما ** جرى في ضلالٍ دمعها فتحدرا بكيت امرأً من آل ميسان كافرًا ** ككسرى على عدانه أو كقيصرا أقول له لما أتاني نعيه ** به لا بظبيٍ بالصريمة أعفرا فأجابه مسكين، فقال: ألا أيها المرء الذي لست ناطقًا ** ولا قاعدًا في القوم إلا انبرى ليا فجئني بعمٍّ مثل عمي أو أبٍ ** كمثل أبي أو خال صدقٍ كخاليا كعمرو بن عمرٍو أو زرارة والدًا ** أو البشر من كلٍّ فرعت الروابيا وما زال بي مثل القناة وسابحٍ ** وخطارةٍ غب السري من عياليا فهذا لأيام الحفاظ وهذه ** لرحلي وهذا عدة لارتحاليا! وقال الفرزدق: أبلغ زيادًا إذا لاقيت مصرعه ** أن الحمامة قد طارت من الحرم طارت فما زال ينميها قوادمها ** حتى استغاثت إلى الأنهار والأجم حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، عن سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن جرير بن حازم، عن جرير بن يزيد، قال: رأيت زيادًا فيه حمرةٌ، في عينه اليمنى انكسار، أبيض اللحية مخروطها، عليه قميص مرقوع، وهو على بغلة عليها لجامها قد أرسنها. ذكر الخبر عن وفاة الربيع بن زياد الحارثي وفي هذه السنة كانت وفاة الربيع بن زيا الحارثي، وهو عامل زياد على خراسان. ذكر الخبر عن سبب وفاته حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: ولي الربيع بن زياد خراسان سنتين وأشهرًا، ومات في العام الذي مات فيه زياد، واستخلف ابنه عبد الله بن الربيع، فولي شهرين، ثم مات عبد الله. قال: فقدم عهده من قبل زياد على خراسان وهو يدفن، واستخلف عبد الله بن الربيع على خراسان خليد بن عبد الله الحنفي. قال علي: وأخبرين محمد بن الفضل، عن أبيه، قال: بلغني أن الربيع ابن زياد ذكر يومًا بخراسان حجر بن عدي، فقال: لا تزال العرب تقتل صبرًا بعده، ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبرًا، ولكنها أقرت فذلت، فمكث بعد هذا الكلام جمعةًن ثم خرج في ثياب بياض في يوم جمعة، فقال: أيها الناس، إني قد مللت الحياة، وإني داعٍ بدعوة فأمنوا. ثم رفع يده بعد الصلاة، وقال: اللهم إن كان لي عندك خيرٌ فاقبضني إليك عاجلًا. وأمن الناس فخرج، فما توارت ثيابه حتى سقط فحمل إلى بيته، واستخلف ابنه عبد الله، ومات من يومه، ثم مات ابنه، فاستخلف خليد بن عبد الله الحنفي، فأقره زياد، فمات زياد وخليد على خراسان، وهلك زياد وقد استخلف على عمله على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى البصرة سمرة بن جندب الفزاري. فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي، قال: مات زياد وعلى البصرة سمرة بن جندب خليفة له، وعلى الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، فأقر سمرة على البصرة ثمانية عشر شهرًا. قال عمر: وبلغني عن جعفر بن سليمان الضبعي، قال: أقر معاوية سمرة بعد زياد ستة أشهر، ثم عزله، فقال سمرة: لعن الله معاوية! والله لو أطعت الله كما أطعت معاوية ما عذبني أبدًا. حدثني عمر، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثني سليمان ابن مسلم العجلي، قال: سمعت أبي يقول: مررت بالمسجد، فجاء رجلٌ إلى سمرة فأدى زكاة ماله، ثم دخل فجعل يصلي في المسجد، فجاء رجل فضرب عنقه، فإذا رأسه في المسجد، وبدنه ناحيةً، فمر أبو بكرة، فقال: يوق الله سبحانه: " قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى "، قال أبي: فشهدت ذاك، فما مات سمرة حتى أخذه الزمهرير، فمات شر ميتة، قال: وشهدته وأتي بناسٍ كثير وأناس بين يديه فيقول للرجل: ما دينك؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله وأني بريءٌ من الحرورية، فيقدم فيضرب عنقه حتى مر بضعةٌ وعشرون. وحج بالناس في هذه السنة سعيد بن العاص في قول أبي معشر الواقدي وغيرهما. وكان العامل فيها على المدينة سعيد بن العاص، وعلى الكوفة بعد موت زياد عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى البصرة بعد موت زياد سمرة بن جندب، وعلى خراسان خليد بن عبد الله الحنفي. ثم دخلت سنة أربع وخمسين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففيها كان مشتى محمد بن مالك أرض الروم، وصائفة معن بن يزيد السلمي. وفيها - فيما زعم الواقدي - فتح جنادة بن أبي أمية جزيرةً في البحر قريبةً من قسطنطينية يقال لها أرواد. وذكر محمد بن عمر أن المسلمين أقاموا بها دهرًا، فيما يقال سبع سنين، وكان فيها مجاهد بن جبر. قال: وقال تبيع ابن امرأة كعب: ترون هذه الدرجة؟ إذا انقلعت جاءت قفلتنا. قال: فهاجت ريحٌ شديدة فقلعت الدرجة، وجاء نعي معاوية وكتاب يزيد بالقفل فقفلنا، فلم تعمر بعد ذلك وخربت، وأمن الروم. ذكر عزل سعيد بن العاص عن المدينة واستعمال مروان وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة، واستعمل عليها مروان بن الحكم. ذكر سبب عزل معاوية سعيدا واستعمال مروان حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، عن جويرة بن أسماء، عن أشياخه، أن معاوية كان يغري بين مروان وسعيد بن العاص، فكتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة: اهدم دار مروان؛ فلم يهدمها، فأعاد عليه الكتاب بهدمها، فلم يفعل، فعزله وولى مروان. وأما محمد بن عمر؛ فإنه ذكر أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص يأمره بقبض أموال مروان كلها فيجعلها صافيةً، ويقبض فدك منه - وكان وهبها له، فراجعه سعيد بن العاص في ذلك، وقال: قرابته قريبة. فكتب إليه ثانية يأمره باصطفاء أموال مروان، فأبى، وأخذ سعيد بن العاص الكتابين فوضعهما عند جارية، فلما عزل سعيد عن المدينة فوليها مروان، كتب معاوية إلى مروان بن الحكم يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص بالحجاز، وارسل إليه بالكتاب مع ابنه عبد الملك، فخبره أنه لو كان شيئًا غير كتاب أمير المؤمنين لتجافيت، فدعا سعيد بن العاص بالكتابين اللذين كتب بهما معاوية إليه في أموال مروان يأمره فيهما بقبض أمواله، فذهب بهما إلى مروان، فقال: هو كان أوصل لنا منا له! وكف عن قبض أموال سعيد. وكتب سعيد بن العاص إلى معاوية: العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا، أن يضغن بعضنا على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره من الأجنبين، وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء، وتوارث الأولاد ذلك، فوالله لو لم نكن بني أب واحد إلا بما جمعنا الله عليه من نصر الخليفة المظلوم، واجتماع كلمتنا، لكان حقًا علينا أن نرعى ذلك، والذي أدركنا به خير. فكتب إليه يتنصل من ذلك، وأنه عائدٌ إلى أحسن ما يعهده. عاد الحديث إلى حديث عمر، عن علي بن محمد، قال: فلما ولى مروان كتب إليه: اهدم دار سعيد، فأرسل الفعلة، وركب ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك، أتهدم داري! قال: نعم، كتب إلي أمير المؤمنين، ولو كتب في هدم داري لفعلت؛ قال: ما كنت لأفعل؛ قال: بلى، والله لو كتب إليك لهدمتها، قال: كلا أبا عبد الملك. وقال لغلامه: انطلق فجئني بكتاب معاوية؛ فجاء بكتاب معاوية إلى سعيد بن العاص في هدم دار مروان بن الحكم، قال: مروان كتب إليك يا أبا عثمان في هدم داري، فلم تهدم ولم تعلمني. قال: ما كنت لأهدم دارك، ولا أمن، عليك؛ وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا، فقال مروان: فداك أبي وأمي! أنت والله أكثر منا ريشًا وعقبًا. ورجع مرون ولم يهدم دار سعيد. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو محمد بن ذكوان القرشي، قال: قدم سعيد بن العاص على معاوية، فقال له: يا أبا عثمان، كيف تركت أبا عبد الملك؟ قال: تركته ضابطًا لعملك، منفذًا لأمرك. قال: إنه كصاحب الخبزة كفى نضجها فأكلها، قال: كلا، والله يا أمير المؤمنين، إنه لمع قوم لا يحمل بهم السوط، ولا يحل لهم السيف، يتهادون كوقع النبل، سهمٌ لك وسهمٌ عليك؛ قال: ما باعد بينك وبينه؟ قال: خافني على شرفه، وخفته على شرفي، قال: فماذا له عندك؟ قال: أسره غائبًا، وأسره شاهدًا؛ قال: تركتنا يا أبا عثمان في هذه الهنات؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فتحملت الثقل، وكفيت الحزم، وكنت قريبًا لو دعوت أجبت، ولو ذهبت رفعت. وفي هذه السنة كان عزل معاوية سمرة بن جندب عن البصرة، واستعمل عليها عبد الله بن عمرو بن غيلان. فحدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد قال: عزل معاوية سمرة وولي عبد الله بن عمرو بن غيلان، فأقره ستة أشهر، فولي عبد الله بن عمرو شرطته عبد الله بن حصن. ذكر تولية معاوية عبيد الله بن زياد على خراسان وفي هذه السنة ولي معاوية عبيد الله بن زياد خراسان. ذكر سبب ولاية ذلك حدثني عمر؛ قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثنا مسلمة بن محارب ومحمد بن أبان القرشي، قالا: لما مات زيادٌ وفد عبيد الله إلى معاوية فقال له: من استخلف أخي على عمله بالكوفة؟ قال: عبد الله بن خالد ابن أسيد، قال: فمن استعمل على البصرة؟ قال: سمرة بن دندب الفزاري، فقال له معاوية: لو استعملك أبوك استعملتك، فقال له عبيد الله: أنشدك الله أن يقولها إلي أحدٌ بعدك: لو ولاك أبوك وعمك لوليتك! قالا: وكان معاوية إذا أراد أن يولي رجلًا من بني حرب ولاه الطائف، فإن رأى منه خيرًا وما يعجبه ولاه مكة معها، فإن أحسن الولاية وقام بما ولي قيامًا حسنًا جمع له معهما المدينة، فكان إذا ولى الطائف رجلًا قيل: هو في أبي جاد، فإذا ولاه مكة قيل: هو في القرآن، فإذا ولاه المدينة قيل: هو قد حذق. قالا: فلما قال عبيد الله ما قال ولاه خراسان، ثم قال له حين ولاه: إني قد عهدت إليك مثل عهدي إلى عمالي، ثم أوصيك وصية القرابة لخاصتك عندي، لا تبيعن كثيرًا بقليل، وخذ لنفسك من نفسك، واكتف فيما بينك وبين عدوك بالوفاء تخف عليك المؤونة وعلينا منك، وافتح بابك للناس تكن في العلم منهم أنت وهم سواء، وإذا عزمت على أمر فأخرجه إلى الناس، ولا يكن لأحد فيه مطمع، ولا يرجعن عليك وأنت تستطيع، وإذا لقيت عدوك فغلبوك على ظهر الأرض فلا يغلبوك على بطنها، وإن احتاج أصحابك إلى أن تؤاسيهم بنفسك فآسهم. حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: أخبرنا علي بن مجاهد، عن ابن إسحاق، قال: استعمل معاوية عبيد الله بن زياد وقال: استمسك الفسفاس إن لم يقطع وقال له: اتق الله ولا تؤثرن على تقوى الله شيئًا، فإن في تقواه عوضًا، وق عرضك من أن تدنسه، وإذا أعطيت عهدًا فف به، ولا تبيعن كثيرًا بقليل، ولا تخرجن منك أمرًا حتى تبرمه، فإذا خرج فلا يردن عليك، وإذا لقيت عدوك فكن أكثر من معك، وقاسمهم على كتاب الله، ولا تطمعن أحدًا في غير حقه، ولا تؤيسن أحدًا من حق له. ثم ودعه. حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا مسلمة، قال: سار عبيد الله إلى خراسان في آخر سنة ثلاث وخمسين وهو ابن خمس وعشرين سنة من الشأم وقدم إلى خراسان أسلم بن زرعة الكلابي، فخرج، فخرج معه من الشأم الجعد بن قيس النمري يرجز بين يديه بمرثية زياد يقول فيها: وحدثني عمر مرة أخرى في كتابه الذي سماه كتاب أخبار أهل البصرة، فقال: حدثني أبو الحسن المدائني قال: لما عقد معاوية لعبيد الله بن زياد على خراسان خرج وعليه عمامةٌ - وكان وضيئًا - والجعد بن قيس ينشده مرثية زياد: أبق علي عاذلي من اللوم ** فيما أزيلت نعمتي قبل اليوم قد ذهب الكريم والظل الدوم ** والنعم المؤثل الدثر الحوم والماشيات مشيةً بعد النوم ** ليت الجياد كلها مع القوم سقين سم ساعةٍ قبل اليوم ** لأربع مضين من شهر الصوم ومنها: يوم الثلاثاء الذي كان مضى ** يومٌ قضى فيه المليك ما قضى وفاة برٍّ ماجدٍ جلد القوى ** حر به نوال جعدٍ والتظى كان زيادٌ جبلًا صعب الذرى ** شهمًا إذا شئتم نقيصاتٍ أبى لا يبعد الله زيادًا إذ ثوى وبكى عبيد الله يومئذ حتى سقطت عمامته عن رأسه؛ قال: وقدم عبيد الله خراسان ثم قطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل، فكان هو أول من قطع إليهم جبال بخارى في جند، ففتح راميثن ونصف بيكند - وهما من بخارى - فمن ثم أصاب البخارية. قال علي: أخبرنا الحسن بن رشيد، عن عمه، قال: لقي عبيد الله بن زياد الترك ببخارى ومع ملكهم امرأته قبج خاتون، فلما هزمهم الله أعجلوها عن لبس خفيها، فلبست أحدهما وبقي الآخر، فأصابه المسلمون، فقوم الجورب بمائتي ألف درهم. قال: وحدثني محمد بن حفص، عن عبيد الله بن زياد بن معمر، عن عبادة بن حصن، قال: ما رأيت أحدًا أشد بأسًا من عبيد الله بن زياد، لقينا زحفٌ من الترك بخراسان، فرأيته يقاتل فيحمل عليهم فيطعن فيهم ويغيب عنا، ثم يرفع رايته تقطر دمًا. قال علي: وأخبرنا مسلمة أن البخارية الذين قدم بهم عبيد الله بن زياد البصرة ألفان، كلهم جيد الرمي بالنشاب. قال مسلمة: كان زحف الترك ببخارى أيام عبيد الله بن زياد من زحوف خراسان التي تعد؛ قال: وأخبرنا الهذلي، قال: كانت زحوف خراسان خمسةً: أربعة لقيها الأحنف بن قيس؛ الذي لقيه بين قهستان وأبرشهر، والزحوف الثلاثة التي لقيها بالمرغاب، والزحف الخامس زحف قارن، فضه عبد الله بن خازم. قال علي: قال مسلمة: أقام عبيد الله بن زياد بخراسان سنتين. وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم، كذلك حدثني أحمد ابن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان على المدينة في هذه السنة مروان بن الحكم، وعلى الكوفة عبد الله خالد بن أسيد؛ وقال بعضهم: كان عليها الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبد الله بن عمرو بن غيلان. ثم دخلت سنة خمس وخمسين ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك مشتى سفيان بن عوف الأزدي بأرض الروم في قول الواقدي. وقال بعضهم: بل الذي كان شتا بأرض الروم في هذه السنة عمرو ابن محرز. وقال بعضهم: بل الذي شتا بها عبد الله بن قيس الفزاري. وقال بعضهم: بل ذلك مالك بن عبد الله. وفيها عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبيد الله بن زياد. ذكر الخبر عن سبب عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان وتوليته عبيد الله البصرة حدثني عمر، قال: حدثنا الوليد بن هشام وعلي بن محمد - قال: واختلفا في بعض الحديث - قالا: خطب عبد الله بن عمرو بن غيلان على منبر البصرة، فحصبه رجل من بني ضبة - قال عمر: قال أبو الحسن: يدعى جبير بن الضحاك أحد بني ضرار - فأمر به فقطعت يده، فقال: السمع والطاعة والتسليم ** خيرٌ وأعفى لبني تميم فأتته بنو ضبة، فقالوا: إن صاحبنا جنى ما جنى على نفسه، وقد بالغ الأمير في عقوبته، ونحن لا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين، فيأتي من قبله عقوبة تخص أو تعم، فإن رأى الأمير أن يكتب لنا كتابًا يخرج به أحدنا إلى أمير المؤمنين يخبره أنه قطعه على شبهة وأمر لم يضح، فكتب لهم بعد ذلك إلى معاوية، فأمسكوا الكتاب حتى بلغ رأس السنة - وقال أبو الحسن: لم يزد على ستة أشهر - فوجه إلى معاوية، ووافاه الضبيون، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه قطع صاحبنا ظلمًا، وهذا كتابه إليك، وقرأ الكتاب، فقال: أما القود من عمالي فلا يصح، ولا سبيل إليه، ولكن إن شئتم وديت صاحبكم؛ قالوا: فده؛ فواداه من بيت المال، وعزل عبد الله، وقال لهم: اختاروا من تحبون أن أولي بلدكم؛ قالوا: يتخير لنا أمير المؤمنين، وقد علم رأي أهل البصرة في ابن عامر؛ فقال: هل لكم في ابن عامر؟ فهو من قد عرفتم في شرفه وعفافه وطهارته، قالوا: أمير المؤمنين أعلم، فجعل يردد ذلك عليهم ليسبرهم، ثم قال: قد وليت عليكم ابن أخي عبيد الله بن زياد. قال عمر: حدثني علي بن محمد، قال: عزل معاوية عبد الله بن عزرو وولى عبيد الله بن زياد البصرة في سنة خمسٍ وخمسين وولى عبيد الله أسلم ابن زرعة خراسان فلم يغز ولم يفتح بها شيئًا، وولى شرطه عبد الله بن حصن، والقضاء زرارة بن أوفى ثم عزله، وولى القضاء ابن أذينة العبدي. وفي هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة وولاها الضحاك بن قيس الفهري. وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم؛ حدثني بذلك أحمد ابن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. ثم دخلت سنة ست وخمسين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها كان مشتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم؛ وقيل: عبد الرحمن ابن مسعود. وقيل غزا فيها في البحر يزيد بن شجرة الرهاوي، وفي البر عياض ابن الحارث. وحج بالناس - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر - الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. وفيها اعتمر معاوية في رجب. ذكر خبر البيعة ليزيد بولاية العهد وفيها دعا معاوية الناس إلى بيعة ابنه يزيد من بعده، وجعله ولي العهد. ذكر السبب في ذلك حدثني الحارث، قال: حدثا علي بن محمد، قال: حدثنا أبو إسماعيل الهمداني وعلي بن مجاهد، قالا: قال الشعبي: قدم المغيرة على معاوية واستعفاه وشكا إليه الضعف، فأعفاه، وأراد أن يولي سعيد بن العاص، وبلغ كاتب المغيرة ذلك، فأتى سعيد بن العاص فأخبره وعنده رجل من أهل الكوفة يقال له ربيعة - أو الربيع - من خزاعة، فأتى المغيرة فقال: يا مغيرة، ما أرى أمير المؤمنين إلا قد قلاك، رأيت ابن خنيس كاتبك عند سعيد ابن العاص يخبره أن أمير المؤمنين يوليه الكوفة، قال المغيرة: أفلا يقول كما قال الأعشى: أم غاب ربك فاعترتك خصاصةٌ ** ولعل ربك أن يعود مؤيدا رويدًا! ادخل على يزيد؛ فدخل عليه فعرض له بالبيعة، فأدى ذلك يزيد إلى أبيه، فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة، فأمره أن يعمل في بيعة يزيد، فشخص المغيرة إلى الكوفة، فأتاه كاتبه ابن خنيس، فقال: والله ما غششتك ولا خنتك، ولا كرهت ولايتك، ولكن سعيدًا كانت له عندي يدٌ وبلاء، فشكرت ذلك له، فرضي عنه وأعاده إلى كتابته، وعمل المغيرة في بيعة يزيد، وأوفد في ذلك وافدًا إلى معاوية. حدثني الحارث، قال: حدثنا علي، عن مسلمة، قال: لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال: إن لكل مستشير ثقة، ولك سرٍّ مستودع، وإن الناس قد أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخره يرجو ثوابًا، ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهما منك، فأحمدت الذي قبلك، وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف؛ إن أمير المؤمنين كتب إلي يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد، وهو يتخوف نفرة الناس، ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤديًا عني؛ فأخبره عن فعلات يزيد؛ فقال له: رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركًا في تأخير خيرٌ من تعجيل عاقبته الفوت. فقال عبيد له: أفلا غير هذا! قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سرًا من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوف خلاف الناس لهناتٍ ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس، ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين؛ فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إن شاء الله من الخطإ، قال: تقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم. فقدم على يزيد فذاكره ذلك. وكتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤدة، وألا يعجل، فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فأقطعه قطيعة. حدثني الحارث، قال: حدثنا علي، قال: لما مات زياد دعا معاوية بكتابٍ فقرأه على الناس باستخلاف يزيد، إن حدث به حدث الموت فيزيد ولي عهد، فاستوسق له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة نفر. فحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن عون، قال: حدثني رجل بنخلة، قال: بايع الناس ليزيد بن معاوية غير الحسين بن علي وابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عباس؛ فلما قدم معاوية أرسل إلى الحسين بن علي، فقال: يابن أخي، قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم؛ يابن أخي، فما إربك إلى الخلاف؟ قال: أنا أقودهم! قال: نعم، أنت تقودهم؛ قال: فأرسل إليهم، فإن بايعوا كنت رجلًا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر؛ قال: وتفعل؟ قال: نعم؛ قال: فأخذ عليه ألا يخبر بحديثهم أحدًا قال: فالتوى عليه، ثم أعطاه ذلك، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلًا بالطريق قال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئًا. ثم أرسل بعده إلى ابن الزبير، فقال له: قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم؛ يابن أخي! فما إربك إلى الخلاف؟ قال: أنا أقودهم! قال: نعم، أنت تقودهم؛ قال: فأرسل إليهم فإن بايعوا كنت رجلًا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر؛ قال: وتفعل؟ قال: نعم؛ قال: فأخذ عليه ألا يخبر بحديثهم أحدًا؛ قال: يا أمير المؤمنين، نحن في حرم الله عز وجل، وعهد الله سبحانه ثقيل، فأبى عليه، وخرج. ثم ارسل بعده إلى ابن عمر فكلمه بكلام هو ألين من كلام صاحبه، فقال: إني أرهب أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها، وقد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، فما إربك إلى الخلاف! قال: هل لك في أمرٍ يذهب الذم، ويحقن الدم، وتدرك به حاجتك؟ قال: وددت! قال: تبرز سريرك، ثم أجيء فأبايعك، على أني أدخل بعدك فيما تجتمع عليه الأمة، فوالله لو أن الأمة اجتمعت بعدك على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة؛ قال: وتفعل؟ قال: نعم، ثم خرج فأتى منزله فأطبق بابه، وجعل الناس يجيئون فلا يأذن لهم. فأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: يابن أبي بكر، بأية يدٍ أو رجل تقدم على معصيتي! قال: أرجو أن يكون ذلك خيرًا لي؛ فقال: والله لقد هممت أن أقتلك؛ قال: لو فعلت لأتبعك الله به لعنةً في الدنيا، وأدخلك به في الآخرة النار. قال: ولم يذكر ابن عباس. ذكر عزل ابن زياد عن خراسان واستعمال سعيد بن عثمان وكان العامل على المدينة في هذه السنة مروان بن الحكم، وعلى الكوفة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد ابن عثمان. وكان سبب ولايته خراسان ما حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: أخبرني محمد بن حفص، قال: سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد، فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه، ولا جازيته بآلائه، وقدمت علي هذا - يعين يزيد بن معاوية - وبايعت له؛ ووالله لأنا خير منه أبًا وأمًا ونفسًا؛ فقال: فقال معاوية: أما بلاء أبيك فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور، ولست بلائم لنفسي في التشمير؛ وأما فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خيرٌ مني وأقرب برسول الله ﷺ؛ وأما فضل أمك على أمه فما ينكر، امرأةٌ من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالًا مثلك. فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، ابن عمك، وأنت أحق من نظر في أمره، وقد عتب عليك فأعتبه، قال: فولاه حرب خراسان، وولي إسحاق ابن طلحة خراجها، وكان إسحاق ابن خالة معاوية، أمه أم أبان ابنة عتبة ابن ربيعة، فلما صار بالري مات إسحاق بن طلحة فولي سعيد خراج خراسان وحربها. حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: أخبرنا مسلمة، قال: خرج سعيد إلى خراسان وخرج معه أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس؛ وطلحة ابن عبد الله بن خلف الخزاعي والمهلب بن أبي صفرة وربيعة بن عسل أحد بني عمرو بن يربوع؛ قال: وكان قومٌ من الأعراب يقطعون الطريق على الحاج ببطن فلج، فقيل لسعيد: إن ها هنا قومًا يقطعون الطريق على الحاج ويخيفون السبيل، فلو أخرجتهم معك! قال: فأخرج قومًا من بني تميم، منهم مالك بن الريب المازني في فتيان كانوا معه، وفيهم يقول الراجز: الله أنجاك من القصيم ** ومن أبي حردبة الأثيم ومن غويثٍ فاتح العكوم ** ومالكٍ وسيفه المسموم قال علي: قال مسلمة: قدم سعيد بن عثمان، فقطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه أهل الصغد، فتواقفوا يومًا إلى الليل ثم انصرفوا من غير قتال، فقال مالك بن الريب يذم سعيدًا: ما زلت يوم الصعد ترعد واقفًا ** من الجبن حتى خفت أن تتنصرا وما كان في عثمان شيءٌ علمته ** سوى نسله في رهطه حين أدبرا ولولا بنو حرب لظلت دماؤكم ** بطون العظايا من كسيرٍ وأعورا قال: فلما كان الغد خرج إليهم سعيد بن عثمان، وناهضه الصغد، فقاتلهم فهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنًا منهم خمسين غلامًا يكونون في يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ، ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة. قال: وقدم سعيد بن عثمان خراسان وأسلم بن زرعة الكلابي بها من قبل عبيد الله بن زياد، فلم يزل أسلم بن زرعة بها مقيمًا حتى كتب إليه عبيد الله بن زياد بعهده على خراسان الثانية، فلما قدم كتاب عبيد الله على أسلم طرق سعيد بن عثمان ليلًا، فأسقطت جاريةٌ له غلامًا، فكان سعيد يقول: لأقتلن به رجلًا من بني حرب؛ وقدم على معاوية فشكا أسلم إليه، وغضبت البيسية؛ قال: فدخل همام بن قبيصة النمري فنظر إليه معاوية محمر العينين، فقال: يا همام، إن عينيك لمحمرتان؛ قال همام: كانتا يوم صفين أشد حمرة؛ فغم معاوية ذلك، فلما رأى ذلك سعيد كف عن أسلم، فأقام أسلم بن زرعة على خراسان واليًا لعبيد الله بن زياد سنتين. ثم دخلت سنة سبع وخمسين وكان فيها مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم. وفيها صرف مروان عن المدينة في ذي القعدة في قول الواقدي؛ وقال غيره: كان مروان إليه المدينة في هذه السنة. وقال الواقدي: استعمل معاوية على المدينة حين صرف عنها مروان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. وكالذي قال الواقدي قال أبو معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وكان العامل على الكوفة في هذه السنة الضحاك بن قيس، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى خراسان سعيد بن عثمان بن عفان. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففيها نزع معاوية مروان عن المدينة في ذي القعدة في قول أبي معشر، وأمر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عليها؛ حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه. وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم. وفيها قتل يزيد بن شجرة في البحر في السفن في قول الواقدي. قال: ويقال عمرو بن يزيد الجهني، وكان الذي شتا بأرض الروم، وقد قيل: إن الذي غزا في البحر في هذه السنة جنادة بن أبي أمية. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره. عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم وفي هذه السنة ولي معاوية الكوفة عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس، ففي عمله في هذه السنة خرجت الطائفة الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم في السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات المغيرة خرجا من السجن. فذكر هشام بن محمد أن أبا مخنف، حدثه عن عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي أن حيان بن ظبيان السلمي جمع إليه أصحابه، ثم إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال لهم: أما بعد، فإن الله عز وجل كتب علينا الجهاد، فمنا من قضى نحبه، ومنا من ينتظر، وأولئك الأبرار الفائزون بفضلهم، ومن يكن منا من ينتظر فهو من سلفنا القاضين نحبهم، السابقين بإحسان؛ فمن كان منكم يريد الله وثوابه فليسلك سبيل أصحابه وإخوانه يؤته الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله مع المحسنين. قال معاذ بن جوين الطائي: يا أهل الإسلام، إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور، كان لنا به عند الله عذر، لكان تركه أيسر علينا، وأخف من ركوبه، ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا، وقد جعل لنا القلوب والأسماع حتى ننكر الظلم، ونغير الجور، ونجاهد الظالمين؛ ثم قال: ابسط يدك نبايعك، فبايعه وبايعه القوم، فضربوا على يد حيان بن ظبيان، فبايعوه، وذلك في إمارة عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، وهو ابن أم الحكم، وكان على شرطته زائدة بن قدامة الثقفي. ثم إن القوم اجتمعوا بعد ذلك بأيام إلى منزل معاذ بن جوين بن حصين الطائي. فقال لهم حيان بن ظبيان: عباد الله، أشيروا برايكم، أين تأمروني أن أخرج؟ فقال له معاذ: إني أرى أن تسير بنا إلى حلوان حتى ننزلها، فإنها كورةٌ بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر - يعني بالثغر الري - فمن كان يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبال والسواد لحق بنا. فقال له حيان: عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، لعمري لا يتركونكم حتى يجتمعوا إليكم، ولكن قد رأيت أن أخرج معكم في جانب الكوفة والسبخة أو زرارة والحيرة، ثم نقاتلهم حتى نلحق بربنا، فإني الله لقد علمت أنكم لا تقدرون وأنتم دون المائة رجل أن تهزموا عدوكم، ولا أن تشتد نكايتكم فيهم؛ ولكن متى علم الله أنكم قد أجهدتم أنفسكم في جهاد عدوه وعدوكم كان لكم به العذر، وخرجتم من الإثم. قالوا: رأينا رأيك، فقال لهم عتريس ابن عرقوب أبو سليمان الشيباني: ولكن لا أرى رأي جماعتكم، فانظروا في رأي لكم، إني لا إخالكم تجهلون معرفتي بالحرب، وتجربتي بالأمور، فقالوا له: أجل، أنت كما ذكرت، فما رأيك؟ قال: ما أرى أن تخرجوا على الناس بالمصر، إنكم قليل في كثير، والله ما تزيدون على أن تجزروهم أنفسكم؛ وتقروا أعينهم بقتلكم، وليس هكذا تكون المكايدة إذ آثرتم أن تخرجوا على قومكم، فكيدوا عدوكم ما يضرهم؛ قالوا: فما الرأي؟ قال: تسيرون إلى الكورة التي أشار بنزولها معاذ بن جوين بن حصين - يعني حلوان - أو تسيرون بنا إلى عين التمر فنقيم بها، فإذا سمع بنا إخواننا أتونا من كل جانبٍ وأوب؛ فقال له حيان بن ظبيان: إنك والله لو سرت بنا أنت وجميع أصحابك نحو أحد هذين الوجهين ما اطمأننتم به حتى يلحق بكم خيول أهل المصر، فأنى تشفون أنفسكم! فوالله ما عدتكم بالكثيرة التي ينبغي أن تطمعوا معها بالنصر في الدنيا على الظالمين المعتدين، فاخرجوا بجانب من مصركم هذا فقاتلوا عن أمر الله من خالف طاعة الله، ولا تربصوا ولا تنتظروا فإنكم إنما تبادرون بذلك إلى الجنة، وتخرجون أنفسكم بذلك من الفتنة. قالوا: أما إذا كان لابد لنا فإنا لن نخالفك، فاخرج حيث أحببت. فمكث حتى إذا كان آخر سنة من سني ابن أم الحكم في أول السنة - وهو أول يوم من شهر ربيع الآخر - اجتمع أصحاب حيان بن ظبيان إليه، فقال لهم: يا قوم، إن الله قد جمعكم لخير وعلى خيرٍ، والله الذي لا إله غيره ما سررت بشيء قط في الدنيا بعد ما أسلمت سروري لمخرجي هذا على الظلمة الأثمة، فوالله ما أحب أن الدنيا بحذافيرها لي وأن الله حرمني في مخرجي هذا الشهادة. وإني قد رأيت أن نخرج حتى ننزل جانب دار جرير، فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم. فقال عتريس بن عرقوب البكري: أما أن نقاتلهم في جوف المصر فإنه يقاتلنا الرجال، وتصعد النساء والصبيان والإماء فيرموننا بالحجارة؛ فقال لهم رجل منهم: انزلوا بنا إذًا من وراء المصر الجسر - وهو موضع زرارة، وإنما بنيت زرارة بعد ذلك إلا أبياتًا يسيرة كانت منها قبل ذلك - فقال لهم معاذ بن جوين بن حصين الطائي: لا، بل سيروا بنا فلننزل بانقيا فما أسرع ما يأتيكم عدوكم، فإذا كان ذلك استقبلنا القوم بوجوهنا، وجعلنا البيوت في ظهورنا، فقاتلناهم من وجه واحد. فخرجوا، فبعث إليهم جيش، فقتلوا جميعًا. ثم إن عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الكوفة، فحدثت عن هشام ابن محمد، قال: استعمل معاوية ابن أم الحكم على الكوفة فأساء السيرة فيهم، فطردوه، فلحق بمعاوية وهو خاله، فقال له: أوليك خيرًا منها؛ مصر؛ قال: فولاه، فتوجه إليها، وبلغ معاوية بن حديج السكوني الخبر، فخرج فاستقبله على مرحلتين من مصر، فقال: ارجع إلى خالج فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة. قال: فرجع إلى معاوية، وأقبل معاوية بن حديج وافدًا؛ قال: وكان إذا جاء قلست له الطريق - يعني ضربت له قباب الريحان - قال: فدخل على معاوية وعنده أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: بخٍ! هذا معاوية بن حديج؛ قالت: لا مرحبًا به! تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه؛ فقال: على رسلك يا أم الحكم! أما والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في أخواننا من أهل الكوفة؛ ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضربًا يطأطىء منه، وإن كره ذلك الجالس. فالتفت إليها معاوية، فقال: كفى. ذكر قتل عروة بن أدية وغيره من الخوارج وفي هذه السنة اشتد عبيد الله بن زياد على الخوارج، فقتل منهم صبرًا جماعةً كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، وممن قتل منهم صبرًا عروة بن أدية، أخو أبي بلال مرداس بن أدية. ذكر سبب قتله إياهم حدثني عمر، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عيسى بن عاصم الأسدي، أن ابن زياد خرج في رهان له، فلما جلس ينتظر الخيل اجتمع الناس وفيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال، فأقبل على ابن زياد فقال: خمس كن في الأمم قبلنا، فقد صرن فينا: " أتبنون بكل ريعٍ آيةً تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين ". وخصلتين أخريين لم يحفظهما جرير. فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يجترىء على ذلك إلا ومعه جماعة من أصحابه، فقام وركب وترك رهانه، فقيل لعروة: ما صنعت! تعلمن والله ليقتلنك. قال: فتوارى، فطلبه ابن زياد، فأتى الكوفة، فأخذ بها، فقدم به على ابن زياد، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم دعا به فقال: كيف ترى؟ قال: أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك؛ فقتله، وأرسل إلى ابنته فقتلها. وأما مرداس بن أدية فإنه خرج بالأهواز وقد كان ابن زياد قبل ذلك حبسه - فيما حدثني عمر، قال: حدثني خلاد بن زيدي الباهلي، قال -: حبس ابن زياد - فيمن حبس - مرداس ابن أدية، فكان السجان يرى عبادته واجتهاده، وكان يأذن له في الليل، فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، وكان صديقٌ لمرداس يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج ليلةً فعزم على قتلهم إذا أصبح، فانطلق صديق مرداس إلى منزل مرداس فأخبرهم، وقال: أرسلوا إلى أبي بلال في السجن فليتعهد فإنه مقتول، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن، فبات بليلة سوء إشفاقًا من أن يعلم الخبر مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يرجع فيه إذا به قد طلع، فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم؛ قال: ثم غدوت! قال: نعم، ولم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب بسببي؛ وأصبح عبيد الله فجعل يقتل الخوارج، ثم دعا بمرداس، فلما حضر وثب السجان - وكان ظئرًا لعبيد الله - فأخذ بقدمه، ثم قال: هب هذا؛ وقص عليه قصته، فوهبه له وأطلقه. حدثني عمر، قال: حدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: حدثني يونس بن عبيد؛ قال: خرج مرداس أبو بلال - وهو من بني ربيعة بن حنظلة - في أربعين رجلًا إلى الأهواز، فبعث إليهم ابن زياد جيشًا عليهم ابن حصن التميمي، فقتلوا في أصحابه وهزموه، فقالرجلٌ من بني تيم الله بن ثعلبة: أألفا مؤمنٍ منكم زعمتم ** ويقتلهم بآسك أربعونا كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ** ولكن الخوارج مؤمنونا هي الفئة القليلة قد علمتم ** على الفئة الكثيرة ينصرونا قال عمر: البيت الأخير ليس في الحديث، أنشدنيه خلاد بن يزيد الباهلي. وقيل: مات في هذه السنة عميرة بن يثربي قاضي البصرة، واستقضى مكانه عليها هشام بن هبيرة. وكان على الكوفة في هذه السنة عبد الرحمن بن أم الحكم. وقال بعضهم: كان عليها الضحاك بن قيس الفهري، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح. وحج بالناس الوليد بن عتبة في هذه السنة، كذلك قال أبو معشر والواقدي. ثم دخلت سنة تسع وخمسين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففيها كان مشتى عمرو بن مرة الجهني أرض الروم في البر؛ قال الواقدي: لم يكن عامئذٍ غزوٌ في البحر. وقال غيره: بل غزا في البحر جنادة بن أبي أمية. وفيها عزل عبد الرحمن بن أم الحكم عن الكوفة، واستعمل عليها النعمان بن بشير الأنصاري؛ وقد ذكرنا قبل سبب عزل ابن أم الحكم عن الكوفة. ذكر ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان وفي هذه السنة ولى معاوية عبد الرحمن بن زياد بن سمية خراسان. ذكر سبب استعمال معاوية إياه على خراسان حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا أبو عمرو، قال: سمعت أشياخنا يقولون: قدم عبد الرحمن بن زياد وافدًا على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، أما لنا حقٌّ؟ قال: بلى؛ قال: فماذا توليني؟ قال: بالكوفة النعمان رشيدٌ، وهو رجل من أصحاب النبي ﷺ، وعبيد الله بن زياد على البصرة وخراسان، وعباد بن زياد على سجستان، ولست أرى عملًا يشبهك إلا أن أشركك في عمل أخيك عبيد الله؛ قال أشركني، فإن عمله واسع يحتمل الشركة، فولاه خراسان. قال علي: وذكر أبو حفس الأزدي، قال: حدثني عمر، قال: قدم علينا قيس بن الهيثم السلمي، وقد وجهه عبد الرحمن بن زياد، فأخذ أسلم بن زرعة فحبسه، ثم قدم عبد الرحمن، فأغرم أسلم بن زرعة ثلثمائة ألف درهم. قال: وذكر مصعب بن حيان، عن أخيه مقاتل بن حيان، قال: قدم عبد الرحمن بن زياد خراسان، فقدم رجلٌ سخيٌّ حريصٌ ضعيفٌ لم يغز غزوةً واحدةً، وقد أقام بخراسان سنتين. قال علي: قال عوانة: قدم عبد الرحمن بن زياد على يزيد بن معاوية من خراسان بعد قتل الحسين رضي الله عنه، واستخلف على خراسان قيس ابن الهيثم. قال: وحدثني مسلمة بن محارب وأبو حفص، قالا: قال يزيد لعبد الرحمن ابن زياد: كم قدمت به معك من المال من خراسان؟ قال: عشرين ألف ألف درهم؛ قال: إن شئت حاسبناك وقبضناها منك، ورددناك على عملك، وإن شئت سوغناك وعزلناك، وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم؛ قال: بل تسوغني ما قلت، ويستعمل عليها غيري. وبعث عبد الرحمن بن زياد إلى عبد الله بن جعفر بألف ألف درهم، وقال: خمسمائة ألف من قبل أمير المؤمنين، وخمسمائة ألف من قبلي. ذكر وفود عبيد الله بن زياد على معاوية وفي هذه السنة وفد عبيد الله بن زياد على معاوية في أشراف أهل البصرة، فعزله عن البصرة، ثم رده عليها وجدد له الولاية. ذكر من قال ذلك حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: وفد عبيد الله بن زياد في أهل العراق إلى معاوية فقال له: ائذن لوفدك على منازلهم وشرفهم، فأذن لهم، ودخل الأحنف في آخرهم، وكان سيىء المنزلة من عبيد الله، فلما نظر إليه معاوية رحب به، وأجلسه معه على سريريه، ثم تكلم القوم فأحسنوا الثناء على عبيد الله، والأحنف ساكت، فقال: ما لك يا أبا بحر لا تتكلم! قال: إن تكلمت خالفت القوم. فقال: انهضوا فقد عزلته عنكم، واطلبوا واليًا ترضونه، فلم يبق في القوم أحد إلا أتى رجلًا من بني أمية أو من أشراف أهل الشأم، كلهم يطلب، وقعد الأحنف في منزله، فلم يأت أحدًا، فلبثوا أيامًا، ثم بعث إليهم معاوية فجمعهم، فلما دخلوا عليه قال: من اخترتم؟ فاختلفت كلمتهم، وسمى كل فريق منهم رجلًا والأحنف ساكتٌ، فقال له معاوية: ما لك يا ابا بحر لا تتكلم! قال: إن وليت علينا أحدًا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدًا، وإن وليت من غيرهم فانظر في ذلك، قال معاوية: فإني قد أعدته عليكم، ثم أوصاه بالأحنف، وقبح رأيه في مباعدته، فلما هاجت الفتنة لم يف لعبيد الله غير الأحنف. ذكر هجاء يزيد بن مفرغ الحميري بني زياد وفي هذه السنة كان ما كان من أمر يزيد بن مفرغ الحميري وعباد بن زياد وهجاء يزيد بني زياد. ذكر سبب ذلك حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري كان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، فاستبطأه، فأصاب الجند مع عباد ضيقٌ في أعلاف دوابهم، فقال ابن مفرغ: ألا ليت اللحى عادة حشيشًا ** فنعلفها خيول المسلمينا! وكان عباد بن زياد عظيم اللحية، فأنهى شعره إلى عباد؛ وقيل: ما أراد غيرك، فطلبه عباد، فهرب منه، وهجاه بقصائد كثيرة، فكان مما هجاه به قوله: إذا أودى معاوية بن حربٍ ** فبشر شعب قعبك بانصداع فأشهد أن أمك لم تباشر ** أبا سفيان واضعة القناع ولكن كان أمرًا فيه لبسٌ ** على وجلٍ شديدٍ وارتياع وقوله: ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ** مغلغلةً من الرجل اليماني أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ** وترضى أن يقال أبوك زان! فأشهد أن رحمك من زيادٍ ** كرحم الفيل من ولد الأتان فحدثني أبو زيد، قال: لما هجا ابن المفرغ عبادًا فارقه مقبلًا إلى البصرة، وعبيد الله يومئذ وافدٌ على معاوية، فكتب عباد إلى عبيد الله ببعض ما هجاه به، فلما قرأ عبيد الله الشعر دخل على معاوية فأنشده إياه، واستأذنه في قتل ابن مفرغ، فأبى عليه أن يقتله، وقال: أدبه ولا تبلغ به القتل، وقدم ابن مفرغ البصرة، فاستجار بالأحنف بن قيس، فقال: إنا لا نجير على ابن سمية، فإن شئت كفيتك شعراء بني تميم؛ قال: ذاك ما لا أبالي أن أكفاه، فأتى خالد بن عبد الله فوعده، وأتى أمية فوعده، ثم أتى عمر بن عبيد الله بن معمر فوعده، ثم أتى المنذر بن الجارود فأجاره، وأدخله داره، وكانت بحرية بنت المنذر عند عبيد الله، فلما قدم عبيد الله البصرة أخبر بمكان ابن مفرغ عند المنذر، وأتى المنذر عبيد الله مسلمًا، فأرسل عبيد الله الشرط إلى دار المنذر، فأخذوا ابن مفرغ، فلم يشعر المنذر وهو عند عبيد الله إلا بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام إلى عبيد الله وقال: أيها الأمير، إني قد أجرته، قال: والله يا منذر ليمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره علي! فأمر به فسقي دواءً، ثم حمل على حمار عليه إكافٌ فجعل يطاف به وهو يسلح في ثيابه، فيمر به في الأسواق، فمر به فارسي فرآه، فسأل عنه، فقال: إين جيست؟ ففهمها ابن مفرغ، فقال: آب است نبيذ ات ** عصارات زبيب است سمية روسبيد است ثم هجا المنذر ابن الجارود: تركت قريشًا أن أجاور فيهم ** وجاورت عبد القيس أهل المشقر أناسٌ أجارونا فكان جوارهم ** أعاصير من فسو العراق المبذر فأصبح جاري من جذيمة نائمًا ** ولا يمنع الجيران غير المشمر وقال لعبيد الله: يغسل الماء ما صنعت وقولي ** راسخٌ منك في العظام البوالي ثم حمله عبيد الله إلى عباد بسجستان، فكلمه اليمانية فيه بالشأم معاوية، فأرسل رسولًا إلى عباد، فحمل ابن مفرغ من عنده حتى قدم على معاوية، فقال في طريقة: عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ** نجوت وهذا تحملين طليق لعمري لقد نجاك من هوة الردى ** إمامٌ وحبلٌ للأنام وثيق سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ ** ومثلي بشكر المنعمين حقيق فلما دخل على معاوية بكى وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم على غير حدث ولا جريرة! قال: أولست القائل: ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ** مغلغلةً من الرجل اليماني! القصيدة - قال: لا والذي عظم حق أمير المؤمنين ما قلت هذا؛ قال: أفلم تقل: فأشهد أن أمك لم تباشر ** أبا سفيان واضعة القناع في أشعار كثيرة هجوت بها ابن زياد! اذهب فقد عفونا لك عن جرمك، أما لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء، فانطلق؛ وفي أرض شئت فانزل. فنزل الموصل، ثم إنه ارتاح إلى البصرة، فقدمها، ودخل على عبيد الله فآمنه. وأما أبو عبيدة فإنه قال في نزول ابن مفرغ الموصل عن الذي أخبرني به أبو زيد، قال: ذكر أن معاوية لما قال له: ألست القائل: ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ** مغلغلةً من الرجل اليماني الأبيات، حلف ابن مفرغ أنه لم يقله، وأنه إنما قاله عبد الرحمن بن أم الحكم أخو مروان، واتخذني ذريعةً إلى هجاء زياد، وكان عتب عليه قبل ذلك، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن أم الحكم وحرمه عطاءه، حتى أضربه، فكلم فيه، فقال: لا أرضى عنه حتى يرضى عبيد الله؛ فقدم العراق على عبيد الله، فقال عبد الرحمن له: لأنت زيادةٌ في آل حربٍ ** أحب إلي من إحدى بناني أراك أخًا وعمًا وابن عمٍّ ** ولا أدري بغيبٍ ما تراني فقال: أراك والله شاعر سوء! فرضي عنه، فقال معاوية لابن مفرغ: ألست القائل: فأشهد أن أمك لم تباشر ** أبا سفيان واضعة القناع الأبيات! لا تعودن إلى مثلها، عفونا عنك. فأقبل حتى نزل الموصل، فتزوج امرأة، فلما كان في ليلة بنائها خرج حين أصبح إلى الصيد، فلقي ذهانًا أو عطارًا على حمار له، فقال له ابن مفرغ: من أين أقبلت؟ قال: من الأهواز؛ قال: وما فعل ماء مسرفان؟ قال: على حاله؛ قال: فخرج ابن مفرغ فتوجه قبل البصرة، ولم يعلم أهله بمسيره، ومضى حتى قدم على عبيد الله بن زياد بالبصرة، فدخل عليه فآمنه، ومكث عنده حتى استأذنه في الخروج إلى كرمان، فأذن له في ذلك، وكتب إلى عامله هنالك بالوصاة والإكرام له، فخرج إليها. وكان عامل عبيد الله يومئذ على كرمان شريك ابن الأعور الحارثي. وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره. وكان الوالي على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وعلى قضائها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الرحمن بن زياد، وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور من قبل عبيد الله بن زياد. ثم دخلت سنة ستين ذكر ما كان فيها من الأحداث ففي هذه السنة كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية ودخول جنادة ابن أبي أمية رودس، وهدمه مدينتها، في قول الواقدي. ذكر عهد معاوية لابنه يزيد وفيها كان أخذ معاوية على الوفد الذين وفدوا إليه مع عبيد الله بن زياد البيعة لابنه يزيد، وعهد إلى ابنه يزيد حين مرض فيها ما عهد إليه في النفر الذين امتنعوا من البيعة ليزيد حين دعاهم إلى البيعة. وكان عهده الذي عهد، ما ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة؛ أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها دعا يزيد ابنه، فقال: يا بني، إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا اربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر؛ فأما عبد الله بن عمر فرجلٌ قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحدٌ غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحمًا ماسة وحقًا عظيمًا؛ وأما ابن أبي بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئًا صنع مثلهم، ليس له همة إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب، فإذا أمكنته فرصةٌ وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربًا إربًا. قال هشام: قال عوانة: قد سمعنا في حديث آخر أن معاوية لما حضره الموت - وذلك في سنة ستين - وكان يزيد غائبًا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري - وكان صاحب شرطته - ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملًا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشأم فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشأم إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم؛ وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله ابن الزبير؛ فأما ابن عمر فرجل وقذه الدين، فليس ملتمسًا شيئًا قبلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحمًا ماسة، وحقًا عظيمًا، وقرابةً من محمد ﷺ، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خبٌّ ضبٌّ، فإذا شخص لك فالبد له، إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت. ذكر وفاة معاوية بن أبي سفيان وفي هذه السنة هلك معاوية بن أبي سفيان بدمشق، فاختلف في وقت وفاته بعد إجماع جميعهم على أن هلاكه كان في سنة ستين من الهجرة، وفي رجب منها، فقال هشام بن محمد: مات معاوية لهلال رجب من سنة ستين. وقال الواقدي: مات معاوية للنصف من رجب. وقال علي بن محمد: مات معاوية بدمشق سنة ستين يوم الخميس لثمانٍ بقين من رجب؛ حدثني بذلك الحارث عنه. ذكر الخبر عن مدة ملكه حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثني من سمع إسحاق بن عيسى يذكر عن أبي معشر، قال: بويع لمعاوية بأذرح، بايعه الحسن بن علي في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، وتوفي معاوية في رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سنةً وثلاثة أشهر. وحدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار السعدي، عن أبيه، قالوا: توفي معاوية ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يومًا. وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: بايع أهل الشأم معاوية بالخلافة في سنة سبع وثلاثين في ذي القعدة حين تفرق الحكمان، وكانوا قبل بايعوه على الطلب بدم عثمان، ثم صالحه الحسن بن علي، وسلم له الأمر سنة إحدى وأربعين، لخمس بقين من شهر ربيع الأول، فبايع الناس جميعًا معاوية، فقيل: عام الجماعة؛ ومات بدمشق سنة ستين، يوم الخميس لثمان بقين من رجب. وكانت ولايته تسع عشرة سنةً وثلاثة أشهر وسبعةً وعشرين يومًا. قال: ويقال: كان بين موت علي رضي الله عنه وموت معاوية تسع عشرة سنةً وعشرة أشهر وثلاث ليالٍ. وقال هشام بن محمد: بويع لمعاوية بالخلافة في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، فولي تسع عشرة سنةً وثلاثة أشهر إلا أيامًا، ثم مات لهلال رجب من سنة ستين. ذكر مدة عمره واختلفوا في مدة عمره، وكم عاش؟ فقال بعضهم: مات يوم مات وهو ابن خمسٍ وسبعين سنة. ذكر من قال ذلك حدثني عمر، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: أخبرني هشام بن الوليد، قال: قال ابن شهاب الزهري: سألني الوليد عن أعمار الخلفاء، فأخبرته أن معاوية مات وهو ابن خمس وسبعين سنة؛ فقال: بخٍ بخٍ! إن هذا لعمر. وقال آخرون: مات وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. ذكر من قال ذلك حدثني عمر، قال: حدثني أحمد بن زهير قال: قال علي بن محمد: مات معاوية وهو ابن ثلاث وسبعين؛ قال: ويقال ابن ثمانين سنة. وقال آخرون: توفي وهو ابن ثمان وسبعين سنة. ذكر من قال ذلك حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: توفي معاوية وهو ابن ثمان وسبعين سنة. وقال آخرون: توفي وهو ابن خمس وثمانين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد أنه كان يقوله عن أبيه. ذكر العلة التي كانت فيها وفاته حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير، قال: لما ثقل معاوية وحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني إثمدًا، وأوسعوا رأسي دهنًا، ففعلوا، وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له، فجلس وقال: أسندوني، ثم قال: ائذنوا للناس فليسلموا قيامًا، ولا يجلس أحدٌ، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائمًا فيراه مكتحلًا مدهنًا فيقول: يقول الناس: هو لمآبه، وهو أصح الناس، فلما خرجوا من عنده قال معاوية: وتجلدي للشامتين أريهم ** أني لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع قال: وكان به النفاثات، فمات من يومه ذلك. حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن إسحاق بن أيوب، عن عبد الملك بن ميناس الكلبي، قال: قال معاوية، لابنتيه في مرضه الذي مات فيه وهما تقلبانه: تقلبان حولًا قلبًا، جمع المال من شب إلى دب إن لم يدخل النار، ثم تمثل: لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب ** وقد كفيتكم التطواف والرحلا ويقال: من جمع ذي حسب. حدثني أحمد بن زهير، عن علي، عن سليمان بن أيوب، عن الأوزاعي وعلي بن مجاهد، عن عبد الأعلى بن ميمون، عن أبيه؛ أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه: إن رسول الله ﷺ كساني قميصًا فرفعته. وقلم أظفاره يومًا، فأخذت قلامته فجعلتها في قارورة، فإذا مت فألبسوني ذلك القميص، وقطعوا تلك القلامة، واستحقوها وذروها في عيني، وفي في، فعسى الله أن يرحمني ببركتها! ثم قال متمثلًا بشعر الأشهب بن رميلة النهشلي يمدح به القباع: إذا مت مات الجود وانقطع الندى ** من الناس إلا من قليل مصرد وردت أكف السائلين وأمسكوا ** من الدين والدنيا بخلفٍ مجدد فقالت إحدى بناته - أو غيرها: كلا يا أمير المؤمنين، بل يدفع الله عنك؛ فقال متمثلًا: وإذا المنية أنشبت أظفارها ** ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال: لمن حضره من أهله: اتقوا الله عز وجل، فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقي لمن لا يتقي الله؛ ثم قضى. حدثنا أحمد، عن علي، عن محمد بن الحكم، عمن حدثه أن معاوية لما حضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، كان أراد أن يطيب له الباقي، لأن عمر قاسم عماله. ذكر الخبر عمن صلى على معاوية حين مات حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: صلى على معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائبًا حين مات معاوية. وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الملك ابن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، قال: لما مات معاوية خرج الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية بين يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن معاوية كان عود العرب، وحد العرب، قطع الله عز وجل به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد. ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى. وبعث البريد إلى يزيد بوجع معاوية، فقال يزيد في ذلك: جاء البريد بقرطاسٍ يخب به ** فأوجس القلب من قرطاسه فزعا قلنا: لك الويل ماذا في كتابكم؟ ** قالوا: الخليفة أمسى مثبتًا وجعا فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ** كأن أغبر من أركانها انقطعا من لا تزل نفسه توفي على شرفٍ ** توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا لما انتهينا وباب الدار منصفقٌ ** وصوت رملة ريع القلب فانصدعا حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن إسحاق بن خليد، عن خليد ابن عجلان مولى عباد، قال: مات معاوية ويزيد بحوارين، وكانوا كتبوا إليه حين مرض، فأقبل وقد دفن، فأتى قبره فصلى عليه، ودعا له، ثم أتى منزله، فقال: جاء الريد بقرطاس.. الأبيات. ذكر الخبر عن نسبه وكنيته أما نسبه فإنه ابن أبي سفيان، واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وأمه هند بنت عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وكنيته أبو عبد الرحمن. ذكر نسائه وولده من نسائه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي ابن زهير بن حارثة بن جناب الكلبي، ولدت له يزيد بن معاوية. قال علي: ولدت ميسون لمعاوية مع يزيد أمةً - رب المشارق - فماتت صغيرة، ولم يذكرها هشام في أولاد معاوية. ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف. ولدت له عبد الرحمن وعبد الله بني معاوية، وكان عبد الله محمقًا ضعيفًا، وكان يكنى أبا الخير. حدثني أحمد، عن علي بن محمد، قال: مر عبد الله بن معاوية يومًا بطحان قد شد بغله في الرحا للطحن، وجعل في عنقه جلاجل، فقال له: لم جعلت في عنق بغلك هذه الجلاجل؟ فقال الطحان: جعلتها في عنقه لأعلم إن قد قام فلم تدر الرحا، فقال له: أرأيت إن هو قام وحرك رأسه كيف تعلم أنه لا يدير الرحا؟ فقال له الطحان: إن بغلي هذا - أصلح الله الأمير - ليس له عقل مثل عقل الأمير! وأما عبد الرحمن فإنه مات صغيرًا. ومنهن نائلة بنت عمارة الكلبية، تزوجه؛ فحدثني أحمد، عن علي قال: لما تزوج معاوية نائلة قال لميسون: انطلقي فانظري إلى ابنة عمك، فنظرت إليها، فقال: كيف رأيتها؟ فقالت: جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت سرتها خالًا ليوضعن رأس زوجها في حجرها، فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثم خلف عليها بعد حبيب النعمان بن بشير الأنصاري، فقتل، ووضع رأسه في حجرها. ومنهن كتوة بنت قرظة أخت فاختة، فغزا قبرس وهي معه، فماتت هنالك. ذكر بعض ما حضرنا من ذكر أخباره وسيره حدثني أحمد بن زهير، عن علي، قال: لما بويع لمعاوية بالخلافة صير على شرطته قيس بن حمزة الهمداني، ثم عزله، واستعمل زميل بن عمرو العذري - ويقال السكسكي. وكان كاتبه وصاحب أمره سرجون بن منصور الرومي، وعلى حرسه رجلٌ من الموالي يقال له المختار؛ وقيل: رجل يقال له مالك، ويكنى أبا المخارق، مولىً لحمير. وكان أول من اتخذ الحرس، وكان على حجابه سعد مولاه، وعلى القضاء فضالة بن عبيد الأنصاري، فمات فاستقضى أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني. إلى ها هنا حديث أحمد، عن علي. وقال غير علي: وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميري، وكان أول من اتخذ ديوان الخاتم. قال: وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بذلك إلى زياد بن سمية وهو على العراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، فأخذ عمرًا بردها وحبسه، فأداها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب، ولم تكن تخزم. حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية! حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: قرأت على عبد الله، عن فليح، قال: أخبرت أن عمرو ابن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو: انظروا: إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلموا عليه بالخلافة، فإنه أعظم لكم في عينه، وصغروه ما استطعتم. فلما قدموا عليه قال معاوية لحجابه: إني كأني أعرف ابن النابغة وقد صغر أمري عند القوم، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني رجل منهم إلا وقد همته نفسه بالتلف. فكان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له ابن الخياط، فدخل وقد تعتع، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله! نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة، فسلمتم عليه بالنبوة! قال: ولبس معاوية يومًا عمامته الحرقانية واكتحل، وكان من أجمل الناس إذا فعل ذلك. شك عبد الله فيه سمعه أو لم يسمعه. حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: حدثنا أبو محمد الأموي، قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشأم، فرأى معاوية في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله؛ وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك! قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزًا؛ فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب؛ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت أصر إليه؛ قال: ويحك! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك! حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن معمر، عن جعفر بن برقان، أن المغيرة كتب إلى معاوية: أما بعد، فإني قد كبرت سني، ودق عظمي، وشنفت لي قريش، فإن رأيت أن تعزلني فاعزلني. فكتب إليه معاوية: جاءني كتابك تذكر فيه أنه كبرت سنك، فلعمري ما أكل عمرك غيرك، وتذكر أن قريشًا شنفت لك، ولعمري ما أصبت خيرًا إلا منهم. وتسألني أن أعزلك، فقد فعلت؛ فإن تك صادقًا فقد شفعتك، وإن تك مخادعًا فقد خدعتك. حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، قال: قال معاوية: إذا لم يكن الأموي مصلحًا لما له، حليمًان لم يشبه من هو منه، وإذا لم يكن الهاشمي سخيًا جوادًا لم يشبه من هو منه، ولا يقدمك من الهاشمي اللسان والسخاء والشجاعة. حدثني أحمد، عن علي، عن عوانة وخلاد بن عيدة، قال: تغدى معاوية يومًا وعنده عبيد الله بن أبي بكرة، ومعه ابنه بشير - ويقال: غير بشير - فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله بن أبي بكرة، فأراد أن يغمز ابنه، فلم يمكنه، ولم يرفع رأسه حتى فرغ، فلما خرج لامه على ما صنع، ثم عاد إليه وليس معه ابنه، فقال معاوية: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اشتكى؛ فقال: قد علمت أن أكله سيورثه داءً. حدثني أحمد، عن علي، عن جويرية بن أسماء، قال: قدم أبو موسى على معاوية، فدخل عليه في برنسٍ أسود، فقال: السلام عليك يا أمين الله، قال: وعليك السلام؛ فلما خرج قال معاوية: قدم الشيخ لأوليه، ولا والله لا أوليه. حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبو صالح سليمان بن صالح قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي بردة، قال: دخلت على معاوية حيث أصابته قرحته، فقال: هلم يابن أخي، نحوي فانظر، فنظرت فإذا هي قد سبرت، فقلت: ليس عليك بأس يا أمير المؤمنين، فدخل يزيد فقال معاوية: إن وليت من أمر الناس شيئًا فاستوص بهذا، فإن أباه كان لي خليلًا أو نحو ذلك من القول غير أني رأيت في القتال ما لم يره. حدثني أحمد، عن علي، عن شهاب بن عبيد الله، عن يزيد بن سويد، قال: أذن معاوية للأحنف وكان يبدأ بإذنه، ثم دخل محمد بن الأشعث فجلس بين معاوية والأحنف، فقال معاوية: إنا لم نأذن له قبلك فتكون دونه، وقد فعلت فعال من أحسن من نفسه ذلًا، إنا كما نملك أموركم نملك إذنكم، فأريدوا منا ما نريد منكم، فإنه أبقى لكم. حدثني أحمد، عن علي، عن سحيم بن حفص، قال: خطب ربيعة بن عسل اليربوعي إلى معاوية، فقال معاوية: اسقوه سويقًا؛ وقال له معاوية: يا ربيعة، كيف الناس عندكم؟ قال: مختلفون على كذا وكذا فرقةً؛ قال: فمن أيهم أنت؟ قال: ما أنا على شيء من أمرهم؛ فقال معاوية: أراهم أكثر مما قلت؛ قال: يا أمير المؤمنين، أعني في بناء داري باثني عشر ألف جذع؛ قال معاوية: أين دارك؟ قال بالبصرة، وهي أكثر من فرسخين في فرسخين؛ قال: فدارك في البصرة، أو البصرة في دارك! فدخل رجلٌ من ولده على ابن هبيرة فقال: أصلح الله الأمير! أنا ابن سيد قومه، خطب أبي إلى معاوية، فقال ابن هبيرة لسلم بن قتيبة: ما يقول هذا؟ هذا ابن أحمق قومه؛ قال ابن هبيرة: هل زوج أباك معاوية؟ قال: لا، قال: فلا أرى أباك صنع شيئًا. حدثني أحمد، عن علي، عن أبي محمد بن ذكوان القرشي، قال: تنازع عتبة وعنبسة ابنا أبي سفيان - وأم عتبة هند وأم عنبسة ابنة أبي أزيهر الدوسي - فأغلظ معاوية لعنبسة، وقال عنبسة: وأنت أيضًا يا أمير المؤمنين؟! فقال: يا عنبسة، إن عتبة ابن هند، فقال عنبسة: كنا بخير صالحًا ذات بيننا ** قديمًا فأمست فرقت بيننا هند فإن تك هندٌ لم تلدني فإنني ** لبيضاء ينميها غطارفةٌ نجد أبوها أبو الأضياف في كل شتوة ** ومأوى ضعافٍ لا تنوء من الجهد جفيناته ما إن تزال مقيمة ** لمن خاف من غوري تهامة أو نجد فقال معاوية: لا أعيدها عليك أبدًا. حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن حرملة بن عمران، قال: أتى معاوية في ليلة أن قيصر قصد له في الناس، وأن ناتل بن قيس الجذامي غلب فلسطين وأخذ بيت مالها، وأن المصريين الذين كان سجنهم هربوا، وأن علي بن أبي طالب قصد له في الناس، فقال لمؤذنه: أذن هذه الساعة - وذلك نصف الليل - فجاءه عمرو بن العاص، فقال: لم أرسلت إلي؟ قال: أنا ما أرسلت إليك؛ قال: ما أذن المؤذن هذه الساعة إلا من أجلي؛ قال: رميت بالقسي الأربع؛ قال عمرو: أما هؤلاء الذين خرجوا من سجنك، فإنهم إن خرجوا من سجنك فهم في سجن الله عز وجل، وهم قوم شراةٌ لا رحلة بهم، فاجعل لمن أتاك برجل منهم أو برأسه ديته، فإنك ستؤتى بهم، وانظر قيصر فوادعه، وأعطه مالًا وحللًا من حلل مصر، فإنه سيرضى منك بذاك، وانظر ناتل ابن قيس، فلعمري ما أغضبه الدين، ولا أراد إلا ما أصاب، فاكتب إليه، وهب له ذلك، وهنئه إياه، فإن كانت لك قدرةٌ عليه، وإن لم تكن لك فلا تأس عليه، واجعل حدك وحديدك لهذا الذي عنده دم ابن عمك. قال: وكان القوم كلهم خرجوا من سجنه غير أبرهة بن الصباح، قال معاوية: ما منعك من أن تخرج مع أصحابك؟ قال: ما منعني منه بغضٌ لعلي، ولا حبٌّ لك، ولكني لم أقدر عليه؛ فخلى سبيله. حدثني عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن جرير بن حازم، قال: سمعت محمد بن الزبير يحدث، قال: حدثني عبد الله بن مسعدة بن حكمة الفزاري من بني آل بدر، قال: انتقل معاوية من بعض كور الشأم إلى بعض عمله، فنزل منزلًا بالشأم، فبسط له على ظهر إجار مشرف على الطريق، فأذن لي، فقعدت معه، فمرت القطرات والرحائل والجواري والخيول، فقال: يابن مسعدة، رحم الله أبا بكر! لم يرد الدنيا ولم ترده الدنيا، وأما عمر - أو قال: ابن خنتمة - فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فأصاب من الدنيا وأصابت منه؛ وأما نحن فتمرغنا فيها؛ ثم كأنه ندم فقال: والله إنه لملك آتانا الله إياه. حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن علي بن عبيد الله، قال: كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يسأله لابنه عبد الله بن عمرو ما كان أعطاه أباه من مصر، فقال معاوية: أراد أبو عبد الله أن يكتب فهدر، أشهدكم أني إن بقيت بعده فقد خلعت عهده. قال: وقال عمرو بن العاص: ما رأيت معاوية متكئًا قط واضعًا إحدى رجليه على الأخرى كاسرًا عينه يقول لرجل: تكلم، إلا رحمته. قال أحمد: قال علي بن محمد: قال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين، ألست أنصح الناس لك؟ قال: بذلك نلت ما نلت. قال أحمد: قال علي: عن جويرية بن أسماء، أن بسر بن أبي أرطاة نال من عليٍّ عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلاه بعصًا فشجه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ من قريش سيد أهل الشأم فضربته! وأقبل على بسر فقال: تشتم عليًا وهو جده وابن الفارق على رءوس الناس، أو كنت ترى أنه يصبر على ذلك! ثم أرضاهما جميعًا. قال: وقال معاوية: إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنبٌ أعظم من عفوي، وجهلٌ أكثر من حلمي، أو عورةٌ لا أواريها بسترى، أو إساءةٌ أكثر من إحساني. قال: وقال معاوية: زين الشريف العفاف؛ قال: وقال معاوية: ما من شيء أحب إلي من عين خرارة، في أرض خوارة، فقال عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إلي من أن أبيت عروسًا بعقيلةٍ من عقائل العرب؛ فقال وردان مولى عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إلي من الإفضال على الإخوان، فقال معاوية: أنا أحق بهذا منك؛ قال: ما تحب فافعل. حدثني أحمد، عن علي، عن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كان عامل معاوية على المدينة إذا أراد أن يبرد بريدًا إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجةٌ يكتب إلى أمير المؤمنين؛ فكتب زر بن حبيش - أو أيمن بن خريم - كتابًا لطيفًا ورمى به في الكتب، وفيه: إذا الرجال ولدت أولادها ** واضطربت من كبر أعضادها وجعلت أسقامها تعتادها ** فهي زروعٌ قد دنا حصادها فلما وردت الكتب عليه فقرأ هذا الكتاب؛ قال: نعى إلي نفسي. قال: وقال معاوية: ما من شيء ألذ عندي من غيظ أتجرعه. قال: وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص: يابن أخي، إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة، والهجاء فتعر كريمًا، وتستثير لئيمًا، والمدح، فإنه طعمة الوقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك. حدثني أحمد، عن علي، قال: قال الحسن بن حماد: نظر معاوية إلى الثما في عباءة، فازدراه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها. حدثني أحمد، عن علي، عن سليمان، قال: قال معاوية: رجلان إن ماتا لم يموتا، ورجلٌ إن مات مات، أنا إن مت خلفني ابني، وسعيد إن مات خلفه عمرو، وعبد الله بن عامر إن مات مات؛ فبلغ مروان، فقال: أما ذكر ابني عبد الملك؟ قالوا: لا؛ قال: ما أحب أن لي بابني ابنيهما. حدثني أحمد، عن علي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: قال رجل لمعاوية: أي الناس أحب إليك؟ قال: أشدهم لي تحبيبًا إلى الناس. قال: وقال معاوية: العقل والحلم أفضل ما أعطى العبد، فإذا ذكر ذكر، وإذا أعطى شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز. حدثني أحمد، عن علي، عن عبد الله، وهشام بن سعد، عن عبد الله ابن عمير، قال: أغلظ رجلٌ لمعاوية فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إني لاأحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا. حدثني أحمد، عن علي، عن محمد بن عامر، قال: لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء، فدخل يومًا على معاوية ومعه بديحٌ، ومعاوية واضع رجلًا على رجل، فقال عبد الله لبديح: إيهًا يا بديح! فتغنى، فحرك معاوية رجله، فقال عبد الله: مه يا أمير المؤمنين! فقال معاوية: إن الكريم طروب. قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية ومعه سائب خاثر - وكان مولىً لبني ليث، وكان فاجرًا - فقا له: ارفع حوائجك؛ ففعل، ورفع فيها حاجة سائبخاثر؛ فقال معاوية: من هذا؟ فخبره؛ فقال: أدخله، فلما قام على باب المجلس غنى: لمن الديار رسومها قفر ** لعبت بها الأرواح والقطر! وخلالها من بعد ساكنها ** حججٌ خلون ثمان أو عشر والزعفران على ترائبها ** شرقًا به اللبات والنحر فقال أحسنت، وقضى حوائجه. حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن معمر، عن همام بن منبه، قال: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت أحدًا أخلق للملك من معاوية، إن كان ليرد الناس منه على أرجاء وادٍ رحب، ولم يكن كالضيق الخضخض، الحصر - يعني ابن الزبير. حدثني عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشبعي، عن قبيصة بن جابر الأسدي قال: ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلًا افقه فقهًا، ولا أحسن مدارسة منه؛ ثم صحبت طلحة بن عبيد الله، فما رايت رجلًا أعطى للجزيل من غير مسألة منه؛ ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلًا أحب رفيقًا، ولا أشبه سريرةً بعلانية منه، ولو أن المغيرة جعل في مدينة لا يخرج من أبوابها كلها إلا بالغدر لخرج منها. خلافة يزيد بن معاوية وفي هذه السنة بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه، للنصف من رجب في قول بعضهم، وفي قول بعضٍ: لثمانٍ بقين منه - على ما ذكرنا قبل من وفاة والده معاوية - فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة، والنعمان بن بشير على الكوفة. وقال هشام بن محمد، عن أبي مخنف؛ ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفة النعمان ابن بشير الأنصاري، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته، وأنه ولي عهده بعده، والفراغ من أمرهم، فكتب إلى الوليد: بسم الله الرحمن الرحيم. من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد، فإن معاوية كان عبدًا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه، وخوله، ومكن له، فعاش بقدر، ومات بأجل، فرحمه الله، فقد عاش محمودًا، ومات برًا تقيًا، والسلام. وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة: أما بعد، فخذ حسينًا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذًا شديدًا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا؛ والسلام. فلما أتاه نعي معاوية فظع به، وكبر عليه، فبعث إلى مروان بن الحكم فدعاه إليه - وكان الوليد يوم قدم المدينة قدمها مروان متكارهًا - فلما رأى ذلك الوليد منه شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان، فجلس عنه وصرمه، فلم يزل كذلك حتى جاء نعي معاوية إلى الوليد، فلما عظم على الوليد هلاك معاوية وما أمر به من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة، فزع عند ذلك إلى مروان، ودعاه، فلما قرأ عليه كتاب يزيد، استرجع وترحم عليه، واستشاره الوليد في الأمر وقال: كيف ترى أن نصنع؟ قال: فإني أرى أن تبعث إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة، فإن فعلوا قبلت منهم، وكففت عنهم، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموت معاوية وثب كل امرىء منهم في جانب، وأظهر الخلاف والمابذة، ودعا إلى نفسه لا أدري؛ أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال، ولا يحب أن يولى على الناس، إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوًا. فأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان - وهو إذ ذاك غلامٌ حدث - إليهما يدعوهما، فوجدهما في المسجد وهما جالسان، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلي فيها للناس، ولا يأتيانه في مثلها، فقال: أجيبا، الأمير يدعوكما، فقال له: انصرف؛ الآن نأتيه. ثم أقبل أحدهما على الآخر، فقال عبد الله بن الزبير للحسين: ظن فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها! فقال حسين: قد ظننت، أرى طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر؛ فقال: وأنا ما أظن غيره. قال: فما تريد أن تصنع؟ قال: أجمع فتياني الساعة، ثم أمشي إليه، فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه، ثم دخلت عليه. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت؛ قال: لا آتيه إلا وأنا على الامتناع قادر. فقام فجمع إليه مواليه وأهل بيته، ثم أقبل يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد وقال لأصحابه: إني داخلٌ، فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم، فدخل فسلم عليه بالإمرة ومروان جالسٌ عنده، فقال حسين؛ كأنه لا يظن ما يظن من موت معاوية: الصلة خيرٌ من القطيعة، أصلح الله ذات بينكما! فلم يجيباه في هذا بشيء، وجاء حتى جلس، فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى له معاوية، ودعاه إلى البيعة، فقال حسين: إنا لله وإنا إليه راجعون! ورحم الله معاوية، وعظم لك الأجر! أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرًا، ولا أراك تجتزىء بها مني سرًا دون أن نظهرها على رءوس الناس علانية؛ قال: أجل، قال: فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرًا واحدًا؛ فقال له الوليد - وكان يحب العافية: فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس؛ فقال له مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدًا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه؛ فوثب عند ذلك الحسين، فقال: يابن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو! كذبت والله وأثمت، ثم خرج فمر بأصحابه، فخرجوا معه حتى أتى منزله. فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدًا؛ قال الوليد: وبخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسينًا، سبحان الله! أقتل حسينًا أن قال: لا أبايع! والله إني لا أظن امرأً يحاسب بدم حسين الخفيف الميزان عند الله يوم القيامة. فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا له وهو غير الحامد له على رأيه. وأما ابن الزبير، فقال: الآن آتيكم، ثم أتى داره فكمن فيها، فبعث الوليد إليه فوجده مجتمعًا في أصحابه متحرزًا، فألح عليه بكثرة الرسل والرجال في إثر الرجال؛ فأما حسين فقال: كف حتى تنظر وننظر، وترى ونرى؛ وأما ابن الزبير فقال: لا تعجلوني فإني آتيكم، أمهلوني، فألحوا عليهما عشيتهما تلك كلها وأول ليلهما، وكانوا على حسين أشد إبقاءً، وبعث الوليد إلى ابن الزبير موالي له فشتموه وصاحوا به: يابن الكاهلية، والله لتأتين الأمير أو ليقتلنك، فلبث بذلك نهاره كله وأول ليلة يقول: الآن أجيء، فإذا استحثوه قال: والله لقد استربت بكثرة الإرسال، وتتابع الرجال، فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه وأمره، فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير فقال: رحمك الله! كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته بكثرة رسلك، وهو آتيك غدًا إن شاء الله، فمر رسلك فلينصرفوا عنا. فبعث إليهم فانصرفوا، وخرج ابن الزبير من تحت الليل فأخذ طريق الفرع هو وأخوه جعفر، ليس معهما ثالث، وتجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب، وتوجه نحو مكة، فلما أصبح بعث إليه الوليد فوجده قد خرج، فقال مروان: والله إن أخطأ مكة فسرح في أثره الرجال، فبعث راكبًا من موالي بني أمية في ثمانين راكبًا، فطلبوه فلم يقدروا عليه، فرجعوا، فتشاغلوا عن حسين بطلب عبد الله يومهم ذلك حتى أمسوا، ثم بعث الرجال إلى حسين عند المساء فقال: أصبحوا ثم ترون ونرى، فكفوا عنه تلك الليلة، ولم يلحوا عليه، فخرج حسين من تحت ليلته، وهي ليلة الأحد ليومين بقين من رجب سنة ستين. وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة، خرج لية السبت فأخذ طريق الفرع، فبينا عبد الله بن الزبير يساير أخاه جعفرًا إذ تمثل جعفرٌ بقول صبرة الحنظلي: وكل بني أمٍّ سيمسون ليلةً ** ولم يبق من أعقابهم غير واحد فقال عبد الله! سبحان الله، ما أردت إلى ما أسمع يا أخي! قال: والله يا أخي ما أردت به شيئًا مما تكره؛ فقال: فذاك والله أكره إلي أن يكون جاء على لسانك من غير تعمد - قال: وكأنه تطير منه - وأما الحسين فإنه خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجل أهل بيته، إلا محمد بن الحنفية فإنه قال له: يا أخي، أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا من هذه الأمصار وتأتي جماعةً من الناس، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسًا وأبًا، وأمًا أضيعها دمًا وأذلها أهلًا؛ قال له الحسين: فإني ذاهب يا أخي؛ قال: فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيلٌ ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك أصوب ما تكون رأيًا وأحزمه عملًا حين تستقبل الأمور استقبالًا، ولا تكون الأمور عليك أبدًا أشكل منها حين تستدبرها استدبارًا؛ قال: يا أخي، قد نصحت فأشفقت، فأرجو أن يكون رأيك سديدًا موفقًا. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعد المقبري، قال: نظرت إلى الحسين داخلًا مسجد المدينة وإنه ليمشي وهو معتمد على رجلين، يعتمد على هذا مرةً وعلى هذا مرة، وهو يتمثل بقول ابن مفرغ: لا ذعرت السوام في فلق الصب ** ح مغيرًا ولا دعيت يزيدا يوم أعطي من المهابة ضيمًا ** والمنايا يرصدنني أن أحيدا قال: فقلت في نفسي: والله ما تمثل بهذين البيتين إلا لشيء يريد، قال: فما مكث إلا يومين حتى بلغني أنه سار إلى مكة. ثم إن الوليد بعث إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد، فقال: إذا بايع الناس بايعت؛ فقال رجل: ما يمنعك أن تبايع؟ إنما تريد أن يختلف الناس فيقتتلوا ويتفانوا، فإذا جهدهم ذلك قالوا: عليكم بعبد الله بن عمر، لم يبق غيره، بايعوه! قال عبد الله: ما أحب أن يقتتلوا ولا يختلفوا ولا يتفانوا، ولكن إذا بايع الناس ولم يبق غيري بايعت؛ قال: فتركوه وكانوا لا يتخوفونه. قال: ومضى ابن الزبير حتى أتى مكة وعليها عمرو بن سعيد، فلما دخل مكة قال: إنما أنا عائذ، ولم يكن يصلي بصلاتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، كان يقف هو وأصحابه ناحيةً، ثم يفيض بهم وحده، ويصلي بهم وحده، قال: فلما سار الحسين نحو مكة، قال: " فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ". فلما دخل مكة قال: " ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ". ذكر عزل الوليد عن المدينة وولاية عمر بن سعيد وفي هذه السنة عزل يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة، عزله في شهر رمضان، فأقر عليها عمرو بن سعيد الأشدق. وفيها قدم عمرو بن سعيد بن العاص المدينة في رمضان، فزعم الواقدي أن ابن عمر لم يكن بالمدينة حين ورد نعي معاوية وبيعة يزيد على الوليد، وأن ابن الزبير والحسين لما دعيا إلى البيعة ليزيد أبيا وخرجا من ليلتهما إلى مكة، فلقيهما ابن عباس وابن عمر جائيين من مكة، فسألاهما، ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد؛ فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين؛ وأما ابن عمر فقدم فأقام أيامًا، فانتظر حتى جاءت البيعة من البلدان، فتقدم إلى الوليد بن عتبة فبايعه، وبايعه ابن عباس. وفي هذه السنة وجه عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله بن الزبير لحربه. ذكر الخبر عن ذلك ذكر محمد بن عمر أن عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق قدم المدينة في رمضان سنة ستين فدخل عليه أهل المدينة، فدخلوا على رجل عظيم الكبر مفوه. قال محمد بن عمر: حدثنا هشام بن سعيد، عنن شيبة بن نصاح، قال: كانت الرسل تجري بين يزيد بن معاوية وابن الزبير في البيعة، فحلف يزيد ألا يقبل منه حتى يؤتى به في جامعة، وكان الحارث بن خالد المخزومي على الصلاة، فمنعه ابن الزبير، فلما منعه كتب يزيد إلى عمرو بن سعيد؛ أن ابعث جيشًا إلى ابن الزبير، وكان عمرو بن سعيد لما قدم المدينة ولى شرطته عمرو بن الزبير، لما كان يعلم ما بينه وبين عبد الله بن الزبير من البضغاء، فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضربًا شديدًا. قال محمد بن عمر: حدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: نظر إلى كل من كان يهوى هوى ابن الزبير فضربه، وكان ممن ضرب المنذر ابن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد ابن عمار بن ياسر، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس إلى مكة، فقال عمرو بن سعيد لعمرو بن الزبير: من رجلٌ نوجه إلى أخيك؟ قال: لا توجه إليه رجلًا أبدًا أنكأ له مني، فأخرج لأهل الديوان عشرات، وخرج من موالي أهل المدينة ناسٌ كثير، وتوجه معه أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة، فوجهه في مقدمته، فعسكر بالجرف، فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال: لا تغز مكة، واتق الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر، هذا له بضعٌ وستون سنةً، وهو رجلٌ لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال عمرو بن الزبير: والله لنقاتلنه ولنغزونه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم؛ فقال مروان: والله إن ذلك لسيوءني؛ فسار أنيس بن عمرو الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح، فأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه: بر يمين الخليفة، واجعل في عنقك جامعة من فضة لا ترى، لا يضرب الناس بعضهم بعضًا، واتق الله فإنك في بلد حرام. قال ابن الزبير: موعدك المسجد؛ فأرسل ابن الزبير عبد الله بن صفوان الجمحي إلى أنيس بن عمرو من قبل ذي طوىً، وكان قد ضوى إلى عبد الله ابن صفوان قومٌ ممن نزل حول مكة، فقاتلوا أنيس بن عمرو، فهزم أنيس ابن عمرو أقبح هزيمة، وتفرق عن عمرو جماعة أصحابه، فدخل دار علقمة، فأتاه عبيده بن الزبير فأجاره، ثم جاء إلى عبد الله بن الزبير فقال: إني قد أجرته؛ فقال: أتجير من حقوق الناس! هذا ما لا يصلح. قال محمد بن عمر: فحدثت هذا الحديث محمد بن عبيد بن عمير فقال: أخبرني عمرو بن دينار، قال: كتب يزيد بن معاوية إلى عمرو ابن سعيد: أن استعمل عمرو بن الزبير على جيش، وابعثه إلى ابن الزبير، وابعث معه أنيس بن عمرو؛ قال: فسار عمرو بن الزبير حتى نزل في داره عند الصفا، ونزل أنيس بن عمرو بذي طوىً، فكان عمرو بن الزبير يصلي بالناس، ويصلي خلفه عبد الله بن الزبير، فإذا انصرف شبك أصابعه في أصابعه، ولم يبق أحدٌ من قريش إلا أتى عمرو بن الزبير، وقعد عبد الله بن صفوان فقال: مالي لا أرى عبد الله بن صفوان! أما والله لئن سرت إليه ليعلمن أن بني جمح ومن ضوى إليه من غيرهم قليل، فبلغ عبد الله بنصفوان كلمته هذه، فحركته، فقال لعبد الله بن الزبير: إني أراك كأنك تريد البقيا على أخيك؛ فقال عبد الله: أنا أبقى عليه يا ابا صفوان! والله لو قدرت على عون الذر عليه لاستعنت بها عليه؛ فقال ابن صفوان: فأنا أكفيك أنيس بن عمرو، فاكفني أخاك؛ قال ابن الزبير: نعم؛ فسار عبد الله ابن صفوان إلى أنيس بن عمرو وهو بذي طوىً، فلاقاه في جمع كثير من أهل مكة وغيرهم من الأعوان، فهزم أنيس بن عمرو ومن معه، وقتلوا مدبرهم، وأجهزوا على جريحهم، وسار معصب بن عبد الرحمن إلى عمرو، وتفرق عنه أصحابه حتى تخلص إلى عمرو بن الزبير، فقال عبيدة بن الزبير لعمرو: تعال أنا أجيرك. فجاء عبد الله بن الزبير، فقال: قد أجرت عمرًا، فأجره لي، فأبى أن يجيره، وضربه بكل من كان ضرب بالمدينة، وحبسه بسجن عارم. قال الواقدي: قد اختلفوا علينا في حديث عمرو بن الزبير، وكتبت كل ذلك. حدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، قال: لما قدم عمرو بن سعيد المدينة واليًا، قدم في ذي القعدة سنة ستين، فولى عمرو ابن الزبير شرطته، وقال: قد أقسم أمير المؤمنين ألا يقبل بيعة ابن الزبير إلا أن يؤتى به في جامعة، فليبر يمين أمير المؤمنين، فإني أجعل جامعة خفيفةً من ورق أو ذهب، ويلبس عليها برنسًا، ولا ترى إلا أن يسمع صوتها، وقال: خذها فليست للعزيز بخطةٍ ** وفيها مقالٌ لامرىءٍ متذلل أعامر إن القوم ساموك خطةً ** ومالك في الجيران عذل معذل قال محمد: وحدثني رياح بن مسلم، عن أبيه، قال: بعث إلى عبد الله بن الزبير عمرو بن سعيد، فقال له أبو شريح: لا تغز مكة فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إنما أذن الله لي في القتال بمكة ساعةً من نهار، ثما عادت كحرمتها "؛ فابى عمرو أن يسمع قوله، وقال: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ؛ فبعث عمرو جيشًا مع عمرو ومعه أنيس ابن عمرو الأسلمي، وزيد غلام محمد بن عبد الله بن الحارث بن هشام، - وكانوا نحو ألفين - فقاتلهم أهل مكة، فقتل أنيس بن عمرو والمهاجر مولى القلمس في ناس كثير، وهزم جيش عمرو، فجاء عبيدة بن الزبير، فقال لأخيه عمرو: أنت في ذمتي، وأنا لك جار، فانطلق به إلى عبد الله، فدخل على ابن الزبير فقال: ما هذا الدم الذي في وجهك يا خبيث! فقال عمرو: لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما فحبسه وأخفر عبيدة، وقال: أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحل لحرمات الله؛ ثم أقاد عمرًا من كل من ضربه إلا المنذر وابنه، فإنهما أبيا أن يستقيدا، ومات تحت السياط. قال: وإنما سمي سجن عارم لعبد كان يقال له: زيد عارم، فسمي السجن به، وحبس ابن الزبير أخاه عمرًا فيه. قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن أبي يحيى، عن أبيه، قال: كان مع أنيس بن عمرو ألفان. وفي هذه السنة وجه أهل الكوفة الرسل إلى الحسين رضي الله عنه وهو بمكة يدعونه إلى القدوم عليهم، فوجه إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه. ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين عليه السلام للمصير إلى ما قبلهم وأمر مسلم بن عقيل رضي الله عنه حدثني زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا أحمد بن جناب المصيصي - ويكنى أبا الوليد - قال: حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، قال: حدثنا عمار الدهني، قال: قلت لأبي جعفر: حدثني بمقتل الحسين حتى كأني حضرته؛ قال: مات معاوية والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ بيعته، فقال له: أخرني وارفق، فأخره، فخرج إلى مكة، فأتاه أهل الكوفة ورسلهم: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فاقدم علينا - وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة؛ قال: فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فقال له: سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي، فإن كان حقًا خرجنا إليهم. فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منهما دليلين، فمرا به في البرية، فأصابهم عطشٌ، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه الحسين: أن امض إلى الكوفة. فخرج حتى قدمها، ونزل على رجل من أهلها يقال له ابن عوسجة؛ قال: فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دبوا إليه فبايعوه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفًا. قال: فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية إلى النعمان بن بشير، فقال له: إنك ضعيف أو متضعف؛ قد فسد البلاد! فقال له النعمان: أن أكون ضعيفًا وأنا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويًا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترًا ستره الله. فكتب بقول النعمان إلى يزيد، فدعا مولىً له يقال له: سرجون؛ - وكان يستشيره - فأخبره الخبر، فقال له: أكنت قابلًا من معاوية لو كان حيًا؟ قال: نعم؛ قال: فاقبل مني؛ فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله ابن زياد، فولها إياه - وكان يزيد عليه ساخطًا، وكان هم بعزله عن البصرة - فكتب إليه برضائه، وأنه قد ولاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده. قال: فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متثلمًا، ولا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم إلا قالوا: عليك السلام يابن بنت رسول الله - وهم يظنون أنه الحسين بن علي رضي الله عنه - حتى نزل القصر، فدعا مولىً له فأعطاه ثلاثة آلاف، وقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مالٌ تدفعه إليه ليتقوى. فلم يزل يتلطف ويرفق به حتى دل على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فقال له الشيخ: لقد سرني لقاؤك إياي، وقد ساءني؛ فأما ما سرني من ذلك فما هداك الله له، وأما ما ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد. فأدخله إليه، فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيد الله فأخبره. فتحول مسلم حين قدم عبيد الله بن زياد من الدار التي كان فيها إلى منزل هانىء بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين بن علي رضي الله عنه يخبره ببيعة اثني عشر ألفًا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم. وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة: ما لي أرى هانىء بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قال: فخرج إليه محمد بن الأشعث في ناس من قومه وهو على باب داره، فقالوا: إن الأمير قد ذكرك واستبطأك، فانطلق إليه، فلم يزالوا به حتى ركب معهم وسار حتى دخل على عبيد الله وعنده شريح القاضي، فلما نظر إليه قال لشريح: أتتك بحائنٍ رجلاه؛ فلما سلم عليه قال: يا هانىء، أين مسلم؟ قال: ما أدري؛ فأمر عبيد الله مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه، فلما رآه قطع به، فقال: أصلح الله الأمير! والله ما دعوته إلى منزلي ولكنه جاء فطرح نفسه علي؛ قال: ائتني به؛ قال: والله لو كانت تحت قدمي ما رفعتهما عنه؛ قال: أدنوه إلي، فأدني فضربه على حاجبه فشجه، قال: وأهوى هانىءٌ إلى سيف شرطي ليسله، فدفع عن ذلك، وقال: قد أحل الله دمك، فأمر به فحبس في جانب القصر. وقال غير أبي جعفر: الذي جاء بهانىء بن عروة إلى عبيد الله بن زياد عمرو بن الحجاج الزبيدي: ذكر من قال ذلك حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو قتيبة، قال: حدثنا يونس ابن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث، قال: حدثنا عمارة بن عقبة ابن أبي معيط، فجلس في مجلس ابن زياد فحدث، قال: طردت اليوم حمرًا فأصبت منها حمارًا فعقرته، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي: إن حمارًا تعقره أنت لحمارٌ حائن؛ فقال: ألا أخبرك بأحين من هذا كله! رجل جيء بأبيه كافرًا إلى رسول الله ﷺ، فأمر به أن يضرب عنقه، فقال: يا محمد فمن للصبية؟ قال: النار، فأنت من الصبية، وأنت في النار؛ قال: فضحك ابن زياد. رجع الحديث إلى حديث عمار الدهني؛ عن أبي جعفر. قال: فبينا هو كذلك إذ خرج الخبر إلى مذحج، فإذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد الله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مذحج، فقال لشريح: اخرج إليهم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، ورعث عينًا عليه من مواليه يسمع ما يقول، فمر بهانىء بن عروة، فقال له هانىء: اتق الله يا شريح، فإنه قاتلي، فخرج شريح حتى قام على باب القصر، فقال: لا بأس عليه، إنما حبسه الأمير ليسائله، فقالوا: صدق، ليس على صاحبكم بأس، فتفرقوا، فأتى مسلمًا الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، فقدم مقدمته، وعبى ميمنته وميسرته، وسار في القلب إلى عبيد الله، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر، فلما سار إليه مسلم فانتهى إلى باب القصر أشرفوا على عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى أمسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضًا. فلما رأى مسلم أنه قد بقي وحده يتردد في الطرق أتى بابًا فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقني، فسقته، ثم دخلت فمكثت ما شاء الله، ثم خرجت فإذا هو على الباب؛ قالت: يا عبد الله، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم؛ قال: إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل، وكان ابنها مولىً لمحمد بن الأشعث، فلما علم به الغلام انطلق إلى محمد فأخبره، فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره، فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي - وكان صاحب شرطه - إليه، ومعه عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار، فلما رأى ذلك مسلمٌ خرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به فأصعد إلى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانىء فسحب إلى الكناسة، فصلب هنالك، وقال شاعرهم في ذلك: فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ** إلى هانىء في السوق وابن عقيل أصابهما أمر الإمام فأصبحا ** أحاديث من يسعى بكل سبيل أيركب أسماء الهماليج آمنًا ** وقد طلبته مذحجٌ بذحول! وأما أبو مخنف فإنه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إلى الكوفة ومقتله قصةً هي أشبع وأتم من خبر عمار الدهني عن أبي جعفر الذي ذكرناه؛ ما حدثت عن هشام بن محمد، عنه، قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: حدثني عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرىء القيس الكلبية امرأة حسين - وكانت مع سكينة ابنة حسين، وهو مولىً لأبيها، وهي إذ ذاك صغيرة - قال: خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم، فقال للحسين أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطلب؛ قال: لا، والله لا افارقه حتى يقضي الله ما هو أحب إليه، قال: فاستقبلنا عبد الله بن مطيع فقال للحسين: جعلت فداك! أين تريد؟ قال: أما الآن فإني أريد مكة، وأما بعدها فإني أستخير الله، قال: خار الله لك، وجعلنا فداك؛ فإذا أنت أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة، فإنها بلدةٌ مشئومة، بها قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه؛ الزم الحرم؛ فإنك سيد العرب، لا يعدل بك والله أهل الحجاز أحدًا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب؛ لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك. فأقبل حتى نزل مكة، فأقبل أهلها يختلفون إليه وياتونه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم الكعبة، فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف، ويأتي حسينًا فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين، ويأتيه بين كل يومين مرة، ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبدًا ما دام حسين بالبلد، وأن حسينًا أعظم في أعينهم وأنفسهم منه، وأطوع في الناس منه. فلما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية ارجف أهل العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسين وابن الزبير، ولحقا بمكة، فكتب أهل الكوفة إلى حسين، وعليهم النعمان بن بشير. قال أبو مخنف: فحدثني الحجاج بن علي، عن محمد بن بشر الهمداني، قال: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، فذكرنا هلاك معاوية، فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صرد: إن معاوية قد هلك، وإن حسينًا قد تقبض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه؛ قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب ابن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلامٌ عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضًا منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدًا له كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق. والنعمان ابن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشأم إن شاء الله؛ والسلام ورحمة الله عليك. قال: ثم سرحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، وأمرناهما بالنجاء؛ فخرج الرجلان مسرعين حتى قدما على حسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة، ثم لبثنا يومين، ثم سرحنا إليه قيس ابن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي، فحملوا معهم نحوًا من ثلاثة وخمسين صحيفةً؛ الصحيفة من الرجل والاثنين والأربعة. قال: ثم لبثنا يومين آخرين، ثم سرحنا إليه هانىء بن هانىء السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبنا معهما: بسم الله الرحمن الرحيم. لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، ولا أرى لهم في غيرك، فالعجل العجل؛ والسلام عليك. وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي: أما بعد، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جندٍ لك مجند؛ والسلام عليك. وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثم كتب مع هانىء بن هانىء السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكانا آخر الرسل: بسم الله الرحمن الرحيم. من حسين بن علي إلى الملإ من المؤمنين والمسلمين؛ أما بعد، فإن هانئًا وسعيدًا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكًا إن شاء الله؛ فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله. والسلام. قال أبو مخنف: وذكر أبو المخارق الراسبي، قال: اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد - أو منقذ - أيامًا، وكانت تشيع، وكان منزلها لهم مألفًا يتحدثون فيه، وقد بلغ ابن زياد إقبال الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق. قال: فأجمع يزيد بن نبيط الخروج - وهو من عبد القيس - إلى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له: عبد الله وعبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إني قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج، فقالوا له: إنا نخاف عليك أصحاب ابن زياد؛ فقال: إني والله لو قد استوت أخفافهما بالجدد لهان علي طلب من طلبني. قال: ثم خرج فتقدى في الطريق حتى انتهى إلى حسين رضي الله عنه، فدخل في رحله بالأبطح، وبلغ الحسين مجيئه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إلى رحل الحسين، فقيل له: قد خرج إلى منزلك، فأقبل في أثره، ولما لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره، وجاء البصري فوجده في رحله جالسًا، فقال: " بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " قال: فسلم عليه، وجلس إليه، فخبره بالذي جاء له، فدعا له بخير، ثم اقبل معه حتى أتى فقاتل معه، فقتل معه هو وابناه. ثم دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي، فأمره بتقوى الله وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك. فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول الله ﷺ، وودع من أحب من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به، فضلا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان: هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء، وقد كادا أن يموتوا عطشًا. فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى حسين، وذلك بالمضيق من بطن الخبيت: أما بعد، فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلا، واشتد علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء، فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك أن الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت؛ وقد تطيرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه، وبعثت غيري، والسلام. فكتب إليه حسين: أما بعد، فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إلي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن، فامض لوجهك الذي وجهتك له؛ والسلام عليك. فقال مسلم لمن قرأ الكتاب: هذا ما لست أتخوفه على نفسي؛ فأقبل كما هو حتى مر بماء لطيىء، فنزل بهم، ثم ارتحل منه، فإذا رجل يرمي الصيد، فنظر إليه قد رمى ظبيًا حين أشرف له، فصرعه، فقال مسلم: يقتل عدونا إن شاء الله؛ ثم أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل دار المختار ابن أبي عبيد - وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب - وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلما اجتمعت إليه جماعةٌ منهم قرأ عليهم كتاب حسين، فأخذوا يبكون. فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم، والله لأحدثنك عما أنا موطن نفسي عليه، والله لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي؛ فقال: رحمك الله! قد قضيت ما في نفسك، بواجز من قولك؛ ثم قال: وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه. ثم قال الحنفي مثل ذلك. فقال الحجاج بن علي: فقلت لمحمد بن بشر: فهل كان منك أنت قولٌ؟ فقال: إن كنت لأحب أن يعز الله أصحابي بالظفر، وما كنت لأحب أن أقتل، وكرهت أن أكذب. واختلفت الشيعة إليه حتى علم مكانه، فبلغ ذلك النعمان بن بشير. قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قال: خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فاتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال - وكان حليمًا ناسكًا يحب العافية - قال: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا أشاتمكم، ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر. أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل. قال: فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين؛ فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله؛ ثم نزل. وخرج عبد الله بن مسلم، وكتب إلى يزيد بن معاوية: أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي، فإن كان لك بالكوفة حاجةٌ فابعث إليها رجلًا قويًا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف؛ أو هو يتضعف. فكان أول من كتب إليه. ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه، ثم كتب إليه عمر بن سعد ابن أبي وقاص بمثل ذلك. قال هشام: قال عوانة: فلما اجتمعت الكتب عند يزيد ليس بين كتبهم إلا يومان، دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية فقال: ما رأيك؟ وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقولٌ سيء - وأقرأه كتبهم - فما ترى من أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتبًا على عبيد الله بن زياد؛ فقال سرجون: أرأيت معاوية لو نشر لك، أكنت آخذًا برأيه؟ قال: نعم؛ فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب. فأخذ برأيه وضم المصرين إلى عبيد الله، وبعث إليه بعهده على الكوفة. ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي - وكان عنده - فبعثه إلى عبيد الله بعهده إلى البصرة، وكتب إليه معه: أما بعد، فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين؛ فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه؛ والسلام. فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد الله بالبصرة، فأمر عبيد الله بالجهاز والتهيؤ والمسير إلى الكوفة من الغد. وقد كان حسين كتب إلى أهل البصرة كتابًا؛ قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهدي، قال: كتب حسين مع مولىً لهم يقال له: سليمان، وكتب بنسخة إلى رءوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف؛ فكتب إلى مالك بن مسمع البكري، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عمرو، وإلى قيس ابن الهيثم، وإلى عمرو بن عبيد الله بن معمر، فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها: أما بعد، فإن الله اصطفى محمدًا ﷺ على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعباده، وبلغ ما أرسل به ﷺ، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم. وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله. فكل من قرأ ذلك الكتاب من أشراف الناس كتمه، غير المنذر بن الجارود، فإنه خشي بزعمه أن يكون دسيسًا من قبل عبيد الله، فجاءه بالرسول من العشية التي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة، وأقرأه كتابه، فقدم الرسول فضرب عنقه. وصعد عبيد الله منبر البصرة فحمد الله واثنى عليه ثم قال: أما بعد، فوالله ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، وإني لنكلٌ لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة من راماها. يا أهل البصرة، إن أمير المؤمنين ولاني الكوفة وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإياكم والخلاف والإرجاف، فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطىء الحصى ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم. ثم خرج من البصرة واستخلف أخاه عثمان بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته، حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء، وهو متلثم والناس قد بلغهم إقبال حسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه، وقالوا: مرحبًا بك يابن رسول الله! قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين رضي الله عنه ما ساءه، فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا: تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فأخذ حين أقبل على الظهر؛ وإنما معه بضعة عشر رجلًا، فلما دخل القصر وعلم الناس أنه عبيد الله بن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد، وغاظ عبيد لله ما سمع منهم، وقال: ألا أرى هؤلاء كما أرى. قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني المعلى بن كليب، عن أبي وداك، قال: لما نزل القصر نودي: الصلاة جامعة؛ قال: فاجتمع الناس، فخرج إلينا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أصلحه الله ولاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي على من ترك أمري، وخالف عهدي، فليبق امرؤٌ على نفسه. الصدق ينبىء عنك لا الوعيد؛ ثم نزل. فأخذ العرفاء والناس أخذًا شديدًا، فقال: اكتبوا إلى الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبرىء، ومن لم يكتب لنا أحدًا، فيضمن لنا ما في عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وايما عريفٍ وجد في عرافته من بيغة أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره، وألقيت تلك العرافة من العطاء، وسير إلى موضع بعمان الزارة. وأما عيسى بن يزيد الكناني فإنه قال - فيما ذكر عمر بن شبة، عن هارون بن مسلم، عن علي بن صالح، عنه - قال: لما جاء كتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد، انتخب من أهل البصرة خمسمائة، فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل، وشريك بن الأعور - وكان شيعةً لعلي، فكان أول من سقط بالناس شريك، فيقال: إنه تساقط غمرةً ومعه ناس - ثم سقط عبد الله ابن الحارث وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم عبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى من سقط، ويمضي حتى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال، إن أمسكت عنك حتى تنظر إلى القصر فلك مائة ألف، قال: لا، والله ما أستطيع. فنزل عبيد الله فأخرج ثيابًا مقطعة من مقطعات اليمن، ثم اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته، ثم انحدر راجلًا وحده، فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إليه لم يشكوا أنه الحسين، فيقولون: مرحبًا بك يابن رسول الله! وجعل لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم، وسمع بهم النعمان بن بشير فغلق عليه وعلى خاصته، وانتهى إليه عبيد الله وهو لا يشك أنه الحسين، ومعه الخلق يضجون، فكلمه النعمان، فقال: أنشدك الله إلا تنحيت عني! ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتلك من أرب؛ فجعل لا يكلمه. ثم إنه دنا وتدلى الآخر بين شرفتين، فجعل يكلمه فقال: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك، فسمعها إنسانٌ خلفه، فتكفى إلى القوم، فقال: أي قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فقالوا: ويحك! إنما هو الحسين، ففتح له النعمان، فدخل، وضربوا الباب في وجوه الناس، فانفضوا، وأصبح فجلس على المنبر فقال: أيها الناس، إني لأعلم أنه قد سار معي، وأظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد وغلب عليه، والله ما عرفت منكم أحدًا؛ ثم نزل. وأخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة، وأنه بناحية الكوفة، فدعا مولىً لبني تميم فأعطاه مالًا، وقال: انتحل هذا الأمر، وأعنهم بالمال، واقصد لهانىء ومسلم وانزل عليه؛ فجاء هانئًا فأخبره أنه شيعة، وأن معه مالًا. وقدم شريك بن الأعور شاكيًا، فقال لهانىء: مر مسلمًا يكن عندي، فإن عبيد الله يعودني؛ وقال شريك لمسلم: أرأيتك إن أمكنتك من عبيد الله أضاربه أنت بالسيف؟ قال: نعم والله. وجاء عبيد الله شريكًا يعوده في منزل هانىء - وقد قال شريك لمسلم: إذا سمعتني أقول: اسقوني ماءً فاخرج عليه فاضربه - وجلس عبيد الله على فراش شريك، واقم على رأسه مهران، فقال: اسقوني ماء، فخرجت جاريةٌ بقدح، فرأت مسلمًا، فزالت، فقال شريك: اسقوني ماءً؛ ثم قال الثالثة: ويلكم تحموني الماء! اسقونيه ولو كانت فيه نفسي؛ ففطن مهران فغمز عبيد الله، فوثب، فقال شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك؛ قال: أعود إليك، فجعل مهران يطرد به؛ وقال: أراد والله قتلك؛ قال: وكيف مع إكرامي شريكًا وفي بيت هانىء ويد أبي عنده يد! فرجع فأرسل إلى أسماء بن خارجة ومحمد بن الأشعث فقال: ائتياني بهانىء، فقالا له: إنه لا يأتي إلا بالأمان؛ قال: وما له وللأمان! وهل أحدث حدثًا! انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه، فأتياه فدعواه، فقال: إنه إن أخذني قتلني، فلم يزالا به حتى جاءا به وعبيد الله يخطب يوم الجمعة، فجلس في المسجد، وقد رجل هانىء غديرتيه، فلما صلى عبيد الله، قال: يا هانىء، فتبعه، ودخل فسلم، فقال عبيد الله: يا هانىء، أما تعلم أن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدًا من هذه الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر، وكان من حجر ما قد علمت، ثم لم يزل يحسن صحبتك، ثم كتب إلى أمير الكوفة: إن حاجتي قبلك هانىء؟ قال: نعم، قال: فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلًا يقتلني! قال: ما فعلت، فأخرج التميمي الذي كان عينًا عليهم، فلما رآه هانىء علم أن قد أخبره الخبر، فقال: أيها الأمير، قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عني، فأنت آمنٌ وأهلك، فسر حيث شئت. فكبا عبيد الله عندها، ومهران قائم على رأسه في يده معكزة، فقال: واذلاه! هذا العبد الحائك يؤمنك في سلطانك! فقال: خذه؛ فطرح المعكزة، وأخذ بضفيرتي هانىء، ثم أقنع بوجهه، ثم أخذ عبيد الله المعكزة فضرب بها وجه هانىء، وندر الزج، فارتز في الجدار، ثم ضرب وجهه حتى كسر أنفه وجبينه، وسمع الناس الهيعة، وبلغ الخبر مذحج، فأقبلوا، فأطافوا بالدار، وأمر عبيد الله بهانىء فألقي في بيت، وصيح المذحجيون، وأمر عبيد الله مهران أن يدخل عليه شريحًا، فخرج، فأدخله عليه، ودخلت الشرط معه، فقال: يا شريح، قد ترى ما يصنع بي! قال: أراك حيًا؛ قال: وحيٌّ أنا مع ما ترى! أخبر قومي أنهم إن انصرفوا قتلني؛ فخرج إلى عبيد الله فقال: قد رأيته حيًا، ورأيت أثرًا سيئًا؛ قال: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته! اخرج إلى هؤلاء فأخبرهم، فخرج، وأمر عبيد الله الرجل فخرج معه، فقال لهم شريح: ما هذه الرعة السيئة! الرجل حيٌّ، وقد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم. فانصرفوا. وذكر هشام، عن أبي مخنف، عن المعلى بن كليب، عن أبي الوداك، قال: نزل شريك بن الأعور على هانىء بن عروة المرادي، وكان شريك شيعيًا، وقد شهد صفين مع عمار. وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد الله ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، فخرج من دار المختار - وقد علم به - حتى انتهى إلى دار هانىء بن عروة المرادي، فدخل بابه، وأرسل إليه أن اخرج، فخرج إليها هانىء، فكره هانىء مكانه حين رآه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني؛ فقال: رحمك الله! لقد كلفتني شططا، ولولا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عني، غير أنه يأخذني من ذلك ذمامٌ، وليس مردود مثلي على مثلك عن جهل؛ ادخل. فآواه، وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانىء بن عروة، ودعا ابن زياد مولىً له يقال له معقل، فقال له: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثم اطلب مسلم ابن عقيل، واطلب لنا أصحابه، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف؛ فقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوكم، وأعلمهم أنك منهم، فإنك لو قد أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئًا من أخبارهم؛ ثم اغد عليهم ورح. ففعل ذلك، فجاء حتى أتى إلى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم وهو يصلي، وسمع الناس يقولون: إن هذا يبايع للحسين، فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته ثم قال: يا عبد الله، إني امرؤ من أهل الشأم، مولىً لذي الكلاع، أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت وحب من أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجلٍ منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله ﷺ، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدًا يدلني عليه ولا يعرف مكانه، فإني لجالسٌ آنفًا في المسجد إذ سمعت نفرًا من المسلمين يقولون: هذا رجلٌ له علم بأهل هذا البيت؛ وإني أتيتك لتقبض هذا المال وتدخلني على صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه، فقال: احمد الله على لقائك إياي، فقد سرني ذلك لتنال ما تحب، ولينصر الله بك أهل بيت نبيه، ولقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته. فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصحن وليكتمن، فأعاه من ذلك ما رضي به، ثم قال له: اختلف إلي أيامًا في منزلي، فأنا طالبٌ لك الإذن على صاحبك. فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن. فمرض هانىء بن عروة، فجاء عبيد الله عائدًا له، فقال له عمارة بن عبيد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، فقد أمكنك الله منه فاقتله؛ قال هانىء: ما أحب أن يقتل في داري، فخرج فما مكث إلا جمعةً حتى مرض شريك بن الأعور - وكان كريمًا على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع - فأرسل إليه عبيد الله: إني رائحٌ إليك العشية؛ فقال لمسلم: إن هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله، ثم اقعد في القصر، ليس أحدٌ يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها. فلما كان من العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وقال له شريك: لا يفوتنك إذا جلس؛ فقام هانىء بن عروة إليه فقال: إني لا أحب أن يقتل في داري - كأنه استقبح ذلك - فجاء عبيد الله ابن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكًا عن وجعه، ما الذي تجد؟ ومتى اشتكيت؟ فلما طال سؤاله إياه، ورأى أن الآخر لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول: ما تنتظرون بسلمى أن تحيوها اسقنيها وإن كانت فيها نفسي، فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا؛ فقال عبيد الله، ولا يفطن ما شأنه: أترونه يهجر؟ فقال له هانىء: نعم أصلحك الله! ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه. ثم إنه قام فانصرف، فخرج مسلم، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: خصلتان: أما إحداهما فكراهة هانىء أن يقتل في داره، وأما الأخرى فحديثٌ حدثه الناس عن النبي ﷺ: " إن الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن "؛ فقال هانىء: أما والله لو قتلته لقتلت فاسقًا فاجرًا كافرًا غادرًا، ولكن كرهت أن يقتل في داري. ولبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثًا ثم مات، فخرج ابن زياد فصلى عليه، وبلغ عبيد الله بعد ما قتل مسلمًا وهانئًا أن ذلك الذي كنت سمعت من شريك في مرضه إنما كان يحرض مسلمًا، ويأمره بالخروج إليك ليقتلك؛ فقال عبيد الله: والله لا أصلي على جنازة رجل من أهل العراق أبدًا، ووالله لولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكًا. ثم إن معقلًا مولى ابن زياد الذي دسه بالمال إلى ابن عقيل وأصحابه، اختلف إلى مسلم بن عوسجة أيامًا ليدخله على ابن عقيل، فأقبل به حتى أدخله عليه بعد موت شريك بن الأعور، فأخبره خبره كله، فأخذ ابن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائدي، فقبض ماله الذي جاء به - وهو الذي كان يقبض أموالهم، وما يعين به بعضهم بعضًا، يشتري لهم السلاح، وكان به بصيرًا، وكان من فرسانالعرب ووجوه الشيعة - وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أول داخل وآخر خارج، يسمع أخبارهم، ويعلم أسرارهم، ثم ينطلق بها حتى يقرها في أذن ابن زياد. قال: وكان هانىء يغدو ويروح إلى عبيد الله، فلما نزل به مسلم انقطع من الاختلاف وتمارض، فجعل لا يخرج، فقال ابن زيد لجلسائه: ما لي لا أرى هانئًا! فقالوا: هو شاكٍ، فقال: لو علمت بمرضه لعدته! قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد، قال: دعا عبيد الله محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة. قال أبو مخنف: حدثني الحسن بن عقبة المرادي أنه بعث معهما عمرو بن الحجاج الزبيدي. قال أبو مخنف: وحدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قال: كانت روعة أخت عمرو بن الحجاج تحت هانىء بن عروة، وهي أم يحيى بن هانىء. فقال لهم: ما يمنع هانىء بن عروة من إتياننا؟ قالوا: ما ندري أصلحك الله! وإنه ليشتكي؛ قال: قد بلغني أنه قد برأ، وهو يجلس على باب داره، فالقوه، فمروه ألا يدع ما عليه في ذلك من الحق، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب. فأتوه حتى وقفوا عليه عشيةً وهو جالسٌ على بابه، فقالوا: ما يمنعك من لقاء الأمير؛ فإنه قد ذكرك، وقد قال: لو أعلم أنه شاكٍ لعدته؟ فقال لهم: الشكوى تمنعني، فقالوا له: يبلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا! فدعا بثيابه فلبسها، ثم دعا ببغلة فركبها حتى إذا دنا من القصر؛ كأن نفسه أحست ببعض الذي كان، فقال لحسان ابن أسماء بن خارجة: يابن أخي، إني والله لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ قال: أي عم، والله ما أتخوف عليك شيئًا، ولم تجعل على نفسك سبيلًا وأنت بريءٌ؟ وزعموا أن أسماء لم يعلم في أي شيء بعث إليه عبيد الله؛ فأما محمد فقد علم به؛ فدخل القوم على ابن زياد، ودخل معهم، فلما طلع قال عبيد الله: أتتك بحائنٍ رجلاه! وقد عرس عبيد الله إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عقبة؛ فلما دنا من ابن زايد وعنده شريح القاضي التفت نحوه، فقال: أريد حباءه ويريد قتلي ** عذيرك من خليلك من مراد وقد كان له أول ما قدم مكرمًا ملطفًا، فقال له هانىء: وما ذاك أيها الأمير؟ قال: إيه يا هانىء بن عروة! ما هذه الأمور التي تربص في دورك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين! جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أن ذلك يخفى علي لك! قال: ما فعلت، وما مسلم عندي، قال: بلى قد فعلت؛ قال: ما فعلت؛ قال: بلى، فلما كثر ذلك بينهما، وأبى هانىءٌ إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلًا ذلك العين، فجاء حتى وقف بين يديه فقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، وعلم هانىءٌ عند ذلك أنه كان عينًا عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فسقط في خلده ساعةً. ثم إن نفسه راجعته، فقال له: اسمع مني، وصدق مقالتي، فوالله لا أكذبك، والله الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي، ولا علمت بشيء من أمره، حتى رأيته جالسًا على بابي، فسألني النزول علي، فاستحييت من رده، ودخلني من ذلك ذمام، فأدخلته داري وضفته وآويته، وقد كان من أمره الذي بلغك، فإن شئت أعطيت الآن موثقًا مغلظًا وما تطمئن إليه ألا أبغيك سوءًا، وإن شئت أعطيتك رهينةً تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره؛ فقال: لا والله لا تفارقني أبدًا حتى تأتيني به؛ فقال: لا، والله لا أجيئك أبدًا، أنا أجيئك بضيفي تقتله! قال: والله لتأتيني به، قال: والله لا آتيك به. فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي - وليس بالكوفة شأمي ولا بصري غيره - فقال: أصلح الله الأمير! خلني وإياه حتى أكلمه، لما رأى لجاجته وتأبيه على ابن زياد أن يدفع إليه مسلمًا، فقال لهانىء: قم إلي ها هنا حتى أكلمك؛ فقام فخلا به ناحيةً من ابن زياد، وهما منه على ذلك قريب حيث يراهما؛ إذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، وإذا خفضا خفي عليه ما يقولان؛ فقال له مسلم: يا هانىء، إني أنشدك الله أن تقتل نفسك، وتدخل البلاء على قومك وعشيرتك! فوالله إني لأنفس بك عن القتل، وهو يرى أن عشيرته ستحرك في شأنه أن هذا الرجل ابن عم القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنما تدفعه إلى السلطان، قال: بلى، والله إن علي في ذلك للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! والله لو لم أكن إلا واحدًا ليس لي ناصرٌ لم أدفعه حتى أموت دونه. فأخذ يناشده وهو يقول: والله لا أدفعه إليه أبدًا؛ فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه مني، فأدنوه منه، فقال: والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك؛ قال: إذًا تكثر البارقة حول دارك، فقال: والهفا عليك! أبالبارقة تخوفني! وهو يظن أن عشيرته سيمنعونه؛ فقال ابن زياد: أدنوه مني، فأدني، فاستعرض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب أنفه وجبيه وخده حتى كسر أنفه، وسيل الدماء على ثيابه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب، وضرب هانىء بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الرجال، وجابذه الرجل ومنع، فقال عبيد الله: أحروري سائر اليوم! أحللت بنفسك، قد حل لنا قتلك، خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه، واجعلوا عليه حرسًا، ففعل ذلك به، فقام إليه أسماء ابن خارجة فقال: أرسل غدر سائر اليوم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به وأدخلناه عليك هشمت وجهه، وسيلت دمه على لحيته، وزعمت أنك تقتله! فقال له عبيد الله: وإنك لهاهنا! فأمر به فلهز وتعتع به، ثم ترك فحبس. وأما محمد بن الأشعث فقال: قد رضينا بما رأى الأمير؛ لنا كان أم علينا، إنما الأمير مؤدب. وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئًا قد قتل، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمعٌ عظيم، ثم نادى: أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها، لم تخلع طاعةً، ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أن صاحبهم يقتل، فأعظموا ذلك؛ فقيل لعبيد الله: هذه مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل، وأنك قد رأيته، فدخل إليه شريح فنظر إليه. فقال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن عبد الرحمن بن شريح، قال: سمعته يحدث إسماعيل بن طلحة، قال: دخلت على هانىء، فلما رآني قال: يالله يا للمسلمين! أهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين! وأين أهل المصر! تفاقدوا! يخلوني، وعدوهم وابن عدوهم! والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجة على باب القصر، وخرجت واتبعني، فقال: يا شريح، إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني؛ قال: فخرجت إليهم ومعي حميد بن بكير الأحمري - أرسله معي ابن زياد، وكان من شرطه ممن يقوم على رأسه - وايم الله لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به؛ فلما خرجت إليهم قلت: إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم، وأن أعلمكم أنه حي، وأن الذي بلغكم من قتله كان باطلًا. فقال عمرو وأصحابه: فأما إذ لم يقتل فالحمد لله؛ ثم انصرفوا. قال أبو مخنف: حدثني الحجاج بن علي، عن محمد بن بشر الهمداني، قال: لما ضرب عبيد الله هانئًا وحبسه خشي أن يثب الناس به، فخرج فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا، إن أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر. قال: ثم ذهب لينزل، فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل! فدخل عبيد الله القصر مسرعًا، وأغلق أبوابه. قال أبو مخنف: حدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن خازم، قال: أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمر هانىء؛ قال: فلما ضرب وحبس ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوةٌ لمراد مجتمعات ينادين: يا عثرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ منهم الدور حوله، وقد بايعه ثمانية عشر ألفًا، وفي الدور أربعة آلاف رجل، فقال لي: ناد: يا منصور أمت؛ فناديت: يا منصور أمت؛ وتنادي أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزير الكندي على ربع كندة وربيعة، وقال: سر أمامي في الخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد، وقال: انزل في الرجال فأنت عليهم؛ وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم أقبل نحو القصر، فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر، وغلق الأبواب. قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن عباس الجدلي قال: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلا ونحن ثلثمائة. قال: وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر، ثم إن الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فوالله ما لبثنا إلا قليلًا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، وما زالوا يثوبون حتى المساء، فضاق بعبيد الله ذرعه، وكان كبر أمره أن يتمسك بباب القصر، وليس معه إلا ثلاثون رجلًا من الشرط وعشرون رجلًا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين، وجعل من بالبصر مع ابن زياد يشرفون عليهم، فينظرون إليهم فيتقون أن يرموهم بالحجارة، وأن يشتموهم وهم لا يفترون عن عبيد الله وعلى أبيه. ودعا عبيد الله كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب، ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقالمثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربيع التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشًا إليهم لقلة عدد من معه من الناس، وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل. قال أبو مخنف: فحدثني أبو جناب الكلبي أن كثيرًا ألفى رجلًا من كلب يقال له عبد الأعلى بن يزيد، قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان، فأخذه حتى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره، فقال لابن زياد: إنما أردتك؛ قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك؛ فأمر به فحبس، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاءه عماره بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل، عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمن ابن شريح الشبامي، فلما رأى محمد بن الأشعث كثرة من أتاه، أخذ يتنحى ويتأخر، وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمد بن الأشعث: قد جلت على ابن عقيل من العرار، فتأخر عن موقفه، فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قبل دار الروميين، فلما اجتمع عند عبيد الله كثير بن شهاب ومحمد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم، قال له كثير - وكانوا مناصحين لابن زياد: أصلح الله الأمير! معك في القصر ناسٌ كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم، فأبى عبيد الله، وعقد لشبث بن ربعي لواءً، فأخرجه، وأقام الناس مع ابن عقيل يكبرون ويثوبون حتى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم إليه، ثم قال: أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشأم إليهم. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن عبد الله بن خازم الكثيري من الأزد، من بني كثير، قال: أشرف علينا الأشراف، فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهدًا: لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشأم على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقي، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها؛ وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا؛ فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون، وأخذوا ينصرفون. قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد؛ أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف؛ الناس يكفونك؛ ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول: غدًا يأتيك أهل الشأم، فما تصنع بالحرب والشر! انصرف. فيذهب به؛ فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسًا في المسجد، حتى صليت المغرب، فما صلى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفسًا. فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجهًا نحو أبواب كندة، وبلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسانٌ، والتفت فإذا هو لا يحس أحدًا يدله على الطريق، ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوٌّ، فمضى على وجهه يتلدد ف أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة - أم ولد كانت للأشعث بن قيس، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالًا، وكان بلالٌ قد خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره - فسلم عليها ابن عقيل، فردت عليه، فقال لها: يا أمة الله، اسقيني ماءً، فدخلت فسقته، فجلس وأدخلت الإناء، ثم خرجت فقالت: يا عبد الله ألم تشرب! قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك؛ فسكت؛ ثم عادت فقالت مثل ذلك، فسكت؛ ثم قالت له: في الله، سبحان الله يا عبد الله! فمر إلى أهلك عافاك الله؛ فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي، ولا أحله لك؛ فقام فقال: يا أمة الله، ما لي في هذا المصر منزلٌ ولا عشيرة؛ فهل لك إلى أجر ومعروف، ولعلي مكافئك به بعد اليوم! فقالت: يا عبد الله، وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغروني؛ قالت: أنت مسلم! قال: نعم. قالت: ادخل، فأدخلته بيتًا في دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال: والله إنه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه! إن لك لشأنًا، قالت: يا بني، اله عن هذا؛ قال لها: والله لتخبرني: قالت: أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء، فألح عليها، فقالت: يا بني، لا تحدثن أحدًا من الناس بما أبخرك به؛ وأخذت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت - وزعموا أنه قد كان شريدًا من الناس. وقال بعضهم: كان يشرب مع أصحاب له - ولما طال على ابن زياد. وأخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتًا كما كان يسمعه قبل ذلك قال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدًا! فأشرفوا فلم يروا أحدًا؛ قال: فانظروا لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم؛ ففرعوا بحابح المسجد، وجعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم، ثم ينظرون: هل في الظلال أحدٌ؟ وكانت أحيانًا تضيء لهم، وأحيانًا لا تضيء لهم كما يريدون، فدلوا القناديل وأنصاف الطنان تشد بالحبال، ثم تجعل فيها النيران، ثم تدلى، حتى تنتهي إلى الأرض، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبرن فلما لم يروا شيئًا أعلموا ابن زياد، ففتح باب السدة التي في المسجد. ثم خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد؛ فلم يكن له إلا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس؛ ثم أمر مناديه فأقام الصلاة، فقال الحصين بن تميم: إن شئت صليت بالناس، أو يصلي بهم غيرك، ودخلت أنت فصليت في القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فقال: مر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون، ودر فيهم فإني لست بداخل إذًا. فصلى بالناس، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل، قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته. اتقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلًا. يا حصين ابن تميم، ثكلتك أمك إن صاح باب سكةٍ من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به؛ وقد سلطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدةً على أفواه السكك، وأصبح غدًا واستبر الدور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل - وكان الحصين على شرطه، وهو من بني تميم - ثم نزل ابن زياد فدخل وقد عقد لعمرو بن حريث رايةً وأمره على الناس، فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمد بن الأشعث فقال: مرحبًا بمن لا يشتغش ولا يتهم! ثم أقعده إلى جنبه، وأصبح ابن تلك العجوز وهو بلال بن أسيد الذي آوت أمه ابن عقيل، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه؛ قال: فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد، فساره، فقال له ابن زياد: ما قال لك؟ قال: أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا، فنخس بالقضيب في جنبه ثم قال: قم فأتني به الساعة. أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمد بن الأشعث فقال: مرحبًا بمن لا يشتغش ولا يتهم! ثم أقعده إلى جنبه، وأصبح ابن تلك العجوز وهو بلال بن أسيد الذي آوت أمه ابن عقيل، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه؛ قال: فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد، فساره، فقال له ابن زياد: ما قال لك؟ قال: أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا، فنخس بالقضيب في جنبه ثم قال: قم فأتني به الساعة. قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي، أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث إلى عمرو بن حريث وهو في المسجد خليفته على الناس؛ أن ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلًا كلهم من قيس - وإنا كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل - فبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي في ستين أو سبعين من قيس، حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قد أتي، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه، فشد عليهم كذلك، فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا، وأشرع السيف في السفلى، ونصلت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربةً في رأسه منكرة، وثنى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه. فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار في أطنان القصب، ثم يقلبونها عليه من فوق البيت، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتًا بسيفه في السكة فقاتلهم، فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال: يا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك؛ فأقبل يقاتلهم، وهو يقول: أقسمت لا اقتل إلا حرا ** وإن رأيت الموت شيئًا نكرا كل امرىءٍ يومًا ملاقٍ شرا ** ويخلط البارد سخنًا مرا رد شعاع الشمس فاستقرا ** أخاف أن أكذب أو أغرا فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر، إن القوم بنو عمك، وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وقد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال وانبهر، فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار؛ فدنا محمد ابن الأشعث فقال: لك الأمان، فقال: آمنٌ أنا؟ قال: نعم؛ وقال القوم: أنت آمنٌ؛ غير عمرو بن عبيد الله بن العباس السلمي فإنه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحى. وقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. وأتي ببغلة فحمل عليها، واجتمعوا حوله، وانتزعوا سيفه من عنقه، فكأنه عند ذلك آيسٌ من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أول الغدر؛ قال محمد ابن الأشعث: أرجو ألا يكون عليك بأس؛ قال: ما هو إلا الرجاء؛ أين أمانكم! إنا لله وإنا إليه راجعون! وبكى؛ فقال له عمرو بن عبيد الله بن عباس: إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك، قال: إني والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفًا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حسين! ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني أراك والله ستعجز عن أماني، فهل عندك خير! تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا على لساني يبلغ حسينًا، فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلًا، أو هو خرج غدًا هو وأهل بيته، وإن ما ترى من جزعي لذلك، فيقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حتى تقتل، وهو يقول: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرك أهل الكوفة فإنه أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل؛ إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لمكذب رأي؛ فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك. قال أبو مخنف: فحدثني جعفر بن حذيفة الطائي - وقد عرف سعيد ابن شيبان الحديث - قال: دعا محمد بن الأشعث إياس بن العثل الطائي من بني مالك ابن عمرو بن ثمامة، وكان شاعرًا، وكان لمحمد زوارًا، فقال له: الق حسينًا فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فيه الذي أمره ابن عقيل، وقال له: هذا زادك وجهازك، ومتعة لعيالك؛ فقال: من أين لي براحلة، فإن راحلتي قد أنضيتها؟ قال: هذه راحلة فاركبها برحلها. ثم خرج فاستقبله بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلغه الرسالة، فقال له حسين: كل ما حم نازل، وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا. وقد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار هانىء بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفًا، قدم كتابًا إلى حسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري: أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفًا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوىً؛ والسلام. وأقبل محمد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن فأذن له، فأخبر عبيد الله خبر ابن عقيل وضرب بكير إياه، فقال: بعدًا له! فأخبره محمد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إياه، فقال عبيد الله: ما أنت والأمان! كأنا أرسلناك تؤمنه! إنما أرسلناك لتأتينا به؛ فسكت. وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناسٌ جلوس ينتظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب. قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعد أن مسلم بن عقيل حين انتهى إلى باب القصر فإذا قلة باردة موضوعة على الباب، فقال ابن عقيل: اسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها! لا والله لاتذوق منها قطرةً أبدًا حتى تذوق الحميم في نار جهنم! قال له ابن عقيل: ويحك! من أنت؟ قال: أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي؛ فقال ابن عقيل: لأمك الثكل! ما أجفاك، وما أفظك؛ وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني؛ ثم جلس متساندًا إلى حائط. قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعد أن عمرو بن حريت بعث غلامًا يدعى سليمان، فجاءه بماء في قلة فسقاه. قال أبو مخنف: وحدثني سعيد بن مدرك بن عمارة، أن عمارة بن عقبة بعث غلامًا له يدعى قيسًا، فجاءه بقلة عليها منديل ومعه قدح فصب فيه ماءً، ثم سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دمًا، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فيه، فقال: الحمد لله! لو كان لي من الرزق المقسوم شربته. وأدخل مسلمٌ على ابن زياد فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير! فقال له: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه! وإن كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرن سلامي عليه؛ فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن؛ قال: كذلك؟ قال: نعم؛ قال: فدعني أوص إلى بعض قومي، فنظر إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر، إن بيني وبينك قرابةً، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهو سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله: لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد، فقال له: إن علي بالكوفة دينًا استدنته منذ قدمت الكوفة، سبعمائة درهم، فاقضها عني، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها، وابعث إلى حسين من يرده، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلًا؛ فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا؛ قال له ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن، أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت؛ وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لن نشفعك فيه، إنه ليس بأهل منا لذلك، قد جاهدنا وخالفنا، وجهد على هلاكنا. وزعموا أنه قال: أما جثته فإنا لا نبالي إذ قتلناه ما صنع بها. ثم إن ابن زياد قال: إيه يابن عقيل! أتيت الناس وأمرهم جميع، وكلمتهم واحدة، لتشتتهم، وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم على بعض! قال: كلا، لست أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيها أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب، قال: وما أنت وذاك يا فاسق! أو لم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر! قال: أنا أشرب الخمر! والله إن الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأني لست كما ذكرت. وإن أحق بشرب الخمر مني وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغًا، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئًا. فقال له ابن زياد: يا فاسق، إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه، ولم يرك أهله؛ قال: فمن أهله يابن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد فقال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكمًا بيننا وبينكم؛ قال: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئًا! قال: والله ما هو بالظن، ولكنه اليقين؛ قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلةً لم يقتلها أحدٌ في الإسلام! قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحق بها منك. وأقبل ابن سمية يشتمه ويشتم حسينًا وعليًا وعقيلًا، وأخد مسلم لا يكلمه. وزعم أهل العلم أن عبيد الله أمر له بماء فسقي بخزفةٍ، ثم قال له: إنه لم يمنعنا أن نسقيك فيها إلا كراهة أن تحرم بالشرب فيها، ثم نقتلك، ولذلك سقيناك في هذا، ثم قال: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه، ثم أتبعوا جسده رأسه، فقال: يابن الأشعث، أما والله لولا أنك آمنتني ما استسلمت؛ قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك، ثم قال: يابن زياد، أما والله لو كانت بيني وبينك قرابة ما قتلتني؛ ثم قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدعي، فقال: اصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه، فصعد به وهو يكبر ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ورسله وهو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا. وأشرف به على موضع الجزارين اليوم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه. قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة قال: نزل الأحمري بكير بن حمران الذي قتل مسلمًا، فقال له ابن زياد: قتلته؟ قال: نعم، قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبر ويسبح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله قال: اللهم احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا؛ فقلت له: ادن مني، الحمد لله الذي أقادني منك، فضربته ضربة لم تغن شيئًا؛ فقال أما ترى في خدش تخدشنيه وفاءً من دمك أيها العبد! فقال ابن زياد: أوفخرًا عند الموت! قال: ثم ضربته الثانية فقتلته. قال: وقام محمد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلمه في هانىء بن عروة، وقال: إنك قد عرفت منزلة هانىء بن عروة في المصر، وبيته في العشيرة، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك الله لما وهبته لي، فإني أكره عداوة قومه، هم أعز أهل المصر، وعدد أهل اليمن! قال: فوعده أن يفعل، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان، بدا له فيه، وأبى أن يفي له بما قال. قال: فأمر بهانىء بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه، قال: فأخرج بهانىء حتى أنتهي إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف، فجعل يقول: وامذحجاه! ولا مذحج لي اليوم! وامذحجاه؛ وأين مني مذحج! فلما رأى أن أحدًا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف، ثم قال: أما من عصًا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش به رجلٌ عن نفسه! قال: ووثبوا إليه فشدوه وثاقًا، ثم قيل له: امدد عنقك، فقال: ما أنا بها مجدٍ سخي، وما أنا بمعينكم على نفسي. قال: فضربه مولىً لعبيد الله بن زياد - تركي يقال له رشيد - بالسيف، فلم يصنع سيفه شيئًا، فقال هانىء: إلى الله المعاد! اللهم إلى رحمتك ورضوانك! ثم ضربه أخرى فقتله. قال: فبصر به عدب الرحمن بن الحصين المرادي بخازر، وهو مع عبيد الله بن زياد؛ فقال الناس: هذا قاتل هانىء بن عروة؛ فقال ابن الحصين: قتلني الله إن لم أقتله أو أقتل دونه! فحمل عليه بالرمح فطعنه فقتله. ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فأتى به، فقال له: أخبرني بأمرك؛ فقال: أصلحك الله! خرجت لأنظر ما يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب؛ فقال له: فعليك وعليك، من الأيمان المغلظة، إن كان أخرجك إلا ما زعمت! فأبى أن يحلف، فقال عبيد الله: انطلقوا بهذا إلى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بها؛ قال: فانطلق به فضربت عنقه؛ قال: وأخرج عمارة بن صلخب الأزدي - وكان ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره - فأتى به أيضًا عبيد الله فقال له: ممن أنت؟ قال: من الأزد. قال: انطلقوا به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم، فقال عبد الله بن الزبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة المرادي - ويقال: قاله الفرزدق: إن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ** إلى هانىء في السوق وابن عقيل إلى بطل قد هشم السيف وجهه ** وآخر يهوي من طمار قتيل أصابهما أمر الأمير فأصبحا ** أحاديث من يسري بكل سبيل ترى جسدًا قد غير الموت لونه ** ونضح دمٍ قد سال كل مسيل فتىً هو أحيا من فتاةٍ حيية ** وأقطع من ذي شفرتين صقيل أيركب أسماء الهماليج آمنًا ** وقد طلبته مذحجٌ بذحول! تطيف حواليه مرادٌ وكلهم ** على رقبة من سائل ومسول فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ** فكونوا بغايا أرضيت بقليل قال أبو مخنف: عن أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، قال: ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلمًا وهانئًا بعث برءوسهما مع هانىء بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانىء، فكتب إليه كتابًا أطال فيه - وكان أول من أطال في الكتب - فلما نظر فيه عبيد الله بن زياد كرهه وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟ اكتب: أما بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه. أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانىء بن عروة المرادي، وأني جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برءوسهما مع هانىء بن أبي حية الهمداني والزبير بن الأروح التميمي - وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة - فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمر، فإن عندهما علمًا وصدقًا، وفهمًا وورعًا؛ والسلام. فكتب إليه يزيد: أما بعد، فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجاش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتهما، وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت؛ فاستوص بهما خيرًا، وإنه قد بلغني أن الحسين بن عليٍّ قد توجه نحو العراق؛ فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظن، وخذ على التهمة، غير ألا تقتل من قاتلك، واكتب إلي في كل ما يحدث من الخبر؛ والسلام عليك ورحمة الله. قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة، قال: كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين - ويقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة ستين من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكة مقبلًا إلى الكوفة بيوم - قال: وكان مخرج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة شعبان وشهر رمضان وشوالًا وذا القعدة، ثم خرج منها لثمانٍ مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل. وذكر هارون بن مسلم، عن علي بن صالح، عن عيسى بن يزيد، أن المختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عبد الله براية حمراء، وعليه ثياب حمر، وجاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنما خرجت لأمنع عمرًا، وإن ابن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلمًا وأصحابه عشية سار مسلم إلى قصر ابن زياد قتالًا شديدًا، وأن شبثًا جعل يقول: انتظروا بهم الليل ليتفرقوا؛ فقال له القعقاع: إنك قد سددت على الناس وجه مصيرهم، فافرج لهم ينسربوا؛ وإن عبيد الله أمر أن يطلب المختار وعبد الله بن الحارث، وجعل فيهما جعلًا، فأتى بهما فحبسا. ذكر مسير الحسين إلى الكوفة وفي هذه السنة كان خروج الحسين رضي الله عنه من مكة متوجهًا إلى الكوفة. ذكر الخبر عن مسيره إليها وما كان من أمره في مسيره ذلك قال هشام عن أبي مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، قال: لما قدمت كتب أهل العراق إلى الحسين وتهيأ للمسير إلى العراق، أتيته فدخلت عليه وهو بمكة، فحمدت الله وأثنيت عليه، ثم قلت: أما بعد، فإني أتيتك يابن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك تستنصحني وإلا كففت عما أريد أن أقول؛ فقال: قل، فوالله ما أظنك بسيىء الرأي، ولاهوٍ للقبيح من الأمر والفعل؛ قال: قلت له: إنه قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق، وإني مشفقٌ عليك من مسيرك؛ إنك تأتي بلدًا فيه عماله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيدٌ لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه؛ فقال الحسين: جزاك الله خيرًا يابن عم؛ فقد والله علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشيرٍ، وأنصح ناصح. قال: فانصرفت من عنده فدخلت على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام، فسألني: هل لقيت حسينًا. فقلت له: نعم؛ قال: فما قال لك، وما قلت له؟ قال: فقلت له: قلت كذا وكذا، وقال كذا وكذا؛ فقال: نصحته ورب المروة الشهباء، أما ورب البنية إن الرأي لما رأيته، قبله أو تركه، ثم قال: رب مستنصحٍ يغش ويردى ** وظنينٍ بالغيب يلفى نصيحا قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان، أن حسينًا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس فقال: يابن عم، إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟ قال: إني قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى؛ فقال له ابن عباس: فإني أعيذك بالله من ذلك، أخبرني رحمك الله! أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر غليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك، ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك؛ فقال له حسين: وإني أستخير الله وأنظر ما يكون. قال: فخرج ابن عباس من عنده، وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعةً، ثم قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم! خبرني ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله؛ فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها؛ قال: ثم إنه خشي أن يتهمه فقال: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إن شاء الله؛ ثم قام فخرج من عنده، فقال الحسين: ها إن هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوه بي، فود أني خرجت منها لتخلو له. قال: فلما كان من العشي أو من الغد، أتى الحسين عبد الله بن العباس فقال: يابن عم إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال؛ إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنهم، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز؛ فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم، ثم أقدم عليهم، فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونًا وشعابًا، وهي أرضٌ عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل، وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية؛ فقال له الحسين: يابن عم، إني والله لأعلم أنك ناصحٌ مشفق، ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير؛ فقال له ابن عباس: فإن كنت سائرًا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه. ثم قال ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذلك. قال: ثم خرج ابن عباس من عنده، فمر بعبد الله بن الزبير، فقال: قرت عينك يابن الزبير! ثم قال: يا لك من قبرة بمعمر ** خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري هذا حسين يخرج إلى العراق، وعليك بالحجاز. قال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي حية، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا: خرجنا حاجين من الكوفة حتى قدمنا مكة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، قالا: فتقربنا منهما، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك، ونصحنا لك وبايعناك؛ فقال له الحسين: إن أبي حدثني أن بها كبشًا يستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش؛ فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى؛ فقال: وما أريد هذا أيضًا؛ قالا: ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إلى منىً عند الظهر؛ قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقص من شعره، وحل من عمرته، ثم توجه نحو الكوفة، وتوجهنا نحو الناس إلى منىً. قال أبو مخنف: عن أبي سعيد عقيصي، عن بعض أصحابه، قال: سمعت الحسين بن علي وهو بمكة وهو واقف مع عبد الله بن الزبير، فقال له ابن الزبير إلي يابن فاطمة، فأصغى إليه، فساره، قال: ثم التفت إلينا الحسين فقال: أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا الله فداك! فقال: قال: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس؛ ثم قال الحسين: والله لأن أقتل خارجًا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلًا منها بشبر، وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، ووالله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت. قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان قال: لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص، عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف؛ أين تذهب! فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضربوا بالسياط. ثم إن الحسين وأصحابه امتنعوا امتناعًا قويًا، ومضى الحسين رضي الله عنه على وجهه، فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله! تخرج من الجماعة، وتفرق بين هذه الأمة! فتأول حسينٌ قول الله عز وجل: " لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريءٌ مما تعملون ". قال: ثم إن الحسين أقبل حتى مر بالتنعيم، فلقي بها عيرًا قد أقبل بها من اليمن، بعث بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية، - وكان عامله على اليمن - وعلى العير الورس والحلل ينطلق بها إلى يزيد فأخذها الحسين، فانطلق بها؛ ثم قال لأصحاب الإبل: لا أكرهكم، من أحب أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض؛ قال: فمن فارقه منهم حوسب فأوفي حقه، ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه. قال أبو مخنف؛ عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله ابن سليم والمذري قالا: اقبلنا حتى انتهينا إلى الصفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر، فواقف حسينًا فقال له: أعطاط الله سؤلك وأملك فيما تحب، فقال له الحسين: بين لنا نبأ الناس خلفك، فقال له الفرزدق: من الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء؛ فقال له الحسين: صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيته، والتقوى سريرته؛ ثم حرك الحسين راحلته فقال: السلام عليك؛ ثم افترقا. قال هشام، عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بن الفرزدق بن غالب، عن أبيه، قال: حججت بأمي، فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج، وذلك في سنة ستين، إذ لقيت الحسين بن علي خارجًا من مكة معه أسيافه وتراسه، فقلت: لمن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن علي، فأتيته فقلت: بأبي وأمي يابن رسول الله! ما أعجلك عن الحج؟ فقال: لو لم أعجل لأخذت؛ قال: ثم سألني: ممن أنت؟ فقلت له: امرؤٌ من العراق؛ قال: فوالله ما فتشني عن أكثر من ذلك، واكتفى بها مني، فقال: أخبرني عن الناس خلفك؟ قال: فقلت له: القلوب معك، والسيوف مع بني أمية، والقضاء بيد الله؛ قال: فقال لي: صدقت؛ قال: فسألته عن أشياء، فأخبرني بها من نذور ومناسك؛ قال: وإذا هو ثقيل اللسان من برسام أصابه بالعراق؛ قال: ثم مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم، وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني، فأخبرته بلقاء الحسين بن علي، فقال لي: ويلك! فهلا اتبعته، فوالله ليملكن، ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه، قال: فهممت والله أن ألحق به، ووقع في قلبي مقالته، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدني ذلك عن اللحاق بهم، فقدمت على أهلي بعسفان، قال: فوالله إني لعندهم إذ أقبلت عيرٌ قد امتارت من الكوفة، فلما سمعت بهم خرجت في آثارهم حتى إذا أسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم: ألا ما فعل الحسين ابن علي؟ قال: فردوا علي: ألا قد قتل؛ قال: فانصرفت وأنا ألعن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ قال: وكان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر، وينتظرونه في كل يوم وليلة. قال: وكان عبد الله بن عمرو يقول: لا تبلغ الشجرة ولا النحلة ولا الصغير حتى يظهر هذا الأمر؛ قال: فقلت له: فما يمنعك أن تبيع الوهط؟ قال: فقال لي: لعنة الله على فلان - يعني معاوية - وعليك؛ قال: فقلت: لا، بل عليك لعنة الله؛ قال: فزادني من اللعن ولم يكن عنده من حشمه أحدٌ فألقى منهم شرًا؛ قال: فخرجت وهو لا يعرفني - والوهط حائطٌ لعبد الله بن عمرو بالطائف؛ قال: وكان معاوية قد ساوم به عبد الله بن عمرو، وأعطاه به مالًا كثيرًا، فأبى أن يبيعه بشيء - قال: وأقبل الحسين مغذًا لا يلوي على شيء حتى نزل ذات عرق. قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب قال: لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن علي مع ابنيه: عون ومحمد: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفقٌ عليك من الوجه الذي توجه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفىء نور الأرض، فإنك علم المهتدين؛ ورجاء المؤمنين؛ فلا تعجل بالسير فإني في أثر الكتاب؛ والسلام. قال: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه. وقال: اكتب إلى الحسين كتابًا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع؛ فقال عمرو ابن سعيد: اكتب ما شئت وأتني به حتى أختمه، فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمرو بن سعيد فقال له: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه، ويعلم أنه الجد منك، ففعل؛ وكان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكة؛ قال: فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: اقرأناه الكتاب، وجهدنا ه، وكان مما اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول الله ﷺ، وأمرت فيها بأمر أنا ماضٍ له، علي كان أو لي؛ فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت أحدًا بها، وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي. قال: وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم، من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك؛ بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه هلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلي معهما، فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار لك، الله علي بذلك شهيدٌ وكفيلٌ، ومراعٍ ووكيلٌ؛ والسلام عليك. قال: وكتب إليه الحسين: أما بعد؛ فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عز وجل وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين؛ وقد دعوت إلى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري، فجزيت خيرًا في الدنيا والآخرة؛ والسلام. رجع الحديث إلى حديث عمار الدهني عن أبي جعفر. فحدثني زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا أحمد بن جناب المصيصي قال: حدثنا خالد بن يزيد بن عبد الله القسري قال: حدثنا عمار الدهني قال: قلت لأبي جعفر: حدثني عن مقتل الحسين حتى كأني حضرته؛ قال: فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر؛ قال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرًا أرجوه، فهم أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل؛ فقال: لا خير في الحياة بعدكم! فسار فلقيته إوائل خيل عبيد الله، فلما رأى ذلك عدل إلى كربلاء فأسند ظهره إلى قصباء وخلا كيلا يقاتل إلا من وجه واحد، فنزل وضرب ابنيته، وكان أصحابه خمسةً وأربعين فارسًا ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيد الله بن زياد الري وعهد إليه عهده فقال: اكفني هذا الرجل؛ قال: أعفني، فأبى أن يعفيه؛ قال: فأنظرني الليلة؛ فأخره، فنظر في أمره فلما أصبح غدا عليه راضيًا بما أمر به، فتوجه إليه عمر بن سعد، فلما أتاه قال له الحسين: اختر واحدةً من ثلاث: إما أن تدعوني فانصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور؛ فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي! فقال له الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدًا، فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم، وفيهم بضعة عشر شابًا من أهل بيته، وجاء سهمٌ فأصاب ابنًا له معه في حجره، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا؛ ثم أمر بحبرة فشققها، ثم لبسها وخرج بسيفه، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه؛ قتله رجلٌ من مذحج وحز رأسه، وانطلق به إلى عبيد الله وقال: أوقر ركابي فضةً وذهبا ** فقد قتلت الملك المحجبا قتلت خير الناس أمًا وأبا ** وخيرهم إذ ينسبون نسبا وأوفده إلى يزيد بن معاوية ومعه الرأس، فوضع رأسه بين يديه وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول: يفلقن هامًا من رجالٍ أعزة ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما فقال له أبو برزة: ارفع قضيبك، فوالله لربما رأيت فا رسول الله ﷺ على فيه يلثمه! وسرح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله، ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين بن علي رضي الله عنه إلا غلام كان مريضًا مع النساء، فأمر به عبيد الله ليقتل، فطرحت زينب نفسها عليه وقالت: والله لا يقتل حتى تقتلوني! فرق لها، فتركه وكف عنه. قال: فجهزهم وحملهم إلى يزيد، فلما قدموا عليه جمع من كان بحضرته من أهل الشأم، ثم أدخلوهم، فهنئوه بالفتح، قال رجل منهم أزرق أحمر ونظر إلى وصيفةٍ من بناتهم فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه، فقالت زينب: لا والله ولا كرامة لك ولا له إلا أن يخرج من دين الله، قال: فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كف عن هذا؛ ثم أدخلهم على عياله، فجهزهم وحملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأةٌ من بني عبد المطلب ناشرةً شعرها، واضعةً كمها على رأسها تلقاهم وهي تبكي وتقول: ماذا تقولون إن قال النبي لكم ** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم! بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ** منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ** أن تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي! حدثني الحسين بن نصر قال: حدثنا أبو ربيعة، قال: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبد الرحمن قال: بلغنا أن الحسين رضي الله عنه.. وحدثنا محمد بن عمار الرازي. قال: حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا عباد بن العوام قال: حدثنا حصين، أن الحسين بن علي رضي الله عنه كتب إليه أهل الكوفة: إنه معك مائة ألف، فبعث إليهم مسلم بن عقيل، فقدم الكوفة، فنزل دار هانىء بن عروة، فاجتمع إليه الناس، فأخبر ابن زياد بذلك. زاد الحسين بن نصر في حديثه: فأرسل إلى هانىء فأتاه، فقال: ألم أوقرك! ألم أكرمك! ألم أفعل بك! قال: بلى، قال: فما جزاء ذلك؟ قال: جزاؤه أن أمنعك؛ قال: تمنعني! قال: فأخذ قضيبًا مكانه فضربه به، وأمر فكتف ثم ضرب عنقه، فبلغ ذلك مسلم بن عقيل، فخرج ومعه ناس كثير، فبلغ ابن زياد ذلك، فأمر بباب القصر فأغلق، وأمر مناديًا فنادى: يا خيل الله اركبي، فلا أحد يجيبه، فظن أنه في ملإ من الناس. قال حصين: فحدثني هلال بن يساف قال: لقيتهم تلك الليلة في الطريق عند مسجد الأنصار، فلم يكونوا يمرون في طريق يمينًا ولا شمالًا إلا وذهبت منهم طائفة، الثلاثون والأربعون، ونحو ذلك. قال: فلما بلغ السوق، وهي ليلة مظلمة، ودخلوا المسجد، قيل لابن زياد: والله ما نرى كثير أحد، ولا نسمع أصوات كثير أحد، فأمر بسقف المسجد فقلع، ثم أمر بحرادى فيها النيران، فجعلوا ينظرون، فإذا قريب خمسين رجلًا. قال: فنزل فصعد المنبر وقال للناس: تميزوا أرباعًا أرباعًا؛ فانطلق كل قوم إلى رأس ربعهم، فنهض إليهم قومٌ يقاتلونهم، فجرح مسلم جراحةً ثقيلة، وقتل ناس من أصحابه، وانهزموا؛ فخرج مسلم فدخل دارًا من دور كندة، فجاء رجل إلى محمد بن الأشعث وهو جالس إلى ابن زياد، فساره، فقال له: إن مسلمًا في دار فلان، فقال ابن زياد: ما قال لك؟ قال: إن مسلمًا في دار فلان، قال ابن زياد لرجلين: انطلقا فأتياني به، فدخلا عليه وهو عند امرأة قد أوقدت له النار، فهو يغسل عنه الدماء، فقالا له: انطلق، الأمير يدعوك، فقال: اعقدا لي عقدًا؛ فقالا: ما نملك ذاك؛ فانطلق معهما حتى أتاه فأمر به فكتف ثم قال: هيه هيه يابن خلية - قال الحسين في حديثه: يابن كذا - جئت لتنزع سلطاني! ثم أمر به فضربت عنقه. قال حصين: فحدثني هلال بن يساف أن ابن زياد أمر بأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشأم إلى طريق البصرة، فلا يدعون أحدًا يلج ولا أحدًا يخرج، فأقبل الحسين ولا يشعر بشيء حتى لقي الأعراب، فسألهم، فقالوا: لا والله ما ندري، غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج؛ قال: فانطلق يسير نحو طريق الشأم نحو يزيد، فلقيته الخيول بكربلاء، فنزل يناشدهم الله والإسلام، قال: وكان بعث إليه عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وحصين ابن نميم، فناشدهم الحسين الله والإسلام أن يسيروه إلى أمير المؤمنين، فيضع يده في يده، فقالوا: لا، إلا على حكم ابن زياد؛ وكان فيمن بعث إليه الحر بن يزيد الحنظلي ثم النهشلي على خيل، فلما سمع ما يقول الحسين قال لهم: ألا تقبلون من هؤلاء ما يعرضون عليكم! والله لو سألكم هذا الترك والديلم ما حل لكم أن تردوه! فأبوا إلا على حكم ابن زياد، فصرف الحر وجه فرسه، وانطلق إلى الحسين وأصحابه، فظنوا أنه إنما جاء ليقاتلهم، فلما دنا منهم قلب ترسه وسلم عليهم، ثم كر على أصحاب ابن زياد فقاتلهم، فقتل منهم رجلين، ثم قتل رحمة الله عليه. وذكر أن زهير بن القين البجلي لقي الحسين وكان حاجًا، فأقبل معه، وخرج إليه ابن أبي بحرية المرادي ورجلان آخران وعمرو بن الحجاج ومعن السلمي؛ قال الحصين: وقد رأيتهما. قال الحصين: وحدثني سعد بن عبيدة، قال: إن أشياخًا من أهل الكوفة لوقوف على التل يبكون ويقولون: اللهم أنزل نصرك، قال: قلت: يا أعداء الله، ألا تنزلون فتنصرونه! قال: فأقبل الحسين يكلم من بعث إليه ابن زياد، قال: وإني لأنظر إليه وعليه جبة من برود، فلما كلمهم انصرف، فرمان رجلٌ من بني تميم يقال له: عمر الطهوي بسهم، فإني لأنظر إلى السهم بين كتفيه متعلقًا في جبته، فلما أبوا عليه رجع إلى مصافه، وإني لأنظر إليهم، وإنهم لقريب من مائة رجل، فيهم لصلب علي بن أبي طالب رضي الله عنه خمسة، ومن بني هاشم ستة عشر، ورجل من بني سليم حليفٌ لهم، ورجلٌ من بني كنانة حليفٌ لهم، وابن عمر بن زياد. قال: وحدثني سعد بن عبيدة، قال: إنا لمستنقعون في الماء مع عمر بن سعد، إذ أتاه رجل فساره وقال له: قد بعث إليك ابن زياد جويرية بن بدر التميمي، وأمره إن لم تقاتل القوم أن يضرب عنقك؛ قال: فوثب إلى فرسه فركبه، ثم دعا سلاحه فلبسه، وإنه على فرسه، فنهض بالناس إليهم فقاتلوهم، فجيء برأس الحسين إلى ابن زياد، فوضع بين يديه، فجعل ينكت بقضيبه، ويقول: إن أبا عبد الله قد كان شمط؛ قال: وجيء بنسائه وبناته وأهله، وكان أحسن شيء صنعه أن أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقًا، وأمر لهن بنفقة وكسوة. قال: فانطلق غلامان منهم لعبد الله بن جعفر - أو ابن جعفر - فأتيا رجلًا من طيىء فلجآ إليه، فضرب أعناقهما، وجاء برءوسهما حتى وضعهما بين يدي ابن زياد؛ قال: فهم بضرب عنقه، وأمر بداره فهدمت. قال: وحدثني مولىً لمعاوية بن أبي سفيان قال: لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه، قال: رأيته يبكي، وقال: لو كان بينه وبينه رحم ما فعل هذا. قال حصين: فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثةً، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع. قال: وحدثني العلاء بن أبي عاثة قال: حدثني رأس الجالوت، عن أبيه قال: ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، قال: قلت: لم؟ قال: كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان؛ قال: وكنت أخاف أن أكون أنا، فلما قتل الحسين قلنا: هذا الذي كنا نتحدث. قال: وكنت بعد ذلك إذا مررت بذلك المكان أسير ولا أركض. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا علي بن محمد، عن جعفر بن سليمان الضبعي قال: قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة؛ فقدم للعراق فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. قال الحارث: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: قتل الحسين بن علي رضي الله عنه في صفر سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن خمس وخمسين. حدثني بذلك أفلح بن سعيد، عن ابن كعب القرظي، قال الحارث: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، عن أبي معشر، قال: قتل الحسين لعشر خلون من المحرم. قال الواقدي: هذا أثبت. قال الحارث: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عطاء ابن مسلم، عمن أخبره، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: أول رأس رفع على خشبة. رأس الحسين رضي الله عنه. قال أبو مخنف: عن هشام بن الوليد، عمن شهد ذلك، قال: أقبل الحسين ابن علي بأهله من مكة ومحمد بن الحنفية بالمدينة؛ قال: فبلغه خبره وهو يتوضأ في طست؛ قال: فبكى حتى سمعت وكف دموعه في الطست. قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق السبيعي. قال: ولما بلغ عبيد الله إقبال الحسين من مكة إلى الكوفة، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى لعلع، وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق. قال أبو مخنف: وحدثني محمد بن قيس أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلامٌ عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا، والطب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكان مسلم ابن عقيل قد كان كتب إلى الحسين قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة: أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جمع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي؛ والسلام عليك. قال: فأقبل الحسين بالصبيان والنساء معه لا يلوي على شيء، وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد إلى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب؛ فصعد ثم قال: أيها الناس، إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله؛ ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه؛ ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أبي طالب. قال: فأمر به عبيد الله ابن زياد أن يرمى به من فوق القصر، فرمي به، فتقطع فمات. ثم أقبل الحسين سيرًا إلى الكوفة، فانتهى إلى ماء من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوي، وهو نازل هاهنا، فلما رأى الحسين قام إليه، فقال: بأبي أنت وأمي يابن رسول الله! ما أقدمك! واحتمله فأنزله، فقال له الحسين: كان من موت معاوية ما قد بلغك؛ فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم، فقال له عبد الله بن مطيع: أذكرك الله يابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك! أنشدك الله في حرمة رسول الله ﷺ! أنشدك الله في حرمة العرب! فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدًا أبدًا. والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرض لبني أمية؛ قال: فابى إلا أن يمضي؛ قال: فأقبل الحسين حتى كان بالماء فوق زرود. قال أبو مخنف: فحدثني السدي، عن رجل من بني فزارة قال: لما كان زمن الحجاج بن يوسف كنا في دار الحارث بن أبي ربيعة التي في التمارين، التي أقطعت بعد زهير بن القين، من بني عمرو بن يشكر من بجيلة، وكان أهل الشأم لا يدخلونها، فكنا مختبئين فيها، قال: فقلت للفزاري: حدثني عنكم حين اقبلنا من مكة نساير الحسين، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدم زهير، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدًا من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب، ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الحسين حتى سلم، ثم دخل فقال: يا زهير بن القين، إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه؛ قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رءوسنا الطير. قال أبو مخنف: فحدثني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين، قالت: فقلت له: أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه! سبحان الله! لو أتيته فسمعت من كلامه! ثم انصرفت؛ قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرًا قد أسفر وجهه؛ قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم، وحمل إلى الحسين، ثم قال لامرأته: أنت طالقٌ، الحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، إني سأحدثكم حديثًا، غزونا بلنجر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم! فقلنا: نعم، فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحًا بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم، فأما أنا فإني أستودعكم الله؛ قال: ثم والله ما زال في أول القوم حتى قتل. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا: لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين؛ قالا: فوقف الحسين كأنه يريده، ثم تركه، ومضى ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا فلنسأله، فإن كان عنده خبر الكوفة علمناه، فمضينا حتى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك، قال: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم قلنا: فمن الرجل؟ قال: أسدي: فقلنا: فنحن أسديان فمن أنت؟ قال: أنا بكير بن المثعبة، فانتسبنا له، ثم قلنا: أخبرنا عن الناس وراءك؛ قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة، فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق؛ قالا: فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين، فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيًا، فجئناه حين نزل، فسلمنا عليه فرد علينا، فقلنا له: يرحمك الله؛ إن عندنا خبرًا، فإن شئت حدثنا علانيةً، وإن شئت سرًا؛ قال: فنظر إلى أصحابه وقال: ما دون هؤلاء سر؛ فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس؟ قال: نعم، وقد أردت مسألته؛ فقلنا: قد استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وهو أمرؤ من أسد منا، ذو رأي وصدق، وفضل وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة، وحتى رآهما يجران في السوق بأرجلهما، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! رحمة الله عليهما، فردد ذلك مرارًا، فقلنا: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعة، بل نتخوف أن تكون عليك! قال: فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب. قال أبو مخنف: حدثني عمر بن خالد، عن زيد بن علي بن حسين، وعن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، أن بني عقيل قالوا: لا والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا. قال أبو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، قالا: فنظر إلينا الحسين فقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء؛ قالا: فعلمنا أنه قد عزم له رأيه على المسير؛ قالا: فقلنا: خار الله لك! قالا: فقال: رحمكما الله! قالا: فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع؛ قال الأسديان: ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا، ثم ارتحلوا وساروا حتى انتهوا إلى زبالة. قال أبو مخنف: حدثني أبو علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المزني، قال: كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عبد الله بن بقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري أنه قد أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن تميم بالقادسية، فسرح به إلى عبيد الله بن زياد، فقال: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب، ثم انزل حتى أرى فيك رأيي! قال: فصعد، فلما أشرف على الناس قال: أيها الناس، إني رسول الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله ﷺ لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدعي. فأمر به عبيد الله فألقي من فوق القصر إلى الأرض، فكسرت عظامه، وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذلك عليه قال: إنما أردت أن أريحه. قال هشام: حدثنا أبو بكر بن عياش عمن أخبره، قال: والله ما هو عبد الملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك بن عمير. قال: فأتى ذلك الخبر حسينًا وهو بزبالة، فأخرج للناس كتابًا، فقرأ عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم ابن عقيل وهانىء بن عروة، وعبد الله بن بقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام. قال: فتفرق الناس عنه تفرقًا، فأخذوا يمينًا وشمالًا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أنما اتبعه الأعراب، لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدًا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علام يقدمون، وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه. قال: فلما كان من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا، ثم سار حتى مر ببطن العقبة، فنزل بها. قال أبو مخنف: فحدثني لوذان أحد بني عكرمة أن أحد عمومته سأل الحسين رضي الله عنه أين تريد؟ فحدثه، فقال له: إني أنشدك الله لما انصرفت، فوالله لا تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال، ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيًا، فأما على هذه الحال التي تذكرها فإني لا أرى لك أن تفعل. قال: فقال له: يا عبد الله، إنه ليس يخفى علي، الرأي ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره؛ ثم ارتحل منها. ونزع يزيد بن معاوية في هذه السنة الوليد بن عتبة عن مكة، وولاها عمرو بن سعيد بن العاص، وذلك في شهر رمضان منها، فحج بالناس عمرو ابن سعيد في هذه السنة؛ وحدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان عامله على مكة والمدينة في هذه السنة بعد ما عزل الوليد بن عتبة عمرو بن سعيد، وعلى الكوفة والبصرة وأعمالهما عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة. ثم دخلت سنة إحدى وستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك مقتل الحسين رضوان الله عليه، قتل فيها في المحرم لعشر خلون منه، كذلك حدثني أحمد بن ثابت، قال: حدثني محدث، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي وهشام بن الكلبي؛ وقد ذكرنا ابتداء أمر الحسين في مسيره نحو العراق وما كان منه في سنة ستين، ونذكر الآن ما كان من أمره في سنة إحدى وستين وكيف كان مقتله. حدثت عن هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا: أقبل الحسين رضي الله عنه حتى نزل شراف، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا منها، فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار. ثم إن رجلًا قال: الله أكبر! فقال الحسين: الله أكبر ما كبرت؟ قال: رأيت النخل، فقال له الأسديان: إن هذا المكان ما رأينا به نخلةً قط؛ قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟ قلنا: نراه رأى هوادي الخيل؛ فقال: وأنا والله أرى ذلك؛ فقال الحسين: أما لنا ملجأ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حسمٍ إلى جنبك، تميل إليه ذات اليسار؛ قالا: وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتبيناها، وعدنا، فلما رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب، وكأن راياتهم أجنحة الطير، قال: فاستبقنا إلى ذي حسم، فسبقناهم إليه، فنزل الحسين، فأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حر الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وأرووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفًا، فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفًا، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم، وأقبلوا يملئون القصاع والأتوار والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيه ثلاثًا أو اربعًا أو خمسًا عزلت عنه، وسقوا آخر حتى سقوا الخيل كلها. قال هشام: حدثني لقيط، عن علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال: أنخ الراوية - والراوية عندي السقاء - ثم قال: يابن أخٍ، أنخ الجمل، فأنخته، فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين: اخنث السقاء - أي اعطفه - قال: فجعلت لا أدري كيف أفعل! قال: فقام الحسين فخنثه، فشربت وسقيت فرسي. قال: وكان مجيء الحر بن يزيد ومسيره إلى الحسين من القادسية، وذلك أن عبيد الله بن زياد لما بلغه إقبال الحسين بعث الحصين ابن تميم التميمي - وكان على شرطه - فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة إلى خفان، وقدم الحر بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية، فسيتقبل حسينًا. قال: فلم يزل موافقًا حسينًا حتى حضرت الصلاة صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنها معذرة إلى الله عز وجل وإليكم؛ إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم: أن اقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدى؛ فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم. قال: فسكتوا عنه وقالوا للمؤذن: أقم. فأقام الصلاة، فقال الحسين رضي الله عنه للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك؛ قال: فصلى بهم الحسين، ثم إنه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان به، فدخل خيمةً قد ضربت له، فاجتمع إليه جماعةٌ من أصحابه، وعاد أصحابه إلى صفهم الذي كانوا فيه، فأعادوه، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها، فلما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيئوا للرحيل. ثم إنه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، واقام فاستقدم الحسين فصلى بالقوم ثم سلم، وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به علي رسلكم، انصرفت عنكم، فقال له الحر بن يزيد: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر! فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صحفًا، فنشرها بين أيديهم؛ فقال الحر: فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد؛ فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا، فركبوا وانتظروا حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحر: ثكلتك أمك! ما تريد؟ قال: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنًا من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه؛ فقال له الحسين: فما تريد؟ قال الحر: أريد والله أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد، قال له الحسين: إذن والله لا أتبعك؛ فقال له الحر: إذن والله لا أدعك؛ فترادا القول ثلاث مرات، ولما كثر الكلام بينهما قال له الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت ألا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقًا لا تدخلك الكوفة، ولا تردك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفًا حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد ابن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت، فلعل الله إلى ذاك أو يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك؛ قال: فخذ ها هنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلًا. ثم إن الحسين سار في أصحابه والحر يسايره. قال أبو مخنف: عن عقبة بن أبي العيزار، إن الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن رسول الله ﷺ قال: " من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقًا على الله أن يدخله مدخله ". ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير، قد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم؛ أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله ﷺ، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وقال عقبة بن أبي العيزار: قام حسينٌ رضي الله عنه بذي حسم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت جدًا، فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل. ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقًا، فإني لا أرى الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برمًا. قال: فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه: تكلمون أم أتكلم؟ قالوا: لا، بل تكلم؛ فحمد الله فأثنى عليه ثم قال: قد سمعنا هداك الله يابن رسول الله مقالتك، والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين، إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها. قال: فدعا له الحسين ثم قال له خيرًا؛ وأقبل الحر يسايره وهو يقول له: يا حسين، إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى؛ فقال له الحسين: أفبالموت تخوفني! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! ما أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه، ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله ﷺ، فقال له: أين تذهب؟ فإنك مقتول؛ فقال: سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى ** إذا ما نوى حقًا وجاهد مسلما وآسى الرجال الصالحين بنفسه ** وفارق مثبورًا يغش ويرغما قال: فلما سمع ذلك منه الحر تنحى عنه، وكان يسير بأصحابه في ناحية وحسين في ناحية أخرى، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات، وكان بها هجائن النعمان ترعى هنالك، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم، يجنبون فرسًا لنافع بن هلال يقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه، وهو يقول: يا ناقتي لا تذعري من زجري ** وشمري قبل طلوع الفجر بخير ركبانٍ وخير سفر ** حتى تحلي بكريم النجر الماجد الحر رحيب الصدر ** أتى به الله لخير أمر ثمت أبقاه بقاء الدهر قال: فلما انتهوا إلى الحسين أنشدوه هذه الأبيات، فقال: أما والله إني لأرجو أن يكون خيرًا ما أراد الله بنا، قتلنا أم ظفرنا؛ قال: وأقبل إليهم الحر بن يزيد فقال: إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم، فقال له الحسين: لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد، فقال: أجل، لكن لم يأتوا معك؛ قال: هم أصحابي، وهم بمنزلة من جاء معي، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك؛ قال: فكف عنهم الحر؛ قال: ثم قال لهم الحسين: أخبروني خبر الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله العائذي، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاءوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألبٌ واحدٌ عليك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدًا مشهورةٌ عليك؛ قال: أخبروني، فهل لكم برسولي إليكم؟ قالوا: من هو؟ قال: قيس بن مسهر الصيداوي؛ فقالوا: نعم، أخذه الحصين ابن تميم فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إلى نصرتك، وأخبرهم بقدومك، فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر؛ فترقرقت عينا حسين رضي الله عنه ولم يملك دمعه، ثم قال: " منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا ". اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلًا، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك! قال أبو مخنف: حدثني جميل بن مرثد من بني معن، عن الطرماح ابن عدي، أنه دنا من الحسين فقال له: والله إني لأنظر فما أرى معك أحدًا، ولو لم يقاتلك إلاهؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم؛ وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثم يسرحون إلى الحسين، فأنشدك الله إن قدرت على ألا تقدم عليهم شبرًا إلا فعلت! فإن أردت أن تنزل بلدًا يمنعك الله به حتى ترى من رأيك، ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذييدعى أجأ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذل قط؛ فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيىء، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيىء رجالًا وركبانًا، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لايوصل إليك أبدًا ومنهم عين تطرف؛ فقال له: جزاك الله وقومك خيرًا! إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبه! قال أبو مخنف: فحدثني جميل بن مرثد، قال: حدثني الطرماح ابن عدي، قال: فودعته وقلت له: دفع الله عنك شر الجن والإنس، إني قد امترت لأهلي من الكوفة ميرةً، ومعي نفقة لهم، فآتيهم فأضع ذلك فيهم، ثم أقبل إليك إن شاء الله، فإن ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك؛ قال: فإن كنت فاعلًا فعجل رحمك الله؛ قال: فعلمت أنه مستوحشٌ إلى الرجال حتى يسألني التعجيل؛ قال: فلما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم، وأوصيت، فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرتك هذه شيئًا ما كنت تصنعه قبل اليوم، فأخبرتهم بما أريد، وأقبلت في طريق بني ثعل حتى إذا دنوت من عذيب الهجانات، استقبلني سماعة بن بدر، فنعاه إلي، فرجعت؛ قال: ومضى الحسين رضي الله عنه حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل، فنزل به، فإذا هو بفسطاط مضروب. قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، أن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله ابن الحر الجعفي؛ قال: ادعوه لي، وبعث إليه، فلما أتاه الرسول، قال: هذا الحسين بن علي يدعوك؛ فقال عبيد الله بن الحر: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن اراه ولا يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فأخذ الحسين نعليه فانتعل، ثم قام فجاءه حتى دخل عليه، فسلم وجلس، ثم دعاه إلى الخروج معه، فأعاد غليه ابن الحر تلك المقالة، فقال: فإلا تنصرنا إلا هلك؛ قال: أما هذا فلا يكون أبدًا إن شاء الله، ثم قام الحسين رضي الله عنه من عنده حتى دخل رحله. قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قال: لما كان في آخر اليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء، ثم أمرنا بالرحيل، ففعلنا؛ قال: فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعةً خفق الحسين برأسه خفقة، ثم انتبه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين؛ قال: ففعل ذلك مرتين أو ثلاثًا، قال: فأقبل إليه بانه علي بن الحسين على فرس له فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، يا أبت، جعلت فداك! مم حمدت الله واسترجعت؟ قال: يا بني، إني خفقت برأسي خفقةً فعن لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، قال له: يا أبت، لا أراك الله سوءًا، ألسنا على الحق! قال: بلى والذي إليه مرجع العباد؛ قال: يا أبت، إذًا لا نبالي؛ نموت محقين؛ فقال له: جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى ولدًا عن والده؛ قال: فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثم عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم، فيأتيه الحر بن يزيد فيردهم فيرده، فجعل إذا ردهم إلى الكوفة ردًا شديدًا امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون حتى انتهوا إلى نينوى؛ المكان الذي نزل به الحسين؛ قال: فإذا راكبٌ على نجيب له وعليه السلاح متنكب قوسًا مقبلٌ من الكوفة، فوقفوا جميعًا ينتظرونه، فلما انتهى إليهم سلم على الحر بن يزيد وأصحابه، ولم يسلم على الحسين رضي الله عنه وأصحابه، فدفع إلى الحر كتابًا من عبيد الله ابن زياد فإذا فيه: أما بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري؛ والسلام. قال: فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد أمره ألا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره، فنظر إلى رسول عبيد الله يزيد ابن زياد بن المهاصر أبو الشعثاء الكندي ثم البهدلي فعن له، فقال: أمالك بن النسير البدي؟ قال: نعم - وكان أحد كندة - فقال له يزيد ابن زياد: ثكلتك أمك! ماذا جئت فيه؟ قال: وما جئت فيه! أطعت إمامي، ووفيت ببيعتي، فقال له أبو الشعثاء: عصيت ربك، وأطعت إمامك في هلاك نفسك، كسبت العار والنار، قال الله عز وجل: " وجعلناهم أئمةً يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون "، فهو إمامك. قال: وأخذ الحر بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية، فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية، يعنون نينوى - أو هذه القرية - يعنون الغاضرية - أو هذه الأخرى - يعنون شفية. فقال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث إلي عينًا، فقال له زهير بن القين: يابن رسول الله، إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به؛ فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال؛ فقال له زهير بن القين: سر بنا إلى هذه القرية حتى تنزلها فإنها حصينة، وهي على شاطىء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم؛ فقال له الحسين: وأية قرية هي؟ قال: هي العقر، فقال الحسين: اللهم إني أعوذ بك من العقر، ثم نزل، وذلك يوم الخميس، وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين. فلما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف. قال: وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين رضي الله عنه أن عبيد الله بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دستبى، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب إليه ابن زياد عهده على الري، وأمره بالخروج. فخرج معسكرًا بالناس بحمام أعين، فلما كان من أمر الحسين ما كان وأقبل إلى الكوفة دعا ابن زياد عمر بن سعد، فقال: سر إلى الحسين، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك؛ فقال له عمر بن سعد: إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل؛ فقال له عبيد الله: نعم، على أن ترد لنا عهدنا؛ قال: فلما قلا له ذلك قال عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتى أنظر؛ قال: فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحدًا إلا نهاه؛ قال: وجاء حمزة ابن المغيرة بن شعبة - وهو ابن أخته - فقال: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك! فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك، خيرٌ لك من أن تلقى الله بدم الحسين! فقال له عمر بن سعد: فإني أفعل إن شاء الله. قال هشام: حدثني عوانة بن الحكم، عن عمار بن عبيد الله بن يسار الجهني، عن أبيه، قال: دخلت على عمر بن سعد، وقد أمر بالمسير إلى الحسين، فقال لي: إن الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين، فأبيت ذلك عليه، فقلت له: أصاب الله بك، أرشدك الله، أحل فلا تفعل ولا تسر إليه. قال: فخرجت من عنده، فأتاني آتٍ وقال: هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين؛ قال: فأتيته فإذا هو جالس، فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قد عزم على المسير إليه، فخرجت من عنده؛ قال: فأقبل عمر ابن سعد إلى ابن زياد فقال: أصلحك الله! إنك وليتني هذا العمل، وكتبت لي العهد، وسمع به الناس، فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه؛ فسمى له أناسًا، فقال له ابن زياد: لا تعلمني بأشراف أهل الكوفة، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث. إن سرت بجندنا، وإلا فابعث إلينا بعهدنا، فلما رآه قد لج قال: فإني سائر؛ قال: فأقبل في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوى. قال: فبعث عمر بن سعد إلى الحسين رضي الله عنه عزرة بن قيس الأحمسي، فقال: ائته فسله ما الذي جاء به؟ وماذا يريد؟ وكان عزرة ممن كتب إلى الحسين فاستحيا منه أن يأتيه. قال: فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلهم أبى وكرهه. قال: وقام إليه كثير بن عبد الله الشعبي - وكان فارسًا شجاعًا ليس يرد وجهه شيءٌ - فقال: أنا أذهب إليه، والله لئن شئت لأفتكن به، فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن يفتك به، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟ قال: فأقبل إليه، فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين: أصلحك الله أبا عبد الله! قد جاءك شر أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه، فقام إليه، فقال: ضع سيفك؛ قال: لا والله ولا كرامة، إنما أنا رسول، فإن سمعتم مني أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم؛ فقال له: فإني آخذٌ بقائم سيفك، ثم تكلم بحاجتك، قال: لا والله، لا تمسه فقال له: أخبرني ما جئت به وأنا أبلغه عنك، ولا أدعك تدنو منه، فإنك فاجر؛ قال: فاستبا، ثم انصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر؛ قال: فدعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فقال له: ويحك يا قرة! الق حسينًا فسله ما جاء به؟ وماذا يريد؟ قال: فأتاه قرة بن قيس، فلما رآه الحسين مقبلًا قال: أتعرفون هذا؟ فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجل من حنظلة تميمي، وهو ابن أختنا، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد؛ قال: فجاء حتى سلم على الحسين، وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه له، فقال الحسين: كتب إلي أهل مصركم هذا أن اقدم، فأما إذ كرهوني فأنا انصرف عنهم؛ قال: ثم قال له حبيب بن مظاهر: ويحك يا قرة ابن قيس! أنى ترجع إلى القوم الظالمين! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك؛ فقال له قرة: أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيي؛ قال: فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد: إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله. قال هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح بن حبيب ابن زهير العبسي، عن حسان بن فائد بن بكير العبسي، قال: أشهد أن كتاب عمر بن سعد جاء إلى عبيد الله بن زياد وأنا عنده فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت؛ فأما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرفٌ عنهم، فلما قرىء الكتاب على ابن زياد قال: الآن إذ علقت مخالبنا به ** يرجو النجاة ولات حين مناص! قال: وكتب إلى عمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا، والسلام. قال: فلما أتى عمر بن سعد الكتاب، قال: قد حسبت ألا يقبل ابن زياد العافية. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي رشاد، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. قال: فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث. قال: ونازله عبد الله بن أبي حصين الأزدي - وعداده في بجيلة - فقال: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشًا؛ فقال حسين: اللهم اقتله عطشًا، ولا تغفر له أبدًا. قال حميد بن مسلم: والله لعدته بعد ذلك في مرضه، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى بغر، ثم يقيء، ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتى لفظ عصبه. يعني نفسه - قال: ولما اشتد على الحسين وأصحابه العطش دعا العباس بن علي بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارسًا وعشرين راجلًا، وبعث معهم بعشرين قربةً، فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلًا واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي: من الرجل؟ فجيء فقال: ما جاء بك؟ قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه؛ قال: فاشرب هنيئًا، قال: لا والله، لا أشرب منه قطرةً وحسينٌ عطشان ومن ترى من أصحابه، فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء، فلما دنا منه أصحابه قال لرجاله: املئوا قربكم، فشد الرجالة فملئوا قربهم، وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن علي ونافع بن هلال فكفوهم، ثم انصرفوا إلى رحالهم، فقالوا: امضوا، ووقفوا دونهم، فعطف عليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه واطردوا قليلًا. ثم إن رجلًا من صداء طعن من أصحاب عمرو بن الحجاج، طعنه نافع بن هلال، فظن أنها ليست بشيء، ثم إنها انتقضت بعد ذلك، فمات منها، وجاء أصحاب حسين بالقرب فأدخلوها عليه. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب، عن هانىء بن ثبيت الحضرمي - وكان قد شهد قتل الحسين، قال: بعث الحسين رضي الله عنه إلى عمر بن سعد عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري: أن القني الليل بين عسكري وعسكرك. قال: فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسًا، وأقبل حسين في مثل ذلك، فلما التقوا أمر حسين أصحابه أن يتنحوا عنه، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك؛ قال: فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما؛ فتكلما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيعٌ، ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه، وتحدث الناس فيما بينهما؛ ظنًا يظنونه أن حسينًا قال لعمر بن سعد: اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين؛ قال عمر: إذن تهدم داري؛ قال: أنا أبنيها لك، قال: إذن تؤخذ ضياعي؛ قال: إذن أعطيك خيرًا منها من مالي بالحجاز. قال: فتكره ذلك عمر؛ قال: فتحدث الناس بذلك، وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئًا ولا علموه. قال أبو مخنف: وأما ما حدثنا به المجالد بن سعيد والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدثين، فهو ما عليه جماعة المحدثين، قالوا: إنه قال: اختاروا مني خصالًا ثلاثًا: إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلًا من أهله، لي ما لهم وعلي ما عليهم. قال أبو مخنف: فأما عبد الرحمن بن جندب فحدثني عن عقبة بن سمعان قال: صحبت حسينًا فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة والا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها. ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون؛ من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس. قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد الهمداني والصقعب بن زهير، أنهما كانا التقيا مرارًا ثلاثًا أو أربعًا؛ حسين وعمر بن سعد؛ قال: فكتب عمر ابن سعد إلى عبيد الله بن زياد: أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيره إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلًا من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضًا، وللأمة صلاحٌ. قال: فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه، نعم قد قبلت. قال: فقام إليه شمر بن ذي الجوشن، فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك! والله لئن رحل من بلدك، ولم يضع يده في يدك، ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كان ذلك لك، والله لقد بلغني أن حسينًا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل، فقال له ابن زياد: نعم ما رأيت! الرأي رأيك. قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: ثم إن عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فقال له: اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلمًا، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى فقاتلهم، فأنت أمير الناس، وثب عليه فاضرب عنقه، وابعث إلي برأسه. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، قال: ثم كتب عبيد الله ابن زياد إلى عمر بن سعد: أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعًا.. انظر، فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا، فابعث بهم إلي سلمًا، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حسين فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم، وليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئًا، ولكن علي قول لو قد قتلته فعلت هذا به. إن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناه بأمرنا؛ والسلام. قال أبو مخنف: عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: لما قبض بن ذي الجوشن الكتاب قام هو وعبد الله بن أبي المحل - وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فولدت له العباس وعبد الله وجعفرًا وعثمان - فقال عبد الله بن أبي المحل بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب: أصلح الله الأمير! إن بني أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانًا فعلت؛ قال: نعم ونعمة عين. فأمر كاتبه، فكتب لهم أمانًا، فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولىً له يقال له: كزمان، فلما قدم عليهم دعاهم، فقال: هذا أمانٌ بعث به خالكم؛ فقال له الفتية: أقرىء خالنا السلام، وقل له: أن لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خيرٌ من أمان ابن سمية. قال: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر ابن سعد، فلما قدم به عليه فقرأه قال له عمر: ما لك ويلك! لا قرب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علي! والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمرًا كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إن نفسًا أبيةً لبين جنبيه، فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر؛ قال: لا ولا كرامة لك، وأنا أتولى ذلك؛ قال: فدونك، وكن أنت على الرجال؛ قال: فنهض إليه عشية الخميس لتسعٍ مضين من المحرم؛ قال: وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين، فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو علي، فقالوا له: ما لك وما تريد؟ قال: أنتم يا بني أختي آمنون؛ قال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له! قال: ثم إن عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبي وأبشري. فركب في الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيًا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها، فقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت! قال: فرفع الحسين رأسه فقال: إني رأيت رسول الله ﷺ في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا؛ فلطمت أخته وجهها وقالت: يا ويلتا! فقال: ليس لك الويل يا أخية، اسكني رحمك الرحمن! وقال العباس بن علي: يا أخي، أتاك القوم؛ قال: فنهض؛ ثم قال: يا عباس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم؟ فأتاهم العباس؛ فاستقبلهم في نحو من عشرين فارسًا فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فقال لهم العباس: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم؛ قال: فلا تعجلوا حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم؛ قال: فوقفوا ثم قالوا: القه فأعلمه ذلك، ثم القنا بما يقول؛ قال: فانصرف العباس راجعًا يركض إلى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم، فقال حبيب ابن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت. وإن شئت كلمتهم، فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكن أنت تكلمهم، فقال له حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غدًا قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه عليه السلام وعترته وأهل بيته ﷺ وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار، والذاكرين الله كثيرًا؛ فقال له عزرة بن قيس: إنك لتزكي نفسك ما استطعت؛ فقال له زهير: يا عزرة، إن الله قد زكاها وهداها، فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية! قال: يا زهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنما كنت عثمانيًا؛ قال: أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم! أما والله ما كتبت إليه كتابًا قط، ولا أرسلت إليه رسولًا قط، ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ﷺ ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظًا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله عليه السلام. قال: وأقبل العباس بن علي يركض حتى انتهى إليهم، فقال: يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم أن تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر، فإن هذا أمرٌ لم يجر بينكم وبينه فيه منطقٌ، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمربأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك؛ قال: قد أردت ألا أكون؛ ثم أقبل على الناس فقال: ماذا تريدون؟ فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها؛ وقال قيس بن الأشعث: اجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة؛ فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشية؛ قال: وكان العباس بن علي حين أتى حسينًا بما عرض عليه عمر بن سعد قال: ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يلعم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار!، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمربأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك؛ قال: قد أردت ألا أكون؛ ثم أقبل على الناس فقال: ماذا تريدون؟ فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها؛ وقال قيس بن الأشعث: اجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة؛ فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشية؛ قال: وكان العباس بن علي حين أتى حسينًا بما عرض عليه عمر بن سعد قال: ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يلعم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار! قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن علي بن الحسين قال: أتانا رسولٌ من قبل عمر بن سعد فقام مثل حيث يسمع الصوت فقال: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا بتاركيكم. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي - بطن من همدان - أن الحسين بن علي رضي الله عنه جمع أصحابه. قال أبو مخنف: وحدثني أيضًا الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن علي بن الحسين، قالا: جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، قال علي بن الحسين: فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه: أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين؛ أما بعد، فإني لا أعلم أصحابًا أولى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعًا خيرًا؛ ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدًا، ألا وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعًا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا ليلٌ قد غشيكم، فاتخذوه جملًا. قال أبو مخنف: حدثنا عبد الله بن عاصم الفائشي - بطن من همدان - عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: قدمت ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين، فسلمنا عليه، ثم جلسنا إليه، فرد عليا، ورحب بنا، وسألنا عما جئنا له، فقلنا: جئنا لنسلم عليك، وندعو الله لك بالعافية، ونحدث بك عهدًا، ونخبرك خبر الناس، وإنا نحدثك أنهم قد جمعوا على حربك فر رأيك. فقال الحسين رضي الله عنه: حسبي الله ونعم الوكيل! قال: فتذممنا وسلمنا عليه، ودعونا الله له، قال: فما يمنعكما من نصرتي؟ فقال مالك ابن النضر: علي دين، ولي عيال، فقلت له: إن علي دينًا، وإن لي لعيالًا، ولكنك إن جعلتني في حلٍّ من الانصراف إذا لم أجد مقاتلًا قاتلت عنك ما كان لك نافعًا، وعنك دافعًا! قال: قال: فأنت في حل؛ فأقمت معه، فلما كان الليل قال: هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملًا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري؛ فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدًا؛ بدأهم بهذا القول العباس بن علي. ثم إنهم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين رضي الله عنه: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم؛ قالوا: فما يقول الناس! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك! قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك! أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك؛ ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. قال: وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا حفظنا غيبة رسول الله ﷺ فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيًا ثم أذر؛ يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك! وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدًا. قال: وقال زهير بن القين: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك. قال: وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضًا في وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا، وقضينا ما علينا. قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب وأبو الضحاك، عن علي ابن الحسين بن علي قال: إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له، وعنده حوى، مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول: يا دهر أفٍّ لك من خليل ** كم لك بالإشراق والأصيل من صاحبٍ أو طالبٍ قتيل ** والدهر لا يقنع بالبديل وإنما الأمر إلى الجليل ** وكل حيٍّ سالك السبيل قال: فأعادها مرتين أو ثلاثًا حتى فهمتها، فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل. فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت، وهي امرأة وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، وإنها لحاسرة حتى انتهت إليه؛ فقالت: واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي؛ قال: فنظر إليها الحسين رضي الله عنه فقال: يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان؛ قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! استقتلت نفسي فداك؛ فرد غصته، وترقرقت عيناه، وقال: لو ترك القطا ليلًا لنام؛ قالت: يا ويلتي، أفتغضب نفسئك اغتصابًا، فذلك أقرح لقلبي، وأشد على نفسي! ولطمت وجهها، وأهوت إلى جيبها وشقته، وخرت مغشيًا عليها، فقام إليها الحسين فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أخية، اتقي الله وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالكٌ إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وهو فرد وحده، أبي خيرٌ مني، وأمي خيرٌ مني، وأخي خيرٌ مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة؛ قال: فعزاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخية، إني أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبًا، ولا تخمشي علي وجهًا، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت؛ قال: ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا هم بين اليوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم. قال أبو مخنف: عن عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: فلما أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويدعون ويتضرعون؛ قال: فتمر بنا خيلٌ لهم تحرسنا، وإن حسينًا ليقرأ: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا ولهم عذابٌ مهينٌ، ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ". فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا، فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون. ميزنا منكم. قال: فعرفته فقلت لبرير بن حضير: تدري من هذا؟ قال: لا؛ قلت هذا أبو حرب السبيعي عبد الله بن شهر - وكان مضحاكًا بطالًا، وكان شريفًا شجاعًا فاتكًا، وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية - فقال له برير بن حضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيبين! فقال له: من أنت؟ قال: أنا برير بن حضير؛ قال: إنا لله! عز علي! هلكت والله، هلكت والله يا برير! قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام! فوالله إنا لنحن الطيبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون؛ قال: وأنا على ذلك من الشاهدين، قلت: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك! قال: جعلت فداك! فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل! قال: ها هو ذا معي؛ قال: قبح الله رأيك على كل حال! أنت سفيه. قال: ثم انصرف عنا، وكان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وكان على الخيل؛ قال: فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت - وقد بلغنا أيضًا أنه كان يوم الجمعة، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء - خرج فيمن معه من الناس. قال: وعبأ الحسين أصحابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن ياتوهم من ورائهم. قال: وكان الحسين رضي الله عنه أتى بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه في ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتي من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد. ففعلوا، وكان لهم نافعًا. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن محمد بن بشر، عن عمرو الحضرمي، قال: لما خرج عمر بن سعد بالناس كان على ربع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي؛ فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين، وقتل معه. وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شرحبيل بن الأعور بن عمر بن معاوية - وهو الضباب بن كلاب - وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويدًا مولاه. قال أبو مخنف: حدثني عمرو بن مرة الجملي، عن أبي صالح الحنفي، عن غلام لعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري، قال: كنت مع مولاي، فلما حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين، أمر الحسين بفسطاط فضرب، ثم أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صحفة؛ قال: ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط فتطلى بالنورة. قال: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير ابن حضير الهمداني على باب الفسطاط تحتك مناكبهما، فازدحما أيهما يطلى على أثره، فجعل برير يهازل عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن: دعنا، فوالله ما هذه بساعة باطل، فقال له برير: والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابًا ولا كهلًا، ولكن والله إني لمستبشرٌ بما نحن لاقون، والله إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم. قال: فلما فرغ الحسين دخلنا فاطلينا؛ قال: ثم إن الحسين ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه؛ قال: فاقتتل أصحابه بين يديه قتالًا شديدًا، فلما رأيت القوم قد صرعوا أفلت وتركتهم. قال أبو مخنف، عن بعض أصحابه، عن أبي خالد الكاهلي، قال: لما صبحت الخيل الحسين رفع الحسين يديه، فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبةً مني إليك، عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة. قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن عاصم، قال: حدثني الضحاك المشرقي، قال: لما أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حتى مر على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلا حطبًا تلتهب النار فيه، فرجع راجعًا، فنادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة! فقال الحسين: من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! فقالوا: نعم، أصلحك الله! هو هو، فقال: يابن راعية المعزى، أنت أولى بها صليًا؛ فقال له مسلم بن عوسجة: يابن رسول الله، جعلت فداك! ألا أرميه بسهم! فإنه قد أمكنني، وليس يسقط مني سهم، فالفاسق من أعظم الجبارين؛ فقال له الحسين: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم، وكان مع الحسين فرس له يدعى حقًا حمل عليه ابنه علي بن الحسين؛ قال: فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها، ثم نادى بأعلى صوته دعاءً يسمع جل الناس: أيها الناس؛ اسمعوا قولي، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم " فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إلي ولا تنظرون "؛ " إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ". قال: فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليًا ابنه، وقال لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن؛ قال: فلما ذهبا ليسكتاهن قال: لا يبعد ابن عباس؛ قال: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو أهله، وصلى على محمد صلى الله عليه وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره. قال: فوالله ما سمعت متكلمًا قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه؛ ثم قال: أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا؛ هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم ﷺ وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه! أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي! أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لي ولأخي: " وهذان سيدا شببا أهل الجنة "! فإن صدقتموني بما أقول - وهو الحق - فوالله ما تعمدت كذبًا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضربه من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم؛ سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك؛ يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ﷺ لي ولأخي. أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي! فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرفٍ إن كان يدري مايقول! فقال له حبيب بن مظاهر: والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفًا، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول؛ قد طبع الله على قلبك؛ ثم قال لهم الحسين: فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثرًا ما أني ابن بنت نبيكم! فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة. أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ قال: فأخذوا لا يكلمونه؛ قال: فنادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل! قالوا له: لم نفعل؛ فقال: سبحان الله! بلى والله، لقد فعلتم؛ ثم قال: أيها الناس، إذ كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمني من الأرض؛ قال: فقال له قيس بن الأشعث: أو لا تنزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؛ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب؛ قال: ثم إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه. عبيد. عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب؛ قال: ثم إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه. قال أبو مخنف: فحدثني علي بن حنظلة بن أسعد الشامي، عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين حين قتل يقال له كثير بن عبد الله الشعبي؛ قال: لما زحفنا قبل الحسين خرج إلينا زهير بن قين على فرس له ذنوب، شاكٍ في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار! إن حقًا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهلٌ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ﷺ لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانىء بن عروة وأشباهه؛ قال: فسبوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلمًا؛ فقال لهم: عباد الله، إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم؛ فخلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين؛ قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اسكت أسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال له زهير: يابن البوال على عقبيه، ما إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم؛ فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة؛ قال: أفبالموت تخوفني! فوالله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم؛ قال: ثم أقبل على الناس رافعًا صوته، فقال: عباد الله، لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمد ﷺ قومًا هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم؛ قال: فناداه رجل فقال له: إن أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ! قال أبو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، قال: ثم إن الحر بن يزيد لما زحف عمر بن سعد قال له: أصلحك الله! مقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالًا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي؛ قال: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضًا؟ قال عمر بن سعد: أما والله لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك؛ قال: فأقبل حتى وقف من الناس موقفًا، ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس، فقال: يا قرة، هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا؛ قال: إما تريد أن تسقيه؟ قال: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك، فيخاف أن أرفعه عليه؛ فقلت له: لم أسقه، وأنا منطلق فساقيه؛ قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه؛ قال: فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين؛ قال: فأخذ يدنو من حسين قليلًا قليلًا، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر ابن أوس: ما تريد يابن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يابن يزيد، والله إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة رجلًا ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك! قال: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئًا ولو قطعت وحرقت؛ ثم ضرب فرسه فلحق بحسين رضي الله عنه، فقال له: جعلني الله فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدًا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة. فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم، وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، ووالله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك؛ وإني قد جئتك تائبًا مما كان مني إلى ربي، ومواسيًا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك، ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحر بن يزيد؛ قال: أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والآخرة؛ انزل؛ قال: أنا لك فارسًا خيرٌ مني راجلًا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري. قال الحسين: فاصنع يرحمك الله ما بدا لك. فاستقدم أمام أصحابه ثم قال: أيها القوم، ألا تقبلون من حسين خصلةً من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ قالوا: هذا الأمير عمر بن سعد فكلمه، فكلمه بمثل ما كلمه به قبل، وبمثل ما كلم به أصحابه؛ قال عمر: قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلًا فعلت، فقال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعًا، ولا يدفع ضرًا، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هم أولاء قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدًا في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه. فحملت عليه رجالة لهم ترمية بالنبل؛ فأقبل حتى وقف أمام الحسين. قال أبو مخنف، عن الصقعب بن زهير وسليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: وزحف عمر بن سعد نحوهم، ثم نادى: يا ذويد، أدن رايتك؛ قال: فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى فقال: اشهدوا أني أول من رمى. قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب، قال: كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير، من بني عليم، كان قد نزل الكوفة، واتخذ عند بئر الجعد من همدان دارًا، وكانت معه امرأةٌ له من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد، فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين، قال: فسأل عنهم، فقيل له: يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله ﷺ؛ فقال: والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصًا، وإني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابًا عند الله من ثوابه إياي في جهاد المشركين؛ فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يريد، فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك؛ قال: فخرج بها ليلًا حتى أتى حسينًا، فأقام معه، فلما دنا منه عمر بن سعد ورمى بسهم ارتمى الناس، فلما ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم، قال: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير، فقال لهما حسين: اجلسا؛ فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال: أبا عبد الله، رحمك الله! ائذن لي فلأخرج إليهما؛ فرأى حسين رجلًا آدم طويلًا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين، فقال حسين: إني لأحسبه للأقران قتالًا، اخرج إن شئت؛ قال: فخرج إليهما، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير، ويسار مستنتلٌ أمام سالم، فقال له الكلبي: يابن الزاية، وبك رغبةٌ عن مبارزة أحد من الناس، وما يخرج إليك أحد من الناس إلا وهو خير منك؛ ثم شد عليه فضربه بسيفه حتى برد، فإنه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شد عليه سالم، فصاح به: قد رهقك العبد؛ قال: فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة، فاتقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفه اليسرى، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله، وأقبل الكلبي مرتجزًا وهو يقول، وقد قتلهما جميعًا: إن تنكروني فأنا ابن كلب ** حسبي بيتي في عليمٍ حسبي إني امرؤٌ ذو مرة وعصب ** ولست بالخوار عند النكب إني زعيمٌ لك أم وهب ** بالطعن فيهم مقدمًا والضرب ضرب غلام مؤمنٍ بالرب فأخذت أم وهب امرأته عمودًا، ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية محمد، فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثم قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها حسين، فقال: جزيتم من أهل بيت خيرًا، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال؛ فانصرفت إليهن. قال: وحمل عمرو بن الحجاج وهو على ميمنة الناس في الميمنة، فلما أن دنا من حسين جثوا له على الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل، فصرعوا منهم رجالًا، وجرحوا منهم آخرين. قال أبو مخنف: فحدثني حسين أبو جعفر، قال: ثم إن رجلًا من بني تميم - يقال له عبد الله بن حوزة - جاء حتى وقف أمام الحسين، فقال: يا حسين، يا حسين! فقال حسين: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار؛ قال: كلا، إني أقدم على رب رحيمٍ، وشفيع مطاع، من هذا؟ قال له أصحابه: هذا ابن حوزة؛ قال: رب حزه إلى النار؛ قال: فاضطرب به فرسه في جدول فوقع فيه، وتعلقت رجله بالركاب، ووقع رأسه في الأرض، ونفر الفرس، فأخذ يمر به فيضرب برأسه كل حجرٍ وكل شجرة حتى مات. قال أبو مخنف: وأما سويد بن حية؛ فزعم لي أن عبد الله بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى في الركاب، وارتفعت اليمنى فطارت، وعدا به فرسه يضرب رأسه كل حجر وأصل شجرة حتى مات. قال أبو مخنف عن عطاء بن السائب، عن عبد الجبار بن وائل الحضرمي، عن أخيه مسروق بن وائل، قال: كنت في أوائل الخيل ممن سار إلى الحسين، فقلت: أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين، فأصيب به منزلةً عند عبيد الله بن زياد؛ قال: فلما انتهينا إلى حسين تقدم رجلٌ من القوم يقال له ابن حوزة، فقال: أفيكم حسين؟ قال: فسكت حسينٌ؛ فقالها ثانية، فأسكت حتى إذا كانت الثالثة قال: قولوا له: نعم، هذا حسين، فما حاجتك؟ قال: يا حسين، أبشر بالنار؛ قال: كذبت، بل أقدم على رب غفور وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قال: ابن حوزة؛ قال؛ فرفع الحسين يديه حتى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثم قال: اللهم حزه إلى النار؛ قال: فغضب ابن حوزة، فذهب ليقحم إليه الفرس وبينه وبينه نهر؛ قال: فعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس فسقط عنها؛ قال: فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلقًا بالركاب. قال: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه؛ قال: فسألته، فقال: لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئًا لا أقاتلهم أبدًا؛ قال: ونشب القتال. قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس - وكان قد شهد مقتل الحسين - قال: وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس، فقال: يا برير ابن حضير، كيف ترى الله صنع بك! قال: صنع الله والله بي خيرًا، وصنع الله بك شرًا؛ قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذابًا، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفًا، وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟ فقال له برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي؛ فقال له يزيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين؛ فقال له برير بن حضير: هل لك فلأ باهلك، ولندع الله أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل، ثم اخرج فلأبارزك؛ قال: فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل؛ ثم برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربةً خفيفة لم تضره شيئًا، وضربه برير بن حضير ضربةً قدت المغفر، وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق، وإن سيف ابن حضير لثابت في رأسه، فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه، وحمل عليه رضى بن منقذ العبدي فاعتنق بريرًا، فاعتركا ساعةً. ثم إن بريرًا قعد على صدره فقال رضي: أين أهل المصاع والدفاع؟ قال: فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلت: إن هذا برير بن حضير القارىء الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد؛ فحمل عليه بالرمح حتى وضعه في ظهره، فلما وجد مس الرمح برك عليه فعض بوجهه، وقطع طرف أنفه، فطعنه كعب ابن جابر حتى ألقاه عنه، وقد غيب السنان في ظهره، ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتى قتله؛ قال عفيف: كأني أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه، ويقول: أنعمت علي يا أخا الأزد نعمةً لن أنساها أبدًا؛ قال: فقلت: أنت رأيت هذا؟ قال: نعم، رأي عيني وسمع أذني. فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته، أو أخته النوار بنت جابر: أعنت على ابن فاطمة، وقتلت سيد القراء؛ لقد أتيت عظيمًا من الأمر، والله لا أكلمك من رأسي كلمةً أبدًا. وقال كعب بن جابر: سلي تخبري عني وأنت ذميمةٌ ** غداة حسينٍ والرماح شوارع ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل ** علي غداة الروع ما أنا صانع معي يزنيٌّ لم تخنه كعوبه ** وأبيض مخشوب الغرارين قاطع فجردته في عصبةٍ ليس دينهم ** بديني وإني بابن حربٍ لقانع ولم تر عيني مثلهم في زمانهم ** ولا قبلهم في الناس إذ أنا يافع أشد قراعًا بالسيوف لدى الوغى ** ألا كل من يحمي الذمار مقارع وقد صبروا للطعن والضرب حسرًا ** وقد نازلوا لو أن ذلك نافع فأبلغ عبيد الله إما لقيته ** بأني مطيعٌ للخليفة سامع قتلت بريرًا ثم حملت نعمةً ** أبا منقذٍ لما دعا: من يماصع؟ قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعته في إمارة مصعب بن الزبير؛ وهو يقول: يا رب إنا قد وفينا، فلا تجعلنا يا رب كمن قد غدر؛ فقال له أبي: صدق، ولقد وفى وكرم، وكسبت لنفسك شرًا؛ قال: كلا، إني لم أكسب لنفسي شرًا، ولكني كسبت لها خيرًا. قال: وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد على كعب بن جابر جواب قوله، فقال: لو شاء ربي ما شهدت قتالهم ** ولا جعل النعماء عندي ابن جابر لقد كان ذاك اليوم عارًا وسبةً ** يعيره الأبناء بعد المعاشر فيا ليت أني كنت من قبل قتله ** ويوم حسينٍ كنت في رمس قابر قال: وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين وهو يقول: قد علمت كتيبة الأنصار ** أني سأحمي حوزة الذمار ضرب غلامٍ غير نكسٍ شاري ** دون حسينٍ مهجتي وداري قال أبو مخنف: عن ثابت بن هبيرة، فقتل عمرو بن قرظة بن كعب، وكان مع الحسين، وكان علي أخوه مع عمر بن سعد، فنادى علي بن قريظة: يا حسين، يا كذاب ابن الكذاب، أضللت أخي وغررته حتى قتلته. قال: إن الله لم يضل أخاك، ولكنه هدى أخاك وأضلك؛ قال: قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك؛ فحمل عليه، فاعترضه نافع بن هلال المرادي، فطعنه فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه، فدووي بعد فبرأ. قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي أن الحر بن يزيد لما لحق بحسين قال رجل من بني تميم من بني شقرة وهم بنو الحارث بن تميم، يقال له يزيد بن سفيان: أما والله لو أني رأيت الحر بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان؛ قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدمًا ويتمثل قول عنترة: ما زلت أرميهم بثغرة نحره ** ولبانه حتى تسربل بالدم قال: وإن فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبه، وإن دماءه لتسيل، فقال الحصين بن تميم - وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين، وكان مع عمر بن سعد، فولاه عمر مع الشرطة المجففة - ليزيد بن سفيان: هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى؛ قال: نعم فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة؟ قال: نعم قد شئت، فبرز له؛ قال: فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله لأبرز له؛ فكأنما كانت نفسه في يده، فما لبثه الحر حين خرج إليه أن قتله. قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن هانىء بن عروة، أن نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول: أنا الجملي، أنا على دين علي. قال: فخرج إليه رجل يقال له مزاحم بن حريث، فقال: أنا على دين عثمان، فقال له: أنت على دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله، فصاح عمرو ابن الحجاج بالناس: يا حمقى، أتدرون من تقاتلون! فرسان المصر؛ قومًا مستميتين، لا يبرزن لهم منكم أحد، فإنهم قليل، وقلما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم؛ فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجلٌ منكم رجلًا منهم. قال أبو مخنف: حدثني الحسين بن عقبة المرادي، قال: الزبيدي: إنه سمع عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين يقول: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام، فقال له الحسين: يا عمرو بن الحجاج، أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه؟ أما والله لتعلمن لو قد قبضت أرواحكم، ومتم على أعمالكم، أينا مرق من الدين، ومن هو أولى بصلي النار! قال: ثم إن عمرو بن الحجاج حمل على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعةً؛ فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين، ثم انصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم به صريع، فمشى إليه الحسين فإذا به رمقٌن فقال: رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة، " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا ". ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عز علي مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة، فقال له مسلم قولًا ضعيفًا: بشرك الله بخير! فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك لاحقٌ بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهلٌ له في القرابة والدين؛ قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله - وأهوى بيده إلى الحسين - أن تموت دونه، قال: أفعل ورب الكعبة؛ قال: فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم، وصاحت جاريةٌ له فقالت: يابن عوسجتاه! يا سيداه! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي؛ فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت له لرب موقفٍ له قد رأيته في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سلق آذربيجان قتل ستةً من المشركين قبل تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون! قال: وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي. قال: وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة فثبتوا له، فطاعنوه وأصحابه، وحمل على حسين وأصحابه من كل جانب، فقتل الكلبي وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين، وقاتل قتالًا شديدًا، فحمل عليه هانىء بن ثبيت الحضرمي وبكير ابن حي التيمي. من تيم الله بن ثعلبة، فقتلاه، وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين، وقاتلهم أصحاب الحسين قتالًا شديدًا، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسًا، وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته، فلما رأى ذلك عزرة بن قيس - وهو على خيل أهل الكوفة - أن خيله تنكشف من كل جانب، بعث إلى عمر بن سعد عبد الرحمن ابن حصن، فقال: أما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدة اليسيرة! ابعث إليهم الرجال والرماة؛ فقال لشبث بن ربعي: ألا تقدم إليهم! فقال: سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة! لم تجد من تندب لهذا ويجزىء عنك غيري! قال: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله. قال: وقال أبو زهير العبسي: فأنا سمعته في إمارة مصعب يقول: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرًا أبدًا، ولا يسددهم لرشد، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية! ضلال يا لك من ضلال! قال: ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجالةً كلهم. قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله عقرت بالحر بن يزيد فرسه، حشأته سهمًا، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحر كأنه ليث والسيف في يده وهو يقول: إن عقروا بي فأنا ابن الحر ** أشجع من ذي لبدٍ هزبر قال: فما رأيت أحدًا قط يفري فريه؛ قال: فقال له أشياخٌ من الحي: أنت قتلته؟ قال: لا والله ما أنا قتلته، ولكن قتله غيري، وما أحب أني قتلته، فقال له أبو الوداك: ولم؟ قال: إنه كان زعموا من الصالحين، فوالله لئن كان ذلك إثمًا لأن ألقى الله بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن ألقاه بإثم قتل أحد منهم؛ فقال له أبو الوداك: ما أراك إلا ستلقى الله بإثم قتلهم أجمعين؛ أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا، ورميت آخر، ووقفت موقفًا، وكررت عليهم، وحرضت أصحابك، وكثرت أصحابك، وحمل عليك فكرهت أن تفر، وفعل آخر من أصحابك كفعلك، وآخر وآخر، كان هذا وأصحابه يقتلون! أنتم شركاء كلكم في دمائهم؛ فقال له: يا أبا الوداك، إنك لتقنطنا من رحمة الله، إن كنت ولى حسابنا يوم القيامة فلا غفر الله لك إن غفرت لنا! قال: هو ما أقول لك؛ قال: وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشد قتال خلقه الله، وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلا من وجهٍ واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض. قال: فلما رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالًا يقوضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم؛ قال: فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون على الرجل وهو يقوض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه، فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال: أحرقوها بالنار، ولا تدخلوا بيتًا ولا تقوضوه، فجاءوا بالنار، فأخذوا يحرقون، فقال حسين: دعوهم فليحرقوها، فإنهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها، وكان ذلك كذلك، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد. قال: وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئًا لك الجنة! فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود؛ فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها؛ قال: وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله؛ قال: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط؛ قال: وصاح به الحسين: يابن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي، حرقك الله بالنار! قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان الله! إن هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين. تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء! والله إن في قتلك الرجال لما ترضى به أميرك؛ قال: فقال: من أنت؟ قال: قلت: لا أخبرك من أنا، قال: وخشيت والله أن لو عرفني أن يضرني عند السلطان؛ قال: فجاءه رجل كان أطوع له مني؛ شبث بن ربعي، فقال: ما رأيت مقالًا أسوأ من قولك، ولا موقفًا أقبح من موقفك، أمرعبًا للنساء صرت! قال: فأشهد أنه استحيا، فذهب لينصرف. وحمل عليه زهير ابن القين في رجال من أصحابه عشرة، فشد على شمر بن ذي الجوشن وأصحابه، فكشفهم عن البيوت حتى ارتفعوا عنها، فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه، فكان من أصحاب شمر، وتعطف الناس عليهم فكثروهم، فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين قد قتل، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبين فيهم، وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم؛ قال: فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين: يا أبا عبد الله؛ نفسي لك الفداء! إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها؛ قال: فرفع الحسين رأسه ثم قال: ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين! نعم، هذا أول وقتها؛ ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي؛ فقال لهم الحصين بن تميم: إنها لا تقبل؛ فقال له حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت! الصلاة من آل رسول الله ﷺ لا تقبل وتقبل منك يا حمار! قال: فحمل عليهم حصين بن تميم، وخرج إليه حبيب بن مظاهر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشب ووقع عنه، وحمله أصحابه فاستنقذوه، وأخذ حبيب يقول: أقسم لو كنا لكم أعدادا ** أو شطركم وليتم أكتادا يا شر قوم حسبًا وآدا قال: وجعل يقول يومئذ: أنا حبيب وأبي مظاهر ** فارس هيجاء وحرب تسعر أنتم أعد عدة وأكثر ** ونحن أوفى منكم وأصبر ونحن أعلى حجةً وأظهر ** حقًا وأتقى منكم وأعذر وقاتل قتالًا شديدًا، فحمل عليه رجلٌ من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله - وكان يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان - وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال له الحصين: إني لشريكك في قتله، فقال الآخر: والله ما قتله غيري؛ فقال الحصين: اعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله؛ ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه. قال: فأبى عليه، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه، ثم دفعه بعد ذلك إليه، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر فبصر به ابنه القاسم بن حبيب، وهو يومئذ قد راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، كلما دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بني تتبعني! قال: لا شيء، قال: بلى، يا بني أخبرني، قال له: إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي، أفتعطينيه حتى أدفنه؟ قال: يا بني، لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثوابًا حسنًا؛ قال له الغلام: لكن الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ الثواب؛ أما والله لقد قتلت خيرًا منك، وبكى. فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همةٌ إلا اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرةً فيقتله بأبيه، فلما كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرته، فدخل عليه وهو قاتلٌ نصف النهار فضربه بسيفه حتى برد. قال أبو مخنف: حدثني محمد بن قيس، قال: لما قتل حبيب بن مظاهر هد ذلك حسينًا وقال عند ذلك: أحتسب نفسي وحماة أصحابي، قال: فأخذ الحر يرتجز ويقول: آليت لا أقتل حتى أقتلا ** ولن أصاب اليوم إلا مقبلا أضربهم بالسيف ضربًا مقصلا ** لاناكلًا عنهم ولامهللا وأخذ يقول أيضًا: أضرب في أعراضهم بالسيف ** عن خير من حل منىً والخيف فقاتل هو وزهير بن القين قتالًا شديدًا، فكان إذا شد أحدهما؛ فإن استلحم شد الآخر حتى يخلصه، ففعلا ذلك ساعة. ثم إن رجالة شدت على الحر بن يزيد فقتل، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوًا له، ثم صلوا الظهر، صلى بهم الحسين صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم، ووصل إلى الحسين، فاستقدم الحنفي أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يمينًا وشمالًا قائمًا بين يديه، فما زال يرمي حتى سقط. وقاتل زهير بن القين قتالًا شديدًا، وأخذ يقول: أنا زهير وأنا ابن القين ** أذودهم بالسيف عن حسين قال: وأخذ يضرب على منكب حسين ويقول: أقدم هديت هاديًا مهديا ** فاليوم تلقى جدك النبيا وحسنًا والمرتضى عليا ** وذا الجناحين الفتى الكميا وأسد الله الشهيد الحيا قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه، قال: وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله، فجعل يرمي بها مسومةً وهو يقول: أنا الجملي، أنا على دين علي. فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح؛ قال: فضرب حتى كسرت عضداه وأخذ أسيرًا؛ قال: فأخذه شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحاب له يسوقون نافعًا حتى أتى به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك! قال: إن ربي يعلم ما أردت؛ قال: والدماء تسيل على لحيته وهو يقول: والله لقد قتلت منكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعدٌ ما أسرتموني؛ فقال له شمر: اقتله أصلحك الله! قال: أنت جئت به، فإن شئت فاقتله، قال: فانتضى شمر سيفه، فقال له نافع: أما والله أن لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه؛ فقتله. قال: ثم أقبل شمر يحمل عليهم وهو يقول: خلوا عداة الله خلوا عن شمر ** يضربهم بسيفه ولا يفر وهو لكم صابٌ وسم ومقر قال: فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كشروا، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينًا ولا أنفسهم، تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان، فقالا: يا أبا عبد الله، حازنا العدو إليك، فأحببنا أن نقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك، قال: مرحبًا بكما! ادنوا مني، فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريبًا منه، وأحدهما يقول: قد علمت حقًا بنو غفار ** وخندفٌ بعد بني نزار لنضربن معشر الفجار ** بكل عضبٍ صارمٍ بتار يا قوم ذودوا عن بني الأحرار ** بالمشرفي والقنا الخطار قال: وجاء الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عم، وأخوان لأم، فأتيا حسينًا فدنوا منه وهما يبكيان، فقال: أي ابني أخي، ما يبكيكما؟ فوالله إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين، قالا: جعلنا الله فداك! لا والله ما على أنفسنا نبكي، ولكنا نبكي عليك، نراك قد أحيط بك، ولا نقدر على أن نمنعك؛ فقال: جزاكما الله يا بني أخي بوحدكما من ذلك ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين؛ قال: وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حسين، فأخذ يندي: " يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، مثل دأب قوم نوحٍ وعادٍ وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلمًا للعباد، ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد، يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصمٍ ومن يضلل الله فما له من هاد " يا قوم تقتلوا حسنًا فيسحتكم الله بعذاب " وقد خاب من افترى " فقال له حسين: يابن أسعد، رحمك الله، إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين! قال: صدقت، جعلت فداك! أنت أفقه مني وأحق بذلك، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فقال: رح إلى خيرٍ من الدنيا وما فيها، وغلى ملكٍ لا يبلى، فقال: السلام عليك أبا عبد الله، رضي الله عنك وعلى أهل بيتك، وعرف بيننا وبينك في جنته، فقال: آمين آمين؛ فاستقدم فقاتل حتى قتل. قال: ثم استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إلى حسين ويقولان: السلام عليك يابن رسول الله، فقال: وعليكما السلام ورحمة الله؛ فقاتلا حتى قتلا؛ قال: وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر، فقال: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟ قال: ما أصنع! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله ﷺ حتى أقتل؛ قال: ذلك الظن بك، أما لا فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتى أحتسبك أنا، فإنه لو كان معي الساعة أحدٌ أنا أولى به مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه، فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه، فإنه لا عمل بعد اليوم، وإنما هو الحساب؛ قال: فتقدم فسلم على الحسين، ثم مضى فقاتل حتى قتل. ثم قال عابس بن أبي شبيب: يا أبا عبد الله، أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريبٌ ولا بعيدٌ أعز علي ولا أحب إلي منك؛ ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته؛ السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد الله أني على هديك وهدي أبيك؛ ثم مشى بالسيف مصلتًا نحوهم وبه ضربة على جبينه. قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن رجل من بني عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم، قال: لما رايته مقبلًا عرفته وقد شاهدته في المغازي، وكان أشجع الناس، فقلت: أيها الناس، هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبي شبيب؛ لا يخرجن إليه أحد منكم، فأخذ ينادي: ألا رجلٌ لرجل! فقال عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة؛ قال: فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، فوالله لرأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس؛ ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب، فقتل؛ قال: فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة؛ هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته، فأتوا عمر بن سعد فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله سنان واحد، ففرق بينهم بهذا القول. قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا، وقد خلص إليه وإلى أهل بيته، ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي وبشير ابن عمرو الحضرمي، قلت له: يابن رسول الله، قد علمت ما كان بيني وبينك؛ قلت لك: أقاتل عنك ما رأيت مقاتلًا، فإذا لم أر مقاتلًا فأنا في حل من الانصراف؛ فقلت لي: نعم؛ قال: فقال: صدقت، وكيف لك بالنجاء! إن قدرت على ذلك فأنت في حل؛ قال: فأقبلت إلى فرسي وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطًا لأصحابنا بين البيوت، وأقبلت أقاتل معهم راجلًا، فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين، وقطعت يد آخر، وقال لي الحسين يومئذ مرارًا: لا تشلل، لا يقطع الله يدك، جزاك الله خيرًا عن أهل بيت نبيك ﷺ! فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط، ثم استويت على متنها، ثم ضربتها حتى إذا قامت على السنابك رميت بها عرض القوم، فأفرجوا لي، واتبعني منهم خمسة عشر رجلًا حتى انتهيت إلى شفية؛ قرية قريبة من شاطىء الفرات، فلما لحقوني عطفت عليهم، فعرفني كثير بن عبد الله الشعبي وأيوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عبد الله الصائدي، فقالوا: هذا الضحاك بن عبد الله المشرقي، هذا ابن عمنا، ننشدكم الله لما كففتم عنه! فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم: بلى والله لنجيبن إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبوا من الكف عن صاحبهم؛ قال: فلما تابع التميميون أصحابي كف الآخرون؛ قال: فنجاني الله. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي أن يزيد بن زياد؛ وهو أبو الشعثاء الكندي من بني بهدلة جثا على ركبتيه بين يدي الحسين، فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكان راميًا، فكان كلما رمى قال: أنا ابن بهدله، فرسان العرجله؛ ويقول حسين: اللهم سدد رميته، واجعل ثوابه الجنة؛ فلما رمى بها قام فقال: ما سقط منها إلا خمسة أسهم، ولقد تبين لي أني قد قتلت خمسة نفر، وكان في أول من قتل، وكان رجزه يومئذ: أنا يزيد وأبي مهاصر ** أشجع من ليثٍ بغيلٍ خادر يا رب إني للحسين ناصر ** ولابن سعدٍ تاركٌ وهاجر وكان يزيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عمر بن سعد إلى الحسين، فلما ردوا الشروط على الحسين مال إليه فقاتل معه حتى قتل، فأما الصيداوي عمر بن خالد، وجابر بن الحارث السلماني، وسعد مولى عمر بن خالد، ومجمع بن عبد الله العائذي، فإنهم قاتلوا في أول القتال، فشدوا مقدمين بأسيافهم على الناس، فلما وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد، فحمل عليهم العباس بن علي فاستنقذهم، فجاءوا قد جرحوا، فلما دنا منهم عدوهم شدوا بأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتى قتلوا في مكان واحد. قال أبو مخنف: حدثني زهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي، قال: كان آخر من بقي مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي، قال: وكان أول قتيل من بني أبي طالب يومئذ عليٌّ الأكبر بن الحسين بن علي، وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وذلك أنه أخذ يشد على الناس وهو يقول: أنا علي بن حسين بن علي ** نحن ورب البيت أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدعي قال: ففعل ذلك مرارًا، فبصر به مرة بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي، فقال: علي أثام العرب إن مر بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه؛ فمر يشد على الناس بسيفه، فاعترضه مرة بن منقذ، فطعنه فصرع، واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: سماع أذني يومئذ من الحسين يقول: قتل الله قومًا قتلوك يا بني! ما أجرأهم على الرحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء. قال: وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعةً كأنها الشمس الطالعة تنادي: يا أخياه! ويابن أخياه! قال: فسألت عليها، فقيل: هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله ﷺ، فجاءت حتى أكبت عليه، فجاءها الحسين فأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط، وأقبل الحسين إلى ابنه، وأقبل فتيانه إليه، فقال: احملوا أخاكم، فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه. قال: ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته، فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه، ثم انتحى له بسهم آخر ففلق قلبه، فاعتورهم الناس من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائي ثم النبهاني على عون بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب فقتله، وحمل عامر بن نهشل التيمي على محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقتله؛ قال: وشد عثمان بن خالد ابن أسير الجهني، وبشر بن سوط الهمداني ثم القابضي على عبد الرحمن ابن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عبد الله بن عزرة الخثعمي جعفر ابن عقيل بن أبي طالب فقتله. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر، في يده السيف، عليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى، فقال لي عمرو ابن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه؛ فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه، فقال: يا عماه! قال: فجلى الحسين كما يجلي الصقر، ثم شد شدة ليث غضب، فضرب عمرًا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فأطنها من لدن المرفق، فصاح، ثم تنحى عنه، وحملت خيلٌ لأهل الكوفة ليستنقذوا عمرًا من حسين، فاستقبلت عمرًا بصدورها، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه، فوطئته حتى مات، وانجلت الغبرة، فإذا أنا بالحسين قائمٌ على رأس الغلام، والغلام يفحص برجليه؛ وحسين يقول: بعدًا لقوم قتلوك؛ ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك! ثم قال: عز الله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك! صوتٌ والله كثر واتره، وقل ناصره. ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع حسين صدره على صدره؛ قال: فقلت في نفسي: ما يصنع به! فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين وقتلى قد قتلت حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال: ومكث الحسين طويلًا من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه، وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عليه؛ قال: وإن رجلًا من كندة يقالله مالك بن النسير من بني بداء، أتاه فضربه على رأسه بالسيف، وعليه برنس له، فقطع البرنس، وأصاب السيف رأسه، فأدمى رأسه، فامتلأ البرنس دمًا، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين! قال: فألقى ذلك البرنس، ثم دعا بقلنسوة فلبسها، واعتم، وقد أعيا وبلد، وجاء الكندي حتى أخذ البرنس - وكان من خز - فلما قدم به بعد ذلك على امرأته أم عبد الله ابنة الحر أخت حسين بن الحر البدي، أقبل يغسل البرنس من الدم، فقالت له امرأته: أسلب ابن بنت رسول الله ﷺ تدخل بيتي! أخرجه عني؛ فذكر أصحابه أنه لم يزل فقيرًا بشر حتى مات. قال: ولما قعد الحسين أتى بصبي له فأجلسه في حجره زعموا أنه عبد الله بن الحسين. قال أبو مخنف: قال عقبة بن بشير الأسدي: قال لي أبو جعفر محمد ابن علي بن الحسين: إن لنا فيكم يا بني أسد دمًا؛ قال: قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر! وما ذلك؟ قال: أتى الحسين بصبي له، فهو في حجره، إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهمٍ فذبحه، فتلقى الحسين دمه، فلما ملأ كفيه صبه في الأرض ثم قال: رب إن تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين؛ قال: ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله، فلذلك يقول الشاعر؛ وهو ابن أبي عقب: وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا ** وفي أسدٍ أخرى تعد وتذكر قال: وزعموا أن العباس بن علي قال لإخوته من أمه: عبد الله، وجعفر وعثمان: يا بني أمي، تقدموا حتى أرثكم، فإنه لا ولد لكم، ففعلوا، فقتلوا. وشد هانىء بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي بن أبي طالب فقتله، ثم شد على جعفر بن علي فقتله وجاء برأسه، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي بن أبي طالب بسهم، ثم شد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله، وجاء برأسه، ورمى رجلٌ من بني أبان بن دارم محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه. قال هشام: حدثني أبو الهذيل - رجلٌ من السكون - عن هانىء بن ثبيت الحضرمي، قال: رأيته جالسًا في مجلس الحضرميين في زمان خالد بن عبد الله وهو شيخ كبير؛ قال: فسمعته وهو يقول: كنت ممن شهد قتل الحسين، قال: فوالله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس، وقد جالت الخيل وتصعصعت، إذ خرج غلامٌ من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، عليه إزار وقميص، وهو مذعور، يتلفت يمينًا وشمالًا، فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض، حتى إذا دنا منه مال عن فرسه، ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف. قال هشام: حدثني عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قال: عطش الحسين حتى اشتد عليه العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه، ويرمي به إلى السماء، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يديه فقال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تذر على الأرض منهم أحدًا. قال هشام، عن أبيه محمد بن السائب، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: حدثني من شهد الحسين في عسكره أن حسينًا حين غلب على عسكره ركب المسناة يريد الفرات، قال: فقال رجل من بني أبان بن دارم: ويلكم! حولوا بينه وبين الماء لا تتام إليه شيعته؛ قال: وضرب فرسه، وأتبعه الناس حتى حالوا بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهم أظمه، قال: وينتزع الأباني بسهم، فأثبته في حنك الحسين، قال: فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفيه فامتلأت دمًا، ثم قال الحسين: اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك؛ قال: فوالله إن مكث الرجل إلا يسيرًا حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى. قال القاسم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يبرد له فيه السكر وعساس فيها اللبن، وقلال فيها الماء، وإنه ليقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ، فيعطى القلة أو العس كان مرويًا أهل البيت فيشربه، فإذا نزعه من فيه اضطجع الهنيهة ثم يقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ؛ قال: فوالله ما لبث إلا يسيرًا حتى انقد بطنه انقداد بطن البعير. قال أبو مخنف في حديثه: ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفرٍ نحو من عشرة من رجالة أهل الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله، فقال الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحرارًا ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهالكم؛ فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يابن فاطمة؛ قال: وأقدم عليه بالرجالة، منهم أبو الجنوب - واسمه عبد الرحمن الجعفي - والقثعم بن عمرو بن يزيد الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، فجعل شمر ابن ذي الجوشن يحرضهم، فمر بأبي الجنوب وهو شاكٍ في السلاح فقال له: أقدم عليه؛ قال: وما يمنعك أن تقدم عليه أنت! فقال له شمر: ألي تقول ذا! قال: وأنت لي تقول ذا! فاستبا، فقال له أبو الجنوب - وكان شجاعًا: والله لهممت أن أخضخض السنان في عينك؛ قال: فانصرف عنه شمر وقال: والله لئن قدرت على أن أضرك لأضرنك قال: ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في الرجالة نحو الحسين؛ فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه. ثم إنهم أحاطوا به إحاطةً، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله، فأخذته أخته زينب ابنة علي لتحبسه، فقال لها الحسين: احبسيه، فأبى الغلام، وجاء يشتد إلى الحسين، فقام إلى جنبه؛ قال: وقد أهوى بحر بن كعب بن عبيد الله - من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة - إلى الحسين بالسيف، فقال الغلام: يابن الخبيثة، أتقتل عمي! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلا الجلدة، فإذا يده معلقة، فنادى الغلام: يا أمتاه! فأخذه الحسين فضمه إلى صدره، وقال: يابن أخي؛ اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين؛ برسول الله ﷺ وعلي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسن بن علي؛ رضي الله عليهم أجمعين. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: سمعت الحسين يومئذ وهو يقول: اللهم أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متعتهم إلى حينٍ ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددًا، ولا ترض عنهم الولاة أبدًا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا. قال: وضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه؛ قال: ولما بقي الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل محققة يلمع فيها البصر، يماني محقق، ففزره ونكثه لكيلا يسلبه، فقال له بعض أصحابه: لو لبست تحته تبانًا! قال: ذلك ثوب مذلة، ولا ينبغي لي أن ألبسه؛ قال: فلما قتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إياه فتركه مجردًا. قال أبو مخنف: فحدثني عمرو بن شعيب، عن محمد بن عبد الرحمن أن يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء تنضحان الماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود. قال أبو مخنف: عن الحجاج، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقي، وعتب على عبد الله بن عمار بعد ذلك مشهده قتل الحسين، فقال عبد الله بن عمار: إن لي عند بني هاشم ليدًا، قلنا له: وما يدك عندهم؟ قال: حملت على حسين بالرمح فانتهيت إليه، فوالله لو شئت لطعنته، ثم انصرفت عنه غير بعيد، وقلت: ما أصنع بأن أتولى قتله! يقتله غيري. قال: فشد عليه رجالة ممن عن يمينه وشماله، فحمل على من عن يمينه حتى ابذعروا، وعلى من شماله حتى ابذعروا، وعليه قميص له من خز وهو معتمٌّ؛ قال: فوالله ما رأيت مكسورًا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشًا، ولا أمضى جنانًا ولا أجرأ مقدمًا منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله؛ أن كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب؛ قال: فوالله إننه لكذلك إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته، وكأني أنظر إلى قرطها يجول بين أذنيها وعاتقها وهي تقول: ليت السماء تطابقت على الأرض! وقد دنا عمر بن سعد من حسين؛ فقالت: يا عمر بن سعد، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه! قال: فكأني أنظر إلى دموع عمر وهي تسيل على خديه ولحيته؛ قال: وصرف بوجهه عنها. قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم قال: كانت عليه جبة من خز، وكان معتمًا، وكان مخضوبًا بالوسمة، قال: وسمعته يقول قبل أن يقتل، وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية، ويفترص العورة، ويشد على الخيل، وهو يقول: أعلى قتلي تحاثون! أما والله لا تقتلون بعدي عبدًا من عباد الله اله أسخط عليكم لقتله مني؛ وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله أن لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم. قال: ولقد مكث طويلًا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء؛ قال: فنادى شمر في الناس: ويحكم؛ ماذا تنظرون بالرجل! اقتلوه ثكلتكم أمهاتم! قال: فحمل عليه من كل جانب، فضربت كفه اليسرى ضربةً، ضربها زرعة بن شريك التميمي، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا وهو ينوء ويكبو؛ قال: وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم قال لخولي بن يزيد الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل، فضعف فأرعد، فقال له سنان بن أنس: فت الله عضديك، وأبان يديك! فنزل إليه فذبحه واحتز رأسه، ثم دفع إلى خولي بن يزيد، وقد ضرب قبل ذلك بالسيوف. قال أبو مخنف، عن جعفر بن محمد بن علي، قال: وجد بالحسين رضي الله عنه حين قتل ثلاثٌ وثلاثون طعنة وأربعٌ وثلاثون ضربة؛ قال: وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحدٌ من الحسين إلا شد عليه مخافة أن يغلب على رأسه، حتى أخذ رأس الحسين فدفعه إلى خولي؛ قال: وسلب الحسين ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته - وكانت من خز، وكان يسمى بعد قيس قطيفة - وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال له الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم، فوقع بعد ذلك إلى أهل حبيب بن بديل؛ قال: ومال الناس على الورس والحلل والإبل وانتهبوها؛ قال: ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، فأن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها. قال أبو مخنف: حدثني زهير بن عبد الرحمن الخثعمي، أن سويد بن عمرو بن أبي المطاع كان صرع فأثخن، فوقع بين القتلى مثخنًا، فسمعهم يقولون: قتل الحسين، فوجد إفاقةً، فإذا معه سكين وقد أخذ سيفه، فقاتلهم بسكينه ساعةً، ثم إنه قتل، قتله عروة بن بطار التغلبي، وزيد بن رقاد الجنبي، وكان آخر قتيل. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال، انتهيت إلى علي بن الحسين بن علي الأصغر وهو منبسط على فراش له، وهو مريض، وإذا شمر بن ذي الجوشن في رجالة معه يقولون: ألا نقتل هذا؟ قال: فقلت: سبحان الله! أنقتل الصبيان! إنما هو صبي؛ قال: فما زال ذلك دأبي أدفع عنه كل من جاء حتى جاء عمر بن سعد، فقال: ألا لا يدخلن بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئًا فليرده عليهم. قال: فوالله ما رد أحد شيئًا؛ قال: فقال علي بن الحسين: جزيت من رجل خيرًا! فوالله لقد دفع الله عني بمقالتك شرًا؛ قال: فقال الناس لسنان بن أنس: قتلت حسين بن علي وابن فاطمة ابنة رسول الله ﷺ، قتلت أعظم العرب خطرًا؛ جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلًا؛ فأقبل على فرسه، وكان شجاعًا شاعارً، وكانت به لوثة، فأقبل حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته: أوقر ركابي فضةً وذهبا ** أنا قتلت الملك المحجبا قتلت خير الناس أمًا وأبا ** وخيرهم إذ ينسبون نسبا فقال عمر بن سعد: أشهد إنك لمجنون ما صححت قط، أدخلوه علي، فلما أدخل حذفه بالقضيب ثم قال: يا مجنون، أتتكلم بهذا الكلام! أما والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك؛ قال: وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان - وكان مولىً للرباب بنت امرىء القيس الكلبية، وهي أم سكينة بنت الحسين - فقال له: ما أنت؟ قال: أنا عبدٌ مملوك، فخلى سبيله، فلم ينج منهم أحد غيره، إلا أن المرقع بن ثمامة الأسدي كان قد نثر نبله وجثا على ركبتيه، فقاتل، فجاءه نفر من قومه، فقالوا له: أنت آمن، اخرج إلينا، فخرج إليهم، فلما قدم بهم عمر بن سعد على ابن زياد وأخبره خبره سيره إلى الزارة. قال: ثم إن عمر بن سعد نادى في أصحابه: من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة: منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي، وهو الذي سلب قميص الحسين - فبرص بعد - وأحبش بن مرثد بن علقمة ابن سلامة الحضرمي، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره، فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذلك بزمان أتاه سهم غرب؛ وهو واقف في قتال ففلق قلبه، فمات؛ قال: فقتل من أصحاب الحسين رضي الله عنه اثنان وسبعون رجلًا، ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم، وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلًا سوى الجرحى، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم؛ قال: وما هو إلا أن قتل الحسين، فسرح برأسه من يومه ذلك مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد، فأقبل به خولي فأراد القصر، فوجد باب القصر مغلقًا، فأتى منزله فوضعه تحت إجانة في منزله، وله امرأتان: امرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرمية. قال هشام: فحدثني أبي، عن النوار بنت مالك، قالت: أقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت إجانة في الدار، ثم دخل البيت، فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر؟ ما عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر، هذا راس الحسين معك في الدار؛ قالت: فقلت: ويلك - جاء الناس بالذهب والفضة وجئت برأس ابن رسول الله ﷺ! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبدًا؛ قالت: فقمت من فراشي، فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلست أنظر، قالت: فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيرًا بيضًا ترفرف حولها. قال: فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد، وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعلي بن الحسين مريضٌ. قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير العبسي، عن قرة بن قيس التميمي، قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن. قال: فاعترضتهن على فرس، فما رأيت منظرًا من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله لهن أحسن من مها يبرين. قال: فما نسيت من الأشياء لا أنس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعًا وهي تقول: يا محمداه، يا محمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا. قال: فأبكت والله كل عدو وصديق؛ قال: وقطف رءوس الباقين، فسرح باثنين وسبعين رأسًا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد الله بن زياد. قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وبعافيته، فاقبلت حتى أتيت أهله، فأعلمتهم ذلك، ثم أقبلت حتى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وأجد الوفد قد قدموا عليه؛ فأدخلهم، وأذن للناس، فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعةً، فلما رآه زيد بن أرقم لا ينجم عن نكته بالقضيب، قال له: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله ﷺ على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم انفضخ الشيخ يبكي؛ فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فوالله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك؛ قال: فنهض فخرج، فلما خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولًا لو سمعه ابن زياد لقتله؛ قال: فقلت: ما قال؟ قالوا؟ مر بنا وهو يقول: ملك عبدٌ عبدًا، فاتخذهم تلدًا؛ أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدًا لمن رضي بالذل! قال: فلما دخل برأس حسين وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيد الله بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها، وتنكرت، وحفت بها إماؤها، فلما دخلت جلست، فقال عبيد الله بن زياد: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه؛ فقال ذلك ثلاثًا، كل ذلك لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة؛ قال: فقال لها عبيد الله: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد ﷺ وطهرنا تطهيرًا، لا كما تقول أنت، إنما يتفضح الفاسق، ويكذب الفاجر؛ قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك! قالت: كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجون إليه، وتخاصمون عنده؛ قال: فغضب ابن زياد واستشاط؛ قال: فقال له عمرو ابن حريث: أصلح الله الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها! إنها لا تؤاخذ بقول، ولا تلام على خطل، فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك، والعصاة المردة من أهل بيتك؛ قال: فبكت ثم قالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت، فقال لها عبيد الله: هذه شجاعة، قد لعمري كان أبوك شاعرًا شجاعًا؛ قالت: ما للمرأة والشجاعة! إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكن نفثي ما أقول. قال أبو مخنف، عن المجالد بن سعيد: إن عبيد الله بن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين قال لشرطي: انظر هل أدرك ما يدرك الرجال؟ فكشط إزاره عنه، فقال: نعم، قال انطلقوا به فاضربوا عنقه، فقال له علي: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلًا يحافظ عليهن، فقال له ابن زياد: تعال أنت، فبعثه معهن. قال أبو مخنف: وأما سليمان بن أبي راشد، فحدثني عن حميد بن مسلم قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين فقال له: ما اسمك؟ قال: أنا علي بن الحسين، قال: أو لم يقتل الله علي بن الحسين! فسكت، فقال له ابن زياد: ما لك لا تتكلم! قال: قد كان لي أخ يقال له أيضًا علي، فقتله الناس، قال: إن الله قد قتله، قال: فسكت علي، فقال له: ما لك لا تتكلم! قال: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " " ما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله "، قال: أنت والله منهم، ويحك! انظروا هل أدرك؟ والله إني لأحسبه رجلًا؛ قال: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري، فقال: نعم قد أدرك؛ فقال: اقتله؛ فقال علي بن الحسين: من توكل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت به زينب عمته فقالت: يابن زياد، حسبك منا، أما رويت من دمائنا! وهل أبقيت منا أحدًا! قال: فاعتنقته فقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنًا إن قتلته لما قتلتني معه! قال: وناداه علي فقال: يابن زياد، إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلًا تقيًا يصحبهن بصحبة الإسلام؛ قال: فنظر إليها ساعة، ثم نظر إلى القوم فقال: عجبًا للرحم! والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه؛ دعوا الغلام، انطلق مع نسائك. قال حميد بن مسلم: لما دخل عبيد الله القصر ودخل الناس، نودي: الصلاة جامعة! فاجتمع الناس في المسجد الأعظم، فصعد المنبر ابن زياد فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب، الحسين بن علي وشيعته؛ فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حتى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الغامدي، ثم أحد بني والبة - وكان من شيعة علي كرم الله وجهه، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كان يوم صفين ضرب على رأسه ضربةً، وأخرى على حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف - قال: فلما سمع مقالة ابن زياد، قال: يابن مرجانة، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبك والذي ولاك وأبوه؛ يابن مرجانة، أتقتلون أبناء النبيين، وتكلمون بكلام الصديقين! فقال ابن زياد: علي به؛ قال: فوثبت عليه الجلاوزة فأخذوه؛ قال: فنادى بشعار الأزد: يا مبرور - قال: وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالس - فقال: ويح غيرك! أهلكت نفسك، وأهلكت قومك، قال: وحاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل؛ قال: فوثب إليه فتيةٌ من الأزد فانتزعوه فأتوا به أهله، فأرسل إليه من أتاه به، فقتله وأمر بصلبه في السبخة، فصلب هنالك. قال أبو مخنف: ثم إن عبيد الله بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة، فجعل يدار به في الكوفة، ثم دعا زحر بن قيس فسرح معه برأس الحسين ورءوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية، وكان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بها الشأم على يزيد بن معاوية. قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي؛ من حمير، قال: والله إنا لعند يزيد ابن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية، فقال له يزيد: ويلك! ما وراءك؟ وما عندك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم، فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال؛ فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، يهربون إلى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذًا كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب. قال: فدمعت عين يزيد، وقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين! ولم يصله بشيء. قال: ثم إن عبيد الله أمر بنساء الحسين وصبيانه فجهزن، وأمر بعلي ابن الحسين فغل بغل إلى عنقه، ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي، عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد، فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحدًا منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا، فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع محفز بن ثعلبة صوته، فقال: هذا محفز بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، قال: فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدت أم محفز شرٌّ وألأم. قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية، قال: لما وضعت الرءوس بين يدي يزيد - رأس الحسين وأهل بيته وأصحابه - قال يزيد: يفلقن هامًا من رجال أعزةٍ ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما أما والله يا حسين، لو أنا صاحبك ما قتلتك. قال أبو مخنف: حدثني أبو جعفر العبسي، عن أبي عمارة العبسي، قال: فقال يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم: لهامٌ بجنب الطف أدنى قرابةً ** من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل سمية أمسى نسلها عدد الحصى ** وبنت رسول الله ليس لها نسل قال: فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيى بن الحكم وقال: اسكت. قال: ولما جلس يزيد بن معاوية دعا أشراف أهل الشأم فأجلسهم حوله، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسينن ونسائه، فأدخلوا عليه والناس ينظرون، فقال يزيد لعلي: يا علي، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت! قال: فقال علي: " ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها "، فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه؛ قال: فمادرى خالد ما يرد عليه؛ فقال له يزيد: قل: " وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ "، ثم سكت عنه؛ قال: ثم دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئةً قبيحة، فقال: قبح الله ابن مرجانة! لو كانت بينه وبينكم رحم أو قرابةٌ ما فعل هذا بكم، ولا بعث بكم هكذا. قال أبو مخنف، عن الحارث بن كعب، عن فاطمة بنت علي، قالت: لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رق لنا، وأمر لنا بشيء، وألطفنا؛ قالت: ثم إن رجلًا من أهل الشأم أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه - يعنيني، وكنت جاريةً وضيئةً - فأرعدت وفرقت، وظننت أن ذلك جائز لهم، وأخذت بثياب أختي زينب؛ قالت: وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون، فقالت: كذبت والله ولؤمتذ ما ذلك لك وله، فغضب يزيد، فقال: كذبت والله، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت؛ قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا؛ قالت: فغضب يزيد واستطار، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك؛ فقالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك، قال: كذبت يا عدوة الله؛ قالت: أنت أميرٌ مسلط، تشتم ظالمًا، وتقهر بسلطانك؛ قالت: فوالله لكأنه استيحا؛ فسكت، ثم عاد الشامي فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية؛ قال: اعزب؛ وهب الله لك حتفًا قاضيًا! قالت: ثم قال يزيد بن معاوية: يا نعمان بن بشير، جهزهم بما يصلحهم، وابعث معهم رجلًا من أهل الشأم أمينًا صالحًا، وابعث معه خيلًا وأعوانًا فيسير بهم إلى المدينة، ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دارٍ على حدة، معهن ما يصلحهن، وأخوهن معهن علي بن الحسين، في الدار التي هن فيها. قال: فخرجن حتى دخلن دار يزيد فلم تبق من آل معاوية امرأةٌ إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، فأقاموا عليه المناحة ثلاثًا، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين إليه؛ قال: فدعاه ذات يوم، ودعا عمر بن الحسن بن علي وهو غلام صغير، فقال لعمر بن الحسن: أتقاتل هذا الفتى؟ يعني خالدًا ابنه، قال: لا، ولكن أعطني سكينًا وأعطه سكينًا، ثم أقاتله، فقال له يزيد؛ وأخذه فضمه إليه ثم قال: شنشنةٌ أعرفها من أخزم؛ هل تلد الحية إلا حية! قال: ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يزيد علي بن الحسين ثم قال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلةً أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني وأنه كل حاجة تكون لك؛ قال: وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول؛ قال: فخرج بهم وكان يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم وتفرق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم بحيث إذا أراد إنسان منهم وضوءًا أو قضاء حاجة لم يحتشم، فلم يزل ينازلهم في الطريق هكذا، ويسألهم عن حوائجهم، ويلطفهم حتى دخلوا المدينة. وقال الحارث بن كعب: فقالت لي فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: يا أخية، لقد أحسن هذا الرجل الشأمي إلينا في صحبتنا، فهل لك أن نصله؟ فقالت: والله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا؛ قالت لها: فنعطيه حلينا؛ قالت: فأخذت سواري ودملجي وأخذت أختي سوارها ودملجها، فبعثنا بذلك إليه، واعتذرنا إليه، وقلنا له: هذا جزاؤك بصحبتك إيانا بالحسن من الفعل؛ قال: فقال: لو كان الذي صنعت إنما هو للدنيا كان في حليكن ما يرضيني ودونه، ولكن والله ما فعلته إلا لله، ولقرابتكم من رسول الله ﷺ. قال هشام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي فإنه قال: لما قتل الحسين وجيء بالأثقال والأسارى حتى وردوا بهم الكوفة إلى عبيد الله، فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر في السجن، معه كتاب مربوط، وفي الكتاب خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية، وهو سائر كذا وكذا يومًا، وراجع في كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرًا فهو الأمان إن شاء الله؛ قال: فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي في السجن، ومعه كتاب مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصلوا واعهدوا فإنما ينتظر البريد يوم كذا وكذا. فجاء البريد ولم يسمع التكبير، وجاء كتاب بأن سرح الأسارى إلي. قال: فدعا عبيد الله ابن زياد محفز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن، فقال: انطلقوا بالثقل والرأس إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية؛ قال: فخرجوا حتى قدموا على يزيد، فقام محفز بن ثعلبة فنادى بأعلى صوته: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم؛ فقال يزيد: ما ولدت أم محفز ألأم وأحمق، ولكنه قاطعٌ ظالم؛ قال: فلما نظر يزيد إلى رأس الحسين، قال: يفلقن هامًا من رجالٍ أعزةٍ ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما ثم قال: أتدرون من أين أتى هذا؟ قال: أبي عليٌّ خيرٌ من أبيه، وأمي فاطمة خيرٌ من أمه، وجدي رسول الله خيرٌ من جده، وأنا خيرٌ منه وأحق بهذا الأمر منه؛ فأما قوله: أبوه خيرٌ من أبي، فقد حاج أبي أباه، وعلم الناس أيهما حكم له؛ وأما قوله: امي خير من أمه، فلعمري فاطمة ابنة رسول الله ﷺ خيرٌ من أمي؛ وأما قوله: جدي خيرٌ من جده، فلعمري ما أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلًا ولا ندًا، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيءٍ قديرٌ ". ثم أدخل نساء الحسين على يزيد، فصاح نساء آل يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن. ثم إنهن أدخلن على يزيد، فقالت فاطمة بنت الحسين - وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد! فقال يزيد: يا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره؛ قالت: والله ما ترك لنا خرص، قال: يا ابنة أخي ما آتٍ إليك أعظم مما أخذ منك، ثم أخرجن فأدخلن دار يزيد بن معاوية، فلم تبق امرأةٌ من آل يزيد إلا أتتهن، وأقمن المأتم، وأرسل يزيد إلى كل امرأة: ماذا أخذ لك؟ وليس منهن امرأة تدعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا قد أضعفه لها، فكانت سكينة تقول: ما رأيت رجلًا كافرًا بالله خيرًا من يزيد ابن معاوية. ثم أدخل الأسارى إليه وفيهم علي بن الحسين، فقال له يزيد: إيه يا علي! فقال علي: " ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختالٍ فخورٍ " فقال يزيد: " وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ " ثم جهزه وأعطاه مالًا، وسرحه إلى المدينة. قال هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو حمزة الثمالي، عن عبد الله الثمالي، عن القاسم بن بخيت، قال: لما أقبل وفد أهل الكوفة برأس الحسين دخلوا مسجد دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلًا، فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرءوس والسبايا، فوثب مروان فانصرف، وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم، فقال: ما صنعتم؟ فأعادوا عليه الكلام، فقال: حجبتم عن محمد يوم القيامة؛ لن أجامعكم على أمر أبدًا ثم قام فانصرف، ودهلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه، وحدثوه الحديث. قال: فسمعت دور الحديث هند بنت عبد الله ابن عامر بن كريز - وكانت تحت يزيد بن معاوية - فتقنعت بثوبها، وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله! قال: نعم فأعولي عليه، وحدي على ابن بنت رسول الله ﷺ وصريحة قريش؛ عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله! ثم أذن للناس فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يزيد قضيبٌ فهو ينكت به في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري: يفلقن هامًا من رجالٍ أحبةٍ ** إلينا وهم كانوا أعق وأظلما قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله ﷺ يقال له أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين! أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذًا، لربما رأيت رسول الله ﷺ يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيام وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد ﷺ شفيعه؛ ثم قام فولى. قال هشام: حدثني عوانة بن الحكم، قال: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي وجيء برأسه إليه، دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال: انطلق حتى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص فبشره بقتل الحسين - وكان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ - قال: فذهب ليعتل له، فزجره - وكان عبيد الله لا يصطلي بناره - فقال: انطلق حتى تأتي المدينة، ولا يسبقك الخبر؛ وأعطاه دنانير، وقال: لا تعتل، وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة؛ قال عبد الملك: فقدمت المدينة، فلقيني رجل من قريش، فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قتل الحسين بن علي؛ فدخلت على عمرو بن سعيد فقال: ما وراءك؟ فقلت: ما سر الأمير، قتل الحسين بن علي؛ فقال: ناد بقتله، فناديت بقتله، فلم أسمع والله واعيةً قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين، فقال عمرو بن سعيد وضحك: عجت نساء بني زياد عجةً ** كعجيج نسوتنا غداة الأرنب والأرنب: وقعةٌ كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب، من رهط عبد المدان، وهذا البيت لعمرو بن معد يكرب، ثم قال عمرو: هذه واعية بواعية عثمان بن عفان، ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله. قال هشام، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، قال: لما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين، دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه - قال: ولا أظن مولاه ذلك إلا أبا اللسلاس - فقال: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين! قال: فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: يابن اللخناء، أللحسين تقول هذا! والله لو شهدته لأحببت ألا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخى بنفسي عنهما، ويهون علي المصاب بهما، أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له، صابرين معه. ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله عز وجل على مصرع الحسين، إلا تكن آست حسينًا يدي، فقد آساه ولدي. قال: ولما أتى أهل المدينة مقتل الحسين خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها وهي حاسرة تلوي بثوبها وهي تقول: ماذا تقولون إن قال النبي لكم ** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم بعتري وبأهلي بعد مفتقدي ** منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم! قال هشام: عن عوانة، قال: قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد بعد قتله الحسين: يا عمر، أين الكتاب الذي كتبت به إليك في قتل الحسين؟ قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب؛ قال: لتجيئن به؛ قال: ضاع؛ قال: والله لتجيئني به؛ قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش اعتذارًا إليهن بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحةً لو نصحتها أبي سعد ابن أبي وقاص كنت قد أديت حقه، قال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق والله، لودت أنه ليس من بني زياد رجلٌ إلا وفي أنفه خزامةٌ إلى يوم القيامة وأن حسينًا لم يقتل؛ قال: فوالله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله. قال هشام: حدثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن أبي المقدام، قال: حدثني عمرو بن عكرمة، قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة، فإذا مولىً لنا يحدثنا، قال: سمعت البارحة مناديًا ينادي وهو يقول: أيها القاتلون جهلًا حسينًا ** أبشروا بالعذاب والتنكيل كل أهل السماء يدعو عليكم ** من نبيٍّ وملأكٍ وقبيل قد لعنتم على لسان ابن داو ** د وموسى وحامل الإنجيل قال هشام: حدثني عمر بن حيزوم الكلبي، عن أبيه، قال: سمعت هذا الصوت. ذكر أسماء من قتل من بني هاشم مع الحسين عليه السلام وعدد من قتل من كل قبيلة من القبائل التي قاتلته قال هشام: قال أبو مخنف: ولما قتل الحسين بن علي رضي الله عنه جيء برءوس من قتل معه من أهل بيته وشيعته وأنصاره إلى عبيد الله بن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسًا، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسًا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسًا، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأسًا. قال: وقتل الحسين - وأمه فاطمة بنت رسول الله ﷺ - قتله سنان بن أنس النخعي ثم الأصبحي وجاء برأسه خولي بن يزيد، وقتل العباس بن علي بن أبي طالب - وأمه أم البنين حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، قتله زيد بن رقاد الجنبي - وحكيم بن الطفيل السنبسي، وقتل جعفر بن علي بن أبي طالب - وأمه أم البنين أيضًا - وقتل عبد الله بن علي ابن أبي طالب - وأمه أم البنين أيضًا - وقتل عثمان بن علي بن أبي طالب - وأمه أم البنين أيضًا - رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله، وقتل محمد بن علي بن أبي طالب - وأمه أم ولد - قتله رجل من بني أبان بن دارم، وقتل أبو بكر بن علي بن أبي طالب - وأمه ليلى ابنة مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم، وقد شك في قتله - وقتل علي ابن الحسين بن علي - وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، وأمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب - قتله مرة بن منقذ بن النعمان العبدي، وقتل عبد الله بن الحسين بن علي - وأمه الرباب ابنة امرىء القيس ابن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم من كلب - قتله هانىء ابن ثبيت الحضرمي، واستصغر علي بن الحسين بن علي فلم يقتل، وقتل أبو بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب - وأمه أم ولد - قتله عبد الله بن عقبة الغنوي، وقتل عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب - وأمه أم ولد - قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم؛ وقتل القاسم بن الحسن بن علي - وأمه أم ولد - قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي، وقتل عون بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب - وأمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح من بني فزارة - قتله عبد الله بن قطبة الطائي ثم النبهاني، وقتل محمد ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - وأمه الخوصاء ابنة خصفة بن ثقيف بن ربيعة بن عائذ بن الحارث بن تيم الله بن ثعلبة من بكر بن وائل - قتله عامر ابن نهشل التيمي، وقتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب - وأمه أم البنين ابنة الشقر بن الهضاب - قتله بشر بن حوط الهمداني، وقتل عبد الرحمن ابن عقيل - وأمه أم ولد - قتله عثمان بن خالد بن أسير الجهني، وقتل عبد الله بن عقيل بن أبي طالب - وأمه أم ولد - رماه عمرو بن صبيح الصدائي فقتله؛ وقتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب - وأمه أم ولد، ولد بالكوفة - وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب - وأمه رقية ابنة علي بن أبي طالب وأمها أم ولد - قتله عمرو بن صبيح الصدائي؛ وقيل: قتله أسيد بن مالك الحضرمي، وقتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل - وأمه أم ولد - قتله لقيط بن ياسر الجهني، واستصغر الحسن بن الحسن بن علي، وأمه خولة ابنة منظور بن زبان بن سيار الفزاري، واستصغر عمر بن الحسن بن علي فترك فلم يقتل - وأمه أم ولد - وقتل من الموالي سليمان مولى الحسين بن علي، قتله سليمان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الحسين بن علي، وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين بن علي. قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، أن عبيد الله ابن زياد بعد قتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة، فلم ير عبيد الله بن الحر، ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه، فقال: أين كنت يابن الحر؟ قال: كنت مريضًا؛ قال: مريض القلب، أو مريض البدن! قال: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من الله علي بالعافية، فقال له ابن زياد: كذبت؛ ولكنك كنت مع عدونا؛ قال: لو كنت مع عدوك لرئي مكاني، وما كان مثل مكاني يخفى؛ قال: وغفل عنه ابن زياد غفلةً، فخرج ابن الحر فقعد على فرسه، فقال ابن زياد: أين ابن الحر؟ قالوا: خرج الساعة؛ قال: علي به؛ فأحضرت الشرط فقالوا له: أجب الأمير؛ فدفع فرسه ثم قال: أبلغوه أني لا آتيه والله طائعًا أبدًا؛ ثم خرج حتى أتى منزل أحمر بن زياد الطائي فاجتمع إليه في منزله أصحابه، ثم خرج حتى أتى كربلاء فنظر إلى مصارع القوم، فاستغفر لهم هو وأصحابه، ثم مضى حتى نزل المدائن، وقال في ذلك: يقول أميرٌ غدارٌ حق غادرٍ: ** ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه! فيا ندمي ألا أكون نصرته ** ألا كل نفس لا تسدد نادمه وإني لأني لم أكن من حماته ** لذو حسرةٍ ما إن تفارق لازمه سقى الله أرواح الذين تأزروا ** على نصره سقيا من الغيث دائمه وقفت على أجداثهم ومجالهم ** فكاد الحشا ينفض والعين ساجمه لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى ** سراعًا إلى الهيجا حماةً خضارمه تآسوا على نصر ابن بنت نبيهم ** بأسيافهم آساد غيلٍ ضراغمه فإن يقتلوا فكل نفسٍ تقيةٍ ** على الأرض قد أضحت لذلك واجمه وما إن رأى الراءون أفضل منهم ** لدى الموت ساداتٍ وزهرًا قماقمه أتقتلهم ظلمًا وترجو ودادنا ** فدع خطةً ليست لنا بملائمه! لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم ** فكم ناقمٍ منا عليكم وناقمه أهم مرارًا أن أسير بجحفلٍ ** إلى فئةٍ زاغت عن الحق ظالمه فكفوا وإلا ذدتكم في كتائبٍ ** أشد عليكم من زحوف الديالمه ذكر خبر مقتل مرداس بن عمرو بن حدير وفي هذه السنة قتل أبو بلال مرداس بن عمرو بن حدير، من ربيعة بن حنظلة. ذكر سبب مقتله قال أبو جعفر الطبري: قد تقدم ذكر سبب خروجه، وما كان من توجيه عبيد الله بن زياد إليه أسلم بن زرعة الكلابي في ألفي رجل، والتقائهم بآسك وهزيمة أسلم وجيشه منه ومن أصحابه فيما مضى من كتابنا هذا. ولما هزم مرداس أبو بلال أسلم بن زرعة، وبلغ عبيد الله بن زياد، سرح إليه - فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو المخارق الراسبي - ثلاثة آلاف، عليهم عباد بن الأخضر التميمي، فأتبعه عباد يطلبه حتى لحقه بتوج، فصف له، فحمل عليهم أبو بلال وأصحابه، فثبتوا. وتعطف الناس عليهم فلم يكونوا شيئًا. وقال أبو بلال لأصحابه: من كان منكم إنما خرج للدنيا فليذهب، ومن كان منكم إنما أراد الآخرة ولقاء ربه فقد سبق ذلك إليه، وقرأ: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيبٍ "، فنزل ونزل أصحابه معه لم يفارقه منهم إنسان، فقتلوا من عند آخرهم، ورجع عباد بن الأخضر، وذلك الجيش الذي كان معه إلى البصرة، وأقبل يريد قصر الإمارة وهو مردف ابنًا له غلامًا، صغيرًا، فقالوا: يا عبد الله، قف حتى نستفتيك؛ فوقف، فقالوا: نحن إخوةٌ أربعة، قتل أخونا، فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير، قالوا: قد استعديناه فلم يعدنا. قال: فاقتلوه، قتله الله! فوثبوا عليه فحكموا، وألقى ابنه فقتلوه. ذكر خبر ولاية سلم بن زياد على خراسان وسجستان وفي هذه السنة ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان وخراسان. ذكر سبب توليته إياه حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثنا مسلمة بن محارب بن سلم بن زياد، قال: وفد سلم بن زياد على يزيد بن معاوية وهو ابن أربع وعشرين سنة، فقال له يزيد: يا أبا حرب، أوليك عمل أخويك: عبد الرحمن وعباد؟ فقال: ما أحب أمير المؤمنين؛ فولاه خراسان وسجستان، فوجه سلم الحارث بن معاوية الحارثي جد عيسى بن شبيب من الشأم إلى خراسان، وقدم سلم البصرة، فتجهز وسار إلى خراسان، فأخذ الحارث بن قيس بن الهيثم السلمي فحبسه، وضرب ابنه شبيبًا، وأقامه في سراويل، ووجه أخاه يزيد بن زياد إلى سجستان. فكتب عبيد الله بن زياد إلى عباد أخيه - وكان له صديقًا - يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما في بيت المال في عبيده، وفضل فضلٌ فنادى مناديه: من أراد سلفًا فليأخذ، فأسلف كل من أتاه، وخرج عباد عن سجستان. فلما كان بجيرفت بلغه مكان سلم - وكان بينهما جبل - فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك، أقل ما مع أحدهم عشرة آلاف. قال: فأخذ عباد على فارس، ثم قدم على يزيد، فقال له يزيد: أين المال؟ قال كنت صاحب ثغر، فقسمت ما أصبت بين الناس. قال: ولما شخص سلم إلى خراسان شخص معه عمران بن الفصيل البرجمي، وعبد الله بن خازم السلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب بن أبي صفرة، وحنظلة بن عرادة، وأبو حزابة الوليد بن نهيك أحد بني ربيعة بن حنظلة، ويحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل، وخلق كثير من فرسان البصرة وأشرافهم، فقدم سلم بن زياد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد بنخبة ألفي رجل ينتخبهم - وقال غيره: بل نخبة ستة آلاف - قال: فكان سلم ينتخب الوجوه والفرسان. ورغب قوم في الجهاد فطلبوا إليه أن يخرجهم، فكان أول من أخرجه سلم حنظلة بن عرادة، فقال له عبيد الله بن زياد: دعه لي؛ قال: هو بيني وبينك، فإن اختارك فهو لك، وإن اختارني فهو لي، قال: فاختار سلمًا؛ وكان الناس يكلمن سلمًا ويطلبون إليه أن يكتبهم معه، وكان صلة بن أشيم العدوي يأتي الديوان فيقول له الكاتب: يا أبا الصهباء، ألا أثبت اسمك، فإنه وجهٌ فيه جهادٌ وفضل؟ فيقول له: أستخير الله وأنظر؛ فلم يزل يدافع حتى فرغ من أمر الناس، فقالت له امرأته معاذة ابنة عبد الله العدوية: ألا تكتب نفسك؟ قال: حتى أنظر، ثم صلى واستخار الله؛ قال: فرأى في منامه آتيًا أتاه، فقال له: اخرج فإنك تربح وتفلح وتنجح؛ فأتى الكاتب فقال له: أثبتني؛ قال: قد فرغنا ولن أدعك، فأثبته وابنه، فخرج سلم فصيره سلم مع يزيد بن زياد فسار إلى سجستان. قال: وخرج سلم وأخرج معه أم محمد ابنة عبد الله بن عثمان بن أبي العاص الثقفي، وهي أول امرأة من العرب قطع بها النهر. قال: وذكر مسلمة بن محارب وأبو حفص الأزدي عن عثمان بن حفص الكرماني أن عمال خراسان كانوا يغزون، فإذا دخل الشتاء قفلوا من مغازيهم إلى مرو الشاهجان، فإذا انصرف المسلمون اجتمع ملوك خراسان في مدينة من مدائن خراسان مما يلي خارزم، فيتعاقدون ألا يغزو بعضهم بعضًا، ولا يهيج أحد أحدًا، ويتشاورون في أمورهم، فكان المسلمون يطلبون إلى أمرائهم في غزو تلك المدينة فيأبون عليهم، فلما قدم خراسان غزا فشتا في بعض مغازيه؛ قال: فألح عليه المهلب، وسأله أن يوجهه إلى تلك المدينة، فوجهه في ستة آلاف - ويقال أربعة آلاف - فحاصرهم، فسألهم أن يذعنوا له بالطاعة، فطلبوا إليه أن يصالحهم على أن يفدوا أنفسهم، فأجابهم إلى ذلك، فصالحوه على نيف وعشرين ألف ألف؛ قال: وكان فقي صلحهم أن يأخذ منهم عروضًا، فكان يأخذ الرأس بنصف ثمنه، والدابة بنصف ثمنها، والكيمخت بنصف ثمنه، فبلغت قيمة ما أخذ منهم خمسين ألف ألف، فحظي بها المهلب عند سلم، واصطفى سلم من ذلك ما أعجبه، وبعث به إلى يزيد مع مرزبان مرو، وأوفد في ذلك وفدًا. قال مسلمة وإسحاق بن أيوب: غزا سلم سمرقند بامرأته أم محمد ابنة عبد الله، فولدت لسلم ابنًا، فسماه صغدى. قال علي بن محمد: ذكر الحسن بن رشيد الجوزجاني، عن شيخ من خزاعة، عن أبيه، عن جده، قال: غزوت مع سلم بن زياد خوارزم، فصالحوه على مال كثير، ثم عبر إلى مسرقند فصالحه أهلها، وكانت معه امرأته أم محمد، فولدت له في غزاته تلك ابنًا، وأرسلت إلى امرأة صاحب الصغد تستعير منها حليًا، فبعثت إليها بتاجها؛ وقفلوا، فذهبت بالتاج. وفي هذه السنة عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وولاها الوليد بن عتبة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: نزع يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد، لهلال ذي الحجة، وأمر الوليد بن عتبة على المدينة، فحج بالناس حجتين سنة إحدى وستين وسنة اثنتين وستين. وكان عامل يزيد بن معاوية في هذه السنة على البصرة والكوفة عبيد الله بن زياد، وعلى المدينة في آخرها الوليد بن عتبة، وعلى خراسان وسجستان سلم بن زياد، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى قضاء الكوفة شريح. وفيها أظهر ابن الزبير الخلاف على يزيد وخلعه. وفيها بويع له. ذكر سبب عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وتوليته عليها الوليد بن عتبة وكان السبب في ذلك وسبب إظهار عبد الله بن الزبير الدعاء إلى نفسه - فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل - قال: حدثني أبي، قال: لما قتل الحسين رضي الله عنه قام ابن الزبير في أهل مكة وعظم مقتله، وعاب على أهل الكوفة خاصة، ولام أهل العراق عامة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ﷺ: إن أهل العراق غدرٌ فجرٌ إلا قليلًا، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق؛ وإنهم دعوا حسينًا لينصروه ويولوه عليهم، فلما قدم عليهم ثاروا إليه، فقالوا له: إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية سلمًا فيمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب؛ فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير، وإن كان الله عز وجل لم يطلع على الغيب أحدًا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله حسينًا، وأخزى قاتل حسين! لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم ما كان في مثله واعظ وناهٍ عنهم، ولكنه ما حم نازل، وإذا أراد الله أمرًا لن يدفع. أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهدًا! لا، ولا نراهم لذلك أهلًا؛ أما والله لقد قتلوه طويلًا بالليل قيامه، كثيرًا في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد - يعرض بيزيد - فسوف يلقون غيًا. فثار إليه أصحابه فقالوا له: أيها الرجل أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك حسين ينازعك هذا الأمر. وقد كان يبايع الناس سرًا، ويظهر أنه عائذ بالبيت، فقال لهم: لا تعجلوا - وعمرو بن سعيد بن العاص يومئذ عامل مكة، وقد كان أشد شيء عليه وعلى أصحابه، وكان مع شدته عليهم يداري ويرفق - فلما استقر عند يزيد بن معاوية ما قد جمع ابن الزبير من الجموع بمكة، أعطى الله عهدًا ليوثقنه في سلسلة، فبعث بسلسلة من فضة، فمر بها البريد على مروان بن الحكم بالمدينة، فأخبر خبر ما قدم له وبالسلسلة التي معه، فقال مروان: خذها فليست للعزيز بخطةٍ ** وفيها مقالٌ لامرىءٍ متضعف ثم مضى من عنده حتى قدم على ابن الزبير، فأتى ابن الزبير فأخبره بممر البريد على مروان، وتمثل مروان بهذا البيت، فقال ابن الزبير: لا والله لا أكون أنا ذلك المتضعف؛ ورد ذلك البريد ردًا رقيقًا. وعلا أمر ابن الزبير بمكة، وكاتبه أهل المدينة، وقال الناس: أما إذ هلك الحسين رضي الله عنه فليس أحدٌ ينازع ابن الزبير. حدثنا نوح بن حبيب القومسي، قال: حدثنا هشام بن يوسف. وحدثنا عبيد الله بن عبد الكريم، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر المديني قال: حدثنا هشام بن يوسف - واللفظ لحديث عبيد الله - قال: أخبرني عبد الله بن مصعب، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد العزيز بن مروان، قال: لما بعث يزيد بن معاوية بن عضاه الأشعري ومسعدة وأصحابهما إلى عبد الله بن الزبير بمكة ليؤتى به في جامعة لتبر يمين يزيد، بعث معهم بجامعة من ورق وبرنس خز، فأرسلني أبي وأخي معهم وقال: إذا بلغته رسل يزيد الرسالة فتعرضا له، ثم ليتمثل أحدكما: فخذها فليست للعزيز بخطةٍ ** وفيها مقالٌ لامرىءٍ متذلل أعامر إن القوم ساموك خطةً ** وذلك في الجيران غزل بمغزل أراك إذا ما كنت للقوم ناصحًا ** يقال له بالدلو أدبر وأقبل قال: فلما بلغته الرسل الرسالة تعرضنا، فقاللي أخي: اكفنيها، فسمعني، فقال: أي ابني مروان، قد سمعت ما قلتما، وعلمت ما ستقولانه، فأخبرا أباكما: إني لمن نبعةٍ صمٍّ مكاسرها ** إذا تناوحت القصباء والعشر فلا ألين لغير الحق أسأله ** حتى يلين لضرس الماضغ الحجر قال: فما أدري أيهما كان أعجب! زاد عبد الله في حديثه، عن أبي علي، قال: فذاكرت بهذا الحديث مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، فقال: قد سمعته من أبي علي نحو الذي ذكرت له، ولم أحفظ إسناده. قال هشام، عن خالد بن سعيد، عن أبيه سعيد بن عمرو بن سعيد: إن عمرو بن سعيد لما رأى الناس قد اشرأبوا إلى ابن الزبير ومدوا إليه أعناقهم، ظن أن تلك الأمور تامةٌ له، فبعث إلى عبد الله بن عمرو بن العاص - وكانت له صحبة، وكان مع أبيه بمصر، وكان قد قرأ كتب دنيال هنالك، وكانت قريش إذ ذاك تعده عالمًا - فقال له عمرو بن سعيد: أخبرني عن هذا الرجل، أترى ما يطلب تامًا له؟ وأخبرني عن صاحبي إلى ما ترى أمره صائرًا إليه؟ فقال: لا أرى صاحبك إلا أحد الملوك الذين تتم لهم أمورهم حتى يموتوا وهم ملوك. فلم يزدد عند ذاك إلا شدةً على ابن الزبير وأصحابه، مع الرفق بهم، والمدارة لهم. ثم إن الوليد بن عتبة وناسًا معه من بني أمية قالوا ليزيد بن معاوية: لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث به إليك، فسرح الوليد بن عتبة على الحجاز أميرًا، وعزل عمرًا. وكان عزل يزيد عمرًا عن الحجاز وتأميره عليها الوليد بن عتبة في هذه السنة - أعني سنة إحدى وستين؛ قال أبو جعفر: حدثت عن محمد بن عمر قال: نزع يزيد عمرو بن سعيد بن العاص لهلال ذي الحجة سنة إحدى وستين وولي الوليد بن عتبة، فأقام الحجة سنة إحدى وستين بالناس، وأعاد ابن ربيعة العامري على قضائه. وحدثني أحمد بن ثابت، قال: حدثت عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج بالناس في سنة إحدى وستين الوليد بن عتبة، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل السير. وكان الوالي في هذه السنة على الكوفة والبصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة، وعلى خراسان سلم بن زياد. ثم دخلت سنة اثنتين وستين ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث فمن ذلك: مقدم وفد أهل المدينة على يزيد بن معاوية ذكر الخبر عن سبب مقدمهم عليه وكان السبب في ذلك - فيما ذكر لوط بن يحيى، عن عبد الملك بن نوفل ابن مساحق، عن عبد الله بن عروة - أن يزيد بن معاوية لما سرح الوليد ابن عتبة على الحجاز أميرً، وعزل عمرو بن سعيد، قدم الوليد المدينة فأخذ غلمانًا كثيرًا لعمرو وموالي له، فحبسهم، فكلمه فيهم عمرو، فأبى أن يخليهم، وقال له: لا تجزع يا عمرو؛ فقال أخوه أبان بن سعيد بن العاص: أعمرٌو يجزع! والله لو قبضتم على الجمر وقبض عليه ما تركه حتى تتركوه؛ وخرج عمرو سائرًا حتى نزل من المدينة على ليلتين، وكتب إلى غلمانه ومواليه وهم نحوٌ من ثلثمائة رجل: إني باعث إلى كل رجل منكم جملًا وحقيبةً وأداته، وتناخ لكم الإبل في السوق، فإذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن، ثم ليقم كل رجل منكم إلى جمله فليركبه، ثم أقبلوا علي حتى تأتوني؛ فجاء رسوله حتى اشترى الإبل، ثم جهزها بما ينبغي لها، ثم أناخها في السوق، ثم أتاهم حتى أعلمهم ذلك، فكسروا باب السجن، ثم خرجوا إلى الإبل فاستووا عليها، ثم أقبلوا حتى انتهوا إلى عمرو بن سعيد فوجدوه حين قدم على يزيد بن معاوية. فلما دخل عليه رحب به وأدنى مجلسه. ثم إنه عاتبه في تقصيره في أشياء كان يأمره بها في ابن الزبير، فلا ينفذ منهها إلا ما أراد؛ فقال: يا أمير المؤمنين، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جل أهل مكة وأهل المدينة قد كانوا مالوا إليه وهووه وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضًا سرًا وعلانية، ولم يكن معي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذرني ويتحرز مني، وكنت أرفق به وأداريه لأستمكر منه فأثب عليه، مع أني قد ضيقت عليه، ومنعته من أشياء كثيرة لو تركته وإياها ما كانت له إلا معونةً، وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالًا لا يدعون أحدًا يدخلها حتى يكتبوا إلي باسمه واسم أبيه، ومن أي بلاد الله هو، وما جاء به وما يريد؛ فإن كان من أصحابه أو ممن أرى أنه يريده رددته صاغرًا، وإن كان ممن لا أتهم، خليت سبيله. وقد بعثت الوليد، وسيأتيك من عمله وأثره ما لعلك تعرف به فضل مبالغتي في أمرك، ومناصحتي لك إن شاء الله؛ والله يصنع لك، ويكبت عدوك يا أمير المؤمنين. فقال له يزيد: أنت أصدق ممن رقي هذه الأشياء عنك، وحملني بها عليك، وأنت ممن أثق به، وأرجو معونته، وأدخره لرأب الصدع، وكفاية المهم، وكشف نوازل الأمور العظام؛ فقال له عمرو: وما أرى يا أمير المؤمنين أن أحدًا أولى بالقيام بتشديد سلطانك، وتوهين عدوك، والشدة على من نابذك مني. وأقام الوليد بن عتبة يريد ابن الزبير فلا يجده إلا متحذرًا متمنعًا، وثار نجدة بن عامر الحنفي باليمامة حين قتل الحسين، وثار ابن الزبير، فكان الوليد يفيض من المعرف، وتفيض معه عامة الناس، وابن الزبير واقف وأصحابه، ونجدة واقفٌ في أصحابه، ثم يفيض ابن الزبير بأصحابه ونجدة بأصحابه، لا يفيض واحد منهم بإفاضة صاحبه. وكان نجدة يلقى ابن الزبير فيكثر حتى ظن الناس أنه سيبايعه. ثم إن ابن الزبير عمل بالمكر في أمر الوليد بن عتبة، فكتب إلى يزيد بن معاوية: إنك بعثت إلينا رجلًا أخرق، لا يتجه لأمر رشد، ولا يرعوي لعظة الحكيم، ولو بعثت إلينا رجلًا سهل الخلق، لين الكتف، رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها، وأن يجتمع ما تفرق، فانظر في ذلك، فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله؛ والسلام. فبعث يزيد بن معاوية إلى الوليد فعزله وبعث عثمان بن محمد بن أبي سفيان - فيما ذكر أبو مخنف، عن عبد الملك ابن نوفل بن مساحق، عن حميد ابن حمزة؛ مولىً لبني أمية - قال: فقدم فتىً غرٌّ حدثٌ غمرٌ لم يجرب الأمور، ولم يحنكه السن، ولم تضرسه التجارب؛ وكان لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله، وبعث إلى يزيد وفدًا من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، والمنذر بن الزبير، ورجالًا كثيرًا من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد بن معاوية، فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظم جوائزهم. ثم انصرفوا من عنده، وقدموا المدينة كلهم إلا المنذر ابن الزبير فإنه قدم على عبيد الله بن زياد بالبصرة - وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف درهم - فلما قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعتبة، وقالوا: إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخراب والفتيان، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه؛ فتابعهم الناس. قال لوط بن يحيى: فحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أن الناس أتوا عبد الله بن حنظلة الغسيل فبايعوه وولوه عليهم. قال لوط: وحدثني أيضًا محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عوف: ورجع المنذر من عند يزيد بن معاوية، فقدم على عبيد الله بن زياد البصرة، فأكرمه وأحسن ضيافته، وكان لزياد صديقًا، إذ سقط إليه كتابٌ من يزيد بن معاوية حيث بلغه أمر أصحابه بالمدينة. أن أوثق المنذر بن الزبير واحبسه عندك حتى يأتيك فيه أمري؛ فكره ذلك عبيد الله ابن زياد لأنه ضيفه، فدعاه فأخبره بالكتاب وأقرأه إياه، وقال له: إنك كنت لزياد ودًا وقد أصبحت لي ضيفًا، وقد آتيت إليك معروفًا، فأنا أحب أن أسدي ذلك كله بإحسان، فإذا اجتمع الناس عندي فقم فقل: ائذن لي فلانصرف إلى بلادي، فإذا قلت: لا بل أقم عندي فإن لك الكرامة والمواساة والأثرة، فقل: لي ضيعةٌ وشغلٌ، لا أجد من الانصراف بدًان فأذن لي، فإني آذن لك عند ذلك؛ فالحق بأهلك. فلما اجتمع الناس عند عبيد الله قام إليه فاستأذنه فقال: لا بل أقم عندي فإني مكرمك ومواسيك ومؤثرك؛ فقال له: إن لي ضيعةً وشغلًا، ولا أجد من الانصراف بدًا فأذن لي؛ فأذن له. فانطلق حتى لحق بالحجاز؛ فأتى أهل المدينة، فكان فيمن يحرض الناس على يزيد، وكان من قوله يومئذ: إن يزيد والله لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني ما صنع إلي أن أخبركم خبره، وأصدقكم عنه، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة؛ وعابه بمثل ما عابه به أصحابه الذين كانوا معه وأشد، فكان سعيد بن عمرو يحدث بالكوفة أن يزيد بن معاوية بلغه قوله فيه فقال: اللهم إني آثرته وأكرمته، ففعل ما قد رأيت، فاذكره بالكذب والقطيعة. قال أبو مخنف: فحدثني سعيد بن زيد أبو المثلم أن يزيد بن معاوية بعث النعمان بن بشير الأنصاري فقال له: ائت الناس وقومك فافثأهم عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترىء الناس على خلافي، وبها من عشيرتي من لا أحب أن ينهض في هذه الفتنة فيهلك. فأقبل النعمان بن بشير فأتى قومه، ودعا الناس إليه عامة، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الفتنة، وقال لهم: إنه لا طاقة لكم بأهل الشأم؛ فقال عبد الله بن مطيع العدوي: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله من أمرنا! فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحا الموت بين الفريقين قد هربت على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلفت هؤلاء المساكين - يعني الأنصار - يقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم! فعصاه الناس، فانصرف. وكان والله كما قال. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة. وكانت العمال في هذه السنة على العراق وخراسان العمال الذينن ذكرت في سنة إحدى وستين. وفي هذه السنة ولد - فيما ذكر - محمد بن عبد الله بن العباس. ثم دخلت سنة ثلاث وستين ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك ما كان من إخراج أهل المدينة عامل يزيد بن معاوية عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة، وإظهارهم خلع يزيد بن معاوية، وحصارهم من كان بها من بني أمية؛ ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، أن أهل المدينة لما بايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد بن معاوية، وثبوا على عثمان ابن محمد بن أبي سفيان ومن بالمدينة من بني أمية ومواليهم ومن رأى رأيهم من قريش، فكانوا نحوًا من ألف رجل، فخرجوا بجماعتهم حتى نزلوا دار مروان بن الحكم، فحاصرهم الناس فيها حصارًا ضعيفًا. قال: فدعت بنو أمية حبيب بن كرة، وكان الذي بعث إليه منهم مروان بن الحكم وعمرو ابن عثمان بن عفان، وكان مروان هو يدبر أمرهم. فأما عثمان بن محمد بن أبي سفيان فإنما كان غلامًا حدثًا لم يكن له رأي. قال عبد الملك بن نوفل: فحدثني حبيب بن كرة، قال: كنت مع مروان، فكتب معي هو وجماعة من بني أمية كتابًا إلى يزيد بن معاوية، فأخذ الكتاب عبد الملك بن مروان حتى خرج معي إلى ثنية الوداع، فدفع إلي الكتاب وقال: قد أجلتك اثنتي عشرة ليلةً ذهبًا واثنتي عشرة ليلةً مقبلًا، فوافني لأربع وعشرين ليلة في هذا المكان تجدني إن شاء الله في هذه الساعة جالسًا أنتظرك. وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنه قد حصرنا في دار مروان بن الحكم، ومنعنا العذاب، ورمينا بالجيوب، فيا غوثاه يا غوثاه! قال: فأخذت الكتاب ومضيت به حتى قدمت على يزيد وهو جالس على كرسي، واضع قدميه في ماء طست من وجع كان يجده فيهما - ويقال: كان به النقرس - فقرأه ثم قال فيما بلغنا متمثلًا: لقد بدلوا الحلم الذي من سجيتي ** فبدلت قومي غلظةً بليان ثم قال: أما يكون بنو أمية ومواليهم ألف رجل بالمدينة؟ قال: قلت: بلى، والله وأكثر؛ قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعةً من نهار! قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أجمع الناس كلهم عليهم، فلم يكن لهم بجمع الناس طاقةٌ؛ قال: فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب، وأخبره الخبر، وأمره أن يسير إليهم في الناس، فقال له: قد كنت ضبطت لك البلاد، وأحكمت لك الأمور، فأما الآن إذ صارت إنما هي دماء قريش تهراق بالصعيد، فلا أحب أن أكون أنا أتولى ذلك، يتولاها منهم من هو أبعد منهم مني. قال: فبعثني بذلك الكتاب إلى مسلم بن عقبة المري - وهو شيخ كبير ضعيف مريض - فدفعت إليه الكتاب، فقرأه، وسألني عن الخبر فأخبرته، فقال لي مثل مقالة يزيد: أما يكون بنو أمية ومواليهم وأنصارهم بالمدينة ألف رجل! قال: قلت: بلى يكونون؛ قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعةً من نهار! ليس هؤلاء بأهل أن ينصروا حتى يجهدوا أنفسهم في جهاد عدوهم، وعز سلطانهم؛ ثم جاء حتى دخل على يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، لا تنصر هؤلاء فإنهم الأذلاء؛ أما استطاعوا أن يقاتلوا يومًا واحدًا أو شطره أو ساعةً منه! دعهم يا أمير المؤمنين حتى يجهدوا أنفسهم في جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ويستبين لك من يقاتل منهم على طاعتك، ويصبر عليها أو يستسلم؛ قال: ويحك! إنه لا خير في العيش بعدهم، فاخرج فأنبئني نبأك، وسر بالناس؛ فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملًا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: كتب يزيد إلى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزبير؛ فقال: لا أجمعهما للفاسق أبدًا، أقتل ابن بنت رسول الله ﷺ، وأغزو البيت! قال: وكانت مرجانة امرأة صدق، فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين رضي الله عنه: ويلك! ماذا صنعت! وماذا ركبت! رجع الحديث إلى حديث حبيب بن كرة. قال: فاقبلت حتى أوافي عبد الملك بن مروان في ذلك المكان في تلك الساعة أو بعيدها شيئًا. قال: فوجدته جالسًا متقنعًا تحت شجرة، فأخبرته بالذي كان، فسر به، فانطلقنا حتى دخلنا دار مروان على جماعة بني أمية، فنبأتهم بالذي قدمت به، فحمدوا الله عز وجل. قال عبد الملك بن نوفل: حدثني حبيب، أنه بلغه في عشرة. قال: فلم أبرح حتى رأيت يزيد بن معاوية خرج إلى الخيل يتصفحها وينظر إليها؛ قال: فسمعته وهو يقول وهو متقلد سيفًا، متنكبٌ قوسًا عربية: أبلغ أبا بكرٍ إذا الليل سرى ** وهبط القوم على وادي القرى عشرون ألفًا بين كهلٍ وفتى ** أجمع سكران من القوم ترى! أم جمع يقظان نفي عنه الكرى! ** يا عجبًا من ملحدٍ يا عجبا! مخادع في الدين يقفو بالعرى قال عبد الملك بن نوفل: وفصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة، وقال له: إن حدث بك حدثٌ فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني؛ وقال له: ادع القوم ثلاثًا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا أظهرت عليهم فأبحها ثلاثًا، فما فيها من مالٍ أو رقةٍ أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس؛ وانظر علي بن الحسين، فاكفف عنه، واستوص به خيرًا، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، وقد أتاني كتابه. وعلي لا يعلم بشيء مما أوصى به يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة، وقد كان علي بن الحسين لما خرج بنو أمية نحو الشأم أوى إليه ثفل مروان بن الحكم، وامرأته عائشة بنت عثمان بن عفان، وهي أم أبان بن مروان. وقد حدثت عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، قال: لما أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد من المدينة، كلم مروان بن الحكم ابن عمر أن يغيب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل، وكلم علي بن الحسين، وقال: يا أبا الحسن، إن لي رحمًا، وحرمي تكون مع حرمك، فقال: أفعل؛ فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين، فخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم بينبع، وكان مروان شاكرًا لعلي بن الحسين، مع صداقة كانت بينهما قديمة. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل، قال: وأقبل مسلم بن عقبة بالجيش حتى إذا بلغ أهل المدينة إقباله وثبوا على من معهم من بني أمية، فحصروهم في دار مروان، وقالوا: والله لا نكف عنكم حتى نستنزلكم ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد الله وميثاقه لا تبغونا غائلةً، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوًا، فنكف عنكم ونخرجكم عنا، فأعطوهم عهد الله وميثاقه لا نبغيكم غائلةً، ولا ندل لكم على عورة؛ فأخرجوهم من المدينة، فخرجت بنو أمية بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى، وخرجت عائشة بنت عثمان بن عفان إلى الطائف، فتمر بعلي بن حسين وهو بمالٍ له إلى جنب المدينة قد اعتزلها كراهية أن يشهد شيئًا من أمرهم، فقال لها: احملي ابن عبد الله معك إلى الطائف، فحملته إلى الطائف حتى نقضت أمور أهل المدينة. ولما قدمت بنو أمية على مسلم بن عقبة بوادي القرى دعا بعمرو بن عثمان بن عفان أول الناس فقال له: أخبرني خبر ما وراءك، وأشر علي؛ قال: لا أستطيع أن أخبرك، أخذ علينا العهود والمواثيق ألا ندل على عورة، ولا نظاهر عدوًا، فانتهره ثم قال: والله لولا أنك ابن عثمان لضربت عنقك، وايم الله لا أقيلها قرشيًا بعدك. فخرج بما لقي من عنده إلى أصحابه، فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك: ادخل قبلي لعله يجترىء بك عني، فدخل عليه عبد الملك، فقال: هات ما عندك، أخبرني خبر الناس، وكيف ترى؟ فقال له: نعم أرى أن تسير بمن معك؛ فتنكب هذا الطريق إلى المدينة، حتى إذا انتهيت إلى أدنى نخل بها نزلت، فاستظل الناس في ظله، وأكلوا من صقره؛ حتى إذا كان الليل أذكيت الحرس الليل كله عقبًا بين أهل العسكر، حتى إذا أصبحت صليت بالناس الغداة، ثم مضيت بهم وتركت المدينة ذات اليسار، ثم أدرت بالمدينة حتى تأتيهم من قبل الحرة مشرقًا، ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم وطلعت الشمس طلعت بين أكتاف أصحابك، فلا تؤذيهم، وتقع في وجوههم فيؤذيهم حرها، ويصيبهم أذاها، ويرون ما دمتم مشرقين من ائتلاق بيضكم وحرابكم، وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم ما لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم ماداموا مغربين، ثم قاتلهم واستعن بالله عليهم، فإن الله ناصرك؛ إذ خالفوا الإمام، وخرجوا من الجماعة. فقال له مسلم: لله أبوك! أي امرىء ولد إذ ولدك! لقد رأى بك خلفًا. ثم إن مروان دخل عليه فقال له: إيه! قال: أليس قد دخل عليك عبد الملك! قال: بلى، وأي رجل عبد الملك! قلما كلمت من رجال قريش رجلًا به شبيهًا؛ فقال له مروان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني؛ قال: أجل، ثم ارتحل من مكانه ذلك، وارتحل الناس معه حتى نزل المنزل الذي أمره به عبد الملك، فصنع فيه ما أمره به، ثم مضى في الحرة حتى نزلها، فأتاهم من قبل المشرق. ثم دعاهم مسلم بن عقبة، فقال: يا أهل المدينة، إن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية يزعم أنكم الأصل، وإني أكره هراقة دمائكم، وإني أؤجلكم ثلاثًان فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه، وانصرفت عنكم، وسرت إلى هذا الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليكم - وذلك في ذي الحجة من سنة أربع وستين؛ هكذا وجدته في كتابي، وهو خطأ، لأن يزيد هلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وقعة الحرة في ذي الحجة من سنة ثلاث وستين يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه. ولما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة، قد مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب؛ فقال لهم: لا تفعلوا، بل ادخلوا في الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا على هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق من كل أوب. فقالوا لهم: يا أعداء الله، والله لو أردتم أن تجوزوا إليهم ما تركناكم حتى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فيه، وتستحلوا حرمته! لا والله لا نفعل. وقد كان أهل المدينة اتخذوا خندقًا في جانب المدينة، ونزله جمع منهم عظيمٌ، وكان عليهم عبد الرحمن بن زهير بن عوف ابن عم عبد الرحمن ابن عوف الزهري، وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر في جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعي على ربع آخر في جانب المدينة، وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، في أعظم تلك الأرباع وأكثرها عددًا. قال هشام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي، فذكر أن عبد الله بن مطيع كان على قريش من أهل المدينة، وعبد الله بن حنظلة الغسيل على الأنصار، ومعقل بن سنان على المهاجرين. قال هشام، عن أبي مخنف: قال عبد الملك بن نوفل: وصمد مسلم ابن عقبة بجميع من معه، فأقبل من قبل الحرة حتى ضرب فسطاطه على طريق الكوفة، ثم وجه الخيل نحو ابن الغسيل، فحمل ابن الغسيل على الخيل في الرجال الذين معه حتى كشف الخيل، حتى انتهوا إلى مسلم بن عقبة، فنهض في وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فانصرفوا فقاتلوا قتالًا شديدًا. ثم إن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جاء إلى عبد الله ابن حنظلة الغسيل فقاتل في نحو من عشرين فارسًا قتالًا شديدًا حسنًا، ثم قال لعبد الله: مر من معك فارسًا فليأتني فليقف معي، فإذا حملت فليحملوا، فوالله لا أنتهي حتى أبلغ مسلمًا، فإما أن أقتله، وإما أن أقتل دونه. فقال عبد الله بن حنظلة لعبد الله بن الضحاك من بني عبد الأشهل من الأنصار: ناد في الخيل فلتقف مع الفضل بن العباس، فنادى فيهم فجمعهم إلى الفضل، فلما اجتمعت الخيل إليه حمل على أهل الشأم فانكشفوا، فقال لأصحابه: ألا ترونهم كشفًا لئامًا! احملوا أخرى جعلت فداكم! فوالله لئن عاينت أميرهم، لأقتلنه أو لأقتلن دونه، إن صبر ساعة معقبٌ سرور أبد، إنه ليس بعد لصبرنا إلا النصر. ثم حمل وحمل أصحابه معه، فانفرجت خيل أهل الشأم عن مسلم بن عقبة في نحو من خمسمائة راجل جثاة على الركب، مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضى كما هو نحو رايته حتى يضرب رأس صاحب الراية، وإن عليه لمغفرًا، فقط المغفر، وفلق هامته فخر ميتًا، فقال: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! فظن أنه قتل مسلمًا، فقال: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة، فقال مسلم: أخطأت استك الحفرة! وإنما كان ذلك غلامًا له، يقال له: رومي، وكان شجاعًا. فأخذ مسلم رايته ونادى: يا أهل الشأم، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم، وأن يعزوا به نصر إمامهم! قبح الله قتالكم منذ اليوم! ما أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي! أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تحرموا العطاء، وأن تجمروا في أقاصي الثغور. شدوا مع هذه الراية، ترح الله وجوهكم إن لم تعتبوا! فمشى برايته، وشدت تلك الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين أطناب مسلم بن عقبة إلا نحو من عشر أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف، وقتل معه إبراهيم ابن نعيم العدوي، في رجال من أهل المدينة كثير. قال هشام، عن عوانة: وقد بلغنا في حديثٍ آخر أن مسلم بن عقبة كان مريضًا يوم القتال، وأنه أمر بسرير وكرسيٍّ فوضع بين الصفين، ثم قال: يا أهل الشأم، قاتلوا عن أميركم أو دعوا. ثم زحفوا نحوهم فأخذوا لا يصمدون لربعٍ من تلك الأرباع إلا هزموه، ولا يقاتلون إلا قليلًا حتى تولوا. ثم إنه أقبل إلى عبد الله بن حنظلة فقاتله أشد القتال، واجتمع من أراد القتال من تلك الأرباع إلى عبد الله بن حنظلة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فحمل الفضل ابن العباس بن ربيعة في جماعة من وجوه الناس وفرسانهم يريد مسلم بن عقبة، ومسلم على سريره مريض، فقال: احملوني فضعوني في الصف، فوضعوه بعد ما حملوه أمام فسطاطه في الصف، وحمل الفضل بن العباس هو وأصحابه أولئك حتى انتهى إلى السرير، وكان الفضل أحمر، فلما رفع السيف ليضربه صاح بأصحابه: إن العبد الأحمر قاتلي، فأين أنتم يا بني الحرائر! اشجروه بالرماح، فوثبوا إليه فطعنوه حتى سقط. قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله ابن حنظلة الغسيل ورجاله بعده - كما حدثني عبد الله بن منقذ - حتى دنوا منه، وركب مسلم بن عقبة فرسًا له، فأخذ يسير في أهل الشأم ويحرضهم ويقول: يا أهل الشأم، إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها، ولا أكثرها عددًا، ولا أوسعها بلدًا، ولم يخصصكم الله بالذي خصكم به من النصر على عدوكم، وحسن المنزلة عند أئمتكم، إلا بطاعتكم واتسقامتكم؛ وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج. ثم جاء حتى انتهى إلى مكانه الذي كان فيه، وأمر الخيل أن تقدم على ابن الغسيل وأصحابه، فأخذت الخيل إذا أقدمت على الرجال فثاروا في وجوهها بالرماح والسيوف نفرت وابذعرت وأحجمت، فنادى فيهم مسلم بن عقبة: يا أهل الشأم، ما جعلهم الله أولى بالأرض منكم، يا حصين بن نمير، انزل في جندك؛ فنزل في أهل حمص، فمشى إليهم، فلما رآهم قد أقبلوا يمشون تحت راياتهم نحو ابن الغسيل قام في أصحابه فقال: يا هؤلاء؛ إن عدوكم قد أصابوا وجه القتال الذي كان ينبغي أن تقاتلوهم به، وإني قد ظننت ألا تلبثوا إلا ساعةً حتى يفصل الله بينكم وبينهم إما لكم وإما عليكم. أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة، والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم. إن لكل امرىء منكم ميتةً هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها، فوالله ما كل ما أردتموها وجدتموها. ثم مشى برايته غير بعيد، ثم وقف، وجاء ابن نمير برايته حتى أدناها، وأمر مسلم بن عقبة عبد الله بن عضاه الأشعري فمشى في خمسمائة مرامٍ حتى دنوا من ابن الغسيل وأصحابه، فأخذوا ينضحونهم بالنبل، فقال ابن الغسيل: علام تستهدفون لهم! من أراد التعجل إلى الجنة فليلزم هذه الراية؛ فقام إليه كل مستميت، فقال: الغدو إلى ربكم، فوالله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين؛ فنهض القوم بعضهم إلى بعض فاقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان ساعةً من نهار، وأخذ يقدم بنيه أمامه واحدًا واحدًا حتى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل يضرب بسيفه، ويقول: بغدًا لمن رام الفساد وطغى ** وجانب الحق وآيات الهدى لا يبعد الرحمن إلا من عصى فقتل، وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، استقدم فقاتل حتى قتل، وقال: ما أحب أن الديلم قتلوني مكان هؤلاء القوم؛ ثم قاتل حتى قتل وقتل معه محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان ابن الحكم وكأنه برطيل من فضة، فقال: رحمك الله! فرب سارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها. قال هشام: فحدثني عوانة، قال: فبلغنا أن مسلم بن عقبة كان يجلس على كرسي ويحمله الرجال وهو يقاتل ابن الغسيل يوم الحرة وهو يقول: أحيا أباه هاشم بن حرمله ** يوم الهباتين ويوم اليعمله كل الملوك عنده مغربله ** ورمحه للوالدات مثكله لا يلبث القتيل حتى يجدله ** يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له قال هشام، عن أبي مخنف: وخرج محمد بن سعد بن أبي وقاص يومئذ يقاتل، فلما انهزم الناس مال عليهم يضربهم بسيفه حتى غلبته الهزيمة، فذهب فيمن ذهب من الناس، وأباح مسلم المدينة ثلاثًا يقتلون الناس ويأخذون الأموال؛ فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف في الجبل، فبصر به رجل من أهل الشأم، فجاء حتى اقتحم عليه الغار. قال أبو مخنف: فحدثني الحسن بن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل إلي الشامي يمشي بسيفه، قال: فانتضيت سيفي فمشيت إليه لأرعبه لعله ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قد جد شمت سيفي، ثم قلت له: " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين "، فقال لي: من أنت لله أبوك! فقلت: أنا أبو سعيد الخدري؛ قال: صاحب رسول الله ﷺ؟ قلت: نعم؛ فانصرف عني. قال هشام: حدثني عوانة، قال: دعا الناس مسلم بن عقبة بقباء إلى البيعة، وطلب الأمان لرجلين من قريش: ليزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي ولمعقل ابن سنان الأشجعي، فأتى بهما بعد الوقعة بيوم فقال: بايعا، فقال القرشيان: نبايعك على كتاب الله وسنة نبيه؛ فقال: لا والله لا أقيلكم هذا أبدًا، فقد مهما فضرب أعناقهما، فقال له مروان: سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما! فنخس بالقضيب في خاصرته ثم قال: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلا برقةً. قال هشام: قال أبو مخنف: وجاء معقل بن سنان، فجلس مع القوم، فدعا بشراب ليسقى، فقال له مسلم: أي الشراب أحب إليك؟ قال: العسل، قال: اسقوه، فشرب حتى ارتوى، فقال له: أقضيت ريك من شرابك؟ قال: نعم، قال: لا والله لا تشرب بعده شرابًا أبدًا إلا الحميم في نار جهنم، أتذكر مقالتك لأمير المؤمنين: سرت شهرًا، ورجعت شهرًا، وأصبحت صفرًا، اللهم غير - تعني يزيد! فقدمه فضرب عنقه. قال هشام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عقبة بعث عمرو بن محرز الأشجعي فأتاه بمعقل بن سنان فقال له مسلم: مرحبًا بأبي محمد! أراك عطشان! قال: أجل، قال: شوبوا له عسلًا بالثلج الذي حملتموه معنا - وكان له صديقًا قبل ذلك - فشابوه له، فلما شرب معقل قال له: سقاك الله من شراب الجنة؛ فقال له مسلم: أما والله لا تشرب بعدها شرابًا أبدًا حتى تشرب من شراب الحميم؛ قال: أنشدك الله والرحيم! فقال له مسلمٍ: أنت الذي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عند يزيد، فقلت: سرنا شهرًا ورجعنا من عند يزيد صفرًا، نرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين! فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة! إني آليت بيمين لا ألقاك في حرب أقدر فيه على ضرب عنقك إلا فعلت، ثم أمر به فقتل. قال هشام: قال عوانة: وأتى بزيد بن وهب بن زمعة؛ فقال: بايع، قال: أبايعك على سنة عمر؛ قال: اقتلوه؛ قال: أنا أبايع، قال: لا والله لا أقيلك عثرتك، فكلمه مروان بن الحكم - لصهر كان بينهما - فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثم قال: بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية، ثم أمر به فقتل. قال هشام: قال عوانة، عن أبي مخنف. قال: قال عبد الملك بن نوفل ابن مساحق: ثم إن مروان أتي بعلي بن الحسين، وقد كان علي بن الحسين حين أخرجت بنو أمية منع ثقل مروان وامرأته وآواها، ثم خرجت إلى الطائف، فهي أم أبان ابنة عثمان بن عفان، فبعث ابنه عبد الله معها، فشكر ذلك له مروان - وأقبل علي بن الحسين يمشي بين مروان وعبد الملك يلتمس بهما عند مسلم الأمان، فجاء حتى جلس عنده بينهما، فدعا مروان بشراب ليتحرم بذلك من مسلم، فأتي له بشراب، فشرب منه مروان شيئًا يسيرًا، ثم ناوله عليًا، فلما وقع في يده قالله مسلم: لا تشرب من شرابنا، فأرعدت كفه، ولم يأمنه على نفسه، وأمسك القدح بكفه لا يشربه ولا يضعه، فقال: إنك إنما جئت تمشي بين هؤلاء لتأمن عندي؛ والله لو كان هذا الأمر إليهما لقتلتك، ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فذلك نافعك عندي، فإن شئت فاشرب شرابك الذي في يدك، وإن شئت دعونا بغيره، فقال: هذه التي في كفي أريد؛ قال: اشربها، ثم قال: إلي ها هنا، فأجلسه معه. قال هشام: وقال عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الحسين إلى مسلم، قال: من هذا؟ قالوا: هذا علي بن الحين؛ قال: مرحبًا وأهلًا؛ ثم أجلسه معه على السرير والطنفسة، ثم قال: إن أمير المؤمنين أوصاني بك قبلًان وهو يقول: إن هؤلاء الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك؛ ثم قال لعلي: لعل أهلك فزعوا! قال: إي والله، فأمر بدابته فأسرجت، ثم حمله فرده عليها. قال هشام: وذكر عوانة أن عمرو بن عثمان لم يكن فيمن خرج من بني أمية، وأنه أتي به يومئذ إلى مسلم بن عقبة فقال: يا أهل الشام، تعرفون هذا؟ قالوا: لا؛ قال: هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان بن عفان أمير المؤمنين، هيه يا عمرو! إذا ظهر أهل المدينة قلت: أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فأمر به فنتفت لحيته، ثم قال: يا أهل الشام، إن أم هذا كانت تدخل الجعل في فيها ثم تقول: يا أمير المؤمنين حاجيتك، ما في فمي؟ وفي فمها ما ساءها وناءها، فخلى سبيله، وكانت أمه من دوس. قال أبو جعفر الطبري: فحدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وحدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، عن محمد بن عمر، قالا: كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين. وقال بعضهم: لثلاث ليالٍ بقين منه. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن عوف، قال: حج ابن الزبير بالناس سنة ثلاث وستين، وكان يسمى يومئذ العائذ، ويرون الأمر شورى. قال: فلما كانت ليلة هلال المحرم ونحن في منزلنا إذ قدم علينا سعيدٌ مولى المسور بن محرمة، فخبرنا بما أوقع مسلم بأهل المدينة وما نيل منهم، فجاءهم أمرٌ عظيم، فرأيت القوم شهروا وجدوا وأعدوا وعرفوا أنه نازل بهم. وقد ذكر من أمر وقعة الحرة ومقتل ابن الغسيل أمرٌ غير الذي روي عن أبي مخنف، عن الذين روى ذلك عنهم، وذلك ما حدثني أحمد بن زهير قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا جويرية بن أسماء، قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يومًا، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته. فلما هلك معاوية وفد إليه وفدٌ من أهل المدينة، وكان ممن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وكان شريفًا فاضلًا سيدًا عابدًا، معه ثمانية بنين له، فأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى بنيه لكل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم المدينة عبد الله بن حنظلة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم؛ قالوا: قد بلغنا أنه أجداك وأعطاك وأكرمك؛ قال: قد فعل، وما قبلت منه إلا لأتقوى به؛ وحضض الناس فبايعوه، فبلع ذلك يزيد، فبعث مسلم بن عقبة إليهم، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشأم، فصبوا فيه زقًا من قطران، وعور، فأرسل الله السماء عليهم، فلم يستقوا بدلوٍ حتى وردوا المدينة، فخرج إليهم أهل المدينة بجموع كثيرة، وهيئة لم ير مثلها. فلما رآهم أهل الشأم هابوهم وكرهوا قتالهم، ومسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوفالمدينة، وأقحم عليهم بنو حارثة أهل الشأم، وهم على الجد، فانهزم الناس، فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل من الناس، فدخلوا المدينة، وهزم الناس وعبد الله بن حنظلة مستندٌ إلى أحد بنيه يغط نومًا، فنبهه ابنه، فلما فتح عينيه فرأى ما صنع الناس أمر أكبر بنيه، فتقدم حتى قتل، فدخل مسلم بن عقبة المدينة، فدعا الناس للبيعة على أنهم خولٌ ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء. ثم دخلت سنة أربع وستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث قال أبو جعفر: فمن ذلك مسير أهل الشأم إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير ومن كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن معاوية. ولما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثًا، شخص بمن معه من الجند متوجهًا إلى مكة، كالذي ذكر هشام ابن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الملك بن نوفل، أن مسلمًا خرج بالناس إلى مكة يريد ابن الزبير، وخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامي. وأما الواقدي فإنه قال: خلف عليها عمرو بن محرز الأشجعي؛ قال: ويقال: خلف عليها روح بن زنباع الجذامي. ذكر موت مسلم بن عقبة ورمي الكعبة وإحراقها رجع الحديث إلى أبي مخنف. قال: حتى إذا انتهى إلى المشلل - ويقال: إلى قفا المشلل - نزل به الموت، وذلك في آخر المحرم من سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فقال له: يابن برذعة الحمار، أما والله لو كان هذا الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك بعدي، وليس لأمر أمير المؤمنين مردٌّ؛ خذ عني أربعًا: أسرع السير، وعجل الوقاع، وعم الأخبار، ولا تمكن قرشيًا من أذنك. ثم إنه مات، فدفن بقفا المشلل. قال هشام بن محمد الكلبي: وذكر عوانة أن مسلم بن عقبة شخص يريد ابن الزبير، حتى إذا بلغ ثنية هرشا نزل به الموت، فبعث إلى رءوس الأجناد، فقال: إن أمير المؤمنين عهد إلي إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السكوني، والله لو كان الأمر إلي ما فعلت، ولكن أكره معصية أمر أمير المؤمنين عند الموت؛ ثم دعا به فقال: انظر يا برذعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به؛ عم الأخبار، ولا ترع سمعك قريشًا أبدًا، ولا تردن أهل الشأم عن عدوهم، ولا تقميمن إلا ثلاثًا حتى تناجز ابن الزبير الفاسق؛ ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملًا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة. ثم قال لبني مرة: زراعتي التي بحوران صدقةٌ على مرة، وما أغلقت عليه فلانة بابها فهو لها - يعني أم ولده - ثم مات. ولما مات خرج حصين بن نمير بالناس، فقدم على ابن الزبير مكة وقد بايعه أهلها وأهل الحجاز. قال هشام: قال عوانة: قال مسلم قبل الوصية: إن ابني يزعم أن أم ولدي هذه سقتني السم؛ وهو كاذب، هذا داءٌ يصيبنا في بطوننا أهل البيت. قال: وقدم عليه - يعني ابن الزبير - كل أهل المدينة، وقد قدم عليه نجدة بن عامر الحنفي في أناس من الخوارج يمنعون البيت، فقال لأخيه المنذر: ما لهذا الأمر ولدفع هؤلاء القوم غيري وغيرك - وأخوه المنذر ممن شهد الحرة، ثم لحق به - فجرد إليهم أخاه في الناس، فقاتلهم ساعةً قتالًا شديدًا. ثم إن رجلًا من أهل الشأم دعا المنذر إلى المبارزة - قال: والشأمي على بغلة له - فخرج إليه المنذر، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربةً خر صاحبه لها ميتًا، فجثا عبد الله بن الزبير على ركبتيه وهو يقول: يا رب أبرها من أصلها ولا تشدها، وهو يدعو على الذي بارز أخاه. ثم إن أهل الشأم شدوا عليهم شدةً منكرة، وانكشف أصحابه انكشافةً، وعثرت بغلته فقال: تعسًا! ثم نزل وصاح بأصحابه: إلي؛ فأقبل إليه المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، فقاتلوا حتى قتلوا جميعًا. وصابرهم ابن الزبير يجالدهم حتى الليل، ثم انصرفوا عنه؛ وهذا في الحصار الأول. ثم إنهم أقاموا عليه يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله، حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون: خطارةٌ مثل الفنيق المزبد ** نرمي بها أعواد هذا المسجد قال هشام: قال أبو عوانة: جعل عمرو بن حوط السدوسي يقول: كيف ترى صنيع أم فروه ** تأخذهم بين الصفا والمروه يعني بأم فروة المنجنيق. وقال الواقدي: سار الحسين بن نمير حين دفن مسلم بن عقبة بالمشلل لسبع بقين من المحرم، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزبير أربعًا وستين يومًا حتى جاءهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر. ذكر الخبر عن حرق الكعبة وفي هذه السنة حرقت الكعبة. ذكر السبب في إحراقها قال محمد بن عمر: احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء. قال محمد بن عمر: حدثنا رياح بن مسلم، عن أبيه، قال: كانوا يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بها الريح، فاحترقت ثياب الكعبة، واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول. قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن زيد، قال: حدثني عروة بن أذينة، قال: قدمت مكة مع أمي يوم احترقت الكعبة قد خلصت إليها النار، ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت الركن قد اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير، قالوا: هذا احترقت بسببه، أخذ قبسًا في رأس رمح له فطيرت الريح به، فضربت أستار الكعبة ما بين الركن اليماني والأسود. ذكر خبر وفاة يزيد بن معاوية وفيها هلك يزيد بن معاوية، وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوارين من أرض الشأم، لأربع عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين وهو ابن ثمان وثلاثين سنةً في قول بعضهم. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن يحيى، عن هشام بن الوليد المخزومي، أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فيما كتب من ذلك: ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين؛ وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر. وحدثني أحمد بن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، أنه قال: توفي يزيد بن معاوية يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان ليالٍ، وصلى على يزيد ابنه معاوية بن يزيد. وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه قال في سن يزيد خلاف الذي ذكره الزهري؛ والذي قال هشام في ذلك - فيما حدثنا عنه -: استخلف أبو خالد يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان وهو ابن اثنتين وثلاثين سنةً وأشهر في هلال رجب سنة ستين، وولي سنتين وثمانية أشهر، وتوفي لأربع عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول سنة ثلاثٍ وستين وهو ابن خمس وثلاثين، وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبي. ذكر عدد ولده فمنهم معاوية بن يزيد بن معاوية، يكنى أبا ليلى، وهو الذي يقول فيه الشاعر: إني أرى فتنةً قد حان أولها ** والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا وخالد بن يزيد - وكان يكنى أبا هاشم، وكان يقال: إنه أصاب عمل الكيمياء - وأبو سفيان، وأمههما أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، تزوجها بعد يزيد مروان، وهي التي يقول لها الشاعر: انعمي أم خالدٍ ** رب ساعٍ لقاعد وعبد الله بن يزيد، قيل: إنه من أرمى العرب في زمانه، وأمه أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر، وهو الأسوار، وله يقول الشاعر: زعم الناس أن خير قريش ** كلهم حين يذكر الأسوار وعبد الله الأصغر، وعمر، وأبو بكر، وعتبة؛ وحرب، وعبد الرحمن، والربيع، ومحمد؛ لأمهات أولادٍ شتى. خلافة معاوية بن يزيد وفي هذه السنة بويع لمعاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بالشأم بالخلافة، ولعبد الله بن الزبير بالحجاز. ولما هلك يزيد بن معاوية مكث الحصين بن نمير وأهل الشأم يقاتلون ابن الزبير وأصحابه بمكة - فيما ذكر هشام عن عوانة - أربعين يومًا، قد حصروهم حصارًا شديدًا، وضيقوا عليهم. ثم بلغ موته ابن الزبير وأصحابه، ولم يبلغ الحصين بن نمير وأصحابه؛ فحدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني أبو محمد قال: حدثنا زياد بن جيل، قال: بينا حصين بن نمير يقاتل ابن الزبير، إذ جاء موت يزيد؛ فصاح بهم ابن الزبير، فقال: إن طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، فمن كره فليلحق بشأمه، فغدوا عليه يقاتلونه. قال: فقال ابن الزبير للحصين بن نمير: ادن مني أحدثك، فدنا منه فحدثه، فجعل فرس أحدهما يجفل - والجفل: الروث - فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل، فكف الحصين فرسه عنهن، فقال له ابن الزبير: ما لك؟ قال: أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم؛ فقال له ابن الزبير: أتتحرج من هذا وتريد أن تقتل المسلمين! فقال له: لا أقاتلك؛ فأذن لنا نطف بالبيت، وننصرف عنك، ففعل فانصرفوا. وأما عوانة بن الحكم فإنه قال - فيما ذكر هشام، عنه - قال: لما بلغ ابن الزبير موت يزيد - وأهل الشأم لا يعلمون بذلك، قد حصروه حصارًا شديدًا وضيقوا عليه - أخذ يناديهم هو وأهل مكة: علام تقاتلون؟ قد هلك طاغيتكم؛ وأخذوا لا يصدقونه حتى قدم ثابت بن قيس بن المنقع النخعي من أهل الكوفة في رءوس أهل العراق، فمر بالحصين بن نمير - وكان له صديقًا، وكان بينهما صهر، وكان يراه عند معاوية، فكان يعرف فضله وإسلامه وشرفه - فسأل عن الخبر، فأخبره بهلاك يزيد، فبعث الحصين ابن نمير إلى عبد الله بن الزبير، فقال: موعد ما بيننا وبينك الليلة الأبطح، فالتقيا، فقال له الحصين: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر؛ هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشأم، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه أهل الشأم وفرسانهم، فوالله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة؛ فكان سعيد بن عمرو يقول: ما منعه أن يبايعهم ويخرج إلى الشأم إلا تطيرٌ، لأن مكة التي منعه الله بها؛ وكان ذلك من جند مروان، وإن عبد الله والله لو سار معهم حتى يدخل الشأم ما اختلف عليه منهم اثنان. فزعم بعض قريش أنه قال: أنا أهدر تلك الدماء! أما والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة، وأخذ الحصين يكلمه سرًا، وهو يجهر جهرًا، وأخذ يقول: لا والله لا أفعل؛ فقال له الحصين بن نمير: قبح الله من يعدك بعد هذه داهيًا قط أو أديبًا! قد كنت أظن أن لك رأيًا. ألا أراني أكلمك سرًا وتكلمني جهرًا، وأدعوك إلى الخلافة، وتعدني القتل والهلكة! ثم قام فخرج وصاح في الناس، فأقبل فيهم نحو المدينة، وندم ابن الزبير على الذي صنع، فأرسل إليه: أما أن أسير إلى الشأم فلست فاعلًا، وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هنالك فإني مؤمنكم وعادلٌ فيكم. فقال له الحصين: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هنالك أناسًا كثيرًا من أهل هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس، فما أنا صانعٌ؟ فأقبل بأصحابه ومن معه نحو المدينة، فاستقبله علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومعه قتٌّ وشعيرٌ، وهو على راحلة له، فسلم على الحصين، فلم يكد يلتفت إليه، ومع الحصين بن نمير فرسٌ له عتيق، وقد فني قته وشعيره، فهو غرضٌ، وهو يسب غلامه ويقول: من أين نجد هنا لدابتنا علفًا! فقال له علي بن الحسين: هذا علفٌ عندنا، فاعلف منه دابتك، فأقبل على عليٍّ عند ذلك بوجهه، فأمر له بما كان عنده من علف، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشأم فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته ثم نكس عنها، فكانوا يجتمعون في معسكرهم فلا يفترقون. وقالت لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشأم، ففعلوا، ومضى ذلك الجيش حتى دخل الشأم، وقد أوصيى يزيد بن معاوية بالبيعة لابنه معاوية ابن يزيد، فلم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى مات. وحدثني عمر، عن علي بن محمد، قال: لما استخلف معاوية بن يزيد وجمع عمال أبيه، وبويع له بدمشق، هلك بها بعد أربعين يومًا من ولايته. ويكنى أبا عبد الرحمن، وهو أبو ليلى، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة، وتوفي وهو ابن ثلاث عشرة سنةً وثمانية عشر يومًا. وفي هذه السنة بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد، على أن يقوم لهم بأمرهم حتى يصطلح الناس على إمام يرتضونه لأنفسهم، ثم أرسل عبيد الله رسولًا إلى الكوفة يدعوهم إلى مثل الذي فعل من ذلك أهل البصرة، فأبوا عليه، وحصبوا الوالي الذي كان عليهم، ثم خالفه أهل البصرة أيضًا، فهاجت بالبصرة فتنة، ولحق عبيد الله بن زياد بالشأم. ذكر الخبر عما كان من أمر عبيد الله بن زياد وأمر أهل البصرة معه بها بعد موت يزيد وحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، قال: كتب الضحاك ابن قيس إلى قيس بن الهيثم حين مات يزيد بن معاوية: سلامٌ عليك، أما بعد، فإن يزيد بن معاوية قد مات، وأنتم إخواننا، فلا تسبقونا بشيء حتى نختار لأنفسنا. حدثني عمر، قال: حدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن حماد، قال: حدثنا محمد بن أبي عيينة؛ قال: حدثني شهرك، قال: شهدت عبيد الله بن زياد حين مات يزيد بن معاوية قام خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل البصرة، انسبوني، فوالله لتجدن مهاجر والدي ومولدي فيكم، وداري، ولقد وليتكم وما أحصى ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل ولقد أحصى اليوم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفًا، وما أحصى ديوان عمالكم إلا تسعين ألفًا، ولقد أحصي اليوم مائة وأربعين ألفًا، وما تركت لكم ذا ظنةٍ أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم هذا. وإن أمير المؤمنين يزيد بن معاويةً قد توفي، وقد اختلف أهل الشأم، وأنتم اليوم أكثر عددًا، وأعرضه فناءً، وأغناه عن الناس، وأوسعه بلادًا، فاختاروا لأنفسكم رجلًا ترتضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه وتابع، فإن اجتمع أهل الشأم على رجل ترتضونه، دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم عى جديلتكم حتى تعطوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجةٌ، وما يستغني الناس عنكم. فقامت خطباء أهل البصرة فقالوا: قد سمعنا مقالتك أيها الأمير، وإنا والله ما نعلم أحدًا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك؛ فقال: لا حاجة لي في ذلك، فاختاروا لأنفسكم؛ فأبوا عليه، وأبى عليهم، حتى كرروا ذلك عليه ثلاث مرات، فلما أبوا بسط يده فبايعوه، ثم انصرفوا بعد البيعة وهم يقولون: لا يظن ابن مرجانة أنا نستقاد له في الجماعة والفرقة، كذب والله! ثم وثبوا عليه. حدثني عمر، قال زهير: قال: حدثنا وهب، قال: وحدثنا الأسود ابن شيبان، عن خالد بن سمير، أن شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحضين ابن المنذر أتوا عبيد الله ليلًا وهو في دار الإمارة، فبلغ ذلك رجلًا من الحي من بني سدوس؛ قال: فانطلقت فلزمت دار الإمارة، فلبثوا معه حتى مضى عليه الليل، ثم خرجوا ومعهم بغلٌ موقرٌ مالًا؛ قال: فأتيت حضينًا فقلت: مر لي من هذا المال بشيء - قال: وعلى المال مولىً له يقال له: أيوب - فقال: يا أيوب، أعطه مائة درهم؛ قلت: أما مائة درهم والله لا أقبلها، فسكت عني ساعةً، وسار هنيهة، فأقبلت عليه فقلت: مر لي من هذا المال بشيء، فقال: يا أيوب، أعطه مائتي درهم، قلت: لا أقبل والله مائتين، ثم أمر بثلثمائة ثم أربعمائة، فلما انتهينا إلى الطفاوة قلت: مر لي بشيء؛ قال: أرأيت إن لم أفعل ما أنت صانع؟ قلت: أنطلق والله حتى إذا توسطت دور الحي وضعت إصبعي في أذني، ثم صرخت بأعلى صوتي: يا معشر بكر بن وائل، هذا شقيق بن ثور وحضين بن المنذر ومالك بن المسمع، قد انطلقوا إلى ابن زياد، فاختلفوا في دمائكم؛ قال: ما له فعل الله به وفعل! ويلك أعطه خمسمائة درهم؛ قال: فأخذتها ثم صبحت غاديًا على مالك - قال وهب: فلم أحفظ ما أمر له به مالك - قال: ثم رأيت حضينًا فدخلت عليه، فقال: ما صنع ابن عمك؟ فأخبرته وقلت: أعطني من هذا المال؛ فقال: إنا قد أخذنا هذا المال ونجونا به، فلن نخشى من الناس شيئًا، فلم يعطني شيئًا. قال أبو جعفر: وحدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى أن يونس بن حبيب الجرمي حدثه، قال: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي رضي الله عنه وبني أبيه، بعث برءوسهم إلى يزيد بن معاوية، فسر بقتلهم أولًا، وحسنت بذلك منزلة عبيد الله عنده، ثم لم يلبث إلا قليلًا حتى ندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما كان علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي في داري، وحكمته فيما يريد، وإن كان علي في ذلك وكفٌ ووهنٌ في سلطاني، حفظًا لرسول الله ﷺ ورعايةً لحقه وقرابته! لع الله ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلى سبيله ويرجع فلم يفعل، أو يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من ثغور المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر، بما استعظم الناس من قتلي حسينًا؛ مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه! ثم إن عبيد الله بعث مولىً يقال له أيوب بن حمران إلى الشأم ليأتيه بخبر يزيد، فركب عبد الله ذات يوم حتى إذا كان في رحبة القصابين، إذا هو بأيوب بن حمران قد قدم، فلحقه فأسر إليه موت يزيد بن معاوية، فرجع عبيد الله من مسيره ذلك فأتى منزله، وأمر عبد الله بن حصن أحد بني ثعلبة بن يربوع فنادى: الصلاة جامعة. قال أبو عبيدة: وأما عمير بن معن الكاتب، فحدثني قال: الذي بعثه عبيد الله حمران مولاه، فعاد عبيد الله عبد الله بن نافع أخي زياد لأمه، ثم خرج عبيد الله ماشيًا من خوخة كانت في دار نافع إلى المسجد، فلما كان في صحته إذا هو بمولاه حمران أدنى ظلمة عند المساء - وكان حمران رسول عبيد الله بن زياد إلى معاوية حياته وإلى يزيد - فلما رآه ولم يكن آن له أن يقدم - قال: مهيم! قال: خيرٌ، قال: وما وراءك؟ قال: أدنو منك؟ قال: نعم - وأسر إليه موت يزيد واختلاف أمر الناس بالشأم، وكان يزيد مات يوم الخميس للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين - فأقبل عبيد الله من فوره، فأمر مناديًا فنادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد المنبر فنعى يزيد، وعرض بثلبه لقصد يزيد إياه قبل موته حتى يخافه عبيد الله، فقال الأحنف لعبيد الله: إنه قد كانت ليزيد في أعناقنا بيعة، وكان يقال: أعرض عن ذي فنن، فأعرض عنه، ثم قام عبيد الله يذكر اختلاف أهل الشام، وقال: إني قد وليتكم.. ثم ذكر نحو حديث عمر بن شبة، عن زهير بن حرب إلى: فبايعوه عن رضًا منهم ومشورةٍ. ثم قال: فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا في الفرقة! قال: فأقام عبيد الله أميرًا غير كثير حتى جعل سلطانه يضعف، ويأمرنا بالأمر فلا يقضى، ويرى الرأي فيرد عليه، ويأمر بحبس المخطىء فيحال بين أعوانه وبينه. قال أبو عبيدة: فسمعت غيلان بن محمد يحدث عن عثمان البتي، قال: حدثني عبد الرحمن نب جوشن، قال: تبعت جنازةً فلما كان في سوق الإبل إذا رجلٌ على فرس شهباء متقنعٌ بسلاح وفي يده لواء، وهو يقول: أيها الناس، هلموا إلي أدعكم إلى ما لم يدعكم إليه أحد، أدعوكم إلى العائذ بالحرم - يعني عبد الله بن الزبير. قال: فتجمع إليه نويس، فجعلوا يصفقون على يديه، ومضينا حتى صلينا على الجنازة، فلما رجعنا إذا هو قد انضم إليه أكثر من الأولين، ثم أخذ بين دار قيس بن الهيثم بن أسماء بن الصلت السلمي ودار الحارثيين قبل بني تميم في الطريق الذي يأخذ عليهم، فقال: ألا من أرادني فأنا سلمة بن ذؤيب - وهو سلمة بن ذؤيب بن عبد الله بن محكم بن زيد بن رياح بن يربوع بن حنظلة - قال: فلقيني عبد الرحمن بن بكر عند الرحبة، فأخبرته بخبر سلمة بعد رجوعي، فأتى عبد الرحمن عبيد الله فحدثه بالحديث عني، فبعث إلي، فأتيته، فقال: ما هذا الذي خبر به عنك أبو بحر؟ قال: فاقتصصت عليه القصة حتى أتيت على آخرها، فأمر فنودي على المكان: الصلاة جامعة، فتجمع الناس، فأنشأ عبيد الله يقص أمره وأمرهم، وما قد كان دعاهم إلى من يرتضونه، فيبايعه معهم، وإنكم أبيتم غيري، وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار، وقلتم ما قلتم، وإني آمر بالأمر فلا ينفذ، ويرد علي رأيي، وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي، ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم، إرادة أن يفرق جماعتكم، ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف. فقال الأحنف صخر بن قيس ابن معاوية بن حصين بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، والناس جميعًا: نحن نأتيك بسلمة؛ فأتوا سلمة، فإذا جمعه قد كشف، وإذا الفتق قد اتسع على الراتق، وامتنع عليهم، فلما رأوا ذلك قعدوا عن عبيد الله بن زياد فلم يأتوه. قال أبو عبيدة: فحدثني غير واحد، عن سبرة بن الجارود الهذلي، عن أبيه الجارود، قال: وقال عبيد الله في خطبته: يا أهل البصرة، والله لقد لبسنا الخز واليمنة واللين من الثياب حتى لقد أجمنا ذلك وأجمته جلودنا، فما بنا إلى أن نعقبها الحديد! يا أهل البصرة، والله لو اجتمعتم على ذنب عير لتكسروه وما كسرتموه. قال الجارود: فوالله ما رمي بجماح حتى هرب، فتوارى عند مسعود فلما قتل مسعود لحق بالشأم. قال يونس: وكان في بيت مال عبيد الله يوم خطب الناس قبل خروج سلمة ثمانية آلاف ألف أو أقل - وقال علي بن محمد: تسعة عشر ألف ألف - فقال للناس: إن هذا فيئكم، فخذوا أعطياتكم وأرزاق ذراريكم منه، وأمر الكتيبة بتحصيل الناس وتخريج الأسماء، واستعجل الكتاب في ذلك حتى وكل بهم من يحبسهم بالليل في الديوان، وأسرجوا بالشمع. قال: فلما صنعوا ما صنعوا وقعدوا عنه، وكان من خلاف سلمة عليه ما كان، كف عن ذلك، ونقلها حين هرب، فهي إلى اليوم تردد في آل زياد، فيكون فيهم العرس أو المأتم فلا يرى في قريش مثلهم، ولا في قريش أحسن منهم في الغضارة والكسوة. فدعا عبيد الله رؤساء خاصة السلطان، فأرادهم أن يقاتلوا معه، فقالوا: إن أمرنا قوادنا قاتلنا معك، فقال إخوة عبيد الله لعبيد الله: والله ما من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت فئت إليه وإن استمددته أمدك، وقد علمت أن الحرب دول، فلا ندري لعلها تدول عليك، وقد اتخذنا بين أظهر هؤلاء اقوم أموالًا، فإن ظفروا أهلكونا وأهلكوها، فلم تبق لك باقية. وقال له أخوه عبد الله لأبيه وأمه مرجانة: والله لئن قاتلت القوم لأعتمدن على ظبة السيف حتى يخرج من صلبي. فلما رأى ذلك عبيد الله أرسل إلى حارث بن قيس بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن مالك بن فهم، فقال له: يا حار، إن أبي كان أوصاني إن احتجت إلى الهرب يومًا أن أختاركم، وإن نفسي تأبى غيركم، فقال الحارث: قد أبلوك في أبيك ما قد علمت، وأبلوه فلم يجدوا عنده ولا عندك مكافأةً، وما لك مردٌّ إذا اخترتنا، وما أدري كيف أتاني لك إن أخرجتك نهارًا! إني أخاف ألا أصل بك إلى قومي حتى تقتل وأقتل، ولكني أقيم معك حتى إذا وارى دمسٌ دمسًا وهدأت القدم، ردفت خلفي لئلا تعرف، ثم أخذتك على أخوالي بني ناجية، قال عبيد الله: نعم ما رأيت، فأقام حتى إذا قيل: أخوك أم الذئب؛ حمله خلفه، وقد نقل تلك الأموال فأحرزها، ثم انطلق به يمر به على الناس، وكانوا يتحارسونه مخافة الحرورية فيسأل عبيد الله أين نحن؟ فيخبره؛ فلما كانوا في بني سليم قال عبيد الله: أين نحن؟ قال: في بني سليم؛ قال: سلمنا إن شاء الله، فلما أتى بني ناجية قال: أين نحن؟ قال: في بني ناجية؛ قال: نجونا إن شاء الله؛ فقال بنو ناجية: من أنت؟ قال: الحارث بن قيس؛ قالوا: ابن أختكم؛ وعرف رجل منهم عبيد الله فقال: ابن مرجانة! فأرسل سهمًا فوقع في عمامته، ومضى به الحارث حتى ينزله دار نفسه في الجهاضم، ثم مضى إلى مسعود بن عمرو بن عدي بن محارب بن صنيم بن مليح بن شرطان بن معن بن مالك بن فهم، فقالت الأزد ومحمد بن أبي عيينة، فلما رآه مسعود قال: يا حار، قد كان يتعوذ من سوء طوارق الليل، فنعوذ بالله من شر ما طرقتنا به؛ قال الحارث: لم أطرقك إلا بخير، وقد علمت أن قومك قد أنجوا زيادًا فوفوا له، فصارت لهم مكرمة في العرب يفتخرون بها عليهم، وقد بايعتم عبيد الله بيعة الرضا؛ رضًا عن مشورة، وبيعةً أخرى قد كانت في أعناقكم قبل البيعة - يعني بيعة الجماعة - فقال له مسعود: يا حار، أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا في عبيد الله، وقد أبلينا في أبيه ما أبلينا، ثم لم نكافأ عليه، ولم نشكر! ما كنت أحسب أن هذا من رأيك؛ قال الحارث: إنه لا يعاديك أحد على الوفاء ببيعتك حتى تبلغه مأمنه. قال أبو جعفر: وأما عمر فحدثني قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد الجهضمي، عن الحارث بن قيس، قال: عرض نفسه - يعني عبيد الله بن زياد - علي، فقال: أما والله إني لأعرف سوء رأي كان في قومك؛ قال: فوقفت له، فأردفته على بغلتي - وذلك ليلًا - فأخذت على بني سليم، فقال: من هؤلاء؟ قلت: بنو سليم؛ قال: سلمنا إن شاء الله؛ ثم مررنا ببني ناجية وهم جلوسٌ ومعهم السلاح - وكان الناس يتحارسون إذ ذاك في مجالسهم - فقالوا: من هذا؟ قلت: الحارث بن قيس، قالوا: امض راشدًا، فلما مضينا قال رجل منهم: هذا والله ابن مرجانة خلفه، فرماه بسهم، فوضعه في كور عمامته، فقال: يا أبا محمد، من هؤلاء؟ قال: الذين كنت تزعم أنهم من قريش، هؤلاء بنو ناجية؛ قال: نجونا إن شاء الله، ثم قال: يا حارث، إنك قد أحسنت وأجملت، فهل أنت صانع ما أشير عليك؟ قد علمت منزلة مسعود بن عمرو في قومه وشرفه وسنه وطاعة قومه له، فهل لك أن تذهب بي إليه فأكون في داره، فهي وسط الأزد، فإنك إن لم تفعل صدع عليك أمر قومك؛ قلت: نعم؛ فانطلقت به، فما شعر مسعودٌ بشيء حتى دخلنا عليه وهو جالسٌ ليلتئذٍ يوقد بقضيب على لبنةٍ، وهو يعالج خفية قد خلع أحدهما وبقي الآخر، فلما نظر في وجوهنا عرفنا وقال: إنه كان يتعوذ من طوارق السوء، فقلت له: أفتخرجه بعد ما دخل عليك بيتك! قال: فأمره فدخل بيت عبد الغافر بن مسعود - وامرأة عبد الغافر يومئذ خيرة بنت خفاف بن عمرو - قال: ثم ركب مسعود من ليلته ومعه الحارث وجماعة من قومه، فطافوا في الأزد ومجالسهم، فقالوا: إن ابن زياد قد فقد، وإنا لا نأمن أن تلطخوا به، فأصبحوا في السلاح، وفقد الناس ابن زياد فقالوا: أين توجه؟ فقالوا: ما هو إلا في الأزد. قال وهب: فحدثنا أبو بكر بن الفضل، عن قبيصة بن مروان أنهم جعلوا يقولون: أين ترون توجه؟ فقالت عجوز من بني عقيل: أين ترونه توجه! اندحس والله في أجمة أبيه. وكانت وفاة يزيد حين جاءت ابن زياد وفي بيوت مال البصرة ستة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد طائفةً منها في بني أبيه، وحمل الباقي معه، وقد كا دعا البخارية إلى القتال معه، ودعا بني زياد إلى ذلك فأبوا عليه. حدثني عمر، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن عبد الله بن جرير المازني، قال: بعث إلي شقيق بن ثور فقال لي: إنه قد بلغني أن ابن منجوف هذا وابن مسمع يدلجان بالليل إلى دار مسعود ليردا ابن زياد إلى الدار ليصلوا بين هذين الغارين، فيهريقوا دماءكم، ويعزوا أنفسهم، ولقد هممت أن أبعث إلى ابن منجوف فأشده وثاقًا، وأخرجه عني؛ فاذهب إلى مسعود فاقرأ عليه السلام مني، وقل له: إن ابن منجوف وابن مسمع يفعلان كذا وكذا، فأخرج هذين الرجلين عنك. قال: وكان معه عبيد الله وعبد الله ابنا زياد. قال: فدخلت على مسعود وابنا زياد عنده: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فقلت: السلام عليك أبا قيس، قال: وعليك السلام؛ قلت: بعثني إليك شقيق بن ثور يقرأ عليك السلام ويقول لك: إنه بلغني، فرد الكلام بعينه إلى فأخرجهما عنك؛ قال مسعود: والله فعلت ذاك؛ فقال عبيد الله: كيف أبا ثور - ونسي كنيته، إنما كان يكنى أبا الفضل - فقال أخوه عبد الله: إنا والله لا نخرج عنكم، قد أجرتمونا، وعقدتم لنا ذمتكم، فلا نخرج حتى نقتل بين أظهركم، فيكون عارًا عليكم إلى يوم القيامة. قال وهب: حدثنا الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد، أن أهل البصرة اجتمعوا فقلدوا أمرهم النعمان بن صهبان الراسبي ورجلًا من مضر ليختارا لهم رجلًا فيولوه عليهم، وقالوا: من رضيتما لنا فقد رضيناه. وقال غير أبي لبيد: الرجل المضري في بني أمية، ورأي النعمان في بني هاشم، فقال النعمان: ما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر من فلان - لرجل من بني أمية - قال: وذلك رأيك؟ قال: نعم؛ قال: قد قلدتك أمري، ورضيت من رضيت. ثم خرجا إلى الناس، فقال المضري: قد رضيت من رضي النعمان، فمن سمي لكم فأنا به راضٍ؛ فقالوا للنعمان: ما تقول! فقال: ما أرى أحدًا غير عبد الله ابن الحارث - وهو ببة - فقال المضري: ما هذا الذي سميت لي؟ قال: بلى، لعمري إنه لهو، فرضي الناس بعبد الله وبايعوه. قال أصحابنا: دعت مضر إلى العباس بن الأسود بن عوف الزهري، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، ودعت اليمن إلى عبد الله بن الحارث بن نوفل، فتراضى الناس أن حكموا قيس بن الهيثم والنعمان بن صهبان الراسبي لينظرا في أمر الرجلين، فاتفق رأيهما على أن يوليا المضري الهاشمي إلى أن يجتمع أمر الناس على إمام؛ فقيل في ذلك: نزعنا وولينا وبكر بن وائلٍ ** تجر خصاها تبتغي من تحالف فلما أمروا ببه على البصرة ولى شرطته هميان بن عدي السدوسي. قال أبو جعفر: وأما أبو عبيدة فإنه - فيما حدثني محمد بن علي، عن أبي سعدان، عنه - قص من خبر مسعود وعبيد الله بن زياد وأخيه غير القصة التي قصتها وهب بن جرير، عمن روى عنهم خبرهم، قال: حدثني مسلمة ابن محارب بن سلم بن زياد وغيره من آل زياد، عمن أدرك ذلك منهم ومن مواليهم والقوم أعلم بحديثهم، أن الحارث بن قيس لم يكلم مسعودًا، ولكنه آمن عبيد الله، فحمل معه مائة ألف درهم، ثم أتى بها إلى أم بسطام امرأة مسعود، وهي بنت عمه، ومعه عبيد الله وعبد الله ابنا زياد، فاستأذن عليها، فأذنت له، فقال لها الحارث: قد أتيتك بأمر تسودين به نساءك وتتمين به شرف قومك، وتعجلين غنىً ودنيا لك خاصة، هذه مائة ألف درهم فاقبضيها، فهي لك، وضمي عبيد الله. قالت، إني أخاف ألا يرضي مسعود بذلك ولا يقبله؛ فقال الحارث: ألبسيه ثوبًا من أثوابي، وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود؛ فقبضت المال، وفعلت، فلما جاء مسعود أخبرته، فأخذ براسها، فخرج عبيد الله والحارث من حجلتها عليه، فقال عبيد الله: قد أجارتني ابنة عمك عليك، وهذا ثوبك علي، وطعامك في بطني، وقد التف علي بيتك؛ وشهد له على ذلك الحارث، وتلطفا له حتى رضي. قال أبو عبيدة: وأعطى عبيد الله الحارث نحوًا من خمسين ألفًا، فلم يزل عبيد الله في بيت مسعود حتى قتل مسعود؛ قال أبو عبيدة: فحدثني يزيد بن سمير الجرمي، عن سوار بن عبد الله بن سعيد الجرمي؛ قال: فلما هرب عبيد الله غبر أهل البصرة بغير أمير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم، ثم تراضوا برجلين يختاران لهم خيرة، فيرضون بها إذا اجتمعا عليها، فتراضوا بقيس بن الهيثم السلمي، وبنعمان بن سفيان الراسبي - راسب بن جرم ابن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة - أن يختاروا من يرضيان لهم، فذكرا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب - وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية - وكان يلقب ببة، وهو جد سليمان ابن عبد الله بن الحارث، وذكرا عبد الله بن الأسود الزهري. فلما أطبقا عليهما اتعدا المربد، وواعدا الناس أن تجتمع آراؤهم على أحد هذين. قال: فحضر الناس، وحضرت معهم قارعة المربد؛ أي أعلاه، فجاء قيس ابن الهيثم، ثم جاء النعمان بعد، فتجاول قيس والنعمان، فأرى النعمان قيسًا أن هواه في ابن الأسود، ثم قال: إنا لا نستطيع أن نتكلم معًا، وأراده أن يجعل الكلام إليه، ففعل قيس وقد اعتقد أحدهما على الآخر، فأخذ النعمان على الناس عهدًا ليرضون بما يختار. قال: ثم أتى النعمان عبد الله ابن الأسود فأخذ بيده، وجعل يشترط عليه شرائط حتى ظن الناس أنه مبايعه، ثم تركه، وأخذ بيد عبد الله بن الحارث، فاشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر النبي ﷺ وحق أهل بيته وقرابته، ثم قال: يأيها الناس، ما تنقمون من رجل من بني عم نبيكم ﷺ، وأمه هند بنت أبي سفيان! فإن كان فيهم فهو ابن أختكم؛ ثم صفق على يده وقال: ألا إني قد رضيت لكم به، فنادوا: قد رضينا؛ فأقبلوا بعبد الله بن الحارث إلى دار الإمارة حتى نزلها، وذلك في أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين، واستعمل على شرطته هميان بن عدي السدوسي، ونادى في الناس: أن احضروا البيعة، فحضروا فبايعوه، فقال الفرزدق حين بايعه: وبايعت أقوامًا وفيت بعهدهم ** وببة قد بايعته غير نادم قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، عن عمرو بن عيسى، قال: كان منزل مالك بن مسمع الجحدري في الباطنة عند باب عبد الله الإصبهاني في خط بني جحدر، الذي عند مسجد الجامع، فكان مالك يحضر المسجد، فبينا هو قاعد فيه - وذلك بعد يسيرٍ من أمر ببة - وافى الحلقة رجلٌ من ولد عبد الله عامر بن كريز القرشي يريد ببة، ومعه رسالة من عبد الله ابن خازم، وبيعته بهراة، فتنازعوا، فأغلظ القرشي لمالك، فلطم رجلٌ من بكر بن وائل القرشي، فتهايج من ثم من مضر وربيعة، وكثرتهم ربيعة الذين في الحلقة، فنادى رجل: يال تميم! فسمعت الدعوة عصبةٌ من ضبة ابن أد - كانوا عند القاضي - فأخذوا رماح حرس من المسجد وترستهم، ثم شدوا على الربعين فهزموهم، وبلغ ذلك شقيق بن ثور السدوسي - وهو يومئذ رئيس بكر بن وائل - فأقبل إلى المسجد فقال: لا تجدن مضريًا إلا قتلتموه، فبلغ ذلك مالك بن مسمع، فأقبل متفضلًا يسكن الناس، فكف بعضهم عن بعض، فمكث الناس شهرًا أو أقل، وكان رجل من بني يشكر يجالس رجلًا من بني ضبة في المسجد، فتذاكرا لطمة البكري القرشي، ففخر اليشكري. قال: ثم قال: ذهبت ظلفًا. فأحفظ الضبي بذلك، فوجأ عنقه، فوقذه الناس في الجمعة، فحمل إلى أهله ميتًا - أعني اليشكري - فثارت بكر إلى رأسهم أشيم بن شقيق، فقالوا: سر بنا؛ فقال: بل أبعث إليهم رسولًا، فإن سيبوا لنا حقنا وإلا سرنا إليهم، فأبت ذلك بكر، فأتوا مالك بن مسمع - وقد كان قبل ذلك مملكًا عليهم قبل أبشيم، فغلب أشيم على الرياسة حين شخص أشيم إلى يزيد بن معاوية؛ فكتب له إلى عبيد الله بن زياد أن ردوا الرياسة إلى أشيم، فأبت اللهازم، وهم بنو قيس بن ثعلبة وحلفاؤهم عنزة وشيع اللات وحلفاؤها عجل حتى توافواهم وآل ذهل بن شيبان وحلفاؤها يشكر، وذهل ثعلبة وحلفاؤها ضبيعة بن ربيعة بن نزار؛ أربع قبائل وأربع قبائل، وكان هذا الحلف في أهل الوبر في الجاهلية، فكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت في الجاهلية في هذا الحلف، لأنهم أهل مدر، فدخلوا في الإسلام مع أخيهم عجل، فصاروا لهزمةً، ثم تراضوا بحكم عمران بن عصام العنزي أحد بني هميم، وردها إلى أشيم، فلما كانت هذه الفتنة استخفت بكر مالك بن مسمع، فخف وجمع وأعد، فطلب إلى الأزد أن يجددوا الحلف الذي كان بينهم قبل ذلك في الجماعة على يزيد بن معاوية، فقال حارثة بن بدر في ذلك: نزعنا وأمرنا وبكر بن وائل ** تجر خصاها تبتغي من تحالف وما بات بكريٌّ من الدهر ليلةً ** فيصبح إلا وهو للذل عارف قال: فبلغ عبيد الله الخبر - وهو في رحل مسعود - من تباعد ما بين بكر وتميم، فقال لمسعود: الق مالكًا فجدد الحلف الأول؛ فلقيه، فترادا ذلك، وتأبى عليهما نفر من هؤلاء وأولئك، فبعث عبيد الله أخاه عبد الله مع مسعود، فأعطاه جزيلًا من المال، حتى أنفق في ذلك أكثر من مائتي ألف درهم على أن يبايعوهما، وقال عبيد الله لأخيه: استوثق من القوم لأهل اليمن، فجددوا الحلف، وكتبوا بينهم كتابًا سوى الكتابين اللذين كانا كتبا بينهما في الجماعة، فوضعوا كتابًا عند مسعود بن عمرو. قال أبو عبيدة: فحدثني بعض ولد مسعود، أن أول تسمية من فيه، الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، ووضعوا كتابًا عند الصلت بن حريث أول تسميته ابن رجاء العوذي، من عوذ بن سود، وقد كان بينهمه قبل هذا حلف. قال أبو عبيدة: وزعم محمد بن حفص ويونس بن حبيب وهبيرة بن حدير وزهير بن هنيد، أن مضر كانت تكثر ربيعة بالبصرة، وكانت جماعة الأزد آخر من نزل بالبصرة، كانوا حيث مصرت البصرة، فحول عمر بن الخطاب رحمه الله من تنوخ من المسلمين إلى البصرة، وأقامت جماعة الأزد لم يتحولوا، ثم لحقوا بالبصرة بعد ذلك في آخر خلافة معاوية، وأول خلافة يزيد بن معاوية، فلما قدموا قالت بنو تميم للأحنف: بادر إلى هؤلاء قبل أن تسبقنا إليهم ربيعة، وقال الأحنف: إن أتوكم فاقبلوهم، وإلا لا تأتوهم فإنكم إن أتيتموهم صرتم لهم أتباعًا. فأتاهم مالك بن مسمع ورئيس الأزد يومئذ مسعود بن عمرو المعنى، فقال مالك: جددوا حلفنا وحلف كندة في الجاهلية، وحلف بني ذهل بن ثعلبة في طيىء بن أدد من ثعل؛ فقال الأحنف: أما إذ أتوهم فلن يزالوا لهم أتباعًا أذنابًا. قال أبو عبيدة: فحدثني هبيرة بن حدير، عن إسحاق بن سويد، قال: فلما أن جرت بكر إلى نصر الأزد على مضر، وجددوا الحلف الأول، وأرادوا أن يسيروا، قالت الأزد: لا نسير معكم إلا أن يكون الرئيس منا، فرأسوا مسعودًا عليهم. قال أبو عبيدة: فحدثني مسلم بن محارب، قال: قال مسعود لعبيد الله: سر معنا حتى نعيدك في الدار؛ فقال: ما أقدر على ذلك، امض أنت، وأمر برواحله فشدوا عليها أدواتها وسوادها، وتزمل في أهبة السفر، وألقوا له كرسيًا على باب مسعود، فقعد عليه؛ وسار مسعود، وبعث عبيد الله غلمانًا له على الخيل مع مسعود، وقال لهم: إني لا أدري ما يحدث فأقول: إذا كان كذا؛ فليأتني بعضكم بالخبر، ولكن لا يحدثن خير ولا شر إلا أن أتاتي بعضكم به، فجعل مسعو دلا يأتي على سكة، ولا يتجاوز قبيلةً إلا أتى بعض أولئك الغلمان بخبر ذلك، وقدم مسعود ربيعة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا جميعًا سكة المربد، فجاء مسعود حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، وعبد الله بن الحارث في دار الإمارة، فقيل له: إن مسعودًا وأهل اليمن وربيعة قد ساروا، وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بني تميم عليهم! فقال: أبعدهم الله! لا والله لا أفسدت نفسي في إصلاحهم، وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول: لأنكحن ببه ** جاريةً في قبه تمشط رأس لعبه فهذا قول الأزد وربيعة، فأما مضر فيقولون: إن أمه هند بنت أبي سفيان كانت ترقصه وتقول هذا؛ فلما لم يحل أحد بين مسعود وبين صعود المنبر، خرج مالك بن مسمع في كتيبته حتى علا الجبان من سكة المربد، ثم جعل يمر بعدد دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فجعل يحرق دورهم للشحناء التي في صدورهم، لقتل الضبي اليشكري، ولاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة؛ قال: فبينا هو في ذلك إذ أتوه فقالوا: قتلوا مسعودًا، وقالوا: سارت بنو تميم إلى مسعود، فأقبل حتى إذا كان عند مسجد بني قيس في سكة المربد، وبلغه قتل مسعود، وقف. قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، قال: حدثنا الضحاك - أو الوضاح بن خيثمة أحد بني عبد الله بن دارم - قال: حدثني مالك بن دينار، قال: ذهبت في الشباب الذين ذهبوا إلى الأحنف ينظرون؛ قال: فأتيته وأتته بنو تميم، فقالوا: إن مسعودًا قد دخل الدار وأنت سيدنا، فقال: لست بسيدكم، إنما سيدكم الشيطان. وأما هبيرة بن حدير، فحدثني عن إسحاق بن سويد العدوي، قال: أتيت منزل الأحنف في النظارة، فأتوا الأحنف فقالوا: يا أبا بحر، إن ربيعة والأزد قد دخلوا الرحبة، فقال: لستم بأحق بالمسجد منهم؛ ثم أتوه فقالوا: قد دخلوا الدار؛ فقال: لستم بأحق بالدار منهم؛ فتسرع سلمة بن ذؤيب الرياحي، فقال: إلي يا معشر الفتيان، فإنما هذا جبسٌ لا خير لكم عنده، فبدرت ذؤبا بني تميم فانتدب معه خمسمائة، وهم مع ماه أفريذون، فقال لهم سلمة: أين تريدون؟ قالوا: إياكم أردنا؛ قال: فتقدموا. قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، عن أبي نعامة، عن ناشب ابن الحسحاس وحميد بن هلال، قالا: أتينا منزل الأحنف بحضرة المسجد، قالا: فكنا فيمن ينظر، فأتته امرأة بمجمر فقالت: ما لك وللرياسة! تجمر فإنما أنت امرأة؛ فقال: است امرأة أحق بالمجمر؛ فأتوه فقالوا: إن علية بنت ناجية الرياحي - وهي أخت مطر، وقال آخرون: عزة بنت الحر الرياحية - قد سلبت خلاخيلها من ساقيها، وكان منزلها شارعًا في رحبة بني تميم على الميضأة، وقالوا: قتلوا الصباغ الذي على طريقك، وقتلوا المقعد الذي كان على باب المسجد، وقالوا: إن مالك بن مسمع قد دخل سمى بني العدوية من قبل الجبان، فحرق دورًا، فقال الأحنف: أقيموا البينة على هذا، ففي دون هذا ما يحل قتالهم؛ فشهدوا عنده على ذلك، فقال الأحنف: أجاء عباد؟ وهو عباد بن حصين بن يزيد بن عمرو بن أوس بن سيف بن عزم بن حلزة بن بيان بن سعد بن الحارث الحبطة بن عمرو ابن تميم؛ قالوا: لا، ثم مكث غير طويل، فقال: أجاء عباد؟ قالوا: لا؛ قال: فهل ها هنا عبس بن طلق بن ربيعة بن عامر بن بسطام بن الحكم ابن ظالم بن صريم بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد؟ فقالوا: نعم؛ فدعاه، فانتزع معجرًا في رأسه، ثم جثا على ركبتيه، فعقده في رمح ثم دفعه إليه، فقال: سر. قالا: فلما ولي قال: اللهم لا تخزها اليوم، فإنك لم تخزها فيما مضى. وصاح الناس: هاجت زبراء - وزبراء أمة للأحنف، وإنما كنوا بها عنه - قالا: فلما سار عبس جاء عباد في ستين فارسًا فسأل، ما صنع الناس؟ فقالوا: ساروا؛ قال: ومن عليهم؟ قالوا: عبس بن طلق الصريمي؛ فقال عباد: أنا أسير تحت لواء عبس! فرجع والفرسان إلى أهله. فحدثني زهير، قال: حدثنا أبو ريحانة العريني، قال: كنت يوم قتل مسعود تحت بطن فرس الزرد بن عبد الله السعدي أعدو حتى بلغنا شريعة القديم. قال إسحاق بن سويد: فأقبلوا، فلما بلغوا أفواه السكك وقفوا، فقال لهم ماه أفريذو بالفارسية: ما لكم يا معشر الفتيان؟ قالوا: تلقونا بأسنة الرماح؛ فقال لهم بالفارسية: صكوهم بالفنجقان - أي بخمس نشابات في رمية، بالفارسية - والأساورة أربعمائة، فصكوهم بألفي نشابة في دفعة، فأجلوا عن أبواب السكك، وقاموا على باب المسجد، ودلفت التميمية إليهم، فلما بلغوا الأبواب وقفوا، فسألهم ماه أفريذون: ما لكم؟ قالوا: أسندوا إلينا أطراف رماحهم؛ قال: ارموهم أيضًا؛ فرموهم بألفي نشابة، فأجلوهم عن الأبواب، فدخلوا المسجد، فأقبلوا ومسعود يخطب على المنبر ويحضض، فجعل غطفان بن أنيف بن يزيد بن فهدة، أحد بني كعب بن عمرو بن تميم، وكان يزيد بن فهدة فارسًا في الجاهلية يقاتل ويحض قومه ويرتجز: يا لتميمٍ إنها مذكوره ** إن فات مسعودٌ بها مشهوره فاستمسكوا بجانب المقصوره أي لا يهرب فيفوت. قال إسحاق بن يزيد. فأتوا مسعودًا وهو على المنبر يحض، فاستنزلوه فقتلوه، وذلك في أول شوال سنة أربع وستين، فلم يكن القوم شيئًا، فانهزموا. وبادر أشيم بن شقيق القوم بباب المقصورة هاربًا، فطعنه أحدهم، فنجا بها، ففي ذلك يقول الفرزدق: لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ** وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد إذًا لصاحب مسعودًا وصاحبه ** وقد تهافتت الأعفاج والكبد قال أبو عبيدة: فحدثني سلام بن أبي خيرة، وسمعته أيضًا من أبي الخنساء كسيب العنبري يحدث في حلقة يونس، قالا: سمعنا الحسن ابن أبي الحسن يقول في مجلسه في مسجد الأمير: فأقبل مسعود من ها هنا - وأشار بيده إلى منازل الأزد في أمثال الطير - معلمًا بقباء ديباج أصفر مغير بسواد، يأمر الناس بالسنة، وينهى عن الفتنة: ألا إن من السنة أن تأخذ فوق يديك، وهم يقولون: القمر القمر، فوالله ما لبثوا إلا ساعةً حتى صار قمرهم قميرًا، فأتوه فاستنزلوه عن المنبر وهو عليه - قد علم الله - فقتلوه. قال سلام في حديثه: قال الحسن: وجاء الناس من ها هنا - وأشار بيده إلى دور بني تميم. قال أبو عبيدة: فحدثني مسلمة بن محارب، قال: فأتوا عبيد الله فقالوا: قد صعد مسعود المنبر، ولم يرم دون الدار بكثاب، فبيناه في ذلك يتهيأ ليجيء إلى الدار، إذ جاءوا فقالوا: قد قتل مسعود، فاغترز في ركابه فلحق بالشأم، وذلك في شوال سنة أربع وستين. قال أبو عبيدة: فحدثني رواد الكعبي، قال: فأتى مالك بن مسمع أناسٌ من مضر، فحصروه في داره، وحرقوا، ففي ذلك يقول غطفان بن أنيف الكعبي في أرجوزة: وأصبح ابن مسمع محصورا ** يبغي قصورًا دونه ودورا حتى شببنا حوله السعيرا ولما هرب عبيد اللهبن زياد اتبعوه، فأعجز الطلبة، فانتهبوا ما وجدوا له، ففي ذلك يقول وافد بن خليفة بن أسماء، أحد بني صخر بن منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد: يا رب جبار شديد كلبه ** قد صار فينا تاجه وسلبه منهم عبيد الله حين نسلبه ** جياده وبزه وننهبه يوم التقى مقنبنا ومقنبه ** لو لم ينج ابن زيادٍ هربه وقال جرهم بن عبد الله بن قيس، أحد بني العدوية في قتل مسعود في كلمة طويلة: ومسعود بن عمرو إذ أتانا ** صبحنا حد مطرور سنينا رجا التأمير مسعودٌ فأضحى ** صريعًا قد أزرناه المنونا قال أبو جعفر محمد بن جرير: وأما عمر؛ فإنه حدثني في أمر خروج عبيد الله إلى الشأم، قال: حدثني زهير، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثنا الزبير بن الخريت، قال: بعث مسعود مع ابن زياد مائةً من الأزد، عليهم قرة بن عمرو بن قيس، حتى قدموا به الشأم. وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، عن عمرو بن الزبير وخلاد بن يزيد الباهلي والوليد بن هشام، عن عمه، عن أبيه، عن عمرو بن هبيرة، عن يساف بن شريح اليشكري، قال؛ وحدثنيه علي بن محمد، قال - قد اختلفوا فزاد بعضهم على بعض - إن ابن زياد خرج من البصرة، فقال ذات ليلة: إنه قد ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي على ذي حافر؛ قال: فألقيت له قطيفةٌ على حمار، فركبه وإن رجليه لتكادان تخدان في الأرض. قال اليشكري: فإنه ليسير أمامي إذ سكت سكتةً فأطالها، فقلت في نفسي: هذا عبيد الله أمير العراق أمس نائمٌ الساعة على حمار، لو قد سقط منه أعنته؛ ثم قلت: والله لئن كان نائمًا لأنغصن عليه نومه؛ فدنوت منه، فقلت: أنائم أنت؟ قال: لا؛ قلت: فما أسكتك؟ قال: كنت أحدث نفسي؛ قلت: أفلا أحدثك ما كنت تحدث به نفسك؟ قال: هات، فوالله ما أراك تكيس ولا تصيب، قال: قلت: كنت تقول: ليتني لم أقتل الحسين، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت؛ قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت؛ قال: فقال: والله ما نطقت بصواب، ولا سكت عن خطإ، أما الحسين فإنه سار إلي يريد قتلي، فاخترت قتله على أن يقتلني؛ وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي، وأرسل يزيد بألف ألف فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عليها مما لم أعنف فيه؛ وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا في عند معاوية حتى ذكرا قشور الأرز، فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف، فخيرني معاوية بين الضمان والعزل؛ فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت إليه أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضررت بهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون في المطالبة منكم، مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدًا. وأما قولك في السخاء، فوا الله ما كان لي مال فأجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت به بعضكم دون بعض، فيقولون: ما أسخاه! ولكني عممتكم، وكان عندي أنفع لكم. وأما قولك: ليتني لم أكن قتلت من قتلت؛ فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملًا هو أقرب إلى الله عندي من قتلي من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي؛ قلت: ليتني كنت قاتلت أهل البصرة، فإنهم بايعوني طائعين غير مكرهين، وايم الله لقد حرصت على ذلك؛ ولكن بني زياد أتوني فقالوا: إنك إذا قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحدًا، وإن تركتهم تغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره؛ فرفقت لهم فلم أقاتل. وكنت أقول: ليتني كنت أخرجت أهل السجن فضربت أعناقهم، فأما إذ فاتت هاتان فليتني كنت أقدم الشأم ولم يبرموا أمرًا. قال بعضهم: فقدم الشأم ولم يبرموا أمرًا، فكأنما كانوا معه صبيانًا؛ وقال بعضهم: قدم الشأم وقد أبرموا، فنقض ما أبرموا إلى رأيه. وفي هذه السنة طرد أهل الكوفة عمرو بن حريث وعزلوه عنهم، واجتمعوا على عامر بن مسعود. ذكر الخبر عن عزلهم عمرو بن حريث وتأميرهم عامرا قال أبو جعفر: ذكر الهيثم بن عدي، قال: حدثنا ابن عياش، قال: كان أول من جمع له المصران: الكوفة والبصرة زيادًا وابنه، فقتلا من الخوارج ثلاثة عشر ألفًا، وحبس عبيد الله منهم أربعة آلاف، فلما هلك يزيد قام خطيبًا، فقال: إن الذي كنا نقاتل عن طاعته قد مات، فإن أمرتموني جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم. وبعث بذلك إلى أهل الكوفة مقاتل ابن مسمع وسعيد بن قرحا، أحد بني مازن، وخليفته على الكوفة عمرو بن حريث، فقاما بذلك، فقام يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني فقال: الحمد لله الذي أراحنا من ابن سمية، لا ولا كرامة! فأمر به عمرو فلبب ومضي به إلى السجن، فحالت بكر بينهم وبينه، فانطلق يزيد إلى أهله خائفًا، فأرسل إليه محمد بن الأشعث: إنك على رأيك، وتتابعت عليه الرسل بذلك، وصعد عمرو المنبر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس في المسجد فقالوا: نؤمر رجلًا إلى أن يجتمع الناس على خليفة، فأجمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين حسينًا، ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر، فقال محمد بن الأشعث: جاء أمرٌ غير ما كنا فيه، وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله، فاجتمعوا على عامر ابن مسعود، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره. وأما عوانة بن الحكم؛ فإنه قال فيما ذكر هشام بن محمد عنه: لما بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد بعث وافدين من قبله إلى الكوفة: عمرو بن مسمع، وسعد بن القرحا التميمي، ليعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة، ويسألانهم البيعة لعبيد الله بن زياد، حتى يصطلح الناس، فجمع الناس عمرو بن حريث، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم، ويصلح به ذات بينكم، فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشدٍ ما أتياكم. فقام عمرو بن مسمع، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أهل البصرة واجتماع رأيهم على تأمير عبيد الله بن زياد حتى يرى الناس رأيهم فيمن يولون عليهم؛ وقد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدًا، فإنما الكوفة من البصرة والبصرة من الكوفة، وقام ابن القرحا فتكلم نحوًا من كلام صاحبه. قال: فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشيباني - وهو ابن رويم - فحصبهما أول الناس، ثم حصبهما الناس بعد، ثم قال: أنحن نبايع لابن مرجانة! لا ولا كرامة؛ فشرفت تلك الفعلة يزيد في المصر ورفعته، ورجع الوفد إلى البصرة فأعلم الناس الخبر فقالوا: أهل الكوفة يخلعونه، وأنتم تولونه وتبايعونه! فوثب به الناس، وقال: ما كان في ابن زياد وصمةٌ إلا استجارته بالأزد. قال: فلما نابذه الناس استجار بمسعود بن عمرو الأزدي، فأجاره ومنعه، فمكث تسعين يومًا بعد موت يزيد، ثم خرج إلى الشأم، وبعثت الأزد وبكر ابن وائل رجالًا منهم معه حتى أوردوه الشأم، فاستخلف حين توجه إلى الشأم مسعود بن عمرو على البصرة، فقالت بنو تميم وقيس: لا نرضى ولا نجيز ولا نولي إلا رجلًا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: فقد استخلفني فلا أدع ذلك أبدًا؛ فخرج في قومه حتى انتهى إلى القصر فدخله، واجتمعت تميم إلى الأحنف بن قيس فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد؛ قال: ودخل المسجد فمه! إنما هو لكم ولهم، وأنتم تدخلونه؛ قالوا: فإنه قد دخل القصر، فصعد المنبر. وكانت خوارج قد خرجوا، فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عبيد الله بن زياد إلى الشأم، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم أن هذا الرجل الذي قد دخل البصر لنا ولكم عدو، فما يمنعكم من أن تبدءوا به! فجاءت عصابةٌ منهم حتى دخلوا المسجد، ومسعود بن عمرو على المنبر يبايع من أتاه، فيرميه علج يقال له: مسلم من أهل فارس، دخل البصرة فأسلم ثم دخل في الخوارج، فأصاب قلبه فقتله وخرج، وجال الناس بعضهم في بعض فقالوا: قتل مسعود بن عمرو، قتلته الخوارج، فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقالوا لهم: تعلمون أن بني تميم يزعمون أنهم قتلوا مسعود بن عمرو، فبعثت الأزد تسأل عن ذلك؛ فإذا أناسٌ منهم يقولونه، فاجتمعت الأزد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو العتكي، ثم ازدلفوا إلى بني تميم وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد مالك بن مسمع وبكر بن وائل فأقبلوا نحو بني تميم. وأقبلت تميم إلى الأحنف يقولون: قد جاء القوم، اخرج. وهو متمكث، إذ جاءته امرأةٌ من قومه بمجمر فقالت: يا أحنف اجلس على هذا، أي إنما أنت امرأة؛ فقال: استك أحق بها، فما سمع منه بعد كلمةٌ كانت أرفث منها، وكان يعرف بالحلم. ثم إنه دعا برايته فقال: اللهم انصرها ولا تذللها، وإن نصرتها ألا يظهر بها ولا يظهر عليها؛ اللهم احقن دماءنا، وأصلح ذات بيننا. ثم سار وسار ابن أخيه إياس بن معاوية بين يديه، فالتقى القوم فاقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثرة، فقالت لهم بنو تميم: الله الله يا معشر الأزد في دائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بينةٌ أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا، ولا نعلم لصاحبكم قاتلًا، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم. فاصطلحوا، فأتاهم الأحنف بن قيس في وجوه مضر إلى زياد بن عمرو العتكي، فقال: يا معشر الأزد، أنتم جيرتنا في الدار، وإخوتنا عند القتال، وقد أتيناكم في رحالكم لإطفاء حشيشتكم، وسل سخيمتمك، ولكم الحكم مرسلًا، فقولوا على أحلامنا وأموالنا، فإنه لا يتعاظمنا ذهاب شيء من أموالنا كان فيه صلاح بيننا، فقالوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قال: هي لكم؛ فانصرف الناس واصطلحوا؛ فقال الهيثم بن الأسود: أعلى بمسعودٍ الناعي فقلت له ** نعم اليماني تجروا على الناعي أوفى ثمانين ما يسطيعه أحدٌ ** فتىً دعاه لرأس العدة الداعي آوى ابن حرب وقد سدت مذاهبه ** فأوسع السرب منه أي إيساع حتى توارت به أرضٌ وعامرها ** وكان ذا ناصرٍ فيها وأشياع وقال عبيد الله بن الحر: ما زلت أرجو الأزد حتى رأيتها ** تقصر عن بنيانها المتطاول أيقتل مسعودٌ ولم يثأروا به ** وصارت سيوف الأزد مثل المناجل وما خير عقلٍ أورث الأزد ذلةً ** تسب به أحياؤهم في المحافل على أنهم شمطٌ كأن لحاهم ** ثعالب في أعناقها كالجلاجل واجتمع أهل البصرة على أن يجعلوا عليهم منهم أميرًا يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام، فجعلوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر شهرًا، ثم جعلوا ببة - وهو عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب - فصلى بهم شهرين، ثم قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر من قبل ابن الزبير، فمكث شهرًا، ثم قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله، فوليها الحارث وهو القباع. قال أبو جعفر: وأما عمر بن شبة؛ فإنه حدثني في أمر عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز وأمر ببة ومسعود وقتله، وأمر عمر بن عبيد الله غير ما قال هشام عن عوانة. والذي حدثني عمر بن شبة في ذلك أنه قال: حدثني علي بن محمد، عن أبي مقرن عبيد الله الدهني، قال: لما بايع الناس ببة ولى ببة شرطته هميان بن عدي، وقدم على ببة بعض أهل المدينة، وأمر هميان بن عدي بإنزاله قريبًا منه، فأتى هميان دارًا للفيل مولى زياد التي في بني سليم وهم بتفريغها لينزلها إياه، وقد كان هرب وأقبل أبوابه، فمنعت بنو سليم هميان حتى قاتلوه، واستصرخوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز، فأرسل بخاريته ومواليه في السلاح حتى طردوا هميان ومنعوه الدار، وغدا عبد الملك من الغد إلى دار الإمارة ليسلم على ببة، فلقيه على الباب رجلٌ من بني قيس بن ثعلبة، فقال: أنت المعين علينا بالأمس! فرفع يده فلطمه، فضرب قوم من البخارية يد القيسي فأطارها؛ ويقال: بل سلم القيسي، وغضب ابن عامر فرجع، وغضبت له مضر فاجتمعت وأتت بكر بن وائل أشيم بن شقيق بن ثور فاستصرخوه، فأقبل ومعه مالك بن مسمع حتى صعد المنبر فقال: أي مضري وجدتموه فاسلبوه. وزعم بنو مسمع أن مالكًا جاء يومئذ متفضلًا في غير سلاح ليرد أشيم عن رأيه. ثم انصرفت بكر وقد تحاجزوا هم والمضرية، واغتنمت الأزد ذلك، فحالفوا بكرًا، وأقبلوا مع مسعود إلى المسجد الجامع، وفزعت تميم إلى الأحنف، فعقد عمامته على قناة، ودفعها إلى سلمة بن ذؤيب الرياحي، فأقبل بين يديه الأساورة حتى دخل المسجد ومسعود يخطب، فاستنزلوه فقتلوه، وزعمت الأزد أن الأزارقة قتلوه، فكانت الفتنة، وسفر بينهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام حتى رضيت الأزد من مسعود بعشر ديات، ولزم عبد الله بن الحارث بيته، وكان يتدين، وقال: ما كنت لأصلح الناس بفساد نفسي. قال عمر: قال أبو الحسن: فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب إلى أنس بن مالك يأمره بالصلاة بالناس، فصلى بهم أربعين يومًا. حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: كتب ابن الزبير إلى عمر ابن عبيد الله بن معمر التيمي بعهده على البصرة، ووجه به إليه، فوافقه وهم متوجه يريد العمرة، فكتب إلى عبيد الله يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم حتى قدم عمر. حدثني عمر، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، قال: سمعت محمد بن الزبير، قال: كان الناس اصطلحوا على عبد الله بن الحارث الهاشمي، فولي أمرهم أربعة أشهر، وخرج نافع بن الأزرق إلى الأهواز، فقال الناس لعبد الله: إن الناس قد أكل بعضهم بعضًا؛ تؤخذ المرأة من الطريق فلا يمنعها أحد حتى تفضح؛ قال: فتريدون ماذا؟ قالوا: تضع سيفك، وتشد على الناس؛ قال: ما كنت لأصلحهم بفساد نفسي، يا غلام، ناولني نعلي، فانتعل ثم لحق بأهله، وأمر الناس عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي؛ قال أبي، عن الصعب بن زيد: إن الجارف وقع وعبد الله على البصرة، فماتت أمه في الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها إلى حفرتها، وهو الأمير يومئذ. حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: كان ببة قد تناول في عمله على البصرة أربعين ألفًا من بيت المال، فاستودعها رجلًا، فلما قدم عمر بن عبيد الله أميرًا أخذ عبد الله بن الحارث فحبسه، وعذب مولىً له في ذلك المال حتى أغرمه إياه. حدثني عمر قال: حدثني علي بن محمد، عن القافلاني، عن يزيد ابن عبد الله بن الشخير، قال: قلت لعبد الله بن الحارث بن نوفل: رأيتك زمان استعملت علينا أصبت من المال، واتقيت الدم، فقال: إن تبعة المال أهون من تبعة الدم. ذكر الخبر عن ولاية عامر بن مسعود على الكوفة وفي هذه السنة ولى أهل الكوفة عامر بن مسعود أمرهم، فذكر هشام ابن محمد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، أنهم لما ردوا وافدي أهل البصرة اجتمع أشراف أهل الكوفة، فاصطلحوا على أن يصلي بهم عامر بن مسعود - وهو عامر بن مسعود بن خلف القرشي، وهو دحروجة الجعل الذي يقول فيه عبد الله بن همام السلولي: اشدد يديك بزيدٍ إن ظفرت به ** واشف الأرامل من دحروجة الجعل وكان قصيرًا - حتى يرى الناس رأيهم، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، فاجتمع لابن الزبير أهل الكوفة وأهل البصرة ومن بالقبلة من العرب وأهل الشأم، وأهل الجزيرة إلا أهل الأردن. خلافة مروان بن الحكم وفي هذه السنة بويع لمروان بن الحكم بالخلافة بالشأم. ذكر السبب في البيعة له حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: لما بويع عبد الله بن الزبير ولى المدينة عبيدة بن الزبير، وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر، وأخرج بني أمية ومروان بن الحكم إلى الشأم - وعبد الملك يومئذ ابن ثمان وعشرين - فلما قدم حصين بن نمير ومن معه إلى الشأم أخبر مروان بما خلف عليه ابن الزبير، وأنه دعاه إلى البيعة، فأبى فقال له ولبين أمية: نراكم في اختلاط شديد، فأقموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شأمكم، فتكون فتنة عمياء صماء؛ فكان من رأي مروان أن يرحل فينطلق إلى ابن الزبير فيبايعه، فقدم عبيد الله بن زياد واجتمعت عنده بنو أمية، وكان قد بلغ عبيد الله ما يريد مروان، فقال له: استحييت لك مما تريد! أنت كبير قريش وسيدها، تصنع ما تصنعه! فقال: ما فات شيءٌ بعد؛ فقام معه بنو أمية ومواليهم، وتجمع إليه أهل اليمن، فسار وهو يقول: ما فات شيءٌ بعد؛ فقدم دمشق ومن معه، والضحاك بن قيس الفهري قد بايعه أهل دمشق على أن يصلي بهم؛ ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع أمر أمة محمد. وأما عوانة فإنه قال - فيما ذكر هشام عنه - إن يزيد بن معاوية لما مات وابنه معاوية من بعده، وكان معاوية بن يزيد بن معاوية - فيما بلغني - أمر بعد ولايته فنودي بالشأم: الصلاة جامعة! فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلًا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستةً في الشورى مثل ستة عمر، فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم. ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس، وتغيب حتى مات. فقال بعض الناس: دس إليه فسقي سمًا، وقال بعضهم: طعن. رجع الحديث إلى حديث عوانة. ثم قدم عبيد الله بن زياد دمشق وعليها الضحاك ابن قيس الفهري، فثار زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يبايع لعبد الله بن الزبير، وبايع النعمان بن بشير الأنصاري بحمص لابن الزبير، وكان حسان ابن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملًا لمعاوية بن أبي سفيان، ثم ليزيد ابن معاوية بعده، وكان يهوى هوى بني أمية، وكان سيد أهل فلسطين، فدعا حسان بن مالك بن بحدل الكلبي روح بن زنباع الجذامي، فقال: إني مستخلفك على فلسطين، وأدخل هذا الحي من لخم وجذام، ولست بدون رجل إذ كنت عينهم قاتلت بمن معك من قومك. وخرج حسان بن مالك إلى الأردن واستخلف روح بن زنباع على فلسطين، فثار ناتل بن قيس بروح بن زنباع فأخرجه، فاستولى على فلسطين، وبايع لابن الزبير، وقد كان عبد الله بن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة أن ينفي بني أمية من المدينة، فنفوا بعيالاتهم ونسائهم إلى الشأم، فقدمت بنو أمية دمشق وفيها مروان بن الحكم، فكان الناس فريقين: حسان بن مالك بالأردن يهوى هوى بني أمية، ويدعو إليهم؛ والضحاك ابن قيس الفهري بدمشق يهوى هوى عبد الله بن الزبير، ويدعو إليه. قال: فقام حسان بن مالك بالأردن، فقال: يا أهل الأردن، ما شهادتكم على ابن الزبير وعلى قتلي أهل الحرة؟ قالوا: نشهد أن ابن الزبير منافق وأن قتلى أهل الحرة في النار؛ قال: فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرة؟ قالوا: نشهد أن يزيد على الحق، وأن قتلانا في الجنة؛ قال: وأنا أشهد لئن كان دين يزيد بن معاوية وهي حي حقًا يومئذ إنه اليوم وشيعته على حق؛ وإن كان ابن الزبير يومئذ وشيعته على باطل إنه اليوم على باطل وشيعته؛ قالوا له: قد صدقت، نحن نيايعك على أن نقاتل من خالفك من الناس، وأطاع ابن الزبير، على أن تجنبنا هذين الغلامين، فإنا نكره ذلك - يعنون ابني يزيد بن معاوية عبد الله وخالدًا - فإنهما حديثةٌ أسنانهما، ونحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي. وقد كان الضحاك ابن قيس بدمشق يهوى هوى ابن الزبير؛ وكان يمنعه من إظهار ذلك أن بني أمية كانوا بحضرته، وكان يعمل في ذلك سرًا، فبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بحدل، فكتب إلى الضحاك كتابًا يعظم فيه حق بني أمية، ويذكر الطاعة والجماعة وحسن بلاء بني أمية عنده وصنيعهم إليه، ويدعوه إلى طاعتهم، ويذكر ابن الزبير ويقع فيه ويشتمه، ويذكر أنه منافق، قد خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس. ودعا رجلًا من كلب يدعى ناغضة فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك بن قيس، وكتب حسان بن مالك نسخة ذلك الكتاب، ودفعه إلى ناغضة، وقال: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس وإلا فقم فاقرأ هذا الكتاب على الناس؛ وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك فدفعه إليه ودفع كتاب بني أمية إليهم، فلما كان يوم الجمعة صعد الضحاك المنبر فقام إليه ناغضة، فقال: أصلح الله الأمير! ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس، فقال له الضحاك: اجلس، فجلس؛ ثم قام إليه الثانية فقال له: اجلس؛ ثم قام إليه الثالثة فقال له: اجلس، فلما رآه ناغضة لا يفعل أخرج الكتاب الذي معه فقرأه على الناس، فقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فصدق حسانًا وكذب ابن الزبير وشتمه، وقام يزيد بن أبي النمس الغساني. فصدق مقالة حسان وكتابه، وشتم ابن الزبير، وقام سفيان بن الأبرد الكلبي فصدق مقالة حسان وكتابه، وشتم ابن الزبير. وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وأثنى على ابن الزبير، واضطرب الناس تبعًا لهم، ثم أمر الضحاك بالوليد بن عتبة ويزيد بن أبي النمس وسفيان ابن الأبرد الذين كانوا صدقوا مقالة حسان وشتموا ابن الزبير فحبسوا، وجال الناس بعضهم في بعض، ووثبت كلب على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه وحرقوه بالنار، وخرقوا ثيابه. وقام خالج بن يزيد بن معاوية فصعد مرقاتين من المنبر وهو يومئذ غلام، والضحاك بن قيس على المنبر، فتكلم خالد بن يزيد بكلام أوجز فيه لم يسمع مثله، وسكن الناس ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة، ثم دخل فجاءت كلب فأخرجوا سفيان بن الأبرد، وجاءت غسان فأخرجوا يزيد بن أبي النمس، فقال الوليد بن عتبة: لو كنت من كلب أو غسان أخرجت. قال: فجاء ابنا يزيد بن معاوية: خالج وعبد الله؛ معهما أخوالهما من كلب فأخرجوه من السجن، فكان ذلك اليوم يسميه أهل الشأم يوم جيرون الأول. وأقام الناس بدمشق، وخرج الضحاك إلى مسجد دمشق، فجلس فيه فذكر يزيد بن معاوية، فوقع فيه، فقام إليه شابٌّ من كلب بعصًا معه فضربه بها، والناس جلوس في الحلق متقلدي السيوف، فقام بعضهم إلى بعض في المسجد، فاقتتلوا؛ قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد، ويتعصبون ليزيد، ودخل الضحاك دار الإمارة، وأصبح الناس فلم يخرج إلى صلاة الفجر، وكان من الأجناد ناس يهوون هوى بني أمية، وناس يهوون هوى ابن الزبير، فبعث الضحاك إلى بني أمية فدخلوا عليه من الغد، فاعتذر إليهم، وذر حسن بلائهم عند مواليه وعنده، وأنه ليس يريد شيئًا يكرهونه. قال: فتكتبون إلى حسان ونكتب، فيسير من الأردن حتى ينزل الجابية، ونسير نحن وأنتم حتى نوافيه بها فنبايع لرجل منكم، فرضيت بذلك بنو أمية، وكتبوا إلى حسان، وكتب إليه الضحاك، وخرج الناس وخرجت بنو أمية واستقبلت الرايات، وتوجهوا يريدون الجابية، فجاء ثور بن معن بن يزيد ابن الأخنس السلمي إلى الضحاك، فقال: دعوتنا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك، وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخيه خالد ابن يزيد! فقال له الضحاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نظهر ما كنا نسر وندعو إلى طاعة ابن الزبير، ونقاتل عليها، فمال الضحاك بمن معه من الناس فعطفهم، ثم أقبل يسير حتى نزل بمرج راهط. واختلف في الوقعة التي كانت بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان ابن الحكم، فقال محمد بن عمر الواقدي: بويع مروان بن الحكم في المحرم سنة خمس وستين، وكان مروان بالشأم لا يحدث نفسه بهذا الأمر حتى أطمعه فيه عبيد الله بن زياد حين قدم عليه من العراق، فقال له: أنت كبير قريش ورئيسها، يلي عليك الضحاك بن قيس! فذلك حين كان ما كان، فخرج إلى الضحاك في جيش، فقتلهم مروان والضحاك يومئذ في طاعة ابن الزبير، وقتلت قيس بمرج راهط مقتلةً لم يقتل مثلها في موطن قط. قال محمد بن عمر: حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، قال: قتل الضحاك يوم مرج راهط على أنه يدعو إلى عبد الله بن الزبير، وكتب به إلى عبد الله لما ذكر عنه من طاعته وحسن رأيه. وقال غير واحد: كانت الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان في سنة أربع وستين. وقد حدثت عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني موسى ابن يعقوب، عن أبي الحويرث، قال: قال أهل الأردن وغيرهم لمروان: أنت شيخٌ كبير، وابن يزيد غلام وابن الزبير كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها، فبايعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين. قال محمد بن عمر: وحدثني مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله أن الضحاك لما بلغه أن مروان قد بايعه من بايعه على الخلافة، بايع من معه لابن الزبير، ثم سار كل واحد منهما إلى صاحبه، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل الضحاك وأصحابه. قال محمد بن عمر: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه؛ قال: لما ولي المدينة عبد الرحمن بن الضحاك كان فتىً شابًا، فقال: إن الضحاك ابن قيس قد كان دعا قيسًا وغيرها إلى البيعة لنفسه، فبايعهم يومئذ على الخلافة، فقال له زفر بن عقيل الفهري: هذا الذي كنا نعرف ونسمع، وإن بني الزبير يقولون: إنما كان بايع لعبد الله بن الزبير، وخرج في طاعته حتى قتل، الباطل والله يقولون؛ كان أول ذاك أن قريشًا دعته إليها، فأبى عليها حتى دخل فيها كارهًا. ذكر الخبر عن الوقعة بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان بن الحكم وتمام الخبر عن الكائن من جليل الأخبار والأحداث في سنة أربع وستين قال أبو جعفر: حدثنا نوح بن حبيب، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم الكلبي، قال: مال الضحاك بن قيس بمن معه من الناس حين سار يريد الجابية للقاء حسان بن مالك، فعطفهم، ثم أقبل يسير حتى نزل بمرج راهط، وأظهر البيعة لابن الزبير وخلع بين أمية، وبايعه على ذلك جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم. قال: وسارت بنو أمية ومن تبعهم حتى وافوا حسان بالجابية، فصلى بهم حسان أريعن يومًا، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك إلى النعمان بن بشير وهو على حمص، وإلى زفر بن الحارث وهو على قنسرين، وإلى ناتل ابن قيس وهو على فلسطين يستمدهم، وكانوا على طاعة ابن الزبير، فأمده النعمان بشرحبيل بن ذي الكلاع، وأمده زفر بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعت الأجناد إلى الضحاك بالمرج. وكان الناس بالجابية لهم أهواء مختلفة، فأما مالك بن هبيرة السكوني فكان يهوى هوى بني يزيد بن معاوية، ويحب أن تكون الخلافة فيهم، وأما الحصين بن نمير السكوني فكان يهوى أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم، فقال مالك بن هبيرة لحصين بن نمير: هلم فلنبايع لهذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه، وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كانت من أبيه، فإنه يحملنا على رقاب العرب غدًا - يعني خالد بن يزيد - فقال الحصين: لا، لعمر الله، لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيهم بصبي؛ فقال مالك: هذا ولم تردى تهامة ولما يبلغ الحزام الطبيين؛ فقالوا: مهلًا يا أبا سليمان! فقال له مالك: والله لئن استخلفت مروان وآل مروان ليحسدنك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها؛ إن مروان أبو عشيرة، وأخو عشيرة، وعم عشيرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدًا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم خالد، فقال حصين: إني رأيت في المنام قنديلًا معلقًا من السماء، وإن من يمد عنقه إلى الخلافة تناوله فلم ينله، وتناوله مروان فناله، والله لنستخلفنه؛ فقال له مالك: ويحك يا حصين! أتبايع لمروان وآل مروان وأنت تعلم أنهم أهل بيت من قيس! فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع الجذامي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنكم تذكرون عبد الله بن عمر ابن الخطاب وصحبته من رسول الله ﷺ، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون؛ ولكن ابن عمر رجلٌ ضعيفٌ، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير ويدعون إليه من أمره فهو والله كما يذكرون بأنه لابن الزبير حواري رسول الله ﷺ وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله؛ ولكن ابن الزبير منافق، قد خلع خليفتين: يزيد وابنه معاوية ابن يزيد، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين، وليس صاحب أمر أمة محمد ﷺ المنافق؛ وأما مروان بن الحكم؛ فوالله ما كان في الإسلام صدعٌ قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير - يعني بالكبير مروان بن الحكم، وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية. قال: فأجمع رأي الناس على البيعة لمروان، ثم لخالد بن يزيد من بعده، ثم لعمرو ابن سعيد بن العاص من بعد خالد، على أن إمارة دمشق لعمرو بن سعيد ابن العاص، وإمارة حمص لخالد بن يزيد بن معاوية. قال: فدعا حسان ابن مالك بن بجدل خالد بن يزيد فقال: ابني أختي، إن الناس قد أبوك لحداثة سنك، وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مروان إلا نظرًا لكم؛ فقال له خالد بن يزيد: بل عجزت عنا، قال: لا والله ما عجزت عنك، ولكن الرأي لك ما رأيت. ثم دعا حسان بمروان فقال: يا مروان، إن الناس والله ما كلهم يرضى بك، فقال له مروان: إن يرد الله أن يعطينها لا يمنعني إياها أحدٌ من خلقه، وإن يرد أن يمنعنيها لا يعطنيها أحدٌ من خلقه. قال: فقال له حسان: صدقت، وصعد حسان المنبر يوم الاثنين، فقال: يأيها الناس، إنا نستخلف يوم الخميس إن شاء الله؛ فلما كان يوم الخميس بايع لمروان، وبايع الناس له، وسار مروان إلى الجابية في الناس حتى نزل مرج راهط على الضحاك في أهل الأردن من كلب، وأتته السكاسك والسكون وغسان، وربع حسان بن مالك بن بحدل إلى الأردن. قال: وعلى ميمنته - أعني مروان - عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وعلى ميمنة الضحاك زياد بن عمرو بن معاوية العقيلي وعلى ميسرته رجل آخر لم أحفظ اسمه، وكان يزيد بن أبي النمس الغساني لم يشهد الجابية؛ وكان مختبئًا بدمشق، فلما نزل مروان مرج راهط ثار يزيد ابن أبي نمس بأهل دمشق في عبيدها، فغلب عليها، وأخرج عامل الضحاك منها، وغلب على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول فتح فتح على بني أمية. قال: وقاتل مروان الضحاك عشرين ليلةً كان، ثم هزم أهل المرج، وقتلوا وقتل الضحاك، وقتل يومئذ من أشراف الناس من أهل الشام ممن كان مع الضحاك ثمانون رجلًا كلهم كان يأخذ القطيفة، والذي كان يأخذ القطيفة يأخذ ألفين في العطاء، وقتل أهل الشأم يومئذ مقتلةً عظيمةً لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها، وقتل مع الضحاك يومئذ رجل من كلب من بني عليم يقال له مالك بن يزيد بن مالك بن كعب، وقتل يومئذ صاحب لواء قضاعة حيث دخلت قضاعة الشأم، وهو جد مدلج ابن المقدام بن زمل بن عمرو بن ربيعة بن عمرو الجرشي، وقتل ثور بن معن بن يزيد السلمي، وهو الذي كان رد الضحاك عن رأيه. قال: وجاء برأس الضحاك رجلٌ من كلب؛ وذكروا أن مروان حين أتى برأسه ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض! م يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها، وقتل مع الضحاك يومئذ رجل من كلب من بني عليم يقال له مالك بن يزيد بن مالك بن كعب، وقتل يومئذ صاحب لواء قضاعة حيث دخلت قضاعة الشأم، وهو جد مدلج ابن المقدام بن زمل بن عمرو بن ربيعة بن عمرو الجرشي، وقتل ثور بن معن بن يزيد السلمي، وهو الذي كان رد الضحاك عن رأيه. قال: وجاء برأس الضحاك رجلٌ من كلب؛ وذكروا أن مروان حين أتى برأسه ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض! قال: وذكروا أنه مر يومئذ برجل قتيل فقال: وما ضرهم غير حين النفو ** س أي أميري قريش غلب وقال مروان حين بويع له ودعا إلى نفسه: لما رأيت الأمر أمرًا نهبا ** سيرت غسان لهم وكلبا والسكسكيين رجالًا غلبا ** وطيئًا تأباه إلا ضربنا والفين تمشي في الحديد نكبا ** ومن تنوخ مشمخرًا صعبا لا يأخذون الملك إلا غصبا ** وإن دنت قيسٌ فقل لا قربا قال هشام بن محمد: حدثني أبو مخنف لوط بن يحيى، قال: حدثني رجل من بني عبيد ود من أهل الشأم، قال: حدثني من شهد مقتل الضحاك ابن قيس، قال: مر بنا رجلٌ من كلب يقال له زحنة بن عبد الله، كأنما يرمى بالرجال الجداء، ما يطعن رجلًا إلا صرعه، ولا يضرب رجلًا إلى قتله، فجعلت أنظر إليه أتعجب من فعله ومن قتله الرجال، إذ حمل عليه رجل فصرعه زحنة وتركه، فأتيته فنظرت إلى المقتول فإذا هو الضحاك بن قيس، فأخذت رأسه فأتيت به إلى مروان، فقال: أنت قتلته؟ فقلت: لا، ولن قتله زحنة بن عبد الله الكلب، فأعجبه صدقي إياه، وتركي ادعاءه، فأمر لي بمعروف، وأحسن إلى زحنة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، قال: والله إن راية مروان يومئذ لمعي، وإنه ليدفع بنعل سيفه في ظهري، وقال: ادن برايتك لا أبا لك! إن هؤلاء لو قد وجدوا لهم حد السيوف انفرجوا انفراج الرأس، وانفراج الغنم عن راعيها. قال: وكان مروان في ستة آلاف، وكان على خيله عبيد الله بن زياد، وكان على الرجال مالك ابن هبيرة؛ قال عبد الملك بن نوفل: وذكروا أن بشر بن مروان كانت معه يومئذ رايةٌ يقاتل بها وهو يقول: إن على الرئيس حقًا حقا ** أن يخضب الصعدة أو تندقا قال: وصرع يومئذ عبد العزيز بن مروان؛ قال: ومر مروان يومئذ برجل من محارب وهو في نفر يسيرٍ تحت راية يقات عن مروان، فقال مروان: يرحمك الله! لو أنك انضممت بأصحابك، فإني أراك في قلة! فقال: إن معنا يا أمير المؤمنين من الملائكة مدادًا أضعافًا من تأمرنا ننضم إليه، قال: فسر بذلك مروان وضحك، وضم أناسًا إليه ممن كان حوله؛ قال: وخرج الناس منهزمين من المرج إلى أجنادهم، فانتهى أهل حمص إلى حمص والنعمان بن بشير عليها، فلما بلغ النعمان الخبر خرج هاربًا ليلًا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية، ومع ثقله وولده، فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه؛ وكان الذي طلبه رجل من الكلاعيين يقال له عمرو بن الخلي فقتله، وأقبل برأس النعمان بن بشير وبنائلة امرأته وولدها، فألقى الرأس في حجر أم أبان ابنة النعمان التي كانت تحت الحجاج بن يوسف بعد. قال: فقالت نائلة: ألقوا الرأس إلي فأنا أحق به منها، فألقي الرأس في حجرها، ثم أقبلوا بهم وبالرأس حتى انتهوا بهم إلى حمص، فجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها؛ قال: وخرج زفر بن الحارث من قنسرين هاربًا فلحق بقرقيسيا، فلما انتهى إليها وعليها عياضٌ الجرشي وهو ابن أسلم بن كعب بن مالك بن لغز بن أسود بن كعب بن حدس بن أسلم - وكان يزيد بن معاوية ولاه قرقيسيا، فحال عياض بين زفر وبين دخول قرقيسيا، فقال له زفر: أوثق لك بالطلاق والعتاق إذا أنا دخلت حمامها أن أخرج منها؛ فلما انتهى إليها ودخلها لم يدخل حمامها وأقام بها، وأخرج عياضًا منها، وتحصن زفر بها وثابت إليه قيس. قال: وخرج ناتل بن قيس الجذامي صاحب فلسطين هاربًا، فلحق بابن الزبير بمكة، وأطبق أهل الشأم على مروان، واستوثقوا له، واستعمل عليها عماله. قال أبو مخنف: حدثني رجل من بني عبد ود من أهل الشأم - يعني الشرقي - قال: وخرج مروان حتى أتى مصر بعد ما اجتمع له أمر الشأم، فقدم مصر وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إليه فيمن معه من بني فهر، وبعث مروان عمرو بن سعيد الأشدق من ورائه حتى دخل مصر، وقام على منبرها يخطب الناس، وقيل لهم: قد دخل عمرو مصر، فرجعوا، وأمر الناس مروان وبايعوه، ثم أقبل راجعًا نحو دمشق، حتى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث أخاه مصعب بن الزبير نحو فلسطين، فسرح إليه مروان عمرو بن سعيد بن العاص في جيش، واستقبله قبل أن يدخل الشأم، فقاتله فهزم أصحاب مصعب، وكان معه رجلٌ من بني عذرة يقال له محمد بن حريث بن سليم، وهو خال بني الأشدق، فقال: والله ما رأيت مثل مصعب بن الزبير رجلًا قط أشد قتالًا فارسًا وراجلًا، ولقد رأيته في الطريق يترجل فيطرد بأصحابه، ويشد على رجليه، حتى رأيتهما قد دميتا. قال: وانصرف مروان حتى استقرت به دمشق، ورجع إليه عمرو بن سعيد. قال: ويقال: إنه لما قدم عبيد الله بن زياد من العراق، فنزل الشأم أصاب بن أمية بتدمر، قد نفاهم ابن الزبير من المدينة ومكة، ومن الحجاز كله، فنزلوا بتدمر، وأصابوا الضحاك بن قيس أميرًا على الشأم لعبد الله بن الزبير، فقدم ابن زياد حين قدم ومروان يريد أن يركب إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة، فيأخذ منه الأمان لبني أمية؛ فقال له ابن زياد: أنشدك الله ألا تفعل، ليس هذا برأي أن تنطلق وأنت شيخ قريش إلى أبي خبيب بالخلافة، ولكن ادع أهل تدمر فبايعهم، ثم سر بهم وبمن معك من بني أمية إلى الضحاك بن قيس حتى تخرجه من الشأم؛ فقال عمرو بن سعيد بن العاص: صدق والله عبيد الله بن زياد، ثم أنت سيد قريش وفرعها، وأنت أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، إنما ينظر الناس إلى هذا الغلام - يعني خالد بن يزيد بن معاوية - فتزوج أمه فيكون في حجرك؛ قال: ففعل مروان ذلك، فتزوج أم خالد بن يزيد، وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. ثم جمع بني أمية فبايعوه بالإمارة عليهم، وبايعه أهل تدمر ثم سار في جمع عظيم إلى الضحاك بن قيس، وهو يومئذ بدمشق، فلما بلغ الضحاك ما صنع بنو أمية ومسيرتهم إليه، خرج بمن تبعه من أهل دمشق وغيرهم، فيهم زفر بن الحارث، فالتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالًا شديدًا فقتل الضحاك بن قيس الفهري وعامة أصحابه، وانهزم بقيتهم، فتفرقوا، وأخذ زفر بن الحارث وجهًا من تلك الوجوه، هو وشابان من بني سليم فجاءت خيل مروان تطلبهم، فلما خاف السلميان أن تلحقهم خيل مروان قالا لزفر: يا هذا، انج بنفسك، فأما نحن فمقتولان، فمضى زفر وتركهما حتى أتى قرقيسيا، فاجتمعت إليه قيس، فرأسوه عليهم، فذلك حيث يقول زفر بن الحارث: أريني سلاحي لا أبا لك إنني ** أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا أتاني عن مروان بالغيب أنه ** مقيدٌ دمي أو قاطعٌ من لسانيا ففي العيس منجاةٌ في الأرض مهرب ** إذا نحن رفعنا لهن المثانيا فلا تحسبوني إن تغيبت غافلًا ** ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا فقد ينبت المرعى على دمن الثرى ** وتبقى حزازات النفوس كما هيا أتذهب كلبٌ لم تنلها رماحنا ** وتترك قتلى راهط هي ما هيا! لعمري لقد أبقت وقيعة راهطٍ ** لحسان صدعًا بينًا متنائيا أبعد ابن عمرٍو وابن معنٍ تتابعا ** ومقتل همامٍ أمني الأمانيا! فلم تر مني نبوةٌ قبل هذه ** فراري وتركي صاحبي ورائيا عشية أعدو بالقران فلا أرى ** من الناس إلا من علي ولا ليا أيذهب يومٌ واحدٌ إن أسأته ** بصالح أيامي وحسن بلائيا! فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا ** وتثأر من نسوان كلب نسائيا ألا ليت شعري هل تصيبن غارتي ** تنوخًا وحيي طيىءٍ من شفائيا فأجابه جواس بن قعطل: لعمري لقد أبقت وقيعة راهطٍ ** على زفرٍ داءً من الداء باقيا مقيمًا ثوى بين الضلوع محله ** وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا تبكي على قتلي سليم وعامرٍ ** وذبيان معذورًا وتبكي البواكيا دعا بسلاحٍ ثم أحجم إذ رأى ** سيوف جنابٍ والطوال المذاكيا عليها كأسد الغاب فتيان نجدةٍ ** إذا شرعوا نحو الطعان العواليا فأجابه عمر بن المخلا الكلبي من تيم اللات بن رفيدة، فقال: بكى زفر القيسي من هلك قومه ** بعبرة عينٍ ما يجف سجومها يبكي على قتلى أصيبت براهطٍ ** تجاوبه هام القفار وبومها أبحنا حمىً للحي قيسٍ براهط ** وولت شلالًا واستبيح حريمها يبكيهم حران تجري دموعه ** يرجي نزارًا أن تئوب حلومها فمت كمدًا أو عش ذليلًا مهضمًا ** بحسرة نفس لا تنام همومها إذا خطرت حولي قضاعة بالقنا ** تخبط فعل المصعبات قرومها خبطت بهم من كادني من قبيلة ** فمن ذا إذا عز الخطوب يرومها وقال زفر بن الحارث أيضًا: أفي الله أما بحدلٌ وابن بحدل ** فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل! كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ** ولما يكن يومٌ أغر محجل ولما يكن للمشرفية فوقكم ** شعاعٌ كقرن الشمس حين ترجل فأجابه عبد الرحمن بن الحكم، أخو مروان بن الحكم، فقال: أتذهب كلب قد حمتها رماحها ** وتترك قتلى راهطٍ ما أجنت! لحا الله قيسًا قيس عيلان إنها ** أضاعت ثغور المسلمين وولت فباه بقيسٍ في الرخاء ولا تكن ** أخاها إذا ما المشرفية سلت قال أبو جعفر: ولما بايع حصين بن نمير مروان بن الحكم وعصا مالك بن هبيرة فيما أشار به عليه من بيعة خالد بن يزيد بن معاوية، واستقر لمروان بن الحكم الملك، وقد كان الحصين بن نمير اشترط على مروان أن ينزل البلقاء من كان بالشأم من كندة، وأن يجعلها لهم مأكلةً، فأعطاه ذلك؛ وإن بني الحكم لما استوثق الأمر لمروان، وقد كانوا اشترطوا لخالد بن يزيد بن معاوية شروطًا؛ قال مروان ذات يوم وهو جالسٌ في مجلسه ومالك بن هبيرة جالس عنده: إن قومًا يدعون شروطًا منهم عطارة مكحلة - يعني مالك بن هبيرة وكان رجلًا يتطيب ويكتحل - فقال مالك بن هبيرة: هذا ولما تردى تهامة، ولما يبلغ الحزام الطبيين؛ فقال مروان: مهلًا يا أبا سليمان، إنما داعبناك؛ فقال مالك: هو ذاك. وقال عويج الطائي يمتدح كلبًا وحميد بن بحدل: لقد علم الأقوام وقع ابن بحدلٍ ** وأخرى عليهم إن بقي سيعيدها يقودون أولاد الوجيه ولاحقٍ ** من الريف شهرًا ما يني من يقودها فهذا لهذا ثم إني لنافضٌ ** على الناس أقوامًا كثيرًا حدودها فلولا أمير المؤمنين لأصبحت ** قضاعة أربابًا وقيس عبيدها وفي هذه السنة بايع جند خراسان لسلم بن زياد بعد موت يزيد بن معاوية، على أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفة. ذكر الخبر عن فتنة عبد الله بن خازم وبيعة سلم بن زياد وفيها كانت فتنة عبد الله بن خازم بخراسان. ذكر الخبر عن ذلك حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: أخبرنا مسلمة ابن محارب، قال: بعث سلم بن زياد بما أصاب من هدايا سمرقند وخوارزم إلى يزيد بن معاوية مع عبد الله بن خازم، وأقام سلم واليًا على خراسان حتى مات يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، فبلغ سلمًا موته، وأتاه مقتل يزيد بن زياد في سجستان وأسر أبي عبيدة بن زياد، وكتم الخبر سلم، فقال ابن عرادة: يأيها الملك المغلق بابه ** حدثت أمورٌ شأنهن عظيم قتلى بجنزة والذين بكابلٍ ** ويزيد أعلن شأنه المكتوم أبني أمية إن آخر ملككم ** جسدٌ بحوارين ثم مقيم طرقت منيته وعند وساده ** كوبٌ وزقٌّ راعفٌ مرثوم ومرنةٌ تبكي على نشوانه ** بالصنج تقعد تارةً وتقوم قال مسلمة: فلما ظهر شعر ابن عرادة أظهر سلمٌ موت يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد، ودعا الناس إلى البيعة على الرضا حتى يستقيم أمر الناس على خليفة، فبايعوه، ثم مكثوا بذلك شهرين، ثم نكثوا به. قال علي بن محمد: وحدثنا شيخٌ من أهل خراسان، قال: لم يحب أهل خراسان أميرًا قط حبهم سلم بن زياد، فسمي في تلك السنين التي كان بها سلم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم، من حبهم سلما. قال: وأخبرنا أبو حفص الأزدي، عن عمه قال: لما اختلف الناس بخراسان ونكثوا بيعة سلم، خرج سلم عن خراسان وخلف عليها المهلب بن أبي صفرة، فلما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبة، فقال له: من خلفت على خراسان؟ قال: المهلب؛ فقال: ضاقت عليك نزارٌ حتى وليت رجلًا من أهل اليمن! فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولي أوس بن ثعلبة بن زفر - وهو صاحب قصر أوس بالبصرة - هراة، ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عبد الله بن خازم فقال: من وليت خراسان؟ فأخبره، فقال: أما وجدت في مضر رجلًا تستعمله حتى فرقت خراسان بين بكر بن وائل ومزون عمان! وقال له: اكتب لي عهدًا على خراسان؛ قال: أوالي خراسان أنا! قال: اكتب لي عهدًا وخلاك ذم. قال: فكتب له عهدًا على خراسان؛ قال: فأعني الآن بمائة ألف درهم فأمر له بها، وأقبل إلى مرو، وبلغ الخبر المهلب بن أبي صفرة، فأقبل واستخلف رجلًا من بني جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم. قال: وأخبرنا المفضل بن محمد الضبي، عن أبيه، قال: لما صار عبد الله بن خازم إلى مرو بعهد سلم بن زياد، منعه الجشمي، فكانت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رميةٌ بحجر في جبهته، وتحاجزوا وخلى الجشمي بين مرو الروذ وبينه، فدخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد ذلك بيومين. قال علي بن محمد المدائني: حدثنا الحسن بن رشيد الجوزجاني، عن أبيه، قال: لما مات يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد وثب أهل خراسان بعمالهم فأخرجوهم، وغلب كل قوم على ناحية، ووقعت الفتنة، وغلب ابن خازم على خراسان، ووقعت الحرب. قال أبو جعفر: وأخبرنا أبو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة، قال: أقبل عبد الله بن خازم فغلب على مرو، ثم سار إلى سليمان بن مرثد فلقيه بمرو الروذ، فقاتله أيامًا، فقتل سليمان بن مرثد، ثم سار عبد الله بن خازم إلى عمرو بن مرثد وهو بالطالقان في سبعمائة، وبلغ عمرًا إقبال عبد الله إليه وقتله أخاه سليمان، فأقبل إليه، فالتقوا على نهر قبل أن يتوافى إلى ابن خازم أصحابه، فأمر عبد الله من كان معه فنزلوا، فنزل وسأل عن زهير بن ذؤيب العدوي، فقالوا: لم يجيء حتى أقبل وهو على حاله، فلما أقبل قيل له: هذا زهير قد جاء؛ فقال له عبد الله: تقدم، فالتقوا فاقتتلوا طويلًا، فقتل عمرو بن مرثد، وانهزم أصحابه، فلحقوا بهراة بأوس بن ثعلبة، ورجع عبد الله ابن خازم إلى مرو. قال: وكان الذي ولي قتل عمرو بن مرثد زهير بن حيان العدوي فيما يروون فقال الشاعر: أتذهب أيام الحروب ولم تبىء ** زهير بن حيانٍ بعمرو بن مرثد! قال: وحدثنا أبو السري الخراساني - وكان من أهل هراة - قال: قتل عبد الله بن خازم سليمان وعمرًا ابني مرثد المرثديين من بني قيس بن ثعلبة ثم رجع إلى مرو، وهرب من كان بمرو الروذ من بكر بن وائل إلى هراة، وانضم إليها من كان بكور خراسان من بكر بن وائل، فكان لهم بها جمعٌ كثير عليهم أوس بن ثعلبة؛ قال: فقالوا له: نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم، وتخرج مضر من خراسان كلها؛ فقال لهم: هذا بغيٌ، وأهل البغي مخذولون، أقيموا مكانكم هذا، فإن ترككم ابن خازم - وما أراه يفعل - فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هو فيه؛ فقال بنو صهيب - وهم موالي بني جحدر: لا والله لا نرضى أن نكون نحن ومضر في بلد، وقد قتلوا ابني مرثد، فإن أجبتنا إلى هذا وإلا أمرنا عليك غيرك؛ قال: إنما أنا رجلٌ منكم، فاصنعوا ما بدا لكم؛ فبايعوه، وسار إليهم ابن خازم، واستخلف ابنه موسى، وأقبل حتى نزل على واد بين عسكره وبين هراة؛ قال: فقال البكريون لأوس: اخرج فخندق خندقًا دون المدينة فقاتلهم فيه، وتكون المدينة من ورائنا، فقال لهم أوس: الزموا المدينة فإنها حصينة، وخلوا ابن خازم ومنزله الذي هو فيه؛ فإنه إن طال مقامه ضجر فأعطاكم ما ترضون به، فإن اضطررتم إلى القتال قاتلتم، فأبوا وخرجوا من المدينة فخندقوا خندقًا دونها، فقاتلهم ابن خازم نحوًا من سنة. قال وزعم الأحنف بن الأشهب الضبي، وأخبرنا أبو الذيال زهير بن الهنيد؛ سار ابن خازم إلى هراة وفيها جمعٌ كثير لبكر بن وائل قد خندقوا عليهم، وتعاقدوا على إخراج مضر إن ظفروا بخراسان، فنزل بهم ابن خازم، فقال له هلال الضبي أحد بني ذهل، ثم أحد بني أوس: إنما تقاتل إخوتك من بني أبيك، والله إن نلت منهم فما تريد ما في العيش بعدهم من خير، وقد قتلت بمرو الروذ منهم من قتلت، فلو أعطيتهم شيئًا يرضون به، أو أصلحت هذا الأمر! قال: والله لو خرجت لهم عن خراسان ما رضوا به، ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدنيا لأخرجوكم؛ قال: لا، والله لا أرمي معك بسهم، ولا رجلٌ يطيعني من خندف حتى تعذر إليهم؛ قال: فأنت رسولي إليهم فأرضهم، فأتى هلال إلى أوس بن ثعلبة فناشده الله والقرابة، وقال: أذكرك الله في نزار أن تسفك دماءها، وتضرب بعضها ببعض! قال: لقيت بني صهيب؟ قال: لا والله؛ قال: فالقهم؛ فخرج فلقي أرقم بن مطرف الحنفي، وضمضم بن يزيد - أو عبد الله بن ضمضم بن يزيد - وعاصم بن الصلت بن الحريث الحنفيين، وجماعة من بكر بن وائل وكلمهم بمثل ما كلم به أوسًا، فقالوا: هل لقيت بني صهيب؟ فقال: لقد عظم الله أمر بني صهيب عندكم، لا لم ألقهم، قالوا: القهم، فأتى بني صهيب فكلمهم، فقالوا: لولا أنك رسولٌ لقتلناك؛ قال: أفما يرضيكم شيء؟ قالوا: واحدةٌ من اثنين، إما أن تخرجوا عن خراسان ولا يدعو فيها لمضر داعٍ، وإما أن تقيموا وتنزلوا لنا عن كل كراع وسلاح وذهب وفضة؛ قال: أفما شيء غير هاتين؟ قالوا: لا، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل! فرجع إلى ابن خازم، فقال: ما عندك؟ قال: وجدت إخوتنا قطعًا للرحم، قال: قد أخبرتك أن ربيعة لم تزل غضابًا على ربها منذ بعث الله النبي ﷺ من مضر. قال أبو جعفر: وأخبرنا سليمان بن مجالد الضبي، قال: أغارت الترك على قصر إسفاد وابن خازم بهراة، فحصروا أهله، وفيه ناس من الأزد هم أكثر من فيه، فهزمتهم، فبعثوا إلى من حولهم من الأزد فجاءوا لينصروهم فهزمتهم الترك، فأرسلوا إلى ابن خازم، فوجه إليهم زهير بن حيان في بني تميم وقال له: إياك ومشاولة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عليهم، فأقبل فوافاهم في يوم بارد، قال: فلما التقوا شدوا عليهم فلم يثبتوا لهم، وانهزمت الترك واتبعوهم حتى مضى عامة الليل حتى انتهوا إلى قصر في المفازة، فأقامت الجماعة ومضى زهير في فوارس يتبعهم، وكان عالمًا بالطريق، ثم رجع في نصف من الليل، وقد يبست يده على رمحه من البرد، فدعا غلامه كعبًا، فخرج إليه، فأدخله، وجعل يسخن له الشحم فيضعه على يده، ودهنوه وأوقدوا له نارًا حتى لان ودفىء؛ ثم رجع إلى هراة، فقال في ذلك كعب بن معدان الأشقري: أتاك أتاك الغوث في برق عارضٍ ** دروعٌ وبيضٌ حشوهن تميم أبوا أن يضموا حشو ما تجمع القرى ** فضمهم يوم اللقاء صميم وزرقهم من رائحاتٍ تزينها ** ضروع عريضات الخواصر كوم وقال ثابت قطنة: فدت نفسي فوارس من تميمٍ ** على ما كان من ضنك المقام بق الباهلي وقد أراني ** أحامي حين قل به المحامي بس عد كسر الرمح فيهم ** أذودهم بذي شطبٍ حسام أكر عليهم اليحموم كرًا ** ككر الشرب آنية المدام فلولا الله ليس له شريكٌ ** وضربي قونس الملك الهمام إذًا فاظت نساء بني دثارٍ ** أمام الترك بادية الخدام قال أبو جعفر: وحدثني أبو الحسن الخراساني، عن أبي حماد السلمي قال: أقام ابن خازم بهراة يقاتل أوس بن ثعلبة أكثر من سنة، فقال يومًا لأصحابه: قد طال مقامنا على هؤلاء، فنادوهم: يا معشر ربيعة، إنكم قد اعتصمتم بخندقكم، أفرضيتم من خراسان بهذا الخندق! فأحفظهم ذلك، فتنادى الناس للقتال، فقال لهم أوس بن ثعلبة: الزموا خندقكم وقاتلوهم كما كنتم تقاتلونهم، ولا تخرجوا إليهم بجماعتكم؛ قال: فعصوه وخرجوا إليهم، فالتقى الناس، فقال ابن خازم لأصحابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب، فإن قتلت فأميركم شماس بن دثار العطاردي، فإن قتل فأميركم بكير بن وشاح الثقفي. قال علي: وحدثنا أبو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة العدوي عن عبيد بن نقيد، عن إياس بن زهير بن حيان: لما كان اليوم الذي هرب فيه أوس بن ثعلبة وظفر ابن خازم ببكر بن وائل، قال ابن خازم لأصحابه حين التقوا: إني قلع، فشدوني على السرج، واعلموا أن علي من السلاح ما لا أقتل قدر جزر جزورين، فإن قيل لكم: إني قد قتلت فلا تصدقوا. قال: وكانت راية بني عدي مع أبي وأنا على فرس مخرم، وقد قال لنا ابن خازم: إذا لقيتم الخيل فاطعنوها في مناخرها، فإنه لن يطعن فرسٌ في نخرته إلا أدبر أو رمى بصاحبه، فلما سمع فرسي قعقعة السلاح وثب بي واديًا كان بيني وبينهم؛ قال: فتلقاني رجل من بكر بن وائل فطعنت فرسه في نخرته، فصرعه، وحمل أبي ببني عدي، واتبعته بنو تميم من كل وجه، فاقتتلوا ساعةً، فانهزمت بكر بن وائل حتى انتهوا إلى خندقهم وأخذوا يمينًا وشمالًا، وسقط ناسٌ في الخندق فقتلوا قتلًا ذريعًا، وهرب أوس ابن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسيرٍ إلا قتله حتى تغيب الشمس، فكان آخر من أتى به رجلٌ من بني حنيفة يقال له محمية فقالوا لابن خازم: قد غابت الشمس، قال: وفوا به القتلى؛ فقتل. قال: فأخبرني شيخٌ من بني سعد بن زيد مناة أن أوس بن ثعلبة هرب وبه جراحاتٌ إلى سجستان، فلما صار بها أو قريبًا منها مات. وفي مقتل ابن مرثد وأمر أوس بن ثعلبة يقول المغيرة بن حبناء، أحد بني ربيعة بن حنظلة: وفي الحرب كنتم في خراسان كلها ** قتيلًا ومسجونًا بها ومسيرا ويوم احتواكم في الحفير ابن خازمٍ ** فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا ويوم تركتم في الغبار ابن مرثدٍ ** وأوسًا تركتم حيث سار وعسكرا قال: وأخبرني أبو الذيال زهير بن هنيد، عن جده أبي أمه، قال: قتل من بكر بن وائل يومئذ ثمانية آلاف. قال: وحدثنا التميمي، رجل من أهل خراسان، عن مولىً لابن خازم، قال: قاتل ابن خازم أوس بن ثعلبة وبكر بن وائل، فظفر بهراة، وهرب أوس وغلبه ابن خازم على هراة، واستعمل عليها ابنه محمدًا، وضم إليه شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وشاح على شرطته، وقال لهما: ربياه فإنه ابن أختكما، فكانت أمه من بني سعد يقال لها صفية، وقال له: لا تخالفهما، ورجع ابن خازم إلى مرو. ذكر الخبر عن تحرك الشيعة للطلب بدم الحسين قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تحركت الشيعة بالكوفة، واتعدوا الاجتماع بالنخيلة في سنة خمس وستين للمسير إلى أهل الشأم للطلب بدم الحسين بن علي، وتكاتبوا في ذلك. ذكر الخبر عن مبدإ أمرهم في ذلك قال هشام بن محمد: حدثنا أبو مخنف، قال: حدثني يوسف بن يزيد عن عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي، قال: لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة، فدخل الكوفة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أنها قد أخطأت خطأ كبيرًا بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إلى جانبهم لم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فيه، ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رءوس الشيعة إلى سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبة مع النبي ﷺ، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من أصحاب علي وخيارهم، وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وإلى عبد الله بن وال التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي. ثم إن هؤلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد، وكانوا من خيار أصحاب علي، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم. قال: فلما اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام، فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ﷺ ثم قال: أما بعد، فإنا قد ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غدًا: " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير "؛ فإن أمير المؤمنين قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا، حتى بلا الله أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا ﷺ، وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه، وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره عودًا وبدءًا، وعلانيةً وسرًا، فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا؛ ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا إلى ربنا وعند لقاء نبينا ﷺ وقد قتل فينا ولده وحبيبه، وذريته ونسله! لا والله، لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك، فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن. أيها القوم، ولوا عليكم رجلًا منكم فإنه لابد لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفون بها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قال: فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ ثم قال: أما بعد، فإن الله قد هداك لأصوب القول، ودعوت إلى أرشد الأمور، بدأت بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيه ﷺ، ودعوت إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموعٌ منك، مستجابٌ لك، مقبول قولك؛ قلت: ولوا أمركم رجلًا منكم تفزعون إليه، وتحفون برايته، وذلك رأيٌ قد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيًا، وفينا متنحصًا، وفي جماعتنا محبًا، وإن رأيت رأي أصحابنا ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله ﷺ، وذا السابقة والقدم سليمان ابن صرد المحمود في بأسه ودينه، والموثوق بحزمه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. قال: ثم تكلم عبد الله بن والٍ وعبد الله بن سعد، فحمدا ربهما وأثنيا عليه، وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته، ورضاهما بتوليته، فقال المسيب ابن نجبة: أصبتم ووفقتم، وأنا أرى مثل الذي رأيتم، فولوا أمركم سليمان ابن صرد. قال أبو مخنف: فحدثت سليمان بن أبي راشد بهذا الحديث، فقال: حدثني حميد بن مسلم، قال: والله إني لشاهدٌ بهذا اليوم، يوم ولوا سليمان ابن صرد، وإنا يومئذ لأكثر من مائة رجل من فرسان الشيعة ووجوههم في داره. قال: فتكلم سليمان بن صرد فشدد، وما زال يردد ذلك القول في كل جمعة حتى حفظته، بدأ فقال: أثني على الله خيرًا، وأحمد آلاءه وبلاءه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسوله، أما بعد، فإني والله لخائف ألا يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة، وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير؛ إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا، ونمنيهم النصر، ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا، وادهنا، وتربصنا، وانتظرنا ما يكون حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعةٌ من لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ، ويسأل النصف فلا يعطاه، اتخذه الفاسقون غرضًا للنبل، ودرية للرماح حتى أقصدوه، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنه راضيًا دون أن تناجزوا من قتله، أو تبيروا. ألا لا تهابوا الموت فوالله ما هابه امرؤٌ قط إلا ذل، كونا كالأولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم: " إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم "، فما فعل القوم؟ جثوا على الركب والله، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر على القتل، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه! اشحذوا السيوف، وركبوا الأسنة، " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل "، حتى تدعوا حين تدعون وتستنفرون. قال: فقام خالد بن سعد بن نفيل، فقال: أما أنا فوالله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضي ربي لقتلتها؛ ولكن هذا أمر به قومٌ كانوا قبلنا ونهينا عنه، فأشهد الله ومن حضر من المسلمين أن كل ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقةً على المسلمين، أقويهم به على قتال القاسطين. وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال: وأنا أشهدكم على مثل ذلك. فقال سليمان بن صرد: حسبكم؛ من أراد من هذا شيئًا فليأت بماله عبد الله بن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كل ما تريدون إخراجه من أموالكم جهزنا به ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم. قال أبو مخنف لوط بن يحيى، عن سليمان بن أبي راشد، قال: فحدثنا حميد بن مسلم الأزدي أن سليمان بن صرد قال لخالد بن سعد بن نفيل حين قال له: والله لو علمت أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضى عني ربي لقتلتها، ولكن هذا أمر به قوم غيرنا كانوا من قبلنا ونهينا عنه، قال: أخوكم هذا غدًا فريس أول الأسنة؛ قال: فلما تصدق بماله على المسلمين قال له: أبشر بجزيل ثواب الله للذين لأنفسهم يمهدون. قال أبو مخنف: حدثني الحصين بن يزيد بن عبد الله بن سعد بن نفيل قال: أخذت كتابًا كان سليمان بن صرد كتب به إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بالمدائن، فقرأته زمان ولي سليمان، قال: فلما قرأته أعجبني، فتعلمته فما نسيته، كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة ومن قبله من المؤمنين. سلام عليكم، أما بعد؛ فإن الدنيا دارٌ قد أدبر منها ما كان معروفًا، وأقبل منها ما كان منكرًا، وأصبحت قد تشنأت إلى ذوي الألباب، وأزمع بالترحال منها عباد الله الأخيار، وباعوا قليلًا من الدنيا لا يبقي بجزيل مثوبة عند الله لا تفني. إن أولياء من إخوانكم، وشيعة آل نبيكم نظروا لأنفسهم فيما ابتلوا به من أمر ابن بنت نبيهم الذي دعي فأجاب، ودعا فلم يجب، وأراد الرجعة فحبس، وسأل الأمان فمنع، وترك الناس فلم يتركوه، وعدوا عليه فقتلوه، ثم سلبوه وجردوه ظلمًا وعدوانًا وغرةً بالله وجهلًا، وبعين الله ما يعملون، وإلى الله ما يرجعون، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون "، فلما نظروا إخوانكم وتدبروا عواقب ما استقبلوا رأوا أن قد خطئوا بخذلان الزكي الطيب وإسلامه وترك مواساته، والنصر له خطأ كبيرًا ليس لهم منه مخرجٌ ولا توبة، دون قتل قاتليه أو قتلهم حتى تفنى على ذلك أرواحهم؛ فقد جد إخوانكم فجدوا، وأعدوا واستعدوا، وقد ضربنا لإخواننا أجلًا يوافوننا إليه، وموطنًا يلقوننا فيه؛ فأما الأجل فغرة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، وأما الموطن الذي يلقوننا فيه فالنخيلة. أنتم الذين لم تزالوا لنا شيعة وإخوانًا، وإلا وقد رأينا أن ندعوكم إلى هذا الأمر الذي أراد الله به إخوانكم فيما يزعمون، ويظهرون لنا أنهم يتوبون، وإنكم جدراء بتطلاب الفضل، والتماس الأجر، والتوبة إلى ربكم من الذنب، ولو كان في ذلك حز الرقاب، وقتل الأولاد، واستيفاء الأموال، وهلاك العشائر؛ ما ضر أهل عذراء الذين قتلوا ألا يكونوا اليوم أحياءً عند ربهم يرزقون، شهداء قد لقوا الله صابرين محتسبين، فأثابهم ثواب الصابرين - يعني حجرًا وأصحابه - وما ضر إخوانكم المقتلين صبرًا، المصلبين ظلمًا، والممثل بهم، المعتدى عليهم، ألا يكونوا أحياء مبتلين بخطاياكم، قد خير لهم فلقوا ربهم، ووفاهم الله إن شاء الله أجرهم، فاصبروا رحمكم الله على البأساء والضراء وحين البأس، وتوبوا إلى الله عن قريب؛ فوالله إنكم لأحرياء ألا يكون أحدٌ من إخوانكم صبر على شيء من البلاء إرادة ثوابه إلا صبرتم التماس الأجر فيه على مثله، ولا يطلب رضاء الله طالبٌ بشيء من الأشياء ولو أنه القتل إلا طلبتم رضا الله به. إن التقوى أفضل الزاد في الدنيا، وما سوى ذلك يبور ويفنى، فلتعزف عنها أنفسكم، ولتكن رغبتكم في دار عافيتكم، وجهاد عدو الله وعدوكم، وعدو أهل بيت نبيكم حتى تقدموا على الله تائبين راغبين، أحيانا الله وإياكم حياة طيبةً، وأجارنا وإياكم من النار، وجعل منايانا قتلًا في سبيله على يدي أبغض خلقه إليه وأشدهم عداوةً له؛ إنه القدير على ما يشاء، والصانع لأوليائه في الأشياء؛ والسلام عليكم. قال: وكتب ابن صرد الكتاب وبعث به إلى سعد بن حذيفة بن اليمان مع عبد الله بن مالك الطائي، فبعث به سعد حين قرأ كتابه إلى من كان بالمدائن من الشيعة، وكان بها أقوامٌ من أهل الكوفة قد أعجبتهم فأوطنوها وهم يقدمون الكوفة في كل حين عطاءٍ ورزق، فيأخذون حقوقهم، وينصرفون إلى أوطانهم، فقرأ عليهم سعد كتاب سليمان بن صرد. ثم إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنكم قد كنتم مجتمعين مزمعين على نصر الحسين وقتال عدوه، فلما يفجأكم أول من قتله، والله مثيبكم على حسن النية وما أجمعتم عليه من النصر أحسن المثوبة، وقد بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم، ويدعونكم إلى الحق وإلى ما ترجون لكم به عند الله أفضل الأجر والحظ، فماذا ترون؟ وماذا تقولون؟ فقال القوم بأجمعهم: نجيبهم ونقاتل معهم، ورأينا في ذلك مثل رأيهم. فقام عبد الله بن الحنظل الطائي ثم الحزمري، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنا قد أجبنا إخواننا إلى ما دعونا إليه، وقد رأينا مثل الذي قد رأوا، فسرحني إليهم في الخيل، فقال له: رويدًا، لا تعجل، استعدوا للعدو، وأعدوا له الحرب، ثم نسير وتسيرون. وكتب سعد بن حذيفة بن اليمان إلى سليمان بن صرد مع عبد الله بن مالك الطائي: بسم الله الرحمن الرحيم. إلى سليمان بن صرد، من سعد بن حذيفة ومن قبله من المؤمنين، سلام عليكم، أما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا الذي دعوتنا إليه من الأمر الذي عليه رأي الملإ من إخوانك، فقد هديت لحظك، ويسرت لرشدك، ونحن جادون مجدون، معدون مسرجون ملجمون ننتظر الأمر، ونستمع الداعي؛ فإذا جاء الصريخ أقبلنا ولم نعرج إن شاء الله؛ والسلام. فلما قرأ كتابه سليمان بن صرد قرأه على أصحابه، فسروا بذلك. قالوا: وكتب إلى المثنى بن مخربة العبدي نسخة الكتاب الذي كان كتب به إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وبعث به مع ظبيان بن عمارة التميمي من بني سعد، فكتب إليه المثنى: أما بعد، فقد قرأت كتابك، وأقرأته إخوانك، فحمدوا رأيك، واستجابوا لك، فنحن موافوك إن شاء الله للأجل الذي ضربت وفي الموطن الذي ذكرت؛ والسلام عليك. وكتب في أسفل كتابه: تبصر كأني قد أتيتك معلمًا ** على أتلع الهادي أجش هزيم طويل القرانهد الشواة مقلصٍ ** ملحٍّ على فأس اللجام أزوم بكل فتىً لا يملأ الروع نحره ** محسٍّ لعض الحرب غير سئوم أخي ثقةٍ ينوي الإله بسعيه ** ضروبٍ بنصل السيف غير أثيم قال أبو مخنف لوط بن يحيى، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن سعد بن نفيل، قال: كان أول ما ابتدعوا به من أمرهم سنة إحدى وستين، وهي السنة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال، ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر. فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتى مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكان بين قتل الحسين وهلاك يزيد بن معاوية ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام، وهلك يزيد وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث المخزومي، فجاء إلى سليمان أصحابه من الشيعة، فقالوا: قد مات هذا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث فأخرجناه من القصر، ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين، وتتبعنا قتلته، ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم، المدفوعين عن حقهم، فقالوا في ذلك فأكثروا؛ فقال لهم سليمان بن صرد: رويدًا، لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما تذكرون، فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة، وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون، وعلموا أنهم المطلوبون، كانوا أشد عليكم. ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا أنفسهم، ولم ينكوا في عدوهم، وكانوا لهم جزرًا، ولكن بثوا دعاتكم في المصر، فادعوا إلى أمركم هذا، شيعتكم وغير شيعتكم، فإني أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابةً منهم قبل هلاكه. ففعلوا؛ وخرجت طائفة منهم دعاةٌ يدعون الناس، فاستجاب لهم ناسٌ كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك. قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثنا الحصين بن يزيد، عن رجل من مزينة قال: ما رأيت من هذه الأمة أحدًا كان أبلغ من عبيد الله بن عبد الله المري في منطق ولا عظة، وكان من دعاة أهل المصر زمان سليمان بن صرد، وكان إذا اجتمعت إليه جماعةٌ من الناس فوعظهم بدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ﷺ، ثم يقول: أما بعد، فإن الله اصطفى محمدًا ﷺ على خلقه بنبوته، وخصه بالفضل كله، وأعزكم باتباعه وأكرمكم بالإيمان به، فحقن به دماءكم المسفوكة، وأمن به سبلكم المخوفة، " وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ". فهل خلق ربكم في الأولين والآخرين أعظم حقًا على هذه الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقًا على هذه الأمة من ذرية رسولها؟ لا والله، ما كان ولا يكون. لله أنتم! ألم تروا ويبلغكم ما اجترم إلى ابن بنت نبيكم! أما رأيتم إلى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم إياه بالدم، وتجرارهموه على الأرض! لم يرقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول ﷺ؛ اتخذوه للنبل غرضًا، وغادروه للضباع جزرًا، فلله عينا من رأى مثله! ولله حسين بن علي، ماذا غدروا به ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم! ابن أول المسلمين إسلامًا، وابن بنت رسول رب العالمين، قلت حماته، وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه، وخذله وليه. فويل للقاتل، وملامة للخاذل! إن الله لم يجعل لقاتله حجة، ولا لخاذله معذرةً، إلا أن يناصح لله في التوبة، فيجاهد القاتلين، وينابذ القاسطين؛ فعسى الله عند ذلك أن يقبل التوبة، ويقيل العثرة؛ إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل بيته، وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عند الله خيرٌ للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا. قال: وكان يعيد هذا الكلام علينا في كل يوم حتى حفظه عامتنا. قال: ووثب الناس على عمرو بن حريث عند هلاك يزيد بن معاوية، فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي. وهو دحروجة الجعل الذي قال له ابن همام السلولي: اشدد يديك بزيدٍ إن ظفرت به ** واشف الأرامل من دحروجة الجعل وكان كأنه إبهامٌ قصرًا، وزيد مولاه وخازنه، فكان يصلي بالناس. وبايع لابن الزبير، ولم يزل أصحاب سليمان بن صرد يدعون شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم حتى كثر تبعهم، وكان الناس إلى اتباعهم بعد هلاك يزيد ابن معاوية أسرع منهم قبل ذلك، فلما مضت ستة أشهر من هلاك يزيد ابن معاوية، قدم المختار بن أبي عبيد الكوفة، فقدم في النصف من شهر رمضان يوم الجمعة. قال: وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي من قبل عبد الله بن الزبير أميرًا على الكوفة على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله الأعرج أميرًا على خراج الكوفة، وكان قدوم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي يوم الجمعة لثمانٍ بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين. قال: وقدم المختار قبل عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بثمانية أيام، ودخل المختار الكوفة، وقد اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سليمان بن صرد فليس يعدلونه به، فكان المختار إذا دعاهم إلى نفسه وإلى الطلب بدم الحسين قالت له الشيعة: هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة، قد انقادوا له واجتمعوا عليه، فأخذ يقول للشيعة: إني قد جئتكم من قبل المهدي محمد بن علي ابن الحنفية مؤتمنًا مأمونًا، منتجبًا ووزيرًا، فوالله ما زال بالشيعة حتى انشعبت إليه طائفةٌ تعظمه وتجيبه، وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان ابن صرد، فسليمان أثقل خلق الله على المختار. وكان المختار يقول لأصحابه: أتدرون ما يريد هذا؟ يعني سليمان بن صرد - إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس له بصرٌ بالحروب، ولا له علمٌ بها. قال: وأتى يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيباني عبد الله بن يزيد الأنصاري فقال: إن الناس يتحدثون أن هذه الشيعة خارجةٌ عليك مع ابن صرد، ومنهم طائفة أخرى مع المختار، وهي أقل الطائفتين عددًا، والمختار فيما يذكر الناس لا يريد أن يخرج حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان بن صرد، وقد اجتمع له أمره، وهو خارج من أيامه هذه، فإن رأيت أن تجمع الشرط والمقاتلة ووجوه الناس، ثم تنهض إليهم، وننهض معك، فإذا دفعت إلى منزله دعوته، فإن أجابك فحسبه، وإن قاتلك قاتلته، وقد جمعت له وعبأت وهو مغتر، فإني أخاف عليك إن هو بدأك وأقررته حتى يخرج عليك أن تشتد شوكته، وأن يتفاقم أمره. فقال عبد الله بن يزيد: الله بيننا وبينهم، إن هم قاتلونا قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم، حدثني ما يريد الناس؟ قال: يذكر الناس أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي؛ قال: فأنا قتلت الحسين! لعن الله قاتل الحسين! قال: وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، فخرج عبد الله بن يزيد حتى صعد المنبر، ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فقد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل لي: زعموا أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي، فرحم الله هؤلاء القوم، قد والله دللت على أماكنهم، وأمرت بأخذهم، وقيل: ابدأهم قبل أن يبدءوك، فأبيت ذلك، فقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم؛ وعلام يقاتلونني! فوالله ما أنا قتلت حسينًا، ولا أنا ممن قاتله، ولقد أصبت بمقتله رحمة الله عليه! فإن هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، وأنا لهم على قاتله ظهير؛ هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل خياركم وأماثلكم، قد توجه إليكم؛ عهد العاهد به على مسيرة ليلة من جسر منبج، فقتاله والاستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضًا، ويسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم ذلك العدو غدًا وقد رققتم، وتلك والله أمنية عدوكم، وإنه قد أقبل إليكم أعدى خلق الله لكم، من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين، لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذي قتلكم، ومن قبله أتيتم، والذي قتل من تثأرون بدمه، قد جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسكم؛ إني آلكم نصحًا، جمع الله لنا كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا! قال: فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: أيها الناس، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن الموادع؛ والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استقينا أن قومًا يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده، ولنأخذن الحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته حتى يدينوا للحق، ويذلوا للطاعة. فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه ثم قال: يابن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت والله أذل من ذلك؛ إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، والله إني لأرجو ألا يخرجك الله من بين ظهراني أهل هذا المصر حتى يثلثوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولًا سديدًا، وإني والله لأظن من يريد هذا الأمر مستنصحًا لك، وقابلًا قولك. فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: إي والله، ليقتلن وقد أدهن ثم أعلن. فقام إليه عبد الله بن وال التيمي، فقال: ما اعتراضك يا أخا بني تيم بن مرة فيما بيننا وبين أميرنا! فوالله ما أنت علينا بأمير، ولا لك علينا سلطان، إنما أنت أمير الجزية، فأقبل على خراجك، فلعم الله لئن كنت مفسدًا ما أفسد أمر هذه الأمة إلا والدك وجدك الناكثان، فكانت بهما اليدان، وكانت عليهما دائرة السوء. قال: ثم أقبل مسيب بن نجبة وعبد الله بن وال على عبد الله بن يزيد فقالا: أما رأيك أيها الأمير فوالله إنا لنرجو أن تكون به عند العامة محمودًا وأن تكون عند الذي عنيت واعتريت مقبولًا. فغضب أناسٌ من عمال إبراهيم بن محمد بن طلحة وجماعة ممن كان معه، فتشاتموا دونه، فشتمهم الناس وخصموهم. فلما سمع ذلك عبد الله بن يزيد نزل ودخل، وانطلق إبراهيم بن محمد وهو يقول: قد داهن عبد الله بن يزيد أهل الكوفة، والله لأكتبن بذلك إلى عبد الله بن الزبير، فأتى شبث بن ربيع التميمي عبد الله بن يزيد فأخبره بذلك، فركب به وبيزيد بن الحارث بن رويم حتى دخل على إبراهيم بن محمد بن طلحة، فحلف له بالله ما أردت بالقول الذي سمعت إلا العافية وصلاح ذات البين، إنما أتاني يزيد بن الحارث بكذا وكذا، فرأيت أن أقوم فيهم بما سمعت إرادة ألا تختلف الكلمة، ولا تتفرق الألفة، وألا يقع بأس هؤلاء القوم بينهم. فعذره وقبل منه. قال: ثم إن أصحاب سليمان بن صرد خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين، ويتجهزون يجاهرون بجهازهم وما يصلحهم. ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن الزبير وفي هذه السنة فارق عبد الله بن الزبير الخوارج الذين كانوا قدموا عليه مكة، فقاتلوا معه حصين بن نمير السكوني، فصاروا إلى البصرة، ثم افترقت كلمتهم فصاروا أحزابًا. ذكر الخبر عن فراقهم ابن الزبير والسبب الذي من أجله فارقوه والذي من أجله افترقت كلمتهم حدثت عن هشام بن محمد الكلبي، عن أبي مخنف لوط بن يحيى قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، قال: لما ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال ما ركب، وقد كان قبل ذلك لا يكف عنهم ولا يستبقيهم غير أنه بعد قتل أبي بلال تجرد لاستئصالهم وهلاكهم، واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزبير بمكة، وسار إليه أهل الشأم، فتذاكروا ما أتى إليهم، فقال لهم نافع بن الأزرق: إن الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم فيه الجهاد، واحتج عليكم بالبيان، وقد جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولو العدا والغشم، وهذا من قد ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل، فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو، وإن يكن على غير رأينا دافعنا عن البيت ما استطعنا، ونظرنا بعد ذلك في أمورنا. فخرجوا حتى قدموا على عبد الله ابن الزبير، فسر بمقدمهم، ونبأهم أنه على رأيهم، وأعطاهم الرضا من غير توقف ولا تفتيش؛ فقاتلوا معه حتى مات يزيد بن معاوية، وانصرف أهل الشأم عن مكة. ثم إن القوم لقي بعضهم بعضًا، فقالوا: إن هذا الذي صنعتم أمس بغير رأي ولا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على رأيكم، إنما كان أمس يقاتلكم هو وأبوه ينادي: يال ثارات عثمان! فأتوه وسلوه عن عثمان، فإن برىء منه كان وليكم، وإن أبى كان عدوكم. فمشوا نحوه فقالوا له: أيها الإنسان، إنا قد قاتلنا معك، ولم نفتشك عن رأيك حتى نعلم أمنا أنت أم من عدونا! خبرنا ما مقالتك في عثمان؟ فنظر فإذا من حوله من أصحابه قليلٌ، فقال لهم: إنكم أتيتموني فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حتى أعلمكم من ذلك الذي تريدون. فانصرفوا، وبعث إلى أصحابه فقال: البسوا السلاح، واحضروني بأجمعكم العشية، ففعلوا، وجاءت الخوارج، وقد أقام أصحابه حوله سماطين عليهم السلاح، وقامت جماعةٌ منهم عظيمة على رأسه بأيديهم الأعمدة، فقال ابن الأزرق لأصحابه: خشي الرجل غائلتكم، وقد أزمع بخلافكم واستعد لكم؛ ما ترون؟ فدنا منه ابن الأزرق، فقال له: يابن الزبير، اتق الله ربك، وأبغض الخائن المستأثر، وعاد أول من سن الضلالة، وأحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، فإنك إن تفعل ذلك ترض ربك، وتنج من العذاب الأليم نفسك، وإن تركت ذلك فأنت من الذين استمتعوا بخلاقهم، وأذهبوا في الحياة الدنيا طيباتهم. يا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن معه أمرنا الذي نحن عليه، والذي ندعو الناس إليه، فتقدم عبيدة بن هلال. قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني أبو علقمة الخثعمي، عن قبيصة بن عبد الرحمن القحافي، من خثعم، قال: أنا والله شاهدٌ عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقًا قط ينطق كان أبلغ ولا أصوب قولًا منه، وكان يرى رأي الخوارج. قال: وإن كان ليجمع القول الكثير، في المعنى الخطير، في اللفظ اليسير. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدًا ﷺ يدعو إلى عبادة الله، وإخلاص الدين، فدعا إلى ذلك، فأجابه المسلمون، فعمل فيهم بكتاب الله وأمره، حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رسول الله، فالحمد لله رب العالمين. ثم إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمي الأحماء، وآثر القربى، واستعمل الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وحقر المسلم وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول صلى الله عليه، وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم، ثم أخذ فيء الله الذي أفاءه عليهم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إليه طائفةٌ من المسلمين أخذ الله ميثاقهم على طاعته، لا يبالون في الله لومة لائم، فقتلوه، فنحن لهم أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يابن الزبير؟ قال: فحمد الله ابن الزبير وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد فهمت الذي ذكرتم، وذكرت به النبي ﷺ، فهو كما قلت صلى الله عليه وفوق ما وصفته، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر، وقد وفقت وأصبت، وقد فهمت الذي ذكرت به عثمان بن عفان رحمة الله عليه، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت معه حيث نقم القوم عليه، واستعتبوه فلم يدع شيئًا استعتبه القوم فيه إلا أعتبهم منه. ثم إنهم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه فيهم، يأمر فيه بقتلهم فقال لهم: ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم؛ فإن لم تكن حلفت لكم؛ فوالله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه. ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خيرٍ أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني وليٌّ لابن عفان في الدنيا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه، قالوا: فبرىء الله منك يا عدو الله؛ قال: فبرىء الله منكم يا أعداء الله. وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد الله بن صفار السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد الله بن إباض أيضًا من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عبد الله، وعبيد الله، والزبير، من بني سليط ابن يربوع، حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن مالك بن بكر بن وائل وعبد الله بن ثور أبو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة ابن عامر الحنفي، فأما البصريون منهم فإنهم قدموا البصرة وهم مجمعون على رأي أبي بلال. قال هشام: قال أبو مخنف لوط بن يحيى: فحدثني أبو المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل البصرة، أنهم اجتمعوا فقالت العامة منهم: لو خرج منا خارجون في سبيل الله، فقد كانت منا فترة منذ خرج أصحابنا، فيقوم علماؤنا في الأرض فيكونون عند الله أحياء. فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلثمائة رجل، فخرج، وذلك عود وثوب الناس بعبيد الله بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس في دم مسعود بن عمرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إلى الشأم، واصطلحت الأزد وبنو تميم، فتجرد الناس للخوارج، فاتبعوهم وأخافوهم حتى خرج من بقي منهم بالبصرة، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلًا منهم ممن لم يكن أراد الخروج يومه ذلك، منهم عبد الله بن صفار، وعبد الله ابن إباض، ورجالٌ معهما على رأيهما. ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن ولاية من تخلف عنه لا تبتغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة له، فقال لأصحابه: إن الله قد أكرمكم بمخرجكم، وبصركم ما عمي عنه غيركم؛ ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فقالوا: بلى؛ فقال: أليس حكمكم في وليكم حكم النبي ﷺ في وليه، وحكمكم في عدوكم حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عدوه، وعدوكم اليوم عدو الله وعدو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما أن عدو النبي ﷺ يومئذ هو عدو الله وعدوكم اليوم! فقالوا: نعم؛ قال: فقد أنزل الله تبارك وتعالى: " براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ". وقال: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن "، فقد حرم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم، ومواريثهم، وقد احتج الله علينا بمعرفة هذا، وحق علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم، ولا نكتم ما أنزل الله، والله عز وجل يقول: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون "، فاستجاب له إلى هذا الرأي جميع أصحابه. فكتب: من عبيد الله نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن صفار وعبد اله ابن إباض ومن قبلهما من الناس. سلامٌ على أهل طاعة الله من عباد الله، فإن من الأمر كيت وكيت؛ فقص هذه القصة، ووصف هذه الصفة، ثم بعث بالكتاب إليهما. فأتيا به، فقرأه عبد الله بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فقال له عبد الله بن إباض: ما لك لله أبوك! أي شيء أصبت! أأن قد أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب إليه، فقرأه، فقال: قاتله الله!، أي رأي رأى! صدق نافع ابن الأزرق، لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيًا وحكمًا فيما يشير به، وكانت سيرته كسيرة النبي ﷺ في المشركين، ولكنه قد كذب وكذبنا فيما يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من الشرك، ولا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام؛ فقال ابن صفار: برىء الله منك، فقد قصرت، وبرىء الله من ابن الأزرق فقد غلا، برىء الله منكما جميعًا؛ وقال الآخر: فبرى الله منك ومنه. وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف في أهل البصرة. ذكر الخبر عن مقدم المختار بن أبي عبيد الكوفة قال أبو جعفر: وفي النصف من شهر رمضان من هذه السنة كان مقدم المختار بن أبي عبيد الكوفة. ذكر الخبر عن سبب مقدمه إليها قال هشام بن محمد الكلبي: قال أبو مخنف: قال النضر بن صالح: كانت الشيعة تشتم المختار وتعتبه لما كان منه في أمر الحسن بن علي يوم طعن في مظلم ساباط، فحمل إلى أبيض المدائن، حتى إذا كان زمن الحسين، وبعث الحسين مسلم بن عقيل إلى الكوفة، نزل دار المختار، وهي اليوم دار سلم بن المسيب، فبايعه المختار بن أبي عبيد فيمن بايعه من أهل الكوفة، وناصحه ودعا إليه من أطاعه، حتى خرج ابن عقيل يوم خرج والمختار في قرية له بخطرنية تدعى لقفا، فجاءه خبر ابن عقيل عند الظهر أنه قد ظهر بالكوفة، فلم يكن خروجه يوم خرج على ميعاد من أصحابه، إنما خرج حين قيل له: إن هانىء بن عروة المرادي قد ضرب وحبس، فأقبل المختار في موالٍ له حتى انتهى إلى باب الفيل بعد الغروب، وقد عقد عبيد الله بن زياد لعمرو بن حريث راية على جميع الناس، وأمره أن يقعد لهم في المسجد، فلما كان المختار وقف على باب الفيل مر به هانىء بن أبي حية الوادعي، فقال للمختار: ما وقوفك ها هنا! لا أنت مع الناس، ولا أنت في رحلك؛ قال: أصبح رأيي مرتجًا لعظم خطيئتكم؛ فقال له: أظنك والله قاتلًا نفسك، ثم دخل على عمرو بن حريث فأخبره بما قال للمختار وما رد عليه المختار. قال أبو مخنف: فأخبرني النضر بن صالح، عن عبد الرحمن بن أبي عمير الثقفي؛ قال: كنت جالسًا عند عمرو بن حريث حين بلغه هانىء بن أبي حية عن المختار هذه المقالة، فقال لي: قم إلى ابن عمك فأخبره أن صاحبه لا يدري أين هو! فلا يجعلن على نفسه سبيلًا، فقمت لآتيه، ووثب إليه زائدة بن قدامة بن مسعود، فقال له: يأتيك على أنه آمن؟ فقال له عمرو بن حريث: أما مني فهو آمن، وإن رقي إلى الأمير عبيد الله بن زياد شيء من أمره أقمت له بمحضره الشهادة، وشفعت له أحسن الشفاعة، فقال له زائدة بن قدامة: لا يكونن مع هذا إن شاء الله إلا خيرٌ. قال عبد الرحمن: فخرجت، وخرج معي زائدة إلى المختار، فأخبرناه بمقالة ابن أبي حية وبمقالة عمرو بن حريث، وناشدناه بالله ألا يجعل على نفسه سبيلًا، فنزل إلى ابن حريث، فسلم عليه، وجلس تحت رايته حتى أصبح، وتذاكر الناس أمر المختار وفعله، فمشى عمارة بن عقبة بن أبي معيط بذلك إلى عبيد الله بن زياد، فذكر له، فلما ارتفع النهار فتح باب عبيد الله ابن زياد وأذن للناس، فدخل المختار فيمن دخل، فدعاه عبيد الله، فقال له: أنت المقبل في الجموع لتنصر ابن عقيل! فقال له: لم أفعل، ولكني أقبلت ونزلت تحت راية عمرو بن حريث، وبت معه وأصبحت، فقال له عمرو: صدق أصلحك الله! قال: فرفع القضيب، فاعترض به وجه المختار فخبط به عينه فشترها وقال: أولى لك! أما والله لولا شهادة عمرو لك لضربت عنقك؛ انطلقوا به إلى السجن فانطلقوا به إلى فحبس فيه فلم يزل في السجن حتى قتل الحسين. ثم إن المختار بعث إلى زائدة بن قدامة، فسأله أن يسير إلى عبد الله بن عمر بالمدينة فيسأله أن يكتب له إلى يزيد بن معاوية، فيكتب إلى عبيد الله بن زياد بتخلية سبيله، فركب زائدة إلى عبد الله بن عمر فقدم عليه، فبلغه رسالة المختار، وعلمت صفية أخت المختار بمحبس أخيها وهي تحت عبد الله بن عمر، فبكت وجزعت، فلما رأى ذلك عبد الله بن عمر كتب مع زائدة إلى يزيد بن معاوية: أما بعد، فإن عبيد الله بن زياد حبس المختار، وهو صهري، وأنا أحب أن يعافى ويصلح من حاله، فإن رأيت رحمنا الله وإياك أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخليته فعلت. والسلام عليك. فمضى زائدة على رواحله بالكتاب حتى قدم به على يزيد بالشأم، فلما قرأه ضحك ثم قال: يشفع أبو عبد الرحمن، وأهل ذلك هو. فكتب له إلى ابن زياد: أما بعد، فخل سبيل المختار بن أبي عبيد حين تنظر في كتابي، والسلام عليك. فأقبل به زائدة حتى دفعه، فدعا ابن زياد بالمختار، فأخرجه، ثم قال له قد أجلتك ثلاثًا، فإن أدركتك بالكوفة بعدها قد برئت منك الذمة. فخرج إلى رحله. وقال ابن زياد: والله لقد اجترأ علي زائدة حين يرحل إلى أمير المؤمنين حتى يأتيني بالكتاب في تخلية رجل قد كان من شأني أن أطيل حبسه، علي به. فمر به عمرو بن نافع أبو عثمان - كاتبٌ لابن زياد - وهو يطلب، وقال له: النجاء بنفسك، واذكرها يدًا لي عندك. قال: فخرج زائدة، فتوارى يومه ذلك. ثم إنه خرج في أناس من قومه حتى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسل بن عمرو الباهلي، فأخذا له من ابن زياد الأمان. قال هشام: قال أبو مخنف: ولما كان اليوم الثالث خرج المختار إلى الحجاز، قال: فحدثني الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، مولىً لثقيف. قال: أقبلت من الحجاز حتى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة استقبلت المختار بن أبي عبيد خارجًا يريد الحجاز حين خلى سبيله ابن زياد، فلما استقبلته رحبت به، وعطفت إليه، فلما رأيت شتر عينه استرجعت له، وقلت له بعد ما توجعت له: ما بال عينك، صرف الله عنك السوء! فقال: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطةً صارت إلى ما ترى. فقلت له: ما له شلت أنامله! فقال المختار: قتلني الله إن لم أقطع أنامله وأباجله وأعضاءه إربًا إربًا؛ قال: فعجبت لمقالته، فقلت له: ما علمك بذلك رحمك الله؟ فقال لي: ما أقول لك فاحفظه عني حتى ترى مصداقه. قال: ثم طفق يسألني عن عبد الله بن الزبير، فقلت له: لجأ إلى البيت، فقال: إنما أنا عائذٌ برب هذه البنية، والناس يتحدثون أنه يبايع سرًا، ولا أراه إلا لو قد اشتدت شوكته واستكثف من الرجال إلا سيظهر الخلاف؛ قال: أجل، لا شك في ذلك، أما إنه رجل العرب اليوم، أما إنه إن يخطط في أثري، ويسمع قولي أكفه أمر الناس، وإلا يفعل فوالله ما أنا بدون أحد من العرب، يابن العرق، إن الفتنة قد أرعدت وأبرقت، وكأن قد انبعثت فوطئت في خطامها، فإذا رأيت ذلك وسمعت به بمكان قد ظهرت فيه فقل: إن المختار في عصائبه من المسلمين، يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف، سيد المسلمين، وابن سيدها، الحسين ابن علي، فوربك لأقتلن بقتله عدة القتلى التي قتلت على دم يحيى بن زكرياء عليه السلام؛ قال: فقلت له: سبحان الله! وهذه أعجوبة مع الأحدوثة الأولى؛ فقال: هو ما أقول لك فاحفظه عني حتى ترى مصداقه. ثم حرك راحلته، فمضى ومضيت معه ساعةً أدعو الله له بالسلامة، وحسن الصحابة. قال: ثم إنه وقف فأقسم علي لما انصرفت، فأخذت بيده! فودعته، وسلمت عليه، وانصرفت عنهن فقلت في نفسي: هذا الذي يذكر لي هذا الإنسان، - يعني المختار - مما يزعم أنه كائن، أشيءٌ حدث به نفسه! فوالله ما أطلع الله على الغيب أحدًا، وإنما هو شيءٌ يتمناه فيرى أنه كائن، فهو يوجب رأيه، فهذا والله الرأي الشعاع، فوالله ما كل ما يرى الإنسان أنه كائن يكون؛ قال: فوالله ما مت حتى رأيت كل ما قاله. قال: فوالله لئن كان ذلك من علمٍ ألقي إليه لقد أثبت له، ولئن كان ذلك رأيًا رآه، وشيئًا تمناه، لقد كان. قال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، قال: فحدثت بهذا الحديث الحجاج بن يوسف، فضحك ثم قال لي: إنه كان يقول أيضًا: ورافعةٍ ذيلها ** وداعية ويلها بدجلة أو حولها فقلت له: أترى هذا شيئًا كان يخترعه، وتخرصًا يتخرصه، أم هو من علم كان أوتيه؟ فقال: والله ما أدري ما هذا الذي تسألني عنه، ولكن لله دره! أي رجل دينًا، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كان! قال أبو مخنف: فحدثني أبو سيف الأنصاري من بني الخزرج، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: قدم المختار علينا مكة، فجاء إلى عبد الله ابن الزبير وأنا جالسٌ عنده، فسلم عليه، فرد عليه ابن الزبير، ورحب به، وأوسع له، ثم قال: حدثني عن حال الناس بالكوفة يا أبا إسحاق؛ قال: هم لسلطانهم في العلانية أولياء، وفي السر أعداء؛ فقال له ابن الزبير: هذه صفة عبيد السوء، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، فإذا غابوا عنهم شتموهم ولعنوهم؛ قال: فجلس معنا ساعةً، ثم إنه مال إلى ابن الزبير كأنه يساره، فقال له: ما تنتظر! ابسط يدك أبايعك، وأعطنا ما يرضينا، وثب على الحجاز فإن أهل الحجاز كلهم معك. وقام المختار فخرج، فلم ير حولًا؛ ثم إني بينا أنا جالسٌ مع ابن الزبير إذ قال لي ابن الزبير: متى عهدك بالمختار بن أبي عبيد؟ فقلت له: ما لي به عهد منذ رأيته عندك عامًا أول؛ فقال: أين تراه ذهب! لو كان بمكة، لقد رئي بها بعد، فقلت له: إني انصرفت إلى المدينة بعد إذ رأيته عندك بشهر أو شهرين، فلبثت بالمدينة أشهرًا، ثم إني قدمت عليك، فسمعت نفرًا من أهل الطائف جاءوا معتمرين يزعمون أنه قدم عليهم الطائف، وهو يزعم أنه صاحب الغضب، ومبير الجبارين، قال: قاتله الله! لقد انبعث كذابًا متكهنًا، إن الله إن يهلك الجبارين يكن المختار أحدهم. فوالله ما كان إلا ريث فراغنا من منطقنا حتى عن لنا في جانب المسجد، فقال ابن الزبير: اذكر غائبًا تره؛ أين تظنه يهوى؟ فقلت: أظنه يريد البيت، فأتى البيت فاستقبل الحجر، ثم طاف بالبيت أسبوعًا، ثم صلى ركعتين عند الحجر، ثم جلس، فما لبث أن مر به رجال من معارفه من أهل الطائف وغيرهم من أهل الحجاز، فجلسوا إليه، واستبطأ ابن الزبير قيامه إليه، فقال: ما ترى شأنه لا يأتينا! قلت: لا أدري، وسأعلم لك علمه، فقال: ما شئت، وكأن ذلك أعجبه. قال: فقمت فمررت به كأني أريد الخروج من المسجد، ثم التفت إليه، فأقبلت نحوه ثم سلمت عليه، ثم جلست إليه، وأخذت بيده، فقلت له: أين كنت؟ وأين بلغت بعدي؟ أبا لطائف كنت؟ فقال لي: كنت بالطائف وغير الطائف، وعمس علي أمره، فملت إليه، فناجيته، فقلت له: مثلك يغيب عن مثل ما قد اجتمع عليه أهل الشرف وبيوتات العرب من قريش والأنصار وثقيف! لم يبق أهل بيت ولا قبيلة إلا وقد جاء زعيمهم وعميدهم فبايع هذا الرجل، فعجبًا لك ولرأيك ألا تكون أتيته فبايعته، وأخذت بحظك من هذا الأمر! فقال لي: وما رأيتني؟ أتيته العام الماضي، فأشرت عليه بالرأي، فطوي أمره دوني، وإني لما رأيته استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغن عنه، إنه والله لهو أحوج إلي مني إليه؛ فقلت له: إنك كلمته بالذي كلمته وهو ظاهر في المسجد، وهذا الكلام لا ينبغي أن يكون إلا والستور دونه مرخاة والأبواب دونه مغلقة، القه الليلة إن شئت وأنا معك؛ فقال لي: فإني فاعل إذا صلينا العتمة أتيناه، واتعدنا الحجر. قال: فنهضت من عنده، فخرجت ثم رجعت إلى ابن الزبير، فأخبرته بما كان من قولي وقوله، فسر بذلك، فلما صلينا العتمة، التقينا بالحجر، ثم خرجنا حتى أتينا منزل ابن الزبير، فاستأذنا عليه، فأذن لنا، فقلت: أخليكما؟ فقالا جميعًا: لا سر دونك، فجلست، فإذا ابن الزبير قد أخذ بيده، فصافحه ورحب به، فسأله عن حاله وأهل بيته، وسكتا جميعًا غير طويل. فقال له المختار وأنا أسمع بعد أن تبدأ في أول منطقه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه لا خير في الإكثار من المنطق، ولا في التقصير عن الحاجة، إني قد جئتك لأبايعك على ألا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون في أول من تأذن له، وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك. فقال له ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ؛ فقال: وشر غلماني أنت مبايعه على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، ما لي في هذا الأمر من الحظ ما ليس لأقصى الخلق منك؛ لا والله لا أبايعك أبدًا إلا على هذه الخصال. قال عباس بن سهل: فالتقمت أذن ابن الزبير، فقلت له: اشتر منه دينه حتى ترى من رأيك؛ فقال له ابن الزبير: فإن لك ما سألته، فبسط يده فبايعه، ومكث معه حتى شاهد الحصار الأول حين قدم الحصين بن نمير السكوني مكة؛ فقاتل في ذلك اليوم، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاءً، وأعظمهم غناءً. فلما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، نادى المختار: يا أهل الإسلام، إلي إلي! أنا ابن أبي عبيد ابن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين؛ إلي يا أهل الحفاظ وحماة الأوتار. فحمي الناس يومئذ، وأبى ل وقاتل قتالًا حسنًا. ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أحرق البيت، فإنه أحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحو من ثلثمائة أحسين قتال قاتله أحدٌ من الناس، إن كان ليقاتل حتى يتبلد، ثم يجلس ويحيط به أصحابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشأم إلا ضاربهم حتى يكشفهم. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف محمد بن ثابط، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: تولى قتال أهل الشأم يوم تحريق الكعبة عبد الله بن مطيع وأنا والمختار، قال: فما كان فينا يومئذ رجلٌ حسن بلاءً من المختار. قال: وقاتل قبل أن يطلع أهل الشأم على موت يزيد بن معاوية بيوم قتالًا شديدًا، وذلك يوم الأحد لخمس عشرة لية مضت من ربيع الآخر سنة أربع وستين، وكان أهل الشأم قد رجوا أن يظفروا بنا، وأخذوا علينا سكك مكة. قال: وخرج ابن الزبير، فبايعه رجالٌ كثير على الموت؛ قال: فخرجت في عصابة معي أقاتل في جانب، والمختار في عصابة أخرى يقاتل في جميعةٍ من أهل اليمامة في جانب، وهم خوارج، وإنما قاتلوا ليدافعوا عن البيت، فهم في جانب، وعبد الله بن المطيع في جانب. قال: فشد أهل الشأم علي، فحازوني في أصحابي حتى اجتمعت أنا والمختار وأصحابه في مكان واحد، فلم أكن أصنع شيئًا إلا صنع مثله، ولا يصنع شيئًا إلا تكلفت أن أصنع مثله، فما رأيت أشد منه قط؛ قال: فإنا لنقاتل إذ شدت علينا رجال وخيل من خيل أهل الشأم، فاضطروني وإياه في نحو من سبعين رجلًا من أهل الصبر إلى جانب دار من دور أهل مكة، فقاتلهم المختار يومئذ، وأخذ يقول رجل لرجل: لا وألت نفس امرىءٍ يفر قال: فخرج المختار، وخرجت معه، فقلت: ليخرج منكم إلي رجل فخرج إلي رجل وإليه رجل آخر، فمشيت إلى صاحبي فأقتله، ومشى المختار إلى صاحبه فقتله، ثم صحنا بأصحابنا، وشددنا عليهم، فوالله لضربناهم حتى أخرجناهم من السكك كلها، ثم رجعنا إلى صاحبينا اللذين قتلنا. قال: فإذا الذي قتلت رجلٌ أحمر شديد الحمرة كأنه رومي، وإذا الذي قتل المختار رجل أسود شديد السواد، فقال لي المختار: تعلم والله إني لأظن قتيلينا هذين عبدين؛ ولو أن هذين قتلانا لفجع بنا عشائرنا ومن يرجونا، وما هذان وكلبان من الكلاب عندي إلا سواء، ولا أخرج بعد يومي هذا لرجل أبدًا إلا لرجل أعرفه؛ فقلت له: وأنا والله لا أخرج إلا لرجل أعرفه. وأقام المختار مع ابن الزبير حتى هلك يزيد بن معاوية. وانقضى الحصار، ورجع أهل الشأم إلى الشأم، واصطلح أهل الكوفة على عامر بن مسعود، بعد ما هلك يزيد يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام يرضونه، فلم يلبث عامر إلا شهرًا حتى بعث ببيعته وبيعة أهل الكوفة إلى ابن الزبير، وأقام المختار مع ابن الزبير خمسة أشهر بعد مهلك يزيد وأيامًا. قال أبو مخنف: فحدثني عبد ال ملك بن نوفل بن مساحق، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: والله إني لمع عبد الله بن الزبير ومعه عبد الله ابن صفوان بن أمية بن خلف، ونحن نطوف بالبيت. إذ نظر ابن الزبير فإذا هو بالمختار. فقال لابن صفوان: انظر إليه؛ فوالله لهو أحذر من ذئب قد أطافت به السباع؛ قال: فمضى ومضينا معه. فلما قضينا طوافنا وصلينا الركعتين بعد الطواف لحقنا المختار، فقال لابن صفوان: ما الذي ذكرني به ابن الزبير؟ قال: فكتمه، وقال: لم يذكرك إلا بخير؛ بلى ورب هذه البنية إن كنت لمن شأنكما، أما والله ليخطن في أثري أو لأقدنها عليه سعرًا. فأقام معه خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عليه أحدٌ من الكوفة إلا سأله عن حال الناس وهيئتهم. قال أبو مخنف: فحدثني عطية بن الحارث أبو روق الهمداني؛ أن هانىء ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله وحال الناس بالكوفة وهيئتهم؛ فأخبره عنهم بصلاح واتساق على طاعة ابن الزبير، إلا أن طائفة من الناس إليهم عدد أهل المصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يومٍ ما؛ فقال له المختار: أنا أبو إسحاق أنا والله لهم! أنا أجمعهم على مر الحق. وأنفي بهم ركبان الباطل. وأقتل بهم كل جبار عنيد؛ فقال له هانىء بن أبي حية: ويحك يابن أبي عبيد! إن استطت ألا توضع في الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الفتنة أقرب شيء أجلًا، وأسوأ الناس عملًا؛ فقال له المختار: إني لا أدعو إلى الفتنة إنما أدعو إلى الهدى والجماعة، ثم وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الكوفة حتى إذا كان بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان - وكان من أشجع العرب، وكان ناسكًا - فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار؛ ثم قال لسلمة بن مرثد: حدثني عن الناس بالكوفة؛ قال: هم كغنمٍ ضل راعيها؛ فقال المختار بن أبي عبيد: أنا الذي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها؛ فقال له سلمة: اتق الله واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزيٌّ بعملك إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر، ثم افترقا. وأقبل المختار حتى انتهى إلى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فيه، وادهن دهنًا يسيرًا، ولبس ثيابه واعتم. وتقلد سيفه، ثم ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة؛ لا يمر بمجلس إلا سلم على أهله. وقال: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم ما تحبون، وأقبل حتى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثم أحدًا، ووجد الناس قد راحوا إلى الجمعة، فأقبل حتى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عمرو البدي من كندة، فسلم عليه، ثم قال: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عمرو على رأي حسن، لن يدع الله لك معه مأثمًا إلا غفره، ولا ذنبًا إلا ستره - قال: وكان عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حبًا لعلي رضي الله عنه، وكان لا يصبر عن الشراب - فلما قال له المختار هذا القول قال له عبيدة: بشرك الله بخير إنك قد بشرتنا، فهل أنت مفسرٌ لنا؟ قال: نعم، فالقني في الرحل الليلة ثم مضى. قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عمرو قال: قال لي المختار هذه المقالة، ثم قال لي: القني في الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هذا عني أنهم قومٌ أخذ الله ميثاقهم على طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثم مضى فقال لي: كيف الطريق إلى بني هند؟ فقلت له: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وقد أسرج لي فركبته؛ قال: ومضيت معه إلى بني هند، فقال: دلني على منزل إسماعيل بن كثير. قال: فمضيت به إلى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب به، وصافحه وبشره، وقال له: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عمرو فإني قد أتيتكم بكل ما تحبون؛ قال: ثم مضى ومضينا معه حتى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثم مضى إلى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد واستشرف له الناس، وقالوا: هذا المختار قد قدم، فقام المختار إلى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حتى أقيمت الصلاة، فصلى مع الناس ثم ركد إلى سارية أخرى فصلى ما بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف. قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، أن المختار مر على حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فقال: أبشروا، فإني قد قدمت عليكم بما يسركم، ومضى حتى نزل داره، وهي الدار التي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إليها وإليه فيها. قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيد بن عمرو، وإسماعيل بن كثير من بني هند، قالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عليه وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا له: إن الشيعة قد اجتمعت لسليمان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرًا حتى يخرج؛ قال: فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ ثم قال: أما بعد، فإن المهدي ابن الوصي، محمد بن علي، بعثني إليكم أمينًا ووزيرًا ومنتخبًا وأميرًا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء. قال أبو مخنف: قال فضيل بن خديج: فحدثني عبيدة بن عمرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق الله إجابةً وضربًا على يده، وبايعاه. قال: وأقبل المختار يبعث إلى الشيعة وقد اجتمعت عند سليمان بن صرد، فيقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء؛ إن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو عشمة من العشم وحفشٌ بالٍ، ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علمٌ بالحروب؛ إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم. إني إنا أعمل على مثال قد مثل لي، وأمرٍ قد بين لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا؛ فإني لكم بكل ما تأملون خير زعيم. قال: فوالله ما زال بهذا القول ونحوه حتى استمال طائفةً من الشيعة، وكانوا يختلفون إليه ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يومئذ ورؤساؤهم مع سليمان بن صرد، وهو شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون به أحدًا؛ إلا أن المختار قد استمال منهم طائفةً ليسوا بالكثير، فسليمان بن صرد أثقل خلق الله على المختار، وقد اجتمع لابن صرد يومئذ أمره، وهو يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، ولا أن يهيج أمرًا حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان، رجاء أن يستجمع له أمر الشيعة، فيكون أقوى له على درك ما يطلب، فلما خرج سليمان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث بن ربيع ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله ابن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله: إن المختار أشد عليكم من سليمان بن صرد، إن سليمان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وقد خرج عن بلادكم؛ وإن المختار إنما يريد أن يثب عليكم في مصركم، فسيروا إليه فأوثقوه في الحديد، وخلدوه في السجن حتى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إليه في الناس، فما شعر بشيء حتى أحاطوا به وبداره فاستخرجوه، فلما رأى جماعتهم قال: ما بالكم! فوالله بعد ما ظفرت أكفكم! قال: فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله لعبد الله بن يزيد: شده كتافًا، ومشه حافيًا؛ فقال له عبد الله بن يزيد: سبحان الله! ما كنت لأمشيه ولا لأحفيه ولا كنت لأفعل هذا برجل لم يظهر لنا عدواةً ولا حربًا، وإنما أخذناه على الظن. فقال له إبراهيم بن محمد: ليس بعشك فادرجي، ما أنت وما يبلغنا عنك يابن أبي عبيد! فقال له: ما الذي بلغك عني إلا باطلٌ، وأعوذ بالله من غشٍّ كغش أبيك وجدك! قال: قال فضيل: فوالله إني لأنظر إليه حين أخرج وأسمع هذا القول حين قال له، غير أني لا أدري أسمعه منه إبراهيم أم لم يسمعه؛ فسكت حين تكلم به؛ قال: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فقال إبرهيم لعبد الله بن يزيد: ألا تشد عليه القيود؟ فقال: كفى له بالسجن قيدًا. قال أبو مخنف: وأما يحيى بن أبي عيسى فحدثني أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيدًا؛ قال: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهندٍ بتار، في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدنيا ولم أحفل بالموت إذا أتى. قال: فكان إذا أتيناه وهو في السجن ردد علينا هذا القول حتى خرج منه؛ قال: وكان يتشجع لأصحابه بعد ما خرج ابن صرد. ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبة قال أبو جعفر: وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وكانت قد مال حيطانها مما رميت به من حجارة المجانيق، فذكر محمد بن عمر الواقدي أن إبراهيم بن موسى حدثه عن عكرمة بن خالد، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه، وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إلى موضع، وجعل الركن الأسود عنده في تابوت في سرقةٍ من حرير، وجعل ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب عند الحجبة في خزانة البيت، حتى أعادها لما أعاد بناءه. قال محمد بن عمر: وحدثني معقل بن عبد الله، عن عطاء؛ قال: رأيت ابن الزبير هدم البيت كله حتى وضعه بالأرض. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير. وكان عامله على المدينة فيها أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله ابن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن نمران. وأبى شريح أن يقضي فيها، وقال فيما ذكر عنه: أنا لا أقضي في الفتنة. وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم. ثم دخلت سنة خمس وستين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة فمن ذلك ما كان من أمر التوابين وشخوصهم للطلب بدم الحسين بن علي إلى عبيد الله بن زياد. قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني أبو يوسف، عن عبد الله بن عوف الأحمري، قال: بعث سليمان بن صرد إلى وجوه أصحابه حين أراد الشخوص وذلك في سنة خمس وستين، فأتوه، فلما استهل الهلال هلال شهر بيع الآخر، خرج في وجوه أصحابه، وقد كان واعد أصحابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة فخرج حتى أتى عسكره، فدار في الناس ووجوه أصحابه، فلم يعجبه عدة الناس، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني في خيل، وقال: اذهبا حتى تدخلا الكوفة فناديا: يا لثارات الحسين! وابلغا المسجد الأعظم فناديا بذلك، فخرجا، وكانا أول خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين! قال: فأقبل حكيم بن منقذ الكندي في خيل والوليد بن غصين في خيل، حتى مرا ببني كثير، وإن رجلًا من بني كثير من الأزد يقال له عبد الله بن خازم مع امرأته سهلة بنت سبرة بن عمرو من بني كثير، وكانت من أجمل الناس وأحبهم إليه، سمع الصوت: يا لثارات الحسين! وما هو ممن كان يأتيهم، ولا استجاب لهم. فوثب إلى ثيابه فلبسها، ودعا بسلاحه، وأمر بإسراج فرسه، فقالت له امرأته: ويحك! أجننت! قال: لا والله، ولكني سمعت داعي الله، فأنا مجيبه، أنا طالبٌ بدم هذا الرجل حتى أموت، أو يقضي الله من أمري ما هو أحب إليه، فقالت له: إلى من تدع بنيك هذا؟ قال: إلى الله وحده لا شريك له؛ اللهم إني أستودعك أهلي وولدي، اللهم احفظني فيهم؛ وكان ابنه ذلك يدعى عزره، فبقي حتى قتل بعد مع مصعب بن الزبير؛ وخرج حتى لحق بهم، فقعدت امرأته تبكيه واجتمع إليها نساؤها، ومضى مع القوم، وطافت تلك الليلة الخيل بالكوفة، حتى جاءوا المسجد بعد العتمة، وفيه ناسٌ كثير يصلون، فنادوا: يا لثارات الحسين! وفيهم أبو عزة القابضي وكرب بن نمران يصلي، فقال: يا لثارات الحسين! أين جماعة القوم؟ قيل: بالنخيلة، فخرج حتى أتى أهله، فأخذ سلاحه، ودعا بفرسه ليركبه، فجاءته ابنته الرواع - وكانت تحت ثبيت بن مرثد القابضي. فقالت: يا أبت، ما لي أراك قد تقلدت سيفك، ولبست سلاحك! فقال لها: يا بنية، إن أباك يفر من ذنبه إلى ربه، فأخذت تنتحب وتبكي، وجاءه أصهاره وبنو عمه، فودعهم، ثم خرج فلحق بالقوم؛ قال: فلم يصبح سليمان بن صرد حتى أتاه نحوٌ ممن كان في عسكره حين دخله؛ قال: ثم دعا بديوانه لينظر فيه إلى عدة من بايعه حتى أصبح، فوجدهم ستة عشر ألفًا، فقال: سبحان الله! ما وافانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفًا. قال أبو مخنف: عن عطية بن الحارث، عن حميد بن مسلم، قال: قلت لسليمان بن صرد: إن المختار والله يثبط الناس عنك، إني كنت عنده أول ثلاث، فسمعت نفرًا من أصحابه يقولون: قد كملنا ألفي رجل؛ فقال: وهب أن ذلك كان؛ فأقام عنا عشرة آلاف، أما هؤلاء بمؤمنين! أما يخافون الله! أما يذكرون الله، وما أعطونا من أنفسنا من العهود والمواثيق ليجاهدن ولينصرن! فأقام بالنخيلة ثلاثًا يبعث ثقاته من أصحابه إلى من تخلف عنه يذكرهم الله وما أعطوه من أنفسهم، فخرج إليه نحوٌ من ألف رجل، فقام المسيب بن نجبة إلى سليمان بن صرد، فقال: رحمك الله، إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا ننتظرن أحدًا، واكمش في أمرك. قال: فإنك والله لنعما رأيت! فقام سليمان بن صرد في الناس متوكئًا على قوس له عربية. فقال: أيها الناس، من كان إنما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيًا وميتًا، ومن كان إنما يريد الدنيا وحرثها فوالله ما نأتي فيئًا نستفيئه، ولا غنيمةً نغنمها، ما خلا رضوان الله رب العالمين، وما معنا من ذهب ولا فضة، ولا خز ولا حرير، وما هي إلا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا، وزادٌ قدر البلغة إلى لقاء عدونا، فمن كان غير هذا ينوي فلا يصحبنا. فقم صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، فقال: آتاك الله رشدك، ولقاك حجتك؛ والله الذي لا إله غيره ما لنا خيرٌ في صحبة من الدنيا همته ونيته. أيها الناس، إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا، والطلب بدم من نبينا، ﷺ ليس معنا دينارٌ ولا درهم، إنما نقدم على حد السيوف وأطراف الرماح؛ فتنادى الناس من كل جانب: إنا لا نطلب الدنيا، وليس لها خرجنا. قال أبو مخنف: عن إسماعيل بن يزيد الأزدي، عن السري بن كعب الأزدي، قال: أتينا صاحبنا عبد الله بن سعد بن نفيل نودعه، قال: فقام فقمنا معه، فدخل على سليمان ودخلنا معه، وقد أجمع سليمان بالمسير، فأشار عليه عبد الله بن سعد بن نفيل أن يسير إلى عبيد الله بن زياد، فقال هو ورءوس أصحابه: الرأي ما أشار به عبد الله بن سعد بن نفيل أن نسير إلى عبيد الله بن زياد قاتل صاحبنا، ومن قبله أتينا، فقال له عبد الله بن سعد وعنده رءوس أصحابه جلوس حوله: إني قد رأيت إن يكن صوابًا فالله وفق، وإن يكن ليس بصواب فمن قبلي، فإني ما آلوكم ونفسي نصحًا؛ خطأ كان أم صوابًا، إنما خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلة الحسين كلهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فأنى نذهب ها هنا وندع الأقتال والأوتار! فقال سليمان بن صرد: فماذا ترون؟ فقالوا: والله لقد جاء برأيٍ، وإن ما ذكر لكما ذكر، والله ما نلقى من قتلة الحسين إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا إلا ها هنا بالمصر؛ فقال سليمان بن صرد: لكن أنا ما أرى ذلك لكم، إن الذي قتل صاحبكم، وعبأ الجنود إليه، وقال: لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي هذا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد؛ فسيروا إلى عدوكم على اسم الله؛ فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكةً منه، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية، فتنظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فتقاتلونه ولا تغشموا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عند الله خيرٌ للأبرار والصديقين؛ إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين. والله لو قاتلتم غدًا أهل مصركم ما عدم رجلٌ أن يرى رجلًا قد قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلًا لم يكن يريد قتله؛ فاستخيروا الله وسيروا. فتهيأ الناس للشخوص. قال: وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد وأصحابه، فنظرا في أمرهما، فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عليهم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدةً، فإن أبوا إلا الشخوص سألوهم النظرة حتى يعبوا معهم جيشًا فيقاتلوا عدوهم بكثفٍ وحدٍّ؛ فبعث عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة سويد بن عبد الرحمن إلى سليمان ابن صرد، فقال له: إن عبد الله وإبراهيم يقولان: إنا نريد أن نجيئك الآن لأمر عسى أن يجعل لنا ولك فيه صلاحًا؛ فقال: قل لهما فليأتيانا، وقال سليمان لرفاعة بن شداد البجلي: قم أنت فأحسن تعبئة الناس؛ فإن هذين الرجلين قد بعثا بكيت وكيت، فدعا رءوس أصحابه فجلسوا حوله فلم يمكثوا إلا ساعةً حتى جاء عبد الله بن يزيد في أشراف أهل الكوفة والشرط وكثير من المقاتلة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة في جماعة من أصحابه، فقال عبد الله بن يزيد لكل رجل معروف قد علم أنه قد شرك في دم الحسين: لا تصحبني إليهم مخافة أن ينظروا إليه فيعدوا عليه؛ وكان عمر بن سعد تلك الأيام التي كان سليمان معسكرًا فيها بالنخيلة لا يبيت إلا في قصر الإمارة مع عبد الله بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم في داره، ويذمروا عليه في بيته وهو فاعل لا يعلم فيقتل. وقال عبد الله بن يزيد: يا عمرو بن حريث، إن أنا أبطأت عنك فصل بالناس الظهر. فلما انتهى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد إلى سليمان بن صرد دخلا عليه، فحمد الله عبد الله بن يزيد وأثنى عليه ثم قال: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يغشه، وأنتم إخواننا، وأهل بلدنا، وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا؛ أقيموا معنا حتى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقاتلناهم. وتكلم إبراهيم بن محمد بنحو من هذا الكلام. قال: فحمد الله سليمان بن صرد وأثنى عليه ثم قال لهما: إني قد علمت أنكما قد محضتما في النصيحة، واجتهدتما في المشورة، فنحن بالله وله، وقد خرجنا لأمر، ونحن نسأل الله العزيمة على الرشد والتسديد لأصوبه، ولا نرانا إلا شاخصين إن شاء الله ذلك. فقال عبد الله بن يزيد: فأقيموا حتى نعبىء معكم جيشًا كثيفًا، فتلقوا عدوكم بكثف وجمع وحدٍّ. فقال سليمان: تنصرفون، ونرى فيما بيننا، وسيأتيكم إن شاء الله رأيٌ. قال أبو مخنف: عن عبد الجبار - يعني ابن عباس الهمداني - عن عون ابن أبي جحيفة السوائي، قال: ثم إن عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد ابن طلحة عرضا على سليمان أن يقيم معهما حتى يلقوا جموع أهل الشأم على أن يخصاه وأصحابه بخراج جوخي خاصة لهم دون الناس، فقال لهما سليمان: إنا ليس للدنيا خرجنا؛ وإنما فعلا ذلك لما قد كان بلغهما من إقبال عبيد الله بن زياد نحو العراق. وانصرف إبراهيم بن محمد وعبد الله بن يزيد إلى الكوفة، وأجمع القوم على الشخوص واستقبال ابن زياد، ونظروا فإذا شيعتهم من أهل البصرة لم يوافوهم لميعادهم ولا أهل المدائن، فأقبل ناس من أصحابه يلزمونهم، فقال سليمان: لا تلزموهم فإني لا أراهم إلا سيسرعون إليكم، لو قد انتهى إليهم خبركم وحين مسيركم، ولا أراهم خلفهم ولا أقعدهم إلا قلة النفقة وسوء العدة، فأقيموا ليتيسروا ويتجهزوا ويلحقوا بكم وبهم قوة، وما أسرع القوم في آثاركم. قال: ثم إن سليمان بن صرد قام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله قد علم ما تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإن للدنيا تجارًا، وللآخرة تجارًا، فأما تاجر الآخرة فساعٍ إليها، منتصب بتطلابها، لا يشتري بها ثمنًا، لا يرى إلا قائمًا وقاعدًا، وراكعًا وساجدًا، لا يطلب ذهبًا ولا فضة، ولا دنيا ولا لذة، وأما تاجر الدنيا فمكبٌّ عليها، راتع فيها، لا يبتغي بها بدلًا؛ فعليكم يرحمكم الله في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل، وبذكر الله كثيرًا على كل حال، وتقربوا إلى الله جل ذكره بكل خير قدرتم عليه، حتى تلقوا هذا العدو والمحل القاسط فتجاهدوه، فإن تتوسلوا إلى ربكم بشيء هو أعظم عنده ثوابًا من الجهاد والصلاة؛ فإن الجهاد سنام العمل. جعلنا الله وإياكم من العباد الصالحين، المجاهدين الصابرين على اللأواء! وإنا مدلجون الليلة من منزلنا هذا إن شاء الله فادلجوا. فادلج عشية الجمعة لخمس مضين من شهر بيع الآخر سنة خمس وستين للهجرة. قال: فلما خرج سليمان وأصحابه من النخيلة دعا سليمان بن صرد حكيم ابن منقذ فنادى في الناس: ألا لا يتبين رجل منكم دون دير الأعور. فبات الناس بدير الأعور، وتخلف عنه ناسٌ كثير، ثم سار حتى نزل الأقساس؛ أقساس مالك على شاطىء الفرات، فعرض الناس، فسقط منهم نحوٌ من ألف رجل، فقال ابن صرد: ما أحب أن من تخلف عنكم معكم، ولو خرجوا معكم ما زادوكم إلا خبالًا؛ إن الله عز وجل كره انبعاثهم فثبطهم، وخصكم بفضل ذلك، فاحمدوا ربكم. ثم خرج من منزله ذلك دلجةً، فصبحوا قبر الحسين، فأقاموا به ليلةً ويومًا يصلون عليه، ويستغفرون له؛ قال: فلما انتهى الناس إلى قبر الحسين صاحوا صيحةً واحدة، وبكوا؛ فما رئي يومٌ كان أكثر باكيًا منه. قال أبو مخنف: وقد حدث عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن ابن غزية، قال: لما انتهينا إلى قبر الحسين رضي الله عنه بكى الناس بأجمعهم، وسمعت جل الناس يتمنون أنهم كانوا أصيبوا معه؛ فقال سليمان: اللهم ارحم حسينًا الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم، وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم. ثم انصرف ونزل، ونزل أصحابه. قال أبو مخنف: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، قال: لما انتهى سليمان بن صرد وأصحابه إلى قبر الحسين نادوا صيحةً واحدةً: يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسينًا وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين؛ قال: فأقاموا عنده يومًا وليلة يصلون عليه ويبكون ويتضرعون؛ فما انفك الناس من يومهم ذلك يترحمون عليه وعلى أصحابه، حتى صلوا الغداة من الغد عند قبره، وزادهم ذلك حنقًا. ثم ركبوا، فأمر سليمان الناس بالمسير، فجعل الرجل لا يمضي حتى يأتي قبر الحسين فيقوم عليه، فيترحم عليه، ويستغفر له، قال: فوالله لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود. قال: ووقف سليمان عند قبره، فكلما دعا له قوم وترحموا عليه قال لهم المسيب بن نجبة وسلمان بن صرد: الحقوا بإخوانكم رحمكم الله! فما زال كذلك حتى بقي نحو من ثلاثين من أصحابه، فأحاط سليمان بالقبر هو وأصحابه، فقال سليمان: الحمد لله الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين، اللهم إذ حرمتناها معه فلا تحرمناها فيه بعده. وقال عبد الله بن وال: أما والله إني لأظن حسينًا وأباه وأخاه أفضل أمة محمد ﷺ وسيلةً عند يوم القيامة، أفما عجبتم لما ابتليت به هذه الأمة منهم! إنهم قتلوا اثنين، وأشفوا بالثالث على القتل؛ قال: يقول المسيب بن نجبة: فأنا من قتلهم ومن كان على رأيهم بريءٌ، إياهم أعادي وأقاتل. قال: فأحسن الرءوس كلهم المنطق، وكان المثنى بن مخربة صاحب أحد الرءوس والأشراف، فساءني حيث لم أسمعه تكلم مع القوم بنحو ما تكلموا به؛ قال: فوالله ما لبث أن تكلم بكلمات ما كن بدون كلام أحد من القوم، فقال: إن الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيهم ﷺ أفضل ممن هو دون نبيهم، وقد قتلهم قوم نحن لهم أعداء، ومنهم براء، وقد خرجنا من الديار والأهلين والأموال إرادة استئصال من قتلهم؛ فوالله لو أن القتال فيهم بمغرب الشمس أو بمنقطع التراب يحق علينا طلبه حتى نناله، فإن ذلك هو الغنم، وهي الشهادة التي ثوابها الجنة، فقلنا له: صدقت وأصبت ووفقت. قال: ثم إن سليمان بن صرد سار من موضع قبر الحسين وسرنا معه، فأخذنا على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم على الصدود، ثم على القيارة. قال أبو مخنف: عن الحارث بن حصيرة وغيره: إن سليمان بعث على مقدمته كريب بن يزيد الحميري. قال أبو مخنف: حدثني الحصين بن يزيد، عن السري بن كعب، قال: خرجنا مع رجال الحي نشيعهم، فلما انتهينا إلى قبر الحسين وانصرف سليمان بن صرد وأصحابه عن القبر، ولزموا الطريق، استقدمهم عبد الله ابن عوف بن الأحمر على فرس له مهلوب كميت مربوع، يتأكل تأ: لًا، وهو يرتجز ويقول: خرجن يلمعن بنا أرسالا ** عوابسًا يحملننا أبطالا نريد أن نلقي به الأقتالا ** القاسطين الغدر الضلالا وقد رفضنا الأهل والأموالا ** والخفرات البيض والحجالا نرضي به ذا النعم المفضالا قال أبو مخنف: عن سعد بن مجاهد الطائي، عن المحل بن خليفة الطائي، أن عبد الله بن يزيد كتب إلى سليمان بن صرد، أحسبه قال: بعثني به، فلحقته بالقيارة، واستقدم أصحابه حتى ظن أن قد سبقهم، قال: فوقف وأشار إلى الناس، فوقفوا عليه، ثم أقرأهم كتابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين. سلامٌ عليكم، أما بعد فإن كتابي هذا إليكم كتاب ناصح ذي إرعاء، وكم من ناصح مستغش، وكم من غاش مستنصح محب، إنه بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع وهو مذموم العقل والفعل. يا قومنا لا تطمعوا عدوكم في أهل بلادكم، فإنكم خيارٌ كلكم، ومتى ما يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم، فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم يا قومنا، " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذًا أبدًا "، يا قوم، إن أيدينا وأيديكم اليوم واحدة، وإن عدونا وعدوكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدونا، ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا؛ يا قومنا لا تستغشوا نصحي، ولا تخالفوا أمري، وأقبلوا حتى يقرأ عليكم كتابي. أقبل الله بكم إلى طاعته، وأدبر بكم عن معصيته، والسلام. قال: فلما قرىء الكتاب على ابن صرد وأصحابه قال للناس: ما ترون؟ قالوا: ماذا ترى؟ قد أبينا هذا عليكم وعليهم، ونحن في مصرنا وأهلنا، فالآن خرجنا ووطنا أنفسنا على الجهاد، ودنونا من أرض عدونا! ما هذا برأي. ثم نادوه أن أخبرنا برأيك، قال: رأيي والله أنكم لم تكونوا قط أقرب من إحدى الحسنيين منكم يومكم هذا؛ الشهادة والفتح، ولا أرى أن تنصرفوا عما جمعكم الله عليه من الحق، وأردتم به من الفضل؛ إنا وهؤلاء مختلفون؛ إن هؤلاء لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير، ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلا ضلالًا، وإنا إن نحن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا، تائبين من ذنوبنا، إن لنا شكلًا، وإن لابن الزبير شكلًا؛ وإن وإياهم كما قال أخو بني كنانة: أرى لك شكلًا غير شكلي فأقصري ** عن اللوم إذ بدلت واختلف الشكل قال: فانصرف الناس معه حتى نزل هيت، فكتب سليمان: بسم الله الرحمن. للأمير عبد الله بن يزيد، من سليمان بن صرد ومن معه من المؤمنين، سلامٌ عليك، أما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت، فنعم والله الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة، أنت والله من نأمنه بالغيب، ونستنصحه في المشورة، ونحمده على كل حال؛ إنا سمعنا الله عز وجل يقول في كتابه: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " - إلى قوله: " وبشر المؤمنين ". إن القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا، إنهم قد تابوا من عظيم جرمهم، وقد توجهوا إلى الله، وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله، " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير "، والسلام عليك فلما أتاه هذا الكتاب قال: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم، وايم الله ليقتلن كرامًا مسلمين، ولا والذي هو ربهم لا يقتلهم عدوهم حتى تشتد شوكتهم، وتكثر القتلى فيما بينهم. قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، وعبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن بن غزية، قالا: خرجنا من هيت حتى انتهينا إلى قرقيسيا، فنزلنا قريبًا منها، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها من القوم، ولم يخرج إليهم، فبعث سليمان المسيب بن نجبة، فقال: ائت ابن عمك هذا فقل له: فليخرج إلينا سوقًا، فإنا لسنا إياه نريد، إنما صمدنا لهؤلاء المحلين. فخرج المسيب بن نجبة حتى انتهى إلى باب قرقيسيا، فقال: افتحوا، ممن تحصنون؟ فقالوا: من أنت؟ قال: أنا المسيسب بن نجبة، فأتى الهذيل بن زفر أباه فقال: هذا رجلٌ حسن الهيئة، يستأذن عليك، وسألناه من هو؟ فقال: المسيب بن نجبة - قال: وأنا إذ ذاك لا علم لي بالناس، ولا أعلم أي الناس هو - فقال لي أبي: أما تدري أي بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها، وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم، وهو بعد رجلٌ ناسكٌ له دين، ائذن له. فأذنت له، فأجلسه أبي إلى جانبه، وساءله وألطفه في المسألة، فقال المسيب ابن نجبة: ممن تتحصن؟ إنا والله ما إياكم نريد، وما اعترينا إلى شيء إلا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلي، فاخرج لنا سوقًا، فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يومًا أو بعض يوم. فقال له زفر بن الحارث: إنا لم نغلق أبواب هذه المدينة إلا لنعلم إيانا اعتريتم أم غيرنا! إنا والله ما بنا عجزٌ عن الناس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحب أنا بلينا بقتالكم؛ وقد بلغنا عنكم صلاح، وسيرةٌ حسنة جميلة. ثم دعا ابنه فأمره أن يضع لهم سوقًا، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فقال له المسيب: أما المال فلا حاجة لي فيه، والله ما له خرجنا، ولا إياه طلبنا، وأما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إليه إن ظلع فرسي، أو غمز تحتي. فخرج به حتى أتى أصحابه وأخرجت لهم السوق، فتسوقوا، وبعث زفر بن الحارث إلى المسيب بن نجبة بعد إخراج الأسواق والأعلاف والطعام الكثير بعشرين جزورًا، وبعث إلى سليمان بن صرد مثل ذلك، وقد كان زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر، فسمي له عبد الله بن سعد بن نفيل وعبد الله بن والٍ ورفاعة بن شداد، وسمي له أمراء الأرباع. فبعث إلى هؤلاء الرءوس الثلاثة بعشر جزائر عشر جزائر، وعلف كثير وطعام، وأخرج للعسكر عيرًا عظيمة وشعيرًا كثيرًا، فقال غلمان زفر: هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم، وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم، وهذا دقيق فتزودوا منه ما أطقتم، فظل القوم يومهم ذلك مخصبين لم يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت، وقد كفوا اللحم والدقيق والشعير إلا أن يشتري الرجل ثوبًا أو سوطًا. ثم ارتحلوا من الغد، وبعث إليهم زفر: إني خارج إليكم فمشيعكم؛ فأتاهم وقد خرجوا على تعبيةٍ حسنة، فسايرهم، فقال زفر لسليمان: إنه قد بعث خمسة أمراء قد فصلوا من الرقة فيهم الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي كلاع، وأدهم بن محرز الباهلي وأبو مالك بن أدهم، وربيعة بن المخارق الغنوي، وجبلة بن عبد الله الخثعمي؛ وقد جاءوكم في مثل الشوك والشجر، أتاكم عدد كثير، وحدٌّ حديد، وايم الله لقل ما رأيت رجالًا هم أحسن هيئةً ولا عدةً، ولا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك؛ ولكنه قد بلغني أنه قد أقبلت إليكم عدة لا تحصى؛ فقال ابن صرد: على الله توكلنا، وعليه فليتوكل المتوكلون، ثم قال زفر: فهل لكم في أمر أعرضه عليكم؛ لعل الله أن يجعل لنا ولكم فيه خيرًا؟ إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحدًا وأيدينا واحدةً، وإن شئتم نزلتم على باب مدينتنا، وخرجنا فعسكرنا إلى جانبكم، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعًا. فقال سليمان لزفر: قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه، وذكروا مثل الذي ذكرت، وكتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم يوافقنا ذلك، فلسنا فاعلين؛ فقال زفر: فانظروا ما أشير به عليكم فاقبلوه، وخذوا به، فإني للقوم عدو، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة، وأنا لكم وادٌّ، أحب أن يحوطكم الله بالعافية؛ إن القوم قد فصلوا من الرقة، فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم، ويكون الرستاق والماء والماد في أيديكم، وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم له آمنون، والله لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة؛ فإن القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خيول، والله لقل ما رأيت جماعة خيل قط أكرم منها؛ تأهبوا لها من يومكم هذا فإني أرجو أن تسبقوهم أليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فإنهم أكثر منكم فلا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لهم ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوكم أن يصرعوكم، ولا تصفوا لهم حين تلقونهم، فإني لا أرى معكم رجالةً، ولا أراكم كلكم إلا فرسانًا، والقوم لا قوكم بالرجال والفرسان؛ فالفرسان تحمي رجالها، والرجال تحمي فرسانها، وأنتم ليس لكم رجال تحمي فرسانكم، فالقوهم في الكتائب والمقانب، ثم بثوها ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة كتيبةً إلى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم في صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة؛ ثم وقف فودعهم، وسأل الله أن يصحبهم وينصرهم. فأثنى الناس عليه، ودعوا له، فقال له سليمان بن صرد: نعم المنزول به أنت! أكرمت النزول، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة. ثم إن القوم جدوا في المسير، فجعلوا يجعلون كل مرحلتين مرحلة؛ قال: فمررنا بالمدن حتى بلغنا ساعا. ثم إن سليمان بن صرد عبى الكتائب كما أمره زفر، ثم أقبل حتى انتهى إلى عين الوردة فنزل في غربيها، وسبق القوم إليها، فعسكروا، وأقام بها خمسًا لا يبرح، واستراحوا واطمأنوا، وأراحوا خيلهم. قال هشام: قال أبو مخنف، عن عطية بن الحارث، عن عبد الله بن غزية، قال: أقبل أهل الشأم في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، قال عبد الله بن غزية: فقام فينا سليمان فحمد الله فأطال، وأثنى عليه فأطنب، ثم ذكر السماء والأرض، والجبال والبحار وما فيهن من الآيات، وذكر آلاء الله ونعمه، وذكر الدنيا فزهد فيها، وذكر الآخرة فرغب فيها، فذكر من هذا ما لم أحصه، ولم أقدر على حفظه، ثم قال: أما بعد، فقد أتاكم الله بعدوكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء الليل والنهار، تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح، ولقاء الله معذرين، فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم في دارهم وحيزهم، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم، واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا يولينهم امرؤٌ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة. لا تقتلوا مدبرًا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيرًا من أهل دعوتم، إلا أن يقاتلوكم بعد أن تأسروه، أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة الله عليهم؛ فإن هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة. ثم قال سليمان: إن أنا قتلت فأمير الناس المسيب بن نجبة فإن أصيب المسيب فأمير الناس عبد الله بن سعد بن نفيل، فإن قتل عبد الله ابن سعد فأمير الناس عبد الله بن والٍ، فإن قتل عبد الله بن وال فأمير الناس رفاعة بن شداد، رحم اله امرأً صدق ما عاهد الله عليه! ثم بعث المسيب ابن نجبة في أربعمائة فارس، ثم قال: سر حتى تلقى أول عسكر من عساكرهم فشن فيهم الغارة، فإذا رأيت ما تحبه وإلا انصرفت إلي في أصحابك؛ وإياك أن تنزل أو تدع أحدًا من أصحابك أن ينزل، أو يستقبل آخر ذلك، حتى لا تجد منه بدًا. قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن حميد بن مسلم أنه قال: أشهد أني في خيل المسيب بن نجبة تلك، إذ أقبلنا نسير آخر يومنا كله وليلتنا، حتى إذا كان في آخر السحر نزلنا فعلقنا على دوابنا مخاليه، ثم هومنا تهويمةً بمقدار تكون مقدار قضمها ثم ركبناها، حتى إذا انبلج لنا الصبح نزلنا فصلينا، ثم ركب فركبنا. فبعث أبا الجويرية العبدي بن الأحمر في مائة من أصحابه، وعبد الله بن عوف بن الأحمر في مائة وعشرين، وحنش بن ربيعة أبا المعتمر الكناني في مثلها، وبقي هو في مائة؛ ثم قال: انظروا أول من تلقون فأتوني به، فكان أول من لقينا أعرابي يطرد أحمرةً وهو يقول: يا مال لا تعجل إلى صحبي ** واسرح فإنك آمن السرب قال: يقول عبد الله بن عوف بن الأحمر: يا حميد بن مسلم، أبشر بشرى ورب الكعبة، فقال له ابن عوف بن الأحمر: ممن أنت يا أعرابي؟ قال: أنا من بني تغلب؛ قال: غلبتم ورب الكعبة إن شاء الله. فانتهى إلينا المسيب بن نجبة، فأخبرناه بالذي سمعنا من الأعرابي وأتيناه به، فقال المسيب ابن نجبة. أما لقد سررت بقولك: أبشر، وبقولك: يا حميد بن مسلم، وإني لأرجو أن تبشروا بما يسركم، وإنما سركم أن تحمدوا أمركم، وأن تسلموا من عدوكم، وإن هذا الفأل لهو الفأل الحسن، وقد كان رسول الله ﷺ يعجبه الفأل. ثم قال المسيب بن نجبة للأعرابي: كم بيننا وبين أدنى هؤلاء القوم منا؟ قال: أدنى عسكر من عساكرهم منك عسكر ابن ذي الكلاع، وكان بينه وبين الحصين اختلاف، ادعى الحصين أنه على جماعة الناس، وقال ابن ذي الكلاع: ما كنت لتولي علي، وقد تكاتبا إلى عبيد الله بن زياد، فهما ينتظران أمره، فهذا عسكر ابن ذي الكلاع منكم على رأس ميل؛ قال: فتركنا الرجل، فخرجنا نحوهم مسرعين، فوالله ما شعروا حتى أشرفنا عليهم وهم غارون، فحملنا في جانب عسكرهم فوالله ما قاتلوا كثير قتال حتى انهزموا، فأصبنا منهم رجالًا، وجرحنا فيهم فأكثرنا الجراح، وأصبنا لهم دواب، وخرجوا عن عسكرهم وخلوه لنا، فأخذنا منه ما خف علينا، فصاح المسيب فينا: الرجعة، إنكم قد نصرتم، وغنمتم وسلمتم، فانصرفوا، فانصرفنا حتى أتينا سليمان. قال: فأتى الخبر عبيد الله بن زياد، فسرح إلينا الحصين بن نمير مسرعًا حتى نزل في اثني عشر ألفًا، فخرجنا إليهم يوم الأربعاء لثمانٍ بقين من جمادى الأولى؛ فجعل سليمان بن صرد عبد الله بن سعد بن نفيل على ميمنته، وعلى ميسرته المسيب بن نجبة، ووقف هو في القلب، وجاء حصين بن نمير وقد عبأ لنا جنده، فجعل على ميمنته جبلة بن عبد الله، وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي، ثم زحفوا إلينا، فلما دنوا دعونا إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان وإلى الدخول في طاعته، ودعوناهم إلى أن يدفعوا إلينا عبيد الله بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عبد الملك بن مروان، وإلى أن يخرج من ببلادنا من آل ابن الزبير، ثم نرد هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا الذين آتانا الله من قبلهم بالنعمة والكرامة؛ فأبى القوم وأبينا. قال حميد بن مسلم: فحملت ميمنتنا على ميسرتهم وهزمتهم، وحملت ميسرتنا على ميمنتهم، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم، فهزمناهم حتى اضطررناهم إلى عسكرهم. فما زال الظفر لنا عليهم حتى حجز الليل بيننا وبينهم، ثم انصرفنا عنهم وقد حجزنا في عسكرهم، فلما كان الغد صبحهم ابن ذي الكلاع في ثمانية آلاف، أمدهم بهم عبيد الله ابن زياد، وبعث إليه يشتمه، ويقع فيه، ويقول: إنما عملت عمل الأغمار، تضيع عسكرك ومسالحك! سر إلى الحصين بن نمير حتى توافيه وهو على الناس، فجاءه، فغدوا علينا وغاديناهم، فقاتلناهم قتالًا لم ير الشيب والمرد مثله قط يومنا كله، لا يحجز بيننا وبين القتال إلا الصلاة حتى أمسينا فتحاجزنا، وقد والله أكثروا فينا الجراح، وأفشيناها فيهم؛ قال: وكان فينا قصاصٌ ثلاثة: رفاعة بن شداد البجلي، وصحير بن حذيفة بن هلال بن مالك المري، وأبو الجويرية العبدي، فكان رفاعة يقص ويحضض الناس في الميمنة، لا يبرحها، وجرح أبو الجويرية اليوم الثاني في أول النهار، فلزم الرحال، وكان صحير ليلته كلها يدور فينا ويقول: أبشروا عباد الله بكرامة الله ورضوانه، فحق والله لمن ليس بينه وبين لقاء الأحبة ودخول الجنة والراحة من إبرام الدنيا وأذاها إلا فراق هذه النفس الأمارة بالسوء أن يكون بفراقها سخيًا، وبلقاء ربه مسرورًا. فمكثنا كذلك حتى أصبحنا، وأصبح ابن نمير وأدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف، فخرجوا إلينا، فاقتتلنا اليوم الثالث يوم الجمعة قتالًا شديدًا إلى ارتفاع الضحى. ثم إن أهل الشأم كثرونا وتعطفوا علينا من كل جانب، ورأى سليمان بن صرد ما لقي أصحابه، فنزل فنادى: عباد الله، من أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإلي؛ ثم كسر جفن سيفه، ونزل معه ناسٌ كثير، فكسروا جفون سيوفهم، ومشوا معه، وانزوت خيلهم حتى اختلطت مع الرجال، فقاتلوهم حتى نزلت الرجال تشتد مصلتةً بالسيوف، وقد كسروا الجفون، فحمل الفرسان على الخيل ولا يثبتون، فقاتلوهم وقتلوا من أهل الشأم مقتلةً عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلما رأى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم، بعث الرجال ترميهم بالنبل، واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سليمان بن صرد رحمه الله، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب ثم وقع؛ قال: فلما قتل سسليمان بن صرد أخذ الراية المسيب بن نجبة، وقال لسليمان بن صرد: رحمك الله يا أخي! فقد صدقت ووفيت بما عليك، وبقي ما علينا، ثم أخذ الراية فشد بها، فقاتل ساعةً ثم رجع، ثم شد بها فقاتل ثم رجع، ففعل ذلك مرارًا يشد ثم يرجع، ثم قتل رحمه الله. قال أبو مخنف: وحدثنا فروة بن لقيط، عن مولىً للمسيب بن نجبة الفزاري، قال: لقيته بالمدائن وهو مع شبيب بن يزيد الخارجي، فجرى الحديث حتى ذكرنا أهل عين الوردة. قال هشام عن أبي مخنف؛ قال: حدثنا هذا الشيخ، عن المسيب بن نجبة، قال: والله ما رأيت أشجع منه إنسانًا قط، ولا من العصابة التي كان فيها، ولقد رأيته يوم عين الوردة يقاتل قتالًا شديدًا، ما ظننت أن رجلًا واحدًا يقدر أن يبلي مثل ما أبلى، ولا ينكأ في عدوه مثل ما نكأ، لقد قتل رجالًا؛ قال: وسمعته يقول قبل أن يقتل وهو يقاتلهم: قد علمت ميالة الذوائب ** واضحة اللبات والترائب أني غداة الروع والتغالب ** أشجع من ذي لبدٍ مواثب قطاع أقرانٍ مخوف الجانب قال أبو مخنف: حدثني أبي وخالي، عن حميد بن مسلم وعبد الله بن غزية. قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف، قال: لما قتل المسيب بن نجبة أخذ الراية عبد الله بن سعد بن نفيل، ثم قال رحمه الله: أخوي منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا. وأقبل بمن كان معه من الأزد، فحفوا برايته، فوالله إنا لكذلك إذ جاءنا فرسان ثلاثة: عبد الله بن الخضل الطائي، وكثير بن عمرو المزني، وسعر بن أبي سعر الحنفي، كانوا خرجوا مع سعد بن حذيفة بن اليمان في سبعين ومائة من أهل المدائن، فسرحهم يوم خرج في آثارنا على خيول مقلمة مقدحة، فقال لهم: اطووا المنازل حتى تلحقوا بإخواننا فتبشروهم بخروجنا إليهم لتشتد بذلك ظهروهم، وتخبروهم بمجيء أهل البصرة أيضًا، كان المثنى بن مخربة العبدي أقبل في ثلثمائة من أهل البصرة، فجاء حتى نزل مدينة بهرسير بعد خروج سعد بن حذيفة من المدائن لخمس ليال، وكان خروجه من البصرة قبل ذلك قد بلغ سعد بن حذيفة قبل أن يخرج من المدائن، فلما انتهوا إلينا قالوا: أبشروا فقد جاءكم إخوانكم من أهل المدائن وأهل البصرة؛ فقال عبد الله بن سعد بن نفيل: ذلك لو جاءونا ونحن أحياء؛ قال: فنظروا إلينا، فلما رأوا مصارع إخوانهم وما بنا من الجراح، بكى القوم وقالوا: وقد بلغ منكم ما نرى! إنا لله وإنا إليه راجعون! قال: فنظروا والله إلى ما ساء أعينهم؛ فقال لهم عبد الله بن نفيل: إنا لهذا خرجنا، ثم اقتتلنا فما اضطربنا إلا ساعةً حتى قتل المزني، وطعن الحنفي فوقع بين القتلى، ثم ارتث بعد ذلك فنجا، وطعن الطائي فجزم أنفه، فقاتل قتالًا شديدًا، وكان فارسًا شاعرًا، فأخذ يقول: قد علمت ذات القوم الرود ** أن لست بالواني ولا الرعديد يومًا ولا بالفرق الحيود قال: فحمل علينا ربيعة بن المخارق حملةً منكرة، فاقتتلنا قتالًا شديدًا. ثم إنه اختلف هو وعبد الله بن سعد بن نفيل ضربتين، فلم يصنع سيفاهما شيئًا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض، ثم قاما فاضطربا، ويحمل ابن أخي ربيعة بن المخارق على عبد الله بن سعد، فطعنه في ثغرة نحره، فقتله، ويحمل عبد الله بن عوف بن الأحمر على ربيعة بن المخارق، فطعنه فصرعه. فلم يصب مقتلًا؛ فقام فكر عليه الثانية، فطعنه أصحاب ربيعة فصرعوه؛ ثم إن أصحابه استنقذوه. وقال خالد بن سعد بن نفيل: أروني قاتل أخي، فأريناه ابن أخي ربيعة بن المخارق؛ فحمل عليه فقنعه بالسيف واعتنقه الآخر فخر إلى الأرض، فحمل أصحابه وحملنا، وكانوا أكثر منا فاستنقذوا صاحبهم، وقتلوا صاحبنا، وبقيت الراية ليس عندها أحدٌ. قال: فنادينا عبد الله بن والٍ بعد قتلهم فرساننا، فإذا هو قد استلحم في عصابة معه إلى جانبنا، فحمل عليه رفاعة بن شداد، فكشفهم عنه، ثم أقبل إلى رايته وقد أمسكها عبد الله بن خازم الكثيري، فقال لابن وال: أمسك عني رايتك؛ قال: امسكها عني رحمك الله، فإني بي مثل حالك فقال له: أمسك عني رايتك، فإني أريد أن أجاهد؛ قال: فإن هذا الذي أنت فيه جهاد وأجر؛ قال: فصحنا: يا أبا عزة، أطع أميرك يرحمك الله! قال: فأمسكها قليلًا، ثم إن ابن والٍ أخذها منه. قال أبو مخنف: قال أبو الصلت التيمي الأعور: حدثني شيخ للحي كان معه يومئذ، قال: قال لنا ابن وال: من أراد الحياة التي ليس بعدها موت، والراحة التي ليس بعدها نصبٌ، والسرور الذي ليس بعده حزنٌ، فليتقرب إلى ربه بجهاد هؤلاء المحلين، والرواح إلى الجنة رحمكم الله! وذلك عند العصر؛ فشد عليهم، وشددنا معه، فأصبنا والله منهم رجالًا، وكشفناهم طويلًا، ثم إنهم بعد ذلك تعطفوا علينا من كل جانب، فحازونا حتى بلغوا بنا المكان الذي كنا فيه، وكنا بمكان لا يقدرون أن يأتونا فيه إلا من وجه واحد، وولي قتالنا عند المساء أدهم بن محرز الباهلي؛ فشد علينا في خيله ورجاله، فقتل عبد الله بن وال التيمي. قال أبو مخنف، عن فروة بن لقيط، قال: سمعت أدهم بن محرز الباهلي في إمارة الحجاج بن يوسف وهو يحدث ناسًا من أهل الشأم، قال: دفعت إلى أحد أمراء العراق؛ رجل منهم يقولون له عبد الله بن وال وهو يقول: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فرحين.. "، الآيات الثلاث، قال: فغاظني، فقلت في نفسي: هؤلاء يعدوننا بمنزلة أهل الشرك، يرون أن من قتلنا منهم كان شهيدًا. فحملت عليه أضرب يده اليسرى فأطنتها، وتنحيت قريبًا، فقلت له: أما إني أراك وددت أنك في أهلك، فقال: بئسما رأيت! أما والله ما أحب أنها يدك الآن إلا أن يكون لي فيها من الأجر مثل ما في يدي؛ قال: فقلت له: لم؟ قال: لكيما يجعل الله عليك وزرها، ويعظم لي أجرها؛ قال: فغاظني فجمعت خيلي ورجالي؛ ثم حملنا عليه وعلى أصحابه، فدفعت إليه فطعنته فقتلته، وإنه لمقبل إلي ما يزول؛ فزعموا بعد أنه كان من فقهاء أهل العراق الذين كانوا يكثرون الصوم والصلاة ويفتون الناس. قال أبو مخنف: وحدثني الثقة، عن حميد بن مسلم وعبد الله بن غزية قال: لما هلك عبد الله بن والٍ نظرنا، فإذا عبد الله بن خازم قتيل إلى جنبه، ونحن نرى أنه رفاعة بن شداد البجلي، فقال له رجل من بني كنانة يقال له الوليد بن غضين: أمسك رايتك؛ قال: لا أريدها؛ فقلت له: إنا لله! ما لك! فقال: ارجعوا بنا لعل الله يجمعنا ليوم شر لهم، فوثب عبد الله بن عوف بن الأحمر إليه، فقال: أهلكتنا، والله لئن انصرفت ليركبن أكتافنا فلا نبلغ فرسخًا حتى نهلك من عند آخرنا، فإن نجا منا ناج أخذه الأعراب وأهل القرى، فتقربوا إليهم به فيقتل صبرًا، أنشدك الله أن تفعل، هذه الشمس قد طفلت للمغيب، وهذا الليل قد غشينا، فنقاتلهم على خيلنا هذه فإنا الآن ممتنعون، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أول الليل فرمينا بها، فكان ذلك الشأن حتى نصبح ونسير ونحن على مهل، فيحمل الرجل منا جريحه وينتظر صاحبه. وتسير العشرة معًا، ويعرف الناس الوجه الذي يأخذون، فيتبع فيه بعضهم بعضا. ولو كان الذي ذكرت لم تقف أمٌّ على ولدها، ولم يعرف رجل وجهه، ولا أين يسقط، ولا أين يذهب! ولم نصبح إلا ونحن بين مقتول ومأسور. فقال له رفاعة بن شداد: فإنك نعم ما رأيت. قال: ثم أقبل رفاعة على الكناني فقال له: أتمسكها أم آخذها منك؟ فقال له الكناني: إني لا أريد ما تريد، إني أريد لقاء ربي، واللحاق بإخواني، والخروج من الدنيا إلى الآخرة، وأنت تريد ورق الدنيا، وتهوى البقاء، وتكره فراق الدنيا، أما والله إني لأحب لك أن ترشد، ثم دفع إليه الراية، وذهب ليستقدم. فقال له ابن أحمر: قاتل معنا ساعةً رحمك الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فما زال به يناشده حتى احتبس عليه، وأخذ أهل الشأم يتنادون: إن الله قد أهلكهم؛ فأقدموا عليهم فافرغوا منهم قبل الليل. فأخذوا يقدمون عليهم، فيقدمون على شوكة شديدة؛ ويقاتلون فرسانًا شجعانًا ليس فيهم سقط رجل، وليسوا بمضجرين فيتمكنوا منهم، فقاتلوهم حتى العشاء قتالًا شديدًا، وقتل الكناني قبل المساء، وخرج عبد الله بن عزيز الكندي ومعه ابنه محمد غلام صغير، فقال: يا أهل الشأم، هل فيكم أحدٌ من كندة؟ فخرج إليه منهم رجال، فقالوا: نعم، نحن هؤلاء. فقال لهم: دونكم أخوكم فابعثوا به إلى قومكم بالكوفة، فأنا عبد الله بن عزيز الكندي، فقالوا له: أنت ابن عمنا، فإنك آمن؛ فقال لهم: والله لا أرغب عن مصارع إخواني الذين كانوا للبلاد نورًا، وللأرض أوتادًا، وبمثلهم كان الله يذكر؛ قال: فأخذ ابنه يبكي في أثر أبيه، فقال: يا بني، لو أن شيئًا كان آثر عندي من طاعة ربي إذًا لكنت أنت، وناشده قومه الشاميون لما رأوا من جزع ابنه وبكائه في أثره، وأروا الشأميون له ولابنه رقة شديدة حتى جزعوا وبكوا، ثم اعتزل الجانب الذي خرج إليه منه قومه، فشد على صفهم عند المساء، فقاتل حتى قتل. قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج، قال: حدثني مسلم بن زحر الخولاني، أن كريب بن زيد الحميري مشى إليهم عند المساء ومعه راية بلقاء في جماعة، قلما تنقص من مائة رجل إن نقصت، وقد كانوا تحدثوا بما يريد رفاعة أن يصنع إذا أمسى، فقام لهم الحميري وجمع إليه رجالًا من حمير وهمدان، فقال: عباد الله! روحوا إلى ربكم، والله ما في شيء من الدنيا خلف من رضاء الله والتوبة إليه، إنه قد بلغني أن طائفة منكم يريدون أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه إلى دنياهم، وإن هم ركنوا إلى دنياهم رجعوا إلى خطاياهم، فأما أنا فوالله لا أولي هذا العدو ظهري حتى أرد موارد إخواني؛ فأجابوه وقالوا: رأينا مثل رأيك، ومضى برايته حتى دنا من القوم، فقال ابن ذي الكلاع: والله إني لأرى هذه الراية حميرية أو همدانية، فدنا منهم فسألهم، فأخبروه، فقال لهم: إنكم آمنون. فقال له صاحبهم: إنا قد كنا آمنين في الدنيا، وإنما خرجنا نطلب أمان الآخرة؛ فقاتلوا القوم حتى قتلوا، ومشى صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني في ثلاثين من مزينة، فقال لهم: لا تهابوا الموت في الله، فإنه لاقيكم، ولا ترجعوا إلى الدنيا التي خرجتم منها إلى الله فإنها لا تبقى لكم، ولا تزهدوا فيما رغبتم فيه من ثواب الله فإن ما عند الله خيرٌ لكم؛ ثم مضوا فقاتلوا حتى قتلوا، فلما أمسى الناس ورجع أهل الشأم إلى معسكرهم، نطر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به، وإلى كل جريح لا يعين على نفسه؛ فدفعه إلى قومه، ثم سار بالناس ليلته كلها حتى أصبح بالتنينير فعبر الخابور، وقطع المعابر، ثم مضى لا يمر بمعبر إلا قطعه، وأصبح الحصين بن نمير فبعث فوجدهم قد ذهبوا، فلم يبعث في آثارهم أحدًا، وسار بالناس فأسرع، وخلف رفاعة وراءهم أبا الجويرية العبدي في سبعين فارسًا يسترون الناس؛ فإذا مروا برجل قد سقط حمله، أو بمتاع قد سقط قبضه حتى يعرفه، فإن طلب أو ابتغى بعث إليه فأعلمه، فلم يزالوا كذلك حتى مروا بقرقيسيا من جانب البر، فبعث إليهم زفر من الطعام والعلف مثل ما كان بعث إليهم في المرة الأولى، وأرسل إليهم الأطباء وقال: أقيموا عندنا ما أحببتم، فإن الكرامة والمواساة؛ فأقاموا ثلاثًا، ثم زود كل امرىء منهم ما أحب من الطعام والعلف؛ قال: وجاء سعد بن حذيفة بن اليمان حتى انتهى إلى هيت، فاستقبله الأعراب فأخبروه بما لقي الناس، فانصرف، فتلقى المثنى بن مخربة العبدي بصندوداء، فأخبره، فأقاموا حتى جاءهم الخبر: إن رفاعة قد أظلكم، فخرجوا حتى دنا من القرية، فاستقبلوه فسلم الناس بعضهم على بعض، وبكى بعضهم إلى بعض، وتناعوا إخوانهم فأقاموا بها يومًا وليلة؛ فانصرف أهل المدائن إلى المدائن، وأهل البصرة إلى البصرة، وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة، فإذا المختار محبوس. قال هشام: قال أبو مخنف، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أدهم بن محرز الباهلي، أنه أتى عبد الملك بن مروان ببشارة الفتح، قال: فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله قد أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة، ورأس ضلالة، سليمان بن صرد، ألا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف، ألا وقد قتل الله من رءوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين: عبد الله بن سعد أخا الأزد، وعبد الله بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هؤلاء أحدٌ عنده دفاع ولا امتناع. قال هشام، عن أبي مخنف: وحدثت أن المختار مكث نحوًا من خمس عشرة ليلةً، ثم قال لأصحابه: عدوا لغازيكم هذا أكثر من عشر، ودون الشهر. ثم يجيئكم نبأ هتر، من طعن نتر، وضرب هبرن وقتل جم، وأمر رجم. فمن لها؟ أنا لها، لا تكذبن، أنا لها. قال أبو مخنف: حدثنا الحصين بن يزيد، عن أبان بن الوليد، قال: كتب المختار وهو في السجن إلى رفاعة بن شداد حين قدم من عين الوردة: أما بعد، فمرحبًا بالعصب الذين أعظم الله لهم الأجر حين انصرفوا، ورضي انصرافهم حين قفلوا. أما ورب البنية التي بنى ما خطا خاطٍ منكم خطوةً، ولا رتا رتوة، إلا كان ثواب الله له أعظم من ملك الدنيا. إن سليمان قد قضى ما عليه، وتوفاه الله فجعل روحه مع أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون، إني أنا الأمير المأمور، والأمين المأمون، وأمير الجيش، وقاتل الجبارين، والمنتقم من أعداء الدين، والمقيد من الأوتار، فأعدوا واستعدوا، وأبشروا واستبشروا؛ أدعوكم إلى كتاب الله، وسنة نبيه ﷺ، وإلى الطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء، وجهاد المحلين؛ والسلام. قال أبو مخنف: وحدثني أبو زهير العبسي، أن الناس تحدثوا بهذا من أمر المختار، فبلغ ذلك عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد، فخرجا في الناس حتى أتيا المختار، فأخذاه. قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم قال: لما تهيأنا للانصراف قام عبد الله بن غزية ووقف على القتلى فقال: يرحمكم الله، فقد صدقتم وصبرتم، وكذبنا وفررنا؛ قال: فلما سرنا وأصبحنا إذا عبد الله بن غزية في نحو من عشرين قد أرادوا الرجوع إلى العدو والاستقتال، فجاء رفاعة وعبد الله بن عوف بن الأحمر وجماعة من الناس فقالوالهم: ننشدكم الله ألا تزيدونا فلولًا ونقصانًا، فإنا لا نزال بخير ما كان فينا مثلكم من ذوي النيات، فلم يزالوا بهم كذلك يناشدونهم حتى ردوهم غير رجل من مزينة يقال له عبيدة بن سفيان، رحل مع الناس، حتى إذا غفل عنه انصرف حتى لقي أهل الشأم، فشد بسيفه يضاربهم حتى قتل. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد الأزدي، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: كان ذلك المزني صديقًا لي، فلما ذهب لينصرف ناشدته الله، فقال: أما إنك لم تكن لتسألني شيئًا من الدنيا إلا رأيت لك من الحق علي إيتاءكه، وهذا الذي تسألني أريد الله به؛ قال: ففارقني حتى لقي القوم فقتل؛ قال: فوالله ما كان شيء بأحب إلي من أن ألقى إنسانًا يحدثني عنه كيف صنع حين لقي القوم! قال: فلقيت عبد الملك بن جزء بن الحدرجان الأزدي بمكة، فجرى حديثٌ بيننا، جرى ذكر ذلك اليوم، فقال: أعجب ما رأيت يوم عين الوردة بعد هلاك القوم أن رجلًا أقبل حتى شد علي بسيفه، فخرجنا نحوه، قال: فانتهى إليه وقد عقر به وهو يقول: إني من الله إلى الله أفر ** رضوانك الله أبدي وأسر قال: فقلنا له: ممن أنت؟ قال: من بني آدم؛ قال: فقلنا: ممن؟ قال: لا أحب أن أعرفكم ولا أن تعرفوني يا مخربي البيت الحرام؛ قال: فنزل إليه سليمان بن عمرو بن محصن الأزدي من بني الخيار؛ قال: وهو يومئذ من أشد الناس؛ قال: فكلاهما أثخن صاحبه؛ قال: وشد الناس عليه من كل جانب، فقتلوه؛ قال: فوالله ما رأيت واحدًا قط هو أشد منه؛ قال: فلما ذكر لي، وكنت أحب أن أعلم علمه، دمعت عيناي، فقال: أبينك وبينه قرابة؟ فقلت له: لا، ذلك رجل من مضر كان لي ودًا وأخًا، فقال لي: لا أرقأ الله دمعك، أتبكي على رجل من مضر قتل على ضلالة! قال: قلت: لا، والله ما قتل على ضلالة، ولكنه قتل على بينة من ربه وهدىً؛ فقال لي: أدخلك الله مدخله؛ قلت: آمين، وأدخلك الله مدخل حصين بن نمير، ثم لا أرقأ الله لك عليه دمعًا؛ ثم قمت وقام. وكان مما قيل من الشعر في ذلك قول أعشى همدان، وهي إحدى المكتمات، كن يكتمن في ذلك الزمان: ألم خيالٌ منك يا أم غالب ** فحييت عنا من حبيبٍ مجانب وما زلت لي شجوًا وما زلت مقصدًا ** لهمٍّ عراني من فراقك ناصب فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى ** إلينا مع البيض الوسام الخراعب تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ** لطيفة طي الكشح ريا الحقائب مبتلةً غراء، رؤدٌ شبابها ** كشمس الضحى تنكل بين السحائب فلما تغشاها السحاب وحوله ** بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى ** فأجيب بها من خلةٍ لم تصاقب ولا يبعد الله الشباب وذكره ** وحب تصافي المعصرات الكواعب ويزداد ما أحببته من عتابنا ** لعابًا وسقيًا للخدين المقارب فإني وإن لم أنسهن لذاكرٌ ** رزيئة مخباتٍ كريم المناصب توسل بالتقوى إلى الله صادقًا ** وتقوى الإله خير تكساب كاسب وخلي عن الدنيا فلم يلتبس بها ** وتاب إلى الله الرفيع المراتب تخلى عن الدنيا وقال أطرحتها ** فلست إليها ما حييت بآيب وما أنا فيما يكبر الناس فقده ** ويسعى له الساعون فيها براغب فوجهه نحو الثوية سائرًا ** إلى ابن زياد في الجموع الكباكب بقوم هم أهل التقية والنهى ** مصاليت أنجادٌ سراة مناجب مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبه ** ولم يستجيبوا للأمير المخاطب فساروا وهم من بين ملتمس التقى ** وآخر مما جر بالأمس تائب فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلًا ** إليهم فحسوهم ببيضٍ قواضب يمانيةٍ تذري الأكف وتارةً ** بخيلٍ عتاقٍ مقرباتٍ سلاهب فجاءهم جمعٌ من الشأم بعده ** جموعٌ كموج البحر من كل جانب فما برحوا حتى أبيدت سراتهم ** فلم ينج منهم ثم غير عصائب وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ** تعاورهم ريح الصبا والجنائب فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلًا ** كأن لم يقاتل مرةً ويحارب ورأس بني شمخٍ وفارس قومه ** شنوءة والتيمي هادي الكتائب وعمرو بن بشرٍ والوليد وخالدٌ ** وزيد بن بكر والحليس بن غالب وضارب من همدان كل مشيعٍ ** إذا شد لم ينكل كريم المكاسب ومن كل قومٍ قد أصيب زعيمهم ** وذو حسبٍ في ذروة المجد ثاقب أبوا غير ضربٍ يفلق الهام وقعه ** وطعنٍ بأطراف الأسنة صائب وإن سعيدًا يوم يدمر عامرًا ** لأشجع من ليثٍ بدرني مواثب فيا خير جيشٍ للعراق وأهله ** سقيتم روايا كل أسحم ساكب فلا يبعدن فرساننا وحماتنا ** إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتةٍ ** وكل فتىً يومًا لإحدى الشواعب وما قتلوا حتى أثاروا عصابةً ** محلين ثورًا كالليوث الضوارب وقتل سليمان بن صرد ومن قتل معه بعين الوردة من التوابين في شهر ربيع الآخر. ذكر الخبر عن بيعة عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان وفي هذه السنة أمر مروان بن الحكم أهل الشأم بالبيعة من بعده لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وجعلهما ولي العهد. ذكر الخبر عن سبب عقد مروان ذلك لهما قال هشام، عن عوانة قال: لما هزم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله إلى فلسطين وانصرف راجعًا إلى مروان، ومروان يومئذ بدمشق، قد غلب على الشأم كلها ومصر، وبلغ مروان أن عمرًا يقول: إن هذا الأمر لي من بعد مروان، ويدعي أنه قد كان وعده وعدًا، فدعا مروان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ابنيه من بعده، وأخبره بما بلغه عن عمرو بن سعيد، فقال: أنا أكفيك عمرًا، فلما اجتمع الناس عند مروان عشيًا قام ابن بحدل فقال: إنه قد بلغنا أن رجالًا يتمنون أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك ولعبد العزيز من بعده؛ فقام الناس، فبايعوا من عند آخرهم. ذكر الخبر عن موت مروان بن الحكم وفي هذه السنة مات مروان بن الحكم بدمشق مستهل شهر رمضان. ذكر الخبر عن سبب هلاكه حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الحويرث، قال: لما حضرت معاوية ابن يزيد أبا ليلى الوفاة، أبى أن يستخلف أحدًا، وكان حسان بن مالك بن بحدل يريد أن يجعل الأمر بعد معاوية بن يزيد لأخيه خالد بن يزيد بن معاوية، وكان صغيرًا، وهو خال أبيه يزيد بن معاوية، فبايع لمروان، وهو يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد بن يزيد، فلما بايع لمروان وبايعه معه أهل الشأم قيل لمروان: تزوج أم خالد - وأمه أم خالد ابنة أبي هشام بن عتبة - حتى تص شأنه، فلا يطلب الخلافة؛ فتزوجها، فدخل خالد يومًا على مروان وعنده جماعةٌ كثيرة، وهو يمشي بين الصفين، فقال: إنه والله ما علمت لأحمق، تعال يابن الرطبة الاست - يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشأم - فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت له أمه: لا يعرفن ذلك منك، واسكت فإني أكفيكه؛ فدخل عليها مروان، فقال لها: هل قال لك خالد في شيئًا؟ فقالت: وخالد يقول فيك شيئًا! خالد أشد لك إعظامًا من أن يقول فيك شيئًا؛ فصدقها، ثم مكثت أيامًا، ثم إن مروان نام عندها، فغطته بالوسادة حتى قتلته. قال أبو جعفر: وكان هلاك مروان في شهر رمضان بدمشق، وهو ابن ثلاث وستين سنة في قول الواقدي؛ وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه قال: كان يوم هلك ابن إحدى وستين سنة؛ وقيل: توفي وهو ابن إحدى وسبعين سنة؛ وقيل: ابن إحدى وثمانين سنة؛ وكان يكنى أبا عبد الملك، وهو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت علقمة ابن صفوان بن أمية الكناني، وعاش بعد أن بويع له بالخلافة تسعة أشهر؛ وقيل: عاش بعد أن بويع له بالخلافة عشرة أشهر إلا ثلاث ليال، وكان قبل هلاكه قد بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة القيني، والآخر منهما إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد، فأما عبيد الله ابن زياد فسار حتى نزل الجزيرة، فأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه التوابون من أهل الكوفة طالبين بدم الحسين، فكان من أمرهم ما قد مضى ذكره، وسنذكر إن شاء الله باقي خبره إلى أن قتل. ذكر خبر مقتل حبيش بن دلجة وفي هذه السنة قتل حبيش بن دلجة. وأما حبيش بن دلجة؛ فإنه سار حتى انتهى - فيما ذكر عن هشام، عن عوانة بن الحكم - إلى المدينة، وعليهم جابر ابن الأسود بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف؛ من قبل عبد الله بن الزبير، فهرب جابر من حبيش. ثم إن الحارث بن أبي ربيعة - وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة - وجه جيشًا من البصرة، وكان عبد الله بن الزبير قد ولاه البصرة، عليهم الحنيف بن السجف التميمي لحرب حبيش ابن دلجة، فلما سمع حبيش بن دلجة سار إليهم من المدينة، وسرح عبد الله ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد الأنصاري على المدينة، وأمره أن يسير في طلب حبيش بن دلجة حتى يوافي الجند من أهل البصرة الذين جاءوا ينصرون ابن الزبير، عليهم الحنيف، وأقبل عباس في آثارهم مسرعًا حتى لحقهم بالربذة، وقد قال أصحاب ابن دلجة له: دعهم، لا تعجل إلى قتالهم؛ فقال: لا أنزل حتى آكل من مقندهم، - يعني السويق الذي فيه القند - فجاءه سهم غرب فقتله، وقتل معه المنذر بن قيس الجذامي، وأبو عتاب مولى أبي سفيان، وكان معه يومئذ يوسف بن الحكم، والحجاج بن يوسف، وما نجوا يومئذ إلا على جمل واحد، وتحرز منهم نحوٌ من خمسمائة في عمود المدينة، فقال لهم عباس: انزلوا على حكمي، فنزلوا على حكمه فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إلى الشأم. حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد أنه قال: الذي قتل حبيش ابن دلجة يوم الربذة يزيد بن سياه الأسواري، رماه بنشابة فقتله، فلما دخلوا المدينة وقف يزيد بن سياه على برذون أشهب وعليه ثيابٌ بياض، فما لبث أن اسودت ثيابه، ورأيته مما مسح الناس به ومما صبوا عليه من الطيب. ذكر خبر حدوث الطاعون الجارف قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع بالبصرة الطاعون الذي يقال له الطاعون الجارف، فهلك به خلقٌ كثير من أهل البصرة. حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، عن المصعب بن زيد أن الجارف وقع وعبيد الله بن عبيد الله بن معمر على البصرة، فماتت أمه في الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة علوج فحملوها إلى حفرتها وهو الأمير يومئذ. مقتل نافع بن الأزرق واشتداد أمر الخوارج وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة، وقتل فيها نافع بن الأزرق. ذكر الخبر عن مقتله حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن الزبير، أن عبيد الله بن عبيد الله بن معمر بعث أخاه عثمان بن عبيد الله إلى نافع بن الأزرق في جيش، فلقيهم بدولاب، فقتل عثمان وهزم جيشه. قال عمر: قال زهير: قال وهب: وحدثنا محمد بن أبي عيينة، عن سبرة بن نخف، أن ابن معمر عبيد الله بعث أخاه عثمان إلى ابن الأزرق، فهزم جنده وقتل؛ قال وهب: فحدثنا أبي أن أهل البصرة بعثوا جيشًا عليهم حارثة بن بدر، فلقيهم، فقال لأصحابه: كرنبوا ودولبوا ** وحيث شئتم فاذهبوا حدثنا عمر، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا وهب، قال: حدثنا أبي ومحمد بن أبي عيينة، قالا: حدثنا معاوية بن قرة، قال: خرجنا مع ابن عبيس فلقيناهم، فقتل ابن الأزرق وابنان أو ثلاثة للماحوز، وقتل ابن عبيس. قال أبو جعفر: وأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف، عن أبي المخارق الراسبي من قصة ابن الأزرق، وبني الماحوز قصةً هي غير ما ذكره عمر، عن زهير بن حرب، عن وهب بن جرير؛ والذي ذكر من خبرهم أن نافع بن الأزرق اشتدت شوكته باشتغال أهل البصرة بالاختلاف الذي كان بين الأزد وربيعة وتميم بن مسعود بن عمرو، وكثرت جموعه، فأقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم ابن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف في أهل البصرة، فخرج إليه، فأخذ يحوزه عن البصرة، ويدفعه عن أرضها، حتى بلغ مكانًا من أرض الأهواز يقال له: دولاب، فتهيأ الناس بعضهم لبعض وتزاحفوا، فجعل مسلم بن عبيس على ميمنته الحجاج بن باب الحميري، وعلى ميسرته حارثة بن بدر التميمي، ثم الغداني، وجعل ابن الأزرق على ميمنته عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرته الزبير بن الماحوز التميمي؛ ثم التقوا فاضطربوا، فاقتتل الناس قتالًا لم ير قتال قط أشد منه، فقتل مسلم ابن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق رأس الخوارج، وأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب الحميري، وأمرت الأزارقة عليهم عبد الله ابن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا أشد قتال، فقتل الحجاج بن باب الحميري أمير أهل البصرة، وقتل عبد الله بن الماحوز أمير الأزارقة. ثم إن أهل البصرة أمروا عليهم ربيعة الأجذم التميمي، وأمرت الخوارج عليهم عبيد الله بن الماحوز، ثم عادوا فاقتتلوا حتى أمسوا، وقد كره بعضهم بعضًا، وملوا القتال، فإنهم لمتواقفون متحاجزون حتى جاءت الخوارج سرية لهم جامة لم تكن شهدت القتال، فحملت على الناس من قبل عبد القيس، فانهزم الناس، وقاتل أمير البصرة ربيعة الأجذم، فقتل، وأخذ راية أهل البصرة حارثة بن بدر، فقاتل ساعةً وقد ذهب الناس عنه، فقاتل من وراء الناس في حماتهم، وأهل الصبر منهم، ثم أقبل بالناس حتى نزل بهم منزلًا بالأهواز ففي ذلك يقول الشاعر من الخوارج: يا كبدا من غير جوعٍ ولا ظمإٍ ** ويا كبدي من حب أم حكيم ولو شهدتني يوم دولاب أبصرت ** طعان امرىءٍ في الحرب غير لئيم غداة طفت في الماء بكر بن وائل ** وعجنا صدور الخيل نحو تميم وكان لعبد القيس أول حدنا ** وذلت شيوخ الأزد وهي تعوم وبلغ ذلك أهل البصرة، فهالهم وأفزعهم، وبعث ابن الزبير الحارث ابن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي على تلك الحرة، فقدم، وعزل عبد الله ابن الحارث، فأقبلت الخوارج نحو البصر، وقدم المهلب بن أبي صفرة على تلك من حال الناس من قبل عبد الله بن الزبير، معه عهده على خراسان، فقال الأحنف للحارث بن أبي ربيعة وللناس عامة: لا والله، ما لهذا الأمر إلا المهلب بن أبي صفرة، فخرج أشراف الناس، فكلموه أن يتولى قتال الخوارج؛ فقال: لا أفعل، هذا عهد أمير المؤمنين معي على خراسان، فلم أكن لأدع عهده وأمره، فدعاه ابن أبي ربيعة فكلمه في ذلك، فقال له مثل ذلك، فاتفق رأي ابن أبي ربيعة فكلمه في ذلك، فقال له مثل ذلك، فاتفق رأي ابن أبي ربيعة ورأي أهل البصرة على أن كتبوا على لسان ابن الزبير: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الحارث بن عبد الله كتب إلي أن الأزارقة المارقة أصابوا جندًا للمسلمين كان عددهم كثيرًا، وأشرافهم كثيرًا، وذكر أنهم قد أقبلوا نحو البصرة، وقد كنت وجهتك إلى خراسان، وكتبت لك عليها عهدًا، وقد رأيت حيث دكر هذه الخوارج أن تكون أنت تلي قتالهم، فقد رجوت أن يكون ميمونًا طائرك، مباركًا على أهل مصرك، والأجر في ذلك أفضل من المسير إلى خراسان، فسر إليهم راشدًا، فقاتل عدو الله وعدوك، ودافع عن حقك وحقوق أهل مصرك، فإنه لن يفوتك من سلطاننا خراسان ولا غير خراسان إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله. فأتى بذلك الكتاب، فلما قرأه قال: فإني والله لا أسير إليهم إلا أن تجعلوا لي ما غلبت عليه، وتعطوني من بيت المال ما أقوي به من معي، وأنتخب من فرسان الناس ووجوههم وذوي الشرف من أحببت؛ فقال جميع أهل البصرة: ذلك لك؛ قال: فاكتبوا لي على الأخماس بذلك كتابًا ففعلوا، إلا ما كان من مالك بن مسمع وطائفة من بكر بن وائل، فضطغنها عليهم المهلب، وقال الأحنف وعبيد الله بن زياد بن ظبيان وأشراف أهل البصرة للمهلب: وما عليك ألا يكتب لك مالك بن مسمع ولا من تابعه من أصحابه، إذا أعطاك الذي أردت من ذلك جميع أهل البصرة! من تابعه من أصحابه، إذا أعطاك الذي أردت من ذلك جميع أهل البصرة! ويستطيع مالك خلاف جماعة الناس أوله ذلك! انكمش أيها الرجل، واعزم على أمرك، وسر إلى عدوك؛ ففعل ذلك المهلب، وأمر على الأخماس، فأمر عبيد الله بن زياد بن ظبيان على خمس بكر بن وائل، وأمر الحريش ابن هلال السعدي على خمس بني تميم، وجاءت الخوارج حتى انتهت إلى الجسر الأصغر، عليهم عبيد الله بن الماحوز، فخرج إليهم في أشراف الناس وفرسانهم ووجوههم، فحازهم عن الجسر، ودفعهم عنه، فكان أول شيء دفعهم عنه أهل البصرة، ولم يكن بقي لهم إلا أن يدخلوا؛ فارتفعوا إلى الجسر الأكبر. ثم إنه عبأ لهم، فسار إليهم في الخيل والرجال، فلما أن رأوا أن قد أظل عليهم، وانتهى إليهم، ارتفعوا فوق ذلك مرحلة أخرى، فلم يزل يحوزهم ويرفعهم مرحلةً بعد مرحلة، ومنزلة بعد منزلة، حتى انتهوا إلى منزل من منازل الأهواز يقال له سلى وسلبرى، فأقاموا به؛ ولما بلغ حارثة بن بدر الغداني أن المهلب قد أمر على قتال الأزارقة، قال لمن معه من الناس: كرنبوا ودولبوا ** وحيث شئتم فاذهبوا قد أمر المهلب فأقبل من كان معه نحو البصرة، فصرفهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة إلى المهلب؛ ولما نزل المهلب بالقوم خندق عليه، ووضع المسالح، وأذكى العيون، وأقام الأحراس، ولم يزل الجند على مصافهم، والناس على راياتهم وأخماسهم، وأبواب الخنادق عليها رجال موكلون بها، فكانت الخوارج إذا أرادوا بيات المهلب وجدوا أمرًا محكمًا، فرجعوا، فلم يقاتلهم إنسانٌ قط كان أشد عليهم ولا أغيظ لقلوبهم منه. قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، أن رجلًا كان في تلك الخوارج حدثه أن الخوارج بعثت عبيدة ابن هلال والبير بن الماحوز في خيلين عظيمين ليلًا إلى عسكر المهلب، فجاء الزبير من جانبه الأيمن، وجاء عبيدة من جانبه الأيسر، ثم كبروا وصاحوا بالناس، فوجدوا على تعبيتهم ومصافهم حذرين مغذين، فلم يصيبوا للقوم غرةً، ولم يظفروا منهم بشيء، فلما ذهبوا ليرجعوا ناداهم عبيد الله ابن زياد بن ظبيان فقال: وجتمونا وقرًا أنجادا ** لا كشفًا خورًا ولا أوغادا هيهات! إنا إذا صيح بنا أتينا، يا أهل النار، ألا ابكروا إليها غدًا، فإنها مأواكم ومثواكم؛ قالوا: يا فاسق، وهل تدخر النار إلا لك ولأشباهك! إنها أعدت للكافرين وأنت منهم؛ قال: أتسمعون! كل مملوك لي حر إن دخلتم أنتم الجنة إن بقي فيما بين سفوان إلى أقصى حجر من أرض خراسان مجوسيٌّ ينكح أمه وابنته وأخته إلا دخلها؛ قال له عبيدة: اسكت يا فاسق فإنما أنت عبد للجبار العنيد، ووزيرٌ للظالم الكفور؛ قال: يا فاسق، وأنت عدو المؤمن التقي، ووزير الشيطان الرجيم؛ فقال الناس لابن ظبيان: وفقك الله يابن ظبيان؛ فقد والله أجبت الفاسق بجوابه، وصدقته. فلما أصبح الناس أخرجهم المهلب على تعبيتهم وأخماسهم، ومواقفهم الأزد، وتميم ميمنة الناس، وبكر بن وائل وعبد القيس ميسرة الناس، وأهل العالية في القلب وسط الناس. وخرجت الخوارج على ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماحوز، وجاءوا وهم أحسن عدة، وأكرم خيولًا، وأكثر سلاحًا من أهل البصرة؛ وذلك لأنهم مخروا الأرض وجردوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاءوا عليهم مغافر تضرب إلى صدورهم، وعليهم دروعٌ يسحبونها، وسوق من زرد يشدونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، فالتقى الناس فاقتتلوا كأشد القتال، فصبر بعضهم عامة النهار. ثم إن الخوارج شدت على الناس بأجمعها شدةً منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا تلوي أمٌّ على ولد حتى بلغ البصرة هزيمة الناس، وخافوا السباء، وأسرع المهلب حتى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب عن سنن المنهزمين. ثم إنه نادى الناس: إلي إلي عباد الله، فثاب إليه جماعةٌ من قومه، وثابت إليه سرية عمان فاجتمع إليه منهم نحوٌ من ثلاثة آلاف، فلما نظر إلى من قد اجتمع رضي جماعتهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، إني لجماعتكم لراضٍ؛ وإنكم لأنتم أهل الصبر، وفرسان أهل المصر، وما أحب أن أحدًا ممن انهزم معكم، فإنهم لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا. عزمت على كل امرىءٍ منكم لما أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا نحو عسكرهم، فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم؛ فوالله إني لأرجوا ألا ترجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم، وتقتلوا أميرهم. ففعلوا، ثم أقبل بهم راجعًا، فلا والله ما شعرت الخوارج إلا بالمهلب يضاربهم بالمسلمين في جانب عسكرهم. ثم استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه، وعليهم الدروع والسلاح كاملًا، فأخذ الرجل من أصحاب المهلب يستقبل الرجل منهم، فيستعرض وجهه بالحجارة فيرميه حتى يثخنه، ثم يطعنه بعد ذلك برمحه، أو يضربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلا ساعة حتى قتل عبيد الله ابن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه؛ وأخذ المهلب عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلًا ذريعًا، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة منهم راجعًا؛ وقد وضع لهم المهلب خيلًا ورجالًا في الطريق تختطفهم وتقتلهم، فانكفئوا راجعين مفلولين، مقتولين محروبين، مغلوبين؛ فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصفهان، وأقام المهلب بالأهواز، ففي ذلك اليوم يقول الصلتان العبدي: بسلى وسلبرى مصارع فتيةٍ ** كرامٍ وقتلى لم توسد خدودها وانصرفت الخوارج حين انصرفت؛ وإن أصحاب النيران الخمس والست ليجتمعون على النار الواحدة من الفلول وقلة العدد، حتى جاءتهم مادةٌ لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وأصبهان؛ فأقام المهلب بالأهواز فلم يزل ذلك مكانه حتى جاء مصعب البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عنها. ولما ظهر المهلب على الأزارقة كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. للأمير الحارث بن عبد الله، من المهلب بن أبي صفرة. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فالحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين، وهزم الفاسقين، وأنزل بهم نقمته، وقتلهم كل قتلة، وشردهم كل مشرد. أخبر الأمير أصلحه الله أنا لقينا الأزارقة بأرض من أرض الأهواز يقال لها سلى وسلبرى؛ فزحفنا إليهم ثم ناهضناهم، فاقتتلنا كأشد القتال مليًا من النهار. ثم إن كتائب الأزارقة اجتمع بعضها إلى بعض، ثم حملوا على طائفة من المسلمين فهزموهم؛ وكانت في المسلمين جولة قد كنت أشفقت أن تكون هي الأصرى منهم. فلما رأيت ذلك عمدت إلى مكان يفاع فعلوته، ثم دعوت إلي عشيرتي خاصة والمسلمين عامة، فثاب إلي أقوام شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله من أهل الدين والصبر والصدق والوفاء، فقصدت بهم إلى عسكر القوم؛ وفيه جماعتههم وحدهم وأميرهم قد أطاف به أولو فضلهم فيهم، وذوو النيات منهم؛ فاقتتلنا ساعة رميًا بالنبل، وطعنًا بالرماح. ثم خلص الفريقان إلى السيوف؛ فكان الجلاد بها ساعة من النهار مبالطةً ومبالدةً. ثم إن الله عز وجل أنزل نصره على المؤمنين، وضرب وجوه الكافرين ونزل طاغيتهم في رجال كثير من حماتهم وذوي نياتهم، فقتلهم الله في المعركة. ثم اتبعت الخيل شرادهم فقتلوا في الطريق والآخاذ والقرى، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليك ورحمة الله. فلما أتى هذا الكتاب الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بعث به إلى الزبير فقرىء على الناس بمكة. وكتب الحارث بن أبي ربيعة إلى المهلب: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك، تذكر فيه نصر الله إياك، وظفر المسلمين، فهنيئًا لك يا أخا الأزد بشرف الدنيا وعزها، وثواب الآخرة وفضلها، والسلام عليك ورحمة الله. فلما قرأ المهلب كتابه ضحك ثم قال: أما تظنونه يعرفني إلا بأخي الأزد! ما أهل مكة إلا أعرابٌ. قال أبو مخنف: فحدثني أبو المخارق الراسبي أن أبا علقمة اليحمدي قاتل يوم سلى وسلبرى قتالًا لم يقاتله أحدٌ من الناس؛ وأن أخذ ينادي في شباب الأزد وفيتان اليحمد: أعيرونا جماجمكم ساعةً من نهار؛ فأخذ فتيانٌ منهم يكرون، فيقاتلون ثم يرجعون إليه؛ يضحكون ويقولون: يا أبا علقمة، القدور تستعار! فلما ظهر المهلب ورأى من بلائه ما رأى وفاه مائة ألف. وقد قيل: إن أهل البصرة قد كانوا سألوا الأحنف قبل المهلب أن يقاتل الأزارقة، وأشار عليهم بالمهلب، وقال: هو أقوى على حربهم مني، وإن المهلب إذ أجابهم إلى قتالهم شرط على أهل البصرة أن ما غلب عليه من الأرض فهو له ولمن خف معه من قومه وغيرهم ثلاث سنين، وأنه ليس لمن تخلف عنه منه شيء. فأجابوه إلى ذلك، وكتب بذلك عليهم كتابًا، وأوفدوا بذلك وفدًا إلى ابن الزبير. وإن ابن الزبير أمضى تلك الشروط كلها للمهلب وأجازها له، وإن المهلب لما أجيب إلى ما سأل وجه ابنه حبيبًا في ستمائة فارس إلى عمرو القنا، وهو معسكر خلف الجسر الأصغر في ستمائة فارس، فأمر المهلب بعقد الجسر الأصغر، فقطع حبيب الجسر إلى عرمو ومن معه؛ فقاتلهم حتى نفاهم عما بين الجسر، وانهزموا حتى صاروا من ناحية الفرات، وتجهز المهلب فيمن خف من قومه معه، وهم اثنا عشر ألف رجل، ومن سائر الناس سبعون رجلًا، وسار المهلب حتى نزل الجسر الأكبر، وعمرو القنا بإزائه في ستمائة. فبعث المغيرة بن المهلب في الخيل والرجالة، فهزمتهم الرجالة بالنبل، واتبعتهم الخيل، وأمر المهلب بالجسر فعقد، فعبر هو وأصحابه، فلحق عمرو القنا حينئذ بابن الماحوز وأصحابه؛ وهو بالمفتح، فأخبروهم الخبر، فساروا فعسكروا دون الأهواز بثمانية فراسخ، وأقام المهلب بقية سنته، فجبى كور دجلة، ورزق أصحابه، وأتاه المدد من أهل البصرة لما بلغهم ذلك؛ فأثبتهم في الديوان وأعطاهم حتى صاروا ثلاثين ألفًا. قال أبو جعفر: فعلى قول هؤلاء كانت الوقعة التي كانت فيها هزيمة الأزارقة وارتحالهم عن نواحي البصرة والأهواز إلى ناحية أصبهان وكرمان في سنة ست وستين. وقيل: إنهم ارتحلوا عن الأهواز وهم ثلاثة آلاف، وإنه قتل منهم في الوقعة التي كانت بينهم وبين المهلب بسلى وسلبرى سبعة آلاف. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمدًا إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر. وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد عن الكوفة، وولاها عبد الله بن مطيع، ونزع عن المدينة أخاه عبيدة بن الزبير، وولاها أخاه مصعب بن الزبير، وكان سبب عزله أخاه عبيدة عنها أنه - فيما ذكر الواقدي - خطب الناس فقال لهم: قد رأيتم ما صنع بقوم في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوم الناقة؛ وبلغ ذلك ابن الزبير فقال: إن هذا لهو التكلف. ذكر خبر بناء عبد الله بن الزبير البيت الحرام وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير البيت الحرام، فأدخل الحجر فيه. أخبرنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثني عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني أبو محمد، قال: حدثني زياد بن جيل أنه كان بمكة يوم غلب ابن الزبير، فسمعه يقول: إن أمي أسماء بنت أبي بكر حدثتني أن رسول الله ﷺ قال لعائشة: لولا حداثة عهد قومك بالكفر رددت الكعبة على أساس إبراهيم؛ فأزيد في الكعبة من الحجر. فأمر به ابن الزبير فحفر، فوجدوا قلاعًا أمثال الإبل، فحركوا منها صخرة، فبرقت بارقة فقال: أقروها على أساسها، فبناها ابن الزبير، وجعل لها بابين: يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر. قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة أخوه مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة في آخر السنة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي؛ وهو الذي يقال له القباع. وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله بن خازم. خروج بني تميم بخراسان على عبد الله بن خازم وفي هذه السنة خالف من كان بخراسان من بني تميم عبد الله بن خازم حتى وقعت بينهم حروب. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن من كان بخراسان من بني تميم أعانوا عبد الله بن خازم على من كان بها من ربيعة، وعلى حرب بن أوس بن ثعلبة حتى قتل من قتل منهم، وظفر به؛ وصفا له خراسان، فلما صفا له ولم ينازعه به أحد جفاهم. وكان قد ضم هراة إلى ابنه محمد واستعمله عليها؛ وجعل بكير بن وشاح على شرطته، وضم إليه شماس بن دثار العطاردي؛ وكانت أم ابنه محمد امرأةً من تميم تدعى صفية، فلما جفا ابن خازم بني تميم من دخول هراة؛ فأما شماس بن دثار فأبى ذلك، وخرج من هراة، فصار من بني تميم، وأما بكير فمنعهم من الدخول. فذكر علي بن محمد أن زهير بن الهنيد حدثه أن بكير بن وشاح لما منع بني تميم من دخول هراة أقاموا ببلاد هراة، وخرج إليهم شماس بن دثار فأرسل بكير إلى شماس: إني أعطيك ثلاثين ألفًا، وأعطى كل رجل من بني تميم ألفًا على أن ينصرفوا، فأبوا، فدخلوا المدينة، وقتلوا محمد بن عبد الله ابن خازم. قال علي: فأخبرنا الحسن بن رشيد، عن محمد بن عزيز الكندي قال: خرج محمد بن عبد الله بن خازم يتصيد بهراة، وقد منع بني تميم من دخولها، فرصدوه، فأخذوه فشدوه وثاقًا، وشربوا ليلتهم، وجعل كلما أراد رجل منهم البول بال عليه، فقال لهم شماس بن دثار: أما إذ بلغتم هذا منه فاقتلوه بصاحبيكما اللذين قتلهما بالسياط. قال: وقد كان أخذ قبيل ذلك رجلين من بني تميم، فضربهما بالسياط حتى ماتا. قال: فقتلوه، قال: فزعم لنا عمن شهد قتله من شيوخهم أن جيهان بن مشجعة الضبي نهاهم عن قتله، وألقى نفسه عليه، فشكر له ابن خازم ذلك، فلم يقتله فيمن قتل يوم فرتنا. قال: فزعم عامر بن أبي عمر أنه سمع أشياخهم من بني تميم يزعمون أن الذي ولي قتل محمد بن عبد الله بن خازم رجلان من بني مالك بن سعد، يقال لأحدهما: عجلة، وللآخر كسيب. فقال ابن خازم: بئس ما اكتسب كسيبٌ لقومه، ولقد عجل عجلة لقومه شرًا. قال علي: وحدثنا أبو الذيال زهير بن هنيد العدوي، قال: لما قتل بنو تميم محمد بن عبد الله بن خازم انصرفوا إلى مرو، فطلبهم بكير بن وشاح فأدرك رجلًا من بني عطارد يقال له شميخ؛ فقتله، وأقبل شماس وأصحابه إلى مرو، فقالوا لبني سعد: قد أدركنا لكم بثأركم؛ قتلنا محمد بن عبد الله ابن خازم بالجشمي الذي أصيب بمرو، فأجمعوا على قتال ابن خازم، وولوا عليهم الحريش بن هلال القريعي. قال: فأخبرني أبو الفوارس عن طفيل بن مرداس، قال: أجمع أكثر بني تميم على قتال عبد الله بن خازم، قال: وكان مع الحريش فرسان لم يدرك مثلهم؛ إنما الرجل منهم كتيبة؛ منهم شماس بن دثار، وبحير بن ورقاء الصريمي، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن الفلق العنبري، والحجاج بن ناشب العدوي - وكان من أرمى الناس - وعاصم بن حبيب العدوي، فقاتل الحريش بن هلال عبد الله بن خازم سنتين. قال: فلما طالت الحرب والشر بينهم ضجروا؛ قال: فخرج الحريش فنادى ابن خازم، فخرج إليه فقال: قد طالت الحرب بيننا؛ فعلام تقتل قومي وقومك! فأينا قتل صاحبه صارت الأرض له؛ فقال ابن خازم؛ وأبيك لقد أنصفتني؛ فبرز له، فتصاولا تصاول الفحلين، لا يقدر أحدٌ منهما على ما يريد. وتغفل ابن خازم غفلة، وضربه الحريش على رأسه، فرمى بفروة رأسه على وجهه، وانقطع ركابا الحريش، وانتزع السيف. قال: فلزم ابن خازم عنق فرسه راجعًا إلى أصحابه وبه ضربة قد أخذت من رأسه، ثم غاداهم القتال، فمكثوا بذلك بعد الضربة أيامًا؛ ثم مل الفريقان فتفرقوا ثلاث فرق؛ فمضى بحير بن ورقاء إلى أبرشهر في جماعة، وتوجه شماس بن دثار العطاردي ناحيةً أخرى، وقيل: أتى سجستان، وأخذ عثمان بن بشر بن المحتفز إلى فرتنا، فنزل قصرًا بها، ومضى الحريش إلى ناحية مرو الروذ، فاتبعه ابن خازم؛ فلحقه بقرية من قراها يقال لها قرية الملحمة - أو قصر الملحمة - والحريش بن هلال في اثني عشر رجلًا؛ وقد تفرق عنه أصحابه؛ فهم في خربة؛ وقد نصر رماحًا كانت معه وترسةً. قال: وانتهى إليه ابن خازم؛ فخرج إليه في أصحابه، ومع ابن خازم مولىً له شديد البأس، فحمل على الحريش فضربه فلم يصنع شيئًا، فقال رجل من بني ضبة للحريش: أما ترى ما يصنع العبد! فقال له الحريش: عليه سلاح كثير، وسيفي لا يعمل في سلاحه، ولكن انظر لي خشبةً ثقيلة؛ فقطع له عودًا ثقيلًا من عناب - ويقال: أصابه في القصر - فأعطاه إياه؛ فحمل به على مولى ابن خازم؛ فضربه فسقط وقيذًا. ثم أقبل على ابن خازم؛ فقال: ما تريد إلي وقد خليتك والبلاد! قال: إنك تعود إليها، قال: فإني لا أعود، فصالحه على أن يخرج له من خراسان ولا يعود إلى قتاله، فوصله ابن خازم بأربعين ألفًا. قال: وفتح له الحريش باب القصر، فدخل ابن خازم، فوصله وضمن له قضاء دينه، وتحدثا طويلًا. قال: وطارت قطنة كانت على رأس ابن خازم ملصقة على الضربة التي كان الحريش ضربه، فقام الحريش فتناولها، فوضعها على رأسه، فقال له ابن خازم: مسك اليوم يا أبا قدامة ألين من مسك أمس، قال: معذرة إلى الله وإليك؛ أما والله لولا أن ركابي انقطعا لخالط السيف أضراسك. فضحك ابن خازم، وانصرف عنه، وتفرق جمع بني تميم، فقال بعض شعراء بني تميم: فلو كنتم مثل الحريش صبرتم ** وكنتم بقصر الملح خير فوارس إذًا لسقيتم بالعوالي ابن خازمٍ ** سجال دمٍ يورثن طول وساوس قال: وكان الأشعث بن ذؤيب أخو زهير بن ذؤيب العدوي قتل في تلك الحرب، فقال له أخوه زهير وبه رمق: من قتلك؟ قال: لا أدري؛ طعنني رجل على برذون أصفر، قال: فكان زهير لا يرى أحدًا على برذون أصفر إلا حمل عليه؛ فمنهم من يقتله، ومنهم من يهرب؛ فتحامى أهل العسكر البراذين الصفر؛ فكانت مخلاةً في العسكر لا يركبها أحد. وقال الحريش في قتاله ابن خازم: أزال عظم يميني عن مركبه ** حمل الردينى في الإدلاج والسحر حولين ما اغتمضت عيني بمنزلةٍ ** إلا وكفي وسادٌ لي على حجر بزي الحديد وسربالي إذا هجعت ** عني العيون محال القارح الذكر المقدمة ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ثم دخلت سنة أربعين ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ثم دخلت سنة أربع وأربعين ثم دخلت سنة خمس وأربعين ثم دخلت سنة ست وأربعين ثم دخلت سنة سبع وأربعين ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ثم دخلت سنة تسع وأربعين ثم دخلت سنة خمسين ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ثم دخلت سنة أربع وخمسين ثم دخلت سنة خمس وخمسين ثم دخلت سنة ست وخمسين ثم دخلت سنة سبع وخمسين ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ثم دخلت سنة تسع وخمسين ثم دخلت سنة ستين ثم دخلت سنة إحدى وستين ثم دخلت سنة اثنتين وستين ثم دخلت سنة ثلاث وستين ثم دخلت سنة أربع وستين ثم دخلت سنة خمس وستين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان

  إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم اكتفي بالرد علي معظم الفقهاء في مسائل الطلاق با دونته في مدومة النخبة في شرعة الطلاق ومدون دي...