الجمعة، 29 مارس 2024

تاريخ الطبري/الثامن والجزء التاسع

 

تاريخ الطبري/الثامن والجزء التاسع

  المحتويات تاريخ الطبري/الجزء الثامن تاريخ الرسل والملوك للطبري ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة ذكر الإخبار عن الأحداث التي كانت فيها فما كان فيها من ذلك إغارة إسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية إرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة خلقًا كثيرًا، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان حرب هذا - فيما ذكر - مقيمًا بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة. وكان أبو جعفر حين بلغه تحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه؛ فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، وأصيب من المسلمين من ذكرت. ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن علي بن عباس وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي بن عباس. واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله ابن علي سرًا في جوف الليل. ثم قال له: يا عيسى؛ إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك؛ فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت. ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله: ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به؛ فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بن علي؛ وكان عيسى حين دفعه إليه ستره؛ ودعا كاتبه يونس ابن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه؛ وأمرني فيه بكذا وكذا. فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرًا، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به. قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تستره في منزلك، فلا تطلع على أمره أحدًا، فإن طلبه منك علانيةً دفعته إليه علانيةً، ولا تدفعه إليه سرًا أبدًا، فإنه وإن كان أسره إليك؛ فإن أمره سيظهر. ففعل ذلك عيسى. وقدم المنصور ودسّ إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل. فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم وأظهروا له رقة، فقال: نعم، علي بعيسى بن موسى؛ فأتاه فقال له: يا عيسى؛ قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قال: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فقد كلمني عمومتك فيه فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله؛ فأتنا به. فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قال: ما أمرتك بقتله إنما أمرتك بحبسه في منزلك. قال: قد أمرتني بقتله، قال له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله. قال لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قال: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى: أفاعل أنت؟ قال: إي والله، قال: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني؛ هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته. قال: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمرًا فخشيته؛ فكان كما خشيت؛ شأنك وعمك. قال: يدخل حتى أرى رأيي. ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجري في أساسه الماء، فسقط عليه فمات؛ فكان من أمره ما كان. وتوفي عبد الله بن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشأم؛ وكان أول من دفن فيها. وذكر عن إبراهيم بن عيسى بن المنصور بن بريه أنه قال: كانت وفاة عبد الله بن علي في الحبس سنة سبع وأربعون ومائة، وهو ابن اثنين وخمسين سنة. قال إبراهيم بن عيسى: لما توفي عبد الله بن علي ركب المنصور يومًا ومعه عبد الله بن عياش، فقال له وهو يجاريه: أتعرف ثلاثة خلفاء، أسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قال: لا أعرف إلا ما تقول العامة؛ إن عليًا قتل عثمان وكذبوا وعبد الملك بن مروان قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعبد الله بن الزبير وعمرو بن سعيد وعبد الله بن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت إن لك ذنبًا. ذكر خبر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسى وفي هذه السنة خلع المنصور عيسى بن موسى وبايع لابنه المهدي، وجعله ولي عهد من بعده. وقال بعضهم: ثم من بعده عيسى بن موسى. ذكر الخبر عن سبب نزعه إياه وكيف كان الأمر في ذلك اختلف في الذي وصل به أبو جعفر إلى خلعه. فقال بعضهم: السبب الذي وصل به أبو جعفر إلى ذلك هو أن أبا جعفر أقر عيسى بن موسى بعد وفاة أبي العباس على ما كان أبو العباس ولاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرمًا مجلًا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدي عن يساره؛ فكان ذلك فعله به؛ حتى عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه. وكان أبو العباس جعل الأمر من بعده لأبي جعفر، ثم من بعد أبي جعفر لعيسى ابن موسى؛ فلما عزم المنصور على ذلك كلم عيسى بن موسى في تقديم ابنه عليه برفيق من الكلام، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين؛ فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين لي من العتق والطلاق وغير ذلك من مؤكد الأيمان! ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين. فلما رأى أبو جعفر امتناعه، تغير لونه وباعده بعض المباعدة، وأمر بالإذن للمهدي قبله؛ فكان يدخل فيجلس عن يمين المنصور في مجلس عيسى، ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون مجلس المهدي عن يمين المنصور أيضًا، ولا يجلس عن يسابه في المجلس الذي كان يجلس فيه المهدي، فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فيأمر بالإذن للمهدي ثم يأمر بعده بالإذن لعيسى بن علي، فيلبث هنيهة، ثم عيسى بن موسى. فإذا كان بعد ذلك قدم في الإذن للمهدي على كل حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدم بعض من أخر ويؤخر بعض من قدم ويوهم عيسى بن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره؛ ثم يؤذن لعيسى بن موسى من بعدهم؛ وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئًا، ولا يستعتب. ثم صار إلى أغلظ من ذلك؛ فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفر في أصل الحائط فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحويل. ويقوم هو فيصلي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه؛ فإذا رآه المنصور قال له: يا عيسى، ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكل هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين؛ وإنما يكلمه المنصور بذلك ليستطعمه أن يشكو إليه شيئًا فلا يشكو؛ وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي أراد منه عيسى بن علي، فكان عيسى بن موسى لا يحمد منه مدخله فيه؛ كأنه كان يغري به. فقيل: إنه دس لعيسى بن موسى بعض ما يتلفه؛ فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قال: أجد غمزًا يا أمير المؤمنين، قال: ففي الدار إذًا! قال: الذي أجده أشد مما أقيم معه في الدار، قال: إلى المنزل؛ ونهض فصار إلى حراقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحراقة متفزعًا له، فاستأذنه عيسى في المسير إلى الكوفة، فقال: بل تقيم فتعالج هاهنا، فأبى وألح عليه، فأذن له. وكان الذي جرأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرائيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي. فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحج في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله. وتقارب وقت الحج، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعى الرصافة، فأقام بها أيامًا، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحج، واعتل بقلة الماء في الطريق. وبلغت العلة من عيسى بن موسى كل مبلغ؛ حتى تمعط شعره، ثم أفاق من علته تلك، فقال فيه يحيى بن زياد بن أبي حزابة البرجمي أبو زياد: أفلت من شربة الطبيب كما ** أفلت ظبي الصريم من قتره من قانصٍ ينفذ الفريص إذا ** ركب سهم الحتوف في وتره دافع عن المليك صولة لي ** ث يريد الأسد في ذرى خمره حتى أتانا وفيه داخلة ** تعرف في سمعه وفي بصره أزعر قد طار عن مفارقه ** وحف أثيث النبات من شعره وذكر أن عيسى بن علي كان يقول للمنصور: إن عيسى بن موسى إنما يمتنع، البيعة للمهدي لأنه يربص هذا الأمر لابنه موسى، فموسى الذي يمنعه. فقال المنصور لعيسى بن علي: كلم موسى بن عيسى وخوفه على أبيه وعلى ابنه؛ فكلم عيسى بن علي موسى في ذلك، فأيأسه، فتهدده وحذره غضب المنصور. فلما وجل موسى وأشفق وخاف أن يقع به المكروه، أتى العباس بن محمد، فقال: أي عم، إني مكلمك بكلامٍ، لا والله ما سمعه مني أحدٌ قط، ولا يسمعه أحد أبدًا؛ وإنما أخرجه مني إليك موضع ثقتي بك والطمأنينة إليك؛ وهو أمانة عندك؛ فإنما هي نفسي أنثلها في يدك. قال: قل يا ابن أخي؛ فلك عندي ما تحبه، قال: أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدي؛ فهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فيتهدد مرة ويؤخر أذنه مرة، وتهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة. فأبي لا يعطي على هذا شيئًا؛ لا يكون ذلك أبدًا؛ ولكن هاهنا وجهًا، فلعله يعطي عليه إن أعطى وإلا فلا، قال: فما هو يا ابن أخي؟ فإنك قد أصبت ووفقت، قال: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: يا عيسى، إني أعلم أنك لست تضن بهذا الأمر على المهدي بنفسك؛ لتعالي سنك وقرب أجلك؛ فإنك تعلم أنه لا مدة لك تطول فيه؛ وإنما تضن به لمكان ابنك موسى؛ أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك ويبقى ابني معه فيلي عليه! كلا والله لا يكون ذلك أبدًا؛ ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه، وآمن أن يلي على ابني. أترى ابنك آثر عندي من ابني! ثم يأمر بي؛ فإما خنقت وإما شهر علي سيف. فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل بهذا السبب؛ فأما بغيره فلا. فقال العباس: جزاك الله يا ابن أخي خيرًا، فقد فديت أباك بنفسك، وآثرت بقاءه على حظك، نعم الرأي رأيت، ونعم المسلك سلكت! ثم أتى أبا جعفر فأخبره الخبر، فجزى المنصور موسى خيرًا؛ وقال: قد أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به إن شاء الله، فلما اجتمعوا وعيسى بن علي حاضر، أقبل المنصور على عيسى بن موسى، فقال: يا عيسى؛ إني لا أجهل مذهبك الذي تضمره، ولا مداك الذي تجري إليه في الأمر الذي سألتك؛ إنما تريد هذا الأمر لابنك هذا المشئوم عليك وعلى نفسه؛ فقال عيسى بن علي؟: يا أمير المؤمنين، غمزني البول، قال: فندعوا لك بإناء تبول فيه، قال: أفي مجلسك يا أمير المؤمنين! ذلك ما لا يكون، ولكن أقرب البلاليع مني أدل عليها فآتيها. فأمر من يدله، فانطلق. فقال عيسى بن موسى لابنه موسى: قم مع عمك، فاجمع عليه ثيابه من ورائه، وأعطه منديلًا إن كان معك ينشف به، فلما جلس عيسى يبول جمع موسى عليه ثيابه من ورائه وهو لا يراه، فقال: من هذا؟ فقال: موسى بن عيسى، فقال: بأبي أنت وبأبي أب ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به؛ ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى في نفسه: أمكنني والله هذا من مقاتله؛ وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه بما قال لي، ثم لا أبالي أن يقتلني أمير المؤمنين بعده، بل يكون في قتله عزاء لأبي وسلو عني إن قتلت. فلما رجعا إلى موضعهما قال موسى: يا أمير المؤمنين، أذكر لأبي أمرًا! فسره ذلك، وظن أنه يريد أن يذاكره بعض أمرهم، فقال: قم، فقام إليه، فقال: يا أبت؛ إن عيسى بن علي قد قتلك وإياي قتلات بما يبلغ عنا، وقد أمكنني من مقاتله، قال: وكيف؟ قال: قال لي كيت وكيت، فأخبر أمير المؤمنين فيقتله؛ فتكون قد شفيت نفسك وقتلته قبل أن يقتلك وإياي ثم لا نبالي ما كان بعد. فقال: أفٍ لهذا رأيًا ومذهبًا! أئتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها، فجعلتها سببًا لمكروهه وتلفه! لا يسمعن هذا منك أحد، وعد إلى مجلسك. فقام فعاد، وانتظر أبو جعفر أن يرى لقيامه إلى أبيه وكلامه أثرًا فلم يره، فعاد إلى وعيده الأول وتهدده، فقال: أما والله لأعجلن لك فيه ما يسوءك ويوئسك من بقائه بعدك، أيا ربيع، قم إلى موسى فاخنقه بحمائله، فقام الربيع فضم حمائله عليه، فجعل يخنقه بها خنقًا رويدًا، وموسى يصيح: الله الله يا أمير المؤمنين في وفي دمي! فإني لبعيد مما تظن بي، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر نفرًا ذكرًا - كلهم عنده مثلي - أو يتقدمني؛ وهو يقول: أشدد يا ربيع، ائت على نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه، وهو يراخي خناقه وموسى يصيح، فلما رأى ذاك عيسى قال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الأمر يبلغ منك هذا كله فمر بالكف عنه؛ فإني لم أكن لأرجع إلى أهلي؛ وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بابني! فها أنا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك في سبيل الله، تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين؛ وهذه يدي بالبيعة للمهدي. فأخذ بيعته له على ما أحب ثم قال: يا أبا موسى؛ إنك قد قضيت حاجتي هذه كارهًا، ولي حاجة أحب أن تقضيها طائعًا، فتغسل بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تجعل هذا الأمر من بعد المهدي لك، قال: ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها. فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتى قال: يا أمير المؤمنين؛ أنت أعلم. فقال بعض أهل الكوفة - ومر عليه عيسى في موكبه: هذا هذا الذي كان غدًا، فصار بعد غدٍ. وهذه القصة - فيما قيل - منسوبة إلى آل عيسى أنهم يقولونها. وأما الذي يحكى عن غيرهم في ذلك؛ فهو أن المنصور أراد البيعة للمهدي، فكلم الجند في ذلك، فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخي؛ فإنه جلدة بين عيني، ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم؛ فكانوا يكفون ثم يعودون؛ فمكث بذلك زمانًا، ثم كتب إلى عيسى: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من عبد الله عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى بن موسى. سلامٌ عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فالحمد لله ذي المن القديم، والفضل العظيم، والبلاء الحسن الجميل، الذي ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره؛ فلا يبلغ مخلوق كنه حقه، ولا ينال في عظمته كنه ذكره، يدبر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته؛ لا قاضي فيها غيره، ولا نفاذ لها إلا به، يجريها على أذلالها، لايستأمر فيها وزيرًا، ولا يشاور فيها معينًا، ولا يلتبس عليه شيء أراده، يمضي قضاؤه فيما أحب العباد وكرهوا؛ لا يستطيعون منه امتناعًا، ولا عن أنفسهم دفاعًا، رب الأرض ومن عليها، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. ثم إنك قد علمت الحال التي كنا عليها في ولاية الظلمة، كيف كانت قوتنا وحيلتنا، لما اجترأ عليه أهل بيت اللعنة فيما أحببنا وكرهنا، فصبرنا أنفسنا على ما دعونا إليه من تسليم الأمور إلى من أسندوها إليه، واجتمع رأيهم عليه، نسام الخسف، ونوطأ بالعسف، لا ندفع ظلمًا، ولا نمنع ضيمًا، ولا نعطي حقًا، ولا ننكر منكرًا، ولا نستطيع لها ولا لأنفسنا نفعًا؛ حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى مدته، وأذن الله في هلاك عدوه، وارتاح بالرحمة لأهل بيت نبيه ﷺ؛ فابتعث الله لهم أنصارًا يطلبون بثأرهم، ويجاهدون عدوهم، ويدعون إلى حبهم، وينصرون دولتهم، من أرضين متفرقة، وأسباب مختلفة، وأهواء مؤتلفة، فجمعهم الله على طاعتنا، وألف بين قلوبهم بمودتنا على نصرتنا، وأعزهم بنصرنا، لم نلق منهم رجلًا، ولم نشهر معهم إلا ما قذف الله في قلوبهم؛ حتى ابتعثهم لنا من بلادهم، ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، يلقون الظفر، ويعودون بالنصر، وينصرون بالرعب، لا يلقون أحدًا إلا هزموه، ولا واترًا إلا قتلوه؛ حتى بلغ الله بنا بذلك أقصى مدانا وغاية منانا ومنتهى آمالنا وإظهار حقنا، وإهلاك عدونا؛ كرامة من الله جل وعز لنا، وفضلًا منه علينا، بغير حول منا ولا قوة، ثم لم نزل من ذلك في نعمة الله وفضله علينا، حتى نشأ هذا الغلام، فقذف الله له في قلوب أنصار الدين الذين ابتعثهم لنا مثل ابتدائه لنا أول أمرنا، وأشرب قلوبهم مودته، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا باسمه، ولا يعرفون إلا حقه، فلما رأى أمير المؤمنين ما قذف الله في قلوبهم من مودته، وأجرى على ألسنتهم من ذكره، ومعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ودعاء العامة إلى طاعته، أيقنت نفس أمير المؤمنين أن ذلك أمر تولاه الله وصنعه؛ لم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة؛ للذي رأى أمير المؤمنين من اجتماع الكلمة، وتتابع العامة؛ حتى ظن أمير المؤمنين أنه لولا معرفة المهدي بحق الأبوة، لأفضت الأمور إليه. وكان أمير المؤمنين لا يمنع مما اجتمعت عليه العامة، ولا يجد مناصًا عن خلاص ما دعوا إليه، وكان أشد الناس على أمير المؤمنين في ذلك الأقرب فالأقرب من خاصته وثقاته من حرسه وشرطه؛ فلم يجد أمير المؤمنين بدًا من استصلاحهم ومتابعتهم؛ وكان أمير المؤمنين وأهل بيته أحق من سارع إلى ذلك وحرص عليه، ورغب فيه وعرف فضله، ورجا بركته، وصدق الرواية فيه، وحمد الله إذ جعل في ذريته مثل ما سألت الأنبياء قبله؛ إذ قال العبد الصالح: " فهب لي من لدنك وليًا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " فوهب الله لأمير المؤمنين وليًا، ثم جعله تقيًا مباركًا مهديًا وللنبي ﷺ سميًا، وسلب من انتحل هذا الاسم، ودعا إلى تلك الشبهة التي تحير فيها أهل تلك النية، وافتتن بها أهل تلك الشقوة، فانتزع ذلك منهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وأقر الحق قراره، وأعلن للمهدي مناره، وللدين أنصاره، فأحب أمير المؤمنين أن يعلمك الذي اجتمع عليه رأي رعيته؛ وكنت في نفسه بمنزلة ولده، يحب من سترك ورشدك وزينك ما يحب لنفسه وولده، ويرى لك إذا بلغك من حال ابن عمك ما ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداء ذلك من قبلك، ليعلم أنصارنا من أهل خراسان وغيرهم أنك أسرع إلى ما أحبوا مما عليه رأيهم في صلاحهم منهم إلى ذلك من أنفسهم، وإن ما كان عليه من فضلٍ عرفوه للمهدي، أو أملوه فيه، كنت أحظى الناس بذلك، وأسرهم به لمكانه وقرابته؛ فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد. والسلام عليك ورحمة الله. فكتب إليه عيسى بن موسى جوابها: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين من عيسى بن موسى. سلامٌ عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه ما أجمعت عليه من خلاف الحق وركوب الإثم في قطيعة الرحم، ونقض ما أخذ الله عليه من الميثاق من العامة بالوفاء للخلافة والعهد لي من بعدك، لتقطع بذلك ما وصل الله من حبله، وتفرق بين ما ألف الله جمعه، وتجمع بين ما فرق الله أمره، مكابرةً لله في سمائه، وحولًا على الله في قضائه، ومتابعة للشيطان في هواه، ومن كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره عن شيء خدعه، ومن توكل على الله منعه، ومن تواضع لله رفعه. إن الذي أسس عليه البناء، وخط عليه الحذاء من الخليفة الماضي عهدٌ لي من الله، وأمر نحن فيه سواء، ليس لأحد من المسلمين فيه رخصة دون أحد؛ فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حل من الآخر شيء فما حرم ذلك من الأول؛ بل الأول الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمل فيه أسرع؛ وكان الحق أولى بالذي أراد أن يصنع أولًا، فلا يدعوك إلى الأمن من البلاء اغترار بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء؛ فإن من أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحل ذلك مني، لم يحرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنته الرخصة أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي أسست من ذلك أبخع. فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين. فإن الله جل وعز زائدٌ من شكره، وعدًا منه حقًا لا خلف فيه؛ فمن راقب الله حفظه، ومن أضمر خلافه خذله؛ والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي؛ فإن تعجل بي أمرٌ كنت قد كفيت مؤونة ما اغتممت له، وسترت قبح ما أردت إظهاره؛ وإن بقيت بعدك لم تكن أوغرت صدري، وقطعت رحمي؛ ولا أظهرت أعدائي في اتباع أثرك، وقبول أدبك، وعملٍ بمثالك. وذكرت أن الأمور كلها بيد الله؛ هو مدبرها ومقدرها ومصدرها عن مشيئته؛ فقد صدقت؛ إن الأمور بيد الله، وقد حق على من عرف ذلك ووصفه العمل به والانتهاء إليه. واعم أنا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعًا، ولا دفعنا عنها ضرًا، ولا نلنا الذي عرفته بحولنا ولا قوتنا؛ ولو وكلنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعفت قوتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا؛ ولكن الله إذا أراد عزمًا لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عقده؛ أحكم إبرامه، وأبرم إحكامه، ونور إعلانه، وثبت أركانه؛ حين أسس بنيانه؛ فلا يستطيع العباد تأخير ما عجل، ولا تعجيل ما أخر؛ غي أن الشيطان عدوٌ مضل مبين؛ قد حذر الله طاعته، وبين عداوته، ينزع بين ولاة الحق وأهل طاعته، ليفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا؛ وقد قال الله عز وجل في كتابه: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليمٌ حكيمٌ ". ووصف الذين اتقوا فقال: " إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "؛ فأعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يكون نيته وضمير سريرته خلاف ما زين الله به جل وعز من كان قبله؛ فإنه قد سألتهم أبناؤهم، ونازعتهم أهواؤهم، إلى مثل الذي همّ به أمير المؤمنين؛ فآثروا الحق على ما سواه، وعرفوا أن الله لا غالب لقضائه؛ ولا مانع لعطائه؛ ولم يأمنوا مع ذلك تغيير النعم وتعجيل النقم؛ فآثروا الآجلة، وقبلوا العاقبة، وكرهوا التغيير، وخافوا التبديل؛ فأظهروا الجميل؛ فتمم الله لهم أمورهم، وكفاهم ما أهمهم، ومنع سلطانهم، وأعز أنصارهم، وكرّم أعوانهم، وشرّف بنيانهم؛ فتمت النعم، وتظاهرت المنن، فاستوجبوا الشكر، فتم أمر الله وهم كارهون. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله. فلما بلغ أبا جعفر المنصور كتابه أمسك عنه، وغضب غضبًا شديدًا، وعاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون؛ منهم أسد بن المرزبان وعقبة بن سلم ونصر بن حرب بن عبد الله؛ في جماعة؛ فكانوا يأتون باب عيسى، فيمنعون من يدخل إليه؛ فإذا ركب مشوا خلفه وقالوا: أنت البقرة التي قال الله: " فذبحوها وما كادوا يفعلون "، فعاد فشكاهم، فقال له المنصور: يا ابن أخي، أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي؛ قد أشربوا حب هذا الفتى؛ فلو قدمته بين يديك فيكون بيني وبينك لكفوا. فأجاب عيسى إلى أن يفعل. وذكر عن إسحاق الموصلي، عن الربيع، أن المنصور لما رجع إليه من عند عيسى جواب كتابه الذي ذكرنا، وقع في كتابه: " اسل عنها تنل منها عوضًا في الدنيا، وتأمن تبعتها في الآخرة ". وقد ذكر في وجه خلع المنصور عيسى بن موسى قولٌ غير هذين القولين؛ وذلك ما ذكره أبو محمد المعروف بالأسواري بن عيسى الكاتب، قال: أراد أبو جعفر أن يخلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، ويقدم المهدي عليه، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وأعيا الآمر أبا جعفر فيه؛ فبعث إلى خالد بن برمك، فقال له: كلمه يا خالد؛ فقد ترى امتناعه من البيعة للمهدي؛ وما تقدمنا به في أمره؛ فهل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل، وضل عنا الرأي! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تضم إلى ثلاثين رجلًا من كبار الشيعة ممن تختاره قال: فركب خالد بن برمك، وركبوا معه، فساروا إلى عيسى بن موسى، فأبلغوه رسالة أبي جعفر المنصور؛ فقال: ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله عز وجل الأمر لي؛ فأداره خالد بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه؛ فخرج خالد عنه وخرجت الشيعة بعده، فقال لهم خالد: ما عندكم في أمره؟ قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره بما كان منا ومنه؛ قال: لا، ولكنا نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه إن أنكره، قالوا له: افعل، فإنا نفعل، فقال لهم: هذا هو الصواب، وأبلغ أمير المؤمنين فيما حاول وأراد. قال: فساروا إلى أبي جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنه قد أجاب، فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدي، وكتب بذلك إلى الآفاق؛ قال: وأتى عيسى بن موسى لما بلغه الخبر أبا جعفر منكرًا لما ادعي عليه من الإجابة إلى تقديم المهدي على نفسه، وذكره الله فيما قد هم به. فدعاهم أبو جعفر، فسألهم فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب؛ وليس له أن يرجع؛ فأمضى أبو جعفر الأمر، وشكر لخالد ما كان منه؛ وكان المهدي يعرف ذلك له، ويصف جزالة الرأي منه فيه. وذكر عن علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، عن عبد الله بن أبي سليم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: إني لأسير مع سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وقد عزم أبو جعفر على أن يقدم المهدي على عيسى بن موسى في البيعة، فإذا نحن بأبي نخيلة الشاعر، ومعه ابناه وعبداه؛ وكل واحد منهما يحمل شيئًا من متاع، فوقف عليهم سليمان بن عبد الله، فقال: أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى؟ وما هذه الحال التي أنت فيها؟ قال: كنت نازلًا على القعقاع - وهو رجل من آل زراره، وكان يتولى لعيسى بن موسى الشرطة - فقال لي: أخرج عني؛ فإن هذا الرجل قد اصطنعني، وقد بلغني أنك قلت شعرًا في هذه البيعة للمهدي، فأخاف إن يبلغه ذلك أن يلزمني لائمة لنزولك علي، فأزعجني حتى خرجت. قال: فقال لي: يا عبد الله؛ انطلق بأبي نخيلة فبوئه في منزلي موضعًا صالحًا، واستوص به وبمن معه خيرًا. ثم خبر سليمان بن عبد الله أبا جعفر بشعر أبي نخيلة الذي يقول فيه: عيسى فزحلفها إلى محمد ** حتى تؤدى من يد إلى يد فيكم وتغنى وهي في تزيد ** فقد رضينا بالغلام الأمرد قال: فلما كان في اليوم الذي بايع فيه ذكر عن حيان بن عبد الله بن حبران الحماني، قال: حدثني أبو نخيلة قال: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرًا لا أصل إليه، حتى قال لي ذات يومٍ عبد الله بن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يرشح ابنه للخلافة والعهد، وهو على تقدمته بين يدي عيسى بن موسى، فلو قلت شيئًا تحثه على ذلك، وتذكر فضل المهدي كنت بالحري أن تصيب منه خيرًا ومن ابنه، فقلت: دونك عبد الله أهلك ذاكا ** خلافة الله التي أعطاكا أصفاك أصفاك بها أصفاكا ** فقد نظرنا زمنًا أبكاكا ثم نظرناك لها إياكا ** ونحن فيهم والهوى هواكا نعم، فنستذري إلى ذراكا ** أسند إلى محمد عصاكا فابنك ما استرعيته كفاكا ** فأحفظ الناس لها أدناكا فقد جفلت الرجل والأوراكا ** وحكت حتى لم أجد محاكا ودرت في هذا وذا وذاكا ** وكل قول قلت في سواكا زور وقد كفر هذا ذاكا وقلت أيضًا كلمتي التي أقول فيها: إلى أمير المؤمنين فاعمدي ** سيري إلى بحر البحور المزبد أنت الذي يا بن سمي أحمد ** ويا بن بيت العرب المشيد بل يا أمين الواحد المؤبد ** إن الذي ولاك رب المسجد أمسي ولي ععهدها بالأسعد ** عيسى فزحلفها إلى محمد من قبل عيسى معهدًا عن معهد ** حتى تؤدي من يد إلى يد فيكم وتغنى وهي في تزيد ** فقد رضينا بالغلام الأمرد بل قد فرغنا غير أن لم نشهد ** وغير أن العقد لم يؤكد فلو سمعنا قولك امدد امدد ** كانت لنا كدعقة الورد الصدي فبادر البيعة ورد الحشد ** تبين من يومك هذا أو غد فهو الذي تم فمامن عند ** وزاد ما شئت فده يزدد ورده منك رداءً يرتد ** فهو رداء السابق المقلد قد كان يروى أنها كأن قد ** عادت ولو قد فعلت لم تردد فهي ترامي فدفدًا عن فدفد ** حينًا، فلو قد حان ورد الورد وحان تحويل الغوى المفسد ** قال لها الله هلم وارشدي فأصبحت نازلةً بالمعهد ** والمحتد المحتد خير المحتد لم يرم تذمار النفوس الحسد ** بمثل قرم ثابت مؤيد لما انتحوا قدحًا بزند مصلد ** بلوا بمشزور القوي المستحصد يزداد إيقاظًا على التهدد ** فداولوا باللين والتعبد صمصامةً تأكل كل مبرد. قال: فرويت وصارت في أفواه الخدم، وبلغت أبا جعفر، فسأل عن قائلها، فأخبر أنها لرجل من بني سعد بن زيد مناة، فأعجبه، فدعاني فأدخلت عليه؛ وإن عيى بن موسى لعن يمينه، والناس عنده، ورءوس القواد والجند، فلما كنت بحيث يراني، ناديت: يا أمير المؤمنين، أدنني منك حتى أفهمك وتسمع مقالتي فأومأ بيده، فأدنيت حتى كنت قريبًا منه، فلما صرت بين يديه قلت - ورفعت صوتي - أنشده من هذا الموضع، ثم رجعت إلى أول الأرجوزة؛ فأنشدتها من أولها إلى هذا الموضع أيضًا، فأعدت عليه حتى أتيت على آخرها، والناس منصتون، وهو يتسار بما أنشده، مستمعًا له؛ فلما خرجنا من عنده إذا رجلٌ واضعٌ يده على منكبي، فالتفت فإذا عقال بن شبة يقول: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين؛ فإن التأم الأمر على ما تحب وقلت، فلعمري لتصيبن منه خيرًا وإن يك غير ذلك، فابتغ نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء. قال: فكتب له المنصور بصلة إلى الري، فوجه عيسى في طلبه، فلحق في طريقه، فذبح وسلخ وجهه. وقيل: قتل بعد ما انصرف من الري؛ وقد أخذ الجائزة. وذكر عن الوليد بن محمد العنبري أن سبب إجابة عيسى أبا جعفر إلى تقديم المهدي عليه كان أن سلم بن قتيبة قال له: أيها الرجل بايع، وقدمه على نفسك، فإنك لن تخرج من الأمر؛ قد جعل لك الأمر من بعده وترضي أمير المؤمنين. قال: أوترى ذلك! قال: نعم، قال: فإني أفعل؛ فأتى سلم المنصور فأعلمه إجابة عيسى، فسر بذلك وعظم قدر سلم عنده. وبايع الناس للمهدي ولعيسى بن موسى من بعده. وخطب المنصور خطبته التي كان فيها تقديم المهدي على عيسى، وخطب عيسى بعد ذلك فقدم المهدي على نفسه، ووفى له المنصور بما كان ضمن له. وقد ذكر عن بعض صحابة أبي جعفر أنه قال: تذاكرنا أمر أبي جعفر المنصور وأمر عيسى بن موسى في البيعة وخلعه إياها من عنقه وتقديمه المهدي، فقال له رجل من القواد سماه: والله الذي لا إله غيره؛ ما كان خلعه إياها منه إلا برضًا من عيسى وركونٍ منه إلى الدراهم، وقلة علمه بقدر الخلافة، وطلبًا للخروج منها؛ أتى يوم خرج للخلع فخلع نفسه؛ وإني لفي مقصورة مدينة السلام؛ إذ خرج علينا أبو عبيد الله كاتب المهدي، في جماعة من أهل خراسان، فتكلم عيسى. فقال: إني قد سلمت ولاية العهد لمحمد ابن أمير المؤمنين، وقدمته على نفسي، فقال أبو عبيد الله: ليس هكذا أعز الله الأمير؛ ولكن قل ذلك بحقه وصدقه؛ وأخبر بما رغبت فيه؛ فأعطيت، قال: نعم، قد بعت نصيبي من تقدمة ولاية العهد من عبد الله أمير المؤمنين لابنه محمد المهدي بعشرة آلاف ألف درهم وثلاث مائة ألف بين ولدي فلان وفلان وفلان - سماهم - وسبعمائة ألف لفلانة امرأة من نسائه - سماها - بطيب نفسٍ مني وحب، لتصيرها إليه، لأنه أولى بها وأحق، وأقوى عليها وعلى القيام بها؛ وليس لي فيها حق لتقدمته، قليل ولا كثير؛ فما ادعيته بعد يومي هذا فأنا فيه مبطل لا حق لي فيه ولا دعوى ولا طلبة. قال: والله وهو في ذلك؛ ربما نسى الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله؛ حتى فرغ، حبًا للاستيثاق منه. وختم الكتاب وشهد عليه الشهود وأنا حاضر؛ حتى وضع عليه عيسى خطه وخاتمه، والقوم جميعًا؛ ثم دخلوا من باب المقصورة إلى القصر. قال: وكسا أمير المؤمنين عيسى وابنه موسى وغيره من ولده كسوة بقيمة ألف ألف درهم ونيف ومائتي ألف درهم. وكانت ولاية عيسى بن موسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة؛ حتى عزله المنصور، واستعمل محمد بن سليمان بن علي حين امتنع من تقديم المهدي على نفسه. وقيل: إن المنصور إنما ولى محمد بن سليمان الكوفة حين ولاه إياها ليستخف بعيسى؛ فلم يفعل ذلك محمد. ولم يزل معظمًا له مبجلًا. وفي هذه السنة ولى أبو جعفر محمد بن أبي العباس ابن أخيه البصرة فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة السلام، فمات بها، فصرخت امرأته البغوم بنت علي بن الربيع: وا قتيلاه! فضربها رجل من الحرس بجلوبز على عجيزتها، فتعاوره خدم لمحمد بن أبي العباس فقتلوه؛ فطل دمه. وكان محمد بن أبي العباس حين شخص عن البصرة استخلف بها عقبة بن سلم، فأقره عليها أبو جعفر إلى سنة إحدى وخمسين ومائة. وحج بالناس في هذه السنة المنصور. وكان عامله فيها على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي وعلى المدينة جعفر بن سليمان. وعلى الكوفة وأرضها محمد بن سليمان. وعلى البصرة عقبة بن سلم. وعلى قضائها سوار بن عبد الله. وعلى مصر يزيد بن حاتم. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور حميد بن قحطبة إلى أرمينية لحرب الترك الذين قتلوا حرب بن عبد الله، وعاثوا بتفليس، فسار حميد إلى أرمينية، فوجدهم قد ارتحلوا، فانصرف ولم يلق منهم أحدًا. في هذه السنة عسكر صالح بن علي بدابق - فيما ذكر - ولم يغز. وحج بالناس فيها جعفر بن أبي جعفر المنصور. وكانت ولاة الأمصار في هذه السنة ولاتها في السنة التي قبلها. ثم دخلت سنة تسعا وأربعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك غزوة العباس بن محمد بن الصائفة أرض الروم، ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فهلك محمد بن الأشعث في الطريق. وفي هذه السنة استتم المنصور بناء سور مدينة بغداد، وفرغ من خندقها وجميع أمورها. وفيها شخص إلى حديثة الموصل، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وحج في هذه السنة بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. وفي هذه السنة عزل عبد الصمد بن علي عن مكة، ووليها محمد بن إبراهيم. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة العمال الذين كانوا عمالها في سنة سبع وأربعين ومائة وسنة ثمان وأربعين ومائة؛ غير مكة والطائف؛ فإن واليهما كان في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. ثم دخلت سنة خمسين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خروج أستاذسيس فمما كان فيها من ذلك خروج أستاذسيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجثم المروروذي في أهل مرو الروذ، فقاتلوه قتالًا شديدًا حتى قتل الأجثم، وكثر القتل فى اهل مرو الروذ، وهزم عدة من القواد؛ منهم معاذ بن مسلم بن معاذ وجبرائيل بن يحيى حماد ابن عمرو وأبو النجم السجستاني وداود بن كراز؛ فوجه المنصور وهو بالبردان خازم بن خزيمة الى المهدي؛ فولاه المهدي محارة أستاذ سيس؛ وضم القواد إليه. فذكر أن معاوية بن عبيد الله وزير المهدي كان يوهن أمر خازم، والمهدي يومئذ بنيسابور، وكان معاوية يخرج الكتب إلى خازم بن خزيمة والى غيره من القواد بالمر والنهي، فاعتل خازم وهو في عسكره، فشرب الدواء ثم ركب البريد، حتى قدم على المهدي بنيسابور، فسلم عليه واستخلاه - وبحضرته أبو عبيد الله - فقال المهدي: لاعيق عليك من أبي عبيد الله، فقل ما بدا لك؛ فأبى خازم أن يخبره أو يكلمه، حتى قام أبو عبيد الله، فلما خلا به شكا إليه أمر معاوية بن عبيد الله، وأخبره بعصبيته وتحامله؛ وما كان يرد من كتبه عليه وعلى من قبله من القواد، وما صاروا إليه بذلك من الفساد والتأمر في أنفسهم، والاستبداد بآرائهم، وقلة السمع والطاعة. وأن أمر الحرب لا يستقيم إلا برأس؛ وألا يكون في عسكره لواء يخفق على رأس أحد إلا لواؤه أو لواء هو عقده، وأعلمه أنه غير راجع إلى قتال أستاذ سيس ومن معه إلا بتفويض الأمر إليه وإعفائه من معاوية بن عبيد الله؛ وأن يأذن له في حمل ألوية القواد الذين معه، وأن يكتب إليهم بالسمع والطاعة. فأجابه المهدي إلى كل ما سأل. فانصرف خازم إلى عسكره، فعمل برأيه، وحل لواء من رأى حل لوائه من القواد، وعقد لواء لمن أراد، وضم إليه من كان انهزم من الجنود، فجعلهم حشوًا يكثر بهم من معه في أخريات الناس، ولم يقدمهم لما في قلوب المغلوبين من روعة الهزيمة؛ وكان من ضم إليه من هذه الطبقة اثنين وعشرين ألفًا، ثم انتخب ستة آلاف رجل من الجند، فضمهم إلى اثني عشر ألفًا كانوا معه متخيرين؛ وكان بكار بن مسلم العقيلي فيمن انتخب، ثم تعبأ للقتال وخندق. واستعمل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته، ونهار بن حصين السعدي على ميسرته؛ وكان بكار بن مسلم العقيلي على مقدمته وترار خدا على ساقته؛ وكان من أبناء ملوك أعاجم خراسان؛ وكان لواؤه مع الزبرقان وعلمه مع مولاه بسام؛ فمكر بهم وراوغهم في تنقله من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم؛ وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله، وخندق عليه، وأدخل خندقه جميع ما أراد، وأدخل فيها جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعل على كل باب منها من أصحابه الذين انتخب، وهم أربعة آلاف، وجعل مع بكار صاحب مقدمته ألفين؛ تكملة الثمانية عشر ألفًا. وأقبل الآخرون ومعهم المروز والفؤوس والزبل، يريدون دفن الخندق ودخوله، فأتوا الخندق من الباب الذي كان عليه بكار بن مسلم، فشدوا عليه شدة لم يكن لأصحاب بكار نهاية دون أن انهزموا حتى دخلوا عليهم الخندق. فلما رأى ذلك بكار رمى بنفسه، فترجل عن باب الخندق ثم نادى أصحابه: يا بني الفواجر، من قبلي يؤتى المسلون! فترجل من معه من عشيرته وأهله نحو من خمسين رجلًا، فمنعوا بابهم حتى أجلوا القوم عنه، وأقبل إلى الباب الذي كان عليه خازم رجل كان مع أستاذسيس من أهل سجستان، يقال له الحريش؛ وهو الذي كان يدبر أمرهم؛ فلما رآه خازم مقبلًا بعث إلى الهيثم بن شعبة، وكان في الميمنة - أن اخرج من بابك الذي أنت عليه؛ فخذ غير الطريق الذي يوصلك إلى الباب الذي عليه بكار، فإن القوم قد شغلوا بالقتال وبالإقبال إلينا، فإذا علوت فجزت مبلغ أبصارهم فأتهم من خلفهم. وقد كانوا في تلك الأيام يتوقعون قدوم أبي عون وعمرو بن سلم بن قتيبة من طخارستان. وبعث خازم إلى بكار بن مسلم: إذا رأيت رايات الهيثم بن شعبة قد جاءتك من خلفك، فكبروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان. ففعل ذلك أهل الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش السجستاني، فاجتلدوا بالسيوف جلادًا شديدًا، وضبر بعضهم لبعض؛ فبينا هم على تلك الحال إذ نظروا إلى أعلام الهيثم وأصحابه، فتنادوا فيما بينهم، وجاء أهل طخارستان، فلما نظر أصحاب الحريش إلى تلك الأعلام، ونظر من كان بإزاء بكار بن مسلم إليها، شد عليهم أصحاب خازم فكشفوهم ولقيهم أصحاب الهيثم، فطعنوهم بالرماح، ورموهم بالنشاب، وخرج عليهم نهار بن حصين وأصحابه من ناحية الميسرة، وبكار بن مسلم وأصحابه من ناحيتهم، فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون وأكثروا؛ فكان من قتل منهم في تلك المعركة نحوًا من سبعين ألفًا، وأسروا أربعة عشر ألفًا، ولجأ أستاذ سيس إلى جبل في عدة من أصحابه يسيرة، فقدم خازم الأربعة عشر ألف أسير؛ فضرب أعناقهم، وسار حتى نزل بأستاذ سيس في الجبل الذي كان قد لجأ إليه، ووافى خازمًا بذلك المكان أبو عون وعمرو بن سلم بن قتيبة في أصحابهما؛ فأنزلهم خازم ناحية، وقال: كونوا مكانكم حتى نحتاج إليكم. فحصر خازم أستاذ سيس وأصحابه حتى نزلوا عن حكم أبي عونولم يرضوا إلا بذلك، فرضي بذلك خازم، فأمر أبا عون بإعطائهم أن ينزلوا على حكمه، ففعل؛ فلما نزلوا على حكم أبي عون حكم فيهم أن يوثق أستاذسيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفًا، فأنفذ ذلك خازم من حكم أبي عون، وكسا كل رجل منهم ثوبين؛ وكتب خازم بما فتح الله عليه، وأهلك عدوه إلى المهدي، فكتب بذلك المهدي إلى أمير المؤمنين المنصور. وأما محمد بن عمر، فإنه ذكر أن خروج أستاذسيس والحريش كان في سنة خمسين ومائة، وأن أستاذسيس هزم في سنة إحدى وخمسين ومائة. وفي هذه السنة عزل المنصور جعفر بن سليمان عن المدينة، وولاها الحسن ابن يزيد بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. وفيها توفي جعفر بن أبي جعفر المنصور، الأكبر بمدينة السلام، وصلى عليه أبوه المنصور، ودفن ليلًا في مقابر قريش؛ ولم تكن للناس في هذه السنة صائفة؛ قيل إن أبا جعفر كان ولي الصائفة في هذه السنة أسيدًا، فلم يدخل بالناس أرض العدو، ونزل مرج دابق. وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان العامل على مكة والطائف في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس - وقيل كان العامل على مكة والطائف في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد - وعلى المدينة الحسن بن زيد العلوي، وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة عقبة بن سلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك ما كان من إغارة الكرك فيها في البحر على جدة؛ ذكر ذلك محمد بن عمر. وفيها ولى عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة إفريقية، وعزل عن السند وولي موضعه هشام ابن عمرو التغلبي. ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور عمر بن حفص عن السند وتوليته إياه إفريقية واستعماله على السند هشام بن عمرو وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد بن سليمان بن علي العباسي عن أبيه - أن المنصور ولى عمر بن حفص الصفري الذي يقال له هزارمرد السند - فأقام بها حتى خرج محمد بن عبد الله بالمدينة وإبراهيم بالبصرة، فوجه محمد بن عبد الله إليه ابنه عبد الله بن محمد الذي يقال له الأشتر، في نفر من الزيدية إلى البصرة، وأمرهم أن يشتروا مهارة - خيل عتاق بها - ويمضوا بها معهم إلى السند ليكون سببًا لهم إلى الوصول إلى عمر بن حفص؛ وإنما فعل ذلك به لأنه كان فيمن بايعه من قواد أبي جعفر، وكان له ميل إلى آل أبي طالب، فقدموا البصرة على إبراهيم بن عبد الله، فاشتروا منها مهارةً - وليس في بلاد السند والهند شيء أنفق من الخيل العتاق - ومضوا في البحر حتى صاروا إلى السند، ثم صاروا إلى عمر بن حفص، فقالوا: نحن قوم نخاسون، ومعنا خيل عتاق، فأمرهم أن يعرضوا خيلهم، فعرضوها عليه؛ فلما صاروا إليه، قال له بعضهم: أدنني منك أذكر لك شيئًا، فأدناه منه، وقال له: إنا جئناك بما هو خير لك من الخيل، وما لك فيه خير الدنيا والآخرة، فأعطنا الأمان على خلتين: إما أنك قبلت ما أتيناك به، وإما سترت وأمسكت عن أذانا حتى نخرج من بلادك راجعين. فأعطاهم الأمان، فقالوا: ما للخيل أتيناك؛ ولكن هذا ابن رسول الله ﷺ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن، أرسله أبوه إليك قد خرج بالمدينة، ودعا لنفسه بالخلافة، وخرج أخوه إبراهيم بالبصرة وغلب عليها، فقال: بالرحب والسعة، ثم بايعهم له، وأمر به فتوارى عنده، ودعا أهل بيته وقواده وكبراء أهل البلد للبيعة، فأجابوه، فقطع الأعلام البيض والأقبية البيض والقلانس البيض، وهيأ لبسته من البياض يصعد فيها إلى المنبر، وتهيأ لذلك يوم خميس؛ فلما كان يوم الأربعاء إذا حراقة قد وافت من البصرة، فيها رسول لخليدة بنت المعارك - امرأة عمر بن حفص - بكتاب إليه تخبره بقتل محمد بن عبد الله، فدخل على عبد الله فأخبره الخبر، وعزاه، ثم قال له: إني كنت بايعت لأبيك، وقد جاء من الأمر ما ترى. فقال له: إن أمري قد شهر، ومكاني قد عرف، ودمي في عنقك؛ فانظر لنفسك أودع. قال: قد رأيت رأيًا ههنا ملك من ملوك السند، عظيم المملكة، كثير التبع؛ وهو على شركة أشد الناس تعظيمًا لرسول الله ﷺ؛ وهو رجل وفي، فأرسل إليه، فاعقد بينك وبينه عقدًا، وأوجهك إليه تكون عنده؛ فلست ترام معه. قال: افعل ما شئت؛ ففعل ذلك؛ فصار إليه، فأظهر إكرامه وبره برًا كثيرًا؛ وتسللت إليه الزيدية حتى صار إليه منهم أربعمائة إنسان من أهل البصائر؛ فكان يركب فيهم فيصيد ويتنزه في هيئة الملوك وآلاتهم، فلما قتل محمد وإبراهيم انتهى خبر عبد الله الأشتر إلى المنصور؛ فبلغ ذلك منه، فكتب إلى عمر بن حفص يخبره بما بلغه، فجمع عمر بن حفص قرابته، فقرأ عليهم كتاب المنصور يخبرهم أنه إن أقر بالقصة لم ينظره المنصور أن يعزله، وإن صار إليه قتله، وإن امتنع حاربه. قال له رجل من أهل بيته: ألق الذنب علي، واكتب إليه بخبري، وخذني الساعة فقيدني واحبسني؛ فإنه سيكتب: احمله إلي؛ فاحملني إليه، فلم يكن ليقدم علي لموضعك في السند، وحال أهل بيتك بالبصرة. قال: إني أخاف عليك خلاف ما تظن، قال: إن قتلت أنا فنفسي فداؤك فإني سخي بها فداء لنفسك؛ فإن حييت فمن الله. فأمر به فقيد وحبس، وكتب إلى المنصور يخبره بذلك؛ فكتب إليه المنصور يأمره بحمله إليه؛ فلما صار إليه قدمه فضرب عنقه، ثم مكث يروي من يولي السند! فأقبل يقول: فلان فلان؛ ثم يعرض عنه؛ فبينا هو يومًا يسير ومعه هشام بن عمرو التغلبي، والمنصور ينظر إليه في موكبه، إذ انصرف إلى منزله، فلما ألقى ثوبه دخل الربيع فآذنه بهشام. فقال: أولم يكن معي آنفًا! قال: ذكر أن له حاجة عرضت مهمة. فدعا بكرسي فقعد عليه، ثم أذن له، فلما مثل بين يديه قال: يا أمير المؤمنين؛ إني انصرف إلى منزلي من الموكب، فلقيتني أختي فلانة بنت عمرو، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين، فجئت لأعرضها عليه؛ فأطرق المنصور، وجعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده، وقال: اخرج يأتك أمري؛ فلما ولى قال: يا ربيع؛ لولا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوجت أخته وهو قوله: لاتطلبن خئولة في تغلب ** فالزنج أكرم منهم أخوالا فأخاف أن تلد لي ولدًا، فيعير بهذا البيت؛ ولكن اخرج إليه، فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: لو كانت لك لله حاجة إليه لم أعدل عنها غير التزويج؛ ولو كانت لي حاجة إلى التزويج لقبلت ما أتيتني به؛ فجزاك الله عما عملت له خيرًا، وقد عوضتك من ذلك ولاية السند. وأمره أن يكاتب ذلك الملك؛ فإن أطاعه وسلم إليه عبد الله بن محمد، وإلا حاربه. وكتب إلى عمر بن حفص بولايته إفريقية. فخرج هشام بن عمرو التغلبي إلى السند فوليها، وأقبل عمر بن حفص يخوض البلاد حتى صار إلى إفريقية، فلما صار هشام بن عمرو إلى السند كره أخذ عبد الله، وأقبل يري الناس أنه يكاتب الملك ويرفق به، فاتصلت الأخبار بأبي جعفر بذلك؛ فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببعض بلاد السند، فوجه إليهم أخاه سفنجا، فخرج يجر الجيش بجنبات ذلك الملك؛ فبينا هو يسير إذ هو برهج قد ارتفع من موكب، فظن أنه مقدمة للعدو الذي يقصد، فوجه طلائعه فرجعت، فقالت: ليس هذا عدوك الذي تريد؛ ولكن هذا عبد الله بن محمد الأشتر العلوي ركب متنزهًا يسير على شاطئ مهران، فمضى يريده، فقال له نصاحه: هذا ابن رسول الله ﷺ، وقد علمت أن أخاك تركه معتمدًا، مخافةً أن يبوء بدمه، ولم يقصدك، إنما خرج متنزهًا، وخرجت تريد غيره. فأعرض عنه، وقال: ما كنت لأدع أحدًا يحوزه، ولا ادع أحدًا يحظى بالتقرب إلى المنصور بأخذه وقتله. وكان في عشرة، فقصد قصده، وذمر أصحابه، فحمل عليه، فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه بين يديه حتى قتل وقتلوا جميعًا، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط بين القتلى، فلم يشعر به. وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران لما قتل، لئلا يؤخذ رأسه؛ فكتب هشام بن عمرو بذلك كتاب فتح إلى المنصور، يخبره أنه قصده قصدًا. فكتب إليه المنصور يحمد أمره، ويأمره بمحاربة الملك الذي آواه؛ وذلك أن عبد الله كان اتخذ جواري، وهو بحضرة ذلك الملك، فأولد منهن واحدة محمد بن عبد الله - وهو أبو الحسن محمد العلوي الذي يقال له بن الأشتر - فحاربه حتى ظفر به، وغلب على مملكته وقتله، ووجه بأم ولد عبد الله وابنه إلى المنصور، فكتب المنصور إلى واليه بالمدينة، يخبره بصحة نسب الغلام، وبعث به إليه، وأمره أن يجمع آل أبى طالب، وان يقرا عليهم كتابه بصحة نسب الغلام، ويسلمه إلى أقربائه. وفي هذه السنة قدم على المنصور ابنه المهدي من خراسان، وذلك في شوال منها - فوفد إليه للقائه وتهنئة المنصور بمقدمه عامة أهل بيته، من كان منهم بالشام والكوفة والبصرة وغيرها، فأجازهم وكساهم وحملهم، وفعل مثل ذلك بهم المنصور، وجعل لابنه المهدي صحابة منهم، وأجرة لكل رجل منهم خمسمائة درهم. ذكر خبر بناء المنصور الرصافة وفي هذه السنة ابتدأ المنصور ببناء الرصافة في الجانب الشرقي من مدينة السلام لابنه محمد المهدي. ذكر الخبر عن سبب بنائه ذلك له ذكر عن أحمد بن محمد الشروي، عن أبيه، أن المهدي لما قدم من خراسان أمره المنصور بالمقام بالجانب الشرقي، وبنى له الرصافة، وعمل لها سورًا وخندقًا وميدانًا وبستانًا، وأجرى له الماء؛ فكان يجري الماء من نهر المهدي إلى الرصافة. وأما خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن خازم، فإنه ذكر أن محمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس حدثه، أن أباه حدثه، أن الراوندية لما شغبوا على أبي جعفر وحاربوه على باب الذهب، دخل عليه قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس - وهو يومئذ شيخ كبير مقدم عند القوم - فقال له أبو جعفر: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا! قد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، عندي في هذا رأي إن أنا أظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيته، صلحت لك خلافتك، وهابك جندك. فقال له: أفتمضي في خلافتي أمرًا لا تعلمني ما هو! فقال له: إن كنت عندك متهمًا على دولتك فلا تشاورني، وإن كنت مأمونًا عليها فدعني أمضي رأيي. فقال له: فأمضه. قال: فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلامًا له فقال له: إذا كان غدًا فتقدمني، فاجلس في دار أمير المؤمنين؛ فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب، فخذ بعنان بغلتي، فاستوقفني واستحلفني بحق رسول الله وحق العباس وحق أمير المؤمنين لما وقفت لك، وسمعت مسألتك وأجبتك عنها؛ فإني سأنتهرك، وأغلظ لك القول، فلا يهولنك ذلك مني، وعاودني بالقول وبالمسألة، فإني سأشتمك، فلا يروعنك ذلك، وعاودني بالقول والمسألة، فإني سأضربك بسوطي، فلا يشق ذلك عليك، فقل لي: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ فإذا أجبتك فخلي عنان بغلتي وأنت حر. قال: فغدا الغلام، فجلس حيث أمره من دار الخليفة، فلما جاء الشيخ فعل الغلام ما أمر به مولاه، وفعل المولى ما كان قاله له، ثم قال له: قل، فقال: أي الحيين أشرف؟ اليمن أم مضر؟ قال: فقال قثم: مضر كان منها رسول الله ﷺ، وفيها كتاب الله عز وجل، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله. قال: فامتعضت اليمن إذ لم يذكر لها شيء من شرفها؛ فقال له قائد من قواد اليمن: ليس الأمر كذلك مطلقًا بغير شرفة ولا فضيلة لليمن، ثم قال لغلامه: قم فخذ بعنان بغلة الشيخ، فاكبحها كبحًا عنيفًا تطأ من به منه، قال: ففعل الغلام ما أمره به مولاه حتى كاد أن يقعيها على عراقيبها، فامتعضت من ذلك مضر، فقالت: أيفعل هذا بشيخنا! فأمر رجل منهم غلامه، فقال: اقطع يد العبد، فقام إلى غلام اليماني فقطع يده، فنفر الحيان، وصرف قثم بغلته، فدخل على أبي جعفر، وافترق الجند، فصارت مضر فرقة، واليمن فرقة، والخرسانية فرقة، وربيعة فرقة، فقال قثم لأبي جعفر: قد فرقت بين جندك، وجعلتهم أحزابًا كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثًا، فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، قال: ما هي؟ قال: اعبر بابنك فأنزله في ذلك الجانب قصرًا، وحوله وحول معك من جيشك معه قومًا فيصير ذلك بلدًا، فإن فسد عليك أهل هذا الجانب ضربتهم بأهل ذلك الجانب، وإن فسد عليك أهل ذلك الجانب ضربتهم بأهل هذا الجانب، وإن فسدت عليك مضر ضربتها باليمن وربيعة والخرسانية، وإن فسدت عليك اليمن ضربتها بمن أطاعك من مضر وغيرها. قال: فقبل أمره ورأيه، فاستوى له ملكه؛ وكان ذلك سبب البناء في الجانب الشرقي وفي الرصافة وأقطاع القواد هناك. قال: وتولى صالح صاحب المصلى القطائع في الجانب الشرقي، ففعل كفعل أبي العباس الطوسي في فضول القطائع في الجانب الغربي، فله بباب الجسر وسوق يحيى ومسجد خضير وفي الرصافة وطريق الزواريق على دجلة مواضع بناء، بما استوهب من فضل الإقطاع عن أهله، وصالح رجل من أهل خراسان. وفي هذه السنة جدد المنصور البيعة لنفسه ولإبنه محمد المهدي من بعده، ولعيسى بن موسى من بعد المهدي على أهل بيته في مجلسه في يوم جمعة؛ وقد عمهم بالإذن فيه؛ فكان كل من بايعه منهم يقبل يده ويد المهدي، ثم يمسح على يد عيسى بن موسى ولا يقبل يده. وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم بن محمد. أمر عقبة بن سلم وفيها شخص عقبة بن سلم من البصرة واستخلف عليها ابنه نافع بن عقبة إلى البحرين، فقتل سليمان بن حكيم العبدي وسبى أهل البحرين، وبعث ببعض من سبى منهم وأسارى منهم إلى أبي جعفر، فقتل منهم عدة ووهب بقيتهم للمهدي. فمن عليهم وأعتقهم؛ وكسا كل إنسان منهم ثوبين من ثياب مرو. ثم عزل عقبة بن سلم عن البصرة؛ فذكر عن إفريك - جارية أسد بن المرزبان - أنها قالت: بعث المنصور بن المرزبان إلى عقبة بن سلم إلى البحرين حين قتل منهم من قتل، ينظر في أمره، فمايله ولم يستقص عليه، ووري عنه؛ فبلغ ذلك أبا جعفر، وبلغه أنه أخذ منه مالًا، فبعث إليه أبا سو يد الخراساني - وكان صديق أسد - وأخاه فلما رآه مقبلًا على البريد فرح، وكان ناحية من عسكر عقبة، فتطاول له، وقال: صديقي. فوقف عليه فوثب ليقوم إليه، فقال له أبو سويد " بنشين بنشين "، فجلس فقال له: أنت سامع مطيع؟ قال: نعم، قال: مد يدك، فمد يده فضربها فأطنها، ثم مد رجله، ثم مد يده ثم رجله حتى قطع الأربع، ثم قال: مد عنقك فمد فضرب عنقه. قالت إفريك: فأخذت رأسه فوضعته في حجري، فأخذه مني فحمله إلى المنصور. فما أكلت إفريك لحمًا حتى ماتت. وزعم الواقدي أن أبا جعفر ولى معن بن زائدة في هذه السنة سجستان. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وكان العامل على مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة جابر بن طلبه الكلابي، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك ما كان من قتل الخوارج فيها معن بن زائدة الشيباني ببست سجستان. فيها غزا حميد بن قحطبة كابل، وكان المنصور ولاه خراسان في سنة اثنتين وخمسين ومائة. وغزا - فيما ذكر - الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم ولم يدرب. وقيل إن الذي غزا الصائفة في هذه السنة محمد بن إبراهيم. وفيها عزل المنصور جابر بن توبة عن البصرة، وولاها يزيد بن منصور. وفيها قتل أبو جعفر هاشم بن الأشتاخنج، وكان عصي وخالف في إفريقية، فحمل إليه هو وابن خالد المرور وذي، فقتل ابن الأشتاخنج بالقادسية، وهو متوجه إلى مكة. وحج بالناس هذه السنة المنصور؛ فذكر أنه شخص من مدينة السلام في شهر رمضان ولا يعلم بشخوصه محمد بن سليمان، وهو عامله على الكوفة يومئذ، ولا عيسى بن موسى ولا غيرهما من أهل الكوفة حتى قرب منها. وفيها عزل يزيد بن حاتم عن مصر ووليها محمد بن سعيد. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال في السنة الخالية إلا البصرة فإن عاملها في هذه السنة كان يزيد بن منصور، وإلا مصر فإن عاملها كان في هذه السنة محمد بن سعيد. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك تجهيز المنصور جيشًا في البحر لحرب الكرك، بعد مقدمة البصرة، منصرفًا من مكة إليها بعد فراغه من حجه، وكانت الكرك أغارت على جدة، فلما قدم المنصور البصرة في هذه السنة جهز منها جيشًا لحربهم، فنزل الجسر الأكبر حين قدمها - فيما ذكر -. وقمته هذه البصرة القدمة الآخرة. وقيل إنه إنما قدمها القدمة الآخرة في سنة خمس وخمسين ومائة، وكانت قدمته الأولى في سنة خمس وأربعين ومائة، وأقام بها أربعين يومًا، وبنى بها قصرًا ثم انصرف منها إلى مدينة السلام. وفيها غضب المنصور على أبي أيوب المورياني، فحبسه وأخاه وبني أخيه: سعيدًا ومسعودًا ومخلدًا ومحمدًا، وطالبهم. وكانت منازلهم المناذر وكان سبب غضبه عليه - فيما قيل - سعي أبان بن صدقة كاتب أبي أيوب إليه. وفي هذه السنة قتل عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة بإفريقية، قتله أبو حاتم الأباضي وأبو عاد ومن كان معهما من البربر، وكانوا - فيما ذكر - ثلاثمائة ألف وخمسين ألفًا، الخيل منها خمسة وثلاثون ألفًا، ومعهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفًا، وكان يسلم عليه قبل ذلك بالخلافة أربعين يومًا. وفيها حمل عباد مولى المنصور وهرثمة بن أعين ويوسف بن علوان من خراسان في سلاسل، لتصبهم لعيسى بن موسى. وفيها أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول، وكانوا - فيما ذكر - يحتالون لها بالقصب من داخل، فقال أبو دلامة: وكنا نرجى من إمام زيادة ** فزاد الإمام المصطفى في القلانس تراها على هام الرجال كأنها ** دنان يهود جللت بالبرانس وفيها توفي عبيد بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضي مكانه شريك بن عبد الله النخعي. وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فصار إلى حصن من حصون الروم ليلًا، وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه من المقاتلة، ثم صار إلى اللاذقية المحترقة، ففتحها واخرج منها ستة آلاف رأس من السبي سوى الرجال البالغين. وفيها ولى المنصور بكار بن مسلم العقلي على أرمينية وحج بالناس في هذه السنة محمد بن أبي جعفر المهدي. وكان على مكة والطائف يومئذ محمد بن إبراهيم، وعلى المدينة الحسن بن زيد بن الحسن، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة يزيد بن منصور، وعلى قضائها سوار وعلى مصر محمد بن سعيد. وذكر الواقدي أن يزيد بن منصور كان في هذه السنة والي اليمن من قبل أبي جعفر المنصور. ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك خروج المنصور إلى الشام ومسيره إلى بيت المقدس وتوجيهه يزيد بن حاتم إلى أفريقية في خمسين ألفًا - فيما ذكر - لحرب الخوارج اللذين كانوا بها، الذين قتلوا عامله عمر بن حفص. وذكر انه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم. وفي هذه السنة عزم المنصور - فيما ذكر - على بناء مدينة الرافقة، وذكر عن محمد جابر، عن أبيه أن أبا جعفر لما أراد بناءها، امتنع أهل الرقة، وأرادوا محاربته، وقالوا: تعطل علينا أسواقنا وتذهب بمعايشنا، وتضيق منازلنا؛ فهم بمحاربتهم، وبعث إلى راهب في الصومعة هنالك، فقال له: هل لك علم بأن إنسانًا يبني هاهنا مدينة؟ فقال: بلغني أن رجلًا يقال له مقلاص يبنيها، فقال: أنا والله مقلاص. وذكر محمد بن عمر أن صاعقةً سقطت في هذه السنة في المسجد الحرام فقتلت خمسة نفر. وفيها هلك أبو أيوب المورياني وأخوه خالد، وأمر المنصور موسى بن دينار حاجب أبي العباس الطوسي بقطع أيدي بنس آخى أبي أيوب وأرجلهم وضرب أعناقهم؛ وكتب بذلك إلى المهدي، ففعل ذلك موسى وأنفذ فيهم ما أمره به. وفيها ولي عبد الملك بن ظبيان النميري على البصرة. وغزا الصائفة في هذه السنة زفر بن عاصم الهلالي فبلغ الفرات. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن إبراهيم، وهو عامل أبي جعفر على مكة والطائف. وكان على المدينة الحسن بن يزيد، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى البصرة عبد الملك بن أيوب بن ظبيان. وعلى قضائها سوار بن عبد الله وعلى السند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد. ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك افتتاح يزيد بن حاتم إفريقية وقتله أبا عاد وأبا حاتم ومن كان مع واستقامت بلاد المغرب، ودخل يزيد بن حاتم القيروان. وفيها وجه المنصور ابنه المهدي لبناء مدينة الرافقة، فشخص إليها، فبناها على بناء مدينته ببغداد في أبوابها وفصولها ورحابها وشوارعها وسور سورها وخندقها، ثم انصرف إلى مدينته. وفيها - فيما ذكر محمد بن عمر - خندق أبو جعفر على الكوفة والبصرة، وضرب عليهما سورًا، وجعل ما أنفق على سور ذلك وخندقه من أموال أهله. وعزل فيها المنصور عبد الملك بن أيوب بن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي، وضم إليه سعيد بن دعلج، وأمره ببناء سور لها يطيف بها، وخندق عليها من دون السور من أموال أهلها، ففعل ذلك. وذكر أن المنصور لما أراد الأمر ببناء سور الكوفة وبحفر خندق لها، أمر بقسمة خمسة دراهم، على أهل الكوفة، وأراد بذلك علم عددهم؛ فلما عرف عددهم أمر بجبايتهم أربعين درهمًا من كل إنسان، فجبوا، ثم أمر بإنفاق ذلك على سور الكوفة وحفر خندق لها، فقال شاعرهم: يا لقومي ما لقينا ** من أمير المؤمنينا قسم الخمسة فينا ** وجبانا الأربعينا وفيها طلب صاحب الروم الصلح إلى المنصور؛ على أن يؤدي إليه الجزية. وغزا الصائفة في هذه السنة يزيد بن أسيد السلمي وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة، وغرمه مالًا، وغضب عليه وحبسه، فذكر عن بعض بني هاشم، أنه قال: كان المنصور ولى العباس بن محمد الجزيرة بعد يزيد بن أسيد، ثم غضب عليه فلم يزل ساخطًا عليه حتى غضب على بعض عمومته من ولد علي بن عبد الله بن عباس أما إسماعيل بن علي أو غيره فاعتوره أهله وعمومته ونساؤهم يكلمونه فيه، وضيقوا عليه فرضي عنه، فقال عيسى بن موسى: يا أمير المؤمنين؛ إن آل علي بن عبد الله - وإن كانت نعمك عليهم سابغة - فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا؛ فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بن علي منذ أيام، فضيقوا عليك. وأنت غضبان على العباس بن محمد، منذ كذا وكذا، فما رأيت أحدًا منهم كلمك فيه. قال: فدعا العباس فرضي عنه. قال: وقد كان يزيد بن أسيد عند عزل العباس إياه عن الجزيرة، شكا إلى أبي جعفر العباس، وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن أخاك أساء عزلي، وشتم عرضي، فقال له المنصور: اجمع بين إحساني إليك وإساءة أخي يعتدلا، فقال يزيد بن أسيد: يا أمير المؤمنين؛ إذا كان إحسانكم جزاء إساءتكم، كانت طاعتنا تفضلًا منا عليكم. وفيها استعمل المنصور على حرب الجزيرة وخراجها موسى بن كعب. وفي هذه السنة عزل المنصور عن الكوفة محمد بن سليمان بن علي، في قول بعضهم، وأستعمل مكانه عمرو بن زهير أخا المسيب بن زهير. وأما عمر بن شبة فإنه زعم أنه عزل محمد بن سليمان عن الكوفة في سنة ثلاث وخمسين ومائة، وولاها عمرو بن زهير الضبي أخا المسيب بن زهير في هذه السنة. قال: وهو حفر الخندق بالكوفة. ذكر الخبر عن سبب عزل المنصور محمد بن سليمان بن علي ذكر أن محمد بن سليمان أتى في عمله على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء - وكان خال معن بن زائدة - فأمر بحبسه. قال أبو زيد: فحدثني قثم بن جعفر والحسين بن أيوب وغيرهما أن شفعاءه كثروا بمدينة السلام، ثم ألحوا على أبي جعفر، فلم يتكلم فيه إلا ظنين، فأمر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه، فكلم ابن أبي العوجاء أبى الجبار - وكان منقطعًا إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما - فقال له: إن أخرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف، ولك أنت كذا وكذا، فأعلم أبو الجبار محمدًا، فقال: أذكرتنيه والله وقد كنت نسيته؛ فإذا انصرفت من الجمعة فأذكرنيه. فلما انصرف أذكره، فدعى به وأمر بضرب عنقه، فلما أيقن أنه مقتول، قال: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام؛ والله لقد فطرتكم في يوم صومكم، وصومتكم في يوم فطركم، فضربت عنقه. وورد على محمد رسول أبي جعفر بكتابه: إياك أن تحدث في أمر ابن أبي العوجاء شيئًا، فإنك إن فعلت فعلت بك وفعلت يتهدده. فقال محمد للرسول: هذا رأس ابن أبي العوجاء وهذا بدنه مصلوبًا بالكناسة، فأخبر أمير المؤمنين بما أعلمتك؛ فلما بلغ الرسول أبا جعفر رسالته، تغيظ عليه وأمر بالكتاب يعزله وقال: والله لهممت أن أقيده به، ثم أرسل إلى عيسى بن علي فأتاه، فقال: هذا عملك أنت! أشرت بتولية هذا الغلام، فوليته غلامًا جاهلًا لا علم له بما يأتي؛ يقدم على رجل يقتله من غير أن يطلع رأيي فيه، ولا ينتظر أمري! وقد كتبت بعزله؛ وبالله لأفعلن به ولأفعلن يتهدده، فسكت عنه عيسى حتى سكن غضبه، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إن محمدًا إنما قتل هذا الرجل على الزندقة، فإن قتله صوابًا فهو لك، وإن كان خطأ فهو على محمد، والله يا أمير المؤمنين لئن عزلته على تفية ما صنع ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن القالة من العامة عليك. فأمر بالكتب فمزقت وأقر على عمله. وقال بعضهم: إنما عزل المنصور محمد بن سليمان عن الكوفة لأمور قبيحة بلغته عنه، اتهمه فيها؛ وكان الذي أنهى ذلك إليه المساور بن سوار الجرمي صاحب شرطة، وفي مساور يقول حماد. لحسبك من عجيب الدهر أني ** أخاف وأتقي سلطان جرم وفي هذه السنة أيضًا عزل المنصور الحسن بن زيد عن المدينة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي. وجعل معه فليح بن سليمان مشرفًا عليه. وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم ابن محمد، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى البصرة الهيثم بن معاوية، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد. ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها ذكر الخبر عن مقتل عمرو بن شداد فمن ذلك ما كان من ظفر الهيثم بن معاوية عامل أبي جعفر على البصرة بعمرو بن بن شداد عامل إبراهيم بن عبد الله على فارس، فقتل بالبصرة وصلب. ذكر الخبر عن سبب الظفر به ذكر عمر أن محمد بن معروف حدثه، قال: أخبرني أبي، قال: ضرب عمرو بن شداد خادمًا له، فأتى عامل البصرة - إما ابن دعلج، وإما الهيثم بن معاوية - فدله غليه، فأخذه فقتله وصلبه في المربد في موضع دار إسحاق بن سليمان. وكان عمرو مولى لبني جمح، فقال بعضهم: ظفر به الهيثم بن معاوية وخرج يريد مدينة السلام، فنزل بقصر له على شاطئ نهر يعرف بنهر معقل، فأقبل بريد من عند أبي جعفر، ومعه كناب إلى الهيثم بن معاوية بدفع عمرو بن شداد إليه، فدفعه الهيثم إليه، فأقدمه البصرة، ثم أتى به ناحية الرحبة، فخلا به يسائله، فلم يظفر منه بشيء يحب علمه، فقطع يديه ورجليه، وضرب عنقه وصلبه في مربد البصرة. وفي هذه السنة عزل المنصور الهيثم بن معاوية عن البصرة وأعمالها، واستعمل سوار بن عبد الله القاضي على الصلاة، وجمع له القضاء والصلاة. وولى المنصور سعيد بن دعلج شرط البصرة وأحداثها. وفيها توفي الهيثم بن معاوية بعد ما عزل عن البصرة فجأة بمدينة السلام، وهو على بطن جارية له، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم. وفي هذه السنة غزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي. وحج بالناس في هذه السنة العباس بن محمد بن علي. وكان العامل على مكة محمد بن إبراهيم، وكان مقيمًا بمدينة السلام، وابنه إبراهيم بن محمد خليفته بمكة؛ وكان إليه مع مكة الطائف. وعلى الكوفة عمر بن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرط وصدقات أرض العرب بالبصرة سعيد بن دعلج، وعلى الصلاة بها والقضاء سوار بن عبد الله، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو، وعلى أفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد. ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك ابتناء المنصور قصره الذي على شاطئ دجلة؛ الذي يدعى الخلد وقسم بناءه على مولاه الربيع وأبان بن صدقة. وفيها قتل يحيى أبو زكريا المحتسب؛ وقد ذكرنا قبل سبب قتله إياه. وفيها حول المنصور الأسواق من مدينة السلام إلى باب الكرخ وغيره من المواضع، وقد مضى أيضًا ذكرنا سبب ذلك قبل. وفيها ولى المنصور جعفر بن سليمان على البحرين، فلم يتم ولايته، ووجه مكانه أميرًا عليها سعيد بن دعلج؛ فبعث سعيد ابنه تميمًا عليها. وفيها عرض المنصور جنده في السلاح والخبل على عينه في مجلس اتخذه على شط دجلة دون قطربل، وأمر أهل بيته وقرابته وصحابته يومئذ بلبس السلاح، وخرج وهو لابس درعًا وقلنسوة تحت البيضة سوداء لاطئة مضربة. وفيها توفي عامر بن إسماعيل المسلى، بمدينة السلام، فصلى عليه المنصور، ودفن في مقابر بني هاشم. وفيها توفي سوار بن عبد الله وصلى عليه ابن دعلج، واستعمل المنصور مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري. وفيها عقد المنصور الجسر عند باب الشعير، وجرى ذلك على يد حميد القاسم الصيرفي، بأمر الربيع الحاجب. وفيها عزل محمد بن سعيد الكاتب عن مصر، واستعمل عليها مطر مولى أبي جعفر المنصور. وفيها ولي معبد بن الخليل السند، وعزل عنها هشاط بن عمرو، ومعبد يومئذ بخراسان؛ كتب إليه بولايته. وغزا الصائفة فيها يزيد بن أسيد السلمي، ووجه سنانًا مولى البطال إلى بعض الحصون، فسبى وغنم. وقال محمد بن عمر: الذي غزا الصائفة في هذه السنة زفر بن عاصم. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. قال محمد بن عمر: كان على المدينة - يعني إبراهيم هذا. وقال غيره: كان على المدينة في هذه السنة عبد الصمد بن علي، وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم، وعلى الأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند معبد بن الخليل، وعلى مصر مطر مولى المنصور. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن تولية خالد بن برمك الموصل فمما كان فيها من ذلك توجيه المنصور ابنه المهدي إلى الرقة وأمره وإياه بعزل موسى بن كعب عن الموصل وتولية يحيى بن خالد بن برمك عليها وكان سبب ذلك - فيما ذكر الحسن بن وهب بن سعيد عن صالح بن عطية - قال: كان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف، ونذر دمه فيها، وأجله ثلاثة أيام بها، فقال خالد لابنه يحيى: يا بني، إني قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي، وإنما يراد بذلك دمي؛ فانصرف إلى حرمتك وأهلك، فما كنت فاعلًا بهم بعد موتي فافعله. ثم قال له: يا بني لا يمنعنك ذلك من أن تلقى إخواننا، وأن تمر بعمارة بن حمزة وصالح صاحب المصلى ومبارك التركي فتعلمهم حالنا. قال: فذكر صالح بن عطية أن يحيى حدثه، قال: أتيتهم فمنهم من تجهمني وبعث بالمال سرًا إلي، ومنهم من لم يأذن لي، وبعث بالمال في إثري. قال: واستأذنت على عمارة بن حمزة، فدخلت عليه وهو في صحن داره، مقابل بوجههه الحائط؛ فما انصرف إلي بوجهه، فسلمت عليه، فرد علي ردًا ضعيفًا، وقال: يا بني؛ كيف أبوك؟ قلت: بخير، يقرأ عليك السلام ويعلمك ما قد لزمه من هذا الغرم، ويستسلفك مائة ألف درهم. قال: فما رد علي قليلًا ولا كثيرًا، قال: فضاق بي موضعي، ومادت بي الأرض. قال: ثم كلمته فيما أتيته له. قال: فقال: إن أمكنني شيْ فسيأتيك، قال يحيى: فانصرفت وأنا أقول في نفسي: لعن الله كل شيء يأتي من تيهك وعجبك وكبرك! وصرت إلى أبي، فأخبرته الخبر، ثم قلت له: وأراك تثق من عمارة بن حمزة بما لا يوثق به! قال: فوالله إني لكذلك؛ إذ طلع رسول عمارة بن حمزة بالمئة ألف. قال: فجمعنا في يومين ألفي ألف وسبعمائة ألف، وبقيت ثلاثمائة ألف بوجودها يتم ما سعينا له، وبتعذرها يبطل. قال: فوالله إني لعلى الجسر ببغداد مارًا مهمومًا مغمومًا؛ إذ وثب إلي زاجر فقال: فرخ الطائر أخبرك! قال: فطويته مشغول القلب عنه، فلحقني وتعلق بلجامي، وقال لي: أنت والله مهموم، ووالله ليفرجن الله همك، ولتمرن غدًا في هذا الموضع واللواء بين يديك. قال: فأقبلت أعجب من قوله. قال: فقال لي: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم؟ قلت: نعم - ولو قال خمسون ألفًا لقلت نعم، لبعد ذلك عني من أن يكون - قال: ومضيت. وورد على المنصور انتقاض الموصل وانتشار الأكراد بها. فقال: من لها؟ فقال له المسيب بن زهير - وكان صديقًا لخالد بن برمك: عندي يا أمير المؤمنين رأي، أرى أنك لا تنتصحه؛ وأنك ستلقاني بالرد، ولكني لا أدع نصحك فيه والمشورة عليك به، قال: قل، فلا أستغشك، قلت: يا أمير المؤمنين ما رميتها بمثل خالد، قال: ويحك! فيصلح لنا بعد ما أتينا إليه! قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنما قومته لذلك وأنا الضامن عليه، قال: فهو لها والله، فليحضرني غدًا. فأحضر، فصفح له عن الثلاث مائة ألف الباقية، وعقد له. قال يحيى: ثم مررت بالزاجر، فلما رآني قال: أنا هاهنا أنتظرك منذ غدوة، قلت: امض معي، فمضى معي، فدفعت إليه الخمسة الآلاف. قال: وقال لي أبي: إلي بني؛ إن عمارة تلزمه حقوق، وتنوبه نوائب فأته، فأقرئه السلام، وقل له: إن الله قد وهب لنا رأي أمير المؤمنين، وصفح لنا عما بقي علينا، وولاني الموصل؛ وقد أمر برد ما استسلفت منك. قال: فأتيته فوجدته على مثل الحال التي لقيته عليه. فسلمت فما رد السلام عليه، ولا زادني على أن قال: كيف أبوك؟ قلت: بخير ويقول كذا وكذا وقال: فاستوى جالسًا، ثم قال لي: ما كنت إلا قسطارًا لأبيك؛ يأخذ مني إذا شاء، ويرد إذا شاء! قم عني لا قمت! قال: فرجعت إلى أبي فأعلمته، ثم قال لي أبي: يا بني، هو عمارة ومن لا يعترض عليه! قال: فلم يزل خالد على الموصل إلى أن توفي المنصور ويحيى على أذربيجان، فذكر عن أحمد بن محمد بن سوار الموصلي أنه قال: ما هبنا قط أمير هيبتنا خالد بن برمك من غير أن تشتد عقوبته، ولا نرى منه جبرية؛ ولكن هيبة كانت له في صدورنا. وذكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي، عن أبيه، قال: كان أبو جعغر غضب على موسى بن كعب - وكان عامله على الجزيرة والموصل - فوجه المهدي إلى الرقة لبناء الرافقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره بالمرور والمضي على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى بن كعب فقيده، وولي خالد بن برمك الموصل مكانه، ففعل المهدي ذلك، وخف خالدًا على الموصل، وشخص معه أخوا خالد: الحسن وسليمان ابنا برمك، وقد كان المنصور دعا قبل ذلك يحيى بن خالد، فقال له: قد أردتك لأمر مهم من الأمور، واخترتك لثغر من الثغور؛ فكن على أهبة؛ ولا يعلم بذلك أحد حتى أدعو يحيى بن خالد! فقام فأخذه بيده، فأدخله على المنصور، فخرج على الناس وأبوه حاضر واللواء بين يديه على أذربيجان، فأمر الناس بالمضي معه، فمضوا في موكبه، وهنئوه أباه خالدًا بولايته، فاتصل عملهما. وقال أحمد بن معاوية: كان المنصور معجبًا بيحيى، وكان يقول ولد الناس ابنًا وولد خالد أبًا. وفي هذه السنة نزل المنصور قصره الذي يعرف بالخلد. وفيها سخط المنصور على المسيب بن زهير وعزله عن الشرطة، وأمر بحبسه وتقييده، وكان سبب ذلك انه قتل أبان بن بشير الكاتب بالسياط، لأمر كان وجد عليه فيما كان من شركته لأخيه عمرو بن زهير في ولاية الكوفة وخراجها، وولى مكان المسيّب الحكم بن يوسف صاحب الحرب، ثم كلم المهدي أباه في المسيب، فرضى عنه بعد حبسه إياه أيامًا، وأعاد إليه ما كان يلي من شرطه. وفيها وجه المنصور نصر بن حرب التميمي واليًا على ثغر فارس. وفيها سقط المنصور عن دابته بجر جرايا، فانشج ما بين حاجبيه؛ وذلك أنه كان خرج لما وجه ابنه المهدي إلى الرقة مشيعًا له، حتى بلغ موضعًا يقال له جب سماقا، ثم عدل إلى حولايا، ثم أخذ على النهروانات فانتهى فيما ذكر إلى بشق من النهروانات يصب إلى نهر ديالى، فأقام على سكره ثمانية عشر يومًا، فأعياه، فمضى إلى جرجرايا، فخرج منها للنظر إلى ضيعة كانت لعيسى بن علي هناك، فصرع من يومه ذلك عن برذون له ديزج فشج في وجهه، وقدم عليه وهو بجرجرايا أسارى من ناحية عمان من الهند، بعث بهم إليه تسنيم بن الحواري مع ابنه محمد، فهم بضرب أعناقهم، فسألهم فأخبروه بما التبس به أمرهم عليه؛ فأمسك عن قتلهم وقسمهم بين قواده ونوابه. وفيها انصرف المهدي إلى مدينة السلام من الرقة فدخلها في شهر رمضان وفيها أمر المنصور بمرمة القصر الأبيض، الذي كان كسرى بناه، وأمر أن يغرم كل من وجد في داره شيء من الآجر الخرسواني، مما نقضه من بناء الأكاسرة، وقال: هذا فيء المسلين، فلم يتم ذلك ولا ما أمر به من مرمة القصر. وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى من درب الحدث، فلقى العدو فإقتتلوا ثم تحاجزوا. ذكر الخبر عن حبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري وفي هذه السنة حبس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وهو أمير مكة - فيما ذكر - بأمر المنصور إياه بحبسهم: ابن جريج وعباد بن كثير والثوري، ثم أطلقه من الحبس بغير إذن أبي جعفر، فغضب عليه أبو جعفر. وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عمران مولى محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس حدثه عن أبيه، قال: كتب المنصور إلى محمد بن إبراهيم - وهو أمير على مكة - يأمره بحبس رجل من آل علي بن أبي طالب كان بمكة، ويحبس ابن جريج وعباد بن كثير والثوري وقال: فحسبهم؛ فكان له سمار يسامره بالليل؛ فلما كان وقت سمره جلس وأكب على الأرض ينظر إليها، ولم ينطق بحرف حتى تفرقوا. قال فدنوت منه فقلت له: قد رأيت ما بك، فمالك؟ قال: عمدت إلى ذي رحم فحبسته، وإلى عيون من عيون الناس فحسبتهم، فيقدم أمير المؤمنين ولا أدري ما يكون؛ فلعله أن يأمر بهم فيقتلوا، فيشتد سلطانه وأهلك ديني، قال: فقلت له: فتصنع ماذا؟ قال: أوثر الله، وأطلق القوم؛ اذهب إلى إبلي فخذ راحلةً منها، وخذ خمسين دينارًا فأت بها الطالبي وأقرئه السلام، وقل له: إن ابن عمك يسألك أن تحلله من ترويعه إياك، وتركب هذه الراحلة، وتأخذ هذه النفقة. قال: فلما أحس بي جعل يتعوذ بالله من شري، فلما أبلغته قال: هو في حل ولا حاجة لي إلى الراحلة ولا إلى النفقة. قال: قلت: إن أطيب لنفسه أن تأخذ، ففعل. قال: ثم جئت إلى ابن جريج وإلى سفيان بن سعيد وعباد بن كثير فأبلغتهم ما قال، قالوا: هو في حل، قال: فقلت لهم: يقول لكم: لا يظهرن أحد منكم مادام المنصور مقيمًا. قال: فلما قرب المنصور وجهني محمد بن إبراهيم بألطاف، فلما أخبر المنصور أن رسول محمد بن إبراهيم قدم، أمر بالإبل فضربت وجوهها. قال: فلما صار إلى بئر ميمون لقية محمد، بن إبراهيم، فلما أخبر بذلك أمر بدوابه فضربت وجوهها، فعدل محمد، فكان يسير في ناحية. قال: وعدل بأبي جعفر عن طريق في الشق الأيسر فأنيخ به، ومحمد واقف قبالته، ومعه طبيب له؛ فلما ركب أبو جعفر وسار، وعديله الربيع أمر محمد الطبيب فمضى إلى موضع مناخ أبي جعفر، فرأى نجوه، فقال لمحمد: رأيت نجو رجل لا تطول به الحياة، فلما دخل مكة لم يلبث أن مات وسلم محمد. ذكر الخبر عن وفاة أبي جعفر المنصور وفيها شخص أبو جعفر من مدينة السلام، متوجهًا إلى مكة؛ وذلك في شوال، فنزل - فيما ذكر - عند قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكب، لثلاث بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بينًا إلى طلوع الشمس، ثم مضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة ثم أهل منها بالحج والعمرة، وساق معه الهدى وأشعره وقلده؛ لأيام خلت من ذي القعدة. فلما سار منازلًا عرض له وجعه الذي توفي منه. واختلف في سبب الوجع الذي كانت منه وفاته فذكر عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه، إنه كان يقول: كان المنصور لا يستمرئ طعامه؛ ويشكو من ذلك إلى المتطببين ويسألهم أن يتخذوا له الجوارشنات؛ فكانوا يكرهون ذلك ويأمرونه أن يقل من الطعام، ويخبرونه أن الجوارشنات تهضم في الحال، وتحدث من العلة ما هو أشد منه عليه؛ حتى قدم عليه طبيب من أطباء الهند، فقال له كما قال له غيره؛ فكان يتخذ له سفوفًا جوارشنًا يابسًا، فيه الأفاويه والأدوية الحارة، فكان يأخذه فيهضم طعامه فأحمده. قال: فقال لي أبي: قال لي كثير من متطببي العراق: لا يموت والله أبو جعفر أبدًا إلا بالبطن، قال: قلت له: وما علمك؟ قال: هو يأخذ الجوارشن فيهضم طعامه؛ ويخلق من زئير معدته في كل يوم شيئًا، وشحم مصارينه، فيموت ببطنه. وقال لي: اضرب لذلك مثلًا، أرأيت لو أنك وضعت جرًا على مرفع، ووضعت تحتها آجرة جديدة فقطرت، أما كان قطرها يثقب الآجرة على طول الدهر! أوما علمت أن لكل قطرة حدًا! قال: فمات والله أبو جعفر - كما قال - بالبطن. وقال بعضهم: كان بدء وجعه الذي مات فيه من حر أصابه من ركوبه في الهواجر، وكان رجلًا محرورًا على سنه، يغلب عليه المرار الأحمر، ثم هاض بطنه، فلم يزل كذلك حتى نزل بستان ابن عامر، فاشتد به، فرحل عنه فقصر عن مكة، ونزل بئر ابن المرتفع، فأقام بها يومًا وليلة، ثم صار منها إلى بئر ميمون، وهو يسأل عن دخوله الحرم، ويوصي الربيع بما يريد أن يوصيه، وتوفي بها في السحر أو مع طلوع الفجر ليلة السبت لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه والربيع مولاه؛ فكتم الربيع موته، ومنع النساء وغيرهن من البكاء عليه والصراخ، ثم أصبح فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وجلسوا مجالسهم؛ فكان أول من دعى به عيسى بن علي، فمكث ساعة، ثم أذن لعيسى بن موسى - وقد كان فيما خلا يقدم في الإذن على عيسى بن علي، فكان ذلك مما ارتيب به - ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان من أهل البيت، ثم لعامتهم؛ فأخذ الربيع بيعتهم لأمير المؤمنين المهدي ولعيسى بن موسى من بعده، على يد موسى بن المهدي حتى فرغ من بيعة بني هاشم؛ ثم دعا بالقواد فبايعوا ولم ينكل منهم عن ذلك رجل إلا علي بن عيسى بن ماهان؛ فإنه أبى عند ذكر عيسى بن موسى أن يبايع له، فلطمه محمد بن سليمان، وقال: ومن هذا العلج! وأمصه، وهم بضرب عنقه، فبايع، وتتابع الناس بالبيعة. وكان المسيب بن زهير أول من استثنى في البيعة، وقال: عيسى بن موسى: إن كان كذلك. فأمضوه. وخرج موسى بن المهدي إلى مجلس العامة، فبايع من بقي من القواد والوجوه، وتوجه العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايع أهلها بها؛ وكان عباس يومئذ المتكلم، فبايع الناس للمهدي بين الركن والمقام، وتفرق عدة من أهل بيت المهدي في نواحي مكة والعسكر فبايعه الناس، وأخذ في جهاز المنصور وغسله وكفنه، وتولى ذلك من أهل بيته العباس بن محمد والربيع والريان وعدة من خدمه ومواليه، ففرغ من جهازه مع صلاة العصر، وغطي من وجهه وجميع جسده بأكفانه إلى قصاص شعره، وأبدي رأسه مكشوفًا من أجل الإحرام، وخرج به أهل بيته والأخص من مواليه، وصلى عليه - فيما زعم الواقدي - عيسى بن موسى في شعب الخوز. وقيل: إن الذي صلى عليه إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي. وقيل: إن المنصور كان أوصى بذلك؛ وذلك أنه كان خليفته على الصلاة بمدينة السلام. وذكر علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، أن إبراهيم بن يحيى صلى عليه في المضارب قبل أن يحمل؛ لأن الربيع قال: لا يصلي عليه أحد يطمع في الخلافة، فقدموا إبراهيم بن يحيى - وهو يومئذ غلام حدث - ودفن في المقبرة التي عند ثنية المدنيين التي تسمى كذا، وتسمى ثنية المعلاة؛ لأنها بأعلى مكة ونزل في قبره عيسى بن علي والعباس بن محمد وعيسى بن موسى، والربيع والريان مولياه، ويقطين بن موسى. واختلف في مبلغ سنه يوم توفي، فقال بعضهم: كان يوم توفي ابن أربع وستين سنة. وقال بعضهم: كان يومئذ ابن خمس وستين سنة. وقال بعضهم: كان يوم توفي ابن ثلاث وستين سنة. وقال هشام الكلبي: هلك المنصور وهو ابن ثمان وستين سنة. وقال هشام: ملك المنصور اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يومًا. واختلف عن أبي معشر في ذلك، فحدثني أحمد بن ثابت الرازي عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عنه أنه قال: توفي أبو جعفر قبل يوم التروية بيوم يوم السبت، فكانت خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا ثلاثة أيام. وروي عن ابن بكار أنه قال: إلا سبع ليال. وقال الواقدي: كانت ولاية أبي جعفر اثنتين وعشرين سنة إلا ستة أيام. وقال عمر بن شبة: كانت خلافته اثنتين وعشرين سنة غير يومين. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي. وفي هذه السنة هلك طاغية الروم. ذكر الخبر عن صفة أبي جعفر المنصور ذكر أنه كان أسمر طويلًا، نحيفًا. خفيف العارضين. وكان ولد بالحميمة. ذكر الخبر عن بعض سيره ذكر عن صالح بن الوجيه، عن أبيه، قال: بلغ المنصور أن عيسى بن موسى قتل رجلًا من ولد نصر بن سيار، كان مستخفيًا بالكوفة، فدل عليه فضرب عنقه. فأنكر ذلك وأعظمه، وهم في عيسى بأمر كان فيه هلاكه، ثم قطعه عن ذلك جهل عيسى بما فعل. فكتب إليه: أما بعد، فإنه لولا نظر أمير المؤمنين واستبقاؤه لم يؤخرك عقوبة قتل ابن نصر بن سيار واستبدادك به بما يقطع أطماع العمال في مثله، فأمسك عمن ولاك أمير المؤمنين أمره؛ من عربي وأعجمي، وأحمر وأسود، ولا تستبن على أمير المؤمنين بإمضاء عقوبة في أحد قبله تباعة، فإنه لا يرى أن يأخذ أحدًا بظنة قد وضعها الله عنه بالتوبة، ولا بحدثٍ كان منه في حرب أعقبه الله منها سلمًا ستر به عن ذي غلة، وحجز به عن محنة ما في الصدور؛ وليس ييأس أمير المؤمنين لأحد ولا لنفسه من الله من إقبال مدير؛ كما أنه لا يأمن إدبار مقبل. إن شاء الله والسلام. وذكر عن عباس بن الفضل، قال: حدثني يحيى بن سليم كاتب الفضل بن ربيع، قال: لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلا يومًا واحدًا، فإنا رأينا ابنًا له يقال له عبد العزيز أخا سليمان وعيسى ابني أبي جعفر من الطلحية، توفي وهو حدث، قد خرج على متنكباُ قوسًا، متعممًا بعمامة، مترديًا ببرد في هيئة غلام إعرابي راكبا على قعود بين جوالفين، فيهما مقل ونعال ومساويات وما يهديه الأعراب؛ فعجب الناس من ذلك وأنكروه. قال: فمضى الغلام حتى عبر الجسر، وأتى المهدي بالرصافة فأهدي إليه ذلك، فقبل المهدي ما في الجواليق وملأهما دراهم، فانصرف بين الجوالقين؛ فعلم أنه ضرب من عبث الملوك. وذكر عن حماد التركي، قال: كنت واقفًا على رأس المنصور، فسمع جلبةً في الدار، فقال: ما هذا يا حماد؟ انظر، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فجئت فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور؟ فقلت: خشبة من حالها وأمرها ووصفتها له؛ فقال لي: أصبت صفته، فما يدريك أنت ما الطنبور! قلت: رأيته بخراسان نعم هناك، ثم قال: هات نعلي، فأتيته بها فقام يمشي رويدًا حتى أشرف عليهم فرآهم، فلما بصروا به تفرقوا، فقال: خذوه، فأخذ، فقال: اضرب به رأسه، فلم أزل أضرب به رأسه حتى كسرته، ثم قال: أخرجه من قصري، واذهب به إلى حمران بالكرخ، وقل له يبيعه. وذكر العباس بن الفضل عن سلام الأبرش، قال: كنت أنا وصيف وغلام آخر نخدم المنصور داخلًا في منزله؛ وكانت له حجرة فيها بيت وفسطاط وفراش ولحاف يخلو فيه، وكان من أحسن الناس خلقًا ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالًا لما يكون من عبث الصبيان؛ فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتبرد وجهه، واحمرت عيناه، فيخرج فيكون منه ما يكون، فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك؛ فنستقبله في ممشاه، فربما عاتبناه. وقال لي يوما: يا بني إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي؛ فلا يدنون مني أحدًا منكم مخافة أن أعره بشيء. وذكر أبو الهيثم خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثني عبد الله بن محمد يلقب - بمنقار من أهل خراسان وكان من عمال الرشيد - قال: كنا في الصحابة سبعمائة رجل؛ فكنا ندخل على المنصور كل يوم، قال: فقلت للربيع: اجعلني في آخر من يدخل، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم، ولا بأخسهم فتكون في آخرهم؛ وإن مرتبتك لتشبه نسبك. قال: فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حنفي، أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من خلفي وقدامي. قال: فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها! فقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: إلي، فدنوت منه، فإذا به قد نزل عن عرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عمودًا من بين فراشين، واستحال لونه ودرت أوداجه، فقال: إنك لصاحبي يوم واسط؛ لا نجوت إن نجوت مني. قال: قلت يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم، فكيف نصرتي لحقك! قال: فقال لي: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود في مستقره، واستوى متربعًا، وأسفر لونه، فقال: يا معن، إن لي باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم رأي، قال: فقال: أنت صاحبي، فجلست، وأمر الربيع بإخراج كل من كان في القصر فخرج، فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بمعصيتي، وإني أريد أن آخذه أسيرًا ولا يفوتني شيء من ماله، فما ترى؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، ولني اليمن، وأظهر أنك ضممتني إليه، ومر الربيع يزيح علي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني من يومي هذا لئلا ينتشر الخبر، قال: فاستل عهدًا من بين فراشين، فوقع فيه اسمي وناولنيه، ثم دعا الربيع، فقال: يا ربيع، إنا قد ضممنا معنًا إلى صاحب اليمن، فأزح علته فيما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ولا يمسي إلا وهو راحل. ثم قال: ودعني، فودعته وخرجت إلى الدهليز، فلقيني أبو الوالي، فقال: يا معن، اعزز على أن تضم إلى ابن أخيك! قال: فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل أن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه، فخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل، فأخذته أسيرًا، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه. وذكر حماد بن أحمد اليماني قال: حدثني محمد بن عمر اليمامي أبو الرديني، قال: أراد معن بن زائدة أن يوفد إلى المنصور قومًا يسلون سخيمته، ويستعطفون قلبه عليه، وقال: قد أفنيت عمري في طاعته، وأتعبت نفسي وأفنيت رجالي في حرب اليمن، ثم يسخط علي أن أنفقت المال في طاعته! فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة؛ فكان فيمن اختار مجاعة ابن الأزهر، فجعل يدعو الرجال واحدًا واحدًا، ويقول: ماذا أنت قائل لأمير المؤمنين إذا وجهتك إليه؟ فيقول: أقول وأقول، حتى جاءه مجاعة بن الأزهر، فقال: أعز الله الأمير! تسألني عن مخاطبة رجل بالعراق وأنا باليمن! أقصد لحاجتك؛ حتى أتأتى لها كما يمكن وينبغي، فقال: أنت صاحبي، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن عتيق المزني، فقال له: شد على عضد ابن عمك وقدمه أمامك؛ فإن سها عن شيء فتلافه. واختار من أصحابه ثمانية نفر معهما حتى تموا عشرة، وودعهم ومضوا حتى صاروا إلى أبي جعفر، فلما صاروا بين يديه تقدموا، فابتدأ مجاعة بن الأزهر بحمد الله والثناء عليه والشكر، حتى ظن القوم أنه إنما قصد لهذا، ثم كر على ذكر النبي ﷺ، وكيف اختاره الله من بطون العرب، ونشر من فضله؛ حتى تعجب القوم، ثم كر على ذكر أمير المؤمنين المنصور، وما شرفه الله به، وما قلده، ثم كر على حاجته في ذكر صاحبه. فلما انتهى كلامه، قال المنصور: أما ما وصفت من حمد الله، فالله أجل وأكبر من أن تبلغه الصفات، وأما ما ذكرت من النبي ﷺ فقد فضله الله بأكثر مما قلت، وأما ما وصفت به أمير المؤمنين؛ فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته إن شاء الله، وأما ما ذكرت من صاحبك فكذبت ولؤمت، اخرج فلا يقيل ما ذكرت. قال: صدق أمير المؤمنين، ووالله ماكذبت في صاحبي. فأخرجوا فلما صاروا إلى آخر الإيوان أمر برده مع أصحابه، فقال: ما ذكرت؟ فكر عليه الكلام؛ حتى كأنه كان في صحيفة يقرؤه، فقال له مثل القول الأول، فأخرجوا حتى برزوا جميعًا، وأمر بهم فوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال: تعصب عليه لأنه ربعي، وما رأيت كاليوم رجلًا أربط جأشًا، ولا أظهر بيانًا؛ رده يا غلام، فلما صار بين يديه أعاد السلام، وأعاد أصحابه، فقال المنصور: اقصد لحاجتك وحاجة صاحبك. قال: يا أمير المؤمنين، معن بن زائدة عبدك وسيفك وسهمك، رميت به عدوك، فضرب وطعن ورمى، حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجًا من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين أطال الله بقاءه! فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساعٍ أو واشٍ أو حاسد فأمير المؤمنين أولى بالتفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته. فقبل وفادته، وقبل العذر من معن؛ وأمر بصرفهم إليه، فلما صاروا إلى معن وقرأ الكتاب بالرضى قبل ما بين عينيه، وشكر أصحابه، وخلع عليهم وأجازهم على إقدامهم، وأمرهم بالرحيل إلى منصور، فقال مجاعة: آليت في مجلس من وائل قسما ** ألا أبيعك يا معن بأطماع يا معن إنك قد أوليتني نعمًا ** عمت لجيمًا وخصت آل مجاع فلا أزال إليك الدهر منقطعًا ** حتى يشيد بهلكي هتفة الناعي قال: وكانت نعم معن على مجاعة، أنه سأله ثلاث حوائج؛ منها أنه كان يتعشق امرأة من أهل بيته، سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد؛ وكانت إذا ذكر لها قالت: بأي شيء يتزوجني؟ أبحبته الصوف، أم بكسائه! فلما رجع لإلى معن كان أول شيء أن يزوجه بها، وكان أبوها في جيش معن، فقال: أريد الزهراء، وأبوها في عسكرك أيها الأمير، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم وأمهرها من عنده. فقال له معن: حاجتك الثانية، قال: الحائط الذي في منزلي بحجر وصاحبه في عسكر الأمير، فاشتراه منه وصيره له؛ وقال: حاجتك الثالثة؟ قال: تهب لي مالًا. قال: فأمر له بثلاثين ألف درهم، تمام مائة ألف درهم، وصرفه إلى منزله. وذكر عن محمد بن سالم الخوارزمي - وكان أبوه من قواد خراسان - قال: سمعت أبا الفرج خال عبد الله بن جبلة الطالقاني يقول: سمعت أبا جعفر يقول: ما كان أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، من هم؟ قال: هم أركان الملك، ولا يصلح الملك إلا بهم؛ كما أن السرير لا يصلح إلا بأربعة قوائم، إن نقصت واحدة وهى؛ أما أحدهم فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية فإني عن ظلمها غني، والرابع - ثم عض على أصبعه السبابة ثلاثة مرات، يقول في كل مرة: آه آه - قيل له: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة. وقيل: إن المنصور دعا بعامل من عماله قد كسر خراجه، فقال له: أد ما عليك، قال: والله ما أملك شيئًا، ونادى المنادي: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: يا أمير المؤمنين، هب ما علي لله ولشهادة أن لا إله إلا الله، فخلي سبيله. قال: وولى المنصور رجلًا من أهل الشام شيئًا من الخراج، فأوصاه وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج من عندي الساعة، فتقول: الزم الصحة؛ يلزمك العمل. قال: وولي رجلًا من أهل العراق شيئًا من خراج السواد، فأوصاه، وتقدم إليه، فقال: ما أعرفني بما في نفسك! تخرج الساعة فتقول: من عال بعدها فلا اجتبر. اخرج عني وامض إلى عملك؛ فو الله لئن تعرضت لذلك لأبلغن من عقوبتك ما تستحقه. قال: فوليا جميعًا وناصحا. ذكر الصباح بن عبد الملك الشيباني، عن إسحاق بن موسى بن عيسى؛ أن المنصور ولى رجلًا من العرب حضر موت، فكتب إليه وإلى البريد أن يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة وكلاب قد أعدها، فعزله وكتب إليه: ثكلتك أمتك وعدمتك عشيرتك! ما هذه العدة التي أعددتها للنكاية في الوحش! إنا إنما استكفيناك أمور المسلمين، ولن نستكفك أمور الوحش، سل ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بن فلان، والحق بأهلك ملومًا مدحورًا. وذكر الربيع أنه قال: أدخل على المنصور سهيل بن سلم البصري، وقد ولي عملًا فعزل، فأمر بحبسه واستئدائه، فقال سهيل: عبدك يا أمير المؤمنين، قال: بئس العبد أنت! قال: لكنك يا أمير المؤمنين نعم المولى! قال: أما لك فلا. قال: وذكر عن الفضل بن الربيع عن أبيه، أنه قال: بينا أنا قائمًا بين يدي المنصور أو على رأسه؛ إذا أتي بخارجي قد هزم له جيوشًا، فاقام ليضرب عنقه، ثم اقتحمته عينه، فقال: يابن الفاعلة، مثلك يهزم الجيوش! فقال له الخارجي: ويلك وسوءة لك! بيني وبينك أمس السيف والقتل، واليوم القذف والسب! وما كان ويؤمنك أن أرد عليك وقد يأست من الحياة فلا تستقيلها أبدًا! قال: فاستحيا منه المنصور وأطلقه، فما رأى له وجهًا حولًا. ذكر عبد الله بن عمرو الملحي أن هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي أيوب المكي، عن أبيه، قال: حدثني عمارة بن حمزة، قال: كنت عند المنصور، فانصرفت من عنده في وقت انتصاف النهار، وبعد أن بايع الناس للمهدي، فجاءني المهدي في وقت انصرافي، فقال لي: قد بلغني أن أبي قد عزم أن يبايع لجعفر أخي، وأعطى لله عهدًا لئن فعل لأقتلنه، فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين، فقلت: هذا أمر لا يؤخر، فقال الحاجب: الساعة خرجت! قلت: أمر حدث فأذن لي، فدخلت إليه، فقال لي: هيه يا عمارة! ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث يا أمير المؤمنين أريد أن أذكره، قال: فأنا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال: كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك حاضر ثالثنا، قال: قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك. وذكر عن أحمد بن يوسف بن القاسم، قال: سمعت إبراهيم بن صالح، يقول: كنا في مجلس ننتظر الآذان فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجاج، فمنا من حمده ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بن زائدة وممن ذمه الحسن بن زيد، ثم أذن لنا فدخلنا على المنصور، فانبرى الحسن بن زيد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني حتى يذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيشي عليه. فقال أبو جعفر: ما استنكرت من ذلك؟ رجل استكفاه قوم فكفاهم؛ والله لوددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزله أحد الحرمين. قال: فقال له معن: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عدة لو استكفيتهم كفوك، قال: ومنهم؟ كأنك تريد نفسك! قال: كلا لست كذلك؛ عن الحجاج ائتمنه قوم فأدى إليهم الأمانة، وإنا ائتمناك فخنتنا! ذكر الهيثم بن عدي، عن أبي بكر الهذلي، قال: سرت مع أمير المؤمنين المنصور إلى مكة، وسايرته يومًا، فعرض لنا رجل على ناقة حمراء تذهب في الأرض، وعليه جب خز، وعمامة عدنية، في يده سوط يكاد يمس الأرض، سري الهيئة، فلما رآه أمرني فدعوته، فجاء فسأله عن نسبه وبلاده وبادية قومه وعن ولاة الصدقة، فأحسن الجواب، فأعجبه ما رأى منه، فقال: أنشدني، فأنشده شعرًا لأوس بن حجر وغيره من الشعراء من بني عمر بن تميم؛ وحدثه حتى أتى على شعر لطريف بن تميم العنبري، وهو قوله: إن قناتي لنبع لا يؤيسها ** غمز الثقاف ولا دهن ولا نار متى أجر خائفًا تأمن مسارحه ** وإن أخف آمنًا تقلق به الدار إن الأمور إذا أوردتها صدرت ** إن الأمور لها ورد وإصدار فقال: ويحك! وما كان طريف فيكم حيث قال هذا الشعر؟ قال: كان أثقل العرب على عدوه وطأةً وأدركهم بثأر، وأيمنهم نقيبةً، وأعساهم قناة لمن رام هضمه، وأقرأهم لضيفه، وأحوطهم من وراء جاره؛ اجتمعت العرب بعكاظ فكلهم أقر له بهذه الخلال؛ غي أن امرأ أراد أن يقصر به، فقال: والله ما أنت ببعيد النجعة، ولا قاصد الرمية، فدعاه ذلك إلى ان جعل على نفسه ألا يأكل إلا لحم قنص يقتنصه، ولا ينزع كل عام عن غزوة يبعد فيها أثره، قال: يا أخي بني تميم؛ لقد أحسنت إذ وصفت صاحبك ولكني أحق ببيتيه منه؛ أنا الذي وصف لا هو. وذكر أحمد بن خالد الفقيمي أن عدت من بن هاشم حدثوه أن المنصور كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور الأطراف وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم والتلطف لسكونهم وهدوئهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلا من أحب أن يسامر، فإذا صلى العشاء الآخرة نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب؛ فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الثاني قام إلى فراشه فأسبغ وضوءه وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه. قال إسحاق: حدثت عن عبد الله بن الربيع، قال: قال أبو جعفر لإسماعيل بن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشأم حصن الأمة وأسنة الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجال، والترك منابت الصخور وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء استغنوا ببلادهم فاكنفوا بها عما يليهم، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم الله من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديمًا فهم لكل قوم عبيد. قال: فأي الولاة أفضل؟ قال: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة. قال: فأيهم أخرق؟ قال: أنهكهم للرعية، وأتبعهم لها بالخرق والعقوبة. قال: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قال: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسير الغدر وتبالغ عند المعاينة، والطاعة عند المحبة تضمر الإجتهاد وتبالغ عند الغفلة. قال: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟ قال: أولاهم بالمضرة والمنفعة. قال: ما علامة ذلك؟ قال: سرعة الإجابة وبذل النفس. قال: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيرًا؟ قال: أسلمهم قلبًا، وأبعدهم عن الهوى. وذكر عن أبي عبيد الله الكاتب، قال: سمعت المنصور يقول للمهدي حين عهد له بولاية العهد: يا أبا عبد الله، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألف والنصر بالتواضع؛ ولا تنس مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله. وذكر الزبير بن بكار، قال: حدثني مبارك الطبري، قال: سمعت أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: لا تبرم أمرًا حتى تفكر فيه؛ فإن فكر العاقل مرآته، تريه حسنه وسيئه. وذكر الزبير أيضًا، عن مصعب بن عبد الله، عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله؛ لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولاتدوم نعمة السلطان وطاعته إلا بالمال، ولا تقدم في الحياطة بمثل نقل الأخبار. وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه. واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختباره. وعن المبارك الطبري أنه سمع أبا عبيد الله يقول: سمعت المنصور يقول للمهدي: يا أبا عبد الله، لا تجلس مجلسًا إلا ومعك من أهل العلم يحدثك؛ فإن محمد بن شهاب الزهري قال: الحديث ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال، ولا يبغضه إلا مؤنثهم؛ وصدق أخو زهرة! وذكر عن علي بن مجاهد بن محمد بن علي، أن المنصور قال للمهدي: يا أبا عبد الله، من أحب الحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض أحد الحمد إلا استذم، وما استذم إلا كره. وقال المبارك الطبري: سمعت أبا عبيد الله يقول: قال المنصور للمهدي: يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه؛ ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه. وذكر الفقيمي، عن عتبة بن هارون، قال: قال أبو جعفر يومًا للمهدي: كم راية عندك؟ قال: لا أدري، قال: هذا والله التضييع؛ أنت لأمر الخلافة أشد تضييعًا؛ ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت؛ فاتق الله فيما خولك. وذكر علي بن محمد عن حفص بن عمر بن حماد، عن خالصة، قالت: دخلت على المنصور؛ فإذا هو يتشكى وجع ضرسه؛ فلما سمع حسي، قال: ادخلي؛ فلما دخلت إذا هو واضع يده على صدغيه، فسكت ساعة ثم قال لي: يا خالصة، كم عندك من المال؟ قلت: ألف درهم، قال: ضعي يدك على رأسي واحلفي، قلت: عندي عشرة آلاف دينار؛ قال: احمليها إلي، فرجعت فدخلت على المهدي والخيزران فأخبرتهما؛ فركلني المهدي برجله، وقال لي: ما ذهب بك إليه! ما به من وجع؛ ولكني سألته أمس مالًا فتمارض، احملي إليه ما قلت؛ ففعلت، فلما أتاه المهدي، قال: يا أبا عبد الله؛ تشكو الحاجة وهذا عند خالصة! وقال علي بن محمد: قال واضح مولى أبي جعفر قال: قال أبو جعفر يومًا انظر ما عندك من الثياب الخلقان فاجمعها، فإذا علمت بمجيء أبي عبد الله فجئني بها قبل أن يدخل؛ وليكن معها رقاع. ففعلت، ودخل عليه المهدي وهو يقدر الرقاع، فضحك وقال: يا أمير المؤمنين، من هاهنا يقول الناس: نظروا في الدينار والدرهم وما دون ذلك - ولم يقل: دانق - فقال المنصور: إنه لا جديد لمن لا يصلح خلقه، هذا الشتاء قد حضر، ونحتاج إلى كسوة للعيال والولد. قال: فقال المهدي: فعلي كسوة أمير المؤمنين وعياله وولده، فقال له: دونك فافعل. وذكر علي بن مرثد أبو دعامة الشاعر، أن أشجع بن عمرو السلمي حدثه عن المؤمل بن أميل - وذكره أيضًا عبد الله بن حسن الخوارزمي أن أبا قدامة حدثه أن المؤمل بن أميل حدثه قال: قدمت على المهدي - قال بن مرثد في خبره وهو ولي العهد، وقال الخوارزمي: قدمت عليه الري وهو ولي عهد - فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها؛ فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعرٍ بعشرين ألف درهم، فكتب إليه المنصور يعذله ويلومه، ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم. قال أبو قدامة: فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائدًا من قواده، فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلًا رجلًا ممن يمر به؛ حتى يظفر بالمؤمل؛ فلما رآه قال له: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل، من زوار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت. قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفًا من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة، وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع، فقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه، فسلمت فرد السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قال: أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين! قال: هيه! أتيت غلامًا غرًا فخدعته! قال: فقلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين؛ أتيت غلامًا غرًا كريمًا فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته: هو المهدي إلا أن فيه ** مشابه صورة القمر المنير تشابه ذا وذا فهما إذا ما ** أنارا مشكلان على البصير فهذا في الظلام سراج ليل ** وهذا في النهار سراج نور ولكن فضل الرحمن هذا ** على ذا بالمنابر والسرير وبالملك العزيز فذا أمير ** وما ذا بالأمير ولا الوزير ونقص الشهر يخمد ذا، وهذا ** منير عند نقصان الشهور فيا بن خليفة الله المصفى ** به تعلو مفاخرة الفخور لئن فت الملوك وقد توافوا ** إليك من السهول والوعور لقد سبق الملوك أبوك حتى ** بقوا من بين كاب أو حسير وجئت وراءه تجري حثيثًا ** وما بك حين تجري من فتور فقال الناس: ما هذان إلا ** بمنزلة الخليق من الجدير لئن سبق الكبير فأهل سبقٍ ** له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبير ** لقد خلق الصغير من الكبير فقال: والله لقد أحسنت؛ ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم. وقال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قال: يا ربيع انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم؛ وخذ منه الباقي. قال: فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي. قال: فلما صارت الخلافة إلى المهدي، ولى بن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ كساءه رقاعًا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يومًا رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن ثوبان، جعل المهدي ينظر في الرقاع؛ حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين! ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قال: هذه رقعة أعرف سببها ردوا إليه العشرين الألف الدرهم، فردت إلي وانصرفت. وذكر واضح مولى المنصور، قال: إني لواقف على رأس أبي جعفر يومًا إذ دخل عليه المهدي، وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس، ثم قام منصرفًا وأتبعه أبو جعفر بصره لحبه له وإعجابه به؛ فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكترث لذلك ولا حافل به. فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله؛ فرددناه إليه، فقال: يا أبا عبد الله، استقلالًا للمواهب، أم بطرًا للنعمة، أم قلة علم بموضع المصيبة! كأنك جاهل بما لك وعليك! وهذا الذي أنت فيه عطاء من الله، إن شكرته عليه زادك، فإن عرفت موضع البلاء منه فيه عافاك. فقال المهدي: لا أعدمنا الله بقاءك يا أمير المؤمنين وإرشادك؛ والحمد لله على نعمه، وأسأل الله الشكر على مواهبه، والخلف الجميل برحمته. ثم انصرف. قال العباس بن الوليد بن مزيد: قال: سمعت ناعم بن مزيد، يذكر عن الوضين بن عطاء، قال: استزارني أبو جعفر - وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة - فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يومًا، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لك؟ قلت الخبر الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، قال: فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد علي حتى ظننت أنه سيمولني، قال: ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنت أيسر العرب، أربعة مغازل يدرن في بيتك. وذكر بشر المنجم، قال: دعاني أبو جعفر يومًا عند المغرب، فبعثني في بعض الأمر، فلما رجعت رفع ناحية مصلاه فإذا دينار، فقال لي: خذ هذا واحتفظ به، قال: فهو عندي إلى الساعة. وذكر أبو الجهم بن عطية، قال: حدثني أبو مقاتل الخراساني، ورفع غلام له إلى أبي جعفر أن له عشرة آلاف درهم؛ فأخذها منه وقال: هذا مالي، قال: ومن أين يكون مالك! فوالله ما وليت لك عملًا قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة، قال: بلى، كنت تزوجت مولاة لعيينة بن موسى بن كعب فورثتك مالًا؛ وكان ذلك قد عصى وأخذ مالي وهو والٍ على السند؛ فهذا المال من ذلك المال! وذكر مصعب بن سلام، عن أبي حارثة النهدي صاحب بيت المال، قال: ولى أبو جعفر رجلًا باروسما؛ فلما انصرف أراد أن يتعلل عليه، لئلا يعطيه شيئًا، فقال له: أشركتك في أمانتي، ووليتك فيئًا من فيء المسلمين فخنته! فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، ما صحبني من ذلك شيء إلا درهم، منه مثقال صررته في كمي، إذا خرجت من عندك اكتريت به بغلًا إلى عيالي، فأدخل بيتي ليس معي شيء من مال الله ولا مالك. فقال: ما أظنك إلا صادقًا؛ هلم درهمنا. فأخذه منه فوضعه تحت لبده؟ فقال: ما مثلي ومثلك إلا مثل مجير أم عامر، قال: وما مجير أم عامر؛ فذكر قصة الضبع ومجيرها، قال: وإنما غالظه أبو جعفر لئلا يعطيه شيئًا. وذكر عن هشام بن محمد أن قثم بن العباس دخل على أبي جعفر، فكلمه في حاجة، فقال له أبو جعفر: دعني من حاجتك هذه، أخبرني لم سميت قثم؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أدري، قال: القثم الذي يأكل ويزل، أما سمعت قول الشاعر: وللكبراء أكل كيف شاءوا ** وللصغراء أكل واقتثام وذكر عن إبراهيم بن عيسى أن المنصور وهب لمحمد بن سليمان عشرين ألف درهم ولجعفر أخيه عشرة آلاف درهم، فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، تفضله علي وأنا أسن منه! قال: وأنت مثله! إنا لانلتفت إلى ناحية إلا وجدنا من أثر محمد فيها شيئًا، وفي منزلنا من هداياه بقية؛ وأنت لم تفعل من هذا شيئًا. وذكر عن سوادة بن عمرو السلمي، عن عبد الملك بن عطاء - وكان في صحابة المنصور - قال: سمعت ابن هبيرة وهو يقول في مجلسه: ما رأيت رجلًا قط في حرب، ولا سمعت به في سلم، أمكر ولا أبدع، ولا أشد تيقظًا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئًا نكسره به؛ فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء؛ فخرجت إليه وما في رأسي سوداء؛ وإنه لكما قال الأعشى: يقوم على الرغم من قومه ** فيعفو إذا شاء أو ينتقم أخو الحرب لا ضرع واهنٌ ** ولم ينتعل بنعال خذم وذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلًا على رجل يقال له أزهر السمان - وليس بالمحدث - وذلك قبل خلافته؛ فلما ولي الخلافة صار إليه إلى مدينة السلام، فأدخل عليه، فقال: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، علي دين أربعة آلاف درهم، وداري مستهدمة، وابني محمد يريد البناء بأهله؛ فأمر له باثني عشر درهم، ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة: قال: أفعل. فلما كان بعد قليل عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: جئت مسلمًا يا أمير المؤمنين؛ قال: إنه ليقع في نفسي أشياء؛ منها أنك أتيتنا لما أتيتنا له في المرة الأولى؛ فأمر له باثني عشر درهم أخرى؛ ثم قال: يا أزهر، لاتأتنا طالب حاجة ولا مسلمًا، قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ ثم لم يابث أن عاد، فقال: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده فإنه غير مستجاب؛ لأني قد دعوت الله به أن يريحني من خلفتك فلم يفعل، وصرفه ولم يعطه شيئًا. وذكر الهيثم بن عدي أن بن عياش حدثه أن ابن هبيرة أرسل إلى المنصور وهو محصور بواسط، والمنصور بإزائه: إني خارج يوم كذا وكذا وداعيك إلى المبارزة، فقد بلغني تجبينك إياي؛ فكتب إليه: يابن هبيرة، إنك امرؤ متعد طورك، جارٍ في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده؛ فرويدًا يتم الكتاب أجله؛ وقد ضربت مثلي ومثلك؛ بلغني أن أسدًا لقي خنزيرًا، فقال له الخنزير: قاتلني، فقال الأسد: إنما أنت خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الذي دعوتني إليه فقتلتك، قيل لي: قتلت خنزيرًا؛ فلم أعتقد بذلك فخرًا ولا ذكرًا، وإن نالني منك شيء كان سبة علي، فقال: إن أنت لم تفعل رجعت إلى السباع فأعلمتها أنك نكلت عني وجبنت عن قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر علي من لطخ شاربي بدمك. وذكر عن محمد بن رياح الجوهري، قال: ذكر لأبي جعفر تدبير هشام بن عبد الملك في حرب كانت له، فيعث إلى رجل كان معه ينزل الرصافة - رصافة هشام - يسأله عن ذلك الحرب، فقدم عليه فقال: أنت صاحب هشام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فأخبرني كيف فعل في حرب دبرها في سنة كذا وكذا؟ قال: إنه فعل فيها رحمه الله كذا وكذا، ثم أتبع أن قال: فعل كذا رضي الله عنه؛ فأحفظ ذلك المنصور، فقال: قم عليك غضب الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي! فقام الشيخ وهو يقول: إن لعدوك قلادة في عنقي ومنة في رقبتي لا ينزعها عني إلا غاسلي؛ فأمر المنصور برده، وقال: اقعد، هيه! كيف قلت؟ فقلت: إنه كفاني الطلب، وصان وجهي عن السؤال، فلم أقف على باب غربي ولا أعجمي منذ رأيته، أفلا يجب أن أذكره بخير وأتبعه بثنائي! فقال: بلى، لله أم نهضت عنك، وليلة أدتك، أشهد أنك نهيض حرة وغراس كريم؛ ثم استمع منه وأمر له ببر، فقال: يا أمير المؤمنين، ما آخذه لحاجة، وما هو إلا أني أتشرف بحبائك، وأتبجح بصلتك. فأخذ الصلة وخرج، فقال المنصور: عند مثل هذا تحسن الضبيعة، ويوضع المعروف، ويجاد بالمصون، وأين في عسكرنا مثله! وذكر عن حفص بن غياث، عن ابن عياش، قال: كان أهل الكوفة لا تزال الجماعة منهم قد طعنوا على عاملهم، وتظلموا على أميرهم، وتكلموا كلامًا فيه طعن على سلطانهم؛ فرفع ذلك في الخبر، فقال للربيع: اخرج إلى من بالباب من أهل الكوفة، فقل لهم: إن أمير المؤمنين يقول لكم لئن اجتمع اثنان منكم في موضع لأحلقن رؤوسهما ولحاهما، ولأضربن ظهورهما، فالزموا منزلكم؛ وابقوا على أنفسكم. فخرج إليهم الربيع بهذه الرسالة فقال له ابن عياش: يا شبه عيسى بن مريم، أبلغ أمير المؤمنين عنا كما أبلغتنا عنه، فقل له: والله يا أمير المؤمنين ما لنا بالضرب طاقة، فأما حلق اللحى فإذا شئت - وكان ابن عياش منتوفًا - فأبلغه، فضحك، وقال: قاتله الله ما أدهاه وأخبثه! وقال موسى بن صالح: حدثني محمد بن عقبة الصيداوي عن نصر بن حرب - وكان في حرس أبي جعفر - قال: رفع إلى رجل قد جيء به من بعض الآفاق، قد سعى في فساد الدولة، فأدخلته على أبي جعفر، فلما رآه قال: أصبغ! قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ويلك! أما أعتقتك وأحسنت إليك! قال: بلى، قال: فسعيت في نقض دولتي وإفساد ملكي! قال: أخطأت وأمير المؤمنين أولا بالعفو. قال: فدعى أبو جعفر عمارة - وكان حاضرًا - فقال: يا عمارة؛ هذا أصبغ، فجعل يتثبت في وجهي، وكأن في عينيه سوءًا، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: علي بكيس عطائي، فأتى بكيس فيه خمسمائة درهم، فقال: خذها فإنك وضح، ويلك، وعليك بعملك - وأشار بيده يحركها - قال عمارة: فقلت لأصبغ: ما كان عنى أمير المؤمنين؟ قال: كنت وأنا غلام أعمل الحبال، فكان يأكل من كسبي. قال نصر: ثم أتى به ثانية، فأدخلته كما أدخلته قبل، فلما وقف بين يديه أحد النظر إليه، ثم قال: أصبغ! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فقص عليه ما فعل به، وذكره إياه، فأقر به، وقال: الحمق يا أمير المؤمنين؛ فقدمه فضرب عنقه. وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، قال: كان خضاب المنصور زعفرانيًا وذلك أن شعره كان لينًا لا يقبل الخضاب، وكانت لحيته رقيقة؛ فكنت أراه على المنبر يخطي ويبكي فيسرع الدمع على لحيته حتى تكف لقلة الشعر ولينه. وذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي السندي بن شاهك السندي، قال: ظفر المنصور برجل من كبراء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قال: نعم، فقال له المنصور: من أين أتى بنوا أمية حتى انتشر أمرهم؟ قال: من تضيع الأخبار، قال: فأي الأموال وجدتوها أنفع؟ قال: الجوهر، قال فعند من وجدوا الوفاء؟ قال: عند مواليهم، قال: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قال: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه. وذكر علي بن محمد الهاشمي أن أباه محمد بن سليمان حدثه، قال: بلغني أن المنصور أخذ الدواء في يوم شات شديد البرد فأتيته أسأله عن موافقة الدواء له، فأدخلت مدخلًا من القصر لم أدخله قط، ثم صرت إلى حجيرة صغيرة، وفيها بيت واحد ورواق بين يديه في عرض البيت وعرض الصحن، على أسطوانة ساج، وقد سدل على وجه الرواق بواري كما يصنع بالمساجد، فدخلت فإذا في البيت مسح ليس فبه شيء غيره إلا فراشه ومرافقه ودثاره، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا بيت أربأ بك عنه، فقال: يا عم، هذا بيت مبيتي، قلت: ليس هنا غير هذا الذي أرى، قال: ما هو إلا ما ترى. قال: وسمعته يقول عمن حدثه، عن جعفر بن محمد، قال: قيل إن أبا جعفر يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة؛ وأنه يرقع قميصه، فقال جعفر: الحمد لله الذي لطف له حتى ابتلاه بفقر نفسه - أو قال: بالفقر في ملكه. قال: وحدثني أبي، قال: كان المنصور لا يولي أحدًا يعزله إلا ألقاه في خالد البطين - وكان منزل خالد على شاطئ دجلة، ملاصقًا لدار صالح المسكين - فيستخرج من المعزول مالًا، فما أخذ من شيء أمر به فعزل، وكسب عليه اسم من أخذ منه، وعزل في بيت المال، وسماه بيت مال المظالم، فكثر ما في ذلك البيت من المال والمتاع. ثم قال المهدي: إني قد هيأت لك شيئًا ترضي به الخلق ولا تغرم من مالك شيئًا، فإذا أنا مت فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سميتها المظالم، فاردد عليهم منهم؛ فإنك تستحمد إليهم وإلى العامة؛ ففعل ذلك المهدي لما ولى. قال سليمان بن محمد: فكان المنصور ولى محمد بن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد المطلب بن ربيع بن الحارث البلقاء، ثم عزله، وأمر أن يإليه مع مال وجد عنده، فحمل إليه على البريد، وألفى معه ألفا دينار، فحملت مع ثقله على البريد - وكان مصلى سوسنجرد ومضربة ومرفقه ووسادتين وطستًا وإبريقًا وأشناندانة نحاس - فوجد ذلك مجموعًا كهيئته؛ إلا أن المتاع قد تأكل، فأخذ ألفي الدينار، واستحيا أن يخرج ذلك المتاع، وقال: لا أعرفه، فتركه، ثم ولاه المهدي بعد ذلك اليمن، وولى الرشيد ابنها الملقب ربرا المدينة. وذكر أحمد بن الهيثم بن جعفر بن سليمان بن علي، قال: حدثني صباح بن خانقان، قال: كنت عند المنصور حين أتى برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فوضع بين يديه في ترس، فأكب عليه بعض السيافة، فبصق في وجهه، فنظر إليه أبو جعفر نظرًا شديدًا، وقال لي: دق أنفه، قال: فضربت أنفه بالعمود ضربة لو طلب له أنف بألف دينار ما وجد، وأخذته أعمدة الحرص، فما زال يشهم بها حتى خمد، ثم جر برجله. قال الأصمعي: حدثني جعفر بن سليمان، قال: قدم أشعب أيام أبي جعفر بغداد، فأطاف به فتيان بني هاشم فغناهم، فإذا ألحانه طربه وحلقه على حاله، فقال له جعفر: لمن هذا الشعر؟ لمن طلل بذات الجيش ** أمسى دارسًا خلقا علون بظاهر البيدا ** ء فالمحزون قد قلقًا فقال: أخذت الغناء من معبد؛ ولقد كنت آخذ عنه اللحن، فإذا سئل عنه قال: عليكم بأشعب؛ فإنه أحسن تأدية له مني. قال الأصمعي: وقال جعفر بن سليمان: قال أشعب لابنه عبيدة: إني أراني سأخرجك من منزلي وأنتقي منك، قال: ولم يا أبه؟ قال: لأني أكسب خلق الله لرغيف وأنت ابني قد بلغت هذا المبلغ من السن، وأنت في عيالي ما تكسب شيئًا، قال: بلى والله، إني لأكسب؛ ولكن مثل الموزة لا تحمل حتى تموت أمها. وذكر علي بن محمد بن سليمان الهاشمي؛ أن أباه محمدًا حدثه أنه الأكاسرة كان يطين لها في الصيف سقف بيت في كل يوم، فتكون قائلة الملك فيه، وكان يؤتى القصب والطوالًا غلاظًا فترصف حول البيت ويؤتى بقطع الثلج العظام فتجعل ما بين أضعافها وكانت بنو أمية تفعل ذلك؛ وكان أول من أتخذ الجيش المنصور. وذكر بعضهم: أن المنصور كان يطين له في أول خلافته بيت في الصيف يقيل فيه؛ فأتخذ له أبو أيوب الخوارزمي ثياب كثيفة تبل وتوضع على سبايك، فيجد بردها، فاستظرفها، وقال: ما أحسب هذه الثياب إن اتخذت أكثف من هذه إلا حملت من الماء أكثر مما تحمل؛ وكانت أبرد، فاتخذ له الخيش، فكان ينصب على قبة، ثم اتخذ الخلفاء بعده الشرائج، واتخذها الناس. وقال علي بن محمد بن أبيه: أن رجلًا من الراوندية كان يقال له الأبلق، وكان أبرص، فتكلم باللغو، ودعا بالراوندية إليه، فزعم أن الروح التي كانت في عيسى بن مريم صارت في علي بن أبي طالب، ثم في الأئمة، في واحد بعد واحد إلى إبراهيم بن محمد، وإنهم آله، واستحلوا الحرمات؛ فكان الرجل منهم يدعو الجماعة منهم إلى منزله فيطعمهم ويسقيهم ويحملهم على امرأته؛ فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، فقتله وصلبهم، فلم يزل ذلك فيهم إلى اليوم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وصعدوا إلى الخضراء، فألقوا أنفسهم، كأنهم يطيرون، وخرج جماعتهم على الناس بالسلاح، فأقبلوا يصيحون بأبي جعفر: أنت أنت! قال: فخرج إليهم بنفسه، فقاتلهم فأقبلوا يقولون وهم يقاتلون: أنت أنت. قال: فحكى لنا عن بعض مشيختنا أنه نظر إلى جماعة الراوندية يرمون أنفسهم من الخضراء كأنهم يطيرون، فلا يبلغ أحدهم الأرض إلا وقد تفتت وخرجت روحه. قال أحمد بن ثابت مولى محمد بن سليمان بن علي عن أبيه: إن عبد الله بن علي، لما توارى من المنصور بالبصرة عند سليمان بن علي أشرف يومًا ومعه بعض مواليه ومولى بن سليمان بن علي، فنظر إلى رجل له جمال وكمال، يمشي التخاجي، ويجر أثوابه من الخيلاء، فالتفت إلى مولى لسليمان بن علي، فقال: من هذا؟ قال له: فلان ابن فلان الأموي، فاستشاط غضبًا وصفق يديه عجبًا، وقال: إن طريقنًا لنبك بعد، يا فلان - لمولى له - انزل فأتني برأسه، وتمثل قول سديف: علام، وفيم نترك عبد شمس ** لها في كل راعية ثغاء! فما بالرمس في حران منها ** ولو قتلت بأجمعها وفاء وذكر علي بن محمد المدائني أنه قدم علي أبي جعفر المنصور - بعد انهزام عبد الله بن علي وظفر المنصور به، وحبسه إياه ببغداد - وفد من أهل الشأم فيهم الحارث بن عبد الرحمن، فقام عدة منهم فتكلموا، ثم قام الحارث بن عبد الرحمن، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة؛ وإنا ابتلينا بفتنة استفزت كريمنا، واستخفت حليمنا، فنحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا معتذرون، فإن تعاقبنا فيما فيما أجرمنا وإن تعفو عنا فبفضلك علينا؛ فاصفح عنا إذا ملكت، وامنن إذا قدرت، وأحسن إذ ظفرت، فطالما أحسنت! قال أبو جعفر: قد فعلت. وذكر عن الهيثم ابن عدي عن زيد مولي بن نهيك، قال: دعاني المنصور بعد موت مولاي، فقال: يا زيد، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين؛ قال: كم خلف أبو زيد من المال؟ قلت: ألف دينار أو نحوها، قال: فأين هي؟ قلت أنفقتها الحرة في مأتمه. قال: فاستعظم ذلك، وقال: أنفقت الحرة في مأتمه ألف دينار! ما أعجب هذا! ثم قال: كم خلف من البنات؟ قلت: ستًا، فأطرق مليًا ثم رفع رأسه وقال: أغد إلى باب المهدي، فغدوت فقيل لي: أمعك بغال؟ فقلت: لم أومر بذلك ولا بغيره؛ ولا أدري لم دعيت! قال: فأعطيت ثمانين ومائة ألف دينار، وأمرت أن أدفع إلى كل واحدة من بنات عيسى ثلاثين ألف دينار. ثم دعاني المنصور، فقال: أقبضت ما أمرنا به لبنات أبي زيد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أغد علي بأكفائهن حتى أزوجهن منهم؛ قال: فغدوت عليه بثلاثة من ولد العكي وثلاثة من آل نهيك من بني عمهن، فزوج كل واحدة منهن على ثلاثين ألف درهم، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، وأمرني أن أشتري بما أمر به لهن ضياعًا، يكون معاشهن منها، ففعلت ذلك. وقال الهيثم: فرق أبو جعفر على جماعة من أهل بيته في يوم واحد عشرة آلاف درهم، وأمر للرجل من أعمامه بألف ألف، ولا نعرف خليفة قبله ولا بعده وصل بها أحدًا من الناس. وقال العباس بن الفضل: أمر المنصور لعمومته: سليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، بني علي بن عبد الله بن عباس، لكل رجل منهم بألف ألف معونة له من بيت المال. وكان أول خليفة أعطى ألف ألف من بيت المال؛ فكانت تجري في الدواوين. وذكر عن إسحاق بن إبراهيم المصلي، قال: حدثني الفضل بن ربيع، عن أبيه، قال: جلس أبو جعفر المنصور للمدنيين مجلسًا عامًا ببغداد - وكان وفد إليه منهم جماعة - فقال: لينتسب كل من دخل علي منكم، فدخل عليه فيمن دخل شاب من ولد عمرو بن حزم، فانتسب ثم قال: يا أمير المؤمنين، قال الأحوص فينا شعرًا، منعنا أموالنا من أجله منذ ستين سنة، فقال أبو جعفر: فأنشدني، فأنشده: لا تأوين لحزميٍّ رأيت به ** فقرًا وإن ألقي الحزمي في النار الناخسين بمروان بذي خشبٍ ** والداخلين على عثمان في الدار قال: والشعر في المدح للوليد بن عبد الملك؛ فأنشده القصيدة، فلما بلغ هذا الموضع قال الوليد: أذكرتني ذنب آل حزم، فأمر باستصفاء أموالهم. فقال أبو جعفر: أعد علي الشعر، فأعاده ثلاثًا، فقال له أبو جعفر: لا جرم، إنك تحتظي بهذا الشعر كما حرمت به، ثم قال لأبي أيوب: هات عشرة آلاف درهم فادفعها إليه لغنائه إلينا، ثم أمر أن يكتب إلى عماله أن ترد ضياع آل حزم عليهم، ويعطوا غلاتها في كل سنة من ضياع بني أمية، وتقسم أموالهم بينهم على كتاب الله على التناسخ، ومن مات منهم وفر على ورثته. قال: فانصرف الفتى بما لم ينصرف به أحد من الناس. وحدثني جعفر بن أحمد بن يحيى، قال: حدثني أحمد بن أسد، قال: أبطأ المنصور عن الخروج إلى الناس والركوب، فقال الناس: هو عليل، وكثروا، فدخل عليه الربيع، فقال: يا أمير المؤمنين، لأمير المؤمنين طول البقاء، والناس يقولون، قال: ما يقولون؟ قال: يقولون: عليل؛ فأطرق قليلًا ثم قال: يا ربيع، ما لنا وللعامة! إنما تحتاج العامة إلى ثلاث خلال، فإذا فعل ذلك بها فما حاجتهم! إذا أقيم لهم من ينظر في أحكامهم فينصف بعضهم من بغض، ويؤمن سبلهم حتى لا يخافوا في ليلهم ولا نهارهم، ويسد ثغورهم وأطرافهم حتى لا يجيء عدوهم؛ وقد فعلنا ذلك بهم. ثم مكث أيامًا، وقال: يا ربيع، اضرب الطبل؛ فركب حتى رآه العامة. وذكر علي بن محمد، قال: حدثني أبي، قال: وجه أبو جعفر مع محمد بن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون؛ وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس، فأظهر محمد أنه يعشق بنت سليمان بن علي، فكان يركب إلى المربد، فيتصدى لها؛ يطمع أن تكون في بعض المناظر تنظر إليه؛ فقال محمد لحماد: قل لي فيها شعرًا، فقال فيها أبياتًا، يقول فيها: يا ساكن المربد هجت لي ** شوقًا فما أنفك بالمربد قال: فحدثني أبي فقال: كان المنصور نازلًا على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه؛ وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولًا يأمره أن يتوخى قتل محمد بن أبي العباس، فاتخذ سمًا قاتلًا، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها. فكتبت بذلك أم محمد بن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها. فكتب المنصور يأمر بحمله إليه؛ فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطًا ضربًا خفيفًا، وحبسه أيامًا، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه. قال: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابًا أكدته وأشهدت عليه شهودًا، فعزب بها عشر سنين في سلطانه؛ فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة؛ فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد؛ فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر؛ وكانت أم موسى ولدت له جعفرًا والمهدي. وذكر عن علي بن الجعد أنه قال: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قال: شراب، فقيل له: إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعامًا ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئًا يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب. وذكر عن يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: كتب المنصور إلى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا؛ فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلًا، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك. وذكر أبو بكر الهذلي أن أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت. وقال الفضل بن ربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول: الغوى الفادح خير من الري الفاضح. وذكر عن أبان بن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور " ولا تبذر تبذيرا " إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو: اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت علينا به من عطيتك. قال: وقرأ الهيثم عنده: " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " فقال للناس: لولا أن الأموال حسن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه دينارًا ولا درهمًا لما أجد لبذل المال من اللذاذة؛ ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة. ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قال: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه. قال: فمن هناك! قال: وكان المنصور كثيرًا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئًا ولا لاحيًا. وذكر عن قحطبة، قال: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثًا: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك. وذكر علي بن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك فانظر من تملكه. وذكر الزبير بن بكار، عن عمر، قال: لما حمل عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قال له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قال: تركتها وراءك يابن اللخناء! وذكر عن عمر بن شبة، أن قحطبة بن غدانة الجشمي - وكان من الصحابة - قال: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب في مدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم؛ ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه. وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بن جديد، قال: حدثني بعض الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح. وذكر أحمد بن خالد، قال: حدثني يحيى بن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط "، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا! قال: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريمًا، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، تلتمس من غيرك شكر ما آتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك. واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك فأكرم وجهك عن رده. وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، فقال: سمعت إسحاق بن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بن علي والعباس بن محمد. وذكر عن أحمد بن خالد، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم الفهري، قال: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة - وقال قوم: بل خطب في أيام - منى فقال في خطبته: أيها الناس؛ إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه؛ أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه؛ قد جعلني الله عليه قفلًا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني؛ فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به؛ إذ يقول تبارك وتعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ". أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب. وذكر عن داود بن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، أذكرك من ذكرت به.. فقطع الخطبة ثم قال: سمعًا سمعًا؛ لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عنيدًا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القائل؛ فوالله ما أردت بها وجه الله؛ ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت. وإياك وإياكم معشر الناس أختها؛ فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت؛ فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره.. ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. وذكر عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قال: قمت إلي أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرأت: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك. قال: فخرجت من عنده سليمًا. وقال عيسى بن عبد الله بن حميد: حدثني إبراهيم بن عيسى، قال: خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد - يعني به مسجد المدينة ببغداد - فلما بلغ: اتقوا الله حق تقاته، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق الله حق تقاته.. فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعًا سمعًا، لمن ذكر بالله؛ هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئًا، فقال أبو جعفر: الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به، لايقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه. ثم قال: خذه إليك يا ربيع، قال: فوثقنا له بالنجاة - وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروهًا قال: خذه إليك يا مسيب - قال: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر؛ وجعل عيسى بن موسى يمشي على هيئته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: كأنك خفتني على هذا الرجل! قال: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك؛ إلا أن أمير المؤمنين أكثر علمًا، وأعلى نظرًا من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه. فلما جلس قال: علي بالرجل، فأتى به؛ فقال: يا هذا؛ إنك لما رأيتني على المنبر، قلت؛ هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك؛ فاشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغيير قدميك في سبيل الله؛ أنطه يا ربيع أربع مائة درهم، واذهب فلا تعد. وذكر عن عبد الله بن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قال: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيبًا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون "، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل؛ والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعدًا للقوم الظالمين؛ الذين اتخذوا الكعبة عرضًا، والفيء إرثًا، وجعلوا القرآن عضين؛ لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة وقصر مشيد؛ أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد؛ ثم أخذهم؛ فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا! وذكر الهيثم بن عدي، عن ابن عياش قال: إن الأحداث لما تتابعت على أبي جعفر، تمثل: تفرقت الظباء على خداش ** فما يدري خداش ما يصيد قال: ثم أمر بإحضار القواد والموالي والصحابة وأهل بيته، وأمر حمادًا التركي بإسراج الخيل وسليمان بن مجالد بالتقدم والمسيب بن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر. قال: فأزم عليه طويلًا لا ينطق. قال رجل لشبيب بن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قال: فافترع الخطبة، ثم قال: ما لي أكفكف عن سعدٍ ويشتمني ** ولو شتمت بني سعدٍ لقد سكنوا جهلًا علي وجبنًا عن عدوهم ** لبئست الخلتان الجهل والجبن ثم جلس وقال: فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن ** لأكشفه إلا لإحدى العظائم والله لقد عجزوا عن أمرٍ قمنا به، فما شكروا الكافي؛ ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصصٍ، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحدًا بإهانة نفسي؛ والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي؛ والسعيد من وعظ بغيره. قدم يا غلام، ثم ركب. وذكر الفقيمي أن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن مولى محمد بن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الرحمن بن حسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي ﷺ، ثم قال: يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير؛ فقام فيها علي بن أبي طالب فتلطخ وحكّم عليه الحكمين؛ فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة؛ ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي؛ فوالله ما كان فيها برجل؛ قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدًا؛ فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه؛ فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه؛ وقد كان أتى محمد بن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب؛ وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل؛ وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها؛ وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم؛ فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة؛ حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارًا، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا ﷺ، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلما استقرت الأمور فينا على قرارها؛ من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلمًا وحسدًا منهم لنا، وبغيًا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه ﷺ. جهلًا علي وجبنًا عن عدوهم ** لبئست الخلتان الجهل والجبن فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالًا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالًا يعملون عليه؛ فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال؛ فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعةً، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي؛ فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين. ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مريب ". قال: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال: أيها الناس؛ لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرةً إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه؛ بإعزاز دينه، وإعلاء حقه. إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم. إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد. وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا؛ ولم تمنعنا إقامة الحق له من إقامة الحق عليه. وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الفضل بن الربيع أخبره عن أبيه، قال: قال المنصور: قال أبي: سمعت أبي؛ علي بن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء. وذكر عن إبراهيم بن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بن جميل الكاتب - وأصله من الربذة - فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته، ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشرة درة، وقال لا تلبس سراويل كتان فإنه من الصرف. وذكر محمد بن إسماعيل الهاشمي، إن الحسن بن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بن عبد الله بالمدينة وأخاه إبراهيم بياخمري وخرج إبراهيم بن حسن بن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بن أبي طالب بالمدينة كتابًا يذكر لهم فيه إبراهيم بن الحسن بن الحسن وخروجه بمصر، وأنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وأنهم يدأبون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم؛ حتى وثب بنو أبيه غضبًا على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بن ربيعة بن معاوية اليربوعي: فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم ** وبالله أحمي عنكم وأدافع لضاعت أمور منكم لا أرى لها ** كفاةً وما لا يحفظ الله ضائع فسموا لنا من طحطح الناس عنكم ** ومن ذا الذي تحنى عليه الأصابع! ومازال منا قد علمتم عليكم ** على الدهر إفضال يرى ومنافع ومازال منكم أهل غدرٍ وجفوةٍ ** وبالله مغتر وللرحم قاطع وإن نحن غبنا عنكم وشهدتم ** وقائع منكم ثم فيها مقانع وإنا لنرعاكم وترعون شأنكم ** كذاك الأمور؛ خافضات روافع وهل تعلون أقدام قوم صدورهم ** وهل تعلون فوق السنام الأكارع! ودب رجال للرياسة منكم ** كما درجت تحت الغدير الضفادع؟ وذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: كان أرزاق الكتاب والعمال أيام أبي جعفر ثلاثمائة درهم؛ فلما كانت كذلك لم تزل على حالها إلى أيام المأمون، فكان أول من سن زيادة الأرزاق الفضل بن سهل، فأما في أيام بني أمية وبني العباس فلم تزل الأرزاق من الثلثمائة إلى ما دونها، كان الحجاج يجري على يزيد بن أبي مسلم ثلثمائة درهم في الشهر. وذكر إبراهيم بن موسى بن عيسى بن موسى، أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول، وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي وبما يرد بيت المال من المال، وكل حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة إذا صلوا الغداة؛ فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذلك عن سعره؛ فإذا ورد الجواب بالعلة تلطف لذلك برفقه حتى يعود سعره ذلك إلى حاله؛ وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه بذلك؛ وسأل من بحضرته عن عمله؛ فإن أنكر شيئًا عمل به كتب إليه يوبخه ويلومه. وذكر إسحاق الموصلي أن الصباح بن خاقان التميمي، قال: حدثني رجل من أهلي، عن أبيه، قال: ذكر الوليد عند المنصور أيام نزوله ببغداد وفروغه من المدينة، وفراغه من محمد وإبراهيم ابني عبد الله، فقالوا: لعن الله الملحد الكافر - قال: وفي المجلس أبو بكر الهذلي وابن عياش المنتوف والشرقي بن القطامي، وكل هؤلاء من الصحابة - فقال أبو بكر الهذلي: حدثني ابن عم للفرزدق، عن الفرزدق، قال: حضرت الوليد بن يزيد وعنده ندماؤه وقد اصطبح، فقال لابن عائشة: تغن بشعر ابن الزبعري: ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ** جزع الخزرج من وقع الأسل وقتلنا الضعف من ساداتهم ** وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين؛ فقال: غنه وإلا جدعت لهواتك، قال: فغناه، فقال: أحسنت والله! إنه لعلي دين ابن الزبعري يوم قال هذا الشعر. قال: فلعن المنصور ولعنه جلساؤه؛ وقال: الحمد لله على نعمته وتوحيده. وذكر عن أبي بكر الهذلي، قال: كتب صاحب أرمينية إلى المنصور: إن الجند قد شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال، وأخذوا ما فيه، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذمومًا، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينتهبوا. وقال إسحاق الموصلي، عن أبيه: خرج بعض أهل العبث على أبي جعفر بفلسطين، فكتب إلى العامل هناك: دمه في دمك إلا توجهه إلي؛ فجد في طلبه، فظفر به فأشخص، فأمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال له أبو جعفر: أنت المتوثب على عمالي! لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى منه على عظمك، فقال له - وقد كان شيخًا كبير السن - بصوت ضعيف ضئيل غير مستعلٍ: أتروض عرسك بعد ما هرمت ** ومن العناء رياضة الهرم قال: فلم تتبين للمنصور مقالته، فقال يا ربيع، ما يقول؟ فقال: يقول: العبد عبدكم والمال مالكم ** فهل عذابك عني اليوم منصرف! قال: يا ربيع، قد عفوت عنه؛ فخل سبيله، واحتفظ به، وأحسن ولايته. قال: ورفع رجل إلى المنصور يشكو عامله أنه أخذ حدًا من ضيعته، فأضافه إلى ماله، فوقع إلى عامله في رقعة المتظلم: إن آثرت العدل صحبتك السلامة، فأنصف هذا المتظلم من هذه الظلامة. قال: ورفع رجل من العامة إليه رقعة في بناء مسجد في محلته، فوقع في رقعته: من أشراط الساعة كثرة المساجد فزد في خطاك تزدد من الثواب. قال: وتظلم رجل من أهل السواد من بعض العمال في رقعة رفعها إلى المنصور، فوقع فيها: إن كنت صادقًا فجئ به ملببًا فقد أذنا لك في ذلك. وذكر عمر بن شبة أن أبا الهذيل العلاف حدثه، أن أبا جعفر قال: بلغني أن السيد بن محمد مات بالكرخ - أو قال: بواسط - ولم يدفنوه، لأن حق ذلك عندي لأحرقنها. وقيل: إن الصحيح أنه مات في زمن المهدي بكرخ بغداد، وأنهم تحاموا أن يدفنوه، وأنه بعث بالربيع حتى ولي أمره، وأمره إن كانوا امتنعوا أن يحرق عليهم منازلهم، فدفع ربيع عنهم. وقال المدائني: لما فرغ المنصور من محمد وإبراهيم وعبد الله بن علي وعبد الجبار بن عبد الرحمن، وصار ببغداد واستقامت له الأمور، كان يتمثل هذا البيت: تبيت من البلوى على حد مرهفٍ ** مرارًا ويكفي الله ما أنت خائف قال: وأنشدني عبد الله بن الربيع، قال: أنشدني المنصور بعد قتل هؤلاء: ورب أمور لا تضيرك ضيرةً ** وللقلب من مخشاتهن وجيب وقال الهيثم بن عدي: لما بلغ المنصور تفرق ولد عبد الله بن حسن في البلاد هربًا من عقابه، تمثل: إن قناتي لنبع لا يؤيسها ** غمز الثقاف ولا دهن ولا نار متى أجر خائفًا تأمن مسارحه ** وإن أخف آمنًا تقلق به الدار سيروا إلي وغضوا بعض أعينكم ** إني لكل امرئ من جاره جار وذكر علي بن محمد عن واضح مولى أبي جعفر، قال: أمرني أبو جعفر أن أشتري له ثوبين لينين، فاشترينهما له بعشرين ومائة درهم، فأتيته بهما، فقال: بكم؟ فقلت: بثمانين درهمًا، قال: صالحان، استحطه؛ فإن المتاع إذا أدخل علينا ثم رد على صاحبه كسره ذلك. فأخذت الثوبين من صاحبهما، فلما كان من الغد حملتهما إليه معي، فقال: ما صنعت؟ قلت: رددتهما عليه فحطني عشرين درهمًا، قال: أحسنت؛ اقطع أحدهما قميصًا، واجعل الآخر رداء لي. ففعلت، فلبس القميص خمسة عشرة يومًا لم يلبس غيره. وذكر مولى لعبد الصمد بن علي، قال: سمعت عبد الصمد يقول: إن المنصور كان يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشي والطيب؛ فإن رأى أحدهم قد أخل بذلك أو أقل منه، قال: يا فلان، ما أرى وبيص الغالية في لحيتك؛ وإني لأراها تلمع في لحية فلان؛ فيشحذهم بذلك على الإكثار من الطيب ليتزين بهيئتهم وطيب أرواحهم عند الرعية، ويزينهم بذلك عندهم؛ وإن رأى على أحدهم وشيًا طاهرًا عضه بلسانه. وذكر عن أحمد بن خالد، قال: كان المنصور يسأل مالك بن أدهم كثيرًا عن حديث عجلان بن سهيل، أخي حوثرة بن سهيل، قال: كنا جلوسًا مع عجلان، إذ مر بنا هشام بن عبد الملك، فقال رجل من القوم: قد مر الأحول، قال: من تعني؟ قال: هشامًا، قال: تسمي أمير المؤمنين بالنبز! والله لولا رحمك لضربت عنقك، فقال المنصور: هذا والله الذي ينفع مع مثله المحيا والممات. وقال أحمد بن خالد: قال إبراهيم بن عيسى: كان للمنصور خادم أصفر إلى الأدمة، ماهر لا بأس به، فقال المنصور يومًا: ما جنسك؟ قال: عربي يا أمير المؤمنين، قال: ومن أي العرب أنت؟ قال: من خولان، سبيت من اليمن، فأخذني عدو لنا، فجبني فاسترققت، فصرت إلى بعض بني أمية، ثم صرت إليك. قال: أما إنك نعم الغلام؛ ولكن لا يدخل علي قصري عربي يخدم حرمي؛ اخرج عافاك الله؛ فاذهب حيث شئت! وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن معاوية بن بكر - وكان من الصحابة - أن المنصور ضم رجلًا من أهل الكوفة، يقال له الفضيل بن عمران، إلى ابنه جعفر، وجعله كاتبه، وولاه أمره، فكان منه بمنزلة أبي عبيد الله من المهدي، وكان أبو جعفر أراد أن يبايع لجعفر بعد المهدي، فنصبت أم عبيد الله حاضنة جعفر للفضيل بن عمران، فسعت به إلى المنصور، وأومأت إلى أنه يعبث بجعفر. قال: فبعث المنصور الريان مولاه وهارون بن غزوان مولى عثمان بن نهيك إلى الفضيل - وهو مع جعفر بحديثه الموصل - وقال: إذا رأيتما فضيلًا فاقتلاه حيث لقيتماه، وكتب لهما كتابًا منشورًا، وكتب إلى جعفر يعلمه ما أمرهما به، وقال: لا تدفعا الكتاب إلى جعفر حتى تفرغا من قتله. قال: فخرجا حتى قدما على جعفر، وقعدا على بابه ينتظران الإذن؛ فخرج عليهما فضيل، فأخذاه وأخرجا كتاب المنصور، فلم يعرض لهما أحد؛ فضربا عنقه مكانه، ولم يعلم جعفر حتى فرغا منه - وكان الفضيل رجلًا عفيفًا دينًا - فقيل للمنصور: إن الفضيل كان أبرأ الناس مما رمي به، وقد عجلت عليه. فوجه رسولًا، وجعل له عشرة آلاف درهم إن أدركه قبل أن يقتل، فقدم الرسول قبل أن يجف دمه. فذكر معاوية بن بكر عن سويد مولى جعفر، أن جعفرًا أرسل إليه، فقال: ويلك! ما يقول أمير المؤمنين في قتل رجل عفيف دين مسلم بلا جرم ولا جناية! قال سويد: فقلت: هو أمير المؤمنين يفعل ما يشاء؛ وهو أعلم بما يصنع؛ فقال: يا ماص بظر أمه، أكلمك بكلام الخاصة وتكلمني بكلام العامة! خذوا برجله فألقوه في دجلة. قال فأخذت، فقلت: أكلمك، فقال: دعوه، فقلت: أبوك إنما يسأل عن فضيل، ومتى يسأل عنه، وقد قتل عمه عبد الله بن عبد الله بن علي، وقد قتل عبد الله بن الحسن وغيره من أولاد رسول الله ﷺ ظلمًا، وقتل أهل الدنيا ممن لا يحصى ولا يعد! هو قبل أن يسأل عن فضيل جرذانة تجب خصى فرعون قال: فضحك، وقال: دعوه إلى لعنة الله. وقال قعنب بن محرز: أخبرنا محمد بن عائد مولى عثمان بن عفان أن حفصًا الأموي الشاعر، كان يقال له حفص بن أبي جمعة، مولى عباد بن زياد، وكان المنصور صيره مؤدبًا للمهدي في مجالسه، وكان مداحًا لبني أمية في أيام بني أمية وأيام المنصور، فلم ينكر عليه ذلك المنصور، ولم يزل مع المهدي أيام ولايته العهد؛ ومات قبل أن يلي المهدي الخلافة. قال: وكان مما مدح به بني أمية قوله: أين روقا عبد شمسٍ أين هم ** أين أهل الباع منهم والحسب! لم تكن أيد لهم عندكم ** ما فعلتم آل عبد المطلب! أيها السائل عنهم أولو ** جثث تلمع من فوق الخشب إن تجذوا الأصل منهم سفهًا ** يا لقوم للزمان المنقلب! إن فاحلبوا ما شئتم في صحنكم ** فستسقون صرى ذاك الحلب وقيل: إن حفصًا الأموي دخل على المنصور، فكلمه فاستخبره، فقال له: من أنت فقال: مولاك يا أمير المؤمنين، قال: مولى لي مثلك لا أعرفه! قال: مولى خادم لك عبد مناف يا أمير المؤمنين؛ فاستحسن ذلك منه، وعلم أنه مولى لبني أمية، فضمه إلى المهدي، وقال له: احتفظ به. ومما رثي به قول سلم الخاسر: عجبًا للذي نعى الناعيان ** كيف فاهت بموته الشفتان! ملك إن غدا على الدهر يومًا ** أصبح الدهر ساقطًا للجران ليت كفًا حثت عليه ترابًا ** لم تعد في يمينها بنان حين دانت له البلاد على العس ** ف وأغضى من خوفه الثقلان أين رب الزوراء قد قلدته ال ** ملك، عشرون حجة واثنتان إنما المرء كالزناد إذا ما ** أخذته قوادح النيران ليس يثني هواه زجر ولا يق ** دح في حبله ذوو الأذهان قلدته أعنة الملك حتى ** قاد أعداءه بغير عنان يكسر الطرف دونه وترى الأي ** دي من خوفه على الأذقان ضم أطراف ملكه ثم أضحى ** خلف أقصاهم ودون الداني هاشمي التشمير لا يحمل الثق ** ل على غارب الشرود الهدان ذو أناة ينسى لها الخائف الخو ** ف وعزمٍ يلوي بكل جنان وذهبت دونه النفوس حذارًا ** غير أن الأرواح في الأبدان ذكر أسماء ولده ونسائه فمن ولده المهدي - واسمه محمد - وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت المنصور أخت يزيد بن المنصور الحمري؛ وكانت نكنى أم موسى؛ وهلك جعفر هذا قبل المنصور. وسليمان وعيسى ويعقوب؛ وأمهم فاطمة بنت محمد، من ولد طلحة بن عبيد الله. وجعفر الأصغر، أمه أم ولد كردية، كان المنصور اشتراها فتسراها، وكان يقال لابنها: ابن الكردية. وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية، يقال لها قالي الفراشة. والقاسم، مات قبل المنصور، وهو ابن عشر سنين، وأمه أم ولد تعرف بأم القاسم. والعالية، أمها امرأة من بني أمية، زوجها المنصور من إسحاق بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن العباس. وذكر إسحاق بن سليمان أنه قال: قال لي أبي: زوجتك يا بني أشرف الناس؛ العالية بنت أمير المؤمنين. قال: فقلت: يا أباه، من أكفاؤنا؟ قال: أعداؤنا من بني أمية. ذكر الخبر عن وصاياه ذكر عن الهيثم بن عدي أن المنصور أوصى المهدي في هذه السنة لما شخص متوجهًا إلى مكة في شوال، وقد نزل قصر عبدويه، وأقام بهذا القصر أيامًا والمهدي معه يوصيه، وكان انقض في مقامه بقصر عبدويه كوكب، لثلاثٍ بقين من شوال بعد إضاءة الفجر، وبقي أثره بينًا إلى طلوع الشمس، فأوصاه بالمال والسلطان؛ يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه بالغداة والعشي، لا يفتر عن ذلك، ولا يفترقان إلا تحريكًا. فلما كان اليوم الذي أراد أن يرتحل فيه، دعا المهدي، فقال له: إني لم أدع شيئًا إلا قد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها - وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدًا، يصر مفتاحه في كم قميصه. قال: وكان حماد التركي يقدم إليه ذلك السفط إذا دعا به، فإذا غاب حماد أو خرج كان الذي يليه سلمة الخادم - فقال للمهدي: انظر هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك. ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر؛ فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا فالثاني والثالث؛ حتى بلغ سبعة؛ فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة؛ فإنك واجد فيها ما تريد، وما أظنك تفعل، وانظر هذه المدينة؛ فإياك أن تستبدل بها؛ فإنها بيتك وعزك، قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور؛ فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزًا ما دام بيت مالك عامرًا، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك؛ أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم، وتعظم أمرهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر؛ فإن عزك عزهم وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك، فأحسن إليهم وقربهم واتكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك.، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيرًا، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك، ودماءهم دونك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم؛ أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها، وما أظنك تفعل. وإياك أن تستعسن برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل. وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك، وأظنك ستفعل. وقال غير الهيثم: إن المنصور دعا المهدي عند مسيره إلى مكة، فقال: يا أبا عبد الله، إني سائر وإني غير راجع؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون! فاسأل الله بركة ما أقدم عليه، هذا كتاب وصيتي مختومًا، فإذا بلغك أني قد مت، وصار الأمر إليك فانظر فيه، وعلي دين أحب أن تقضيه وتضمنه، قال: هو علي يا أمير المؤمنين، قال: فإنه ثلثمائة ألف درهم ونيف، ولست أستحلها من بيت مال المسلمين، فاضمنها عني، وما يفضي إليك من الأمر أعظم منها. قال: أفعل، هو علي. قال: وهذا القصر ليس هو لك، هو لي وقصري بنيته بمالي، فأحب أن تصير نصيبك منه لأخوتك الأصاغر. قال: نعم، قال: ورقيقي الخاصة هم لك، فاجعلهم لهم، فإنك تصير إلى ما يغنيك عنهم، وبهم إلى ذلك أعظم الحاجة. قال: أفعل، قال: أما الضياع، فلست أكلفك فيها هذا، ولو فعلت كان أحب إلي، قال: أفعل، قال: سلم إليهم ما سألتك من هذا، وأنت معهم في الضياع. قال: والمتاع والثياب، سلمه لهم قال: أفعل. قال: أحسن الله عليك الخلافة ولك الصنع! اتق الله فيما خولك وفيما خلفتك عليه. ومضى إلى الكوفة، فنزل الرصافة، ثم خرج منها مهلًا بالعمرة والحج، قد ساق هدية من البدن، وأشعر وقلد؛ وذلك لأيام خلت من ذي القعدة. وذكر أبو يعقوب بن سليمان، قال: حدثتني جمرة العطارة - عطارة أبي جعفر - قالت: لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي - وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر - فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الأيمان ألا تفتح بعض الخزائن، ولا تطاع عليها أحدًا إلا المهدي؛ ولا هي؛ إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث؛ حتى يفتحا الخزانة. فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته عن المنصور أنه تقدم إليها فيه إلا يفتحه ولا يطلع عليه أحدًا حتى يصح عندها موته. فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولى الخلافة، فتح الباب ومعه ريطة؛ فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلاء الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم؛ وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذاك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكان. وذكر عن إسحاق بن عيسى بن علي، عن أبيه، قال: سمعت المنصور وهو متوجه إلى مكة سنة ثمان وخمسين ومائة، وهو يقول للمهدي عند وداعه إياه: يا أبا عبد الله؛ إني ولدت في ذي الحجة، ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة؛ وإنما حداني على الحج ذلك، فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي؛ يجعل لك فيها كربك وحزنك مخرجًا، أو قال: فرجًا ومخرجًا - ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب. احفظ يا بني محمدًا ﷺ في أمته يحفظ الله عليك أمورك. وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم. والزم الحلال فإن ثوابك في الآجل، وصلاحك في العاجل. وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور؛ فإن الله لو علم أن شيئًا أصلح لدينه وأزجر من معاصيه من الحدود لأمر به في كتابه. واعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه، أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادًا مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا " الآية. فالسلطان يا بني حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودين الله القيم، فاحفظه وحطه وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم؛ ولا تتجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن. واحكم بالعدل ولا تشطط؛ فإن ذلك أقطع للشغب، واحسم للعدو، وأنجع في الدواء. وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة. وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية. واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وخص الواسطة، ووسع المعاش، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، واصرف المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها. وإياك والتبذير؛ فإن النوائب غير مأمونة، والحوادث غير مضمونة؛ وهي من شيم الزمان. وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع. جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولًا فأولا، واجتهد وشمر فيها، وأعدد رجالًا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالًا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك. وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من يبيت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عينًا غير نائمة، ونفسًا غير لاهية، ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك. قال: ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه. وذكر عمر بن شبة عن سعيد بن هريم، قال: لما حج المنصور في السنة التي توفي بها شيعة المهدي، فقال: يا بني، إني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي، وجمعت لك من الموالي ما لم يجمعه خليفة قبلي، وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام مثلها؛ ولست أخاف عليك إلا أحد رجلين: عيسى بن موسى، وعيسى بن زيد؛ فأما عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته، ووالله لو لم يكن إلا أن يقول قولًا لما خفت عليك، فأخرجه من قلبك. وأما عيسى بن زيد فأنفق هذه الأموال واقتل هؤلاء الموالي، واهدم هذه المدينة حتى تظفر به، ثم لا ألومك. وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه، قال: لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة، نظر في صدر البيت الذي نزل فيه، فإذا فيه مكتوب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ** سنوك، وأمر الله لابد واقع أبا جعفر هل كاهن أو منجم ** لك اليوم من حر المنية مانع! قال: فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل، فقال له: يا أمير المؤمنين، والله ما دخلها أحد منذ فرغ منها، فقال: اقرأ ما في صدر البيت مكتوبًا، قال: ما أرى شيئًا يا أمير المؤمنين، قال: فدعا برئيس الحجبة، فقال: اقرأ ما على صدر البيت مكتوبًا، قال: ما أرى على صدر البيت شيئًا، فأملى البيتين فكتبا عنه، فالتفت إلى حاجبه فقال: اقرأ لي آية من كتاب الله جل وعز تشوقني إلى الله عز وجل، فتلا: " بسم الله الرحمن الرحيم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون "، فأمر بفكيه فوجئا. وقال: ما وجدت شيئًا تقرؤه غير هذه الآية! فقال: يا أمير المؤمنين، محي القرآن من قلبي غير هذه الآية، فأمر بالرحيل عن ذلك المنزل تطيرًا مما كان، وركب فرسًا، فلما كان في الوادي الذي يقال له سقر - وكان آخر منزل بطريق مكة - كبا به الفرس، فدق ظهره، ومات فدفن ببئر ميمون. وذكر عن محمد بن عبد الله مولى بني هاشم، قال: أخبرني رجل من العلماء وأهل الأدب، قال: هتف بأبي جعفر هاتف من قصره بالمدينة فسمعه يقول: أما ورب السكون والحرك ** إن المنايا كثيرة الشرك عليك يا نفس إن أسأت وإن ** أحسنت بالقصد، كل ذاك لك ما اختلف الليل والنهار ولا ** دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل السلطان عن ملك ** إذا انقضى ملكه إلى ملك حتى يصيرا به إلى ملك ** ما عز سلطانه بمشترك ذاك بديع السماء والأرض والمر ** سي الجبال المسخر الفلك فقال أبو جعفر: هذا والله أوان أجلي. وذكر عبد الله بن عبيد الله، أن عبد العزيز بن مسلم حدثه أنه قال: دخلت على المنصور يومًا أسلم عليه؛ فإذا هو باهت لا يحير جوابًا، فوثبت لما أرى منه، أريد الانصراف عنه، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت فيما يرى النائم؛ كأن رجلًا ينشدني هذه الأبيات: أخي أخفض من مناكا ** فكأن يومك قد أتاكا ولقد أراك الدهر من ** تصريفه ما قد أراكا فإذا أردت الناقص ال ** عبد الذليل فأنت ذاكا ملكت ما ملكته ** والأمر فيه إلى سواكا فهذا الذي ترى من قلقي لما سمعت ورأيت. فقلت: خيرًا رأيت يا أمير المؤمنين. فلم يلبث إلى أن خرج إلى الحج فمات لوجهه ذاك. وفي هذه السنة بويع للمهدي بالخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بمكة؛ صبيحة الليلة التي توفي فيها أبو جعفر المنصور وذلك يوم السبت لست ليالٍ خلون من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين، كذلك قال هشام بن محمد ومحمد بن عمر وغيرهما. وقال الواقدي: وبويع له ببغداد يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة. وأم المهدي أم موسى بنت المنصور بن عبد الله بن يزيد بن شمر الحميري. خلافة المهدي محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ذكر الخبر عن صفة العقد الذي عقد للمهدي بالخلافة حين مات والده المنصور بمكة ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه، قال: خرجت في السنة التي مات فيها أبو جعفر من طريق البصرة؛ وكان أبو جعفر خرج على طريق الكوفة، فلقيته بذات عرق ثم سرت معه، فكان كلما ركب عرضت له فسلمت عليه، وقد كان أدنف وأشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، قضيت عمرتي، ثم كنت أختلف إلى أبي جعفر إلى مضربه، فأقيم فيه إلى قريب الزوال، ثم انصرف - وكذلك كان يفعل الهاشميون - وأقبلت علته تشتد وتزداد، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم؛ فصليت الصبح في المسجد الحرام مع طلوع الفجر، ثم ركبت في ثوبي متقلدًا السيف عليهما، وأنا أساير محمد بن عون بن عبد الله بن الحارث - وكان من سادة بني هاشم ومشايخهم؛ وكان في ذلك اليوم عليه ثوبان موردان قد أحرم فيهما، متقلدًا السيف عليهما - قال: وكان مشايخ بني هاشم يحبون أن يحرموا في المورد لحديث عمر بن الخطاب وعبد الله بن جعفر وقول علي بن أبي طالب فيه. فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بن محمد ومحمد بن سليمان في خيل ورجال يدخلان مكة، فعدلنا إليهما، فسلمنا عليهما ثم مضينا، فقال لي محمد بن عون: ما ترى حال هذين ودخولهما مكة؟ قلت: أحسب الرجل قد مات؛ فأرادا أن يحصنا مكة؛ فكان ذلك كذلك، فبينا نحن نسير، إذا خفي الشخص في طمرين، ونحن بعد في غلس، قد جاء فدخل بين أعناق دابتينا، فقال: مات والله الرجل! ثم خفي عنا، فمضينا نحن حتى أتينا العسكر، فدخلنا السرادق الذي كنا نجلس فيه كل يوم؛ فإذا بموسى بن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، وإذا القاسم بن منصور في ناحية السرادق - وقد كان حين لقينا المنصور بذات عرق، إذا ركب المنصور بعيره جاء القاسم فسار بين يديه بينه وبين صاحب الشرطة، ويؤمر الناس أن يرفعوا القصص إليه - قال: فلما رأيته ناحية السرادق ورأيت موسى مصدرًا، علمت أن المنصور قد مات. قال: فبينا أنا جالس إذ أقبل الحسن بن زيد، فجلس إلى جنبي، فصارت فخذه على فخذي، وجاء الناس حتى ملئوا السرادق، وفيهم ابن عياش المنتوف، فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا همسًا من بكاء. فقال لي الحسن: أترى الرجل مات! قلت: لا أحسب ذلك؛ ولكن لعله ثقيل، أو إصابته غشية، فما راعنا إلا بأبي العنبر الخادم الأسود خادم المنصور، قد خرج علينا مشقوق الأقبية من بين يديه ومن خلفه، وعلى رأسه التراب، فصاح: وا أمير المؤمنيناه! فما بقي في السرادق أحد إلا قام على رجليه، ثم أهووا نحو مضارب أبي جعفر يريدون الدخول، فمنعهم الخدم، ودفعوا في صدورهم. وقال بن عياش المنتوف: سبحان الله! أما شهدتم موت خليفة قط! اجلسوا رحمكم الله. فجلس الناس، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى جالس على حاله. وكان صبيًا رطبًا ما يتحلحل. ثم خرج الربيع، وفي يده قرطاس، فألقى أسفله على الأرض، وتناول طرفه، ثم قرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى من خلف بعده من بني هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين - ثم ألقى القرطاس من يده، وبكى وبكى الناس، فأخذ القرطاس، وقال: قد أمكنكم البكاء؛ ولكن هذا عهد أمير المؤمنين، لا بد من أن نقرأه عليكم، فأنصتوا رحمكم الله، فسكت الناس، ثم رجع إلى القراءة - أما بعد: فإني كتبت كتابي هذا وأنا حي في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة، وأنا أقرأ عليكم السلام، وأسأل الله ألا يفتنكم بعدي، ولا يلبسكم شيعًا، ولا يذيق بعضكم بأس بعض. يا بني هاشم، ويا أهل خراسان.. ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحضهم على القيام بدولته، والوفاء بعهده إلى آخر الكتاب. قال النوفل: قال أبي: وكان هذا شيئًا وضعه الربيع؛ ثم نظر في وجوه الناس، فدنا من الهاشميين، فتناول يد الحسن بن زيد، فقال: قم يا أبا محمد، فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى، ثم التفت إلى الناس، فقال: يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين كان ضربني واصطفى مالي؛ فكلمه المهدي فرضي عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح ونفس طيبة وقلب ناصح مني! ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. ثم جاء الربيع بن عون، فقدمه للسن فبايع، ثم جاء الربيع إلي فأنهضني؛ فكنت الثالث؛ وبايع الناس؛ فلما فرغ دخل المضارب، فمكث هنيهة ثم خرج إلينا معشر الهاشميين، فقال: انهضوا، فنهضنا معه جميعًا، وكنا جماعة كثيرة من أهل العراق وأهل مكة والمدينة ممن حضر الحج، فدخلنا فإذا نحن بالمنصور على سريره في أكفانه، مكشوف الوجه؛ فحملناه حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال؛ فكأني أنظر إليه أدنو من قائمة سريره نحمله؛ فتحرك الريح، فتطير شعر صدغيه؛ وذلك أنه كان قد وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه؛ حتى أتينا به حفرته، فدليناه فيها. قال: وسمعت أبي يقول: كان أول شيء ارتفع به علي بن عيسى بن ماهان؛ أنه لما كان الليلة التي مات فيها أبو جعفر أرادوا عيسى بن موسى على بيعة مجددة للمهدي - وكان القائم بذلك الربيع - فأبى عيسى بن موسى، فأقبل القواد الذين حضروا يقربون ويتباعدون؛ فنهض علي بن عيسى بن ماهان، فاستل سيفه، ثم جاء إليه، فقال: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك! فلما رأى ذلك عيسى، بايع وبايع الناس بعده. وذكر عيسى بن محمد أن موسى بن هارون حدثه أن موسى بن المهدي والربيع مولى المنصور وجها منارة مولى المنصور بخبر وفاة المنصور وبالبيعة للمهدي. وبعثا بعد بقضيب النبي ﷺ وبردته التي يتوارثها الخلفاء مع الحسن الشروي، وبعث أبو العباس الطوسي بخاتم الخلافة مع منارة؛ ثم خرجوا من مكة، وسار عبد الله بن المسيب بن زهير بالحربة بين يدي صالح بن المنصور، على ما كان يسير بها بين يديه في حياة المنصور، فكسرها القاسم بن نصر بن مالك؛ وهو يومئذ على شرطة موسى بن المهدي، واندس علي بن عيسى بن ماهان لما كان في نفسه من أذى عيسى بن موسى، وما صنع به للراوندية، فأظهر الطعن والكلام في مسيرهم. وكان من رؤسائهم أبو خالد المروروزي، حتى كاد الأمر يعظم ويتفاقم، حتى لبس السلاح. وتحرك في ذلك محمد بن سلمان، وقام فيه وغيره من أهل بيته؛ إلا أن محمدًا كان أحسنهم قيامًا به حتى طفئ ذلك وسكن. وكتب به إلى المهدي، فكتب بعزل علي بن عيسى عن حرس موسى بن المهدي، وصير مكانه أبا حنيفة حري بن قيس، وهدأ أمر العسكر، وتقدم العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى المهدي، وسبق إليه العباس بن محمد. وقدم منارة على المهدي يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة، فسلم عليه بالخلافة، وعزاه، وأوصلوا الكتب إليه، وبايعه أهل مدينة السلام. وذكر الهيثم بن عدي عن الربيع، أن المنصور رأى في حجته التي مات فيها وهو بالعذيب - أو غيره من منازل طريق مكة - رؤيا - وكان الربي عديله - وفزع منها، وقال: يا ربيع ما أحيبني إلى ميتًا في وجهي هذا؛ وأنك تؤكد البيعة لأبي عبد الله المهدي، قال الربيع: فقلت له: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويبلغ أبو عبد الله محبتك في حياتك إن شاء الله. قال: وثقل عند ذلك وهو يقول: بادر بي إلى حرم ربي وأمنه، هاربًا من ذنوبي وإسرافي عل نفسي؛ فلم يزل كذلك حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: هذه بئر ميمون، وقد دخلت الحرم، فقال: الحمد لله، وقضى من يومه. قال الربيع: فأمرت بالخيم فضربت، وبالفساطيط فهيئت، وعمدت إلى أمير المؤمنين فألبسته الطويلة والدراعة، وسندته، وألقيت في وجه كلة رقيقة يرى منها شخصه، ولا يفهم أمره، وأدنيت أهله من الكلة حيث لا يعلم بخبره، ويرى شخصه. ثم دخلت فوقفت بالموضع الذي أوهمهم أنه يخاطبني، ثم خرجت فقلت: إن أمير المؤمنين مفيق بمن الله، وهو يقرأ عليكم السلام، ويقول: إني أحب أن يؤكد الله أمركم؛ ويكبت عدوكم، ويسر وليكم؛ وقد أحببت أن تجددوا بيعة أبي عبد الله المهدي؛ لئلا يطمع فيكم عدو ولا باغٍ، فقال القوم كلهم: وفق الله أمير المؤمنين؛ نحن إلى ذلك أسرع. قال: فدخل فوقف، ورجع إليهم، فقال: هلموا للبيعة، فبايع القوم كلهم؛ فلم يبق أحد من خاصته والأولياء ورؤساء من حضره إلا بايع المهدي، ثم دخل وخرج باكيًا مشقوق الجيب لاطم رأسه، فقال بعض من حضر: ويلي عليك يا بن شاة! يريد الربيع - وكانت أمه ماتت وهي ترضعه فأرضعته شاة - قال: وحفر للمنصور مائة قبر، ودفن في كلها لئلا يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس، ودفن في غيرها للخوف عليه. وهكذا قبور خلفاء ولد العباس، لا يعرف لأحد منهم قبر. قال: فبلغ المهدي فلما قدم عليه الربيع قال: يا عبد؛ ألم تمنعك جلالة أمير المؤمنين أن فعلت ما فعلت به! وقال قوم أنه ضربه؛ ولم يصح ذلك. قال: وذكر من حضر حجة المنصور، قال: رأيت صالح بن المنصور وهو مع أبيه والناس معه؛ وإن موسى بن المهدي لقي تباعه، ثم رجع الناس وهم خلف موسى، وأن صالحًا معه. وذكر عن الأصمعي أنه قال: أول من نعى أبو جعفر المنصور بالبصرة خلف الأحمر، وذلك أنا كنا في حلقة يونس، فمر بنا فسلم علينا، فقال: قد طرقت ببكرها أم طبق قال يونس: وماذا؟ قال: تنتجوها خير أضخم العنق ** موت الإمام فلقة من الفلق وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي، وكان المنصور - فيما ذكر - أوصى بذلك. وكان العامل في هذه السنة على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن عباس، وعلى المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي أخو المسيب بن زهير - وقيل: كان العامل عليها إسماعيل بن أبي إسماعيل الثقفي. وقيل: إنه مولى لبني نصر من قيس - وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخعي، وعلى ديوان خراجها ثابت بن موسى، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى قضاء بغداد مع قضاء الكوفة شريك ابن عبد الله. وقيل: كان القاضي على بغداد يوم مات المنصور عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي وشريك بن عبد الله على قضاء الكوفة خاصة. وقيل: إن شريكًا كان إليه قضاء الكوفة، والصلاة بأهلها. وكان على الشرط ببغداد يوم مات المنصور - فيما ذكر - عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بن عبد الرحمن. وقيل كان موسى بن كعب. وعلى ديوان خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة. وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بن الحسن العنبري، وعلى أحداثها سعيد بن دعلج. وأصاب الناس - فيما ذكر محمد بن عمر - في هذه السنة وباء شديد ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة ذكر ما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة العباس بن محمد الصائفة فيها حتى بلغ أنقرة؛ وكان على مقدمة العباس الحسن الوصيف في الموالي، وكان المهدي ضم إليه جماعة من قواد أهل خراسان وغيرهم. وخرج المهدي فعسكر بالبردان وأقام فيه حتى أنفذ العباس بن محمد، ومن قطع عليه البعث معه، ولم يجعل للعباس على الحسن الوصيف ولاية في عزل ولا غيره، ففتح في غزاته هذه مدينة للروم ومطمورة معها، وانصرفوا سالمين لم يصب من المسلمين أحد. وهلك في هذه السنة حميد بن قحطبة، وهو عامل المهدي على خراسان، فولى المهدي مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد. وفيها ولي حمزة بن مالك سجستان، وولي جبرائيل بن يحيى سمرقند. وفيها بنى المهدي مسجد الرصافة. وفيها بنى حائطها، وحفر خندقها. وفيها عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن المدينة؛ مدينة الرسول ﷺ عن موجدة، واستعمل عليها مكانه محمد بن عبد الله الكثيري ثم عزله، واستعمل عليها مكانه عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي. وفيها وجه المهدي عبد الملك بن شهاب المسمعي في البحر إلى بلاد الهند، وفرض معه لألفين من أهل البصرة من جميع الأجناد، وأشخصهم معه، وأشخص معه من المطوعة الذين كانوا يلزمون المرابطات ألفًا وخمسمائة رجل، ووجه معه قائدًا من أبناء أهل الشام يقال له ابن الحباب المدحجي في سبعمائة من أهل الشام، وخرج معه من مطوعة أهل البصرة بأموالهم ألف رجل، فيهم - فيما ذكر - الربيع بن صبيح، ومن الأسواريين والسبابجة أربعة آلاف رجل، فولى عبد الملك بن شهاب المنذر بن الجارودي الألف الرجل المطوعة من أهل البصرة، وولى ابنه غسان بن عبد الملك الألفي الرجل الذين من فرض البصرة، وولى عبد الواحد بن عبد الملك الألف والخمسمائة الرجل من مطوعة المرابطات، وأفرد يزيد بن الحباب في أصحابه فخرجوا، وكان المهدي وجه لتجهيزهم حتى شخصوا أبا القاسم محرز بن إبراهيم، فمضوا لوجههم؛ حتى أتوا مدينة باربد من بلاد الهند في سنة ستين ومائة. وفيها توفي معبد بن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، فاستعمل مكانه روح بن حاتم بمشورة أبي عبيد الله وزيره. وفيها أمر المهدي بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفًا بالسعي في الأرض بالفساد، أو من كان لأحد قبله مظلمة أو حق، فأطلقوا، فكان ممن أطلق من المطبق يعقوب بن داود مولى بني سليم، وكان معه في ذلك الحبس محبوسًا الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وفيها حمل المهدي الحسن بن إبراهيم من المطبق الذي كان فيه محبوسًا إلى نصير الوصيف فحبسه عنده. ذكر الخبر عن سبب تحويل المهدي الحسن بن إبراهيم من المطبق إلى نصير ذكر أن السبب في ذلك، كان أن المهدي لما أمر بإطلاق أهل السجون على ما ذكرت، وكان يعقوب بن داود محبوسًا مع الحسن بن إبراهيم في موضع واحد، فأطلق يعقوب بن داود، ولم يطلق الحسن بن إبراهيم، ساء ظنه، وخاف على نفسه، فالتمس مخرجًا لنفسه وخلاصًا، فدس إلى بعض ثقاته، فحفر له سربًا من موضع مسامت للموضع الذي هو فيه محبوس، وكان يعقوب بن داود بعد أن أطلق يطيف بابن علاثة - وهو قاضي المهدي بمدينة السلام - ويلزمه، حتى أنس به، وبلغ يعقوب ما عزم عليه الحسن بن إبراهيم من الهرب، فأتى ابن علاثة، فأخبره أن عنده نصيحة للمهدي، وسأله إيصاله إلى أبي عبيد الله، فسأله عن تلك النصيحة، فأبى أن يخبره بها، وحذره فوتها، فانطلق ابن علاثة إلى أبي عبيد الله فأخبره خبر يعقوب وما جاء به، فأمره بإدخاله عليه؛ فلما دخل عليه سأله إيصاله إلى المهدي، ليعلمه النصيحة التي له عنده، فأدخله عليه، فلما دخل على المهدي شكر له بلاءه عنده في إطلاقه إياه ومنه عليه، ثم أخبره أن له عنده نصيحة، فسأله عنها بمحضر من أبي عبيد الله وابن علاثة، فاستخلاه منهما، فأعلمه المهدي ثقته بهما، فأبى أن يبوح له بشيء حتى يقوما، فأقامهما وأخلاه، فأخبره خبر الحسن بن إبراهيم وما أجمع عليه، وأن ذلك كائن من ليلته المستقبلة، فوجه المهدي من يثق به ليأتيه بخبره، فأتاه بتحقيق ما أخبره به يعقوب، فأمر بتحويله إلى نصير، فلم يزل في حبسه إلى أن احتال واحتيل له، فخرج هاربًا، وافتقد، فشاع خبره، فطلب فلم يظفر به، وتذكر المهدي دلالة يعقوب إياه كانت عليه، فرجا عنده من الدلالة عليه مثل الذي كان منه في أمره، فسأل أبا عبيد الله فأخبره أنه حاضر - وقد كان لزم أبا عبيد الله - فدعى به المهدي خاليًا، فذكر له ما كان من فعله في الحسن بن إبراهيم أولًا، ونصحه له فيه، وأخبره بما حدث من أمره، فاخبره يعقوب أنه لا علم له بمكانه، وأنه إن أعطاه أمانًا يثق به ضمن له أن يأتيه به، على أن يتم له على أمانه، ويصله ويحسن إليه. فأعطاه المهدي ذلك في مجلسه وضمنه له. فقال له يعقوب: فله يا أمير المؤمنين عن ذكره، ودع طلبه، فإن ذلك يوحشه، ودعني وإياه حتى أحتال فآتيك به؛ فأعطاه المهدي ذلك. وقال يعقوب: يا أمير المؤمنين، قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وعممتهم بخيرك وفضلك، فعظم رجاؤهم، وانفسحت آمالهم؛ وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها بمثل ما فعلت في غيرها، وأشياء مع ذلك خلف بابك يعمل بها لا تعلمها، فإن جعلت لي السبيل إلى الدخول عليك، وأذنت لي في رفعها إليك فعلت. فأعطاه المهدي ذلك، وجعله إليه، وصير سليمان الخادم الأسود خادم المنصور سببه في إعلام المهدي بمكانه كلما أراد الدخول، فكان يعقوب يدخل على المهدي ليلًا، ويفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور وبناء الحصون وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسرى والمحبسين والقضاء على الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظى بذلك عنده، وبما رجى أن ينال به من الظفر بالحسن بن إبراهيم، واتخذه أخًا في الله، وأخرج بذلك توقيعًا، وأثبت في الدواوين، فتسبب مائة ألف درهم كانت أول صلة وصله بها، فلم تزل منزلته تنمى وتعلو صعدًا، إلى أن صير الحسن بن إبراهيم في يد المهدي بعد ذلك؛ وإلى أن سقطت منزلته، وأمر المهدي بحبسه، فقال علي بن الخليل في ذلك: عجبًا لتصريف الأمو ** ر مسرة وكراهيه والدهر يلعب بالرجا ** ل له دوائر جاريه رثت بيعقوب بن دا ** ود حبال معاويه وعدت على ابن علاثة ال ** قاضي بوائق عافيه قل للوزير أبي عبي ** د الله: هل لك باقيه! يعقوب ينظر في الأمو ** رو أنت تنظر ناحيه أدخلته فعلًا علي ** ك، كذاك شؤم الناصيه وفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل بن أبي إسماعيل عن الكوفة وأحداثها. واختلف فيمن ولي مكانه إسحاق بن الصباح الكندي ثم الأشعثي بمشورة شريك بن عبد الله قاضي الكوفة. وقال عمر بن شبة: ولى على الكوفة المهدي عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، فولى على شرطه ابن أخيه عثمان بن سعيد بن لقمان. ويقال: إن شريك بن عبد الله كان على الصلاة والقضاء، وعيسى على الأحداث ثم أفرد شريك بالولاية، فجعل على شرطه إسحاق بن الصباح الكندي، فقال بعض الشعراء: لست تعدو بأن تكون ولو نل ** ت سهيلًا صنيعةً لشريك قال: ويزعمون أن إسحاق لم يشكر لشريك، وأن شريكًا قال له: صلى وصام لدنيا كان يأملها ** فقد أصاب ولا صلى ولا صاما وذكر أن جعفر بن محمد قاضي الكوفة، قال: ضم المهدي إلى شريك الصلاة مع القضاء، وولى شرطه إسحاق بن الصباح، ثم ولى إسحاق بن الصباح الصلاة والأحداث بعد، ثم ولى إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل ابن محمد بن الأشعث الكوفة، فولى شرطه النعمان بن جعفر الكندي، فمات النعمان، فولى على شرطه أخاه يزيد بن جعفر. وفيها عزل المهدي عن أحداث البصرة سعيد بن دعلج، وعزل عن الصلاة والقضاء من أهلها عبيد الله بن الحسن، وولى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النمري، وكتب إلى عبد الملك يأمره بإنصاف من تظلم من أهل البصرة من سعيد بن دعلج، ثم صرفت الأحداث في هذه السنة عن عبد الملك بن أيوب إلى عمارة بن حمزة، فولاها عمارة رجلًا من أهل البصرة يقال له المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي، وأقر عبد الملك على الصلاة. وفيها عزل قثم بن العباس عن اليمامة عن سخطة، فوصل كتاب عزله إلى اليمامة، وقد توفي فاستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي. وفيها عزل يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه رجاء بن روح. وفيها عزل الهيثم بن سعيد عن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بن صالح. وفيها أعتق المهدي أم ولده الخيزران وتزوجها. وفيها تزوج المهدي أيضًا أم عبد الله بنت صالح بن علي، أخت الفضل وعبد ابني صالح لأمهما. وفيها وقع الحريق في ذي الحجة في السفن ببغداد عند قصر عيسى بن علي، فاحترق ناس كثير، واحترقت السفن بما فيها. وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل مكانه أبو ضمرة محمد بن سليمان. وفيها كانت حركة من تحرك من بني هاشم وشيعتهم من أهل خراسان في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وتصيير ذلك لموسى بن المهدي؛ فلما تبين ذلك المهدي كتب - فيما ذكر - إلى عيسى بن موسى في القدوم عليه وهو بالكوفة، فأحس بالذي يراد به، فامتنع من القدوم عليه. وقال عمر: لما أفضى الآمر إلى المهدي سأل عيسى أن يخرج من الأمر فامتنع عليه، فأراد الإضرار به، فولى على الكوفة روح بن حاتم بن قبيصة ابن المهلب، فولي على شرطه خالد بن يزيد بن حاتم؛ وكان المهدي يحب أن يحمل روح على عيسى بعض الحمل فيما لا يكون عليه به حجة، وكان لا يجد إلى ذلك سبيلًا، وكان عيسى قد خرج إلى ضيعة له بالرحبة؛ فكان لا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة في شهر رمضان، فيشهد الجمع والعيد، ثم يرجع إلى ضيعته. وفي أول ذي الحجة، فإذا شهد العيد رجع إلى ضيعته، وكان إذا شهد الجمعة أقبل من داره على دوابه حتى ينتهي إلى أبواب المسجد فينزل على عتبة الأبواب، ثم يصلي في موضعه، فكتب روح إلى المهدي أن عيسى بن موسى لا يشهد الجمع، ولا يدخل الكوفة إلا في شهرين من السنة؛ فإذا حضر أقبل على دوابه حتى يدخل رحبة المسجد؛ وهو مصلى الناس، ثم يتجاوزها إلى أبواب المسجد، فتروث دوابه في مصلى الناس؛ وليس يفعل ذلك غيره؛ فكتب إليه المهدي أن اتخذ على أفواه السكك التي تلي المسجد خشبًا ينزل عنده الناس، فاتخذ روح ذلك الخشب في أفواه السكك - فذلك الموضع يسمى الخشبة - وبلغ ذلك عيسى بن موسى قبل يوم الجمعة، فأرسل إلى ورثة المختار بن أبى عبيدة - وكانت دار المختار لزيقة المسجد، فابتاعها وأثمن بها، ثم إنه عمرها واتخذ فيها حمامًا، فكان إذا كان يوم الخميس أتاها وأقام بها، فإذا أراد الجمعة ركب حمارًا فدب به إلى باب المسجد فصلى في ناحية، ثم رجع إلى داره. ثم أوطن الكوفة وأقام بها، وألح المهدي على عيسى فقال: إنك إن لم تجبني إلى أن تنخلع منها حتى أبايع لموسى وهارون استحللت منك بمعصيتك من العاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعًا. فأجابه، فبايع لهما وأمر له بعشرة آلاف ألف درهم - ويقال عشرين ألف ألف - وقطائع كثيرة. وأما غير عمر فإنه فقال: كتب المهدي إلى عيسى بن موسى لما هم بخلعه يأمره بالقدوم عليه، فأحس بما يراد به، فامتنع من القدوم عليه، حتى خيف انتقاضه، فأنفذ إليه المهدي عمه العباس بن محمد، وكتب إليه كتابًا، وأوصاه بما أحب أن يبلغه، فقدم العباس على عيسى بكتاب المهدي ورسالته إليه، فانصرف إلى المهدي بجوابه في ذلك، فوجه إليه بعد قدوم العباس عليه محمد بن فروخ أبا هريرة القائد في ألف رجل من أصحابه من ذوي البصيرة في التشيع، وجعل مع كل رجل منهم طبلًا، وأمرهم أن يضربوا جميعًا بطبولهم عند قدومهم الكوفة، فدخلها ليلًا في وجه الصبح، فضرب أصحابه بطبولهم، فراع ذلك عيسى بن موسى روعًا شديدًا، ثم دخل عليه أبو هريرة، فأمره بالشخوص، فاعتل بالشكوى، فلم يقبل ذلك منه، وأشخصه من ساعته إلى مدينة السلام. وحج بالناس في هذه السنة يزيد بن منصور - خال المهدي - عند قدومه من اليمن؛ فحدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى؛ عن أبي معشر. كذلك قال محمد بن عمر الواقدي وغيره. وكان انصراف يزيد بن منصور من اليمن بكتاب المهدي إليه يأمره بالانصراف إليه وتوليته إياه الموسم وإعلامه اشتياقه إليه وإلى قربه. وكان أمير المدينة في هذه السنة عبيد الله بن صفوان الجمحي، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى صلاة البصرة عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وعلى أحداثها عمارة بن حمزة؛ وخليفته على ذلك المسور بن عبد الله بن مسلم الباهلي؛ وعلى قضائها عبيد الله بن حسن. وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بن حمزة. وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى اليمن رجاء بن روح. وعلى اليمامة بشر بن المنذر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة. ثم دخلت سنة ستين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خروج يوسف البرم فمن ذلك ما كان من خروج يوسف بن إبراهيم، وهو الذي يقال له يوسف البرم بخراسان منكرًا هو ومن تبعه ممن كان على رأيه على المهدي - فيما زعم - الحال التي هو بها وسيرته التي يسير بها، واجتمع معه - فيما ذكر - بشر من الناس كثير، فتوجه إليه يزيد بن مزيد فلقيه، واقتتلا حتى صارا إلى المعانقة فأسره يزيد، وبعث به إلى المهدي، وبعث معه من وجوه أصحابه بعدة، فلما انتهى بهم إلى النهروان حمل يوسف البرمعلى بعير وقد حول وجهه إلى ذنب البعير وأصحابه على بعير، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، فأدخلوه على المهدي، فأمر هرثمة بن أعين فقطع يدي يوسف ورجليه، وضرب عنقه وعنق أصحابه، وصلبهم على جسر دجلة الأعلى، مما يلي عسكر المهدي، وإنما أمر هرثمة بقتله؛ لأنه قتل أخًا لهرثمة بخراسان. ذكر خبر خلع عيسى بن موسى وبيعة موسى الهادي وفيها قدم عيسى بن موسى مع أبي هريرة يوم الخميس لست خلون من المحرم - فيما ذكر - الفضل بن سليمان فنزل دارًا كانت لمحمد بن سليمان على شاطئ دجلة في عسكر المهدي، فأقام أيامًا يختلف إلى المهدي، ويدخل مدخله الذي كان يدخله؛ لا يكلم بشيء، ولا يرى جفوة ولا مكروهًا ولا تقصيرًا به؛ حتى أنس به بعض الأنس، ثم حضر الدار يومًا قبل جلوس المهدي، فدخل مجلسا كان يكون للربيع في مقصورة صغيرة، وعليها باب، وقد أجتمع رؤساء الشيعة في ذلك اليوم على خلعه والوثوب عليه؛ ففعلوا ذلك وهو في المقصورة التي فيها مجلس الربيع، فأغلق دونهم المقصورة، فضربوا الباب بجرزهم، فهشموا الباب، وكادوا يكسرونه، وشتموه أقبح الشتم، وحصروه هنالك، وأظهر المهدي إنكارًا لما فعلوا، فلم يردعهم ذلك عن فعلهم، بل شدوا في أمره، وكانوا بذلك هو وهم أيامًا، إلى أن كاشفه ذوو الأسنان من أهل بيته بحضرة المهدي، فأبوا إلا خلعه، وشتموه في وجهه؛ وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان. فلما رأى المهدي ذلك من رأيهم وكراهتهم لعيسى وولايته؛ دعاهم إلى العهد لموسى، فصار إلى رأيهم وموافقتهم، وألح على عيسى في إجابته إياهم إلى الخروج مما له من العهد في أعناق الناس وتحليلهم منه؛ فأبى؛ وذكر أن عليه أيمانًا محرجة في ماله وأهله؛ فأحضر له من الفقهاء والقضاة عدة، منهم محمد بن عبد الله بن علاثة والزنجي بن خالد المكي وغيرهما؛ فأتوه بما رأوا، وصار إلى المهدي ابتياع ماله من البيعة في أعناق الناس بما يكون له فيه رضًا وعوض؛ مما يخرج له من ماله لما يلزمه من الحنث في يمينه؛ وهو عشرة آلاف ألف درهم، وضياع بالزاب الأعلى وكسكر. فقبل عيسى، وبقي منذ فاوضه المهدي على الخلع إلى أن أجاب محتسبًا عنده في دار الديوان من الرصافة إلى أن صار إلى الرضى بالخلع والتسليم، وإلى أن خلع يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد صلاة العصر، فبايع للمهدي ولموسى من بعده من الغد يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم لارتفاع النهار. ثم أذن المهدي لأهل بيته، وهو في قبة كان محمد بن سليمان أهداها له مضروبة في صحن الأبواب، ثم أخذ بيعتهم رجلًا رجلًا لنفسه ولموسى بن المهدي من بعده، حتى أتى إلى آخرهم. ثم خرج إلى مسجد الجماعة بالرصافة فقعد على المنبر، وصعد موسى حتى كأنه دونه. وقال عيسى على أول عتبة المنبر، فحمد الله المهدي وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ، وأخبر بما بما أجمع عليه أهل بيته وشيعته وقواده وأنصاره وغيرهم من أهل خراسان من خلع عيسى بن موسى وتصيير الأمر الذي كان عقد له في أعناق الناس لموسى بن أمير المؤمنين؛ لاختيارهم له ورضاهم به؛ وما رأى من إجاباتهم إلى ذلك؛ لما رجا مصلحتهم وألفتهم، وخاف مخالفتهم في نياتهم واختلاف كلمتهم، وأن عيسى قد خلع تقدمه، وحللهم مما كان له من البيعة في أعناقهم، وأن ما كان له من ذلك فقد صار لموسى بن أمير المؤمنين، بعقد من أمير المؤمنين وأهل بيته وشيعته في ذلك؛ وأن موسى عامل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ بأحسن السيرة وأعدلها، فبايعوا معشر من حضر، وسارعوا إلى ما سارع إليه غيركم؛ فإن الخير كله في الجماعة، والشر كله في الفرقة. وأنا أسأل الله لنا ولكم التوفيق برحمته، والعمل بطاعته وما يرضيه، وأستغفر الله لي ولكم. وجلس موسى دونه معتزلًا للمنبر؛ لئلا يحول بينه وبين من صعد إليه، يبايعه ويمسح على يده، ولا يستر وجهه، وثبت عيسى قائمًا في مكانه، وقرئ عليه كتاب ذكر الخلع له، وخروجه مما كان غليه من ولاية العهد وتحليله الجماعة من كان له في عنقه بيعة، مما عقدوا له في أعناقهم؛ وإن ذلك من فعله وهو طائع غير مكره، راض غير ساخط، محب غير مجبر. فأقر عيسى بذلك، ثم صعد فبايع المهدي، ومسح على يده، ثم انصرف، وبايع أهل بيت المهدي على أسنانهم؛ يبايعون المهدي ثم موسى، ويمسحون على أيديهما؛ حتى فرغ آخرهم؛ وفعل من أحضر من أصحابه ووجوه القواد والشيعة مثل ذلك، ثم نزل المهدي، فصار إلى منزله، ووكل ببيعته من بقي من الخاصة والعامة خاله يزيد بن منصور، فتولى ذلك حتى فرغ من جميع الناس، ووفى المهدي لعيسى بما أعطاه وأرضاه مما خلعه منه من ولاية العهد، وكتب عليه بخلعه إياه كتابًا أشهد عليه فيه جماعة أهل بيته وصحابته وجميع شيعته وكتابه وجنده في الدواوين؛ ليكون حجة على عيسى، وقطعًا لقوله ودعواه فيما خرج منه. وهذه نسخة الشرط الذي كتبه عيسى على نفسه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهد المؤمنين موسى بن المهدي، ولأهل بيته وجميع قواده وجنوده من أهل خراسان وعامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ حيث كان كائن منهم، كتبته للمهدي محمد أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين موسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي؛ فيما جعل إليه من العهد إذ كان إلي، حتى اجتمعت كلمة المسلمين، واتسق أمرهم، وائتلفت أهواؤهم، على الرضى بولاية موسى بن المهدي محمد أمير المؤمنين، وعرفت الخط في ذلك علي والخط فيه لي، ودخلت فيما دخل المسلمون من الرضا بموسى بن أمير المؤمنين، والبيعة له، والخروج مما كان لي في رقابهم من البيعة، وجعلتكم في حل من ذلك وسعة، من غير حرج يدخل عليكم، أو على أحد من جماعتكم وعامة المسلمين، وليس في شيء من ذلك، قديم ولا حديث لي دعوى ولا طلبة ولا حجة ولا مقالة ولا طاعة على أحد منكم، ولا على عامة المسلمين ولا بيعة في حياة المهدي محمد أمير المؤمنين ولا بعده ولا بعد ولي عهد المسلمين موسى، ولا ما كنت حيًا حتى أموت. وقد بايعت محمد المهدي أمير المؤمنين ولموسى ابن أمير المؤمنين من بعده، وجعلت لهما ولعامة المسلمين من أهل خراسان وغيرهم الوفاء بما شرطت على نفسي في هذا الأمر الذي خرجت منه، والتمام عليه. علي بذلك عهد الله وما اعتقد أحد من خلقه من عهد أو ميثاق أو تغليظ أو تأكيد على السمع والطاعة والنصيحة للمهدي محمد أمير المؤمنين وولي عهده موسى بن أمير المؤمنين، في السر والعلانية، والقول والفعل، والنية والشدة والرجاء والسراء والضراء والموالاة لهمل ولمن والاهما، والمعاداة لمن عاداهما، كائنًا من كان في هذا الأمر الذي خرجت منه. فإن أنا نكبت أو غيرت أو بدلت أو دغلت أو نويت غير ما أعطيت عليه هذه الأيمان، أو دعوت إلى خلاف شيء مما حملت على نفسي في هذا الكتاب للمهدي محمد أمير المؤمنين ولولي عهده موسى بن أمير المؤمنين ولعامة المسلمين، أو لم أف بذلك؛ فكل زوجة عندي يوم كتبت هذا الكتاب - أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة - طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج وكل مملوك عندي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وكل مالٍ لي نقد أو عرض أو قرض أو أرض، أو قليل أو كثير، تالد أو طارف أو أستفيده فيما بعد اليوم إلى ثلاثين سنة صدقة على المساكين، يضع ذلك الوالي حيث يرى، وعلي من مدينة السلام المشي حافيًا إلى بيت الله العتيق الذي بمكة نذرًا واجبًا ثلاثين سنة، لا كفارة لي ولا مخرج منه؛ إلا الوفاء به. والله على الوفاء بذلك راع كفيل شهيد، وكفى بالله شهيدًا. وشهيد على عيسى بن موسى بما في هذا الشرط أربعمائة وثلاثون من بني هاشم ومن الموالي والصحابة من قريش والوزراء والكتاب والقضاة. وكتب في صفر سنة ستين ومائة. وختم عيسى بن موسى. فقال بعض الشعراء: كره الموت أبو موسى وقد ** كان في الموت نجاء وكرم خلع الملك وأضحى ملبسًا ** ثوب لوم ما ترى منه القدم وفي سنة ستين ومائة وافى عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة باربد بمن توجه معه من المطوعة وغيرهم، فناهضوها بعد قدومهم بيوم، وأقاموا عليها يومين، فنصبوا المنجنيق وناهضوها بجميع الآلة، وتحاشد الناس وحض بعضهم بعض بالقرآن والتذكير، ففتحها الله عليهم عنوة، ودخلت خيلهم من كل ناحية؛ حتى ألجئوهم إلى بدهم، فأشعلوا فيها النيران والنفط، فاحترق منهم من احترق، وجاهد بعضهم المسلمين، فقتلهم الله أجمعين، واستشهد من المسلمين بضعة وعشرون رجلًا، وأفاءها الله عليهم. وهاج البحر فلم يقدروا على ركوبه والانصراف، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم في أفواههم داء يقال له حمام قر، فمات نحو من ألف رجل، منهم الربيع بن صبيح. ثم انصرفوا لما أمكنهم الانصراف حتى بلغوا ساحلًا من فارس، يقال له بحر حمران، فعصفت عليهم فيه الريح ليلًا، فكسرت عامة مراكبهم، فغرق منهم بعض ونجا بعض، وقدموا معهم بسبي من سبيهم - فيهم بنت ملك باربد - على محمد بن سليمان، وهو يومئذ والي البصرة. وفيها صير أبان بن صدقة كاتبًا لهارون بن المهدي ووزيرًا له. وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، وولي مكانه معاذ بن مسلم. وفيها غزا ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة. وفيها غزا الغمر بن العباس الخثعمي بحر الشام ذكر خبر رد نسب آل بكرة وآل زياد وفيها رد المهدي آل بكرة من نسبهم في ثقيف إلى ولاء رسول الله ﷺ؛ وكان سبب ذلك أن رجلًا من آل أبي بكرة رفع ظلامة إلى المهدي وتقرب إليه فيها بولاء رسول الله ﷺ، فقال المهدي: إن هذا نسب واعتزاء، ما تقرون به إلا عند حاجة تعرض لكم، وعند اضطراركم إلى التقرب به إلينا. فقال الحكم: يا أمير المؤمنين، من جحد ذلك فإنا سنقر؛ أنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله ﷺ، وتأمر بآل زياد بن عبيد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقهم به معاوية رغبة عن قضاء رسول الله ﷺ: " إن الولد للفراش وللعاهر الحجر "، فيردوا إلي نسبهم من عبيد في موالي ثقيف. فأمر المهدي في آل بكرة وآل زياد أن يرد كل فريق منهم إلى نسبه، وكتب إلى محمد بن سليمان كتابًا، وأمره أن يقرأ في مسجد الجماعة على الناس، وأن يرد آل أبي بكرة إلى ولائهم من رسول الله ﷺ ونسبهم إلى نفيع ابن مسروح، وأن يرد على من أقر منهم ما أمر برده عليهم من أموالهم بالبصرة مع نظرائهم، ممن أمر برد ماله عليه، وألا يرد على من أنكر منهم، وأن يجعل الممتحن منهم والمستبرئ لما عندهم الحكم بن سمرقند. فأنفذ محمد ما أتاه في آل أبي بكرة إلا في أناس منهم غيب عنهم. وأما آل زياد فإنه مما قوي رأي المهدي فيهم - فيما ذكر علي بن سليمان - أن أباه حدثه، قال: حضرت المهدي وهو ينظر في المظالم إذ قدم عليه رجل من آل زياد يقال له الصغدي بن سلم بن حرب، فقال له: من أنت؟ قال: ابن عمك، قال: أي ابن عمي أنت؟ فانتسب إلى زياد، فقال له المهدي: يا ابن سمية الزانية، متى كنت ابن عمي! وغضب وأمر به فوجئ في عنقه، وأخرج، قال: فلما خرجت لحقني عيسى بن موسى - أو موسى بن عيسى - فقال: أردت والله أن أبعث إليك، أن أمير المؤمنين التفت إلينا بعد خروجك، فقال: من عنده علم من آل زياد؟ فو الله ما كان عند أحد منا من ذاك شيء، فما عندك يا أبا عبد الله؟ فما زلت أحدثه في زياد وآل زياد حتى صرنا إلى منزله بباب المحول، فقال: أسألك بالله والرحم لما كتبت لي هذا كله حتى أروح به إلى أمير المؤمنين، وأخبره عنك. فانصرفت فكتبت، وبعثت به إليه. فراح إلى المهدي، فأخبره، فأمر المهدي بالكتاب إلى هارون الرشيد؛ وكان والي البصرة من قبله يأمره أن يكتب إلى واليها يأمر أن يخرج آل زياد من قريش وديوانهم والعرب، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله ﷺ، فمن أقر منهم ترك ماله في يده، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله. فعرضهم، فأقروا جميعًا الولاء، إلا ثلاثة نفر، فاصطفيت أموالهم. ثم إن آل زياد بعد ذلك رشوا صاحب الديوان حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار في ذلك: إن زيادًا ونافعًا وأبا ** بكرة عندي من أعجب العجب ذا قرشي كما يقول، وذا مولى، وهذا بزعمه عربي نسخة كتاب المهدي إلى والي البصرة في رد آل زياد إلى نسبهم بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فإن أحق ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصهم وعوامهم في أمورهم وأحكامهم، العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنة رسول الله ﷺ، والصبر على ذلك، والمواظبة عليه، والرضا به فيما وافقهم وخالفهم؛ للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه، واتباع مرضاته، وإحراز جزائه وحسن ثوابه، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة. وقد كان من رأي معاوية بن أبي سفيان في استلحاقه زياد بن عبيد عبد آل علاج من ثقيف، وادعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير من منهم في زمانه، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأمه من أهل الرضا والفضل والورع والعلم، ولم يدع معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى، ولا اتباع سنة هادية، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية، إلا الرغبة في هلاك دينه وآخرته، والتصميم على مخالفة الكتاب والسنة. والعجب بزياد في جلده ونفاذه، وما رجامن معونته وموازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وأثاره وإعماله الخبيثة. وقد قال رسول الله ﷺ: " الولد للفراش وللعاهر الحجر "، وقد قال: " من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه لا صرفًا ولا عدلا ". ولعمري ما ولد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه، ولا كان عبيد عبدًا لأبي سفيان، ولا سمية أمة له، ولا كانا في ملكه، ولا صارا إليه لسبب من الأسباب. ولقد قال معاوية فيما يعلمه أهل الحفظ للأحاديث عند كلام نصر بن الحجاج بن علاط السلمي ومن كان معه من موالي بني المغيرة المخزوميين وإرادتهم استلحاقه وإثبات دعوته، وقد أعد لهم معاوية حجرًا تحت بعض فرشه فألقاه إليهم، فقالوا له: نسوغ لك ما فعلت في زياد، ولا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا، فقال: قضاء رسول الله ﷺ خير لكم من قضاء معاوية. فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه، أمر الله جل وعز وقضاء رسول الله ﷺ واتبع في ذلك هواه رغبة عن الحق ومجانبة له، وقد قال الله عز وجل: " ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين "، وقال لداود ﷺ وقد آتاه الحكم والنبوة والمال والخلافة: " يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض.. " الآية إلى آخرها. فأمير المؤمنين يسأل الله أن يعصم له نفسه ودينه، وأن يعيذه من غلبة الهوى، ويوفقه في جميع الأمور لما يحب ويرضى؛ إنه سميع قريب. وقد رأى أمير المؤمنين أن يرد زيادًا ومن كان من ولده إلى أمهم ونسبهم المعروف ويلحقهم بأبيهم عبيد؛ وأمهم سمية، ويتبع في ذلك قول رسول الله ﷺ، وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وكان أمير المؤمنين أحق من أخذ بذلك وعمل به؛ لقرابته من رسول الله ﷺ واتباعه آثاره وإحيائه سنة، وإبطاله سنن غيره الزائغة الجائرة عن الحق والهدى، وقد قال الله جل وعز: " فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ". فاعلم أن ذلك من رأي أمير المؤمنين في زياد، وما كان من ولد زياد فألحقهم بأبيهم زياد بن عبيد، وأمهم سمية، واحملهم عليه، وأظهره لمن قبلك من المسلمين حتى يعرفوه ويستقيم فيهم؛ فإن أمير المؤمنين قد كتب إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم بذلك. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب معاوية بن عبيد الله في سنة تسع وخمسين ومائة. فلما وصل الكتاب إلى محمد بن سليمان وقع بإنقاذه، ثم كلم فيهم، فكف عنهم؛ وقد كان كتب إلى عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري بمثل ما كتب به إلى محمد، فلم ينفذه لموضعه من قيس، وكراهته أن يخرج أحد من قومه إلى غيرهم. وفيها كانت وفاة عبيد الله بن صفوان الجمحي، وهو والٍ على المدينة، فولى مكانه محمد بن عبد الله الكثيري، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى عزل وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي. وولى المهدي قضاء المدينة فيها عبد الله بن محمد بن عمران الطلحي. وفيها خرج عبد السلام الخارجي، فقتل. وفيها عزل بسطام بن عمرو بن السند، واستعمل عليها روح بن حاتم. وحج بالناس في هذه السنة المهدي، واستخلف على مدينته حين شخص عنها ابنه موسى، وخلف معه يزيد بن منصور خال المهدي وزيرًا له ومدبرًا لأمره. وشخص مع المهدي في هذه السنة ابنه هارون وجماعة من أهل بيته؛ وكان ممن شخص معه يعقوب بن داود، على منزلته التي كانت له عنده؛ فأتاه حين وافى مكة الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن الذي استأمن له يعقوب من المهدي على أمانه، فأحسن المهدي صلته وجائزته، وأقطعه مالًا من الصوافي بالحجاز وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة التي كانت عليها، وكساها كسوة جديدة؛ وذلك أن حجبة الكعبة - فيما ذكر - رفعوا إليه أنهم يخافون على الكعبة تهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فأمر أن يكشف عنها ما عليها من الكسوة حتى بقيت مجردة، ثم طلي البيت كله بالخلوق، وذكر أنهم لما بلغوا إلى كسوة هشام وجدوها ديباجًا ثخينًا جيدًا، ووجدوا كسوة من كان قبله عامتها من متاع اليمن. وقسم المهدي في هذه السنة بمكة في أهلها - فيما ذكر - مالًا عظيمًا، وفي أهل المدينة كذلك؛ فذكر أنه نظر فيما قسم في تلك السفرة فوجد ثلاثين ألف ألف درهم، حملت معه، ووصلت إليه من مصر ثلثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله. وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع في مسجد رسول الله ﷺ، وأمر بنزع المقصورة التي في مسجد الرسول ﷺ فنزعت، وأراد أن ينقص منبر رسول الله ﷺ فيعيده إلى ما كان عليه، ويلقي منه ما كان معاوية زاد فيه؛ فذكر عن مالك بن أنس أنه شاور في ذلك، فقيل له: إن المسامير قد سلكت في الخشب الذي أحدثه معاوية، وفي الخشب الأول وهو عتيق، فلا نأمن إن خرجت المسامير التي فيه وزعزعت أن يتكسر، فتركه المهدي. وأمر أيام مقامه بالمدينة بإثبات خمسمائة رجل من الأنصار ليكونوا معه حرسًا له بالعراق وأنصارًا، وأجرى عليهم أرزاقًا سوى أعطياتهم، وأقطعهم عند قدومهم معه ببغداد قطيعة تعرف بهم. وتزوج في مقامه بها برقية بنت عمرو العثمانية. وفي هذه السنة حمل محمد بن سليمان الثلج للمهدي، حتى وافى به مكة، فكان المهدي أول من حمل له الثلج إلى مكة من الخلفاء. وفيها رد المهدي على أهل بيته وغيرهم قطائعهم التي كانت مقبوضة عنهم. وكان على صلاة الكوفة وأحداثها في هذه السنة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى قضائها شريك. وعلى البصرة وأحداثها وأعمالها المفردة وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان. وكان على قضاء البصرة فيها عبيد الله بن الحسن. وعلى خراسان معاذ بن مسلم، وعلى الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى السند روح بن حاتم. وعلى مصر محمد بن سليمان أبو ضمرة. ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان من ذلك خروج حكيم القنع بخراسان من قرية من قرى مرو، وكان - فيما ذكر - يقول بتناسخ الأرواح، يعود ذلك إلى نفسه، فاستغوى بشرًا كثيرًا، وقوي وصار إلى ما وراء النهر، فوجه المهدي لقتاله عدة من قواده؛ فيهم معاذ بن مسلم، وهو يومئذ على خراسان، ومعه عقبة بن مسلم وجبرئيل بن يحيى وليث مولى المهدي، ثم أفرد المهدي لمحاربته سعيدًا الحرشي، وضم إليه القواد؛ وابتدأ المقنع بجمع الطعام عدة للحصار في قلعة بكش. وفيها ظفر نصر بن محمد بن الأشعث الخزاعي بعبد الله بن مروان بالشام؛ فقدم به على المهدي قبل أن يوليه السند، فحبسه المهدي في المطبق؛ فذكر أبو الخطاب أن المهدي أتى بعبد الله بن مروان بن محمد - وكان يكنى أبا الحكم - فجلس المهدي مجلسًا عامًا في الرصافة، فقال: من يعرف هذا؟ فقام عبد العزيز بن مسلم العقيلي، فصار معه قائمًا، ثم قال له: أبو الحكم؟ قال: نعم ابن أمير المؤمنين، قال: كيف كنت بعدي؟ ثم التفت إلى المهدي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا عبد الله بن مروان. فعجب الناس من جرأته، ولم يعرض له المهدي بشيء. قال: ولما حبس المهدي عبد الله بن مروان احتيل عليه، فجاء عمرو بن سهلة الأشعري فادعى أن عبد الله بن مروان قتل أباه؛ كذب والله ما قتل أباه غيري؛ أنا قتلته بأمر مروان، وعبد الله بن مروان من دمه بريء. فزالت عن عبد الله بن مروان ولم يعرض المهدي لعبد العزيز بن مسلم لأنه قتله بأمر مروان. وفيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد، فنزل دابق، وجاشت الروم وهو مغتر، فأتت طلائعه وعيونه بذلك، فلم يحفل بما جاءوا به، وخرج إلى الروم، وعليها ميخائيل بسرعان الناس، فأصيب من المسلمين عدة، وكان عيسى بن علي مرابطًا بحصن مرعش يومئذ، فلم يكن للمسلمين في ذلك العام صائفة من أجل ذلك. وفيها أمر المهدي ببناء القصور في طريق مكة أوسع من القصور التي كان أبو العباس بناها من القادسية إلى زبالة، وأمر بالزيادة في قصور أبي العباس، وترك منازل أبي جعفر التي كان بناها على حالها، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل، وبتجديد الأميال والبرك، وحفر الركايا مع المصانع، وولي ذلك يقطين بن موسى، فلم يزل ذلك إليه إلى سنة إحدى وسبعين ومائة، وكان خليفة يقطين في ذلك أخوه أبو موسى. وفيها أمر المهدي بالزيادة في مسجد الجامع بالبصرة، فزيد فيه من مقدمة مما يلي القبلة، وعن يمينه مما يلي رحبة بني سليم، وولى بناء ذلك محمد بن سليمان وهو يومئذٍ والي البصرة وفيها أمر المهدي بنزع المقاصير من مساجد الجماعات وتقصير المنابر وتصييرها إلى المقدار الذي عليه منبر الرسول ﷺ، وكتب بذلك إلى الآفاق فعمل به. وفيها أمر المهدي يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، فعمل به، فكان لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب بن داود إلى أمينه وثقته بإنفاذ ذلك. وفيها اتضعت منزلة أبي عبيد الله وزير المهدي، وضم يعقوب إليه من متفقه البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام عددًا كثيرًا، وجعل رئيس البصريين والقائم بأمرهم إسماعيل بن علية الأسدي ومحمد بن ميمون العنبري، وجعل رئيس أهل الكوفة وأهل الشام عبد الأعلى بن موسى الحلبي. ذكر السبب الذي من أجله تغيرت منزلة أبي عبيد الله عند المهدي قد ذكرنا سبب اتصاله به الذي كان قبل في أيام المنصور وضم المنصور إياه إلى المهدي حين وجهه إلى الري عند خلع عبد الرحمن المنصور، فذكر أبو زيد عمر بن شبة، أن سعيد بن إبراهيم حدثه أن جعفر بن يحيى حدثه أن الفضل بن ربيع أخبره، أن الموالي كانوا يشنعون على أبي عبيد الله عند المهدي، ويسعون عليه عنده؛ فكانت كتب أبي عبيد الله تنفذ عند المنصور بما يريد من الأمور، وتتخلى الموالي بالمهدي؛ فيبلغونه عن أبي عبيد الله، ويحرضونه عليه. قال الفضل: وكانت كتب أبي عبيد الله تصل إلى أبي تترى، يشكو الموالي وما يلقى منهم، ولا يزال يذكره عند المنصور ويخبره بقيامه، ويستخرج الكتب عنه إلى المهدي بالوصاة به، وترك القبول فيه. قال: فلما رأى أبو عبيد الله غلبة الموالي على المهدي، وخلوتهم به نظر إلى أربعة رجال من قبائل شتى من أهل الأدب والعلم، فضمهم إلى المهدي، فكانوا في صحابته، فلم يكونوا يدعون الموالي يتخلون به. ثم إن أبا عبيد الله كلم المهدي في بعض أمره إذ اعترض رجل من هؤلاء الأربعة في الأمر الذي تكلم فيه، فسكت عنه أبو عبيد الله، فلم يراده، وخرج فأمر أن يحجب عن المهدي فحجبه عنه؛ وبلغ ذلك من أخبره أبي. قال: وحج أبي مع المنصور في السنة التي مات فيها، وقام أبي من أمر المهدي بما قام به من أمر البيعة وتجديدها على بيت المنصور والقواد والموالي؛ فلما قدم تلقيته بعد المغرب، فلم أزل معه حتى تجاوز منزله، وترك دار المهدي، ومضى إلى أبي عبيد الله، فقال: يا بني؛ هو صاحب الرجل؛ وليس ينبغي أن نعامله على ما كنا نعامله عليه؛ ولا أن نحاسبه بما كان منا في أمره من نصرتنا له. قال: فمضينا حتى أتينا باب أبي عبيد الله؛ فما زال واقفًا حتى صليت العتمة، فخرج الحاجب، فقال: ادخل، فثنى رجله وثنيت رجلي. قال: إنما استأذنت لك يا أبا الفضل وحدك. قال: اذهب فأخبره أن الفضل معي. قال: ثم أقبل علي، فقال: وهذا أيضًا من لك! قال: فخرج الحاجب، فأذن لنا جميعًا، فدخلن أنا وأبي وأبو عبيد الله في صدر المجلس، على مصل متكئ على وسادة، فقلت: يقوم إلى أبي إذا دخل إليه، فلم يقم إليه، فقلت: يستوي جالسًا إذا دنا، فلم يعلم، فقلت: يدعو له بمصلى، فلم يفعل، فقعد أبي بين يديه على البساط وهو متكئ، فجعل يسائله عن مسيره وسفره وحاله، وجعل أبي يتوقع أن يسأله عما كان منه في أمر المهدي وتجديد بيعته، فأعرض عن ذلك، فذهب أبي يبتدئه بذكره، فقال: قد بلغنا نبؤكم، قال: فذهب أبي لينهض، فقال: لا أرى الدروب إلا وقد غلقت، فلو أقمت! قال: فقال أبي: إن الدروب لا تغلق دوني، قال: بلى قد أغلقت. قال: فظن أبي أنه يريد أن يحتبسه ليسكن من مسيره، ويريد أن يسأله؛ قال: فأقيم. قال: يا فلان، اذهب فهيئ لأبي الفضل في منزل محمد بن أبي عبيد الله مبيتًا. فلما رأى انه يريد أن يخرج من الدار، قال: فليس تفلق دروبي دوني فاعتزم. ثم قام، فلما خرجنا من الدار أقبل علي فقال: يا بني، أنت أحمق، قلت: وما حمقي أنا! قال: تقول لي: كان ينبغي لك ألا تجيئ، وكان ينبغي إذا جئت فحجبنا ألا تقيم حتى صليت العتمة، وان تنصرف ولا تدخل؛ وكان ينبغي إذا دخلت فلم يقم إليك أن ترجع ولا تقيم عليه؛ ولم يكن الصواب إلا ما عملت كله؛ ولكن والله الذي لا إله إلا هو - وأستغلق في اليمين - لأخلعن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ من عبيد الله. قال: ثم جعل يضرب بجهده، فلا يجد مساغًا إلى مكروهه، ويحنال الجد إذا ذكر القشيري الذي كان أبو عبيد الله حجره، فأرسل إليه فجائه، فقال: إنك قد عملت ما ركبك به أبو عبيد الله، وبلغ مني كل غاية من المكروه، وقد أرغت أمره بجهدي؛ فما وجدت عليه طريقًا، فعندك حيلة في أمره؟ فقال: إنما يؤتى أبو عبيد الله من أحد وجوه أذكرها لك.. يقال: هو رجل جاهل بصناعته وأبو عبيد الله أحدق الناس، أو يقال: هو ظنين في الدين بتقليده، وأبو عبيد الله أعف الناس؛ لو كان بنات المهدي في حجره لكان لهم موضع، أو يقال: هو يميل إلى أن يخالف السلطان فيس يؤتى أبو عبيد الله من ذلك، إلا أنه يميل إلى القدر بعض الميل؛ وليس يتسلق عليه بذلك أن يقول: هو متهم؛ ولكن هذا كله مجتمع لكفي ابن؛ قال: فتناول الربيع، فقبل بين عينيه، ثم دب لابن أبي عبيد الله؛ فوالله ما زال يحتال ويدس إلى المهدي ويتهمه ببعض حرم المهدي؛ حتى استحكم عند المهدي الظنة بمحمد بن أبي عبيد الله، فأمر فأحضر، وأخرج أبو عبيد الله. فقال: يا محمد اقرأ، فذهب ليقرأ، فاستعجم عليه القرآن، فقال: يا معاوية ألم تعلمني أن ابنك جامع للقرآن؟ قال: أخبرتك يا أمير المؤمنين، ولكن فارقني منذ سنين؛ وفي هذه المدة التي نأى فيها عني نسي القرآن، قال: قم فتقرب إلى الله في دمه، فذهب ليقوم فوقع، فقال العباس بن محمد: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تعفي الشيخ! قال: ففعل، وأمر به فأخرج، فضربت عنقه قال: فاتهمه المهدي في نفسه، فقال له الربيع: قتلت ابنه، وليس ينبغي أن يكون معك، ولا أن تثق به فأوحش المهدي، وكان الذي كان من أمره وبلغ الربيع ما أراد، واشتفى وزاد. وذكر محمد بن عبد الله يعقوب بن داود، قال: أخبرني أبي، قال: ضرب المهدي رجلًا من الأشعريين، فأوجعه، فتعصب أبو عبيد الله - وكان مولى لهم، فقال: القتل أحسن من هذا يا أمير المؤمنين، فقال له المهدي: يا يهودي، اخرج من عسكري لعنك الله. قال: مت أدري إلى أين أخرج إلا إلى النار! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أحر بهذا أن لمثلها يتوقع، قال: فقال لي: سبحان الله يا أبا عبيد الله! وفيها غزا الغمر بن العباس في البحر. وفيها ولى نصر بن محمد بن الأشعث السند مكان روح بن حاتم، وشخص إليها حتى قدمها ثم عزل، وولي مكانه محمد بن سليمان، فوجه إليها عبد الملك ابن شهاب المسمعي، فقدمها على نصر، فبغته، ثم أذن له في الشخوص، فشخص حتى نزل الساحل على ستة فراسخ من المنصورة؛ فأتى نصر بن محمد عهده على السند، فرجع إلى عمله؛ وقد كان عبد الملك أقام بها ثمانية عشر يوما، فلم يعرض له، فرجع إلى البصرة. وفيها استقضى المهدي عافية بن يزيد الأزدي؛ فكان هو وابن علاثة حبيب العدوي. وفيها عزل الفضل بن صالح عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الصمد ابن علي. وفيها استعمل عيسى بن لقمان على مصر وفيها ولي يزيد بن المنصور سواد الكوفة وحسان الشروي الموصل وبسطام ابن عمرو التغلبي أذربيجان. وفيها عزل أبا أيوب المسمى سليمان المكي عن ديوان الخراج، وولي مكانه أبو الزير عمر بن مطرف. وفيها توفي نصر بن مالك من فالج أصابه، ودفن في المقابر بني هاشم وصلى عليه المهدي. وفيها صرف أبان بن صدقة عن هارون بن المهدي إلى موسى، وجعله له كاتبًا ووزيرًا، وجعل مكانه مع هارون بن المهدي يحيى بن خالد بن برمك. وفيها عزل محمد بن سليمان أبا ضمر عن مصر في ذي الحجة المهدي وولاها سلمة بن رجاء. وحج بالناس في هذه السنة موسى بن محمد بن عبد الله الهادي، وهو ولى عهد أبيه. وكان عامل الطائف ومكة واليمامة فيها جعفر بن سليمان، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى سوادها يزيد بن المنصور. ثم دخلت سنة اثنتين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر مقتل عبد السلام الخارجي فمن ذلك ما كان من مقتل عبد السلام الخارجي بقنسرين. ذكر الخبر عن مقتله ذكر أن عبد السلام بن هاشم اليشكري هذا خرج بالجزيرة، وكثر بها أتباعه، واشتدت شوكته، فلقيه من قواد المهدي عدة، منهم عيسى بن موسى القائد، فقتله في عدة ممن معه، وهزم جماعة من القواد، فوجه إليه المهدي الجنود، فنكب غير واحد من القواد، منهم شبيب بنواج المروروذي، ثم ندب إلى شبيب ألف فارس، أعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، وألحقهم بشبيب فوافوه، فخرج شبيب في أثر عبد السلام، فهرب منهم حتى أتى قنسرين، فلحقه بها فقتله. وفيها وضع المهدي دواوين الأزمة، وولي عليها عمر بن بزيع مولاه، فولى عمر بن يزيع النعمان بن عثمان أبا حازم زمام خراج العراق. وفيها أمر المهدي أن يجري على المجذومين وأهل السجون في جميع الآفاق. وفيها ولى ثمامة بن الوليد العبسي الصائفة، فلم يتم ذلك. وفيها خرجت الروم إلى الحدث فهدموا سوارها. وغزا الصائفة الحسن بن قحطبة في ثلاثين ألف مرتزق سوى المطعة، فبلغ حمة أذرولية، فأكثر التخريب والتحريق في بلاد الروم نمن غير أن يفتح حصنًا، ويلقى جمعًا، وسمته الروم التنين. وقيل: إنه إنما أتى هذه الحمة الحسن ليستنقع قيها للوضح الذي كان به؛ ثم قفل بالناس سالمين. وكان على قضاء عسكره وما يجتمع من الفئ حفص بن عامر السلمي. قال: وفيها غزا يزيد بن أسيد السلمي من باب قاليقلا، فغنم وفتح ثلاثة حصون، وأصاب سبيا كثيرًا وأسرى. وفيها عزل علي بن سليمان عن اليمن، وولي مكانه عبد الله بن سليمان عن اليمن، وولى مكانه عبد الله بن سليمان. وفيها عزل سلمة بن رجاء عن مصر، ووليها عيسى بن لقمان، في المحرم، ثم عزل في جمادى الآخرة، ووليها واضح مولى المهدي، ثم في ذي القعدة ووليها يحيى الحرشي. وفيها ظهرت المحمرة بجرجان، عليهم رجل يقال له عبد القهار، فغلب على جلجان، وقتل بشرأً كثيرًا، فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان، فقتل عبد القهار وأصحابه. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن جعفر بن المنصور؛ وكان العباس ابن محمد استأذن المهدي في الحج بعد ذلك، فعاتبه على ألا يكون استأذنه قبل أن يولي الموسم أحدًا فيوليه إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، عمدًا أخرت ذلك لأني لم أرد الولاية. وكانت عمال الأمصار عمالها في السنة التي قبلها. ثم إن الجزيرة كانت في هذه السنة إلى عبد الصمد بن علي وطبرستان والرويان إلى سعيد بن دعلج، وجرجان إلى مهلهل بن صفوان. ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك ما كان فيها من هلاك المقنع؛ وذلك أن سعيدًا الحرشي حصر بكش، فاشتد عليه الحصار، فلما أحس بالهلكة شرب سما، وسقاه نساءه وأهله، فمات وماتوا - فيما ذكر - جميعًا، ودخل المسلمون قلعته واحتزوا رأسه، ووجهوا به إلى المهدي وهو بجلب. ذكر الخبر غزو الروم وفيها قطع المهدي البعوث للصائفة على جميع الأجناد من أهل خراسان وغيرهم، وخرج فعسكر بالبردان، وأقام به نحوًا من شهرين يتعبأ فيه ويتهيأ، ويعطي الجنود، وأخرج بها صلات لأهل بيته الذين شخصوا معه، فتوفي عيسى بن علي في آخر جمادى الآخرة ببغداد. وخرج المهدي من الغد إلى البردان متوجهًا إلى الصائفة، واستخلف ببغداد موسى بن المهدي، وكاتبه يومئذ أيان بن صدقة؛ وعلى خاتمه عبد الله بن علاثة، وعلى حرسة علي بن عيسى، وعلى شرطه عبد الله بن خازم؛ فذكر العباس بن محمد أن المهدي لما وجه الرشيد إلى الصائفة سنة ثلاث وستين ومائة خرج يشيعه وأنا معه؛ فلما حاذى قصر مسلمة، قلت: يا أمير المؤمنين، إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: يا بن عم هذان ألفان لدينك، وألفان لمعونتك، فإذا فقدت فلا تحتشمتا. فقاللما حدثته الحديث: أحضروا من ها هنا من ولد مسلمة ومواليه، فأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأمر أن تجرى عليهم الأرزاق، ثم قال: يا أبا الفضل، كافأنا مسلمة وقضينا حقه؟ قلت: نعم، وزدت يا أمير المؤمنين. وذكر إبراهيم بن زياد، عن الهيثم بن عدي، أن المهدي أغزى هارون الرشيد بلاد الروم، وضم إليه الربيع الحاجب والحسن بن قحطبة. قال محمد بن العباس: إني لقاعد في مجلس أبي في دار أمير المؤمنين وهو على الحرس؛ إذ جاء والحسن بن قحطبة، فسلم علي، وقعد على الفراش الذي يقعد أبي عليه، فسأل عنه فأعمته أنه راكب، فقال: يا حبيبي أعلمه أني جئت، وأبلغه السلام عني، وقل له: إن أحب أن يقول لأمير المؤمنين: يقول الحسن بن قحطبة: يا أمير المؤمنين؛ جعلني الله فداك! أغزيت هارون، وضممتني والربيع إليه، وأنا قريع قوادك، والربيع قريع مواليك، وليس تطيب نفسي بأن نخلي جميعًا بابك؛ فإما أغزيتني مع هارون وأقام الربيع، وإما أغزيت الربيع وأقمت ببابك. قال: فجاء أبي فأبلغته الرسالة، فدخل على المهدي فأعلمه، فقال: أحسن والله الاستعفاء؛ لا كما فعل الحجام ابن الحجام - يعني عامر بن إسماعيل - وكان استعفى من الخروج مع إبراهيم فغضب عليه، واستصفى ماله. وذكر عبد الله بن أحمد بن الوضاح، قال: سمعت جدي أبا بديل، قال: أغزى المهدي الرشيد، وأغزى معه موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح بن علي وموليي أبيه: الربيع الحاجب والحسن الحاجب؛ فلما فصل ودخلت عليه بعد يومين أو ثلاثة، فقال: ما خلفك عن ولي العهد، وعن أخويك خاصة؟ يعني الربيع والحسن الحاجب. قلت: أمر أمير المؤمنين ومقامي بمدينة السلام حتى يأذن لي. قال: فسر حتى تلحق به وبهما؛ واذكر ما تحتاج إليه. قال: قلت: ما أحتاج إلى شيء من العدة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في وداعه! فقال لي: متى تراك خارجًا؟ قال: قلت من غد، قال: فودعته وخرجت، فلحقت القوم. قال: فأقبلت أنظر إلى الرشيد يخرج، فيضرب بالصواجة، وانظر إلى موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ وهما يتضاحكان منه. قال: فصرت إلى الربيع والحسن - وكنا لا نفترق - قال فقلت: لا جزاكما الله عمن وجهكما ولا عمن وجهتما معه خيرًا؛ فقالا: إيه، وما الخبر؟ قال: قلت: موسى بن عيسى وعبد الملك بن صالح؛ يتضاحكان من ابن أمير المؤمنين، أوما كنتما تقدران أن تجعلا لهما مجلسًا يدخلان عليه فيه ولمن كان معه من القواد في الجمعة يدخلون عليه ويخلوه في سائر أيامه لما يريد! قال: فبينا نحن في ذلك المسير إذ بعثا إلي في الليل. قال: فجئت وعندهما رجل، فقالا لي: هذا غلام الغمر بن يزيد، وقد أصبنا معه كتاب الدولة. قال: ففتحت الكتاب، فنظرت فيه إلى سني المهدي فإذا هي عشر سنين. قال: فقلت ما في الأرض أعجب منكما! أتريان أن خبر هذا الغلام يخفى، وأن هذا الكتاب يستتر! قالا: كلا، قلت: فإذا كان أمير المؤمنين قد نقص من سنه ما نقص، أفلستم أول من نعى إليه نفسه! قال: فتبلدوا والله، وسقط في أيديهما، فقالا: فما الحيلة؟ قلت: يا غلام علي بعنبسة - يعني الوراق الأعرابي مولى آل أبي بديل - فأتى به، فقلت له: خط مثل هذا الخط، وورقة مثل هذه الورقة، وصير مكان عشر سنين أربعين سنة، وصيرها في الورقة، قال: فوالله لولا أني لولا أني رأيت العشر في تلك الأربعين في هذه ما شككت أن الخط ذلك الخط، وأن الورقة تلك الورقة. قال: ووجه المهدي خالد بن برمك مع الرشيد وهو ولي العهد حين وجهه لغزو الروم، وتوجه معه الحسن وسليمان ابنا برمك، ووجه معه على أمر العسكر ونفقاته وكتابته والقيام بأمره يحيى بن خالد - وكان أمر هارون كله إليه - وصير الربيع الحاجب مع هارون يغزو عن المهدي، وكان الذي بين الربيع ويحيى على حسب ذلك؛ وكان يشاورهما ويعمل برأيهما؛ ففتح الله عليهم فتوحًا كثيرة، وأبلاهم في ذلك الوجه بلاءً جميلًا، وكان لخالد في ذلك بسمالو أثر جميل لم يكن لأحد؛ وكان منجمهم يسمى البرمكي تبركًا به، ونظرًا إليه. قال: ولما ندب المهدي هارون الرشيد لما ندبه له من الغزو، أمر أن يدخل عليه كتاب أبناء الدعوة لينظر إليهم ويختار له منهم رجلًا. قال يحيى: فأدخلوني عليه معهم، فوقفوا بين يديه، ووقفت آخرهم، فقال لي: يا يحيى ادن، فدنوت، ثم قال لي: اجلس، فجلست فجثوت بين يديه، فقال لي: إني تصفحت أبناء شيعتي وأهل دولتي، واخترت منهم رجلًا لهارون ابني أضمه إليه ليقوم بأمر عسكره، ويتولى كتابته، فوقعت عليك خيرتي له، ورأيتك أولى به؛ إذ كنت مربيه وخاصته، وقد وليتك كتابته وأمر عسكره. قال: فشكرت ذلك له، وقبلت يده، وأمر لي بمائة ألف درهم معونةً على سفري، فوجهت في ذلك العسكر لما وجهت له. قال: وأوفد الربيع بن سليمان بن برمك إلى المهدي، وأوفد معه وفدًا، فأكرم المهدي وفادته وفضله، وأحسن إلى الوفد الذين كانوا معه، ثم انصرفوا من وجههم لذلك. عزل عبد الصمد بن علي عن الجزيرة وتولية زفر بن الحارث وفي هذه السنة؛ سنة مسير المهدي مع ابنه هارون، عزل المهدي عبد الصمد بن علي عن الجزيرة، وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي. ذكر السبب في عزله إياه ذكر أن المهدي سلك في سفرته هذه طريق الموصل، وعلى الجزيرة عبد الصمد بن علي، فلما شخص المهدي من الموصل، وصار بأرض الجزيرة، لم يتلقه عبد الصمد ولا هيأ له نزلًا، ولا أصلح له قناطر. فاضطغن ذلك عليه المهدي، فلما لقيه تجهمه وأظهر له جفاء، فبعث إليه عبد الصمد بألطاف لم يرضها، فردها عليه، وازداد عليه سخطًا، وأمر بأخذه بإقامة النزل له، فتعبث في ذلك، وتقنع، ولم يزل يربى ما يكرهه إلى أن نزل حصن مسلمة، فدعا به، وجرى بينهما كلام أغلظ له فيه القول المهدي، فرد عليه عبد الصمد ولم يحتمله، فأمر بحبسه وعزله عن الجزيرة، ولم يزل في حبسه في سفره ذلك وبعد أن رجع إلى أن رضي عنه. وأقام له العباس بن محمد النزل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بقتل المقنع، وبعث وهو بها عبد الجبار المحتسب لجلب من بتلك الناحية من الزنادقة. ففعل، وأتاه بهم وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتي بكتب من كتبهم فقطعت بالسكاكين ثم عرض بها جنده، وأمر بالرحلة، وأشخص جماعة من وافاه من أهل بيته مع ابنه هارون إلى الروم، وشيع المهدي ابنه هارون حتى قطع الدرب، وبلغ جيحان، وارتاد بها المدينة التي تسمى المهدية، وودع هارون على نهر جيحان. فسار هارون حتى نزل رستاقًا من رساتيق أرض الروم فيه قلعة، يقال لها سمالو، فأقام عليها ثمانيًا وثلاثين ليلة، وقد نصب عليها المجانيق، حتى فتحها الله بعد تخريبٍ لها، وعطش وجوع أصاب أهلها، وبعد قتل وجراحات كانت في المسلمين؛ وكان فتحها على شروط شرطوها لأنفسهم: لا يقتلوا ولا يرحلوا، ولا يفرق بينهم؛ فأعطوا ذلك، فنزلوا، ووفى لهم، وقفل هارون بالمسلمين سالمين إلا من كان أصيب منهم بها. وفي هذه السنة وفي سفرته هذه، صار المهدي إلى بيت المقدس، فصلى فيه، ومعه العباس بن محمد والفضل بن صالح وعلي بن سليمان وخاله يزيد بن المنصور. وفيها عزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين، فسأله يزيد بن منصور حتى رده عليها. وفيها ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله وأذربيجان وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك. وفيها عزل زفر بن عاصم عن الجزيرة، وولى مكانه عبد الله بن صالح بن علي، وكان المهدي نزل عليه في مسيره إلى بيت المقدس، فأعجب بما رأى من منزله بسلمية. وفيها عزل معاذ بن مسلم عن خراسان وولاها المسيب بن زهير. وفيها عزل يحيى الحرشى عن أصبهان، وولى مكانه الحكم بن سعيد. وفيها عزل سعيد بن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر بن العلاء. وفيها عزل مهلهل بن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بن سعيد. وحج بالناس في هذه السنة علي بن المهدي. وكان على اليمامة والمدينة ومكة والطائف فيها جعفر بن سليمان، وعلى الصلاة والأحداث بالكوفة إسحاق بن الصباح، وعلى قضائها شريك، وعلى البصرة وأعمالها وكور دجلة والبحرين وعمان والفرض وكور الأهواز وكور فارس محمد بن سليمان، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث. ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك غزوة عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحدث، فأقبل إليه ميخائيل البطريق - فيما ذكر - في نحو من تسعين ألفًا، فيهم طازاذ الأرمني البطريق، ففشل عنه عبد الكريم ومنع المسلمين من القتال وانصرف، فأراد المهدي ضرب عنقه، فكلم فيه فحبسه في المطبق. وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن أعماله، ووجه صالح بن داود على ما كان إلى محمد بن سليمان، ووجه معه عاصم بن موسى الخراساني الكاتب على الخراج وأمره بأخذ حماد بن موسى كاتب محمد بن سليمان وعبيد الله بن عمر خليفته وعماله وتكشيفهم. وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرًا من لبن، إلى أن أسس قصره الذي بالآجر: الذي سماه قصر السلامة؛ وكان تأسيسه إياه يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة. وفيها شخص المهدي حين أسس هذا القصر إلى الكوفة حاجًا، فأقام برصافة الكوفة أيامًا، ثم خرج متوجهًا إلى الحج، حتى انتهى إلى العقبة، فغلا عليه وعلى من معه الماء، وخاف ألا يحمله ومن معه ما بين أيديهم، وعرضت له مع ذلك حمى، فرجع من العقبة، وغضب على يقطين بسبب الماء؛ لأنه كان صاحب المصانع، واشتد على الناس العطش في منصرفهم وعلى ظهرهم حتى أشرفوا على الهلكة. وفيها توفي نصر بن محمد بن الأشعث بالسند. وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، ثم أمر بحبسه عند الربيع حين قدم، حتى أقر من المال والجواهر والعنبر ما أقر به، فرده إليه، واستعمل مكانه منصور بن يزيد بن منصور. وفيها وجه المهدي صالح بن أبي جعفر المنصور من العقبة عند انصرافه عنها إلى مكة ليحج بالناس. فأقام صالح للناس الحج في هذه السنة. وكان العامل على المدينة ومكة والطائف واليمامة فيها جعفر بن سليمان، وعلى اليمن منصور بن يزيد بن منصور، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها هاشم بن سعيد بن منصور، وعلى قضائها شريك بن عبد الله، وعلى صلاة البصرة وأحداثها وكور دجلة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس صالح بن داود بن علي، وعلى السند سطيح بن عمر، وعلى خراسان المسيب بن زهير، وعلى الموصل محمد بن الفضل. وعلى قضاء البصرة عبيد الله بن الحسن، وعلى مصر إبراهيم بن صالح، وإفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي، وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى أمير المؤمنين، وعلى الري خلف بن عبد الله، وعلى سجستان سعيد بن دعلج. ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث غزوة هارون بن المهدي الصائفة ببلاد الروم فمن ذلك غزوة هارون بن المهدي الصائفة، ووجهه أبوه - فيما ذكر - يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة غازيًا إلى بلاد الروم، وضم إليه الربيع مولاه، فوغل هارون في بلاد الروم، فافتتح ماجدة، ولقيته خيول نقيطا قومس القوامسة، فبادره يزيد بن مزيد، فأرجل يزيد، ثم سقط نقيطا، فضربه يزيد حتى أثخنه، وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم. وسار إلى الدمستق بنقمودية وهو صاحب المسالح، وسار هارون في خمسة وتسعين ألفًا وسبع مائة وثلاثة وتسعين رجلًا، وحمل لهم من العين مائة ألف دينار وأربعة وتسعين ألفًا وأربع مائة وخمسين دينارًا، ومن الورق أحدًا وعشرين ألف ألف وأربع مائة ألف وأربعة عشر ألفًا وثمانمائة درهم. وسار هارون حتى بلغ خليج البحر الذي على القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذ أغسطه امرأة أليون؛ وذلك أن ابنها كان صغيرًا قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرت بينهما وبين هارون بن المهدي الرسل والسفراء في طلب الصلح والموادعة وإعطائه الفدية، فقبل ذلك منها هارون، وشرط عليها الوفاء بما أعطت له، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في طريقه؛ وذلك أنه دخل مدخلًا صعبًا مخوفًا على المسلمين، فأجابته إلى ما سأل، والذي وقع عليه الصلح بينه وبينها تسعون أو سبعون ألف دينار، تؤديها في نيسان الأول في كل سنة، وفي حزيران، فقبل ذلك منها، فأقامت له الأسواق في منصرفه، ووجهت معه رسولًا إلى المهدي بما بذلك على أن تؤدي ما تيسر من الذهب والفضة والعرض، وكتبوا كتاب الهدنة إلى ثلاث سنين، وسلمت الأسارى. وكان الذي أفاء على هارون إلى أن أذعنت الروم بالجزية خمسة آلاف رأس وستمائة وثلاثة وأربعين رأسًا، وقتل من الروم في الوقائع أربعة وخمسون ألفًا، وقتل من الأسارى صبرًا ألفان وتسعون أسيرًا. ومما أفاء الله عليه من الدواب الذلل بأدراتها عشرون ألف دابة، وذبح من البقر والغنم مائة ألف رأس. وكانت المرتزقة سوى المطوعة وأهل الأسواق مائة ألف، وبيع البرذون بدرهم، والبغل بأقل من عشرة دراهم، والدرع بأقل من درهم وعشرين سيفًا بدرهم، فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك: أطفئت بقسطنطينية الروم مسندًا ** إليها القنا حتى اكتسى الذل سورها وما رمتها حتى أتتك ملوكها ** بجزيتها، والحرب تغلي قدورها وفيها عزل خلف بن عبد الله عن الري، وولاها عيسى مولى جعفر. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن أبي جعفر المنصور. وكانت عمال الأمصار في هذه السنة هم عمالها في السنة الماضية؛ غير أن العامل على أحداث البصرة والصلاة بأهلها كان روح بن حاتم، وعلى كور دجلة والبحرين وعمان وكسكر وكور الأهواز وفارس وكرمان كان المعلى مولى أمير المؤمنين المهدي، وعلى السند الليث مولى المهدي. ثم دخلت سنة ست وستين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك قفول هارون بن المهدي؛ ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، وذلك - فيما قيل - أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية وألفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزي. وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بن المهدي، وسماه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بن طليق بن عمران بن حصين خزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه. وفيها عزل جعفر بن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل. وفيها سخط المهدي على يعقوب بن داود. ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب ذكر علي بن محمد النوفلي قال: سمعت أبي يذكر، قال: كان داود بن طهمان - وهو أبو يعقوب بن داود - وإخوته كتابًا لنصر بن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان؛ فلما كانت أيام يحيى بن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم؛ فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من أصحاب نصر، أتاه داود بن طهمان مطمئنًا لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثًا بمرو، فلما فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر؛ فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها. فكان يعقوب يجول البلاد منفردًا بنفسه، ومع إبراهيم بن عبد الله أحيانًا، في طلب البيعة لمحمد بن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بن عبد الله كتب علي بن داود - وكان أسن من يعقوب - لإبراهيم بن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم؛ فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعليًا فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما. وكان معهما في المطبق إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن - وكانا لا يفارقانه - وإخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك صداقة. وكان إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالح بني هاشم جميعًا، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله ﷺ لا تصلح إلا في بني هاشم؛ وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم؛ وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب؛ وكان هو ويعقوب بن داود يتجاريان ذلك؛ فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن بن إبراهيم بن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يومًا: لو وجدت رجلًا من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بن زيد، وله فقه فأجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بن زيد! فدل على يعقوب بن داود، فأتى به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة وكرابيس وكساء أبيض غليظ. فكلمه وفاتحه، فوجده رجلًا كاملًا، فسأله عن عيسى بن زيد؛ فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك؛ إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما كانت للسعاية بآل علي. ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة؛ فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بن برد: بني أمية هبوا طال نومكم ** إن الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا ** خلبفة الله بين الدف والعود قال: فحسده موالي المهدي، فسعوا عليه. ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بن إبراهيم بن الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة. قال: ولما علم آل الحسن بن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه؛ وقد كاتبهم؛ وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بن الفضل؛ فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه. قال علي بن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائمًا على رأسه يومًا يذب عنه إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلًا يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت رجلًا يصلح لذلك. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمك إسحاق بن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير، فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قال: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قال: ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه. وقال موسى بن إبراهيم المسعودي: قال المهدي: وصف لي يعقوب بن داود في منامي، فقيل لي أن أتخذه وزيرًا. فلما رآه، قال: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيرًا، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حينًا حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه - وكان حظيًا عنده - فقال له: إن أحمد بن إسماعيل بن علي، قال لي: قد بنى متنزهًا أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسي أحمد بن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بن داود، فبينا يعقوب بين يديه لببه، فضرب به الأرض، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين! قال: ألست القائل: إني أنفقت على متنزه خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون؛ فكان هذا أول سبب أمره. قال: كان يعقوب بن داود قد عرف عن المهدي خلعًا واستهتارًا بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بن داود يصف من نفسه في ذلك شيئًا كثيرًا، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلًا فيقولون: هو على أن يصبح فيثور بيعقوب؛ فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيرًا! فيقول: نعم فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثًا، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه. قال: وقال لي الموصلي: قال يعقوب بن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بن يعقوب بن داود عن أبيه، قال: بعث إلي المهدي يومًا فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئًا أحسن منه؛ وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قوامًا، ولا أحسن اعتدالًا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك. فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال: هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به. قال: فدعوت له بما يجب. قال: ثم قال: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قال: فوثبت قائمًا ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قال: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قال: والله - قلت والله ثلاثًا - قال: وحياة رأسي! قلت: وحياة رأسك، قال: فضع يدك عليه واحلف به، قال: فوضعت يدي عليه، وحلفتله به لأعلمنبما قال، ولآقضين حاجته. قال: فلما استوثق مني في نفسه، قال: هذا فلان بن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك. قال: قلت: أفعل، قال فخذه إليك، فحولتهإ لي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم. قال: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة. قال: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قال: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟ قال: إن فعلت خيرًا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار. قال: فقلت له أي الطريق أحب إليك؟ قال: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قال: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحبًا في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا - الذي اتفقوا عليه - في وقت كذا وكذا من الليل؛ وإذا الجارية قد حفظت علي قولي؛ فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك؛ صنع وفعل كذا وكذا؛ حتى ساقت الحديث كله. قال: وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث أن جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، وعلى السجية التي حكتها الجارية. قال: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني - قال: وكنت خالي الذرع غير ملق إلى أمر العلوي بالًا حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة - فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قال: مات؟ قلت: نعم، قال: والله، ثم قال: قم فضع يدك على رأسي؛ قال فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به. قال: فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قال: ففتح بابه عن العلوي وصاحبيه والمال بعينه. قال: فبقيت متحيرًا، وسقط في يدي، وامتنع مني الكلام، فما أدري ما أقول! فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق؛ ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري؛ حتى استرسل كهيئة شعور البهائم. قال: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث أيت هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قال: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قال: رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قال: نعم؛ قلت: ما أشك في وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قال: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قال: قلت: المقام بمكة، قال: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قال: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولا بلاغ، قال: فراشدًا. قال: فخرجت فكان وجهي إلى مكة. قال ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات. قال محمد بن عبد الله: قال لي أبي: قال يعقوب بن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ إلا تحرجًا؛ ولكنه كان لا يشتهيه؛ وكان أصحابه عمر بن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قال: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك؛ أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قال: كان يقول: قد سمع عبد الله بن جعفر، قال: قلت: ليس هذا من حسناته؛ لو أن رجلًا سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعدًا! وقال محمد بن عبد الله: حدثني أبي قال: كان أبي يعقوب بن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه؛ وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه؛ واستقبل وقدم النية في تركه موضعه. قال: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين؛ والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلي مما أنا فيه؛ وإني لأركب إليك فأتمنى يدًا خاطئة تصيبني في الطريق، فاعفني وول غيري من شئت؛ فإني أحب أن أسلم عليك أنا وولدي؛ ووالله إني لأتفزع في النوم؛ وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضًا من آخرتي. قال: فكان يقول لي: اللهم غفرًا! اللهم أصلح قلبه، قال: فقال شاعر له: فدع عنك يعقوب بن داود جانبًا ** وأقبل على صهباء طيبة النشر قال عبد الله بن عمر: وحدثني جعفر بن أحمد بن زيد العلوي، قال: قال بن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بن داود جاريةً، وكان بضعف، قال: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الأرض مطية أوطأ منها حاشا سامع. فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه. وقال علي بن محمد النوفلي: حدثني أبي، قال: كان يعقوب بن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلًا يحادثه ويسامره؛ فبينا هو ليلة عنده؛ وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي؛ وهو الأزرق الخفيف؛ وكان الطيلسان قد دق دقًا شديدًا فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب فاستدبره فضربه ضربةً على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافيًا؛ فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غدًا عليه المهدي مع الفجر؛ وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أيامًا ثلاثةً متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله؛ فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأتي عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في أصحابه: لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه. ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن بصر. قال النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر ان يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم. وقال علي بن محمد: لما حبس يعقوب بن داود وأهل بيته، وتفرق عماله واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلًا وإلى يعقوب، فأتى به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت؛ وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قال: وتكذبني وترد على قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطًا ضربًا مبرحًا، وأمربه فرد إلى الحبس. قال: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه. وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وأبوك الباقي بعد رسول الله ﷺ ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر؛ وأنت في البستان وأنا عندك؛ إذ دخل أبو الوزير - قال علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بن داود على ابنة صالح بن داود - فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟ قال: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكثت محبوسًا أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه. وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم. وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم. وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينة الرسول ﷺ وبين مكة واليمن؛ بغالًا وإبلًا؛ ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك. وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير، فولاها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج بأمر المهدي. وفيها أخذ داود بن روح بن حاتم وإسماعيل بن سليمان بن مجالد ومحمد بن أبي أيوب المكي ومحمد بن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلي سبيلهم، وبعث بداود بن روح إلى أبيه روح؛ وهو يومئذ بالبصرة عاملًا عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه. وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بن أبي عبيد الله الوزير - وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام - وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بزندقة. وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل. وفيها ولي إبراهيم بن يحيى بن محمد على المدينة؛ مدينة رسول الله ﷺ، على الطائف ومكة عبيد الله بن قثم. وفيها عزل المنصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان الربعي. وفيها خلى المهدي عبد الصمد بن علي من حسبه الذي كان فيه. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد. وكان عامل الكوفة من هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى قضائها خالد بن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى نصر إبراهيم بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي. وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين. ولم يكن في هذه السنة صائفة؛ للهدنة التي كانت فيها. ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة ذكر الأحداث التي كانت فيها فمن ذلك ما كان من توجيه المهدي ابنه موسى في جمع كثيف من الجند، وجهاز لم يجهز - فيما ذكر - أحد بمثله إلى جرجان لحرب ونداهرمز وشروين صاحبي طبرستان، وجعل المهدي حين جهز موسى إليها إبان بن صدقة على رسائله، ومحمد بن جميل على جنده، ونفيعًا مولى المنصور على حجابته، وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه، وعبد الله بن خازم على شرطه؛ فوجه موسى الجنود إلى وانداهرمز وشيروين، وأمر عليهم يزيد مزيد فحاصرهما. وفيها توفي عيسى بن موسى بالكوفة، وولى الكوفة يومئذ روح بن حاتم، فأشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ثم دفن. وقيل إن عيسى بن موسى توفي وروح على الكوفة، لثلاث بقين من ذي الحجة، فحضر روح جنازته، فقيل له: تقدم فأنت الأمير، فقال: ما كان الله ليرى روحًا يصلي على عيسى بن موسى؛ فليتقدم أكبر ولده، فأبوا عليه وأبى عليهم، فتقدم العباس بن عيسى، فصلى على أبيه. وبلغ ذلك المهدي فغضب على روح، وكتب إليه: قد بلغني ما كان من نكوصك عن الصلاة على عيسى؛ أبنفسك، أم بأبيك، أم بجدك كنت تصلي عليه! أوليس إنما ذلك مقامي لو حضرت. فإذ غبت كنت أنت أولى به لموضعك من السلطان! وأمر بمحاسبته؛ وكان يلي الخراج مع الصلاة والأحداث. وتوفي عيسى والمهدي واجد عليه وعلى ولده؛ وكان يكره التقدم عليه لجلالته. وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم عمر الكلواذي، فأخذ يزيد بن الفيض كاتب المنصور، فأقر - فيما ذكر - فحبس، فهرب من الحبس، فلم يقدر عليه. وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل، وولاه الربيع الحاجب، فاستخلف عليه سعيد بن واقد؛ وكان أبو عبيد الله يدخل على مرتبته. وفيها فشا الموت، وسعال شديد ووباء شديد ببغداد والبصرة. وفيها توفي أبان بن صدقة بجرجان، وهو كاتب موسى على رسائله، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول يزيد خليفة أبي عبيد الله. وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام؛ فدخلت فيه دور كثيرة. وولى بناء ما زيد فيه يقطين بن موسى، فكان في بنائه إلى أن توفي المهدي. وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان؛ وما كان إليه من تلك الناحية، ووليها عمر بن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي، وعزل عنها يحيى الحرشي. وفيها أظلمت الدنيا لليالٍ بقين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار. ولم يكن فيها صائفة، للهدنة التي كانت بين المسلمين والروم. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن يحيى بن محمد وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج وقدومه المدينة بأيام، وولي مكانه إسحاق بن عيسى بن علي. وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي بعيساباذ، وهو في دار عمر بن بزيغ، اغتاله رجل، فطعنه بخنجر، فمات فيها. وكان العامل على مكة والطائف فيها عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن سليمان بن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها روح بن حاتم، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وعمان وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى المهدي. وعلى خراسان وسجستان الفضل بن سليمان الطوسي. وعلى مصر موسى بن مصعب. وعلى أفريقية موسى بن حاتم. وعلى طبرستان والرويان عمر بن العلاء، وعلى حرجان ودنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين. ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من نقض الروم الصلح الذي جرى بينهم وبين هارون بن المهدي الذي ذكرناه قبل وغدرهم؛ وذلك في شهر رمضان من هذه السنة؛ فكان بين أول الصلح وغدر الروم ونكثهم به اثنان وثلاثون شهرًا، فوجه علي بن سليمان وهو يومئذٍ على الجزيرة وقنسرين يزيد بن بدر بن البطال في سرية إلى الروم فغنموا وظفروا. وفيها وجه المهدي سعيدًا الحرشي إلى طبرستان في أربعين ألف رجل. وفيها مات عمر الكلواذي صاحب الزنادقة. وولى مكانه حمدويه، وهو محمد بن عيسى من أهل ميسان. وفيها قتل المهدي الزنادقة ببغداد. وفيها رد المهدي ديوانه وديوان أهل بيته إلى المدينة ونقله من دمشق إليها. وفيها خرج المهدي إلى نهر الصلة أسفل واسط - وإنما سمي نهر الصلة فيما ذكر لأنه أراد أن يقطع أهل بيته وغيرهم غلته؛ يصلهم بذلك. وفيها ولي المهدي علي بن يقطين ديوان زمام الأزمة علي عمر بن بزيع. وذكر أحمد بن موسى بن حمزة، عن أبيه، قال: أول من عمل ديوان الزمام عمر بن بزيع في خلافة المهدي؛ وذلك أنه لما جمعت له الدواوين تفكر؛ فإذا هو لا يضبطها إلا بزمام يكون على كل ديوان؛ فاتخذ دواوين الأزمة، وولي كل ديوان رجلًا، فكان واليه على زمام ديوان الخراج إسماعيل ابن صبيح؛ ولم يكن لبني أميه دواوين أزمة. وحج بالناس في هذه السنة علي بن محمد المهدي الذي يقال له ابن رليطه. ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها ذكر الخبر عن خروج المهدي إلى ماسبذان فمما كان فيها من ذلك خروج المهدي في المحرم إلى ماسبذان. ذكر الخبر عن خروجه إليها ذكر أن المهدي كان في آخر أمره قد عزم على تقديم هارون ابنه على ابنه موسى الهادي، وبعث إليه وهو بجرجان بعض أهل بيته ليقطع أمر البيعة، ويقدم الرشيد فلم يفعل، فبعث إليه المهدي بعض الموالي، فامتنع عليه موسى من القدوم، وضرب الرسول، فخرج المهدي بسبب موسى وهو يريده بجرجان فأصابه ما أصابه. وذكر الباهلي أن أبا شاكر أخبره - وكان من كتاب المهدي على بعض دواوينه - قال: سأل علي بن يقطين المهدي أن يتغذى عنده، فوعده أن يفعل، ثم إعتزم على إتيان ماسبذان؛ فوالله لقد أمر بالرحيل كأنه يساق إليها سوقًا، فقال له علي: يا أمير المؤمنين؛ إنك قد وعدتني أن تتغذى عندي غدًا، قال: فاحمل غداءك إلى النهروان. قال: فحمله فتغدى بالنهروان، ثم انطلق. وفيها توفي المهدي. ذكر الخبر عن موت المهدي ذكر الخبر عن سبب وفاته اختلف في ذلك، فذكر عن واضح قهرمان المهدي، قال: خرج المهدي يتصيد بقرية يقال لها الرذ بماسبذان، فلم أزل معه إلى بعد العصر، وانصرفت إلى مضربي - وكان بعيدا من مضربه - فلما كان في السحر الأكبر ركبت لإقامة الوظائف، فإني لأسير في برية، وقد انفردت عمن كان معي من غلماني وأصحابي؛ إذ لقيني أسود عريان على قتد رحل، فدنا مني؛ ثم قال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فهممت أن أعلوه بالسوط، فغاب من بين يدي؛ فلما انتهيت إلى الرواق لقيني مسرور، فقال لي: أبا سهل، عظم الله أجرك في مولاك أمير المؤمنين! فدخلت فإذا أنابه مسجى في قبة، فقلت: فارقتكم بعد العصر؛ وهو أسر ما كان حالًا وأصحه بدنًا، فما كان الخبر؟ قال: طردت الكلاب ظبيًا، فلم يزل يتبعها، فاقتحم الظبي باب خربة، فاقتحمت الكلاب خلفه، واقتحم الفرس خلف الكلاب، فدق ظهره في باب الخربة، فمات من ساعته. وذكر أن علي بن أبي نعيم الروزي، قال: بعثت جارية من جواري المهدي إلى ضرة لها بلبأ فيه سم؛ وهو قاعد في البستان، بعد خروجه من عيساباذ، فدعا به فأكل منه، ففرقت الجارية أن تقول له إنه مسموم. وحدثني أحمد بن محمد الرازي، أن المهدي كان جالسًا في علية في قصر بماسبذان، ويشرف من منظرة فيها على سفله، وكانت جاريته حسنة، قد عمدت إلى كمثراتين كبيرتين، فجعلتهما في صينية، وسمت واحدة منهما وهي أحسنهما وأنضجهما في أسفلها، وردت القمع فيها، ووضعتها في أعلى الصينية - وكان المهدي يعجبه الكمثرى - وأرسلت بذلك مع وصيفة لها إلى جارية للمهدي - وكان يتخطاها - تريد بذلك قتلها، فمرت الوصيفة بالصينية التي فيها تلك الكمثرى، تريد دفعها إلى الجارية التي أرسلتها حسنة إليها، بحيث يراها المهدي من المنظرة، فلما رأى ورأى معها الكمثرى؛ دعا بها، فمد يده إلى الكمثراة التي في أعلى الصينية وهي المسمومة، فأكلها، فلما وصلت إلى جوفه صرخ: جوفي! وسمعت حسنة الصوت، وأخبرت الخبر، فجاءت تلطم وجهها وتبكي، وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك يا سيدي! فهلك من يومه. وذكر عن عبد الله بن إسماعيل صاحب المراكب، قال: لما صرنا إلى ماسبذان دنوت إلى عنانه، فأمسكت به وما به علة،؛ فوالله ما أصبح إلا ميتًا، فرأيت حسنة وقد رجعت؛ وإن على قبتها المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك: رحن في الوشي وأصبح ** ن عليهن المسوح كل نطاح من الده ** ر له يوم نطوح لست بالباقي ولو عم ** رت ما عمر نوح فعلى نفسك نح إن ** كنت لابد تنوح وذكر صالح أن علي بن يقطين، قال: كنا مع المهدي بماسبذان فأصبح يومًا فقال: إني أصبحت جائعًا، فأتى بأرغفة ولحم بارد مطبوخ بالخل، فأكل منه ثم قال: إني داخل إلى البهو ونائم فيه، فلا تنبهوني حتى أكون أنا الذي أنتبه، ودخل البهو فنام، ونمنا نحن في الدار في الرواق؛ فانتبهنا ببكائه؛ فقمنا إليه مسرعين، فقال: أما رأيتم ما رأيت؟ قلنا: ما رأينا شيئًا، قال: وقف على الباب رجل، لو كان في ألف أو في مائة ألف رجل ما خفي علي، فأنشد يقول: كأني بهذا القصر قد باد أهله ** وأوحش منه ربعه ومنازله وصار عميد القوم من بعد بهجةٍ ** وملكٍ إلى قبر عليه جنادله فلم يبق إلا ذكره وحديثه ** تنادي عليه معولاتٍ حلائله قال: فما أتت عليه عاشرة حتى مات. وكانت وفاته - فيما قال أبو معشر الواقدي - في سنة تسع وستين ومائة، ليلة الخميس لثمان بقين من المحرم؛ وكانت خلافته عشر سنين وشهرًا ونصف شهر. وقال بعضهم: وكانت خلافته عشر سنين وتسعة وأربعين يومًا؛ وتوفي وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. وقال هشام بن محمد: ملك أبو عبد الله المهدي محمد بن عبد الله سنة ثمان وخمسين ومائة، في ذي الحجة لست ليالٍ خلون منه؛ فملك عشر سنين وشهرًا واثنين وعشرين يومًا، ثم توفي سنة تسع وستين ومائة، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة. ذكر الخبر عن الموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ذكر أن المهدي توفي بقرية من قرى ماسبذان، يقال لها الرذ؛ وفي ذلك يقول بكار بن رباح: ألا رحمة الرحمن في كل ساعةٍ ** على رمةٍ رمت بماسبذان لقد غيب القبر الذي تم سوددا ** وكفين بالمعروف تبتدران وصلى عليه ابنه هارون؛ ولم توجد له جنازة يحمل عليها، فحمل على باب، ودفن تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها. وكان طويلًا مضمر الخلق، جعدًا. واختلف في لونه، فقال بعضهم: كان أسمر، وقال بعضهم: كان أبيض. وكان في عينه اليمنى - في قول بعضهم - نكتة بياض. وقال بعضهم: كان ذلك بعينه اليسرى. وكان ولد بإيذج. ذكر بعض سير المهدي وأخباره ذكر عن هارون بن أبي عبيد الله، قال: كان المهدي إذا جلس للمظالم، قال: أدخلوا علي القضاة؛ فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى. وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: حدثني علي بن صالح، قال: جلس المهدي ذات يوم يعطي جوائز تقسم بحضرته في خاصته ومن أهل بيته والقواد، وكان يقرأ عليه الأسماء، فيأمر بالزيادة؛ العشرة الآف والعشرين الألف، وما أشبه ذلك، فعرض عليه بعض القواد، فقال: يحط هذا خمسمائة، قال: لم حططتني يا أمير المؤمنين؟ قال: لأني وجهتك إلى عدو لنا فانهزمت. قال: كان يسرك أن أقتل؟ قال: لا، قال: فوالذي أكرمك بما أكرمك به من الخلافة لو ثبت لقتلت، فاستحيا المهدي منه، وقال: زده خمسة آلاف. قال الحسن: وحدثني علي بن صالح، قال: غضب المهدي على بعض القواد - وكان عتب عليه غير مرة - فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟ قال: إلى أبدٍ نسيء، ويبقيك الله فتعفو عنا؛ فكررها عليه مرات، فاستحيا منه ورضي عنه. وذكر محمد بن عمر، عن حفص مولى مزينة، عن أبيه، قال: كان هشام الكلبي صديقًا لي، فكنا نتلاقى فنتحدث ونتناشد؛ فكنت أراه في حالٍ رثة وفي أخلاق على بغلة هزيل، والضر فيه بين وعلى بغلته؛ فما راعني إلا وقد لقيني يومًا على بغلة شقراء من بغال الخلافة، وسرج ولجام من سروج الخلافة ولجمها، في ثياب جياد ورائحة طيبة، فأظهرت السرور، ثم قلت له: أرى نعمة ظاهرةً، قال لي: نعم، أخبرك عنها، فاكتم؛ فبينما وأنا في منزلي منذ أيام بين الظهر والعصر؛ إذ أتاني رسول المهدي فسرت إليه، ودخلت عليه وهو جالس خالٍ ليس عنده أحد؛ وبين يديه كتاب، فقال: ادن يا هشام، فدنوت فجلست بين يديه، فقال: خذ هذا الكتاب فاقرأه. ولا يمنعك ما فيه مما تستفظعه أن تقرأه. قال: فنظرت في الكتاب؛ فلما قرأت بعضه استفظعته، فألقيته من يدي، ولعنت كاتبه، فقال لي: قد قلت لك إن استفظعته فلا تلقه؛ اقرأه بحقي عليك حتى تأتي على آخره! قال: فقرأته فإذا كتاب قد ثلبه فيه كاتبه ثلبًا عجيبا، لم يبق له فيه شيئًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، من هذا الملعون الكذاب؟ قال: هذا صاحب الأندلس، قال: قلت: فالثلب والله يا أمير المؤمنين فيه وفي آبائه وفي أمهاته. قال: ثم اندرأت أذكر مثالبهم، قال: فسر بذلك، وقال: أقسمت عليك لما أمللت مثالبهم كلها على كاتب. قال: ودعا بكاتب من كتاب السر، فأمره فجلس ناحية، وأمرني فصرت إليه، فصدر الكتاب من المهدي جوابًا، وأمللت عليه مثالبهم فأكثرت؛ فلم أبق شيئًا حتى فرغت من الكتاب، ثم عرضته عليه، فأظهر السرور، ثم لم أبرح حتى أمر بالكتاب فختم وجعل في خريطة، ودفع إلى صاحب البريد، وأمر بتعجيله إلى الأندلس. قال: ثم دعا بمنديل فيه عشرة أثواب من جياد الثياب وعشرة آلاف درهم، وهذه البغلة بسرجها ولجامها، فأعطاني ذلك، وقال لي: اكتم ما سمعت. قال الحسن: وحدثني مسور بن مساور، قال: ظلمني وكيل للمهدي، وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلامًا صاحب المظالم، فتظلمت منه وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي، وعنه عمه العباس بن محمد وابن علاثة وعافية القاضي. قال: قال المهدي: ادنه، فدنوت، فقال: ما تقول؟ قلت: ظلمني، قال: فترضى بأحد هذين؟ قال: قلت: نعم، قال: فادن مني، فدنوت حتى التزقت بالفراش، قال: تكلم، قلت: أصلح الله القاضي! إنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي، قال: قلت: أصلح الله القاضي! سله صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها؟ قال: فسأله: ماتقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إلي بعد الخلافة. قال: فأطلقها له، قال: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا أمير المؤمنين لذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم. قال: وحدثني عبد الله بن الربيع، قال: سمعت مجاهدًا الشاعر يقول: خرج المهدي متنزهًا، ومعه عمر بن بزيع مولاه، قال: فانقطعنا عن العسكر، والناس في الصيد، فأصاب المهدي جوع، فقال: ويحك! هل من شيء؟ قال: ما من شيء، قال: أرى كوخًا وأظنها مبقلة، فقصدنا قصده، فإذا نبطي في كوخ ومبقلة، فسلمنا عليه، فرد السلام، فقلنا له: هل عندك شيء نأكل؟ قال: نعم عندي ربيثاء وخبز شعير، فقال المهدي: إن كان عندك زيت فقد أكملت، قال: نعم، قال: وكراث؟ قال: نعم، ماشئت وتمر. قال: فعدا نحو المبقلة، فأتاهم ببقل وكراث وبصل، فأكلا أكلًا كثيرًا، وشبعًا، فقال المهدي لعمر بن بزيع: قل في هذا شعرًا، فقال: إن من يطعم الربيثاء بالزي ** ت وخبز الشعير بالكراث لحقيق بصفعة أو بثنتي ** ن لسوء الصنيع أو بثلاث فقال المهدي: بئس ما قلت، ليس هكذا** لحقيق ببدرة أو بثنتي ** ن لحسن الصنيع أو بثلاث قال: ووافى العسكر والخزائن والخدم فأمر للنبطي بثلاث بدر وانصرف. وذكر محمد بن عبد الله، قال: أخبرني أبو غانم، قال: كان زيد الهلالي رجلًا شريفًا سخيًا مشهورًا من بني هلال؛ وكان نقش خاتمه: " افلح يا زيد من زكا عمله ". فبلغ ذلك المهدي، فقال زيد الهلالي: زيد الهلالي نقش خاتمه ** أفلح يا زيد من زكا عمله قال: وقال حسن الوصيف: أصابتنا ريح في أيام المهدي حتى ظننا أنها تسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب أمير المؤمنين، فوجدته واضعًا خده على الأرض، يقول: اللهم احفظ محمدًا في أمته، اللهم لا تشمت بنا أعدائنا من الأمم، اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك؛ قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتى انكشفت الريح وانجلى ما كنا فيه. وقال الموصلي: قال عبد الصمد بن علي: قلت للمهدي: يا أمير المؤمنين، إنا أهل بيت قد أشرب قلوبنا حب موالينا وتقديمهم؛ وإنك قد صنعت من ذلك ما أفرطت فيه؛ قد وليتهم أمورك كلها، وخصصتهم في ليلك ونهارك، ولا آمن تغيير قلوب جندك وقوادك من أهل خراسان، قال: يا أبا محمد، إن الموالي يستحقون ذلك؛ وليس أحد يجتمع لي فيه أن أجلس للعامة فأدعو به فأرفعه حتى تحك ركبته ركبتي، ثم يقوم من ذلك المجلس، فأستكفيه سياسة دابتي، فيكفيها، لا يرفع نفسه عن ذلك إلا موالي هؤلاء، فإنهم لا يتعاظمهم ذلك؛ ولو أردت هذا من غيرهم لقال: ابن دولتك والمتقدم في دعوتك، وأين من سبق إلى بيعتك، لا أدفعه عن ذلك. قال علي بن محمد: قال الفضل بن الربيع: قال المهدي لعبد الله بن مالك: صارع مولاي هذا، فصارعه؛ فأخذ بعنقه، فقال المهدي: شد، فلما رأى ذلك عبد الله أخذ برجله فسقط على رأسه فصرعه. فقال عبد الله للمهدي: يا أمير المؤمنين، قمت من عندك وأنا أحب الناس إليك، فلم تزل علي مع مولاك. قال: أما سمعت قول الشاعر: ومولاك لا يهضم لديك فإنما ** هضيمة مولى القوم جدع المناخر قال أبو الخطاب: لما حضرت القاسم بن مجاشع التيمي - من أهل مرو بقرية يقال لها باران - الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألو العلم قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام ** "، إلى آخر الآية. ثم كتب: والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ﷺ ووارث الإمامة بعده. قال: فعرضت الوصية على المهدي، فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها. قال أبو الخطاب: فلم يزل في قلب أبي عبيد الله الوزير؛ فلما حضرته الوفاة كتب في وصيته هذه الآية. قال: وقال الهيثم بن عدي: دخل على المهدي رجل، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن المنصور شتمني وقذف أمي؛ فإما أمرتني أن أحله؛ وإلا عوضتني واستغفرت الله له. قال: ولم شتمك؟ قال: شتمت عدوه بحضرته؛ فغضب، قال: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قال: إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، قال: إن إبراهيم أمس به رحمًا وأوجب عليه حقًا، فإن كان شتمك كما زعمت، فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع؛ وما أساء من انتصر لابن عمه. قال: إنه كان عدوًا له، قال: فلم ينتصر للعداوة؛ وإنما انتصر للرحم؛ فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي، قال: لعلك أردت أمرًا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى! قال: نعم، قال: فتبسم وأمر له بخمسة آلاف درهم. قال: وأتى المهدي برجل قد تنبأ، فلما رآه، قال: أنت نبي؟ قال: نعم، قال: وإلى من بعثت؟ قال: وتركتموني أذهب إلى من بعثت إليه! وجهت بالغداة فأخذتموني بالعشي، ووضعتموني في الحبس! قال: فضحك المهدي منه، وخلى سبيله. وذكر أبو الأشعث الكندي، قال: حدثني بن عبد الله، قال: قال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة؛ فما أدري أهو أحسن، أم البهو، أم ثيابه! قال: فقرأ هذه الآية: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم "، قال: فتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلت: من موسى؟ ابنه موسى، أو موسى بن جعفر، وكان محبوسًا عندي! قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلاموسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع صلاته، وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم "، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي. قال: فقال: نعم، فوثق له وخلاه. وذكر إبراهيم بن أبي علي، قال: سمعت سليمان بن داود، يقول: سمعت المهدي يحدثنا في محراب المسجد على اللحن اليتيم: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت "، في سورة النساء. وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: حدثني أبي، قال: حضرت المهدي وقد جلس للمظالم؛ فتقدم إليه رجل من آل الزبير؛ فذكر ضيعة اصطفاها عن أبيه بعض ملوك بني أميه، ولا أدري: الوليد، أم سليمان! فأمر أبا عبيد الله أن يخرج ذكرها من الديوان العتيق، ففعل، فقرأ ذكرها على المهدي؛ وكان ذلك أنها عرضت على عدة منهم لم يروا ردها؛ منهم عمر بن عبد العزيز، فقال المهدي: يا زبيري، هذا عمر بن عبد العزيز؛ وهو منكم معشر قريش كما علمتم لم يرد ردها، قال: وكل أفعال عمر ترضى؟ قال: وأي أفعاله لا ترضى؟ قال: منها أنه كان يفرض للسقط من بنى أمية في خرقه في الشرف من العطاء، ويفرض للشيخ من بني هاشم في ستين. قال: يا معاوية أكذلك كان يفعل عمر؟ قال: نعم؛ قال: اردد على الزبير ضيعته. وذكر عن عمر بن شبة أن أبا سلمة الغفاري حدثه، قال: كتب المهدي إلى جعفر بن سليمان وهو عامل المدينة أن يحمل إليه جماعة تهم بالقدر، فحمل إليه رجالًا؛ منهم عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، وعبد الله بن يزيد بن قيس الهذلي، وعيسى بن يزيد بن دأب الليثي، وإبراهيم بن محمد بن أبي بكر الأسامي؛ فأدخلوا على المهدي، فانبرى له عبد الله بن أبي عبيدة بينهم؛ فقال: هذا دين أبيك ورأيه؟ قال: لا، ذاك عمي داود. قال: لا، إلا أبوك، على هذا فارقنا وكان به يدين. فأطلقهم. وذكر علي بن محمد بن سليمان النوفلي، قال: حدثني أبي، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال: رأيت فيما يرى النائم في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله ﷺ، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك؛ وإذا قائل يقول: يمحو هذا الكتاب ويكتب مكانه اسم رجل من بني هاشم يقال له محمد. قال: قلت: أنا محمد، وأنا من بني هاشم؛ فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قال: ابن محمد، قلت: فأنا بن محمد، فابن من؟ قال: ابن علي، قلت: فأنا بن علي، فابن من؟ قال: ابن عبد الله، قلت: فأنا ابن عبد الله؛ فابن من؟ قال: عباس؛ فلو لم أكن بلغت العباس ما شككت أني صاحب الأمر. قال: فتحدثت بهذه الرؤيا في ذلك الدهر ونحن لا نعرف المهدي؛ فتحدث الناس بها حتى ولي المهدي، فدخل مسجد رسول الله ﷺ، فرفع رأسه فنظر فرأى اسم الوليد، فقال: إني لأرى اسم الوليد في مسجد رسول الله ﷺ إلى اليوم، فدعا بكرسي فألقي له في صحن المسجد وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه. وأمر أن يحضر العمال والسلاليم وما يحتاج إليه، فلم يبرح حتى غير وكتب اسمه. وذكر أحمد بن الهيثم القرشي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عطاء، قال: خرج المهدي بعد هدأة من الليل يطوف بالبيت، فسمع أعرابية من جانب المسجد وهي تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثر عيالهم؛ أبناء سبيل، وأنضاء طريق؛ وصية الله ووصية الرسول؛ فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه الله في أهله! قال: فأمر نصيرًا الخادم، فدفع إليها خمسمائة درهم. وذكر علي بن محمد بن سليمان، قال: سمعت أبي يقول: كان أول من افترش الطبري المهدي؛ وذلك أن أباه كان أمره بالمقام بالري، فأهدى إليه الطبري من طبرستان، وجعل الثلج والخلاف حوله؛ حتى فتح لهم الخيش، فطاب لهم الطبري فيه. وذكر محمد بن زياد، قال: قال المفضل: قال لي المهدي: اجمع لي الأمثال مما سمعتها من البدو، وما صح عندك. قال: فكتبت له الأمثال وحروب العرب مما كان فيها؛ فوصلني وأحسن إلي. قال علي بن محمد: كان الرجل من ولد عبد الرحمن بن سمرة أراد الوثوب بالشام، فحمل إلى المهدي فخلى سبيله وأكرمه، وقرب مجلسه. فقال له يومًا: أنشدني قصيدة زهير التي هي على الراء، وهي: لمن الديار بقنة الحجر فأنشده، فقال السمري: ذهب والله من يقال فيه مثل هذا الشعر؛ فغضب المهدي واستجهله، ونحاه ولم يعاقبه، واستحمقه الناس. وذكر أن أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض، فعاده المهدي؛ فإذا منزل رث وبناء سوء؛ وإذا طاق صفته التي هو فيها لبن. قال: وإذا مضربة ناعمة في مجلسه، فجلس المهدي على وسادة، وجلس أبو عون بين يديه، فبره المهدي، وتوجع لعلته. وقال أبو عون: أرجو عافية الله يا أمير المؤمنين؛ وألا يميتني على فراشه حتى أقتل في طاعتك؛ وإني لواثق بألا أموت حتى أبلى الله في طاعتك ما هو أهله؛ فإنا قد روينا، قال: فأظهر له المهدي رأيًا جميلًا، وقال: أوصني بحاجتك، وسلني ما أردت، واحتكم في حياتك ومماتك؛ فوالله لئن عجز مالك عن شيء توصي به لأحتملنه كائنًا ما كان؛ فقل وأوص. قال: فشكر أبو عون ودعا، وقال: يا أمير المؤمنين؛ حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون، وتدعو به، فقد طالت موجدتك عليه. قال: فقال: يا أبا عون، إنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا ورأيك؛ إنه يقع في الشيخين أبي بكر وعمر، ويسيء القول فيهما. قال: فقال أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه؛ فإن كان قد بدا لكم فمرونا بما أحببتم حتى نطيعكم. قال: وانصرف المهدي، فلما كان في الطريق قال لبعض من كان معه من ولده وأهله: ما لكم لا تكونون مثل أبي عون! والله ما كنت أظن منزله إلا مبنيًا بالذهب والفضة؛ وأنتم إذا وجدتم درهمًا بنيتم بالساج والذهب. وذكر أبو عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: خطب المهدي يومًا، فقال: عباد الله؛ اتقوا الله؛ فقام إليه رجل، فقال: وأنت فاتق الله؛ فإنك تعمل بغير الحق. قال: فأخذ فحمل، فجعلوا يتلقونه بنعال سيوفهم؛ فلما أدخل عليه قال: يا ابن الفاعلة، تقول لي وأنا على المنبر: اتق الله! قال: سوءة لك! لو كان هذا من غيرك كنت المستعدي بك عليه، قال: ما أراك إلا نبطيًا، قال: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله. قال: فرئي الرجل بعد ذلك؛ فكان يحدث بما جرى بينه وبين المهدي. قال: فقال أبي: وأنا حاضره، إلا أني لم أسمع الكلام. وقال هارون بن ميمون الخزاعي: حدثنا أبو خزيمة البادغيسي، قال: قال المهدي: ما توسل إلي أحد بوسيلة، ولا تذرع بذريعة هي أقرب من تذكيره إياي يدًا سلفت مني إليه أتبعها أختها، فأحسن ربها؛ لأن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل. قال: وذكر خالد بن يزيد بن وهب بن جرير، أن أباه حدثه، قال: كان بشار بن برد بن يرجوخ هجا صالح بن داود بن طهمان - أخا يعقوب بن داود - حين ولي البصرة، فقال: هم حملوا المنابر صالحًا ** أخاك فضجت من أخيك المنابر فبلغ يعقوب بن داود هجاؤه، فدخل على المهدي، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين، قال: ويلك! وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاد ذلك، قال: فأبى عليه إلا أن ينشده، فأنشده: خليفة يزني بعماته ** يلعب بالدبوق والصولجان أبدلنا الله به غيره ** ودس موسى في حر الخيزران قال: فوجه في حمله، فخاف يعقوب بن داود أن يقدم على المهدي فيمتدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الخرارة. وذكر عبد الله بن عمر. حدثني جدي أبو الحي العبسي، قال: لما دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي، فأنشده شعره الذي يقول فيه: أنى يكون وليس ذاك بكائنٍ ** لبني البنات وراثة الأعمام فأجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان: بسبعين ألفًا راشني من حبائه ** ومانالها في الناس من شاعر قبلي وذكر أحمد بن سليمان، قال: أخبرني أبو عدنان السلمي، قال: قال المهدي لعمارة بن حمزة: من أرق الناس شعرًا؟ قال: والبة بن الحباب الأسدي، وهو الذي يقول: ولها ولا ذنب لها ** حب كأطراف الرماح في القلب يفدح والحشا ** فالقلب مجروح النواحي قال: صدقت والله، قال: فما يمنعك من منادمته يا أمير المؤمنين، وهو عربي شريف شاعر ظريف؟ قال: يمنعني والله من منادمته، قوله: قلت لساقينا على خلوة ** أدن كذا رأسك من رأسي ونم على وجهك لي ساعةً ** إني امرؤ أنكح جلاسي أفتريد أن يكون جلاسه على هذه الشريطة! وذكر محمد بن سلام أنه كان في زمان المهدي إنسان ضعيف يقول الشعر إلى أن مدح المهدي. قال: فأدخل عليه فأنشده شعرًا يقول فيه: وجوارٍ زفرات، فقال له المهدي: أي شيء زفرات؟ قال: وما تعرفها أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: لا والله، قال: فأنت أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول الله ﷺ ولا تعرفها، أعرفها أنا! كلا والله. قال ابن سلام: أخبرني غير واحد أن طريح بن إسماعيل الثقفي دخل على المهدي فانتسب له، وسأله أن يسمع منه، فقال: ألست الذي يقول للوليد بن يزيد: أنت بن مسلنطح البطاح ولم ** تطرق عليك الخي والولج والله لا تقول لي في مثل هذا أبدًا، لا أسمع منك شعرًا، وإن شئت وصلتك. وذكر أن المهدي أمر بالصوم سنة ست وستين ليستسقي للناس في اليوم الرابع، فلما كان في الليلة الثالثة أصابهم الثلج، فقال لقيط بن بكير المحاربي في ذلك: يا إمام الهدى سقينا بك الغي ** ث وزالت عنا بك اللأواء بت تعنى بالحفظ والناس نوا ** م عليهم من الظلام غطاء رقدوا حيث طال ليلك فيهم ** لك خوف تضرع وبكاء وقد عنتك الأمور منهم على الغف ** لة من معشر عصوا وأساءوا وسقينا وقد قحطنا وقلنا ** سنة قد تنكرت حمراء بدعاء أخلصته في سواد ال ** ليل لله فاستجيب الدعاء بثلوج تحيا بها الأرض حتى ** أصبحت وهي زهرة خضراء وذكر أن الناس في أيام المهدي صاموا شهر رمضان في صميم الصيف، وكان أبو دلامة إذ ذاك يطالب بجائزة وعدها إياه المهدي، فكتب إلى المهدي رقعة يشكو إليه فيها ما لقي من الحر والصوم، فقال في ذلك: أدعوك بالرحم التي جمعت لنا ** في القرب بين قريبنا والأبعد إلا سمعت وأنت أكرم من مشى ** من منشدٍ يرجو جزاء المنشد حل الصيام فصمته متعبدا ** أرجو ثواب الصائم المتعبد وسجدت حتى جبهتي مشجوجة ** مما أكلف من نطاح المسجد فلما قرأ المهدي الرقعة دعا به، فقال: أي قرابة بيني وبينك يا ابن اللخناء! قال: رحم آدم وحواء. فضحك منه وأمر له بجائزة. وذكر علي بن محمد، قال: حدثني أبي، عن إبراهيم بن خالد بن المعيطي قال: دخلت على المهدي - وقد وصف له غنائي - فسألني عن الغناء وعن علمي به، وقال لي: تغني النواقيس؟ قلت: نعم والصليب يا أمير المؤمنين! فصرفني؛ وبلغني أنه قال: معيطي، ولا حاجة لي إليه فيمن أدنيه من خلوتي ولا آنس به. ولمعبد المغني النواقيس في هذا الشعر: سلا دار ليلى هل تجيب فتنطق ** وأنى ترد القول بيداء سملق وأنى ترد القول دار كأنها ** لطول بلاها والتقادم مهرق وذكر قعنب بن محرز أبو عمرو الباهلي أن الأصمعي حدثه، قال: رأيت حكمًا الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس، فعرض له من في الطريق، وكان له شعيرات، وأخرج دفًا له يضربه، وقال: أنا القائل: فمتى تخرج العرو ** س فقد طال حبسها قد دنا الصبح أو بدا ** وهي لم تقض لبسها فتسرع إليه الحرس فصيح بهم: كفوا، وسأل عنه فقيل: حكم الوادي، فأدخله إليه ووصله. وذكر علي بن محمد أنه سمع أباه يقول: دخل المهدي بعض دوره يومًا فإذا جارية له نصرانية، وإذا جيبها واسع وقد انكشف عما بين ثدييها؛ وإذا صليب من ذهب معلق في ذلك الموضع؛ فاستحسنه، فمد يده إليه فجذبه، فأخذه، فولولت على الصليب، فقال المهدي في ذلك: يوم نازعتها الصليب فقالت ** ويح نفسي أما تحل الصليبا! قال: وأرسل إلى بعض الشعراء فأجازه، وأمر به فغنى فيه، وكان معجبًا بهذا الصوت. قال: وسمعت أبي يقول: إن المهدي نظر إلى جارية له عليها تاج فيه نرجس من ذهب وفضة، فاستحسنه فقال: يا حبذا النرجس في التاج فأرتج عليه، فقال: من بالحضرة؟ قالوا: عبد الله بن مالك، فدعاه، فقال: إني رأيت جارية لي فاستحسنت تاجًا عليها فقلت: يا حبذا النرجس في التاج فتستطيع أن تزيد فيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ ولكن دعني أخرج فأفكر، قال: شأنك، فخرج وأرسل إلى مؤدب لولده فسأله إجازته، فقال: على جبين لاح كالعاج وأتمها أبياتًا أربعة، فأرسل بها عبد الله إلى المهدي، فأرسل إليه المهدي بأربعين ألفًا، فأعطى المؤدب منها أربعة آلاف، وأخذ الباقي لنفسه، وفيها غناء معروف. وذكر أحمد بن موسى بن مضر أبو علي، قال: أنشدني التوزي في حسنة جاريته: أرى ماءً وبي عطش شديد ** ولكن لا سبيل إلى الورود أما يكفيك أنك تملكيني ** وأن الناس كلهم عبيدي وأنك لو قطعت يدي ورجلي ** لقلت من الرضا أحسنت زيدي وذكر علي بن محمد، عن أبيه، قال: رأيت المهدي وقد دخل البصرة من قبل سكة قريش، فرأيته يسير والبانوقة بين يديه، وبينه وبين صاحب الشرطة، عليها قباء أسود، متقلدة سيفًا في هيئة الغلمان. قال: وإني لأرى في صدرها شيئًا من ثدييها. قال علي: وحدثني أبي، قال: قدم المهدي إلى البصرة، فمر في سكة قريش، وفيها منزلنا؛ وكانت الولاة لا تمر فيها إذا قدم الوالي، كانوا يتشاءمون بها - قل والٍ مر فيها فأقام في ولايته إلا يسيرًا حتى يعزل - ولم يمر فيها خليفة قط إلا المهدي، كانوا يمرون في سكة عبد الرحمن بن سمرة، وهي تساوي سكة قريش، فرأيت المهدي يسير، وعبد الله بن مالك على شرطه يسير أمامه، في يده الحربة، وابنته البانوقة تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود ومنطقة وشاشية، متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما. قال: وكانت البانوقة سمراء حسنة القد حلوة. فلما ماتت - وذلك ببغداد - أظهر عليها المهدي جزعًا لم يسمع بمثله، فجلس للناس يعزونه، وأمر ألا يحجب عنه أحد، فأكثر الناس من التعازي، واجتهدوا في البلاغة، وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب، فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بن شيبة؛ فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك، وثواب الله خير لك منها، وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك. وقد ذكر صباح بن عبد الرحمن، قال: حدثني أبي، قال: توفيت البانوقة بنت المهدي، فدخل عليه شبيب بن شيبة، فقال: أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجرًا، وأعقبك صبرًا، لا أجهد الله بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمةً؛ ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك؛ وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى رده. خلافة الهادي وفي هذه السنة بويع لموسى بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة، يوم توفي المهدي، وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان؛ وكانت وفاة المهدي بماسبذان ومعه ابنه هارون، ومولاه الربيع ببغداد خلفه بها؛ فذكر أن الموالي والقواد لما توفي المهدي اجتمعوا إلى ابنه هارون، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن يحمل، وتنادي في الجند بالقفل حتى تواريه ببغداد. فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد البرمكي - وكان المهدي ولى هارون المغرب كله؛ من الأنبار إلى إفريقية؛ وأمر يحيى بن خالد أن يتولى ذلك، فكانت إليه أعماله ودواوينه يقوم بها ويخلفه على ما يتولى منها إلى أن توفي - قال: فصار يحيى بن خالد إلى هارون، فقال له: يا أبت، ما تقول فيما يقول عمر بن بزيع ونصير والمفضل؟ قال: وما قالوا؟ فأخبره، قال: ما أرى ذلك، قال: ولم؟ قال: لأن هذا ما لا يخفى، ولا آمن إذا علم الجند أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخليه حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوا؛ ولكن أرى أن يوارى رحمه الله ها هنا؛ وتوجه نصيرًا إلى أمير المؤمنين الهادي بالخاتم والقضيب والتهنئة والتعزية؛ فإن البريد إلى نصير؛ فلا ينكر خروجه أحد إذ كان على بريد الناحية، وأن تأمر لمن معك من الجند بجوائز؛ مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالقفول؛ فإنهم إن قبضوا الدراهم لم تكن لهم همة سوى أوطانهم؛ ولا عرجة على شيء دون بغداد. قال: نفعل ذلك. وقال الجند لما قبضوا الدراهم: بغداد بغداد! يتبادرون إليها، ويبعثون على الخروج من ماسبذان؛ فلما وافوا بغداد، وعلموا خبر الخليفة، ساروا إلى باب الربيع فأحرقوه، وطالبوا بالأرزاق، وضجوا. وقدم هارون بغداد، فبعثت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تشاورهما في ذلك؛ فأمل الربيع فدخل عليها، وأما يحيى فلم يفعل ذلك لعلمه بشدة غيرة موسى. قال: وجمعت الأموال حتى أعطي الجند لسنتين، فسكتوا؛ وبلغ الخبر الهادي، فكتب إلى الربيع كتابًا يتوعده فيه بالقتل، وكتب إلى يحيى بن خالد يجزيه الخير، ويأمره أن يقوم من أمر هارون بما لم يزل يقوم به، وأن يتولى أموره وأعماله على ما لم يزل يتولاه. قال: فبعث الربيع إلى يحيى بن خالد - وكان يوده، ويثق به، ويعتمد على رأيه: يا أبا علي، ما ترى؟ فإنه لاصبر لي على جر الحديد. قال: أرى ألا تبرح موضعك، وأن توجه ابنك الفضل يستقبله ومعه من الهدايا والطرف ما أمكنك؛ فإني لأرجو ألا يرجع إلا وقد كفيت ما تخاف إن شاء الله. قال: وكانت أم الفضل ابنه بحيث تسمع منهما مناجاتهما؛ فقالت له: نصحك والله. قال: فإني أحب أن أوصي إليك؛ فإني لا أدري ما يحدث. فقال: لست أنفرد لك بشيء، ولا أدع لك ما يجب، وعندي في هذا وغيره ما تحب؛ ولكن أشرك معي في ذلك ابنك الفضل وهذه المرأة؛ فإنها جزلة مستحقة لذلك منك. ففعل الربيع ذلك وأوصى إليهم. قال الفضل بن سليمان: ولما شغب الجند على الربيع ببغداد وأخرجوا من كان في حبسه، وأحرقوا أبواب دوره في الميدان، حضر العباس بن محمد وعبد الملك بن صالح ومحرز بن إبراهيم ذلك؛ فرأى العباس أن يرضوا، وتطيب أنفسهم، وتفرق جماعتهم بإعطائهم أرزاقهم؛ فبذل ذلك لهم فلم يرضوا، ولم يثقوا مما ضمن لهم من ذلك؛ حتى ضمنه محرز بن إبراهيم، فقنعوا بضمانه وتفرقوا، فوفى لهم بذلك، وأعطوا رزق ثمانية عشر شهرًا؛ وذلك قبل قدوم هارون. فلما قدم - وكان هو خليفة موسى الهادي - ومعه الربيع وزيرًا له وجه الوفود إلى الأمصار، ونعى إليهم المهدي، وأخذ بيعتهم لموسى الهادي؛ وله بولاية العهد من بعده؛ وضبط أمر بغداد. وقد كان نصير الوصيف شخص من ماسبذان من يومه إلى جرجان بوفاة المهدي والبيعة له؛ فلما صار إليه نادى بالرحيل، وخرج من فوره على البريد جوادًا ومعه من أهل بيته إبراهيم وجعفر، ومن الوزراء عبيد الله بن زياد الكاتب صاحب رسائله، ومحمد بن جميل كاتب جنده. فلما شارف مدينة السلام استقبله الناس من أهل بيته وغيرهم؛ وقد كلن احتمل على الربيع ما كان منه وما صنع من توجيه الوفود وإعطائه الجنود قبل قدومه؛ وقد كان الربيع وجه ابنه الفضل؛ فتلقاه بما أعد له من الهدايا؛ فاستقبله بهمذان، فأدناه وقربه، وقال: كيف خلفت مولاي؟ فكتب بذلك إلى أبيه، فاستقبله الربيع، فعاتبه الهادي فاعتذر إليه؛ وأعلمه السبب الذي دعاه إلى ذلك، فقبله، وولاه الوزارة مكان عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى، وضم إليه ما كان عمر بن بزيع يتولاه من الزمام، وولى محمد بن جميل ديوان خراج العراقين، وولى عبيد الله بن زياد خراج الشام وما يليه، وأقر على حرسه علي بن عيسى بن ماهان، وضم إليه ديوان الجند، وولى شرطة عبد الله بن مالك مكان عبد الله بن خازم، وأقر الخاتم في يد علي بن يقطين. وكانت موافاة موسى الهادي بغداد عند منصرفه من جرجان لعشر بقين من صفر في هذه السنة، سار - فيما ذكر عنه - من جرجان إلى بغداد في عشرين يومًا، فلما نزل القصر الذي يسمى الخلد؛ فأقام به شهرًا، ثم تحول إلى بستان أبي جعفر، ثم تحول إلى عيساباذ. وفي هذه السنة هلك الربيع مولى أبي جعفر المنصور. وقد ذكر علي بن محمد النوفلي أن أباه حدثه أنه كانت لموسى الهادي جارية، وكانت حظية عنده، وكانت تحبه وهو بجرجان حين وجهه إليها المهدي، فقالت أبياتًا، وكتبت إليه وهو مقيم بجرجان، منها: يا بعيد المحل أم ** سى بجرجان نازلا قال: فلما جاءته البيعة وانصرف إلى بغداد؛ لم تكن له همة غيرها، فدخل عليها وهي تغني بأبياتها، فأقام عندها يومه وليلته قبل أن يظهر لأحد من الناس. وفي هذه السنة اشتد طلب موسى الزنادقة؛ فقتل منهم فيها جماعة؛ فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين من أهل النهروان؛ ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس في الطواف يهرولون، فقال: ما أشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر. وله يقول العلاء بن حداد الأعمى: أيا أمين الله في خلقه ** ووراث الكعبة والمنبر ماذا ترى في رجل كافر ** يشبه الكعبة بالبيدر ويجعل الناس إذا ما سعوا ** حمرًا تدوس البر والدوسر! فقتله موسى ثم صلبه، فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتلته وقتلت حماره. وقتل من بني هاشم يعقوب بن الفضل. وذكر عن علي بن محمد الهاشمي، قال: كان المهدي أتى بابن لداود ابن على زنديقًا، وأتى بيعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب زنديقًا، في مجلسين متفرقين، فقال لكل واحد منهما كلامًا واحدًا، وذلك بعد أن أقرا له بالزندقه، أما يقعوب بن الفضل فقال له: أقر بها بيني وبينك؛ فأما أن أظهر ذلك عند الناس فلا أفعل ولو قرضتني بالمقاريض، فقال له: ويلك! لو كشفت لك السموات، وكان الامر كما تقول، كنت حقيقا أن تغضب لمحمد، ولولا محمد صلى الله عليه من كنت! هل كنت إلا إنسانًا من الناس! أما والله لولا أني كنت جعلت لله على عهدًا إذا ولاني هذا الامر ألا أقتل هاشميًا لما ناظرتك ولقتلتك. ثم التفت إلى موسى الهادي، فقال: يا موسى، أقسمت عليك بحقي إن وليت هذا الامر بعدي ألا تناظرهما ساعة واحدة. فمات ابن داود بن علي في الحبس قبل وفاة المهدي؛ وأما يعقوب فبقي حنى مات المهدي. وقدم موسى من جرجان فساعة دخل، ذكر وصية المهدي، فأرسل إلى يعقوب من ألقى عليه فراشأً، واقعدت الرجال عليه حتى مات. ثم لها عنه ببيعته وتشديد خلافته؛ وكان ذلك في يوم شديد الحر، فبقي يعقوب حتى مضى من الليل هدء، فقيل لموسى: يا أمير المؤمنين، إن يعقوب قد انتفخ وأروح. قال: ابعثوا به إلى أخيه إسحاق بن الفضل، فخبروه أنه مات في السجن. فجعل في زورق واتي به إسحاق، فنظر فإذا ليس فيه موضع للغسل، فدفنه في بستان له من ساعته، وأصبح فأرسل إلى الهاشميين يخبرهم بموت يعقوب ويدعوهم إلى الجنازة، وأمر بخشبة فعملت في قد الإنسان فغشيت قطنا، وألبسها أكفانًا، ثم حملها على السرير، فلم يشك من حضرها أنه شيء مصنوع. وكان ليعقوب ولد من صلبه: عبد الرحمن والفضل وأروى فاطمة، فأما فاطمة فوجدت حبلى منه، وأقرت بذلك. قال علي بن محمد: قال أبي: فأدخلت فاطمة وامرأة يعقوب بن الفضل - وليست بهاشمية، يقال لها خديجة - على الهادي - أو على المهدي من قبل - فأقرتا بالزندقة، وأقرت فاطمة أنها حامل من أبيها، فأرسل بهما إلى ريطة بنت أبي العباس، فرأتهما مكتحلتين مختضبتين، فعذلتهما، وأكثرت على الابنة خاصة، فقالت: أكرهني، فقالت: فما بال الخضاب والكحل والسرور؛ إن كنت مكرهة! ولعنتهما. قال: وخبرت أنهما فزعتا فماتتا فزعًا، ضرب على رأسيهما بشيء يقال له الرعبوب. ففزعتا منه، فماتتا. وأما أروى فبقيت فتزوجها ابن عمها الفضل بن إسماعيل بن الفضل؛ وكان رجلًا لا بأس به في دينه. وفيها قدم ونداهرمز صاحب طبرستان إلى موسى بأمان، فأحسن صلته، ورده إلى طبرستان. ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت سنة تسع وستين ومائة خروج الحسين بن علي بن الحسن بفخ ومما كان فيها خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المقتول بفخ. ذكر الخبر عن خروجه ومقتله ذكر عن محمد بن موسى الخوارزمي أنه قال: كان بين موت المهدي وخلافة الهادي ثمانية أيام. قال: ووصل إليه الخبر وهو بجرجان، وإلى أن قدم من مدينة السلام إلى خروج الحسين بن علي بن الحسن، وإلى أن قتل الحسين، تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا. وذكر محمد بن صالح، أن أبا حفص السلمي حدثه، قال: كان إسحاق بن عيسى بن علي على المدينة، فلما مات المهدي واستخلف موسى، شخص إسحاق وافدًا إلى العراق إلى موسى، واستخلف على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إسحاق بن عيسى بن علي استعفى الهادي وهو على المدينة، واستأذنه في الشخوص إلى بغداد، فأعفاه، وولى مكانه عمر بن عبد العزيز. وإن سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن كان أن عمر بن عبد العزيز لما تولى المدينة - كما ذكر الحسين بن محمد بن أبي حفص السلمي - أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن ومسلم بن جندب الشاعر الهذلي وعمر بن سلام مولى آل عمر على شراب لهم، فأمر بهم فضربوا جميعًا، ثم أمر بهم فجعل في أعناقهم حبال وطيف بهم في المدينة، فكلم فيهم، وصار إليه الحسين بن علي فكلمه، وقال: ليس هذا عليهم وقد ضربتهم، ولم يكن لك أن تضربهم؛ لأن أهل العراق لا يرون به بأسًا، فلم تطوف بهم! فبعث إليهم وقد بلغوا البلاط فردهم، وأمر بهم إلى الحبس، فحبسوا يومًا وليلة، ثم كلم فيهم فأطلقهم جميعًا؛ وكانوا يعرضون، ففقد الحسن بن محمد، وكان الحسين بن علي كفيله. قال محمد بن صالح: وحدثني عبد الله بن محمد الأنصاري أن العمري كان كفل بعضهم من بعض؛ فكان الحسين بن علي بن الحسن ويحيى بن عبد الله بن الحسن كفيلين بالحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن؛ وكان قد تزوج مولاةً لهم سوداء ابنة أبي ليث مولى عبد الله بن الحسن؛ فكان يأتيها فيقيم عندها، فغاب عن العرض يوم الأربعاء والخميس والجمعة، وعرضهم خليفة العمري عشية الجمعة، فأخذ الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله؛ فسألهما عن الحسن بن محمد؛ فغلظ عليهم بعض التغليظ، ثم انصرف إلى العمري فأخبره خبرهم، وقال له: أصلحك الله! الحسن بن محمد غائب مذ ثلاث، فقال: ائتني بالحسين ويحيى؛ فذهب فدعاهما، فلما دخلا عليه، قال لهما: أين الحسن بن محمد؟ قالا: والله ما ندري؛ إنما غاب عنا يوم الأربعاء، ثم كان يوم الخميس؛ فبلغنا أنه اعتل، فكنا نظن أن هذا اليوم لا يكون فيه عرض؛ فكلمهما بكلام أغلظ لهما فيه، فحلف يحيى بن عبد الله ألا ينام حتى يأتيه به أو يضرب عليه باب داره؛ حتى يعلم أنه قد جاءه به. فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسنًا! حلفت له بشيء لا تقدر عليه. قال: إنما حلفت على حسن، قال: سبحان الله! فعلى أي شيء حلفت! قال: والله لا نمت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف. قال: فقال حسين: تكسر بهذا ما كان بيننا وبين أصحابنا من الصلة، قال: قد كان الذي كان فلا بد منه. وكانوا قد تواعدوا على أن يخرجوا بمنى أو بمكة في الموسم - فيما ذكروا - وقد كان قوم من أهل الكوفة من شيعتهم - وممن كان بايع الحسين - متكمنين في دار، فانطلقوا فعملوا في ذلك من عشيتهم ومن ليلتهم، حتى إذا كان في آخر الليل خرجوا. وجاء يحيى بن عبد الله حتى ضرب باب دار مروان على العمري، فلم يجده فيها، فجاء إلى منزله في دار عبد الله بن عمر فلم يجده أيضًا فيها، وتوارى منهم، فجاءوا حتى اقتحموا المسجد حين أذنوا بالصبح؛ فجلس الحسين على المنبر وعليه عمامة بيضاء؛ وجعل الناس يأتون المسجد؛ فإذا رأوهم رجعوا ولا يصلون، فلما صلى الغداة جعل الناس يأتونه، ويبايعونه على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ للمرتضى من آل محمد. وأقبل خالد البربري؛ وهو يومئذ على الصوافي بالمدينة قائد على مائتين من الجند مقيمين بالمدينة، وأقبل فيمن معه، وجاء العمري ووزير بن إسحاق الأزرق ومحمد بن واقد الشروي؛ ومعهم ناس كثير؛ فيهم الحسين بن جعفر بن الحسين بن الحسين على حمار، واقتحم خالد البربري الرحبة، وقد ظاهر بين درعين، وبيده السيف، وعمود في منطقته، مصلتًا سيفه، وهو يصيح بحسين: أنا كسكاس، قتلني الله إن لم أقتلك! وحمل عليهم حتى دنا منهم؛ فقام إليه ابنا عبد الله بن حسن: يحيى وإدريس، فضربه يحيى على أنف البيضة فقطعها وقطع أنفه، وشرقت عيناه بالدم فلم يبصر، فبرك يذبب عن نفسه بسيفه وهو لا يبصر، واستدار له إدريس من خلفه فضربه وصرعه، وعلواه بأسيافهما حتى قتلاه، وشد أصحابهما على درعيه فخلعوهما عنه، وانتزعوا سيفه وعموده، فجاءوا به. ثم أمروا به فجر إلى البلاط، وحملوا على أصحابه فانهزموا. قال عبد الله بن محمد: هذا كله بعيني. وذكر عبد الله بن محمد أن خالدًا ضرب يحيى بن عبد الله، فقطع البرنس، ووصلت ضربته إلى يد يحيى فأثرت فيها، وضربه يحيى على وجهه، واستدار رجل أعور من أهل الجزيرة فأتاه من خلفه، فضربه على رجليه، واعتوروه بأسيافهم فقتلوه. قال عبد الله بن محمد: ودخل عليهم المسودة المسجد حين دخل الحسين بن جعفر على حماره، وشدت المبيضة فأخرجوهم، وصاح بهم الحسين: ارفقوا بالشيخ - يغني الحسين بن جعفر - وانتهب بيت المال، فأصيب فيه بضعة عشر ألف دينار، فضلت من العطاء - وقيل: إن ذلك كان سبعين ألف دينار كان بعث بها عبد الله بن مالك، يفرض بها من خزاعة - قال: وتفرق الناس، وأغلق أهل المدينة عليهم أبوابهم؛ فلما كان من الغد اجتمعوا واجتمعت شيعة ولد العباس، فقاتلوهم بالبلاط فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء، وجعل المسودة يحملون على المبيضة حتى يبلغوا بهم رحبة دار الفضل، وتحمل المبيضة عليهم حتى يبلغ بهم الزوراء. وفشت الجراحات بين الفريقين جميعًا، فاقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا، فلما كان في آخر النهار من اليوم الثاني يوم الأحد، جاء الخبر بأن مباركًا التركي ينزل بئر المطلب، فنشط الناس، فخرجوا إليه فكلموه أن يجيء، فجاء من الغد حتى أتى الثنية، واجتمع الناس إليه شيعة بني العباس ومن أراد القتال، فاقتتلوا بالبلاط أشد قتال إلى انتصاف النهار، ثم تفرقوا. وجاء هؤلاء إلى المسجد، ومضى الآخرون إلى مبارك التركي، إلى دار عمر بن عبد العزيز بالثنية يقيل فيها، وواعد الناس الرواح، فلما غفلوا عنه، جلس على رواحله فانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فناوشوهم شيئًا من القتال إلى المغرب، ثم تفرقوا، وأقام حسين وأصحابه أيامًا يتجهزون. وكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يومًا، ثم خرج يوم أربعة وعشرين لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا من المدينة عاد المؤذنون فأذنوا؛ وعاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فجعلوا يدعون الله عليهم، ففعل الله بهم وفعل. قال محمد بن صالح: فحدثني نصير بن عبد الله بن إبراهيم الجمحي، أن حسينًا لما انتهى إلى السوق متوجهًا إلى مكة التفت إلى أهل المدينة، وقال: لا خلف الله عليكم بخير! فقال الناس وأهل السوق: لا بل أنت؛ لا خلف الله عليك بخير، ولا ردك! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فملؤوه قذرًا وبولًا؛ فلما خرجوا غسل الناس المسجد. قال: وحدثني ابن عبد الله بن إبراهيم، قال: أخذ أصحاب الحسين ستور المسجد، فجعلوها خفاتين لهم، قال: ونادى أصحاب الحسين بمكة: أيما عبد أتانا فهو حر؛ فأتاه العبيد، وأتاه عبد كان لأبي؛ فكان معه؛ فلما أراد الحسين أن يخرج أتاه أبي فكلمه، وقال له: عمدت إلى مماليك لم تملكهم فأعتقتهم، بم تستحل ذلك! فقال حسين لأصحابه: اذهبوا به، فأي عبد عرفه فادفعوه إليه؛ فذهبوا معه، فأخذ غلامه وغلامين لجيران لنا. وانتهى خبر الحسين إلى الهادي، وقد كان حج في تلك السنة رجال من أهل بيته؛ منهم محمد بن سليمان بن علي والعباس بن محمد وموسى بن عيسى، سوى من حج من الأحداث. وكان على الموسم سليمان بن أبي جعفر، فأمر الهادي بالكتاب بتولية محمد بن سليمان على الحرب، فقيل له: عمك العباس بن محمد! قال: دعوني لا والله لا أخدع عن ملكي؛ فنفذ الكتاب بولاية محمد بن سليمان بن علي على الحرب، فلقيهم الكتاب وقد انصرفوا عن الحج. وكان محمد بن سليمان قد خرج في عدة من السلاح والرجال؛ وذلك لأن الطريق كان مخوفًا معورًا من الأعراب؛ ولم يحتشد له الحسين؛ فأتاه خبرهم، فهم بصوبه، فخرج بخدمه وإخوانه. وكان موسى بن علي بن موسى قد صار ببطن نخل، على الثلاثين من المدينة، فانتهى إليه الخبر ومعه إخوانه وجواريه، وانتهى الخبر إلى العباس بن محمد بن سليمان وكاتبهم، وساروا إلى مكة فدخلوا، فأقبل محمد بن سليمان، وكانوا أحرموا بعمرة. ثم صاروا إلى ذي طوىً، فعسكروا بها، ومعهم سليمان بن أبي جعفر؛ فانضم إليهم من وافى في تلك السنة من شيعة ولد العباس ومواليهم وقوادهم. وكان الناس قد اختلفوا في تلك السنة في الحج وكثروا جدًا. ثم قدم محمد بن سليمان قدامه تسعين حافرًا ما بين فرس إلى بغل، وهو على نجيب عظيم، وخلفه أربعون راكبًا على النجائب عليها الرحال وخلفهم مائتا راكب على الحمير، سوى من كان معهم من الرجالة وغيرهم، وكثروا في أعين الناس جدًا وملئوا صدورهم فظنوا أنهم أضعافهم، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وأحلوا من عمرتهم، ثم مضوا فأتوا ذا طوىً ونزلوا، وذلك يوم الخميس. فوجه محمد بن سليمان أبا كامل - مولى لإسماعيل بن علي - في نيفٍ وعشرين فارسًا؛ وذلك يوم فلقيهم. وكان في أصحابه رجل يقال له زيد، كان انقطع إلى العباس، فأخرجه معه حاجًا لما رأى من عبادته، فلما رأى القوم قلب ترسه وسيفه، وانقلب إليهم؛ وذلك ببطن مر، ثم ظفروا به بعد ذلك مشدخًا بالأعمدة؛ فلما كان ليلة السبت وجهوا خمسين فارسًا، كان أول من ندبوا صباح أبو الذيال، ثم آخر ثم آخر؛ فكان أبو خلوة الخادم مولى محمد خامسًا، فأتوا المفضل مولى المهدي، فأرادوا أن يصيروا عليهم، فأبى وقال: لا، ولكن صيروا عليهم غيري وأكون أنا معهم، فصيروا عليهم عبد الله بن حميد بن رزين السمرقندي - وهو يومئذ شاب بن ثلاثين سنة - فذهبوا وهم خمسون فارسًا؛ وذلك ليلة السبت. فدنا القوم، وزحفت الخيل، وتعبأ الناس؛ فكان العباس بن محمد وموسى بن عيسى في الميسرة، ومحمد بن سليمان في الميمنة؛ وكان معاذ بن مسلم فيما بين محمد بن سليمان والعباس بن محمد، فلما كان قبل طلوع الفجر جاء حسين وأصحابه فشد ثلاثة من موالي سليمان بن علي - أحدهم زنجويه غلام حسان - فجاءوا برأس فطرحوه قدام محمد بن سليمان - وقد كانوا قالوا: من جاء برأس فله خمسمائة درهم - وجاء أصحاب محمد فعرقبوا الإبل، فسقطت محاملها. فقتلوهم وهزموهم؛ وكانوا خرجوا من تلك الثنايا، فكان الذين خرجوا مما يلي محمد بن سليمان أقلهم، وكان جلهم خرجوا مما يلي موسى بن عيسى وأصحابه؛ فكانت الصدمة بهم؛ فلما فرغ محمد بن سليمان ممن يليه وأسفروا، نظروا إلى الذين يلون موسى بن عيسى؛ فإذا هم مجتمعون كأنهم كبة غزل، والتفت الميمنة والقلب عليهم، وانصرفوا نحو مكة لا يدرون ما حال الحسين؛ فما شعروا وهم بذي طوىً أو قريبًا منها إلا برجل من أهل خراسان، يقول: البشرى البشرى! هذا رأس حسين، فأخرجه وبجبهته ضربة طولًا، وعلى قفاه ضربة أخرى؛ وكان الناس نادوا بالأمان حيث فرغوا، فجاء الحسن بن محمد أبو الزفت مغمضًا إحدى عينيه، وقد أصابها شيء في الحرب، فوقف خلف محمد والعباس، واستدار به موسى بن عيسى وعبد الله بن العباس. فأمر به فقتل، فغضب محمد بن سليمان من ذلك غضبًا شديدًا. ودخل محمد بن سليمان مكة من طريق والعباس بن محمد من طريق، واحتزت الرؤوس؛ فكانت مائة رأس ونيفًا؛ فيها رأس سليمان بن عبد الله بن حسن وذلك يوم التروية، وأخذت أخت الحسين، وكانت معه فصيرت عند زينب بنت سليمان، واختلطت المنهزمة بالحجاج، فذهبوا، وكان سليمان بن أبي جعفر شاكيًا فلم يحضر القتال، ووافى عيسى بن جعفر الحج تلك السنة؛ وكان مع أصحاب حسين رجل أعمى يقص عليهم فقتل، ولم يقتل أحد منهم صبرًا. قال الحسين بن محمد بن عبد الله: وأسر موسى بن عيسى أربعة نفر من أهل الكوفة، ومولى لبنى عجل آخر. قال محمد بن صالح: حدثني محمد بن داود بن علي، قال: حدثنا موسى بن عيسى، قال: قدمت معي بستة أسارى فقال لي الهادي: هيه! تقتل أسيري! فقلت يا أمير المؤمنين، إني فكرت فيه فقلت: تجيء عائشة وزينب إلى أم أمير المؤمنين، فتبكيان عندها وتكلمانها، فتكلم له أمير المؤمنين فيطلقه. ثم قال: هات الأسرى، فقلت: إني جعلت لهم العهد والمواثيق بالطلاق والعتاق، فقال: ائتني بهم، وأمر باثنين فقتلا، وكان الثالث منكرًا، فقلت: يا أمير المؤمنين؛ هذا أعلم الناس بآل أبي طالب؛ فإن استبقيته دلك على كل بغية لك، فقال: نعم والله يا أمير المؤمنين؛ إني أرجو أن يكون بقائي صنعًا لك. فأطرق ثم قال: والله لإفلاتك من يدي بعد أن وقعت في يدي لشديد؛ فلم يزل يكلمه حتى أمر به أن يؤخر، وأمره أن يكتب له طلبته، وأما الآخر فصفح عنه، وأمر بقتل عذافر الصيرفي وعلي بن السابق القلاس الكوفي، وأن يصلبا، فصلبوهما بباب الجسر، وكانا أسرا بفخ. وغضب على مبارك التركي، وأمر بقبض أمواله وتصييره في ساسة الدواب، وغضب على موسى بن عيسى لقتله حسن بن محمد، وأمر بقبض أمواله. وقال عبد الله بن عمر الثلجي: حدثني محمد بن يوسف بن يعقوب الهاشمي، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى، قال: أفلت إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب من وقعة فخ في خلافة الهادي، فوقع إلى مصر، وعلى بريد مصر على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة، فاستجاب له من بها وبأعراضها من البربر، فضرب الهادي عنق واضح وصلبه. ويقال: إن الرشيد الذي ضرب عنقه، وأنه دس إلى إدريس الشماخ اليمامي مولى المهدي، وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية، فخرج حتى وصل إلى وليلة وذكر أنه متطبب، وأنه من أوليائهم، ودخل على إدريس فأنس به واطمأن إليه؛ وأقبل الشماخ يريه الإعظام له والميل إليه والإيثار له فنزل عنده بكل منزلة. ثم إنه شكا إليه علة في أسنانه، فأعطاه سنونًا مسمومًا قاتلًا، وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر لليلته؛ فلما طلع الفجر استن إدريس بالسنون، وجعل يرده في فيه، ويكثر منه، فقتله. وطلب الشماخ فلم يظفر به، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه، وجاءته بعد مقدمه الأخبار بموت إدريس؛ فكتب ابن الأغلب إلى الرشيد بذلك، فولى الشماخ بريد مصر وأجاره، فقال بعض الشعراء - أظنه الهنازي: أتظن يا إدريس أنك مفلت ** كيد الخليفة أو يفيد فرار فليدركنك أو تحل ببلدة ** لا يهتدي فيها إليك نهار إن السيوف إذا انتضاها سخطه ** طالت وقصر دونها الأعمار ملك كأن الموت يتبع أمره ** حتى يقال: تطيعه الأقدار وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن الحسين بن علي لما خرج بالمدينة وعليها العمري لم يزل العمري متخفيًا مقام الحسين بالمدينة، حتى خرج إلى مكة. وكان معه الهادي وجه سليمان بن أبي جعفر لولاية الموسم، وشخص معه من أهل بيته ممن أراد الحج العباس بن محمد وموسى بن عيسى وإسماعيل بن عيسى بن موسى في طريق الكوفة، ومحمد بن سلمان وعدة من ولد جعفر بن سليمان على طريق البصرة، ومن الموالي مبارك التركي والمفضل الوصيف وصاعد مولى الهادي - وكان صاحب الأمر سليمان - ومن الوجوه المعروفين يقطين بن موسى وعبيد بن يقطين وأبو عمر بن مطرف؛ فاجتمعوا عند الذي بلغهم من توجه الحسين ومن معه إلى مكة، ورأسوا عليهم سليمان بن أبي جعفر لولايته؛ وكان قد جعل أبو كامل مولى إسماعيل على الطلائع، فلقوه بفخ، وخلفوا عبيد الله بن قثم بمكة للقيام بأمرها وأمر أهلها؛ وقد كان العباس بن محمد أعطاهم الأمان على ما أحدثوا، وضمن لهم الإحسان إليهم والصلة لأرحامهم؛ وكان رسولهم في ذلك المفضل الخادم، فأبوا قبول ذلك، فكانت الوقعة، فقتل من قتل، وانهزم الناس، ونودي فيهم بالأمان، ولم يتبع هارب؛ وكان فيمن هرب يحيى بن وإدريس ابنا عبد الله بن حسن؛ فأما إدريس فلحق بتاهرت من بلاد المغرب، فلجأ إليهم فأعظموه؛ فلم يزل عندهم إلى أن تلطف له، واحتيل عليه، فهلك، وخلفه ابنه إدريس بن إدريس؛ فهم إلى اليوم بتلك الناحية مالكين لها، وانقطعت عنهم البعوث. قال المفضل بن سليمان: لما بلغ العمري وهو بالمدينة مقتل الحسين بفخ وثب على دار الحسين ودور جماعة من أهل بيته وغيرهم ممن خرج مع الحسين، فهدمها وحرق النخل، وقبض ما لم يحرقه، وجعله في الصوافي المقبوضة. قال: وغضب الهادي على مبارك التركي لما بلغه من صدوده عن لقاء الحسين بعد أن شارف المدينة، وأمر بقبض أمواله وتصييره في سياسة دوابه؛ فلم يزل كذلك إلى وفاة الهادي، وسخط على موسى بن عيسى لقتله الحسن بن محمد بن عبد الله أبي الزفت؛ وتركه أن يقدم به أسيرًا، فيكون المحكم في أمره، وأمر بقبض أمواله، فلم تزل مقبوضة إلى أن توفي موسى. وقدم على موسى ممن أسر بفخ الجماعة، وكان فيهم عذافر الصيرفيوعلي بن سابق القلاس الكوفي، فأمر بضرب أعناقهما وصلبهما بباب الجسر ببغداد؛ ففعل ذلك. قال: ووجه مهرويه مولاه إلى الكوفة، وأمره بالتغليظ عليهم لخروج من خرج منهم مع الحسين. وذكر علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، قال: حدثني يوسف البرم مولى آل الحسن - وكانت أمه مولاة فاطمة بنت حسن - قال: كنت مع حسين أيام قدم علي المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفة؛ ووالله ما خرج من الكوفة وهو يملك شيئًا يلبسه إلا فروًا مل تحته قميص وإزار الفراش؛ ولقد كان في طريقه إلى المدينة؛ إذا نزل استقرض من مواليه ما يقوم بمؤونتهم في يومهم. قال علي: وحدثني السري أبو بشر، وهو حليف بني زهرة، قال: صليت الغداة في اليوم الذي خرج فيه الحسين بن علي بن الحسن صاحب فخ، فصلى بنا حسين، وصعد المنبر منبر رسول الله ﷺ، فجلس وعليه قميص وعمامة بيضاء قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، وسيفه مسلول قد وضعه بين رجليه؛ إذ أقبل خالد البربري في أصحابه؛ فلما أراد أن يدخل المسجد بدره يحيى بن عبد الله، فشد عليه البربري؛ وإني لأنظر إليه، فبدره يحيى بن عبد الله، فضربه على وجهه، فأصاب عينيه وأنفه، فقطع البيضة والقلنسوة، حتى نظرت إلى قحفه طائرًا عن موضعه، وحمل على أصحابه فانهزموا. ثم رجع إلى حسين، فقام بين يديه وسيفه مسلول يقطر دمًا، فتكلم حسين، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب الناس، فقال في آخر كلامه: يا أيها الناس، أنا ابن رسول الله في حرم رسول الله، وفي مسجد رسول الله، وعلى منبر نبي الله، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ؛ فإن لم أف لكم بذلك فلا بيعة لي في أعناقكم. قال: وكان أهل الزيارة في عامهم ذلك كثيرًا، فكانوا قد ملئوا المسجد؛ فإذا رجل قد نهض، حسن الوجه، طويل القامة، عليه رداء ممشق، أخذ بيد ابن له شاب جميل جلد، فتخطى رقاب الناس؛ حتى انتهى إلى المنبر، فدنا من حسين، وقال: يا بن رسول الله، خرجت من بلد بعيد وابني هذا معي، وأنا أريد حج بيت الله وزيارة قبر نبيه ﷺ، وما يخطر ببالي هذا الأمر الذي حدث منك؛ وقد سمعت ما قلت، فعندك وفاء بما جعلت على نفسك؟. قال: نعم، قال: ابسط يدك فأبايعك، قال: فبايعه، ثم قال لابنه: ادن فبايع. قال: فرأيت والله رءوسهما في الرءوس بمنىً، وذلك أني حججت في ذلك العام. قال: وحدثني جماعة من أهل المدينة أن مباركًا التركي أرسل إلى حسين بن علي: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير، أو تهوي بي الريح في مكان سحيق، أيسر علي من أن أشوكك بشوكة، أو أقطع من رأسك شعرة؛ ولكن لا بد من الإعذار؛ فبيتني فإني منهزم عنك. فأعطاه بذلك عهد الله وميثاقه. قال: فوجه إليه الحسين - أو خرج إليه - في نفر يسير، فلما دنوا من عسكره وصاحوا وكبروا، فانهزم أصحابه حتى لحق موسى بن عيسى. وذكر أبو المضرحي الكلابي، قال: أخبرني المفضل بن محمد بن المفضل بن حسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، أن الحسين بن علي بن حسن بن حسن، قال يومئذ في قوم لم يخرجوا معه - وكان قد وعدوه أن يوافوه، فتخلفوا عنه - متمثلًا: من عاذ بالسيف لاقى فرصة عجبًا ** موتًا على عجل أو عاش منتصفًا لا تقربوا السهل إن السهل يفسدكم ** لن تدركوا المجد حتى تضربوا عنفًا وذكر الفضل بن العباس الهاشمي أن عبد الله بن محمد المنقري حدثه عن أبيه، قال: دخل عيسى بن دأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخ، فوجده خائفًا يلتمس عذرًا من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير! أنشدك شعرًا كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الحسين بن علي رضي الله عنه؟ قال: أنشدني، فأنشده، قال: يا أيها الراكب الغادي لطيته ** على عذافرة في سيرها قحم أبلغ قريشًا على شحط المزار بها ** بيني وبين الحسين الله والرحم وموقفٍ بفناء البيت أنشده ** عهد الإله وما تعرى له الذمم عنفتم قومكم فخرًا بأمكم ** أم حصان لعمري برة كرم هي التي لا يداني فضلها أحد ** بنت النبي وخير الناس قد علموا وفضلها لكم فضل وغيركم ** من قومكم لهم من فضلها قسم إني لأعلم أو ظنًا كعالمه ** والظن يصدق أحيانًا فينتظم أن سوف يترككم ما تطلبون بها ** قتلى تهاداكم العقبان والرخم يا قومن لا تشبوا الحرب إذ خمدت ** ومسكوا بحبال السلم واعتصموا لا تركبوا البغي إن البغي مصرعة ** وإن شارب كاس البغي يتخم قد جرب الحرب من قد كان قبلكم ** من القرون وقد بادت بها الأمم فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخًا ** فرب ذي بذخ زلت به القدم قال: فسرى موسى بن عيسى بعض ما كان فيه. وذكر عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى أن العلاء حدثه أن الهادي أمير المؤمنين لما ورد عليه خلع أهل فخ خلا ليلة يكتب كتابًا بخطه، فاغتم بخلوته مواليه وخاصته، فدسوا غلامًا له، فقالوا: اذهب حتى تنظر إلى أي شيء انتهى الخبر، قال: فدنا من موسى، فلما رآه قال: ما لك؟ فاعتل عليه، قال: فأطرق ثم رفع رأسه إليه، فقال: رقد الألى ليس السري من شأنهم ** وكفاهم الإدلاج من لم يرقد وذكر أحمد بن معاوية بن بكر الباهلي؛ قال: حدثنا الأصمعي، قال: قال محمد بن سليمان ليلة فخ لعمرو بن أبي عمرو المدني - وكان يرمي بين يديه بين الهدفين: ارم، قال: لا والله لا أرمي ولد رسول الله ﷺ؛ إني إنما صحبتك لأرمي بين يديك بين الهدفين، ولم أصحبك لأرمي المسلمين. قال: فقال المخزومي: ارم، فرمى فما فمات إلا بالبرص. قال: ولما قتل الحسين بن علي وجاء برأسه يقطين بن موسى، فوضع بين يدي الهادي، قال: كأنكم والله جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم. قال: فحرمهم ولم يعطهم شيئًا. وقال موسى الهادي: لما قتل الحسين متمثلًا: قد أنصف القارة من رماها ** إنا إذا ما فئة نلقاها نرد أولاها على أخراها وغزا الصائفة في هذه السنة معيوف بن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم أقبلت مع البطريق إلى الحدث؛ فهرب الوالي والجند وأهل الأسواق، فدخلها العدو، ودخل أرض العدو معيوف بن يحيى، فبلغ مدينة أشنة، فأصابوا سبايا وأسارى وغنموا. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور. وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري، وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم، وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة، وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد القائد الخراساني، وعلى عمان الحسن بن تسنيم الحواري، وعلى صلاة الكوفة وأحداثها وصدقاتها وبهقباذ الأسفل موسى بن عيسى، وعلى صلاة البصرة وأحداثها محمد بن سليمان. وعلى قضائها عمر بن عثمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي، وعلى قومس زياد بن حسان، وعلى طبرستان والرويان صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي، وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي. ثم دخلت سنة سبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك وفاة يزيد بن حاتم بإفريقية فيها، ووليها بعده روح بن حاتم. وفيها مات عبد الله بن مروان بن محمد في المطبق. ذكر الخبر عن وفاة موسى الهادي وفيها توفي موسى الهادي بعيساباذ. واختلف في السبب الذي كان بعد وفاته، فقال بعضهم: كانت وفاته من قرحة كانت في جوفه. وقال آخرون: كانت وفاته من قبل جوارٍ لأمه الخيزران؛ كانت أمرتهن بقتله لأسباب نذكر بعضها. ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله كانت أمرتهن بقتله ذكر يحيى بن الحسن أن الهادي نابذ أمه ونافرها؛ لما صارت إليه الخلافة، فصارت خالصة إليه يومًا، فقالت: إن أمك تستكسيك، فأمر لها بخزانة مملوءة كسوة. قال: ووجد للخيزران في منزلها من قراقر الوشي ثمانية عشر ألف قرقر. قال: وكانت الخيزران في أول خلافة موسى تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل؛ فإنه ليس من قدر النياء الاعتراض في أمر الملك؛ وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك؛ ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك. قال: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيرًا ما تكلمه في الحوائج؛ فكان يجيبها إلى كل ما تسأله حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها، وطمعوا فيها؛ فكانت المواكب تغدو إلى بابها؛ قال: فكلمته يومًا في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلا، فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. قال: فغضب موسى وقال: ويل علي بن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها؛ والله لا قضيتها لك، قالت: إذًا والله لا سألتك حاجة أبدًا، قال: إذًا والله لا أبالي. وحمي وغضب. فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي والله، وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله ﷺ لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه؛ ولأقبضن ماله؛ فمن شاء فليلزم ذلك. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم! أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك! إياك ثم إياك؛ ما فتحت بابك لملي أو لذمي. فانصرفت ما تعقل ما تطأ؛ فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها. قال يحيى بن الحسن: وحدثني أبي، قال: سمعت خالصة تقول للعباس بن الفضل بن الربيع: بعث موسى إلى أمه الخيزران بأرزةٍ، وقال: استطبتها فأكلت منها، فكلي منها. قالت خالصة: فقلت لها: أمسكي حتى تنظري؛ فإني أخاف أن يكون فيها شيء تكرهينه، فجاءوا بكلب فأكل منها، فتساقط لحمه؛ فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ فقالت: وجدتها طيبة، فقال: لم تأكلي؛ ولو أكلت لكنت استرحت منك، متى أفلح خليفة له أم! قال وحدثني بعض الهاشميين، أن سبب موت الهادي كان أنه لما جد في خلع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه، ووجهت إلى يحيى بن خالد: إن الرجل قد توفي، فاجدد في أمرك ولا تقصر. وذكر محمد بن عبد الرحمن بن بشار أن الفضل بن سعيد حدثه، عن أبيه، قال: كان يتصل بموسى وصول القواد إلى أمه الخيزران، يؤملون بكلامها في قضاء حوائجهم عنده، قال: وكانت تريد أن تغلب على أمره كما غلبت على أمر المهدي؛ فكان يمنعها من ذلك ويقول: ما للنساء والكلام في أمر الرجال! فلما كثر عليه مصير من يصير إليها من قواده، قال يومًا وقد جمعهم: أيما خير؟ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين؛ قال: فأيما خير؛ أمي أو أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقولوا: فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق ذلك عليها فاعتزلته، وحلفت ألا تكلمه؛ فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة. ذكر الخبر عما كان من خلع الهادي للرشيد وكان السبب في إرادة موسى الهادي خلع أخيه هارون حتى اشتد عليه في ذلك وجد - فيما ذكر صالح بن سليمان - أن الهادي لما أفضت إليه الخلافة أقر يحيى بن خالد على ما كان يلي هارون من عمل المغرب؛ فأراد الهادي خلع هارون الرشيد والبيعة لابنه جعفر بن موسى الهادي، وتابعه على ذلك القواد؛ منهم يزيد بن مزيد وعبد الله بم مالك وعلي بن عيسى ومن أشبههم؛ فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر بن موسى، ودسوا إلى الشيعة؛ فتكلموا في أمره، وتنقصوه في مجلس الجماعة، وقالوا: لا نرضى به، وصعب أمرهم حتى ظهر؛ وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس وتركوه؛ فلم يكن أحد يجترئ أن يسلم عليه ولا يقربه. وكان يحيى بن خالد يقوم بإنزال الرشيد ولا يفارقه هو وولده - فيما ذكر. قال صالح: وكان إسماعيل بن صبيح كاتب يحيى بن خالد، فأحب أن يضعه موضعًا يستعلم له فيه الأخبار، وكان إبراهيم الحراني في موضع الوزارة لموسى، فاستكتب إسماعيل، ورفع الخبر إلى الهادي؛ وبلغ ذلك يحيى بن خالد، فأمر إسماعيل أن يشخص إلى حران، فسار إليها؛ فلما كان بعد أشهر سأل الهادي إبراهيم الحراني: من كاتبك؟ قال: فلان كاتب، وسماه، فقال: أليس بلغني أن إسماعيل بن صبيح كاتبك؟ قال: باطل يا أمير المؤمنين؛ إسماعيل بحران. قال: وسعى إلى الهادي بيحيى بن خالد، وقيل له: إنه ليس عليك من هارون خلاف؛ وإنما يفسده يحيى بن خالد، فابعث إلى يحيى، وتهدده بالقتل؛ وارمه بالكفر؛ فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى بن خالد. وذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بن يحيى بن خالد حدثه، قال: بعث الهادي إلى يحيى ليلًا، فأيس من نفسه، وودع أهله، وتحنط وجدد ثيابه، ولم يشك أنه يقتله؛ فلما أدخل عليه، قال: يا يحيى، ما لي ولك! قال: أنا عبدك يا أمير المؤمنين؛ فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته. قال: فلم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي! قال: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما! إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره؛ فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك. قال: فما الذي صنع هارون؟ قال: ما صنع شيئًا، ولا ذلك فيه ولا عنده. قال: فسكن غضبه. وقد كان هارون طاب نفسًا بالخلع، فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي! وكان هارون يجد بأم جعفر وجدًا شديدًا، فقال له يحيى: وأين ذلك من الخلافة! ولعلك ألا يترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع؛ ومنعه من الإجابة. قال الكرماني: فحدثني صالح بن سليمان، قال: بعث الهادي إلى يحيى بن خالد وهو بعيساباذ ليلًا، فراعه ذلك، فدخل عليه وهو في خلوة، فأمر بطلب رجل كان أخافه، فتغيب عنه؛ وكان الهادي يريد أن ينادمه ويمنعه مكانه من هارون، فنادمه وكلمه يحيى فيه، فآمنه وأعطاه خاتم ياقوت أحمر في يده، وقال: هذا أمانه، وخرج يحيى فطلب الرجل، وأتى الهادي به فسر بذلك. قال: وحدثني غير واحد أن الرجل الذي طلبه كان إبراهيم الموصلي. قال صالح بن سليمان: قال الهادي يومًا للربيع: لا يدخل علي يحيى بن خالد إلا آخر الناس. قال: فبعث إليه الربيع، وتفرغ له. قال: فلما جلس من غد أذن حتى لم يبق أحد، ودخل عليه يحيى، وعنده عبد الصمد بن علي والعباس بن محمد وجلة أهله وقواده، فما زال يدنيه حتى أجلسه بين يديه، وقال له: إني كنت أظلمك وأكفرك، فاجعلني في حل، فتعجب الناس من إكرامه إياه وقوله؛ فقبل يحيى يده وشكر له، فقال له الهادي: من الذي يقول فيك يا يحيى: لو يمس البخيل راحة يحيى ** لسخت نفسه ببذل النوال قال: تلك راحتك يا أمير المؤمنين لا راحة عبدك! قال: وقال يحيى للهادي في خلع الرشيد لما كلمه فيه: يا أمير المؤمنين؛ إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم؛ وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر من بعده كان ذلك أوكد لبيعته، فقال: صدقت ونصحت؛ ولي في هذا تدبير. قال الكرماني: وحدثني خزيمة بن عبد الله، أمر الهادي بحبس يحيى بن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني، فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ أرأيت إن كان الأمر - أسأل الله ألا نبلغه، وأن يقدمنا قبله - أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر؛ وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم! قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ فقال له: نبهتني يا يحيى - قال: وكان يقول: ما كلمت أحدًا من الخلفاء كان أعقل من موسى - قال: وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك، أما كان ينبغي أن تعقده له، فكيف بأن تحله عنه، وقد عقده المهدي له! ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله؛ فإذا بلغ جعفر، وبلغ الله به، أتيته بالرشيد فخلع نفسه، وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده. قال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه. وذكر الموصلي عن محمد بن يحيى، قال: عزم الهادي بعد كلام أبي له على خلع الرشيد، وحمله عليه جماعة من مواليه وقواده؛ وأجابه إلى الخلع أو لم يجبه، واشتد غضبه منه، وضيق عليه. وقال يحيى لهارون: استأذنه في الخروج إلى الصيد، فإذا خرجت فاستبعد ودافع الأيام، فرفع هارون رقعة يستأذن فيها، فأذن له؛ فمضى إلى قصر مقاتل، فأقام به أربعين يومًا حتى أنكر الهادي أمره وغمه احتباسه، وجعل يكتب إليه ويصرفه، فتعلل عليه حتى تفاقم الأمر، وأظهر شتمه، وبسط مواليه وقواده ألسنتهم فيه؛ والفضل بن يحيى إذ ذاك خليفة أبيه، والرشيد بالباب، فكان يكتب إليه بذلك، وانصرف وطال الأمر. قال الكرماني: فحدثني يزيد مولى يحيى بن خالد، قال: بعثت الخيزران عاتكة - ظئرًا كان لهارون - إلى يحيى، فشقت جيبها بين يديه، وتبكي إليه وتقول له: قالت لك السيدة: الله الله في ابني لا تقتله، ودعه يجيب أخاه إلى ما يسأله ويريده منه، فبقاؤه أحب إلي من الدنيا بجمع ما فيها. قال: فصاح بها وقال لها: وما أنت وهذا! إن يكن ما تقولين فإني وولدي وأهلي سنقتل قبله، فإن اتهمت عليه فلست بمتهم على نفسي ولا عليهم. قال: ولما لم ير الهادي يحيى بن خالد يرجع عما كان عليه لهارون بما بذل له من إكرام وإقطاع وصلة، بعث إليه يتهدده بالقتل إن لم يكف عنه. قال: فلم تزل تلك الحال من الخوف والخطر، وماتت أم يحيى وهو في الخلد ببغداد؛ لأن هارون كان ينزل الخلد، ويحيى معه، وهو ولي العهد، نازل في داره يلقاه في ليله ونهاره. وذكر محمد بن القاسم بن الربيع، قال: أخبرني محمد بن عمرو الرومي، قال: حدثني أبي، قال: جلس موسى الهادي بعد ما ملك في أول خلافته جلوسًا خاصًا، ودعا بإبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة الحراني، فجلسوا عن يساره، ومعهم خادم أسود يقال له أسلم، ويكنى أبا سليمان؛ وكان يثق به ويقدمه؛ فبينا هو كذلك، إذ دخل صالح صاحب المصلى، فقال: هارون بن المهدي، فقال: ائذن له، فدخل فسلم عليه، وقبل يده، وجلس عن يمينه بعيدًا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك، ثم التفت إليه، فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت من بعيد، ودون ذلك خرط القتاد؛ تؤمل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه، وقال: يا موسى؛ إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت؛ وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي؛ فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي. قال: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر؛ ادن مني، فدنا منه، فقبل يده، ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل - أعني أباك المنصور - لا جلست إلا معي، وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قال: يا حراني، احمل إلى أخي ألف ألف دينار؛ وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة؛ فيأخذ جميع ما أراد. قال: ففعل ذلك. ولما قام قال لصالح: أدن دابته إلى البساط. قال عمر الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي ما الرؤيا التي قال لك أمير المؤمنين؟ قال: قال الهادي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبًا وإلى هارون قضيبًا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلًا؛ فأما هارون فأورق قضيبه من أوله إلى آخره. فدعا المهدي الحكم بن موسى الضمري - وكان يكنى أبا سفيان - فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعًا، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة؛ وتكون أيامه أحسن أيام. قال: ولم يلبث إلا أيامًا يسيرة، ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام. قال عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون، فزوج حمدونة من جعفر ابن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى؛ ووفى بكل ما قال؛ وكان دهره أحسن الدهور. وذكر أن الهادي كان قد خرج إلى الحديثة؛ حديثة الموصل؛ فمرض بها، واشتد مرضه، فانصرف. فذكر عمرو اليشكري - وكان في الخدم - قال: انصرف الهادي من الحديثة بعد ما كتب إلى جميع عماله شرقًا وغربًا بالقدوم عليه؛ فلما ثقل اجتمع القوم الذين كانوا بايعوا لجعفر ابنه، فقالوا: إن صار الأمر إلى يحيى قتلنا ولم يستبقنا، فتآمروا على أن يذهب بعضهم إلى يحيى بأمر الهادي، فيضرب عنقه. ثم قالوا: لعل أمير المؤمنين يفيق من مرضه، فما عذرنا عنده! فأمسكوا. ثم بعثت الخيزران إلى يحيى تعلمه أن الرجل لمآبه، وتأمره بالاستعداد لما ينبغي؛ وكانت المستولية على أمر الرشيد وتدبير الخلافة إلى أن هلك؛ فأحضر الكتاب وجمعوا في منزل الفضل بن يحيى، فكتبوا لليلتهم كتبًا إلى الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنهم قد ولاهم الرشيد ما كانوا يلون؛ فلما مات الهادي أنفذوها على البرد. وذكر الفضل بن سعيد، أن أباه حدثه أن الخيزران كانت قد حلفت ألا تكلم موسى الهادي، وانتقلت عنه، فلما حضرته الوفاة، وأتاها الرسول فأخبرها بذلك، فقالت: وما أصنع به؟ فقالت لها خالصة: قومي إلى ابنك أيتها الحرة؛ فليس هذا وقت تعتب ولا تغضب. فقالت: أعطوني ماء أتوضأ للصلاة، ثم قالت: أما إنا كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة؛ قال: فمات موسى، وملك هارون، وولد المأمون. قال الفضل: فحدثت بهذا الحديث عبد الله بن عبيد الله، فساقه لي مثل ما حدثنيه أبي، فقلت: فمن أين كان للخيزران هذا العلم؟ قال: إنها كانت قد سمعت من الأوزاعي. ذكر يحيى بن الحسن أن محمد بن سليمان بن علي حدثه، قال: حدثتني عمتي زينب ابنة سليمان، قالت: لما مات موسى بعيساباذ، أخبرتنا الخيزران الخبر، ونحن أربع نسوة؛ أنا وأختي وأم الحسن وعائشة، بنيات سليمان، ومعنا ريطة أم علي، فجاءت خالصة، فقالت لها: ما فعل الناس؟ قالت: يا سيدتي، مات موسى ودفنوه؛ قالت: إن كان موت موسى، فقد بقي هارون، هات لي سويقا، فجاءت بسويق، فشربت وسقتنا، ثم قالت: هات لسادتي أربع مائة ألف دينار، ثم قالت: ما فعل ابني هارون؟ قالت: حلف ألا يصلي الظهر إلا ببغداد. قالت هاتوا الرحائل، فما جلوسي ها هنا؛ وقد مضى! فلحقته ببغداد. ذكر الخبر عن وقت وفاته ومبلغ سنه وقدر ولايته ومن صلى عليه قال أبو معشر: توفي موسى الهادي ليلة الجمعة للنصف من شهر ربيع الأول؛ حدثنا بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق. وقال الواقدي: مات موسى بعيساباذ للنصف من شهر ربيع الأول. وقال هشام بن محمد: هلك موسى الهادي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ليلة الجمعة في سنة سبعين ومائة. وقال بعضهم: توفي ليلة الجمعة لستة عشر يومًا منه؛ وكانت خلافته سنة وثلاثة أشهر. وقال هشام: ملك أربعة عشر شهرًا، وتوفي وهو ابن ست وعشرين سنة. وقال الواقدي: كانت ولايته سنة وشهرًا واثنين وعشرين يومًا. وقال غيرهم: توفي يوم السبت، لعشر خلت من ربيع الأول - أو ليلة الجمعة - وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وكانت خلافته سنة وشهرًا وثلاثة وعشرين يومًا، وصلى عليه أخوه هارون بن محمد الرشيد. وكان كنيتة أبو محمد، وأمه الخيرزان أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه. وذكر الفضل بن إسحاق أنه كان طويلًا جسيمًا جميلًا أبيض، مشبًا حمرة؛ وكان بشفته العليا تقلص، وكان يلقب موسى أطبقن وكان قد ولد بالسيروان من الري. ذكر أولاده وكان له من الأولاد تسعة؛ سبعة ذكور وابنتان، أما الذكور فأحدهم جعفر - وهو الذي يرشحه للخلافة - والعباس وعبد الله وإسحاق وإسماعيل وسليمان وموسى بن موسى الأعمى كلهم من أمهات أولاد. وكان الأعمى - وهو موسى - ولد بعد موت أبيه. والابنتان؛ إحداهما أم عيسى كانت عند المأمون، والأخرى أم العباس بنت موسى، تلقب نوتة. ذكر بعض أخباره وسيره ذكر إبراهيم بن عبد السلام، ابن أخي الندي أبو طوطة، قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: كنت مع موسى بجرجان، فأتاه نعي المهدي والخلافة، وركب البريد إلى بغداد؛ ومعه سعيد بن سلم، ووجهي إلى خراسان؛ فحدثني سعيد بن سلم، قال: سرنا بين أبات جرجان وبساتينها، قال: فسمع صوتًا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة، قال: فقلت يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك! قال: وكيف؟ قال: قلت له: كان سليمان بن عبد الملك في منتزه له ومعه حرمه؛ فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته، فقال: علي بصاحب الصوت؛ فأتى به؛ فلما مثل بين يديه، قال له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي! أما علمت أن الرماك إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه! يا غلام جبه، فجب الرجل. فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المنتزه، فجلس مجلس الذي فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه، فأحضره، فلما مثل بين يديه، قال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فوالله ما دعاه بالخلافة، ولكنه قال له: يا سليمان؛ الله الله! إنك قطعت نسلي، فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله. قال: فقال يا موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده فقال: لا تعرض للرجل. وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى المهدي؛ أن على ابن صالح حدثه؛ أنه كان يومًا على رأس الهادي وهو غلام - وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام - فدخل عليه الحراني، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام؛ فالتفت إلي، وقال: يا علي، ائذن للناس، علي بالجفلي لا بالنقري، فخرجت من عنده أطير على وجهي. ثم وقفت فلم أدري ما قال لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين، فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي! ثم أدركني ذهني؛ قبعثت إلى أعرابي كان قد وفد، وسألته عن الجفلى النقري، فقال: الجفلى جفالة، والنقري ينقر خواصتهم. فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم؛ فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل؛ فلما تقوض المجلس مثلت بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئًا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك، فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا، ففسر لي الكلام؛ فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قال: نعم مائة ألف درهم تحمل إليه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف، وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي! أجود وتبخل! قال: وحدثني علي بن صالح، قال: ركب الهادي يومًا يريد عيادة أمه الخيزران من علة كانت وجدتها، فاعرضه عمر بن بزيغ، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ ألا أدلك على وجه هو أعود عليك من هذا؟ فقال: وما هو يا عمر؟ قال: الظالم لم تنظر فيها منذ ثلاث، قال: فأومأ إلى المطرقة أن يميلوا إلى دار المظالم، ثم بعث إلى الخيزران بخادم من خدمه يعتذر إليها من تخلفه، وقال: قل لها أن عمر بن بزيع أخبرنا من حق الله بما هو أوجب علينا من حقك، فملنا إليه ونحن عائدون إليك في غد إن شاء الله. وذكر عن عبد الله بن مالك، أنه قال: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضرهم؛ وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم؛ ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي. قال: فلما ولى الهادي الخلافة أيقنت بالتلف؛ فبعث إلي يومًا، فدخلت عليه متكفنًا متحنطًا؛ وإذا هو على كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يومًا بعثت إليك في أمر الحراني، وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني؛ وفي فلان وفلان - وعل يعدد ندماءه - فلم تلتفت إلى قولي، ولا أمري! قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر، فبعث إلي بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك. فاستدناني، فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدًا فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرًا في أمري وأمره، وقلت: حدث يشرب، والقوم الذي عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه؛ فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في، وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوفه. قال: فإني لجالس وبين يديه بنية لي في وقتي ذلك، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسنخه وأضعه للصبية؛ وإذا ضجة عظيمة، حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت؛ فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم؛ فلما رأيته وثبت عن مجلس مبادرًا، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك، فقلت: يسبق إلى قلبك إني إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تأكل، وافعل فيه ما كنت تفعل؛ لتعلم أني قد تحرمت والسكرجة التي فيها الكامخ، فأكل منها ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي. فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال؛ لعلي أحتاج إليها يومًا لبعض أسفاري، ثم قال: أظلك الله بخير، وانصرف راجعًا. فذكر موسى بن عبد الله أن أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره، ثم بنى حوله معالف لتلك البغال؛ وكان هو يتولى النظر إليها والقيام عليها أيام حياة الهادي كلها. وذكر محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود بن طهمان السلمي. قال: أخبرنيأبي، قال: كان علي بن عيسى بن ماهان يغضب غضب الخليفة، ويرضى رضا الخليفة؛ وكان أبي يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى؛ فإنه دخل إلى الحبس وفي يده سوط، فقال: أمرني أمير المؤمنين موسى الهادي أن أضربك مائة سوط، قال: فأقبل يضعه على يدي ومنكبي؛ يمسني به مسًا إلى أن عد مائة، وخرج. فقال له: ما صنعت بالرجل؟ قال: صنعت به ما أمرت. قال: فما حاله؟ قال: مات، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ويلك! فضحتني والله عند الناس؛ هذا رجل صالح، يقول الناس: قتل يعقوب بن داود! قال: فلما رأى شدة جزعه، قال: هو حي يا أمير المؤمنين لم يمت، الحمد لله على ذلك. قال: وكان الهادي قد استخلف على حجابته بعد الربيع ابنه الفضل، فقال له: لا تحجب عني الناس؛ فإن ذلك يزيل عني البركة، ولا تلق إلي أمرًا إذا كشفته أصبته باطلا؛ فإن ذلك يوقع الملك، ويضر الرعية. وقال موسى بن عبد الله: أتى موسى برجل، فجعل يقرعه بذنوبه ويتهدده، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين، اعتذاري مما تقرعني به رد عليك، وإقراري يوجب علي ذنبًا؛ ولكني أقول: فإن كنت ترجو في العقوبة رحمةً ** فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر قال: فأمر بإطلاقه. وذكر عمر بن شبة أن سعيد بن سلم كان عند موسى الهادي، فدخل عليه وفد الروم وعلى سعيد بن سلم قلنسوة - وكان قد صلع وهو حدث - فقال له موسى: ضع قلنسوتك حتى تتشايخ بصلعتك. وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق أن أباه حدثه، قال: خرجت إلى عيساباذ أريد الفضل بن الربيع، فلقيت موسى أمير المؤمنين وهو خليفة؛ وأنا لا أعرفه؛ فإذا هو في غلالة على فرس، وبيده قناة لا يدرك أحدًا إلا طعنه. فقال لي: يا بن الفاعلة! قال: فرأيت إنسانًا كأنه صم، وكنت رأيته بالشام، وكان فخذاه كفخذي بعير، فضربت يدي إلى قائم السيف، فقال لي رجل: ويلك! أمير المؤمنين، فحركت دابتي - وكان شهريًا حملني عليه الفضل بن الربيع، وكان اشتراه بأربعة آلاف درهم - فدخلت دار محمد بن القاسم صاحب الحرس، فوقف على الباب، وبيده القناة، وقال: اخرج يا بن الفاعلة! فلم أخرج، ومر فمضى. قلت للفضل: فإني رأيت أمير المؤمنين؛ وكان من القصة كذا وكذا، فقال: لا أرى لك وجهًا إلا ببغداد؛ إذا جئت أصلي الجمعة فالقني، قال: فما دخلت عيساباذ حتى هلك الهادي. وذكر الهيثم بن عروة الأنصاري أن الحسين بن معاذ بن مسلم - وكان رضيع موسى الهادي - قال: لقد رأيتني أخلو مع موسى، فلا أجد له هيبةً في قلبي عند الخلوة، لما كان يبسطني. وربما صارعني فأصرعه غير هائب له، وأضرب به الأرض، فإذا تلبس لبسة الخلافة ثم جلس مجلس الأمر والنهي قمت على رأسه؛ فوالله ما أملك نفسي من الرعدة والهيبة له. وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق أن محمد بن سعيد بن عمر بن مهران، حدثه عن أبيه، عن جده، قال: كانت المرتبة لإبراهيم بن سلم بن قتيبة عند الهادي، فمات ابن لإبراهيم يقال له سلم، فأتاه موسى الهادي يعزيه عنه على حمار أشهب، لا يمنع مقبل ولا يرد عنه مسلم؛ حتى نزل في رواقه، فقال له: يا إبراهيم، سرك هو عدو وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة. فقال: يا أمير المؤمنين، ما بقي مني جزء كان فيه حزن إلا وقد امتلأ عزاء. قال: فلما مات إبراهيم صارت المرتبة لسعيد بن سلم بعده. وذكر عمر بن شبة أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كان يلقب بالجرزي، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية - وكانت تحت المهدي - فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين، فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي ﷺ؛ فأما غيرهن فلا ولا كرامة. فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمسمائة سوط، فضرب، وأراده أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقى ناحية؛ وكان في يده خاتم سري فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب، فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح. وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي، مع استخفافه بأبي، وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قال: قل له وسله، ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك. ففعل ذلك موسى، فصدقه الخادم، فقال: أحسن والله، أنا أشهد أنه ابن عمي؛ لو لم يفعل لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه. وذكر أبو إبراهيم المؤذن، أن الهادي كان يثب على الدابة وعليه درعان، وكان النهدي يسميه ريحاني. وذكر محمد بن عطاء بن الواسطي، أن أباه حدثه أن المهدي قال لموسى يومًا - وقد قدم إليه زنديق، فاستتابه، فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني إن صار لك هذا الآمر فتجرد لهذه العصابة - يعني أصحاب ماني - فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن، كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك قتل الهوام تحرجًا وتحوبًا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين: أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور؛ فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له؛ فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين. قال: فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عينًا تطرف. ويقال: إنه أمر أن يهيأ له ألف جدع، فقال: هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين. وذكر أيوب بن عنابة أن موسى بن صالح بن شيخ، حدثه أن عيسى بن دأب كان أكثر أهل الحجاز أدبًا وأعذبهم ألفاظًا؛ وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن عنده لأحد؛ وكان يدعو له بمتكأ، وما كان يفعل ذلك بأحد غيره في مجلسه. وكان يقول: ما استطلت بك يومًا ولا ليلة، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت ألا أرى غيرك. وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر حسن الانتزاع له. قال: فأمر له ذات ليلة بثلاثين ألف دينار؛ فلما أصبح ابن دأب وجه قهرمانة إلى باب موسى، وقال له: الق الحاجب، وقل له: يوجه إلينا بهذا المال، فلقي الحاجب، فأبلغه رسالته؛ فتبسم وقال: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع ليخرج له كتابًا إلى الديوان، فتدبره هناك ثم تفعل فيه كذا وكذا. فرجع إلى ابن دأب فأخبره، فقال: دعها ولا تعرض لها، ولا تسأل عنها. قال: فبينا موسى في مستشرف له ببغداد، إذ نظر إلى دأب قد أقبل وليس معه إلا غلام واحد! فقال لإبراهيم الحراني: أما ترى ابن دأب؛ ما غير من حاله، ولا تزين لنا؛ وقد بررناه بالأمس ليرى أثرنا عليه! فقال له إبراهيم: فإن أمرني أمير المؤمنين عرضت له بشيء من هذا؛ قال: لا، هو أعلم بأمره؛ ودخل ابن دأب، فأخذ في حديثه إلى أن عرض له موسى بشيء من أمره، فقال: أرى ثوبك غسيلًا، وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد اللين، فقال: يا أمير المؤمنين، باعي قصير عما أحتاج إليه، قال: وكيف وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا أن فيه صلاح شأنك! قال: ما وصل إلي ولا قبضته، فدعا صاحب بيت مال الخاصة، فقال: عجل له الساعة ثلاثين ألف دينار، فأحضرت وحملت بين يديه. وذكر علي بن محمد، أن أباه حدثه عن علي بن يقطين، قال: إني لعند موسى ليلة مع جماعة من أصحابه؛ إذ أتاه خادم فسار بشيء، فنهض سريعًا، وقال: لا تبرحوا، ومضى فأبطأ، ثم جاء وهو يتنفس، فألقى بنفسه على فراشه يتنفس ساعة حتى استراح، ومعه خادم يحمل طبقًا مغطى بمنديل، فقام بين يديه، فأقبل يرعد، فعجبنا من ذلك. ثم جلس وقال للخادم: ضع ما معك، فوضع الطبق، وقال: ارفع المنديل، فرفعه فإذا في الطبق رأسًا جاريتين؛ لم أراد والله أحسن من وجوههما قط ولا من شعورهما، وإذا على رءوسهما الجوهر منظوم على الشعر، وإذا رائحة طيبة تفوح، فأعظمنا ذلك، فقال: أتدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا، قال: بلغنا أنهما تتحابان قد اجتمعتا على الفاحشة، فوكلت هذا الخادم بهما ينهي إلي أخبارهما، فجاءني فأخبرني أنهما قد اجتمعتا، فجئت فوجدتهما في لحاف واحد على الفاحشة فقتلتهما، ثم قال: يا غلام، ارفع الرأسين قال: ثم رجع في حديثه كأنه لم يصنع شيئًا. وذكر أبو العباس بن أبي مالك اليمامي أن عبد الله بن محمد البواب، قال: كنت أحجب الهادي خليفةً للفضل بن الربيع، قال: فإنه ذات يوم جالس وأنا في داره، وقد تغدى ودعا بالنبيذ، وقد كان قبل ذلك دخل على أمه الخيزران، فسألته أن يولي خاله الغطريف اليمن، فقال: أذكريني به قبل أن أشرب، قال: فلما عزم على الشرب وجهت إليه منيرة - أو زهرة - تذكره، فقال: اختاري له طلاق ابنته عبيدة أو ولاية اليمن، فلم تفهم إلا قوله: اختاري له فمرت، فقالت: قد اخترت له ولاية اليمن، فطلق ابنته عبيدة، فسمع الصياح، فقال: ما لكم؟ فأعلمته الخبر، فقال: أنت اخترت له، فقالت: ما هكذا أديت إلي الرسالة عنك. قال: فأمر صالحًا صاحب المصلى أن يقف بالسيف على رءوس الندماء ليطلقوا نساءهم، فخرج إلي بذلك الخدم ليعلموني ألا آذن لأحد. قال: وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه، يراوح بين قدميه، فعن لي بيتان، فأنشدتهما وهما: خليلي من سعد ألما فسلما ** على مريم، لا يبعد الله مريما وقولا لها: هذا الفراق عزمته ** فهل من نوالٍ بعد ذلك فيعلما! قال: فقال لي الرجل المتلفع بطيلسانه: فنعلما، فقلت: ما الفرق بين يعلما ونعلما؟ فقال: أنا أعلم بالشعر منك، قال: فلمن الشعر؟ قلت: للأسود بن عمارة النوفلي، فقال لي: فأنا هو؛ فدنوت منه فأخبرته خبر موسى، واعتذرت إليه من مراجعتي إياه. قال: فصرف دابته، وقال: هذا أحق منزل بأن يترك. قال مصعب الزبيري: قال أبو المعافي: أنشدت العباس بن محمد مديحًا في موسى وهارون: يا خيزران هناك ثم هناك ** إن العباد يسوسهم إبناك قال: فقال لي: إني أنصحك، قال اليماني: لا تذكر أمي بخير ولا بشر. وذكر أحمد بن صالح بن أبي فنن، قال: حدثني يوسف الصقيل الشاعر الواسطي، قال: كنا عند الهادي بجرجان قبل الخلافة ودخوله بغداد، فصعد مستشرفا له حسنًا؛ فغنى بهذا الشعر: واستقلت رجالهم ** بالرديني شرعا فقال: كيف هذا الشعر؟ فأنشدوه، فقال: كنت أشتهي أن يكون هذا الغناء في شعر أرق من هذا، اذهبوا إلى يوسف الصقيل حتى يقول فيه، قال: فأتوني فأخبروني الخبر، فقلت: لا تلمني أن اجزعا ** سيدس قد تمنعا وابلائي إن كان ما ** بيننا قد تقطعا إن موسى بفضله ** جمع الفضل أجمعا قال: فنظر فإذا أمامه، فقال: أوقروا هذا دراهم ودنانير، واذهبوا بها إليه. قال: فأتوني بالبعير موقرًا. وذكر محمد بن سعد، قال: حدثني أبو زهير، قال: كان ابن دأب أحظى الناس عند الهادي، فخرج الفضل بن الربيع يومًا، فقال: إن أمير المؤمنين يأمر من بابه بالانصراف؛ فأما أنت يا بن دأب فادخل، قال ابن دأب: فدخلت عليه وهو منبطح على فراشه؛ وإن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل، فقال لي: حدثني بحديث في الشراب، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت رجله من كنانة ينتجعون الخمر من الشأم، فمات أخ لأحدهم، فجلسوا عند قبره يشربون، فقال أحدهم: لا تصرد هامةً من شربها ** أسقه الخمر وإن كان قبر أسق أوصالًا وهامًا وصدى ** قاشعًا يقشع قشع المبتكر كان حرًا فهوى فيمن هوى ** كل عود وفنون منكسر قال: فدعا بدواة فكتبها، ثم كتب إلى الحراني بأربعين ألف درهم، وقال: عشرة آلاف لك، وثلاثون ألفًا للثلاثة الأبيات. قال: فأتيت الحراني، فقال: صالحنا على عشرة آلاف، على أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها لأمير المؤمنين، حتى يبدأني، فمات ولم يذكرها حتى أفضت الخلافة إلى الرشيد. وذكر أبو دعامة أن سلم بن عمرو الخاسر مدح موسى الهادي، فقال: بعيساباذ حر من قريش ** على جنباته الشرب الرواء يعوذ المسلمون بحقوتيه ** إذا ما كان خوف أو رجاء وبالميدان دور مشرفات ** يشيدهن قوم أدعياء وكم من قائلٍ إني صحيح ** وتأبه الخلائق والرواء له حسب يضن به ليبقى ** وليس لما يضن به بقاء على الضبي لؤم ليس يخفي ** يغطيه فينكشف الغطاء لعمري لو أقام أبو خديج ** بناء الدار ما انهدم البناء قال: وقال سلم الخاسر لما تولى الهادي الخلافة بعد المهدي: لقد فاز موسى بالخلافة والهدى ** ومات أمير المؤمنين محمد فمات الذي عم البرية فقده ** وقام الذي يكفيك من يتفقد وقال أيضًا: تخفى الملوك لموسى عند طلعته ** مثل النجوم لقرن الشمس إذ طلعا وليس خلق يرى بدرًا وطلعته ** من البرية إلا ذل أو خضعا وقال أيضًا: لولا الخليفة موسى بعد والده ** ما كان للناس من مهديهم خلف ألا ترى أمة الأمى واردةً ** كأنها من نواحي البحر تغترف من راحتي ملك قد عم نائله ** كأنه نائله من جوده سرف وذكر إدريس بن أبي حفصة أن مروان بن أبي حفصة حدثه، قال: لما ملك موسى الهادي دخلت عليه فأنشدته: إن خلدت بعد الاٍمام محمد ** نفسي لما فرحت بطول بقائها قال: ومدحت فقلت فيه: بسبعين ألفًا شد ظهري وراشني ** أبوك وقد عاينت من ذاك مشهدا وإني أمير المؤمنين لواثق ** بألا يرى شربي لديك مصردا فلما أنشدته قال: ومن يبلغ مدى المهدي! ولكنا سنبلغ رضاك. قال: وعاجلته المنية فلم يعطني شيئًا، ولا أخذت من أحد درهمًا حتى قام الرشيد. وذكر هارون بن موسى الفروي، قال: حدثني أبو غزية، عن الضحاك بن معن السلمي، قال: دخلت على موسى فأنشدته: يا منزلي شجو الفؤاد تكلما ** فلقد أرى بكما الرباب وكلثما ما منزلان على التقادم والبلى ** أبكي لما تحت الجوانح منكما ردا السلام على كبير شاقة ** طللان قد درسا فهاج فسلما قال: ومدحته فيها، فلما بلغت: سبط الأنامل بالفعال أخاله ** أن ليس يتركفي الخزائن درهمًا التفت إلى أحمد الخازن، فقال: ويحك يا أحمد! كأنه نظر إلينا البارحة، قال: وكان قد أخرج تلك الليلة مالًا كثيرًا ففرقه. وذكر عن إسحاق الموصلي - أو غيره - عن إبراهيم، قال: كنا يوما عند موسى، وعنده ابن جامع ومعاذ بن الطيب - وكان أول يوم دخل علينا معاذ؛ حاذقًا بالأغاني، عارفًا بقديمها - فقال: من أطربني منكم فله حكمه؛ فغناه ابن جامع غناءً فلم يحركه، وفهمت غرضه في الأغاني، فقال هات يا إبراهيم، فغنيته: سليمى أجمعت بينا ** فأين تقولها أينا! فطرب حتى قام من مجلسه، ورفع صوته، وقال: أعد، فأعدت، فقال: هذا غرضي فاحتكم، فقلت يا أمير المؤمنين، حائط عبد الملك وعينه الخرارة، فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قال: يا بن اللخناء، أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني وأني حكمتك فأقطعتك! أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك لضربت الذي فيه عيناك. ثم أطرق هنيهة، فرأيت ملك الموت بيني وبينه ينتظر أكره. ثم دعا إبراهيم الحراني فقال: خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت المال، فليأخذ منه ما شاء، فأدخلني الحراني بيت المال، فقال: كم تأخذ؟ قلت: ماءة بدرة، قال: دعني أؤامره، قال: قلت: فثمانين، قال: حتى أؤامره، فعملت ما أراد، فقلت: سبعين بدرة لي، وثلاثين لك، قال: الآن جئت بالحق، فشأنك. فانصرفت بسبعمائة ألف وانصرف ملك الموت عن وجهي. وذكر علي بن محمد، قال: حدثني صالح بن علي بن عطية الأضخم عن حكم الوادي، قال كان الهادي يشتهي من الغناء الوسط الذي يقل ترجيعه، ولا يبلغ أن يستخف به جدًا. قال: فبينا نحن ليلة عنده، وعنده ابن جامع والموصلي والزبير بن دحمان والغنوي إذ دعا بثلاث بدور وأمر بهن فوضعن في وسط المجلس، ثم ضم بعضهن إلى بعض، وقال: من غنائي صوتًا في الطريق الذي أشتهيه، فهن له كلهن. قال: وكان فيه خلق حسن؛ كان إذا كره شيئًا لم يوقف عليه، وأعرض عنه. فغناه ابن الجامع، فأعرض عنه، وغنى القوم كلهم؛ فأقبل يعرض حتى تغنيت، فوافقت ما يشتهي فصاح أحسنت أحسنت! اسقوني، فشرب وطرب، فقمت فجلست على البدور، وعلمت أني قد حويتها، فحضر ابن جامع، فأحسن المحضر، وقال: يا أمير المؤمنين، هو والله كما قلت، وما منا أحد إلا وقد ذهب عن طريقك غيره، قال: هي لك، وشرب حتى بلغ حاجته على الصوت، ونهض، فقال: مروا ثلاثة من الفراشين يحملونها معه، فدخل وخرجنا نمشي في الصحن منصرفين، فلحقني ابن جامع، فقلت: جعلت فداك يا أبا القاسم! فعلت ما يفعل مثلك في نسبك؛ فانظر فيها بما شئت. فقال: هنأك الله، ووددنا أنا زدناك. ولحقنا الموصلي، فقال: أجزنا، فقلت: ولم لم تحسن محضرك! لا والله ولا درهمًا واحدًا. وذكر محمد بن عبد الله، قال: قال لي سعيد القارئ العلاف - وكان صاحب أبان القارئ -: إنه كان عند موسى جلساؤه، فيهم الحراني وسعيد بن سلم وغيرهما؛ وكانت جارية لموسى تسقيهم؛ وكانت ماجنةً، فكانت تقول لهذا: يا جلفي؛ وتعبث بهذا وهذا؛ ودخل يزيد بن مزيد فسمع ما تقول لهم، فقال لها: والله الكبير؛ لئن قلت لي مثل ما تقولين لهم لأضربنك ضربة بالسيف، فقال لها موسى: ويلك! إنه والله يفعل ما يقول؛ فإياك. قال: فأمسكت عنه ولم تعابثه قط. قال: وكان سعيد العلاف وأبان القارئ إباضيين. وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب، قال: حدثني ابن القداح، قال: كانت للربيع جارية يقال لها أمة العزيز، فائقة الجمال، ناهدة الثديين، حسنة القوام، فأهداها لإلى المهدي، فلما رأى جمالها وهيئتها، قال: هذه لموسى أصلح، فوهبها له؛ فكانت أحب الخلق إليه، وولدت له بنيه الأكابر. ثم إن بعض أعداء الربيع قال لموسى: إنه سمع الربيع يقول: ما وضعت بيني وبين الأرض مثل أمة العزيز، فغار موسى من ذلك غيرة شديدة، وحلف ليقتلن الربيع، فلما استخلف دعا الربيع في بعض الأيام، فتغدى معه وأكرمه، وناوله كأسًا فيها شراب عسل؛ قال: فقال الربيع: فعلمت أن نفسي فيها، وأني إن رددت الكأس ضرب عنقي؛ مع ما قد علمت أن في قلبه علي من دخولي على أمه، وما بلغه عني، ولم يسمع مني عذرًا. فشربتها. وانصرف الربيع إلى منزله، فجمع ولده، وقال لهم: إني ميت في يومي هذا أو من غد، فقال له ابنه الفضل: ولم تقول هذا جعلت فداك! فقال: إن موسى سقاني شربة سم بيده، فأنا أجد عملها في بدني، ثم أوصى بما أراد، ومات في يومه أو من غده. ثم تزوج الرشيد أمة العزيز بعد موت موسى الهادي، فأولدها علي بن الرشيد. وزعم الفضل بن سليمان بن إسحاق الهاشمي أن الهادي لما تحول إلى عيساباذ في أول السنة التي ولي الخلافة فيها، عزل الربيع عما كان يتولاه من الوزارة وديوان الرسائل، وولى مكانه عمر بن بزيع، وأقر الربيع على الزمام؛ وأوذن بموته فلم يحضر جنازته، وصلى عليه هارون الرشيد؛ وهو يومئذ ولي عهد، وولى موسى مكان الربيع إبراهيم بن ذكوان الحراني، واستخلف على ما تولاه إسماعيل بن صبيح، ثم عزله واستخلف يحيى بن سليم، وولى إسماعيل زمام ديوان الشام وما يليها. وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، خال الفضل بن الربيع، أن أباه حدثه، أن موسى الهادي قال: أريد قتل الربيع؛ فما أدري كيف أفعل به! فقال له سعيد بن سلم: تأمر رجلًا باتخاذ سكين مسموم، وتأمره بقتله، ثم تأمر بقتل ذلك الرجل. قال: هذا الرأي، فأمر رجلًا فجلس له في الطريق، وأمره بذلك، فخرج بعض خلفاء الربيع، فقال له: إنه قد أمر فيك بكذا وكذا، فأخذ في غير ذلك الطريق، فدخل منزله، فتمارض، فمرض بعد ذلك ثمانية أيام؛ فمات ميتة نفسه. وكانت وفاته سنة تسع وستين ومائة؛ وهو الربيع بن يونس. خلافة هارون الرشيد بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بالخلافة ليلة الجمعة الليلة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي. وكانت سنة يوم ولي اثنتين وعشرين سنة. وقيل كان يوم بويع بالخلافة ابن إحدى وعشرين سنة. وأمه أم ولد يمانية جرشية يقال لها خيزران، وولد بالري لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة في خلافة المنصور. وأما البرامكة فإنها - فيما ذكر - تزعم أن الرشيد ولد أول يوم من المحرم سنة تسع وأربعين ومائة؛ وكان الفضل بن يحيى ولد قبله بسبعة أيام، وكان مولد الفضل لسبع بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين ومائة، فجعلت أم الفضل ظئرًا للرشيد، وهي زينب بنت منير، فأرضعت الرشيد بلبان الفضل، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد. وذكر سليمان بن أبي شيخ أنه لما كان الليلة التي توفي فيها موسى الهادي أخرج هرثمة بن أعين هارون الرشيد ليلًا فأقعده للخلافة، فدعا هارون يحيى بن خالد بن برمك - وكان محبوسًا، وقد كان عزم موسى على قتله وقتل هارون الرشيد في تلك الليلة - قال: فحضر يحيى، وتقلد الوزارة، ووجه إلى يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فأحضره، وأمره بإنشاء الكتب؛ فلما كان غداة تلك الليلة، وحضر القواد قام يوسف بن القاسم، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ﷺ، ثم تكلم بكلام أبلغ فيه، وذكر موت موسى وقيام هارون بالأمر من بعده، وما أمر به للناس من الأعطيات. وذكر أحمد بن القاسم، أنه حدثه عمه علي بن يوسف بن القاسم هذا الحديث، فقال: حدثني يزيد الطبري مولانا أنه كان حاضرًا يحمل دواة أبي يوسف بن القاسم، فحفظ الكلام. قال: قال بعد الحمد لله عز وجل والصلاة على النبي ﷺ: إن الله بمنه ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه بيت الخلافة ومعدن الرسالة، وأتاكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضي مدى الأبد، وأياديه التامة، أن جمع ألفتكم وأعلى أمركم، وشد عضدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق؛ وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويًا عزيزًا؛ فكنتم أنصار دين الله المرتضى والذابين بسيفه المنتضى؛ عن أهل بيت نبيه ﷺ. وبكم استنقذكم من أيدي الظلمة، أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به؛ فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم. وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام، فقبضه إليه، وولى بعده رشيدًا مرضيًا أمير المؤمنين رءوفًا بكم رحيمًا، من محسنكم قبولًا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفًا؛ وهو - أمتعه الله بالنعمة وحفظ له ما اترعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته - يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم. وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء مما في بيوت الأموال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرًا، غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم، وحامل باقي ذلك؛ للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال؛ حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها، والحال التي كانت عليها؛ فاحمدوا الله وجددوا شكرًا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم؛ بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته. وارغبوا إلى الله له في البقاء؛ ولكم به في إدامة النعماء، لعلكم ترحمون. وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم، حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين. وذكر يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني محمد بن هشام المخزومي، قال: جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد وهو نائم في لحاف بلا إزار؛ لما توفي موسى، فقال: قم يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: كم تروعني إعجابًا منك بخلافتي! وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل؛ فإن بلغه هذا، فما تكون حالي! فقال له: هذا الحراني وزير موسى وهذا خاتمه. قال: فقعد في فراشه، فقال: أشر علي، قال: فبينما هو يكلمه إذ طلع رسول آخر، فقال: قد ولد لك غلام، فقال: قد سميته عبد الله، ثم قال ليحيى: أشر علي، فقال: أشير عليك أن تقعد لحالك على أرمينية، قال: قد فعلت؛ ولا والله لا صليت بعيساباذ إلا عليها، ولا صليت الظهر إلا ببغداد؛ وإلا ورأس أبي عصمة بين يدي. قال: ثم لبس ثيابه، وخرج فصلى عليه، وقدم أبا عصمة، فضرب عنقه، وشط جمته في رأس قناة، ودخل بها بغداد؛ وذلك أنه كان مضى هو وجعفر بن موسى الهادي راكبين. فبلغا إلى قنطرة من قناطر عيساباذ، فالتفت أبو عصمة إلى هارون، فقال له: مكانك حتى يجوز ولي العهد، فقال هارون: السمع والطاعة للأمير؛ فوقف حتى جاز جعفر؛ فكان هذا سبب قتل أبي عصمة. قال: ولما صار الرشيد إلى كرسي الجسر دعا بالغواصين، فقال: كان المهدي وهب لي خاتمًا شراؤه مائة ألف دينار يسمى الجبل، فدخلت على أخي وهو في يدي؛ فلما انصرفت لحقني سليم الأسود على الكرسي. فقال: يأمرك أمير المؤمنين أن تعطيني الخاتم، فرميت به في هذا الموضع. فغاصوا فأخرجوه، فسر به غاية السرور. وقال محمد بن إسحاق الهاشمي: حدثني غير واحد من أصحابنا، منهم صباح بن خاقان التميمي، أن موسى الهادي كان خلع الرشيد وبايع لابنه جعفر؛ وكان عبد الله بن مالك على الشرط، فلما توفي الهادي هجم خزيمة بن خازم في تلك الليلة، فأخذ جعفرًا من فراشه؛ وكان خزيمة في خمسة آلاف من مواليه معهم السلاح، فقال: والله لأضربن عنقك أو تخلعها، فلما كان الغد، ركب الناس إلى باب جعفر، فأتى به خزيمة، فأقامه على باب الدار في العلو، والأبواب مغلقة، فأقبل جعفر ينادي: يا معشر المسلمين، من كان لي في عنقه بيعة فقد أحللته منها؛ والخلافة لعمي هارون؛ ولا حق لي فيها. وكان سبب مشي عبد الله بن مالك الخزاعي إلى مكة على اللبود؛ لأنه كان شاور الفقهاء في أيمانه التي حلف بها لبيعة جعفر، فقالوا له: كل يمين لك تخرج منها إلا المشي إلى بيت الله؛ ليس فيه حيلة. فحج ماشيًا. وحظي خزيمة بذلك عند الرشيد. وذكر أن الرشيد كان ساخطًا على إبراهيم الحراني وسلام الأبرش يوم مات موسى، فأمر بحبسهما وقبض أموالهما، فحبس إبراهيم عند يحيى بن خالد في داره، فكلم فيه محمد بن سليمان هارون، وسأله الرضا عنه وتخلية سبيله، والإذن له في الانحدار معه إلى البصرة، فأجابه إلى ذلك. وفي هذه السنة عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن مدينة الرسول ﷺ؛ وما كان إليه من عملها، وولى ذلك إسحاق بن سليمان بن علي. وفيها ولد محمد بن هارون الرشيد، وكان مولده - فيما ذكر أبو الكرماني عن محمد بن يحيى بن خالد - يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال من هذه السنة، وكان مولد المأمون قبله في ليلة الجمعة النصف من شهر ربيع الأول. وفيها قلد الرشيد يحيى بن خالد الوزارة، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه؛ وفي ذلك يقول إبراهيم الموصلي: ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ** فلما ولي هارون أشرق نورها بيمن أمين الله هارون ذي الندى ** فهارون واليها ويحيى وزيرها وكانت الخيزران هي الناظرة في الأمور، وكان يحيى يعرض عليها ويصدر عن رأيها. وفيها أمر هارون بسهم ذوي القربى، فقسم بين بني هاشم بالسوية. وفيها آمن من كان هاربًا أو مستخفيًا، غير نفر من الزنادقة؛ منهم يونس بن فروة ويزيد بن الفيض. وكان ممن ظهر من الطالبيين طبابا؛ وهو إبراهيم بن إسماعيل، وعلي بن الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن. وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزًا واحدًا وسميت العواصم. وفيها عمرت طرسوس على يدي أبي سليم فرج الخادم التركي ونزلها الناس. وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد من مدينة السلام، فأعطى أهل الحرمين عطاء كثيرًا، وقسم فيهم مالًا جليلًا. وقد قيل: إنه حج في هذه السنة وغزا فيها، وفي ذلك يقول داود بن رزين: بهارون لاح النور في كل بلدة ** وقام به في عدل سيرته النهج إمام بذات الله أصبح شغله ** وأكثر ما يعني به الغزو والحج تضيق عيون الناس عن نور وجهه ** إذا ما بدا للناس منظره البلج وإن أمين الله هارون ذا الندى ** ينيل الذي يرجوه أضعاف ما يرجو وغزا الصائفة في هذه السنة سليمان بن عبد الله البكائي. وكان العامل فيها على المدينة إسحاق بن سليمان الهاشمي، وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم، وعلى الكوفة موسى بن عيسى، وخليفته عليها ابنه العباس بن موسى، وعلى البصرة والبحرين والفرض وعمان واليمامة وكور الأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي. ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فما كان فيها من ذلك قدوم أبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي مدينة السلام منصرفًا عن خراسان، وكان خاتم الخلافة حين قدم مع جعفر بن محمد بن الأشعث، فلما قدم أبو العباس الطوسي أخذه الرشيد منه، فدفعه إلى أبي العباس، ثم لم يلبث أبو العباس إلا يسيرًا حتى توفي. فدفع الخاتم إلى يحيى بن خالد، فاجتمعت ليحيى الوزارتان. وفيها قتل هارون أبا هريرة محمد بن فروخ - وكان على الجزيرة - فوجه إليه هارون أبا حنيفة حرب بن قيس، فقدم به عليه مدينة السلام، فضرب عنقه في قصر الخلد. وفيها أمر هارون بإخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين إلى مدينة الرسول ﷺ، خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن علي بن أبي طالب، وكان أبوه الحسن بن عبد الله فيمن أشخص. وخرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبو خالد المروروذي. وفي هذه السنة كان قدوم روح بن حاتم إفريقية، وخرجت في هذه السنة الخيزران إلى مكة في شهر رمضان، فأقامت بها إلى وقت الحج فحجت. وحج بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس. ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك شخوص الرشيد فيها إلى مرج القلعة مرتادًا بها منزلا ينزله. ذكر السبب في ذلك ذكر أن الذي دعاه إلى الشخوص إليها أنه استثقل مدينة السلام، فكان يسميها البخار، فخرج إلى مرج القلعة، فاعتل بها، فانصرف، وسميت تلك السفرة سفرة المرتاد. وفيها عزل الرشيد يزيد بن مزيد عن إرمينية، وولاها عبيد الله بن المهدي. وغزا الصائفة فيها إسحاق بن سليمان بن علي. وحج بالناس في هذه السنة يعقوب بن أبي جعفر المنصور. وفيها وضع هارون عن أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف. ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن وفاة سليمان فمن ذلك وفاة محمد بن سليمان بالبصرة، لليال بقين من جمادى الآخرة منها. وذكر أنه لما مات محمد بن سليمان وجه الرشيد إلى كل ما خلفه رجلًا أمره باصطفائه، فأرسل إلى ما خلف من الصامت من قبل صاحب بيت ماله رجلًا، وإلى الكسوة بمثل ذلك، وإلى الفرش والرقيق والدواب من الخيل والإبل، وإلى الطيب والجوهر وكل آلة برجلٍ من قبل الذي يتولى كل صنف من الأصناف، فقدموا البصرة، فأخذوا جميع ما كان لمحمد مما يصلح للخلافة، ولميتركوا شيئًا إلا الحرثي الذي لا يصلح للخلفاء، وأصابوا له ستين ألف ألف فحملوها مع ما حمل، فلما صارت في السفن أخبر الرشيد بمكان السفن التي حملت ذلك؛ فأمر أن يدخل جميع ذلك خزائنه إلا المال؛ فإنه أمر بصكاك فكتب للندماء، وكتب للمغنين صكاك صغار لم تدر في الديوان، ثم دفع إلى كل رجل صكًا بما رأى أن يهب له، فأرسلوا وكلاءهم إلى السفن، فأخذوا المال على ما أمر لهم به في الصكاك أجمع؛ لم يدخل منه بيت ماله دينار ولا درهم، واصطفى ضياعه؛ وفيها ضيعة يقال لها برشيد بالأهواز لها غلة كثيرة. وذكر علي بن محمد، عن أبيه، قال: لما مات محمد بن سليمان أصيب في خزانة لباسه مذ كان صبيًا في الكتاب إلى أن مات مقادير السنين؛ فكان من ذلك ما عليه آثار النقش. قال: وأخرج من خزائنه ما كان يهدى له من بلاد السند ومكران وكرمان وفارس والأهواز واليمامة والري وعمان؛ من الألطاف والأدهان والسمك والحبوب والجبن، وما أشبه ذلك، ووجد أكثره فاسدًا. وكان من ذلك خمسمائة كنعدة ألقيت من دار جعفر ومحمد في الطريق؛ فكانت بلاء. قال: فمكثنا حينًا لا نستطيع أن نمر بالمربد من نتنها. ذكر وفاة الخيزران أم الهادي والرشيد وفيها توفيت الخيزران أم هارون الرشيد وموسى الهادي. ذكر الخبر عن وقت وفاتها ذكر يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: رأيت الرشيد يوم ماتت الخيزران، وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة، وعليه جبة سعيدية وطيلسان خرق أزرق، قد شد به وسطه، وهو آخذ بقائمة السرير حافيًا يعدو في الطين؛ حتى أتى مقابر قريش فغسل رجليه، ثم دعا بخف وصلى عليها، ودخل قبرها، فلما خرج من المقبرة وضع له كرسي فجلس عليه، ودعا الفضل بن الربيع، فقال له: وحق المهدي - وكان لا يحلف بها إلا إذا اجتهد - إني لأهم لك من الليل بالشيء من التولية وغيرها، فتمنعني أمي فأطيع أمرها، فخذ الخاتم من جعفر. فقال الفضل بن الربيع لإسماعيل بن صبيح: أنا أجل أبا الفضل عن ذلك؛ بأن أكتب إليه وآخذه؛ ولكن إن رأى أن يبعث به! قال وولى الفضل نفقات العامة والخاصة وباد وريا والكوفة، وهي خمسة طساسيج، فأقبلت حاله تنمي إلى سنة سبع وثمانين ومائة. وقيا إن وفاة محمد بن سليمان والخيزران كانت في يوم واحد. وفيها أقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان، وولاها ابنه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث. وحج بالناس فيها هارون؛ وذكر أنه خرج محرمًا من مدينة السلام. ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان بالشام من العصبية فيها. وفيها ولى الرشيد إسحاق بن سليمان الهاشمي السند ومكران. وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف، وأبوه حي. وفيها هلك روح بن حاتم. وفيها خرج الرشيد إلى باقردى وبازبدى، وبنى بباقردى قصرًا، فقال الشاعر في ذلك: بقردى وبازبدى مصيف ومربع ** وعذب يحاكي السلسبيل برود وبغداد، ما بغداد، أما ترابها ** فخرء، وأما حرها فشديد وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح. وحج بالناس فيها هارون الرشيد، فبدأ بالمدينة، فقسم في أهلها مالًا عظيمًا، ووقع الوباء في هذه السنة بمكة، فأبطأ عن دخولها هارون، ثم دخلها يوم التروية، فقضى طوافه وسعيه ولم ينزل بمكة. ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن البيعة للأمين فمن ذلك عقد الرشيد لابنه محمد بمدينة السلام من بعده ولاية عهد المسلمين وأخذه بيعة القواد والجند، وتسميته إياه الأمين، وله يومئذ خمس سنين، فقال سلم الخاسر: قد وفق الله الخليفة إذ بنى ** بيت الخليفة للهجان الأزهر فهو الخليفة عن أبيه وجده ** شهدًا عليه بمنظر وبمخبر قد بايع الثقلان في مهد الهدى ** لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر ذكر الخبر عن سبب بيعة الرشيد له وكان السبب في ذلك - فيما ذكر روح مولى الفضل بن يحيى، فقال له: أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي - يعني محمد بن زبيدة بنت جعفر بن المنصور - فإنه ولد لك وخلافته لك، فوعده أن يفعل، وتوجه الفضل على ذلك؛ وكانت جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد؛ فلما بايع له، أنكروا بيعته لصغر سنه. قال: وقد كان الفضل لما تولى خراسان أجمع على البيعة لمحمد؛ فذكر محمد بن الحسين بن مصعب أن الفضل بن يحيى لما صار إلى خراسان، فرق فيهم أموالًا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد؛ فبايع الناس له وسماه الأمين، فقال في ذلك النمري: أمست بمرو على التوفيق قد صفقت ** على يد الفضل أيدي العجم والعرب ببيعة لولي العهد أحكمها ** بالنصح منه وبالاٍشفاق والحدب قد وكد الفضل عقدًا لا انتقاض له ** لمصطفى من بني العباس منتخب قال: فلما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق، بايع لمحمد، وكتب إلى الآفاق، فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك: عزمت أمير المؤمنين على الرشد ** برأي هدى، فالحمد لله ذي الحمد وعزل فيها الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خاله الغطريف ابن عطاء. وفيها صار يحيى بن عبد الله بن حسن إلى الديلم، فتحرك هناك. وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح فبلغ إقريطية. وقال الوافدي: الذي غزا الصائفة في هذه السنة عبد الملك بن صالح، قال: وأصابهم في هذه الغزاة برد قطع أيديهم وأرجلهم. وحج بالناس فيها هارون الرشيد. ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من تولية الرشيد الفضل بن يحيى كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وإرمينية وأذربيجان. وفيها ظهر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب بالديلم. ذكر الخبر عن مخرج يحيى بن عبد الله وما كان من أمره ذكر أبو حفص الكرماني، قال: كان أول خبر يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه ظهر بالديلم، واشتدت شوكته، وقوي أمره، ونزع إليه الناس من الأمصار والكور، فاغتنم لذلك الرشيد، ولم يكن في تلك الأيام يشرب النبيذ، فندب إيه الفضل بن يحيى في خمسين ألف رجل، ومعه صناديد القواد، وولاه كور الري وجرجان وطبرستان وقومس ودنباوند والرويان، وحملت معه الأموال، ففرق الكور على قواده، فولى المثنى بن الحجاج بن قتيبة بن مسلم طبرستان، وولى علي بن الحجاج الخزاعي جرجان، وأمر له بخمسمائة ألف درهم، وعسكر بالنهرين، وامتدحه الشعراء، فأعطاهم أكثر، وتوسل إليه الناس بالشعر، ففرق فيهم أموالا كثيرة. وشخص الفضل بن يحي، واستحلف منصور بن زياد بباب أمير المؤمنين، تجري كتبه على يديه، وتنفذ الجوابات عنها إليه، وكنوا يثقون بمنصور وابنه في جميع أمورهم؛ لقديم صحبته لهم، وحرمته بهم. ثم مضى من معسكره، فلم تزل كتب الرشيد تتابع إليه بالبر واللطف والجوائز والخلع؛ فكاتب يحيى ورفق به واستماله، وناشده وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله. ونزل الفضل بطالقان الري ودستبي بموضع يقال له أشب؛ وكان شديد البرد كثير الثلوج؛ ففي ذلك يقول أبان بن عبد الحميد اللاحقي: لدور أمس بالدولا ** ب حيث السيب ينعرج أحب إلي من دور ** أشب إذا هم ثلجوا قال: فأقام الفضل بهذا الموضع، وواتر كتبه على يحي، وكاتب صاحب الديلم، وجعل له ألف ألف درهم؛ على أن يسهل له خروج يحيى إلى ما قبله، وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج على يديه، على أن يكتب له الرشيد أمانًا بخطه على نسخة يبعث بها إليه. فكتب الفضل بذلك إلى الرشيد، فسره وعظم موقعه عنده، وكتب أمانًا ليحي بن عبد الله، وأشهد عليه الفقهاء والقضاة وجلة بي هاشم ومشايخهم؛ منهم عبد الصمد بن علي والعباس ابن محمد ومحمد بن إبراهيم وموسى بن عيسى ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بن عبد الله عليه، وورد به الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى له أرزاقًا سنية، وأنزله منزلا سريًا بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أيامًا، وكان يتولى أمره بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه بعد انتقاله من منزل يحيى والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل؛ ففي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة: ظفرت فلا شلت يد برمكية ** رتقت بها الفتق الذي بين هاشم على حين أعيا الراتقين التئامه ** فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم فأصبحت قد فازت يداك بخطة ** من المجد باق ذكرها في المواسم وما زال قدح الملك يخرج فائزًا ** لكم كلما ضمت قداح المساهم قال: وأنشدني أبو ثمامة الخطيب لنفسه فيه: للفضل يوم الطالقان وقبله ** يوم أناخ به على خاقان ما مثل يوميه اللذين تواليا ** في غزوتين توالتا يومان سد الثغور ورد ألفة هاشم ** بعد الشتات، فشعبها متدان عصمت حكومته جماعة هاشم ** من أن يجرد بينها سيفان تلك الحكومة لا التي عن لبسها ** عظم النبأ وتفرق الحكمان فأعطاه الفضل مائة ألف درهم، وخلع عليه، وتغنى إبراهيم به. وذكر أحمد بن محمد بن جعفر، عن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، قال: لما قدم يحيى بن عبد الله من الديلم أتيته، وهو في دار علي بن أبي طالب، فقلت: يا عم، ما بعدك مخبر ولا بعدي مخبر؛ فأخبرني خبرك، فقال: يا ابن أخي، والله إن كنت إلا كما قال يحيى ابن خطب: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ** ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس حمدها ** وقلل يبغي العز كل مقلل وذكر الضبي أن شيخًا من النوفليين، قال: دخلنا على عيسى بن جعفر، وقد وضعت له وسائد بعضها فوق بعض؛ وهو قائم متكئ عليها؛ وإذا هو يضحك من شيء في نفسه، متعجبًا منه، فقلنا ما الذي يضحك الأمير أدام لله سروره! قال: لقد دخلني اليوم سرور ما دخلني مثله قط، فقلنا تمم الله للأمير سروره، وزاده سرورًا. فقال: والله لا أحدثكم به إلا قائمًا - واتكأ على الفراش وهو قائم - فقال: كنت اليوم عد أمير المؤمنين الرشيد، فدعا بيحيى بن عبد الله، فأخرج من السجن مكبلًا في الحديد، وعنده بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير - وكان بكار شديد البغض لآل أبي طالب، وكان يبلغ هارون عنهم، ويسئ بأخبارهم، وكان الرشيد ولاه المدينة، وأمره بالتضييق عليهم - قال: فلما دعي بيحيى قال له الرشيد: هيه هيه! متضاحكًا؛ وهذا يزعم أيضًا أنا سممناه! فقال يحي: ما معنا يزعم؟ ها هو ذا لساني - قال: وأخرج لسانه أخضر مثل السلق - قال: فتربد هارون! واشتد غضبه، فقال يحي: يا أمير المؤمنين؛ إن لنا قرابة ورحمًا، لسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين؛ إنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله وقرابتنا من رسول الله ﷺ! علام تحبسني وتعذبني؟ فال: فرق له هارون، وأقبل الزبيري على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا؛ فإنه شاق عاصي؛ وإنما هذا منه مكر وخبث؛ إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان. قال: فأقبل يحيى عليه؛ فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم عافاكم الله! قال الزبيري: هذا كلامه قدامك؛ فكيف إذا غاب عنك! يقول: ومن أنتم! استخفافًا بنا. قال: فأقبل عليه يحي، فقال: نعم، ومن انتم عافاكم الله! المدينة كانت مهاجر عبد الله ابن الزبير أم مهاجر رسول الله ﷺ؟ ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي هذا هاجر أبوك إلى المدينة. ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ إنما الناس نحن وانتم؛ فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا؛ فوجدنا بذلك مقالًا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالًا فينا؛ فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك؛ يسعى بهم عندك! إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحةً منهلك؛ وإنه يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا؛ إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض. والله يا أمير المؤمنين؛ لقد جاء إلي هذا حيث قتل أخي محمد بن عبد الله، فقال: لعن الله قاتله! وأنشدني فيه مرثيةً قالها نحوًا من عشرين بيتًا وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك! قال: فتغير وجه الزبيري وأسود، فأقبل عليه هارون، فقال: أي شئ يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين؛ ما كان مما قال حرف قال: فأقبل على يحيى بن عبد الله، فقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أصلحك الله! قال: فأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله يا أمير المؤمنين الذي لا إله إلا هو - حتى أتى على آخر اليمين الغموس - ما كان مما قاله شيء؛ ولقد تقول علي ما لم أقل. قال: فأقبل الرشيد على يحيى ابن عبد الله، فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا يا أمير المؤمنين؛ ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري، فقال: قل: أن بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي، إن كنت قلته. فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو، ويستحلفني بشيء لا ادري ما هو! قال يحيى بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقًا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به! فقال له هارون: احلف له ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلي حولي وقوتي؛ قال: فاضرب منها وأرعد، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها، وقد حلفت له بالله العظيم اعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته، موكل إلي حولي وقوتي إن كنت قلته. قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج، فمات من ساعته. قال: فقال عيسى بن جعفر: والله ما يسرني أن يحيى نقصه حرفًا مما كان جرى بينهما، ولا قصر في شيء من مخاطبته إياه. قال: وأما الزبيريون فيزعمون أن امرأته قتلته؛ وهي من ولد عبد الرحمن بن عوف. وذكر إسحاق بن محمد النخعي أن الزبير بن هشام حدثه عن أبيه، أن بكار بن عبد الله تزوج امرأةً من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان له من قلبها موضع، فاتخذ عليها جارية، وأغارها؛ فقالت لغلامين له زنجيين: أنه قد أراد قتلكما هذا الفاسق - ولاطفتهما - فتعاوناني على قتله؟ قالا: نعم، فدخلت عليه وهو نائم، وهما جميعًا معها، فقعدا على وجهه حتى مات. قال: ثم إنها سقتها نبيذًا حتى تهوعا حول الفراش، ثم أخرجتهما ووضعت عند رأسه قنينة؛ فلما أصبح اجتمع أهله، فقالت: سكر فقاء فشرق فمات. فأخذ الغلامان؛ فضربا ضربًا مبرحًا، فأقرا بقتله، وأنها أمرتهما بذلك؛ فأخرجت من الدار ولم تورث. وذكر أبو الخطاب أن جعفر بن يحيى بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره، قال: دعا الرشيد اليوم بيحيى بن عبد الله بن حسن، وقد أحضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان؟ أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع للأمان؟ لو كان محاربًا ثم ولى كان آمنًا. فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري: هذا منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة؛ وأنت أعلم بذلك؛ فمزق الأمان، وتفل فيه أبو البختري - وكان بكار بن عبد الله بن مصعب حاضرًا المجلس - فأقبل على يحيى بن عبد الله بوجهه، فقال: شققت العصا، وفارقت الجماعة، وخالفت كلمتنا، وأردت خليفتنا؛ وفعلت بنا وفعلت. فقال يحيى: ومن أنتم رحمكم الله! قال جعفر: فوالله ما تمالك الرشيد أن ضحك ضحكًا شديدًا. قال: وقام يحيى ليمضي إلى الحبس، فقال له الرشيد: انصرف، أما ترون به أثر علة! هذا الآن إن مات قال للناس: سموه. قال يحيى: كلا ما زلت عليلًا منذ كنت في الحبس؛ وقبل ذلك أيضًا كنت عليلًا. قال أبو الخطاب: فما مكث يحيى بعد هذا إلا شهرًا حتى مات. وذكر أبو يونس إسحاق بن إسماعيل، قال: سمعت عبد الله بن العباس بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي، الذي يعرف بالخطيب، قال: كنت يومًا على باب الرشيد أنا وأبي، وحضر ذلك اليوم من الجند والقواد ما لم أر مثلهم على باب خليفة قبله ولا بعده، قال: فخرج الفضل بن الربيع إلى أبي، فقال له: ادخل، ومكث ساعة ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت، فإذا أنا بالرشيد معه امرأة يكلمها، فأومأ إلى أبي أنه لا يريد أن يدخل اليوم أحد، فاستأذنت لك لكثرة من رأيت حضر الباب؛ فإذا دخلت هذا المدخل زادك ذلك نبلًا عند الناس. فما مكثنا إلا قليلًا حتى جاء الفضل بن الربيع، فقال: إن عبد الله بن مصعب الزبيري يستأذن في الدخول، فقال: إني لا أريد أن أدخل اليوم أحدًا، فقال: قال: إن عندي شيئًا أذكره. فقال: قل له يقله لك، قال: قد قلت له ذلك، فزعم أنه لا يقوله إلا لك، قال: أدخله. وخرج ليدخله، وعادت المرأة وشغل بكلامها، وأقبل علي أبي، فقال: إنه ليس عنده شيء يذكره؛ وإنما أراد الفضل بهذا ليوهم من على الباب أن أمير المؤمنين لم يدخلنا لخاصة خصصنا بها؛ وإنما أدخلنا لأمر نسأل عنه كما دخل هذا الزبيري. وطلع الزبيري، فقال: يا أمير المؤمنين، ها هنا شيء أذكره، فقال له: قل، فقال له: إنه سر، فقال: ما من العباس سر، فنهضت، فقال: ولا منك يا حبيبي، فجلست، فقال: قل، فقال: إني والله قد خفت على أمير المؤمنين من امرأته وبنته وجاريته التي تنام معه، وخادمه الذي يناوله ثيابه وأخص خلق الله به من قواده، وأبعدهم منه. قال: فرأيته قد تغير لونه، وقال: مماذا؟ قال: جاءتني دعوة يحيى بن عبد الله بن حسن، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينهم، حتى لم يبق على بابك أحدًا إلا وقد أدخله في الخلاف عليك. قال: فتقول له هذا في وجهه! قال: نعم، قال الرشيد: أدخله، فدخل، فأعد القول الذي قال له، فقال يحيى بن عبد الله: والله يا أمير المؤمنين لقد جاء بشيء لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو أكبر مني، وهو مقتدر عليه لما أفلت منه أبدًا، ولي رحم وقرابة، فلم لا تؤخر هذا الأمر ولا تعجل، فلعلك أن تكفي مؤنتي بغير يدك ولسانك، وعسى بك أن تقطع رحمك من حيث لا تعلمه! أباهه بين يديك وتصبر قليلًا. فقال: يا عبد الله، قم فصل إن رأيت ذلك، وقام يحيى فاستقبل القبلة، فصلى ركعتين خفيفتين، وصلى عبد الله ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قال: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه. وقال: اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبد الله بن مصعب إلى خلاف على هذا - ووضع يده عليه، وأشار إليه - فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين. فقال عبد الله: آمين رب العالمين. فقال يحيى بن عبد الله لعبد الله بن مصعب: قل كما قلت، فقال عبد الله: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بن عبد الله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك، وإلا فكله إلى حوله وقوته، واسحته بعذاب من قبلك، آمين رب العالمين! وتفرقا، فأمر بيحيى فحبس في ناحية من الدار؛ فلما خرج وخرج عبد الله بن مصعب أقبل الرشيد على أبي، فقال: فعلت به كذا وكذا، وفعلت به كذا وكذا، فعدد أياديه عليه، فكلمه أبي بكلمتين لا يدفع بهما عن عصفور، خوفًا على نفسه، وأمرنا بالانصراف فانصرفنا. فدخلت مع أبي أنزع عنه لباسه من السواد - وكان ذلك من عادتي - فبينما أنا أحل عنه منطقته؛ إذ دخل عليه الغلام، فقال: رسول عبد الله بن مصعب، فقال: أدخله، فلما دخل قال له: ما وراءك؟ قال: يقول لك مولاي، أنشدك الله إلا بلغت إلي! فقال أبي للغلام: قل له: لم أزل عند أمير المؤمنين إلى هذا الوقت، وقد وجهت إليك بعبد الله، فما أردت أن تلقيه إلي فألقه إليه، وقال للغلام: اخرج فإنه يخرج في إثرك؛ وقال لي: إنما دعاني ليستعين بي على ما جاء به من الإفك؛ فإن أعنته قطعت رحمي من رسول الله ﷺ، وإن خالفته سعى بي؛ وإنما يتدرق الناس بأولادهم، ويتقون بهم المكاره؛ فاذهب إليه، فكل ما قال لك فليكن جوابك له: أخبر أبي؛ فقد وجهتك وما آمن عليك، وقد كان قال لي أبي حين انصرفا - وذلك أنا احتبسنا عند الرشيد: أما رأيت الغلام المعترض في الدار! لا والله ما صرفنا حتى فرغ منه - يعني يحيى - إنا لله وإنا إليه راجعون! وعند الله نحتسب أنفسنا. فخرجت مع الرسول، فلما صرت في بعض الطريق وأنا مغموم بما أقدم عليه، قلت للرسول: ويحك! ما أمره! وما أزعجه بالإرسال إلى أبي في هذا الوقت! فقال: إنه لما جاء من الدار، فساعة نزل عن الدابة صاح: بطني بطني! قال عبد الله بن عباس: فما حفلت بهذا الكلام من قول الغلام، ولا التفت إليه، فلما صرنا على باب الدرب - وكان في درب لا منفذ له - فتح البابين؛ فإذا النساء قد خرجن منشورات الشعور محتزمات بالحبال، يلطمن وجوههن وينادين بالويل، وقد مات الرجل، فقلت: والله ما رأيت أمرًا أعجب من هذا! وعطفت دابتي راجعًا أركض ركضًا لم أركض مثله قبله ولا بعده إلى هذه الغاية، والغلمان والحشم ينتظرونني لتعلق قلب الشيخ بي؛ فلما رأوني دخلوا يتعادون، فاستقبلني مرعوبًا في قميص ومنديل، ينادي: ما وراءك يا بني؟ قلت: إنه مات، قال: الحمد لله الذي قتله وأراحك وإيانا منه؛ فما قطع كلامه حتى ورد خادم الرشيد يأمر أبي بالركوب وإياي معه. فقال أبي ونحن في الطريق نسير: لو جاز أن يدعى ليحيى نبوة لادعاها أهله، رحمة الله عليه، وعند الله نحتسبه! ولا والله ما نشك في أنه قد قتل. فمضينا حتى دخلنا على الرشيد؛ فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله يا أمير المؤمنين قطع أرحامك. فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر، فدخل يحيى، وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار! قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله يا أمير المؤمنين؛ لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده فكيف ولست بطالب له ولا مريده، ولو لم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره ما تقويت به عليك أبدًا! وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع مني في زيادة نمرة لباعك بها. فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرًا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار، وكان حبسه بعض يوم. ثم قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار. ذكر الفتنة بين اليمانية والنزارية وفي هذه السنة هاجت العصبية بالشام بين النزارية واليمانية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام. ذكر الخبر عن هذه الفتنة ذكر أن هذه الفتنة هاجت بالشام وعامل السلطان بها موسى بن عيسى، فقتل بين النزارية واليمانية على العصبية من بعضهم لبعض بشر كثير، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، وضم إليه من القواد والأجناد ومشايخ الكتاب جماعة. فلما ورد الشام أحلت لدخوله إلى صالح بن علي الهاشمي، فأقام موسى بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فانتهى الخبر إلى الرشيد بمدينة السلام، ورد الرشيد الحكم فيهم إلى يحيى، فعفا عنهم، وعما كان بينهم، وأقدمهم بغداد، وفي ذلك يقول إسحاق بن حسان الخزيمي: من مبلغ يحيى ودون لقائه ** زأرت كل خنابسٍ همهام يا راعي الإسلام غير مفرطٍ ** في لين مغتبط وطيب مشم تعذى مشاربه وتسقى شربةً ** ويبيت بالربوات والأعلام حتى تنخنخ ضاربًا بجرانه ** ورست مراسيه بدار سلام فلكل ثغر خارس من قلبه ** وشعاع طرف ما يفتر سام وقال في موسى غير أبي يعقوب: قد هاجت الشام هيجًا ** يشيب رأس وليده فصب موسى عليها ** بخيله وجنوده فدانت الشأم لما ** أتى نسيج وحيده هو الجواد الذي ** بد كل جود بجوده أعداه جود أبيه ** يحيى وجود جدوده فجاد موسى بن يحيى ** بطارفٍ وتليده ونال موسى ذرى المج ** د وهو حشو مهوده خصصته بمديحي ** منشوره وقصيده من البرامك عود ** له فأكرم بعوده حووا على الشعر طرًا ** خفيفه ومديده وفيها عزل الرشيد الغطريف بن عطاء عن خراسان، وولاها حمزة بن مالك بن هيثم الخزاعي، وكان حمزة يلقب بالعروس. وفيها ولى الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك مصر، فولاها عمر بن مهران. ذكر الخبر عن سبب تولية الرشيد جعفرا مصر وتولية جعفر عمر بن مهران إياها ذكر محمد بن عمر أن أحمد بن مهران حدثه أن الرشيد بلغه أن موسى بن عيسى عازم على الخلع - وكان على مصر - فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي. انظروا لي رجلًا، فذكر عمر بن مهران - وكان إذ ذاك يكتب للخيزران، ولم يكتب لغيرها، وكان رجلًا أحول مشوه الوجه، وكان لباسه لباسًا خسيسًا، أرفع ثيابه طيلسانه، وكانت قيمته ثلاثين درهمًا، وكان يشمر ثيابه ويقصر أكمامه، ويركب بغلًا وعليه رسن ولجام حديد، ويردف غلامه خلفه - فدعا به، فولاه مصر، خراجها وضياعها وحربها. فقال: يا أمير المؤمنين، أتولاها على شريطة، قال: وما هي؟ قال: يكون إذني إلي، إذا أصلحت البلاد انصرفت. فجعل ذلك له، فمضى إلى مصر، واتصلت ولاية عمر بن مهران بموسى بن عيسى؛ فكان يتوقع قدومه، فدخل عمر بن مهران مصر على بغل، وغلامه أبو درة على بغل ثقل، فقصد دار موسى بن عيسى والناس عنده، فدخل فجلس في أخريات الناس، فلما تفرق أهل المجلس، قال موسى بن عيسى لعمر: ألك حاجة يا شيخ؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! ثم قام بالكتب فدفعها إليه، فقال: يقدم أبو حفص، أبقاه الله! قال: فأنا أبو حفص، قال: أنت عمر بن مهران؟ قال: نعم، قال: لعن الله فرعون حين يقول: أليس لي ملك مصر، ثم سلم له العمل ورحل، فتقدم عمر بن مهران إلى أبي درة غلامه، فقال له: لا تقبل من الهدايا إلا ما يدخل في الجراب، لا تقبل دابة ولا جارية ولا غلامًا؛ فجعل الناس يبعثون بهداياهم، فجعل يرد ما كان من الألطاف، ويقبل المال والثياب، ويأتي بها عمر؛ فيوقع عليها أسماء من بعث بها، ثم وضع الجباية؛ وكان بمصر قوم قد اعتادوا المطل وكسر الخراج، فبدأ برجل منهم، فلواه، فقال: والله ما تؤدي ما عليك من الخراج إلا في بيت المال بمدينة السلام إن سلمت، قال: فأنا أؤدي، فتحمل عليه، فقال: قد حلفت ولا أحنث، فأشخصه مع رجلين من الجند - وكان العمال إذ ذاك يكاتبون الخليفة - فكتب معهم الرشيد: إني دعوت بفلان بن فلان، وطالبته بما عليه من الخراج؛ فلواني واستنظرني، فأنظرته ثم دعوته، فدافع ومال إلى الإلطاط، فآليت ألا يؤديه إلا في بيت المال بمدينة السلام، وجملة ما عليه كذا وكذا، وقد أنفذته مع فلان بن فلان وفلان بن فلان، من جند أمير المؤمنين، من قيادة فلان بن فلان؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلي بوصله فعل إن شاء الله تعالى. قال: فلم يلوه أحد بشيء من الخراج، فاستأدى الخراج، النجم الأول والنجم الثاني، فلما كان في النجم الثالث، وقعت المطالبة والمطل، فأحضر أهل الخراج والتجار فطالبهم، فدافعوه وشكوا الضيقة، فأمر بإحضار تلك الهدايا التي بعث بها إليه، ونظر في الأكياس وأحضر الجهبذ؛ فوزن ما فيها وأجزاها عن أهلها، ثم دعا بالأسفاط، فنادى على ما فيها، فباعها وأجزى أثمانها عن أهلها. ثم قال: يا قوم، حفظت عليكم هداياكم إلى وقت حاجتكم إليها، فأدوا إلينا ما لنا؛ فأدوا إليه حتى أغلق مال مصر؛ فانصرف ولا يعلم أنه أغلق مال مصر غيره، وانصرف، فخرج على بغل، وأبو درة على بغل - وكان إذنه إليه. وغزا الصائفة في هذه السنة عبد الرحمن بن عبد الملك، فافتتح حصنًا. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن أبي جعفر المنصور، وحجت معه - فيما ذكر الواقدي - زبيدة زوجة هارون وأخوها معها. ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فما كان فيها من ذلك عزل الرشيد - فيما ذكر - جعفر بن يحيى عن مصر وتوليته إياها إسحاق بن سليمان، وعزله حمزة بن مالك عن خراسان وتوليته إياها الفضل بن يحيى؛ إلى ما كان يليه من الأعمال من الري وسجستان. وغزا الصائفة فيها عبد الرزاق بن عبد الحميد التغلبي. وكان فيها - فيما ذكر الواقدي - ريح وظلمة وحمرة ليلة الأحد لأربع ليال بقين من المحرم، ثم كانت ظلمة ليلة الأربعاء، لليلتين بقيتا من المحرم من هذه السنة؛ ثم كانت ريح وظلمة شديدة يوم الجمعة لليلة خلت من صفر. وحج بالناس فيها هارون الرشيد. ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك وثوب الحوفية بمصر؛ من قيس وقضاعة وغيرهم بعامل الرشيد عليهم إسحاق بن سليمان، وقتالهم إياه، وتوجيه الرشيد إليه هرثمة بن أعين في عدة من القواد المضمومين إليه مددًا لإسحاق بن سليمان؛ حتى أذعن أهل الحوف، ودخلوا في الطاعة، وأدوا ما كان عليهم من وظائف السلطان - وكان هرثمة إذ ذاك عامل الرشيد على فلسطين - فلما انقضى أمر الحوفية صرف هارون إسحاق بن سليمان عن مصر، وولاها هرثمة نحوًا من شهر، ثم صرفه وولاها عبد الملك بن صالح. وفيها كان وثوب أهل إفريقية بعبدويه الأنباري ومن معه من الجند هنالك، فقتل الفضل بن روح بن حاتم، وأخرج من كان بها من آل المهلب، فوجه الرشيد إليهم هرثمة بن أعين، فرجعوا إلى الطاعة. وقد ذكر أن عبدويه هذا لما غلب على إفريقية، وخلع السلطان، عظم شأنه وكثر تبعه، ونزع إليه الناس من النواحي، وكان وزير الرشيد يومئذ يحيى بن خالد بن برمك، فوجه إليه يحيى بن خالد بن برمك يقطين بن موسى ومنصور بن زياد كاتبه؛ فلم يزل يحيى بن خالد يتابع على عبدويه الكتب بالترغيب في الطاعة والتخويف للمعصية والإعذار إليه والإطماع والعدة حتى قبل الأمان، وعاد إلى الطاعة وقدم بغداد، فوفى له يحيى بما ضمن له وأحسن إليه، وأخذ له أمانًا من الرشيد، ووصله ورأسه. وفي هذه السنة فوض الرشيد أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك. وفيها خرج الوليد بن طريف الشاري بالجزيرة، وحكم بها، ففتك بإبراهيم بن خازم بن خزيمة بنصيبين، ثم مضى منها إلى إرمينية. ولاية الفضل بن يحيى على خراسان وسيرته بها وفيها شخص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليًا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات. وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة؛ وكان ممتنعًا. وذكر أن الفضل بن يحيى اتخذ بخراسان جندًا من العجم سماهم العباسية، وجعل ولاءهم لهم، وأن عدتهم بلغت خمسمائة ألف رجل، وأنه قدم منهم بغداد عشرون ألف رجل، فسموا ببغداد الكرنبية، وخلف الباقي منهم بخراسان على أسمائهم ودفاترهم؛ وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة: ما الفضل إلا شهاب لا أفول له ** عند الحروب إذا ما تأفل الشهب حامٍ على ملك قوم عز سهمهم ** من الوراثة في أيديهم سبب أمست يد لبني ساقي الحجيج بها ** كتائب ما لها في غيرهم أرب كتائب لبني العباس قد عرفت ** ما ألف الفضل منها العجم والعرب أثبت خمس مئين في عدادهم ** من الألوف التي أحصت لك الكتب يقارعون عن القوم الذين هم ** أولى بأحمد في الفرقان إن نسبوا إن الجواد بن يحيى الفضل لا ورق ** يبقى على جود كفيه ولا ذهب ما مر يوم له مذ شد مئزره ** إلا تمول أقوام بما يهب كم غايةٍ في الندى والبأس أحرزها ** للطالبين مداها دونها تعب يعطي الله حين لا يعطي الجواد ولا ** ينبو إذا سلت الهندية القضب ولا الرضى والرضى لله غايته ** إلى سوى الحق يدعوه ولا الغضب قد فاض عرفك حتى ما يعادله ** غيث مغيث ولا بحر له حدب قال: وكان مروان بن أبي حفصة قد أنشد الفضل في معسكره قبل خروجه إلى خراسان: ألم تر أن الجود من لدن آدمٍ ** تحدر حتى صار في راحة الفضل إذا ما أبو العباس راحت سماؤه ** فيا لك من هطل ويا لك من وبل إذا أم طفل راعها جوع طفلها ** دعته باسم الفضل فاستعصم الطفل ليحيا بك الإسلام إنك عزه ** وإنك من قوم صغيرهم كهل وذكر محمد بن العباس بن يحيى أمر له بمائة ألف درهم، وكساه وحمله على بغلة. قال: وسمعته يقول: أصبت في قدمتي هذه سبعمائة ألف درهم. وفيه يقول: تخيرت للمدح بن يحيى بن خالد ** فحسبي ولم أظلم بأن أتخيرا له عادة أن يبسط العدل والندى ** لمن ساس من قحطان أو من تنزرا إلى المنبر الشرقي سار ولم يزل ** له والد يعلو سريرًا ومنبرا يعد ويحيى البرمكي ولا يرى ** لدى الدهر إلا قائدًا أو مومرا ومدحه سلم الخاسر، فقال: وكيف تخاف من بؤسٍ بدارٍ ** تكنفها البرامكة البحور وقوم منهم الفضل بن يحيى ** نفير ما يوازنه نفير له يومان: يوم ندىً وبأسٍ ** كأن الدهر بينهما أسير إذا ما البرمكي غدا ابن عشرٍ ** فهمته وزير أو أمير وذكر الفضل بن إسحاق الهاشمي أن إبراهيم بن جبريل خرج مع الفضل بن يحيى إلى خراسان وهو كاره للخروج، فأحفظ ذلك الفضل عليه. قال إبراهيم: فدعاني يومًا بعد ما أغفلني حينًا، فدخلت عليه؛ فلما صرت بين يديه سلمت، فما رد علي، فقلت في نفسي: شر والله - وكان مضطجعًا، فاستوى جالسًا - ثم قال: ليفرخ روعك يا إبراهيم، فإن قدرتي عليك تمنعني منك؛ قال: ثم عقد لي على سجستان، فلما حملت خراجها، وهبه لي وزادني خمسمائة ألف درهم. قال: وكان إبراهيم على شرطه وحرسه، فوجهه إلى كابل، فافتحها وغنم غنائم كثيرة. قال: وحدثني الفضل بن العباس بن جبريل - وكان مع عمه إبراهيم - قال: وصل إلى إبراهيم في ذلك الوجه سبعة آلاف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغيين استزار الفضل ليريه نعمته عليه، وأعد له الهدايا والطرف وآنية الذهب والفضة، وأمر بوضع الأربعة الآلاف في ناحية من الدار. قال: فلما قعد الفضل بن يحيى قدم إليه الهدايا والطرف، فأبى أن يقبل منها شيئًا، وقال: لم آتك لأسلبك، فقال: إنها نعمتك أيها الأمير. قال: ولك عندنا مزيد، قال: فلم بأخذ من جميع ذلك إلا سوطًا سجزيًا، وقال: هذا من آلة الفرسان، فقال له: هذا المال من مال الخراج، فقال: هو لك، فأعاد عليه، فقال: أما لك بيت يسعه! فسوغه ذلك، وانصرف. قال: ولما قدم الفضل بن يحيى من خراسان خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بالألف ألف، وبالخمسمائة ألف، ومدحه مروان بن أبي حفصة، فقال: حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت ** بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا وما هجعت حتى رأته عيوننا ** وما زلن حتى آب بالدمع حشدا لقد صبحتنا خيله ورجاله ** بأروع بذ الناس بأسًا وسوددا نفى عن خراسان العدو كما نفى ** ضحى الصبح جلباب الدجى فتعردا لقد راع من أمسى بمرو مسيره ** إلينا، وقالوا شعبنا قد تبددا على حين ألقى قفل كل ظلامةٍ ** وأطلق بالعفو الأسير المقيدا وأفشى بلا من مع العدل فيهم ** أيادي عرفٍ باقياتٍ وعودا فأذهب روعات المخاوف عنهم ** وأصدر باغي الأمن فيهم وأوردا وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه ** فكان من الآباء أحنى وأعودا إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى ** وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا سما صاعدًا بالفضل يحيى وخالد ** إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا يلين لمن أعطى الخليفة طاعةً ** ويسقي دم العاصي الحسام المهندا أذلت مع الشرك النفاق سيوفه ** وكانت لأهل الدين عزًا مؤبدا وشد القوى من بيعة المصطفى الذي ** على فضله عهد الخليفة قلدا سمي النبي الفاتح الخاتم الذي ** به الله أعطى كل خير وسددا أبحت جبال الكابلي ولم تدع ** بهن لنيران الضلالة موقدا فأطلعتها خيلًا وطئن جموعه ** قتيلًا ومأسورًا وفلًا مشردا وعادت على ابن البرم نعماك بعدما ** تحوب مخذ ولا يرى الموت مفردا وذكر العباس بن جرير، أن حفص بن مسلم - وهو أخو رزام بن مسلم، مولى خالد بن عبد الله القسري - حدثه أنه قال: دخلت على الفضل بن يحيى مقدمه خراسان، وبين يديه بدر تفرق بخواتيمها، فما فضت بدرة منها، فقلت: كفى الله بالفضل بن يحيى بن خالدٍ ** وجود يديه بخل كل بخيل قال: فقال لي مروان بن أبي حفصة: وددت أني سبقتك إلى هذا البيت، وأن علي غرم عشرة آلاف درهم. وغزا فيها الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم، وغزا الشاتية فيها ابن راشد، ومعه البيد بطريق صقلية. وحج بالناس فيها محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي، وكان على مكة. ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك انصراف الفضل بن يحيى عن خراسان واستخلافه عليها عمرو بن شرحبيل. وفيها ولى الرشيد خراسان منصور بن يزيد بن منصور الحميري. وفيها شري بخراسان حمزة بن أترك السجستاني. وفيها عزل الرشيد محمد بن خالد بن برمك عن الحجبة، وولاها الفضل بن الربيع. وفيها رجع الوليد بن طريف الشاري إلى الجزيرة واشتدت شوكته، وكثر تبعه، فوجه الرشيد إليه يزيد بن مزيد الشيباني، فراوغه يزيد، ثم لقيه وهو مغتر فوق هيت، فقتله وجماعة كانوا معه، وتفرق الباقون، فقال الشاعر: وائل بعضها يقتل بعضًا ** لا يفل الحديد إلا الحديد وقالت الفارعة أخت الوليد: أيا شجر الخابور ما لك مورقًا ** كأنك لم تجزع على ابن طريف فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ** ولا المال إلا من قنًا وسيوف واعتمر الرشيد في هذه السنة في شهر رمضان، شكرًا لله على ما أبلاه في الوليد بن طريف، فلما قضى عمرته انصرف إلى المدينة، فأقام بها إلى وقت الحج، ثم حج بالناس، فمشى من مكة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيًا، ثم انصرف على طريق البصرة. وأما الواقدي فإنه قال: لما فرغ من عمرته أقام بمكة حتى أقام للناس حجهم. ثم دخلت سنة ثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن العصبية التي هاجت بالشام فمما كان فيها من ذلك، العصبية التي هاجت بالشام بين أهلها. ذكر الخبر عما صار إليه أمرها ذكر أن هذه العصبية لما حدثت بالشام بين أهلها وتفاقم أمرها، اغتم بذلك من أمرهم الرشيد، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر بل أقيك بنفسي؛ فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، وجعل على شرطه العباس بن محمد بن المسيب بن زهير، وعلى حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، فأتاهم فأصلح بينهم؛ وقتل زواقيلهم، والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحًا ولا فرسًا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة؛ وأطفأ تلك النائرة، فقال منصور النمري لما شخص جعفر: لقد أوقدت بالشام نيران فتنةٍ ** فهذا أوان الشأم تخمد نارها إذا جاش موج البحر من آل برمكٍ ** عليها، خبت شهبانها وشرارها رماها أمير المؤمنين بجعفرٍ ** وفيه تلاقى صدعها وانجبارها رماها بميمون النقيبة ماجد ** تراضى به قحطانها ونزارها تدلت عليهم صخرة برمكيةً ** دموغ لهام الناكبين انحدارها غدوت تزجى غابة في رءوسها ** نجوم الثريا والمنايا ثمارها إذا خفقت راياتها وتجرست ** بها الريح هال السامعين انبهارها فقولوا لأهل الشأم: لا يسلبنكم ** حجاكم طويلات المنى وقصارها فإن أمير المؤمنين بنفسه ** أتاكم وإلا نفسه فخيارها هو الملك المأمول للبر والتقى ** وصولاته لا يستطاع خطارها وزير أمير المؤمنين وسيفه ** وصعدته والحرب تدمى شفارها ومن تطو أشرار الخليفة دونه ** فعندك مأواها وأنت قرارها وفيت فلم تغدر لقوم بذمةٍ ** ولم تدن من حالٍ ينالك عارها طبيب بإحياء الأمور إذا التوت ** من الدهر أعناق، فأنت جبارها إذا ما ابن يحيى جعفر قصدت له ** ملمي خطب لم ترعه كبارها لقد نشأت بالشأم منك غمامة ** يؤمل جدواها ويخشى دمارها فطوبى لأهل الشأم يا ويل أمها ** أتاها حياها، أو أتاها بوارها فإن سالموا كانت غمامة نائلٍ ** وغيثٍ، وإلا فالدماء قطارها أبوك أبو الأملاك يحيى بن خالدٍ ** أخو الجود والنعمى الكبار صغارها كأين ترى في البرمكيين من ندىً ** ومن سابقاتٍ ما يشق غبارها غدا بنجوم السعد من حل رحله ** إليك، وعزت عصبة أنت جارها عذيري من الأقدار هل عزماتها ** مخلفتي عن جعفرٍ واقتسارها فعين الأسى مطروفة لفراقه ** ونفسي إليه ما ينام ادكارها وولى جعفر بن يحيى صالح بن سليمان البلقاء وما يليها، واستخلف على الشأم عيسى بن العكي وانصرف، فازداد الرشيد له إكرامًا. فلما قدم على الرشيد دخل عليه - فيما ذكر - فقبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه، فقال: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي، حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته؛ فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني؛ فاعلم أنها كانت بمعاصٍ لحقتني وخطايا أحاطت بي؛ ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين - جعلني الله فداك - لخفت أن يذهب عقلي إشفاقًا على قربك، وأسفًا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك؛ والحمد لله الذي عصمنيفي حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية؛ فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك؛ ولم يخترمني أجل دونك. والله يا أمير المؤمنين - ولا أعظم من اليمين بالله - لقد عاينت ما لو تعرض لي الدنيا كلها لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضًا من المقام معك. ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله يا أمير المؤمنين - لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع إلفتهم، ويلم شعثهم؛ حفظًا لك فيهم، ورحمة لهم؛ وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك؛ والله المحمود على ذلك وهو مستحقه. وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم، وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم، وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم. وأيم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم، وقد أخمد الله شرارهم وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم؛ فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك، وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه؛ ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك، وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك. وما كان الذي كان مني - وإن كنت بذلت جهدي، وبلغت مجهودي - قاضيًا ببعض حقك علي؛ بل ما ازدادت نعمتك علي عظمًا؛ إلا وازددت عن شكرك عجزًا وضعفًا وما خلق الله أحدًا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلًا مهجتي في طاعتك، وكل ما يقرب إلى موافقتك؛ ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري؛ فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكري بإكرامك إياي! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي! وكيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلي بما تجدده لي! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي! أم كيف بشكري وأنت وليي! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي! وأنا أسأل الله الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذا كان الشكر مقصرًا عن بلوغ تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره، أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك، وجليل منتك؛ فإن ذلك بيده، وهو القادر عليه! وفي هذه السنة أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بن يحيى، فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد. وفيها ولى جعفر بن يحيى خراسان وسجستان، واستعمل جعفر عليهما محمد بن الحسن بن قحطبة. وفيها شخص الرشيد من مدينة السلام مريدًا الرقة على طريق الموصل، فلما نزل البردان، ولى عيسى بن جعفر خراسان، وعزل عنها جعفر بن يحيى؛ فكانت ولاية جعفر بن يحيى إياها عشرين ليلة. وفيها ولى جعفر بن يحيى الحرس. وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب الخوارج الذين خرجوا منها، ثم مضى إلى الرقة فنزلها واتخذها وطنًا. وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية، وأقفله إلى مدينة السلام، فاستخلفه جعفر بن يحيى الحرس. وفيها كانت بأرض مصر زلزلة شديدة، فسقط رأس منارة الإسكندرية. وفيها حكم خراشة الشيباني وشري بالجزيرة، فقتله مسلم بن بكار بن مسلم العقيلي. وفيها خرجت المحمرة بجرجان، فكتب علي بن عيسى بن ماهان أن الذي هيج ذلك عليه عمرو بن محمد العمركي، وأنه زنديق، فأمر الرشيد بقتله، فقتل بمرو. وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان والرويان، وولى ذلك عبد الله بن خازم. وعزل الفضل أيضًا عن الري، ووليها محمد بن يحيى بن الحارث بن شخير، وولي سعيد بن سلم الجزيرة. وغزا الصائفة فيها معاوية بن زفر بن عاصم. وفيها صار الرشيد إلى البصرة منصرفة من مكة، فقدمها في المحرم منها، فنزل المحدثة أيامًا، ثم تحول منها إلى قصر عيسى بن جعفر بالخريبة، ثم ركب في نهر سيحان الذي احتفره يحيى بن خالد؛ حتى نظر إليه، وسكر نهر الأبلة ونهر معقل، حتى استحكم أمر سيحان، ثم شخص عن البصرة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم، فقدم مدينة السلام، ثم شخص إلى الحيرة، فسكنها وابتنى فيها المنازل، وأقطع من معه الخطط، وأقام نحوًا من أربعين يومًا فوثب به أهل الكوفة، وأساءوا مجاورته، فارتحل إلى مدينة السلام، ثم شخص من مدينة السلام إلى الرقة، واستخلف بمدينة السلام حين شخص إلى الرقة محمدًا الأمين، وولاه العراقين. وحج بالناس في هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فكان فيها غزو الرشيد أرض الروم، فافتتح بها عنوةً حصن الصفصاف، فقال مروان بن أبي حفصة: إن أمير المؤمنين المصطفى ** قد ترك الصفصاف قاعًا صفصفا وفيها غزا عبد الملك بن صالح الروم، فبلغ أنقرة وافتتح مطمورة. وفيها توفي الحسن بن قحطبة وحمزة بن مالك. وفيها غلبت المحمرة على جرجان. وفيها أحدث الرشيد عند نزوله الرقة في صدور كتبه الصلاة على محمد ﷺ. وحج بالناس في هذه السنة هارون الرشيد، فأقام للناس الحج، ثم صدر معجلًا. وتخلف عنه يحيى بن خالد، ثم لحقه بالغمرة فاستعفاه من الولاية فأعفاه، فرد إليه الخاتم، وسأله الإذن في المقام فأذن له، فانصرف إلى مكة. ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فكان فيها انصراف الرشيد من مكة ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، ثم توجيهه إياه إلى مدينة السلام، ومعه من أهل بيته جعفر بن أبي جعفر المنصور وعبد الملك بن صالح، ومن القواد علي بن عيسى، فبويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون. وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بن يحيى، فماتت ببرذعة، وعلى إرمينية يومئذ سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي، فرجع من كان فيها من الطراخنة إلى أبيها، فأخبروه أن ابنته قتلت غيلة، فحنق لذلك، وأخذ في الأهبة لحرب المسلمين. وانصرف فيها يحيى بن خالد إلى مدينة السلام. وغزا فيها الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، فبلغ دفسوس مدينة أصحاب الكهف. وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون، وأقروا أمه رييني، وتلقب أغسطة. وحج بالناس فيها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيه فمن ذلك خروج الخزر بسبب ابنه خاقان من باب من الأبواب وإيقاعهم بالمسلمين هناك وأهل الذمة، وسبيهم - فيما ذكر - أكثر من مائة ألف. فانتهكوا أمرًا عظيمًا لم يسمع في الإسلام بمثله، فولى الرشيد إرمينية يزيد بن مزيد مع أذربيحان، وقواه بالجند؛ ووجهه، وأنزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءًا لا أهل إرمينية. وقد قيل سبب دخول الخزر إرمينية غير هذا القول؛ وذلك ما ذكره محمد بن عبد الله، أن أباه حدثه أن سبب دخول الخزر إرمينية في زمان هارون كان أن سعيد بن سلم ضرب عنق المنجم السلمي بفأس، فدخل ابنه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فدخلوا إرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، ونكحوا المسلمات، وأقاموا فيها - أظن - سبعين يومًا، فوجه هارون خزيمة بن خازم ويزيد بن مزيد إلى إرمينية حتى أصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر، وسدت الثلمة. وفيها كتب الرشيد إلى علي بن عيسى بن ماهان وهو بخراسان بالمصير إليه؛ وكان سبب كتابه إليه بذلك؛ أنه كان حمل عليه، وقيل له: إنه قد أجمع على الخلاف، فاستخلف علي بن عيسى ابنه يحيى على خراسان، فأقره الرشيد، فوافاه علي، وحمل إليه مالًا عظيمًا، فرده الرشيد إلى خراسان من قبل ابنه المأمون لحرب أبي الخصيب، فرجع. وفيها خرج بنسا من خراسان أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائي مولى الحريش. وفيها مات موسى بن جعفر بن محمد ببغداد ومحمد بن السماك القاضي وفيها حج بالناس العباس بن موسى الهادي بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففيها قدم هارون مدينة السلام في جمادى الآخرة منصرفًا إليها من الرقة في الفرات في السفن، فلما صار إليها أخذ الناس بالبقايا. وولي استخراج ذلك - فيما ذكر - عبد الله بن الهيثم بن سام بالحبس والضرب، وولي حماد البربري مكة واليمن، وولي داود بن يزيد بن حاتم المهلبي السند، ويحيى الحرشي الجبل، ومهرويه الرازي طبرستان، وقام بأمر إفريقية إبراهيم الأغلب، فولاها إياه الرشيد. وفيها خرج أبو عمرو الشاري فوجه إليه زهير القصاب فقتله بشهرزور. وفيها طلب أبو الخصيب الأمان، فأعطاه ذلك علي بن عيسى، فوافاه بمرر فأكرمه. وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من قتل أهل طبرستان مهرويه الرازي وهو واليها، فولى الرشيد مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي. وفيها قتل عبد الرحمن الأبناوي أبان بن قحطبة الخارجي بمرج القلعة. وفيها عاث حمزة الشاري بباذغيس من خراسان، فوثب عيسى بن علي بن عيسى على عشرة آلاف من أصحاب حمزة فقتلهم، وبلغ كابل وزايلستان والقندهار، فقال أبو العذافر في ذلك: كاد عيسى يكون ذا القرنين ** بلغ المشرقين والمغربين لم يدع كابلًا ولا زابلستا ** ن فما حولها إلى الرخجين وفيها خرج أبو الخصيب ثانية بنسا، وغلب عليها وعلى أبيورد وطوس ونيسابور، وزحف إلى مرو، فأحاط بها، فهزم، ومضى نحو سرخس، وقوي أمره. وفيها مات يزيد بن مزيد ببرذعة، فولي مكانه أسد بن يزيد. وفيها مات يقطين بن موسى ببغداد. وفيها مات عبد الصمد بن علي ببغداد في جمادى الآخرة، ولم يكن ثغر قط؛ فأدخل القبر بأسنان الصبي، ومانقص له سن. وشخص فيها الرشيد إلى الرقة على طريق الموصل. واستأذنه فيها يحيى بن خالد في العمرة والجوار، فأذن له، فخرج في شعبان، واعتمر عمرة شهر رمضان، ثم رابط بجدة إلى وقت الحج، ثم حج. ووقعت في المسجد الحرام صاعقة فقتلت رجلين. وحج بالناس فيها منصور بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففيها كان خروج علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا، فقتله بها، وسبى نساءه وذراريه، واستقاما خراسان. وفيها حبس الرشيد ثمامة بن أشرس لوقوفه على كذبه في أمر أحمد بن عيسى بن زيد. وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور عند هرثمة. وتوفي العباس بن محمد ببغداد. ذكر حج الرشيد ثم كتابته العهد لأبنائه وحج بالناس فيها هارون الرشيد؛ وكان شخوصه من الرقة للحج في شهر رمضان من هذه السنة، فمر بالأنبار، ولم يدخل مدينة السلام؛ ولكنه نزل منزلًا على شاطئ الفرات يدعى الدارات، بينه وبين مدينة السلام سبعة فراسخ، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وأخرج معه ابنيه: محمدًا الأمين وعبد الله المأمون؛ وليي عهده؛ فبدأ بالمدينة، فأعطى أهلها ثلاثة أعطية؛ كانوا يقدمون إليه فيعطيهم عطاء، ثم إلى محمد فيعطيهم عطاءً ثانيًا، ثم إلى المأمون فيعطيهم عطاء ثالثًا، ثم صار إلى مكة فأعطى أهلها، فبلغ ذلك ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار. وكان الرشيد عقد لابنه محمد ولاية العهد - فيما ذكر محمد بن يزيد عن إبراهيم بن محمد الحجبي - يوم الخميس في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائة، وسماه الأمين، وضم إليه الشأم والعراق في سنة خمس وسبعين ومائة، ثم بايع لعبد الله المأمون بالرقة في سنة ثلاث وثمانين ومائة، وولاه من حد همذان إلى آخر المشرق، فقال في ذلك سلم بن عمرو الخاسر: بايع هارون إمام الهدى ** لذي الحجى والخلق الفاضل المخلف المتلف أمواله ** والضامن الأثقال للحامل والعالم النافذ في علمه ** والحاكم الفاضل والعادل والراتق الفاتق حلف الهدى ** والقائل الصادق والفاعل لخير عباس إذا حصلوا ** والمفضل المجدي على العائل أبرهم برًا وأولاهم ** بالعرف عند الحدث النازل لمشبه المنصور في ملكه ** إذا تدجت ظلمة الباطل فتم بالمأمون نور الهدى ** وانكشف الجهل عن الجاهل وذكر الحسن بن قريش أن القاسم بن الرشيد، كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لمحمد المأمون، كتب إليه عبد الملك بن صالح: يأيها الملك الذي ** لو كان نجمًا كان سعدا اعقد لقاسم بيعة ** واقدح له في الملك زندا الله فرد واحد ** فاجعل ولاة العهد فردا فكان ذلك أول ما حض الرشيد على البيعة للقاسم. ثم بايع للقاسم ابنه، وسماه المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، فقال في ذلك: حب الخليفة حب لا يدين به ** من كان لله عاصٍ يعمل الفتنا الله قلد هارونًا سياستنا ** لما اصطفاه فأحيا الدين والسننا وقلد الأرض هارون لرأفته ** بنا أمينًا ومأمونًا ومؤتمنا قال: ولما قسم الأرض بين أولاده الثلاثة، قال بعض العامة: قد أحكم أمر الملك، وقال بعضهم: بل ألقى بأسهم بينهم، وعاقبة ما صنع في ذلك مخوفة على الرعية، وقالت الشعراء في ذلك، فقال بعضهم: أقول لغمة في النفس مني ** ودمع العين يطرد اطرادا خذي للهول عدته بحزمٍ ** سنلقى ما سيمنعك الرقادا فإنك إن بقيت رأيت أمرًا ** يطيل لك الكآبة والسهادا رأى الملك المهذب شر رأيٍ ** بقسمته الخلافة والبلادا رأى ما لو تعقبه بعلمٍ ** لبيض من مفارقه السوادا أراد به ليقطع عن بنيه ** خلافهم ويبتذلوا الودادا فقد غرس العداوة غير آلً ** وأورث شمل ألفتهم بدادا وألقح بينهم حربًا عوانًا ** وسلس لاجتنابهم القيادا فويل للرعية عن قليل ** لقد أهدى لها الكرب الشدادا وألبسها بلاءً غير فانٍ ** وألزمها التضعضع والفسادا ستجري من دمائهم بحور ** زواخر لا يرون لها نفادا فوزر بلائهم أبدًا عليه ** أغيًا كان ذلك أم رشادا قال: وحج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة ست وثمانين ومائة، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فأنزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة آراءهم فيهما، أحدهما على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبد الله من الأعمال، وصير إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال، والآخر نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة والشروط لعبد الله على محمد وعليهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام بعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته ومن كان في الكعبة معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم. وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة في حفظهما، ومنع من أراد إخراجهما والذهاب بهما، فذكر عبد الله بن محمد ومحمد بن يزيد التيمي وإبراهيم الحجبي، وأن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء، وأدخلوا البيت الحرام، وأمر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يعلق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل إن هذا الأمر سريع انتقاضه قبل تمامه. وكانت نسخة الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجوازٍ من أمره، طائعًا غير مكره. إن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده، وصير البيعة لي في رقاب المسلمين جميعًا، وولى عبد الله بن هارون العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين بعدي، برضًا مني وتسليم، طائعًا غير مكره، وولاه خراسان وثغورها وكورها وحربها وجندها وخراجها وطرزها وبريدها، وبيوت أموالها، وصدقاتها وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها، في حياته وبعده. وشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين برضًا مني وطيب نفسي، أن لأخي عبد الله بن هارون علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين من العهد والولاية والخلافة وأمور المسلمين جميعًا بعدي، وتسليم ذلك له؛ وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلها، وما أقطعه أمير المؤمنين من قطعية، أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال أو حلي أو جوهر، أو متاع أو كسوة، أو منزل أو دواب، أو قليل أو كثير؛ فهو لعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، موفرًا مسلمًا إليه. وقد عرفت ذلك كله شيئًا شيئًا. فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافة إلى محمد بن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هارون أمير المؤمنين في تولية عبد الله بن هارون أمير المؤمنين خراسان وثغورها ومن ضم إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين؛ وأن يمضي عبد الله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان والري والكور التي سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله ابن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره من سلطان أمير المؤمنين وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحب، من لدن الري إلى أقصى عمل خراسان. فليس لمحمد بن أمير المؤمنين أن يحول عنه قائدًا ولا مقودًا ولا رجلًا واحدًا ممن ضم إليه من أصحابه الذين ضمهم أمير المؤمنين، ولا يحول عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولايته التي ولاه إياها هارون أمير المؤمنين من ثغور خراسان وأعمالها كلها، ما بين عمل الري مما يلي همذان إلى أقصى خراسان وثغورها وبلادها؛ وما هو منسوب إليها، ولا يشخصه إليه، ولا يفرق أحدًا من أصحابه وقواده عنه، ولا يولي عليه أحدًا، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عماله وولاة أموره بندارًا، ولا محاسبًا ولا عاملًا، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا كبير ضررًا، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته وقضاته وعماله وكتابه وقواده وخدمه ومواليه وجنده؛ بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم في أنفسهم ولا أقربائهم ولا مواليهم، ولا أحد بسبيل منهم، ولا في دمائهم ولا في أموالهم ولا في ضياعهم ودورهم ورباعهم وأمتعتهم ورقيقهم ودوابهم شيئًا من ذلك صغيرًا ولا كبيرًا، ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص له في ذلك وإدهانٍ منه فيه لأحد من ولد آدم، ولا يحكم في أمرهم ولا أحد من قضاته ومن عماله وممن كان بسبب منه بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأي قضاته. وإن نزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته وقواده وعماله وكتابه وخدمه ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله ابن أمير المؤمنين عاصيًا له أو مخالفًا عليه؛ فعلى محمد ابن أمير المؤمنين رده إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين بصغر له وقماء حتى ينفذ فيه رأيه وأمره. فإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين خلع عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان وثغورها وأعمالها، والذي من حد عملها مما يلي همذان والكور التي سماها أمير المؤمنين في كتابه هذا أو صرف أحد من قواده الذين ضمهم أمير المؤمنين إليه ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلًا أو كثيرًا مما جعله أمير المؤمنين له بوجهٍ من الوجوه، أو بحيلة من الحيل؛ صغرت أو كبرت؛ فلعبد الله ابن هارون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدم على محمد ابن أمير المؤمنين، وهو ولي الأمر بعد أمير المؤمنين والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هارون من أهل خراسان وأهل العطاء وجميع المسلمين في جميع الأجناد والأمصار لعبد الله ابن أمير المؤمنين، والقيام معه، والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذب عنه؛ ما كانت الحياة في أبدانهم. وليس لأحدٍ منهم جميعًا منكانوا، أو حيث كانوا، أن يخالفه ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته، ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلع عبد الله ابن هارون أمير المؤمنين وصرف العهد عنه من بعده إلى غيره، أو ينتقصه شيئًا مما جعله له أمير المؤمنين هارون في حياته وصحته، واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام في هذا الكتاب. وعبد الله ابن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حل من البيعة التي في أعناقكم محمد ابن أمير المؤمنين هارون إن نقص شيئًا مما جعله له أمير المؤمنين هارون، وعلى محمد بن هارون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابن أمير المؤمنين هارون ويسلم له الخلافة. وليس لمحمد ابن أمير المؤمنين هارون، ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين أن يخلعا القاسم ابن أمير المؤمنين هارون، ولا يقدما عليه أحدًا من أولادهما وقراباتهما ولا غيرهم من جميع البرية؛ فإذا أفضت الخلافة إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه في إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، أو صرف ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، وتصيير القاسم ابن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب وأرى. فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين في كتابه هذا، وشرط عليهم وأمر به، وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله ابن أمير المؤمنين، وعهد الله وذمته وذمة رسوله ﷺ وذمم المسلمين والعهود والمواثيق التي أخذ الله على الملائكة المقربين والنبيين المرسلين، ووكدها في أعناق المؤمنين والمسلمين، لتفن لعبد الله أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى وكتب في كتابه هذا، واشترط عليكم وأقررتم به على أنفسكم؛ فإن أنتم بدلتم من ذلك شيئًا، أو غيرتم، أو نكثتم، أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين، واشترط عليكم في كتابه هذا، فبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله محمد ﷺ وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة خمسين حجة، نذرًا واجبًا ولا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك؛ وكل مملوك لأحد منكم - أو يملكه فيما يستقبل إلى خمسين - حر، وكل امرأة له فهي طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج، لا مثنوية فيها. والله عليم بذلك كفيل وراع، وكفى بالله حسيبا. نسخة الشرط الذي كتب عبد الله ابن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحة عقله، وجوازٍ من أمره، وصدق نية فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين. إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة وجميع أمور المسلمين في سلطانه بعد أخي محمد بن هارون، وولاني في حياته ثغور خراسان وكور وجميع أعمالها، وشرط على محمد بن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة وولاية أمور العباد والبلاد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو أبتاع من الضياع والعقد والرباع أو ابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب والرقيق وغير ذلك، ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة، ولا يتبع لي في ذلك ولا لأحد منهم أبدًا، ولا يدخل علي ولا على ولا عليهم ولا على من كان معي ومن استعنت به من جميع الناس مكروهًا؛ في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال، ولا صغير من الأمور ولا كبير. فأجابه إلى ذلك، وأقر به وكتب له كتابًا، أكد فيه على نفسه ورضي به أمير المؤمنين هارون وقبله، وعرف صدق نيته فيه. فشرطت لأمير المؤمنين وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد وأطيع ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي بيعته وولايته، ولا أغدر، ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن موازرته وجهاد عدوه في ناحيتي، ما وفى لي بما شرط لأمير المؤمنين في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين، ولم يتبعني بشيء من ذلك، ولم ينقض أمرًا من الأمور التي شرطها أمير المؤمنين لي عليه. فإن احتاج محمد بن أمير المؤمنين إلى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو من أعدائه؛ خالفه أو أراد نقص شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين إلينا وولانا إياه؛ فعلي أن أنفذ أمره ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي. وإن أراد محمد أن يولي رجلًا من ولده العهد والخلافة من بعدي؛ فذلك له ما وفى لي بما جعله أمير المؤمنين إلي واشترطه لي عليه، وشرط على نفسه في أمري، وعلى إنفاذ ذلك والوفاء له به؛ ولا أنقص من ذلك ولا أغيره ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحدًا من ولدي، ولا قريبًا ولا بعيدًا من الناس أجمعين؛ إلا أن يولي أمير المؤمنين هارون أحدًا من ولده العهد من بعدي؛ فيلزمني ومحمدًا الوفاء له. وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد على الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفى لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في هذا الكتاب الذي كتبه لي، وعلى عهد الله وميثاقه وذمة أمير المؤمنين وذمتي وذمم آبائي وذمم المؤمنين وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، ونهى عند نقضها وتبديلها؛ فإن أنا نقضت شيئًا مما شرطت وسميت في كتابي هذا أو غيرت أو بدلت، أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله عز وجل ومن ولايته ودينه، ومحمد رسول الله ﷺ، ولقيت الله يوم القيامة كافرًا مشركًا؛ وكل امرأة هي لي اليوم أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثًا البتة طلاق الحرج؛ وكل مملوك هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة، نذرًا واجبًا علي في عنقي حافيًا راجلًا؛ لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك، وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدى بالغ الكعبة؛ وكل ما جعلت لأمير المؤمنين وشرطت في كتابي هذا لازم لا أضمر غيره، ولا أنوي غيره. وشهد سليمان بن أمير المؤمنين وفلان وفلان. وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة. نسخة كتاب هارون بن محمد الرشيد إلى العمال بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن الله ولي أمير المؤمنين وولي ما ولاه، والحافظ لما استرعاه وأكرمه به من خلافته وسلطانه، والصانع له فيما قدم وأخر من أموره، والمنعم عليه بالنصر والتأييد في مشارق الأرض ومغاربها، والكالئ والحافظ والكافي من جميع خلقه؛ وهو المحمود على جميع آلائه، المسئول تمام حسن ما أمضى من قضائه لأمير المؤمنين، وعادته الجميلة عنده، وإلهام ما يرضى به، ويوجب عليه أحسن المزيد من فضله. وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوام المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابني أمير المؤمنين، من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة، ومدت إليه أعناقها، وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة والمودة والسكون إليهما والثقة بهما، لعماد دينهم، وقوام أمورهم؛ وجمع ألفتهم، وصلاح دهمائهم، ودفع المحذور والمكروه من الشتات والفرقة عنهم؛ حتى ألقوا إليهما أزمتهم، وأعطوهما بيعتهم وصفقات أيمانهم، بالعهود والمواثيق ووكيد الأيمان المغلظة عليهم. أراد الله فلم يكن له مرد، وأمضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته، ولا صرفٍ له عن محبته ومشيئته، وما سبق في علمه منه. وأمير المؤمنين يرجو تمام النعمة عليه وعليهما في ذلك وعلى الأمة كافة؛ ولا عاقب لأمر الله ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عقد العهد لمحمد بن أمير المؤمنين من بعد أمير المؤمنين ولعبد الله ابن أمير المؤمنين من بعد محمد ابن أمير المؤمنين، يعمل فكره ورأيه ورويته فيما فيه الصلاح لهما ولجميع الرعية والجمع للكلمة، واللم للشعث، والدفع للشتات والفرقة، والحسم لكيد أعداء النعم؛ من أهل الكفر والنفاق والغل والشقاق، والقطع لآمالهم من كل فرصة يرجون إدراكها وانتهازها منهما بانتقاص حقهما. ويستخير الله أمير المؤمنين في ذلك، ويسأله العزيمة له على ما فيه الخيرة لهما ولجميع الأمة، والقوة في أمر الله وحقه وائتلاف أهوائهما، وصلاح ذات بينهما، وتحصينهما من كيد أعداء النعم، ورد حسدهم ومكرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد بينهما. فعزم أمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله، وأخذ البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والإنفاذ لأمره، واكتتاب الشرط على كل واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود، وأغلظ الأيمان والتوكيد، والأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع إلفتهما ومودتهما وتواصلهما وموازرتهما ومكانفتهما على حسن النظر لأنفسهما ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما، والجماعة لدين الله عز وجل وكتابه وسنن نبيه ﷺ، والجهاد لعدو المسلمين؛ من كانوا وحيث كانوا، وقطع طمع كل عدو مظهر للعداوة، ومسر لها، وكل منافق ومارق، وأهل الأهواء الضالة المضلة من تكيد بكيد توقعه بينهما، وبدحس يدحس به لهما، وما يلتمس أعداء الله وأعداء النعم وأعداء دينه من الضرب بين الأمة، والسعي بالفساد في الأرض، والدعاء إلى البدع والضلالة؛ نظرًا من أمير المؤمنين لدينه ورعيته وأمة نبيه محمد ﷺ ومناصحة لله ولجميع المسلمين، وذبًا عن سلطان الله الذي قدره، وتوحد فيه للذي حمله إياه والاجتهاد في كل ما فيه قربة إلى الله، وما ينال به رضوانه، والوسيلة عنده. فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك، وما نظر فيه لهما، فقبلا كل ما دعاهما إليه من التوكيد على أنفسهما بقبوله، وكتبا لأمير المؤمنين في بطن بيت الله الحرام بخطوط أيديهما، بمحضر ممن شهد الموسم من أهل بيت أمير المؤمنين وقواده وصحابته وقضاته وحجبة الكعبة وشهاداتهم عليها كتابين استودعهما أمير المؤمنين الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة. فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله في داخل بيت الله الحرام وبطن الكعبة، أمر قضاته الذين شهدوا عليهما، وحضروا كتابهما، أن يعلموا جميع من حضر الموسم من الحجاج والعمار ووفود الأمصار ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابهما، وقراءة ذلك عليهم ليفهموه ويعوه، ويعرفوه ويحفظوه، ويؤده إلى إخوانهم وأهل بلدانهم وأمصارهم، ففعلوا ذلك، وقرئ عليهم الشرطان جميعًا في المسجد الحرام، فانصرفوا. وقد اشتهر ذلك عندهم، وأثبتوا الشهادة عليه، وعرفوا نظر أمير المؤمنين وعنايته بصلاحهم وحقن دمائهم، ولم شعثهم وإطفاء جمرة أعداء الله؛ أعداء دينه وكتابه وجماعة المسلمين عنهم، وأظهروا الدعاء لأمير المؤمنين والشكر لما كان منه في ذلك. وقد نسخ لك أمير المؤمنين ذينك الشرطين اللذين كتبهما لأمير المؤمنين ابناه محمد وعبد الله في بطن الكعبة في أسفل كتابه؛ هذا فأحمد الله عز وجل على ما صنع لمحمد وعبد الله وليي عهد المسلمين حمدًا كثيرًا، وأشكره ببلائه عند أمير المؤمنين وعند وليي عهد المسلمين وعندك وعند جماعة أمة محمد ﷺ كثيرًا. واقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلك من المسلمين، وأفهمهم إياه وقم به بينهم، وأثبته في الديوان قبلك وقبل قواد أمير المؤمنين ورعيته قبلك واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله وحسبنا الله ونعم الوكيل وبه الحول والقوة والطول. وكتب إسماعيل بن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة. قال: وأمر هارون الرشيد لعبد الله المأمون بمائة ألف دينار، وحملت له إلى بغداد من الرقة. قال وكان الرشيد بعد مقتل جعفر بن يحيى بالعمر، صار إلى الرقة، ثم قدم بغداد؛ وقد كانت توالت عليه الشكاية من علي بن عيسى بن ماهان من خراسان وكثر عليه القول عنده، فأجمع على عزله من خراسان، وأحب أن يكون قريبًا منه. فلما صار إلى بغداد شخص بعد مدة منها إلى قرماسين، وذلك في سنة تسع وثمانين ومائة، وأشخص إليها عدة رجال من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سواه أجمع لعبد الله المأمون، وأنه ليس فيه قليل ولا كثير بوجه ولا سبب، وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بن هارون أمير المؤمنين وعلى من كان بحضرته لعبد الله والقاسم على النسخة التي كان أخذها عليه الرشيد بمكة، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله إذا أفضت إليه الخلافة؛ فقال إبراهيم الموصلي في بيعة هارون لابنيه في الكعبة: خير الأمور مغبةً ** وأحق أمر بالتمام أمر قضى إحكامه الر ** حمان في البيت الحرام ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن إيقاع الرشيد بالبرامكة فمما كان فيها من ذلك قتل الرشيد جعفر بن يحيى بن خالد وإيقاعه بالبرامكة. ذكر الخبر عن قتله إياه وكيف كان قتله وما فعل به وبأهل بيته أما سبب غضبه عليه الذي قتله عنده، فإنه مختلف، فمن ذلك ما ذكر عن بختيشوع بن جبريل، عن أبيه أنه قال: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحيى بن خالد - وكان فيما مضى يدخلان بلا إذن - قلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم رد عليه ردًا ضعيفًا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير. قال: ثم أقبل على الرشيد، فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك! فقام يحي، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك؛ والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري؛ حتى أن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردًا حينا، وحينا في بعض إزاره؛ وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب؛ وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الأذن، أو الثالثة إن أمرني سيدي بذلك. قال: فاستحيا - قال: وكان من أرق الخلفاء وجهًا - وعيناه في الأرض، ما يرفع إليه طرفه، ثم قال: ما أردت ما تكره؛ ولكن الناس يقولون. قال: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه فأجاب بهذا القول ثم أمسك عنه، وخرج يحيى. وذكر عن أحمد بن يوسف أن ثمامة بن أشرس؛ قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله؛ فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إني استكفيت يحيى أمور عبادك! أتراك تحتج بحجة يرضى بها! مع كلام فيه توبيخ وتقريع. فدعا الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة - فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام، فأمر به فوضع في المطبق دهرًا؛ فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: تقول هذا! قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله؛ فكيف أحبك! قال: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين؛ ولكن قد ذهب ما في قلبي، فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم؛ قد أنعمت علي وأحسنت إلي. قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك. قال: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغيير حالهم. قال: وحدثني محمد بن الفضل بن سفيان، مولى سليمان بن أبي جعفر، قال: دخل يحيى بن خالد بعد ذلك على الرشيد، فقام الغلمان إليه، قال: فدخل فلم يقم إليه أحد، فأربد لونه. قال: وكان الغلمان والحجاب بعد أن رأوه أعرضوا عنه. قال: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلم يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعوا بها مرارًا. وذكر أبو محمد اليزيدي - وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم - قال: من قال أن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه؛ وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قال: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غدًا محمد ﷺ؛ فوالله ما أحدثت حدثًا ولا آويت محدثًا، فرق عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك! فوجه معه من أداه إلى مأمنه. وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر، فوجده حقًا، وانكشف عنده؛ فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره، وقال: وما أنت وهذا لا أم لك! فلعل ذلك عن أمري؛ فانكسر الفضل؛ وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس والضيق والأكبال. قال: بحياتي! فأحجم جعفر - وكان من أدق الخلق ذهنًا، وأصحهم فكرًا - وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده. قال: نعم ما فعلت؛ ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه، ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان. وحدث إدريس بن بدر، قال: عرض رجل شديد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة؛ فادع بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسله عن نصيحة هذه، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمة الرشيد بقوله، قال: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قال: فلما كان في الهاجرة انصرف من كان عنده، ودعا به، فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان؛ فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه؛ فنظر إليهما الرجل، فقال الرشيد: تنحيا عني، ففعلا، ثم أقبل على الرجل، فقال: هات ما عندك، قال: على أن تؤمنني! قال: على أن أؤمنك وأحسن إليك. قال: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه بصدد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم من أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن به إن عرض له. قال: أوتعرف يحيى بن عبد الله؟ قال: أعرفه قديمًا، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس، قال: فصفه لي، قال: مربوع أسمر رقيق السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن. قال: صدقت؛ هو ذاك. قال: فما سمعته يقول؟ قال: ما سمعته يقول شيئًا؛ غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلامًا من غلمانه أعرفه قديمًا جالسًا على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوبٍ غسيل، فألقاه في عنقه ونزع جبة الصوف، فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، وأنا أرمقه؛ أطال في الأوليين، وخفف في الأخريين، فقال: لله أبوك! لجاد ما حفظت عليه، نعم تلك صلاة العصر؛ وذاك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك! فمن أنت؟ قال: أنا رجل من أعقاب أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام، قال: فمنزلك بها؟ قال: نعم؛ فأطرق مليًا ثم قال: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي! قال: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى أرجع. فطفر في حجرة كانت خلف ظهره، فأخرج كيسًا فيه ألفا دينار، فقال: خذ هذه، ودعني ما أدبر فيك، فأخذها، وضم عليها ثيابه، ثم قال: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحوًا من مائة صفعة، ثم قال: أخرجاه إلى من بقي في الدار، وعمامته في عنقه، وقولا: هذا جزاء من يسعى بباطنة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا ذلك؛ وتحثوا بخبره؛ ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما كان ألقى إلى الرشيد؛ حتى كان من أمر البرامكة ما كان. وذكر يعقوب بن إسحاق أن إبراهيم بن المهدي حدثه. قال: أتيت جعفر بن يحيى في داره التي ابتناها، فقال لي: أما تعجب من منصور بن زياد؟ قال: قلت فبماذا؟ قال: سألته: هل ترى في داري عيبًا؟ قال: نعم؛ ليس فيها لبنة ولا صنوبرة، قال إبراهيم: فقلت: الذي يعيبها عندي أنك أنفقت عليها نحوًا من عشرين ألف ألف درهم، وهو شيء لا آمنه عليك غدًا بين يدي أمير المؤمنين، قال: هو يعلم أنه قد وصلني بأكثر من ذلك وضعف ذلك، سوى ما عرضني له. قال: قلت: إن العدو إنما يأتيه في هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف درهم، فأين نفقاته! وأين صلاته! وأين النوائب التي تنوبه! ما أظنك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك! وهذه جملة سريعة إلى القلب، والموقف على الحاصل منها صعب. قال: إن سمع مني قلت: إن أمير المؤمنين نعمًا على وم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها؛ وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي، فوضعتها في رأس جبل، ثم قلت للناس: تعالوا فانظروا. وذكر زيد بن علي بن حسين بن زيد أن إبراهيم بن المهدي حدثه أن جعفر بن يحيى، قال له يومًا - وكان جعفر بن يحيى صاحبه عند الرشيد، وهو الذي قربه منه: إني استربت بأمر هذا الرجل - يعني الرشيد - وقد ظننت أن ذلك لسابق سبق في نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت؛ فارمق ذلك في يومك هذا وأعلمني ما ترى منه. قال: ففعلت ذلك في يومي؛ فلما نهض الرشيد من مجاسه كنت أول أصحابه نهض عنه، حتى صرت إلى شجر في طريقي، فدخلتها ومن معي، وأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرون بي واحدًا واحدًا، فأراهم ولا يروني؛ حتى إذا لم يبق منهم أحد؛ إذا أنا بجعفر قد طلع، فلما جاوز الشجر قال: أخرج يا حبيبي، قال: فخرجت، فقال: ما عندك؟ فقلت: حتى تعلمني كيف علمت أني ها هنا؛ قال: عرفت عنايتك بما أعني به، وأنك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه؛ وعلمت أنك تكره أن ترى واقفًا في مثل هذا الوقت، وليس في طريقك موضع أستر من هذا الموضع، فقضيت بأنك فيه، قلت: نعم؛ قال: فهات ما عندك، قلت: رأيت الرجل يهزل إذا هزلت. قال: كذا هو عندي، فانصرف يا حبيبي. قال: فانصرفت. قال: وحدثني علي بن سليمان أنه سمع جعفر بن يحيى يومًا يقول: ليس لدارنا هذه عيب؛ إلا أن صاحبها فيها قليل البقاء - يعني نفسه. وذكر عن موسى بن يحيى، قال: خرج أبي إلى الطواف في السنة التي أصيب فيها، وأنا معه من بين ولده، فجعل يتعلق بأستار الكعبة، ويردد الدعاء، ويقول: اللهم ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، ولا يعرفها سواك. اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا؛ وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري، ومالي وولدي، حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة. قال: وحدثني أحمد بن الحسن بن حرب، قال: اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي فاسلبني، اللهم إن رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، اللهم إلا الفضل. قال: ثم ولى ليمضي؛ فلما قرب من باب المسجد كر مسرعًا، ففعل مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يرغب إليك ثم يستثني عليك.. اللهم والفضل. قال: فلما انصرفوا من الحج نزلوا الأنبار، ونزل الرشيد بالعمر ومعه وليا العهد؛ الأمين والمأمون، ونزل الفضل مع الأمين، وجعفر مع المأمون، ويحيى في منزل خالد بن عيسى كاتبه، ومحمد بن يحيى في منزل ابن نوح صاحب الطراز، ونزل محمد بن خالد مع المأمون بالعمر مع الرشيد، قال: وخلا الرشيد بالفضل ليلًا، ثم خلع عليه وقلده، وأمره أن ينصرف مع محمد الأمين، ودعا بموسى بن يحيى فرضي عنه وكان غضب عليه بالحيرة في بدأته، لان على عيسى بن ماهان اتهمه عند الرشيد في أمر خراسان واعلمه طاعة أهلها له، ومحبتهم إياه، وإنه يكاتبهم ويعمل على الانسلال إليهم والوثوب به معهم؛ فوقر ذلك في نفس الرشيد عليه وأوحشه منه؛ وكان موسى أحد الفرسان الشجعان، فلما قدح علي بن عيسى فيه أسرع ذلك في الرشيد، وعمل فيه القليل منه، ثم ركب موسى دين، اختفى من غرمائه، فتوهم الرشيد عليه أنه صار إلى خراسان؛ كما قيل له، فلما صار إلى الحيرة في هذه الحجة وافاه موسى من بغداد، فحبسه الرشيد عند العباس بن موسى بالكوفة؛ فكان ذلك أول ثلمة ثلموا بها؛ فركبت أم الفضل بن يحيى في أمره، ولم يكن يردها في شيء، فقال: يضمنه أبوه فقد رفع إلى فيه، فضمنه يحيى ودفعه إليه، ثم رضي عنه، وخلع عليه، وكان الرشيد قد عتب على الفضل بن يحيى، وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه؛ فكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتي ما شربته؛ وكان مشغوفًا بالسماع. قال: وكان جعفر يدخل في منادمة الرشيد؛ حتى كان أبوه ينهاه عن منادمته، ويأمره بترك الأنس به، فيترك أمر أبيه، ويدخل معه فيما يدعوه إليه. وذكر عن سعيد بن هريم أن يحيى كتب إلى جعفر حين أعيته حيلته فيه: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة تعرف بها أمرك؛ وإن كنت لأخشى أن تكون التي لا شوى لها. قال: وقد كان يحيى قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك؛ ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك علي منك، فلو أعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك، كان ذلك واقعًا بموافقتي، وآمن لك علي. قال الرشيد: يا أبت ليس بك هذا؛ ولكنك إنما تريد أن تقدم عليه الفضل. وقد حدثني أحمد بن زهير - أحسبه عن عمه زاهر بن حرب - أن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرههما إذا جاس للشرب؛ وذلك بعد أن أعلم جعفرًا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي، وتقدم إليه ألا يمسها، ولايكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته؛ فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلامًا، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستورًا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه؛ ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه؛ فلما حج هارون هذه الحجة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد - فيما زعم - قتل الصبي، ثم تحوب من ذلك. وكان جعفر يتخذ للرشيد طعامًا كلما حج بعسفان فيقريه إذا انصرف شاخصًا من مكة إلى العراق؛ فلما كان في هذا العام، اتخذ الطعام جعفر كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد، ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار؛ فكان من أمره وأمر أبيه ما أنا ذاكره إن شاء الله تعالى. ذكر الخبر عن مقتل جعفر ذكر الفضل بن سليمان بن علي أن الرشيد حج في سنة ست وثمانين ومائة وأنه انصرف من مكة، فوافى الحيرة في المحرم من سنة سبع وثمانين ومائة عند انصرافه من الحج، فأقام في قصر عون العبادي أيامًا، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت لانسلاخ المحرم أرسل مسرورًا الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجفر بن يحيى ليلًا، فدخل عليه مسرور وعنده بختيشوع المتطبب وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في لهوه، فأخرجه إخراجًا عنيفًا يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بأخذه إياه ومجيئه به، فأمر بضرب عنقه، ففعل ذلك. وذكر عن علي بن أبي سعيد أن مسرورًا الخادم، حدثه قال: أرسلني الرشيد لآتيه بجعفر بن يحيى لما أراد قتله، فأتيته وعنده أبو زكار الأعمى المغني وهو يغنيه: فلا تبعد فكل فتىً سيأتي ** عليه الموت يطرق أو يغادي قال: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين. قال: فرفع يديه، ووقع على رجلي يقبلهما، وقال: حتى أدخل فأوصي، قلت: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت، فتقدم في وصيته بما أراد، وأعتق مماليكه، ثم أتتني رسل أمير المؤمنين تستحثني به، قال: فمضيت إليه فأعلمته، فقال لي وهو في فراشه: ائتني برأسه، فأتيت جعفرًا فأخبرته، فقال: يا أبا هاشم، الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران؛ فدافع بأمري حتى أصبح أؤامره في ثانية، فعدت لأؤامره، فلما سمع حسي، قال: يا ماص بظر أمه، ائتني برأس جعفر! فعدت إلى جعفر، فأخبرته، فقال: عاوده في ثالثة، فأتيته، فحذفني بعمود ثم قال: نفيت من المهدي إن أنت جئتني ولم تأتني برأسه، لأرسلن إليك من يأتيني برأسك أولًا، ثم برأسه آخرًا. قال: فخرت فأتيته برأسه. قال: وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بن خالد وجميع ولده ومواليه، ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضرًا، وحول الفضل بن يحيى ليلًا فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى بن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلتهرجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم؛ وأخذ كل ما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وولاه أمورهم، وفرق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، وأخذ وكلائهم. فلما أصبح بعث بجثة جعفر بن يحيى مع شعبة الخفتاني وهرثمة بن أعين وإبراهيم بن حميد المروروذي، وأتبعهم عدة من خدمه وثقاته؛ منهم مسرور الخادم إلى منزل جعفر بن يحيى، وإبراهيم بن حميد وحسين الخادم إلى منزل الفضل بن يحيى، ويحيى بن عبد الرحمن ورشيد الخادم إلى منزل يحيى ومحمد بن يحيى، وجعل معه هرثمة بن أعين، وأمر بقبض جميع ما لهم، وكتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جيفة جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته، وصلب كل قطعة منها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل. ففعل السندي ذلك، وأضى الخدم ما كانوا وجهوا فيه، وحمل عدة من أولاد الفضل وجعفر ومحمد الأصاغر إلى الرشيد، فأمر بإطلاقهم، وأمر بالنداءفي جميع البرامكة: ألا أمان آواهمإلا محمد بن خالد وولده وأهله وحشمه؛ فإنه استثناهم؛ لما ظهر من نصيحة محمد له، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة. وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه من العمر، ووكل بالفضل ومحمد وموسى بني يحيى، وبأبي المهدي صهرهم حفظةً من قبل هرثمة بن أعين، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بن عثمان بن نهيك، ثم صلب. وحبس يحيى بن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم. ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم. وذكر الزبير بن بكار أن جعفر بن الحسين اللهبي حدثه أن الرشيد أتى بأنس بن أبي شيخ صبح الليلة التي قتل فيها جعفر بن يحيى، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج الرشيد سيفًا من تحت فراشه، وأمر بضرب عنقه، وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك: تلمظ السيف من شوق إلى أنسٍ ** فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر قال: فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله بن مصعب. وقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بن العوام. وذكر بعضهم أن عبد الله بن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة. وذكر محمد بن إسحاق أن جعفر بن محمد بن حكيم الكوفي، حدثه قال: حدثني السندي بن شاهك، قال: إني لجالس يومًا، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتابًا صغيرًا، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم ": يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعدًا فقم، وإن كنت قائمًا فلا تقعد حتى تصير إلي. قال السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت. وكان الرشيد بالعمر؛ فحدثني العباس بن الفضل بن الربيع، قال: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي: يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبهه أن يكون هو! قال: فطلعت. قال السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قال للعباس: اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيما أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟ قلت: هرثمة، قال: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قال: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج - خلا باب محمد بن خالد - حتى يأتيك أمري. قال: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت. قال السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به. قال: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة بن أعين، ومعه جعفر بن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين؛ وأن أصلبه على ثلاثة جسور. قال: ففعلت ما أمرني به. قال محمد بن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوبًا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بن خازم، دعا بالوليد بن جثم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بن الجنيد الختلي - وكان سيافه - فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال: ينبغي أن يحرق هذا - يعني جعفرًا - فلما مضى، جمع السندي له شوكًا وحطبًا وقال محمد بن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بن يحيى، قيل ليحيى بن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفرًا، قال: كذلك يقتل ابنه، قال: فقيل له: خربت ديارك، قال: كذلك تخرب دورهم. وذكر الكرماني أن بشارًا التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفرًا في آخره؛ فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر بن يحيى معه، قد خلا به دون ولاة العهد؛ وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه؛ وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه؛ ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني علي الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضًا واطرب؛ لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت؛ فانصرف عنه إلى منزله؛ فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعة تأتيه بالأنفال والأبخرة والرياحين؛ حتى ذهب الليل. ثم بعث إليه مسرورًا فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلامًا الأبرش بباب يحيى بن خالد، ولم يعترض لمحمد بن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه. قال: فحدثني العباس بن بزيع عن سلام، قال: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت - وقد هتكت الستور وجمع المتاع - قال لي: يا أبا مسلمة؛ هكذا تقوم الساعة! قال سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه؛ فأطرق مفكرًا. قال وحدثني أيوب بن هارون بن سليمان بن علي، قال: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى أبي صالح بن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم. قال: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي: أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما ربك بظلام للعبيد. وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد. قال: قتل جعفر بن يحيى ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة - وفي ذلك يقول الرشاقي: أيا سبت يا شر السبوت صبحيةً ** ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا ** وفي صفرٍ جاء البلاء مصمما قال: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفرًا سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم أقتله. ما قيل في البرامكة من الشعر بعد زوال أمرهم قال: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس: ألان استرحنا واستراحت ركابنا ** وأمسك من يجدي ومن كان يجتدي فقل للمطايا قد أمنت من السري ** وطي الفيافي فدفدًا بعد فدفد وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفرٍ ** ولن تظفري من بعده بمسود وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطلي ** وقل للرزايا كل يوم تجددي ودونك سيفًا برمكيًا مهندًا ** أصيب بسيفٍ هاشمي مهند وفيهم يقول في شعر له طويل: إن يغدر الزمن الخئون بنا فقد ** غدر الزمان بجعفرٍ ومحمد حتى إذا وضح النهار تكشفت ** عن قتل أكرم هالك لم يلحد والبيض لولا أنها مأمورة ** ما فل حد مهند بمهند يا آل برمك كم لكم من نائل ** وندى، كعد الرمل غير مصرد إن الخليفة لايشك أخوكملكنه في برمكٍ لم يولد نازعتموه رضاع أكرم حرةٍ ** مخلوقة من جوهرٍ وزبرجد ملك له كانت يد فياضة ** أبدًا تجود بطارفٍ وبمتلد كانت يدًا للجود حتى غلها ** قدر فأضحى الجود مغلول اليد وفيهم يقول سيف بن إبراهيم: هوت أنجم لجدوى وشلت يد الندى ** وغاضت بحور الجود بعد البرامك هوت أنجم كانت لأبناء برمكٍ ** بها يعرف الحادي طريق المسالك وقال بن أبي كريمة: كل معير أعير مرتبةً ** بعد فتى برمكٍ على غرر صالت عليه من الزمان يد ** كان بها صائلًا على البشر وقال العطوي أبو عبد الرحمن: أما والله لولا قول واشٍ ** وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ** كما للناس بالحجر استلام على الدنيا وساكنها جميعًا ** ودولة آل برمكٍ السلام وفي قتل جعفر قال أبو العتاهية: قولا لمن يرتجي الحياة أما ** في جعفرٍ عبرة ويحياه! كانا وزيري خليفة الله ها ** رون هما ما هما خليلاه فذاكم جعفر برمته ** في حلق رأسه ونصفاه والشيخ يحيى الوزير أصبح قد ** نحاه عن نفسه وأقصاه شتت بعد التجميع شملهم ** فأصبحوا في البلاد قد تاهوا كذاك من يسخط الإله بما ** يرضي به العبد قد تاهوا سبحان من دانت الملوك له ** أشهد أن لا إله إلا هو طوبى لمن تاب بعد غرته ** فتاب قبل الممات، طوباه! قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجه الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم. وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعة الليل. وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بن سعيد العقيلي. وفيها مات يعقوب بن داود بالرقة. وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قربانًا له ووسيلة، وولاه العواصم. ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح وحبسه. ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه ذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أن عبد الملك بن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن، كان من رجال الناس، وكان عبد الملك يكنى به؛ وكان لابنه عبد الرحمن لسان، على فأفأة فيه، فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة، فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع؛ فذكر أن عبد الملك بن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه، فقال له الرشيد: أكفرًا بالنعمة، وجحودًا لجليل المنة والتكرمة! فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذًا بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم؛ وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية. إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله ﷺ في أمته، وأمينه على عترته، لك فيها فرض الطاعة وأداة النصيحة، ولها عليك العدل في حكمهاوالتثبت في حادثها، والغفران لذنوبها. فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك! هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك، وفساد نيتك، فاسمع كلامه. فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده؛ ولعله لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتني بما لم يعرفه مني. وأحضر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قال: أقول: إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك، فقال عبد الملك: أهو كذلك يا قمامة! قال قمامة: نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي! فقال له الرشيد: وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك، ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك، فيما تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك بن صالح: هو مأمور، أو عاق مجبور؛ فإن كان مأمورًا فمعذور، وإن كان عاقًا ففاجر كفور؛ أخبر الله وجل بعداوتة، وحذر منه بقوله: " إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم ". قال: فنهض الرشيد، وهو يقول: أما أمرك فقد وضح؛ ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضى الله فيك؛ فإنه الحكم بيني وبينك. فقال عبد الملك: رضيت بالله حكمًا، وبأمير المؤمنين حاكمًا؛ فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه. قال: فلما كان بعد ذلك جلس مجلسًا آخر، فسلم لما دخل، فلم يرد عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يومًا أحتج فيه، ولا أجاذب منازعًا وخصمًا. قال: ولم؟ قال: لأن أوله جرى على غير السنة؛ فأنا أخاف آخره. قال: وما ذاك؟ قال: لم ترد علي السلام، أنصف نصفة العوام. قال: السلام عليكم؛ اقتداء بالسنة، وإيثارًا للعدل، واستعمالًا للتحية. ثم التفت نحو سليمان بن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك: أريد حياته ويريد قتلي.. البيت. ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع؛ وكأني بالوعيد قد أروى نارًا تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم؛ فمهلًا؛ فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل. فقال عبد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وفي رعيته التي استرعاك؛ ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلا. فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه، بعد أن بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضهه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعة القلوب في الصدور؛ فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق قمته؛ كنت كما قال أخو بني جعفر بن كلاب: ومقام ضيق فرجته ** ببناني ولساني وجدل لو يقوم الفيل أو فياله ** زل عن مثل مقامي وزحل قال: فقال له الرشيد: أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك. وذكر زيد بن علي بن الحسين العلوي، قال: لما حبس الرشيد عبد الملك ابن صالح، دخل عليه عبد الله بن مالك - وهو يومئذ على شرطه - فقال: أفي إذن انا قأتكلم، قال: تكلم، قال: لا، والله العظيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحًا، فعلام حبسته! قال: ويحك! بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين - يعني الأمي والمأمون - فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه. قال: أما إذ حبسته يا أمير المؤمنين، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه؛ ولكن أرى أن تحبسه محبسًا كرمًا يشبه محبس مثلك مثله. قال: فإني أفعل. قال: فدعا الرشيد الفضل بن الربيع، فقال: امض إلى عبد الملك بن صالح إلى محبسه، فقل له أنظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك؛ فذكر قصته وما سأل. قال: وقال الرشيد يومًا لعبد الملك بن صالح في بعض ما كلمته: ما أنت لصالح! قال: فلمن أنا؟ قال: لمروان الجعدي، قال: ما أبالي أي الفحلين غلب علي؛ فحبسه الرشيد عند الفضل بن ربيع؛ فلم يزل محبوسًا حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشأم؛ فكان مقيمًا بالرقة، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطى المأمون طاعةً أبدًا. فمات قبل محمد، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت. وكان قال لمحمد: إن خفت فالجأ إلي، فوالله لأصوننك. وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بن خالد: إن عبد الملك بن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك، وقد علمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أطلعت من عبد الملك على شيء من هذا؛ ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك؛ لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي؛ فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك أكثر مني! وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك! أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن؛ ولكنه كان زجلًا محتملًا يسرني أن يكون في أهلك مثله، فوليته، لما أحمدت من مذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله. قال: فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه، فقال: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك، فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت؛ على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فبم يدخل الفضل في ذلك! فقال الرسول للفضل: قم؛ فإنه لا بد لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك؛ فلم يشك أنه قاتله، فودع أباه، وقال له: ألست راضيًا عني؟ قال: بلى، فرضي الله عنك. ففرق بينهما ثلاثة أيام؛ فلما لم يجد عنده من ذلك شيئًا جمعهما كما كانا. وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل، لما كان أعداؤهم يقرفونهم به عنده، فلما أخذ مسرور بيد الفضل كما أعلمه، بلغ من يحيى، فأخرج ما في نفسه، فقال له: قل له يقتل ابنك مثله. قال مسرور: فلما سكن عن الرشيد الغضب، قال: كيف قال؟ فأعدت عليه القول، قال: قد خفت والله قوله؛ لأنه قلما قال لي شيئًا إلا رأيت تأويله. وقيل: بينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بن صالح، إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه وقصر من عنانه، واشدد من شكائمه؛ وإلا أفسد عليك ناحيته. فالتفت إلى عبد الملك، فقال: ما يقول هذا يا عبد الملك؟ فقال عبد الملك: مقال باغ ودسيس حاسد؛ فقال له هارون: صدقت، نقص القوم ففضلتهم، ونخلفوا وتقدمتهم؛ حتى برز شأوك، فقصر عنه غيرك؛ ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات النقص. فقال عبد الملك: لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمدًا دائمًا أبدًا. وقال الرشيد لعبد الملك بن صالح وقد مر بمنبج، وبها مستقر عبد الملك: هذا منزلك؟ قال: هو لك يا أمير المؤمنين، ولي بك. قال: كيف هو؟ قال: دون بناء أهلي وفوق منازل منبج، قال: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله. ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد أرض الروم وفي هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة وحاصرها، ووجه العباس بن جعفر بن محمد الأشعث، فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا، فبعث إليه الروم تبذل له ثلثمائة وعشرين رجلًا من أسارى المسلمين؛ على أن يرحل عنهم؛ فأجابهم إلى ذلك، ورحل عن قرة وحصن سنان صلحًا. ومات علي بن عيسى بن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وهو مع القاسم. ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله. ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم يومئذ ريني - وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها - فعادت الروم على ريني فخلعتها، وملكت عليها نقفور. والروم تذكر أن نقفور هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم ماتت ريني بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها؛ فذكر أن نقفور لما ماك واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب؛ أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثالها إليها؛ لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن؛ فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك. قال: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحدًا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه؛ وتفرق جلساؤه خوفًا من زيادة قول أو فعل يكون منهم؛ واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه. والسلام. ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق، واصطلم. فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق. وكان البرد شديدًا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه؛ فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقًا عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من أهل خرة يكنى أبا محمد عبد الله بن يوسف - ويقال: هو الحجاج بن يوسف التيمي، فقال: نقض الذي أعطيته نقفور ** وعليه دائرة البوار تدور أبشر أمير المؤمنين فإنه ** غنم أتاك به الإله كبير فلقد تباشرت الرعية أن أتى ** بالنقض عنه وافد وبشير ورجت يمينك أن تعجل غزوة ** تشفي النفوس مكانها مذكور أعطاك جزيته وطأطأ خده ** حذر الصوارم والردى محذور فأجرته من وقعها وكأنها ** بأكفنا شعل الضرام تطير وصرفت بالطول العساكر قافلًا ** عنه وجارك آمن مسرور نقفور إنك حين تغدر إن نأى ** عنك الإمام لجاهل مغرور أظننت حين غدرت أنك مفلت ** هبلتك أمك ما ظننت غرور! ألقاك حينك في زواجر بحره ** فطمت عليك من الإمام بحور إن الإمام على اقتسارك قادر ** قربت ديارك أم نأت بك دور ليس اللإمام وإن غفلنا غافلًا ** عما يسوس بحزمه ويدير ملك تجرد للجهاد بنفسه ** فعدوه أبدًا به مقهور يا من يريد رضا الإله بسعيه ** والله لا يخفى عليه ضمير لا نصح ينفع من يغش إمامه ** والنصح من نصحائه مشكور نصح الإمام على الأنام فريضة ** ولأهلها كفارة وطهور وفي ذلك يقول إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية: إمام الهدى أصبحت بالدين معنيًا ** وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا لك اسمان شقا من رشاد ومن هدىً ** فأنت الذي تدعى رشيدًا ومهديا إذا ما سخطت الشيء كان مسخطًا ** وإن ترض شيئًا كان في الناس مرضيا بسطت لنا شرقًا وغربًا يد العلا ** فأوسعت شرقيًا وأوسعت غربيا ووشيت وجه الأرض بالجود والندى ** فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا قضى الله يصفو أن لهارون ملكه ** وكان قضاء الله في الخلق مقضيا تحلبت الدنيا لهارون بالرضا ** فأصبح نقفور لهارون ذميا وقال التيمي: لجت بنقفور أسباب الردى عبثا ** لما رأته بغيل الليث قد عبثا ومن يزر غيله لا يخل من فزعٍ ** إن فات أنيابه والمخلب الشبثا خان العهود ومن ينكث بها فعلى ** حوبائه، لا على أعدائه نكثا كان الإمام الذي ترجى فواضله ** أذاقه ثمر الحلم الذي ورثا فرد ألفته من بعد أن عطفت ** أزواجه مرهًا يبكينه شعثا فلما فرغ من إنشاده، قال: أوقد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكر راجعًا في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية: ألا نادت هرقلة بالخراب ** من الملك الموفق بالصواب غدا هارون يرعد بالمنايا ** ويبرق بالمذكرة القضاب ورايات يحل النصر فيها ** تمر كأنها قطع السحاب أمير المؤمنين ظفرت فاسلم ** وأبشر بالغنيمة والإياب خبر مقتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك وفيها قتل - في قول الوافدي - إبراهيم بن عثمان بن ناهيك. وأما غير الواقدي؛ فإنه قال: في سنة ثمان وثمانين ومائة. ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر عن صالح الأعمى - وكان في ناحية إبراهيم بن عثمان بن نهيك - قال: كان إبراهيم بن عثمان كثيرًا ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعًا عليهم، وحبًا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قال: يا غلام، سيفي ذا المنية - وكان قد سمى سيفه ذا المنية - فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لأقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل فقال: ما الذي قال الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قال: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سرًا فسأله، فقال: لقد قال ذلك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليًا من أوليائي بقول غلام وخصي، لعلهما تواصيا على هذه المنافسة؛ الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أيامًا، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بن عثمان فيما رفع ابنه عليه؛ فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك؛ إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلني وإياه، ففعل ذلك الفضل بن الربيع؛ وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بن الربيع للقيام، فقال الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فينحوا عنه، ثم قال: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قال: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك؛ قال: إن في نفسي أمرًا أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قال: يا سيدي إذًا لا يرجع عني إليك أبدًا، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه. قال: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بن يحيى ندامةً ما أحسن أن أصفها؛ فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي؛ فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قال: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين. فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يابن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، فقالت: كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قال: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنة والله؛ ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها. فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه - فضربه بسيفه حتى مات - إلا ليال قلائل. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة فمما كان فيها من ذلك غزو إبراهيم بن جبريل الصائفة، ودخوله أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج للقائه نقفور، فوردعليه من ورائه أمر صرفه عن لقائه، فانصرف، ومر بقوم من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وانهزم. وقتل من الروم - فيما ذكر - أربعون ألفًا وسبعمائة، وأخذ أربعة آلاف دابة. وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق. وحج بالناس فيها الرشيد، فجعل طريقه على المدينة، فأعطى أهلها نصف العطاء؛ وهذه الحجة هي آخر حجة حجها الرشيد، فيما زعم الواقدي وغيره. ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر شخوص الرشيد إلى الري فمن ذلك ما كان من شخوص الرشيد أمير المؤمنين فيها إلى الري. ذكر الخبر عن سبب شخوصه إليها وما أحدث في خرجته تلك في سفره ذكر أن الرشيد كان استشار يحيى بن خالد في تولية خراسان علي بن عيسى بن ماهان، فأشار عليه ألا يفعل، فخالفه الرشيد في أمره، وولاه إياها، فلما شخص علي بن عيسى إليها ظلم الناس، وعسر عليهم، وجمع مالًا جليلًا، ووجه إلى هارون منها هدايا لم ير مثلها قط من الخيل والرقيق والثيلب والمسك والأموال، فقعد هارون بالشماسية على دكان مرتفع حين وصل ما بعث به إليه، وأحضرت تلك الهدايا فعرضت عليه، فعظمت في عينه، وجل عنده قدرها، وإلى جانبهيحيى بن خالد، فقال له: يا أبا علي؛ هذا الذي أشرت علينا ألا نوليه هذا الثغر، فقد خالفناك فيه، فكان في خلافك البركة - وهو كالمازح معه إذ ذاك - فقد ترى ما أنتج رأينا فيه، وما كان من رأيك! فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أنا وإن كنت أحب أن أصيب في رأيي وأوفق في مشورتي، فأنا أحب من ذلك أن يكون رأي أمير المؤمنين أعلى، وفراسته أثقب، وعلمه أكثر من علمي، ومعرفته فوق معرفتي؛ وما أحسن هذا وأكثره وإن لم يكن وراءه ما يكره أمير المؤمنين، وما أسأل الله أن يعيذه ويعفيه من سوء علقبته ونتائج مكروهه، قال: وما ذاك؟ فأعلمه، قال: ذاك أني أحسب أن هذه الهدايا ما اجتمعت له حتى ظلم فيها الأشراف، وأخذ أكثرها ظلمًا وتعديًا؛ ولو أمرني أمير المؤمنين لأتيته بضعفها الساعة من بعض تجار الكرخ، قال: وكيف ذاك؟ قال: قد ساومنا عونًا على السفط الذي جاءنا به من الجوهر، وأعطيناه به سبعة آلاف ألف، فأبى أن يبيعه، فأبعث إليه الساعة بحاجتي فآمره أن يرده إلينا؛ لنعيد فيه نظرنا؛ فإذا جاء به جحدناه، وربحنا سبعة آلاف ألف، ثم كنا نفعل بتاجرين من كبار التجار مثل ذلك. وعلى أن هذا أسلم عاقبة، وأستر أمرًا من فعل علي بن عيسى في هذه الهدايا بأصحابها، فأجمع لأمير المؤمنين في ثلاث ساعات أكثر من قيمة هذه الهدايا بأهون سعي، وأيسر أمر، وأجمل جباية؛ مما جمع علي في ثلاث سنين. فوقرت في نفس الرشيد وحفظها، وأمسك على ذكر علي بن عيسى عنده، فلما عاث علي بن عيسى بخراسان ووتر أشرافها، وأخذ أموالهم، واستخف برجالهم، كتب رجال من كبرائها ووجوهها إلى الرشيد، وكتبت جماعة من كورها إلى قراباتها وأصحابها، تشكو سوء سيرته، وخبث طعمته، ورداءة مذهبه، وتسأل أمير المؤمنين أن يبدلها به من أحب من كفاته وأنصاره وأبناء دولته وقواده. فدعا يحيى بن خالد، فشاوره في أمر علي بن عيسى وفي صرفه، وقال له: أشر علي برجل ترضاه لذلك الثغر يصلح ما أفسد الفاسق، ويرتق ما فتق. فأشار عليه بيزيد بن مزيد، فلم يقبل مشورته. وكان قيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على خلافك، فشخص إلى الري من أجل ذلك، منصرفه من مكة، فعسكر بالنهروان لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، ثم سار إلى الري، فلما صار بقرماسين أشخص إليه جماعة من القضاة وغيرهم، وأشهدهم أن جميع ما له في عسكره ذلك من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وما سوى ذلك لعبد الله المأمون، وأنه ليس فيه قليل ولا كثير. وجدد البيعة له على من كان معه، ووجه هرثمة بن أعين صاحب حرسه إلى بغداد، فأعاد أخذ البيعة على محمد بن هارون الرشيد وعلى من بحضرته لعبد الله والقاسم، وجعل أمر القاسم في خلعه وإقراره إلى عبد الله؛ إذا أفضت الخلافة إليه. ثم مضى الرشيد عند انصراف هرثمة إليه إلى الري، فأقام بها نحوًا من أربعة أشهر؛ حتى قدم عليه علي بن عيسى من خراسان بالأموال والهدايا والطرف، من المتاع والمسك والجوهر وآنية الذهب والفضة والسلاح والدواب، وأهدى بعد ذلك إلى جميع من كان معه من ولده وأهل بيته وكتابه وخدمه وقواده على قدر طبقاتهم ومراتبهم، ورأى منه خلاف ما كان ظن به وغير ما كان يقال فيه. فرضي عنه، ورده إلى خراسان، وخرج وهومشيع له؛ فذكر أن البيعة أخذت للمأمون والقاسم بولاية العهد بعد أخويه محمد وعبد الله، وسمي المؤتمن حين وجه هارون هرثمة لذلك بمدينة السلام يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب من هذه السنة، فقال الحسن بن هلنئ في ذلك: تبارك من ساس الأمور بعلمه ** وفضل هارونًا على الخلفاء نزال بخير ما انطوينا على التقى ** وما ساس دنيانا أبو الأمناء وفي هذه السنة - حين صار الرشيد إلى الري - بعث حسينًا الخادم إلى طبرستان، فكتب له ثلاثة كتب؛ من ذلك كتاب فيه أمان لشروين أبي قارن، والآخر فيه أمان لونداهرمز، جد مازيار، والثالث فيه أمان لمرزيان بن جستان، صاحب الديلم. فقدم عليه صاحب الديلم، فوهب له وكساه ورده. وقدم عليه سعيد الحرشي بأربعمائة بطل من طبرستان، فأسلموا على يد الرشيد، وقدم ونداهرمز، وقبل الأمان، وضمن السمع والطاعة وأداء الخراج، وضمن على شروين مثل ذلك؛ فقبل ذلك منه الرشيد وصرفه، ووجه معه هرثمة فأخذ ابنه وابن شروين رهينة. وقدم عليه الري أيضًا خزيمة بن خازم، وكان والي إرمينية، فأهدى هدايا كثيرة. وفي هذه السنة ولى هارون عبد الله بن مالك طبرستان والري والرويان ودنباوند وقومس وهمذان. وقال أبو اللعتاهية في خرجة هارون هذه - وكان هارون ولد بالري: إن أمين الله في خلقه ** حن به البر إلى مولده ليصلح الري وأقطارها ** ويمطر الخير بها من يده وولى هارون في طريقه محمد بن الجنيد الطريق ما بين همذان والري، وولى عيسى بن جعفر بن سليمان عمان، فقطع البحر من ناحية جزيرة ابن كاوان، فافتتح حصنًا بها وحاصر آخر، فهجم عليه ابن مخلد الأزدي وهو غار، فأسره وحمله إلى عمان في ذي الحجة، وانصرف الرشيد بعد ارتحال علي بن عيسى إلى خراسان عن الري بأيام، فأدركه الأضحى بقصر اللصوص؛ فضحى بها، ودخل مدينة السلام يوم الاثنين، لليلتين نقيتا من ذي الحجة، فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى، وطوى بغداد ولم ينزلها، ومضى من فوره متوجهًا إلى الرقة، فنزل السيلحين. وذكر عن بعض قواد الرشيد أن الرشيد قال لما ورد بغداد: والله إني لأطوي مدينةً ما وضعت بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منها؛ وإنها لوطني ووطن آبائي، ودار مملكة بني العباس ما بقوا وحافظوا عليها؛ وما رأى أحد من آبائي سوءًا ولا نكبة منها، ولا سيء بها أحد منهم قط، ولنعم الدار هي! ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق والبغض لأئمة الهدى والحب لشجرة اللعنة - بني أمية - مع ما فيها من المارقة والمتلصصة ومخيفي السبيل؛ ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت ولا خرجت عنها أبدًا. وقال العباس ن الأحنف في طي الرشيد بغداد: ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نف ** رق بين المناخ والارتحال ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ** فقرنا وداعهم بالسؤال وفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم مسلم إلا فودي به - فيما ذكر - فقال مروان بن أبي حفصة في ذلك: وفكت بك الأسرى التي شيدت لهل ** محابس ما فيها حميم يزورها على حين أعيا المسلمين فكاكها ** وقالوا: سجون المشركين قبورها ورابط فيها القاسم بدابق. وحج بالناس فيها العباس بن موسى بن عيسى بن موسى. ثم دخلت سنة تسعون ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر ظهور خلاف رافع بن ليث فمن ذلكما كان من ظهور خلاف رافع بن ليث بن نصر بن سيار بسمرقند، مخالفًا لهارون وخلعه إياه، ونزعه يده من طاعته. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكان سبب ذلك - فيما ذكر لنا - أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان، وكانت ذات يسار، فأقام بمدينة السلام، وتركها بسمرقند، فلما طال مقامه بها، وبلغها أنه قد اتخذ أمهات أولاد، التمست سببًا للتخلص منه، فعي عليها، وبلغ رافعًا خبرها، فطمع فيها وفي مالها، فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل لها إلى التخلص من صاحبها؛ إلا أن تشرك بالله، وتحضر لذلك قومًا عدولًا، وتكشف شعرها بين أيديهم، ثم تتوب فتحل للأزواج؛ ففعلت ذلك وتزوجها رافع. وبلغ الخبر يحيى بن الأشعث، فرفع ذلك إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى يأمره أن يفرق بينهما، وأن يعاقب رافعًا ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في مدينة سمرقند مقيدًا على حمار؛ حتى يكون عظة لغيره. فدرأ سليمان بن حميد الأزدي عنه الحد، وحمله على حمار مقيدًا حتى طلقها، ثم حبسه في سجن سمرقند - فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فطلب الأمان فلم يجبه علي إليه، وهم بضرب عنقه، فكلمه فيه ابنه عيسى بن علي، وجدد طلاق المرأة، وأذن له في الانصراف إلى سمرقند، فانصرف إليها، فوثب بسليمان بن حميد؛ عامل علي بن عيسى فقتله. فوجه علي بن عيسى إليه ابنه، فمال الناس إلى سباع بن مسعدة، فرأسوه عليهم، فوثب على رافع فقيده، فوثبوا على سباع، فقيدوه ورأسوا رافعًا وبايعوه، وطابقه من وراء النهر، ووافاه عيسى بن علي، فلقيه رافع فهزمه، فأخذ علي بن عيسى في فرض الرجال والتأهب للحرب. وفي هذه السنة غزا الرشيد الصائفة، واستخلف ابنه عبد الله المأمون بالرقة وفوض إليه الأمور، وكتب إلى الآفاق بالسمع له والطاعة، ودفع إليه خاتم المنصور يتيمن به؛ وهو خاتم الخاصة، نقشه: " الله ثقتي آمنت به ". وفيها أسلم الفضل بن سهل على يد المأمون. وفيها خرجت الروم إلى عين زربة وكنيسة السوداء، فأغارت وأسرت، فاستنقذ أهل المصيصة ما كان في أيديهم. فتح الرشيد هرقلة وفيها فتح الرشيد هرقلة، وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم؛ وكان دخلها - فيما قيل - في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق؛ سوى الأتباع وسوى المطوعة وسوى من لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع ووجه داود بن عيسى بن موسى سائحًا في أرض الروم في سبعين ألفًا، وافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودبسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقوبية - وكان فتح الرشيد هرقلة في شوال - وأخربها وسبى أهلها بعد مقام ثلاثين يومًا عليها، وولى حميد بن معيوف سواحل بحر الشأم إلى مصر، فبلغ حميد قبرس، فهدم وحرق وسبى من أهلها ستة عشر ألفًا، فأقدمهم الرافقة، فتولى بيعهم أبو البختري القاضي، فبلغ أسقف قبرس ألفي دينار. وكان شخوص هارون إلى بلاد الروم لعشر بقين من رجب؛ واتخذ قلنسوة مكتوبًا عليها " غاز حاج "، فكان يلبسها، فقال أبو المعالي الكلابي: فمن يطلب لقاءه أو يرده ** فبالحرمين أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمر ** وفي أرض الترفه فوق كور وما حاز الثغور سواك خلق ** من المتخلفين على الأمور ثم صار الرشيد إلى الطوانة، فعسكر بها، ثم رحل عنها، وخلف عليها عقبة بن جعفر، وأمره ببناء منزل هنالك، وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية، عن رأسه وولي عهده وبطارقته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار؛ منها عن رأسه أربعة دنانير؛ وعن رأس ابنه استبراق دينارين. وكتب نقفور مع بطريقين من عظماء بطارقته في جاريه من سبي هرقلة كتابًا نسخته: لعبد الله هارون أمير المؤمنين من نقفور ملك الروم. سلام عليكم، أما بعد أيها الملك، فإن لي إليك حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينة يسيرة؛ أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفي بحاجتي فعلت. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. واستهداه أيضًا طيبًا وسرادقًا من سرلدقته فأمر الرشيد بطلب الجارية، فأحضرت وزينت وأجلست على سرير في مضربه الذي كان نازلًا فيه، وسلمت الجاريه والمضرب بما فيه من الآنية والمتاع إلى رسول نقفور، وبعث إليه بما سأل من العطر، وبعث إليه من التمور والأ خبصة والزبيب والترياق، فسلم ذلك كله إليه رسول الرشيد، فأعطاه نقفور وقر دارهم إسلامية على برذون كميت كان مبلغهخمسين ألف درهم، ومائة ثوب ديباج ومائتي ثوب بزيون، واثنى عشر بازيًا، وأربعة أكلب من كلاب الصيد، وثلاثة براذين. وكان نفور اشترط ألا يخرب ذا الكلاع ولا صمله ولا حصن سنان، واشترط عليه ألا يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلثمائة ألف دينار. وخرج في هذه السنة خارجي من عبد القيس يقال له سيف بن بكر، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد بن مز، فقتله بعين النورة. ونقض أهل قبس العهد، فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها. وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي. ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من خروج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايا؛ فكان يتنقل بالسواد، فوجه إليه طوق بن مالك فهزمه طوق وجرحه، وقتل عامة أصحابه، وظن طوق أنه قد قتل ثروان، فكتب بالفتح، وهرب ثروان مجروحًا. وفيها خرج أبو النداء بالشام فوجه الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام. وفيها وقع الثلج بمدينة السلام. وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني. وفيها غلظ أمر رافع بن ليث بسمرقند. وفيها كتب أهل نسف إلى رافع يعطونه الطاعة، ويسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي، فوجه صاحب الشاش في إتراكه قائدًا من قواده، فأتوا عيسى بن علي، فأحدقوا به وقتلوه في ذي القعدة، ولم يعرضوا لأصحابه. وفيها ولى الرشيد حمويه الخادم بريد خراسان. وفيها غزا يزيد ن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه على مرحلتين من طرطوس في خمسين رجلا، وسلم الباقون. وفيها ولى الرشيد غزو الصائفة هرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفًا من جند خراسان، ومعه مسرور الخادم؛ إليه النفقات وجميع الأمور، خلا الرياسة. ومضى الرشيد إلى درب الحدث، فرتب هنالك عبد الله بن مالك، ورتب سعيد بن سلم بن قتيبة بمرعش، فأغارت الروم عليها، وأصابوا من المسلمين وانصرفوا وسعيد بن سلم مقيم بها، وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرطوس، فأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من شهر رمضان، ثم انصرف إلى الرقة. وفيها أمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم. وفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاها هرثمة. ذكر الخبر عن سبب عزل الرشيد علي بن عيسى وسخطه عليه قال أبو جعفر: قد ذكر قبل سبب هلاك ابن علي بن عيسى وكيف قتل. ولما ابنه عيسى خرج علي عن بلخ حتى أتى مرو مخافة أن يسير إليها رافع بن الليث، فيستولي عليها. وكان ابنه عيسى دفن في بستان داره ببلخ أموالًا عظيمة - قيل إنها كانت ثلاثين ألف ألف - ولم يعلم بها علي بن عيسى ولا اطلع على ذلك إلا جارية كانت له، فلما شخص علي عن بلخ أطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، فاجتمع قراء أهل بلخ ووجوهها، فدخلوا البستان فانتهبوه وأباحوه للعامة، فبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج علي عن بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال؛ وهو يزعم أنه قد أفضى إلى حلي نسائه فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله عند ذلك، وولى هرثمة بن أعين، واستصفى أموال علي بن عيسى، فبلغت أمواله ثمانين ألف ألف. وذكر عن بعض الموالي أنه قال: كنا بجرجان مع الرشيد وهو يريد خراسان، فوردت خزائن علي بن عيسى التي أخذت له على ألف وخمسمائة بعير، وكان علي مع ذلك قد أذل الأعالي من أهل خراسان وأشرافهم. وذكر أنه دخل عليه يومًا هشام بن فرخسرو والحسين بن مصعب، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد يا بن الملحد! والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوتك للإسلام وطعنك في الدين، وما أنتظر بقتلك إلا إذن الخليفة فيه، فقد أباح الله دمك، وأرجو أن يسفكه الله على يدي عن قريب، ويعجلك إلى عذابه. ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد ما ثملت من الخمر، وزعمت أنه جاءتك كتب من مدينة السلام بعزلي! اخرج إلى سخط الله، لعنك الله، فعن قريب ما تكون من أهلها! فقال له الحسين: أعيذ بالله الأمير أن يقبل قول واشٍ، أو سعاية باغٍ، فإني بريء مما قرفت به. قال: كذبت لا أم لك! قد صح عندي أنك ثملت من الخمر، وقلت ما وجب عليك به أغلظ الأدب؛ ولعل الله أن يعاجلك ببأسه ونقمته؛ اخرج عني غير مستور ولا مصاحب. فجاء الحاجب فأخذ بيده فأخرجه، وقال لهشام بن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة؛ يجتمع فيها إليك السفهاء، وتطعن على الولاة! سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فقال هشام: جعلت فداء الأمير! أنا والله مظلوم مرحوم؛ والله ما أدع في تقريظ الأمير جهدًا، وفي وصفه قولًا إلا خصصته به وقلته فيه؛ فإن كنت إذا قلت خيرًا نقل إليك شرًا فما حيلتي! قال: كذبت لا أم لك؛ لأنا أعلم بما تنطوي عليه جوانحك من ولدك وأهلك، فاخرج فعن قريب أريح منك نفسي. فلما كان في آخر الليل دعا ابنته عالية - وكانت من أكبر ولده - فقال لها: أي بنية، إني أريد أن أفضي إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت؛ وإن حفظته سلمت، فاختاري بقاء أبيك على موته، قالت: وما ذاك جعلت فداك! قال: إني أخاف هذا الفاجر علي بن عيسى على دمي، وقد عزمت على أن أظهر أن الفالج أصابني، فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك، وتعالي إلى فراشي وحركيني؛ فإذا رأيت حركتي قد ثقلت، فصيحي أنت وجواريك، وابعثي إلى إخوتك فأعلميهم علتي. وإياك ثم إياك أن تطلعي على صحة بدني أحدًا من خلق الله من قريب أو بعيد. ففعلت - وكانت عاقلة حازمة - فأقام مطروحًا على فراشه حينًا لا يتحرك إلا إن حرك، فيقال إنه لم يعلم من أهل خراسان أحد من عزل علي بن عيسى بخبر ولا أثر غير هشام؛ فإنه توهم عزله، فصح توهمه. ويقال: إنه خرج في اليوم الذي قدم فيه هرثمة لتلقيه. فرآه في الطريق رجل من قواد علي بن عيسى، فقال: صح الجسم؟ فقال: ما زال صحيحًا بحمد الله! وقال بعضهم: بل رآه علي بن عيسى، فقال: أين بك؟ فقال: أتلقى أميرنا أبا حاتم، قال: ألم تكن عليلًا؟ قال: بلى؛ فوهب الله العافية؛ وعزل الله الطاغية في ليلة واحدة. وأما الحسين بن مصعب فإنه خرج إلى مكة مستجيرًا بالرشيد من علي بن عيسى، فأجاره. ولما عزم الرشيد على عزل علي بن عيسى دعا - فيما بلغني - هرثمة بن أعين مستخليًا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدًا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطرب علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى؛ إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره؛ وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه، فأخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابًا بخطي فلا تفضنه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور؛ فإذا نزلتها فاعمل بما فيه، وامتثله ولا تجاوزه، إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي؛ ليتعرف ما يكون منك ومنه؛ وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددًا لعلي بن عيسى وعونًا له. قال: ثم كتب إلى علي بن عيسى بن ماهان كتابًا بخطه نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم ". يا بن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك؛ فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري؛ حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته؛ بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشد وطأته عليك وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهمًا، ولا حقًا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به؛ حتى ترده إلى أهله؛ فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم، انتقامًا لله عز وجل بادئًا، ولخليفته ثانيًا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثًا؛ فلا تعرض نفسك للتي لا شوى لها، واخرج مما يلزمك طائعًا أو مكرهًا. وكتب عهد هرثمة بخطه: هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه؛ أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إمامًا في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه؛ ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين؛ فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم؛ فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين؛ فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته؛ حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم، وبطلت أرواحهم؛ فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطاء وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس، مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين، إن شاء الله. فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك، وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحشون معه إلى أمرٍ يريبهم وظن يرعبهم. وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته، ومن ولاك الله أمره إن شاء الله. هذا عهدي وكتابي بخطي، وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سمواته وكفى بالله شهيدًا. وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته. ثم أمر أن يكتب كتاب هرثمة إلى علي بن عيسى في معاونته وتقوية أمره والشد على يده؛ فكتب وظهر الأمر بها؛ وكانت كتب حمويه وردت على هارون: إن رافعًا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وإنما غايتهم علي بن عيسى الذي قد سامهم المكروه. خبر شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها ومن ذلك ما كان من شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليًا عليها. ذكر الخبر عما كان من أمره في شخوصه إليها وأمر علي بن عيسى وولده ذكر أن هرثمة مضى في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له عهده الرشيد وشيعه الرشيد، وأوصاه بما يحتاج إليه، فلم يعرج هرثمة على شيء، ووجه إلى علي بن عيسى في الظاهر أموالًا وسلاحًا، وخلعًا وطيبًا؛ حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من ثقات أصحابه وأولى الين والتجربة منهم؛ فدعا كل رجل منهم سرًا، وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره، ويطووا سره، وولى كل رجل منهم كورة، على نحو ما كانت حاله عنده؛ فولى جرجان ونيسابور والطبسين ونسا وسرخس، وأمر كل واحد منهم، بعد أن دفع إليه عهده بالمسير إلى عمله الذي ولاه على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهمإلى الوقت الذي سماه لهم، وولى إسماعيل بن حفص بن مصعب جرجان بأمر الرشيد، ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه، وكتب لهم أسماء ولد علي بن عيسى وأهل بيته وكتابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكله بحفظه إذا هو دخل مرو، خوفًا من أن يهربوا إذا أظهر أمره. ثم وجه إلى علي بن عيسى: إن أحب الأمير أكرمه الله أن يوجه ثقاته لقبض ما معي من أموال فعل؛ فإنه إذا تقدم المال أمامي كان أقوى للأمير، وأفت في عضد أعدائه. وأيضًا فإني لا آمن عليه إن خلفته وراء ظهري؛ أن يطمع فيه بعض من تسمو إليه نفسه إلى أن يقتطع بعضه، ويفترض غفلتنا عند دخول المدينة. فوجه علي بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال، وقال هرثمة لخزانه: اشغلوهم هذه الليلة، واعتلوا عليهم في حمل المال بعلة تقرب من أطماعهم، وتزيل الشك عن قلوبهم، ففعلوا. وقال لهم الخزان: حتى تؤامروا أبا حاتم في دواب المال والبغال. ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلما صار منها على ميلين تلقاه علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده بأحسن لقاء وآنسه؛ فلما وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابته فصاح به علي: والله لئن نزلت لأنزلن، فثبت على سرجه، ودنا كل منهما من صاحبه فاعتنقا، وسارا، وعلي يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيئته وحال خاصته وقواده وأنصار دولته؛ وهرثمة يجيبه؛ حتى صار إلى قنطرة لا يجوزها إلا فارس، فحبس هرثمة لجام دابته، وقال لعلي: سر على بركة الله، فقال علي: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذًا والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير؛ فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصارا إلى منزل علي، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس؛ فدعا علي بالغداء فطعما، وأكل معهما رجاء الخادم، وكان عازمًا على ألا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كل فأنت جائع، ولا رأي لجائع ولا حاقن؛ فلما رفع الطعام قال له علي: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على الماشان؛ فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. فقال له هرثمة: إن معي من الأمور ما لا يتحمل تأخير المناظرة فيها؛ ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى علي، وأبلغه رسالته. فلما فض الكتاب فنظر إلى أول حرف منه سقط في يده، وعلم أن حل به ما يخافه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقيه وتقييد ولده وكتابه وعماله وكان رحل ومعه وقر من قيود وأغلال - فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر المؤمنين ولاه ثغورهم لما انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق علي بن عيسى، وما أمره به وفي عماله وأعوانهن وأنه بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحق. وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعلء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء. ثم انصرف، فدعا لعلي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، فقال: اكفوني مئونتكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم. ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمة من رجل كانت لعلي عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو أعماله وأخفاها ولم يظهر عليها؛ فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلا رجلًا من أهل مرو - وكان من أبناء المجوس - فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى علي بن عيسى حتى صار إليه، فقال له سرًا: لك عندي مال، فإن احتجت إليه حملته إليك أولًا فأولًا، وصبرت للقتل فيك؛ إيثارًا للوفاء وطلبًا لجميل الثناء، وإن استغنيت عنه حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. فعجب علي منه، وقال: لو اصطنعت مثلك ألف رجل ما طمع في في السلطان ولا الشيطان أبدًا. ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالًا وثيابًا ومسكًا، وأنه لا يدري ما قدر ذلك؛ غير أنه أودعه بخطه، وأنه محفوظ لم يشذ منه شيء، فقال له: دعه فإن ظهر عليه سلمته ونجوت بنفسك، وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. وجزاه الخير، وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبره. وكان يضرب به المثل بوفائه؛ فذكر أنه لم يتستر عن هرثمة من مال علي إلا ما كان أودعه هذا الرجل - وكان يقال له: العلاء بن ماهان - فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حلي نسائهم؛ فكان الرجل يدخل إلى المنزل فيأخذ جميع ما فيه؛ حتى إذا لم يبق فيه إلا صوف أو خشب أو ما لا قيمة له قال للمرأة: هاتي ما عليك من الحلي، فتقول للرجل إذا دنا منها لينزع ما عليها: يا هذا، إن كنت محسنًا فاصرف بصرك عني، فوالله لا تركت شيئًا من بغيتك علي إلا دفعته إليك؛ فإن كان الرجل يتحوب من الدنو إليها أجابها إلى ذلك حتى ربما نبذت إليه بالخاتم والخلخال وما قيمته عشرة دراهم، ومن كان بخلاف هذه الصفة، قال: لا أرضى حتى أفتشك؛ لا تكونين قد خبأت ذهبًا أو درًا أو ياقوتًا؛ فيضرب يده إلى مغابنها وأرفاغها؛ فيطلب فيها ما يظن أنها قد سترته عنه؛ حتى إذا ظن أنه قد أحكم هذا كله وجهه على بعير بلا وطاء تحته، وفي عنقه سلسلة، وفي رجله قيود ثقال ما يقدر معها على نهوض واعتماد. فذكر عمن شهد أمر هرثمة وأمره؛ أن هرثمة لما فرغ من مطالبة علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله بأموال أمير المؤمنين، أقامهم لمظالم الناس، فكان إذا برد للرجل عليه أو على أحد من أصحابه حق، قال: اخرج للرجل من حقه، وإلا بسطت عليك، فيقول علي: أصلح الله الأمير! أجلني يومًا أو يومين، فيقول: ذلك إلى صاحب الحق، فإن شاء فعل. ثم يقبل على الرجل، فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال نعم، قال: فانصرف وعد إليه، فيبعث علي إلى العلاء بن ماهان، فيقول له: صالح فلانًا عني من كذا وكذا على كذا وكذا، أو على ما رأيت، فيصالحه ويصلح أمره. وذكر أنه قام إلى هرثمة رجل، فقال له: أصلح الله الأمير! إن هذا الفاجر أخذ مني درقة ثمينة لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم؛ فأتيت قهرمانة أطلب ثمنها، فلم يعطني شيئًا، فأقمت حولًا أنتظر ركوب هذا الفاجر؛ فلما ركب عرضت له وصحت به: أيها الأمير، أنا صاحب الدرقة، ولم آخذ لها ثمنًا إلى هذه الغاية، فقذف أمي ولم يعطني حقي، فخذ لي بحقي من مالي وقذفه أمي، فقال: لك بينة؟ قال: نعم، جماعة حضروا كلامه؛ فأحضرهم فأشهدهم على دعواه، فقال هرثمة: وجب عليك الحد، قال: ولم؟ قال: لقذفك أم هذا، قال: من فقهك وعلمك هذا؟ قال: هذا دين المسلمين، قال: فأشهد أن أمير المؤمنين قد قذفك غير مرة ولا مرتين؛ وأشهد أنك قد قذفت بنيك ما لا أحصي، مرة حاتمًا ومرة أعين؛ فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك؟ ومن يأخذ لك من مولاك! فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة، فقال: أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك ومطالبته بقذفه أمك. كتاب هرثمة إلى الرشيد في أمر علي بن عيسى ولما حمل هرثمة عليًا إلى الرشيد، كتب إليه كتابًا يخبره ما صنع؛ نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه في أقصى غاية الهمة، امتنانًا منه عليه، وحفظًا لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه وأهل حقه وطاعته؛ فسيتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفية في كل ما يؤدينا إليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه. ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلًا ما أمرني به فيما أنهضني له؛ لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله؛ إلى أن حللت أوائل خراسان؛ صائنًا للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره؛ لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها؛ كجرجان ونيسابور ونسا وسرخس، ولم آل الأحتياط في ذلك، واختيار الكفاءة وأهل الأمانة والصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، وأمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم؛ وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بن حفص بن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وإحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه. ولما صرتمن مدينة مرو على منزل، اخترت عدةً من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعًا، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنسًا وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك؛ مما كان يأتيه من كتبي؛ فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لإلقاء سوء الظن عنه؛ لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك. وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي؛ فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها. ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أنه قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه؛ من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته. ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيرة علي، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه؛ وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ بحقوقهم أقصى غايتهم. وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي؛ وأني به أقتدي وعليه أحتذي؛ فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف رأي أمير المؤمنين وأمره؛ فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء. ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعًا، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدلم عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم. فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدرًا صالحًا من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي تعنى بها إن شاء الله تعالى. ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة؛ ومهما تنصرف به رسلي إلى أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، وأعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه. وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته؛ ما لم تزل عادته جاريةً به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام. الجواب من الرشيد بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في يدك من عماله واحتذائك في ذلك كله ما كلن أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيرًا وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يدك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه. وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جدًا واجتهادًا فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت إليه، ومن أيدي أصحاب الودائع التي استودعوها إياهم؛ واستعمال اللين والشدة في ذلك كله؛ حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم؛ ولا تبقي من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم؛ حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الإحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم؛ وما الله بظلام للعبيد. ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافًا وامتناعًا من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم؛ فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة لهم؛ إذ كانوا رعيته؛ وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعتهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم - وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها؛ فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم؛ وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك فيإن آثروه، وعنودٍ إن أظهروه. وكفى بالله شهيدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب. والسلام. وكتب إسماعيل بن صبيح بين يدي أمير المؤمنين. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة. ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين. ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي ثابت بن ناصر بن مالك. ذكر الخبر عن مسير الرشيد إلى خراسان وفيها وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع؛ وكان مصيره ببغداد يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين، لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر، من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، ثم سار من غد إلى النهروان، فعسكر هنالك، ورد حمادًا البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمدًا بمدينة السلام. وذكر عن ذي الرياستين أنه قال: قلت للمأمون لما أراد الرشيد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع: لست تدري ما يحدث بالرشيد وهو خارج إلى خراسان، وهي ولايتك، ومحمد المقدم عليك! وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك؛ وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب إليه أن يشخصك معه. فسأله الإذن فأبى عليه، فقلت له: قل له: أنت عليل؛ وإنما أردت أن أخدمك، ولست أكلفك شيئًا. فأذن له وسار. فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد حين خرج إلى خراسان، فمضى معه إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال له: يا صباح، لا أحسبك تراني أبدًا. قال: فقلت: بل يردك الله سالمًا؛ قد فتح الله عليك، وأراك في عدوك أملك. قال:؟ يا صباح، لا أحسبك تدري ما أجد! قلت: لا والله، قال: فتعال حتى أريك، قال: فانحرف عن الطريق قدر مائة ذراع، فاستظل بشجرة، فأومأ إلى خدمه الخاصة فتنحوا، ثم قال: أمانة الله يا صباح أن تكتم علي، فقلت: يا سيدي، عبدك الذليل تخاطبه مخاطبة الولد! قال: فكشف عن بطنه؛ فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم؛ ولكل واحد من ولدي علي رقيب؛ فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين - وسمى الثالث فذهب عني اسمه - وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي، ويعد أيامي ويستطيل عمري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو بدابة، فيجيئونني ببرذون أعجف قطوف، ليزيد في علتي، فقلت: يا سيدي ما عندي في الكلام جواب؛ ولا في ولاة العهود؛ غير أني أقول: جعل الله من يشنؤك من الجن والإنس والقريب والبعيد فداك؛ وقدمهم إلى تلك قبلك، ولا أرانا فيك مكروهًا أبدًا، وعمر بك الله الإسلام، ودعم ببقائك أركانه، وشد بك أرجاءه، وردك الله مظفرًا مفلحًا، على أفضل أملك في عدوك، وما رجوت من ربك. قال: أما أنت فقد تخلصت من الفريقين. قال: ثم دعا ببرذون، فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي فركبه، وقال انصرف غير مودع؛ فإن لك أشغالًا، فودعته وكان آخر العهد به. وفيها تحرك الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فارس، فأسر وسبى، ووافاه بقرماسين، فأمر بقتل الأسارى وبيع السبي. وفيها مات علي بن ظبيان القاضي بقصر اللصوص. وفيها قدم يحيى بن معاذ بأبي النداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله. وفيها فارق عجيف بن عنبسة والأحوص بن مهاجر في عدة من أبناء الشيعة رافع بن ليث، وصاروا إلى هرثمة. وفيها قدم بابن عائشة وبعدة من أهل أحواف مصر. وفيها ولى ثابت بن نصر بن مالك الثغور وغزا، فافتتح مطمورة. وفيها كان الفداء بالبدندون. وفيها تحرك ثروان الحروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة. وفيها قدم بعلي بن عيسى بغداد، فحبس في داره. وفيها مات عيسى بن جعفر بطرارستان - وقيل بالدسكرة - وهو يريد اللحاق بالرشيد. وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني. وحج بالناس في هذه السنة العباس بن عبيد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور. ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن وفاة الفضل بن يحيى فمن ذلك وفاة الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته - فيما ذكر - من ثقل أصابه في لسانه وشقه؛ وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره. ومكث يعالج أشهرًا، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر؛ وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم اخرج فصلى الناس على جنازته. وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري. ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس وفيها وافى هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان - فيما ذكر - في صفر، وهو عليل، إلى طوس؛ فلم يزل بها إلى أن توفي - واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بن مالك ويحيى ين معاذ وأسد بن يزيد بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي بن الحرشي ونعيم بن حازم؛ وعلى كتابته ووزارته أيوب بن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير. وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، وأسر أخا رافع بشير بن ليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس؛ فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قال: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع. قال: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك - أو قال أكثر - وفي يده مرآة ينظر فيها إلى وجهه. قال: فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ونظر إلى أخي رافع، فقال: أما والله يابن اللخناء؛ إني لأرجو ألا يفوتني خامل - يريد رافعًا - كما لم تفتني. فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حربًا، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلمًا؛ ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذًا علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل؛ لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه. ففصله حتى جعله أشلاء. فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضوًا، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه. ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره. ذكر الخبر عن موت هارون الرشيد وفيها مات هارون الرشيد. ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيه ذكر عن جبريل بن بختيشوع أنه قال: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته؛ فإن كان أنكر شيئًا وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها؛ فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسًا مفكرًا مهمومًا، فوقفت بين يديه مليًا من النهار، وهو على تلك الحال؛ فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، أعلة فأخبرني بها؛ فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لا درك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك منذلك؛ وأنا أولى من أفضيت إليه بالخبر، وتروحت إليه بالمشورة. فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، وأقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين؛ فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا إنما تكون من مخاطر أو بخارات رديئة أو من تهاويل السوداء؛ وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله. قال: فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا؛ إذ من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكهف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتهت. فقلت: يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتفاض بعضها. قال: قد كان ذاك، قال: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سرورًا، يخرجه من قلبك لا يولد علة. قال: فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه. ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بن عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملًا يقوم ويسقط؛ فاجتمعنا إليه؛ كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسرًا عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئًا؛ وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بها والله بعد ثلاثة ودفن في ذلك البستان. وذكر بعضهم أن جبريل بن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته؛ فكان الرشبد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية. فمات في ذلك اليوم. وذكر الحسن بن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه - وكان جمالًا معه مائة جمل، قال: هو حمل الرشيد إلى طوس - قال: قال الرشيد احفروا لي قبرًا قبل أن أموت، فحفروا له، قال: فحملته في قبة أقود به؛ حتى نظر إليه. قال، فقال: يابن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع الدار التي كان فيها نازلًا، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قومًا فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر. وذكر محمد بن زياد بن محمد بن حاتم بن عبد الله بن أبي بكرة، أن سهل بن صاعد حدثه، قال: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي ما يقاسي؛ فنهضت فقال لي: اقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت يا أمير المؤمنين ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني؛ فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك، ثم قال: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر: وإني من قوم كرام يزيدهم ** شماسًا وصبرًا شدة الحدثان وذكر عن مسرور الكبير، قال: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في أثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئًا، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه. وتوفي - فيما ذكر - في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم، نصف الليل؛ ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد. وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا. أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقال هشام بن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بن محمد ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا وستة عشر يومًا. وقيل: كان سنه يوم توفي سبعًا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وكان جميلًا وسيمًا أبيض جعدًا، وقد وخطه الشيب. ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد ولاة المدينة: إسحاق بن عيسى بن علي، عبد الملك بن صالح بن علي، محمد بن عبد الله، موسى بن عيسى بن موسى، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، علي بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبد الله بن مصعب الزبيري، بكار بن عبد الله بن مصعب، أبو البختري وهب بن وهب. ولاة مكة: العباس بن محمد بن إبراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بن عيسى بن موسى، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، عبد الله بن قثم بن العباس؛ محمد بن إبراهيم، عبيد الله بن قثم، عبد الله بن محمد بن عمران، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، العباس بن موسى بن عيسى، علي بن موسى بن عيسى، محمد بن عبد الله العثماني، حماد البربري، سليمان بن جعفر بن سليمان، أحمد بن إسماعيل بن علي، الفضل بن العباس بن محمد. ولاة الكوفة: موسى بن عيسى، يعقوب بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، إسحاق بن الصباح الكندي، جعفر بن جعفر بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، موسى بن عيسى بن موسى. ولاة البصرة: محمد بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، خزيمة بن خازم، عيسى بن جعفر، جرير بن يزيد؛ جعفر بن سليمان، جعفر بن أبي جعفر، عبد الصمد بن علي، مالك بن علي الخزاعي، إسحاق بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر، الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين؛ إسحاق بن عيسى بن علي. ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بن محمد بن الأشعث، العباس بن جعفر، الغطريف بن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزة ابن مالك، الفضل بن يحيى، منصور بن يزيد بن منصور، جعفر بن يحيى خليفته بها، علي بن الحسن بن قحطبة، علي بن عيسى بن ماهان، هرثمة بن أعين. ذكر بعض سير الرشيد ذكر العباس بن محمد عن أبيه، عن العباس، قال: كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا؛ إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال؛ فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده. وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه. وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شيء لانتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب؛ ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي. وذكر ابن أبي حفصة أن مروان بن أبي حفصة دخل عليه في سنة إحدى وثمانين ومائة يوم الأحد لثلاث خلون من شهر رمضان، فأنشده شعره الذي يقول فيه: وسدت بهارون الثغور فأحكمت ** به من أمور المسلمين المرائر وما انفك معقودًا بنصر لواؤه ** له عسكر عنه تشظى العساكر وكل ملوك الروم أعطاه جزية ** على الرغم قسرًا عن يد وهو صاغر لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ** كأن لم يدمنه من الناس حاضر أناخ على الصفصاف حتى استباحه ** فكابره فيها ألج مكابر إلى وجهه تسمو العيون وما سمت ** إلى مثل هارون العيون النواظر ترى حوله الأملاك من آل هاشم ** كما حفت البدر النجوم الزواهر يسوق يديه من قريش كرامها ** وكلتاهما بحر على الناس زاخر إذا فقد الناس الغمام تتابعت ** عليهم بكفيك الغيوم المواطر على ثقة ألقت إليك أمورها ** قريش، كما ألقى عصاه المسافر أمور بميراث النبي وليتها ** فأنت لها بالحزم طاوٍ وناشر إليكم تناهت فاستقرت وإنما ** إلى أهله صارت بهن المصاير خلفت لنا المهدي في العدل والندى ** فلا العرف منزور ولا الحكم جائر وأبناء عباس نجوم مضيئة ** إذا غاب نجم لاح آخر زاهر علي بني ساقي الحجيج تتابعت ** أوائل من معروفكم وأواخر فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغًا ** مدى شكر نعماكم وإني لشاكر وما الناس إلا وارد لحياضكم ** وذو نهل بالري عنهن صادر حصون بني العباس في كل مأزق ** صدور العوالي والسيوف البواتر فطورًا يهزون القواطع والقنا ** وطورًا بأيديهم تهز المخاصر بأيدي عظام النفع والضر لا تني ** بهم للعطايا والمنايا بوادر ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ** أسرته مختالةً والمنابر أبوك ولي المصطفى دون هاشمٍ ** وإن رغمت من حاسديك المناخر فأعطاه خمسة آلاف دينار، فقبضها بين يديه وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه. وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدني، وكان مضاحكًا له محادثًا فكيهًا، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته؛ وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلًا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه؛ فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائمًا، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك! قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائمًا، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب، فقال: يابن أبي مريم، في الصلاة أيضًا! قال: يا هذا وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي، قال: والله ما فعلت؛ إنما سمعت منك كلامًا غمني حين قلت: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما. وذكر بعض خدم الرشيد أن العباس بن محمد أهدى غاليةً إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مسكها فمن سرر الكلاب التبتية العتيقة، وأما عنبرها فمن عنبر بحر عدن، وأما بانها فمن فلان المدني المعروف بجودة عمله، وأما مركبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يمن علي بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقان، أدخل هذه الغالية؛ فأدخلها خاقان، فإذا هي في برنية عظيمة من فضة، وفيها ملعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هبها لي، قال: خذها إليك. فاغتاظ العباس، وطار أسفًا، وقال: ويلك! عمدت إلى شيء منعته نفسي، وآثرت به سيدي فأخذته! فقال: أمه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قال: فضحك الرشيد ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البرنية، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سود بها وجهه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه وقال لخاقان: أدخل إلي غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادع غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حرك إلى أن انصرف فأنيكك. فأخذها الغلام ومضى، والرشيد يضحك، فذهب به الضحك. ثم أقبل على العباس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أن كل شيء تمطر السماء وكل شيء تخرج الأرض له، وكل شيء هو في الدنيا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجب من هذا أنه قيل لملك الموت: انظر كل شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تمدح عنده الغالية، ويخطب في ذكرها، كأنه بقال أو عطار أو تمار! قال: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نفسه، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم. وذكر عن زيد بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أراد الرشيد أن يشرب الدواء يومًا، فقال له ابن أبي مريم: هل لك أن تجعلني حاجبك غدًا عند أخذك الدواء؛ وكل شيء أكسبه فهو بيني وبينك؟ قال: أفعل، فبعث إلى الحاجب: الزم غدًا منزلك؛ فإني قد وليت ابن أبي مريم الحجابة. وبكر ابن أبي مريم، فوضع له الكرسي، وأخذ الرشيد دواءه، وبلغ الخبر بطانته، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرف حاله وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلم السيدة ما فعلت في الإذن لك قبل الناس؛ فأعلمها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فرده ولم يأذن له، وجاءت رسل القواد والعظماء؛ فما أحد سهل إذنه إلا بعث إليه بصلة جزيلة؛ فما صار العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما خرج الرشيد من العلة، ونقي بدنه من الدواء دعاه، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قال: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فاستكثرها وقال: وأين حاصلي؟ قال: معزول، قال: قد سوغناك حاصلنا؛ فأهد إلينا عشرة آلاف تفاحة، ففعل، فكان أربح من تاجره الرشيد. وذكر عن إسماعيل بن صبيح، قال: دخلت على الرشيد، فإذا جارية على رأسه، وفي يدها صحيفة وملعقة في يدها الأخرى، وهي نلعقه أولًا فأولًا، قال: فنظرت إلى شيء أبيض رقيق فلم أدر ما هو! قال: وعلم أني أحب أن أعرفه، فقال: يا إسماعيل بن صبيح، قلت: لبيك يا سيدي، قال: تدري ما هذا؟ قلت: لا، قال: هذا حشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد؛ وهو نافع لأطراف المعوجة وتشنيج الأعصاب ويصفى البشرة، ويذهب بالكلف، ويسمن البدن، ويجلو الأوساخ. قال: فلم تكن لي همة حين انصرفت إلا أن دعوت الطباخ؛ فقلت: بكر على كل غداة بالحشيش، قال: وما هو؟ فوصفت له الصفة التي سمعتها. قال: تضجر من هذا في اليوم الثالث، فعماه في اليوم الأول فاستطبته، وعمله في اليوم الثاني فصار دونه، وجاء به في اليوم الثالث، فقلت: لا تقدمه. وذكرت أن الرشيد اعتل علة، فعالجه الأطباء، فلم يجد من علته إفاقة، فقال له أبو العجمي: بالهند طبيب يقال له منكة؛ رأيتهم يقدمونه على كل من بالهند؛ وهو أحد عبادهم وفلاسفتهم، فلو بعث إليه أمير المؤمنين لعل الله أن يبعث له الشفاء على يده! قال: فوجه الرشيد من حمله، ووجه إليه بصلة تعينه على سفره. قال: فقدم فعالج الرشيد فبرىء من علته بعلاجه، فأجرى له رزقًا واسعًا وأموالًا كافية، فبينما منكه مارًا بالخلد؛ إذا هو برجلمن المانيين قد بسط كساءه، وألقي عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء عنده معجونًا، فقال في صفته: هذا دواء للحمى الدائمة وحمى الغب وحمى الربع، والمثلثة؛ ولوجع الظهر والركبتين والبواسير والرياح، ولوجع المفاصل ووجع العينين، ولوجع البطن والصداع والشقيقة ولتقطير البول والفالج والارتعاش؛ فلم يدع علة في البدن إلا ذكر أن الدواء شفاء منها، فقال منكه لترجمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسم منكه، وقال: على كل حال ملك العرب جاهل؛ وذاك أنه كان الأمر على ما قال هذا، فلم حملني من بلادي، وقطعني عن أهلي، وتكلف الغيظ من مؤنتي، وهو يجد هذا نصب عينيه وبإزائه! وإن كان الأمر ليس كما يقول هذا فلم لا يقتله! فإن الشريعة قد أباحت دمه ودم من أشبهه؛ لأنه إن قتل، فإنما هي نفس يحيا بقتلها خلق كثير؛ وإن ترك هذا الجاهل قتل في كل يوم نفسًا، وبالحري أن يقتل اثنين وثلاثًا وأربعًا ففي كل يوم؛ وهذا فساد في التدبير، ووهن في المملكة. وذكر أن يحيى بن خالد بن برمك ولى رجلأ بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد يودعه؛ وعنده يحيى وجعفر بن يحي، فقال الرشيد ليحي وجعفر: أوصياه، فقال له يحي: وفر واعمر، وقال له جعفر: أنصف وانتصف، فقال الرشيد: اعدل وأحسن. وذكر عن الرشيد أنه غضب على يزيد بن مزيد الشيباني، ثم رضي عنه، وأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ الحمد لله الذي سهل لنا سبيل الكرامة، وحل لنا النعمة بوجه لقائك، وكشف عنا صبابة الكرب بإفضالك، فجزاك الله في حال سخطك رضا المنيبين، وفي حال جزاء المنعمين الممتنين المتطولين؛ فقد جعلك الله وله الحمد، تتثبت تحرجًا عند الغضب، وتتطول ممتنًا بالنعم، وتعفو عن المسيء تفضلًا بالعفو. وذكر مصعب بن عبد الله بن مصعب أخبره أن الرشيد قال له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس؛ وكان معه ناس؛ فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه؛ فهم أنواع الشيع، وأهل البدع، وأنواع الخوارج؛ وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة إلى اليوم. فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا اليوم عن هذا. قال مصعب: وقال أبي - وسألني عن منزلة أبي بكر وعمر كانت من رسول الله ﷺ؛ فقلت له: كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته، فقال: كيفتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، كفيتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، فأمر الرشيد بتقديمه والإحسان إليه، وضم ما أحب أن يضم إليه من ضياع الجزيرة ومصر. قال: فقدم فدخل عليه وهو يأكل سفرجلًا قد أتى به من بلخ؛ وهو يقشره ويأكل منه، فقال له: يا فلان، ما أحسن ما انتهى إلى مولاك عنك، ولك عنده ما تحب، وقد أمرت لك بكذا وكذا، ووليتك كذا وكذا، فسل حاجتك، قال: فتكلم وذكر حسن سيرته، وقال: أنسيتم والله يا أمير المؤمنين سيرة العمرين. قال: فغضب واستشاط، وأخذ سفرجلة فرماه بها، وقال: يابن اللخناء، العمرين، العمرين، العمرين! هبنا احتملناها لعمر بن عبد العزيز، نحتملها لعمر ابن الخطاب! وذكر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز حدثه، عن الضحاك بن عبد الله، وأثنى عليه خيرًا؛ قال: أخبرني بعض ولد عبد الله بن عبد العزيز، قال: قال الرشيد: والله ما أدري ما آمر في هذا العمري! أكره أن أقدم عليه وله خلف أكرههم؛ وإني لأحب أن أعرف طريقه ومذهبه، وما أثق بأحد أبعثه إليه، فقال عمر بن بزيع والفضل بن الربيع: فنحن يا أمير المؤمنين، قال: فأنتما، فخرجا من العرج إلى موضع من البادية يقال له خلص، وأخذا معهما أدلاء من أهل العرج؛ حتى إذا وردا عليه في منزله أتياه مع الضحى؛ فإذا هو في المسجد، فأناخا راحلتيهما ومن كان من أصحابهما، ثم أتياه على زي الملوك من الريح والثياب والطيب؛ فجلسا إليه وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك؛ فإذا شئت فقم. فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن ولمن! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وأن لي ما طلعت عليه الشمس؛ فلما أيسا منه قالا: فإن معنا شيئًا تستعين به على دهرك، قال: لا حاجة لي فيه، أنا عنه غني، فقالا له: إنها عشرون ألف دينار، قال: لا حاجة لي فيها، قالا: فأعطها من شئت، قال: أنتما، فأعطياها من رأيتما، ما أنا بخادم ولا عون. قال: فلما يئسا منه ركبا راحلتيهما حتى أصبحا مع الخليفة بالسقيا في المنزل الثاني، فوجدا الخليفة ينتظرهما؛ فلما دخلا عليه حدثاه بما كان بينهما وبينه، فقال: ما أبالي ما أصنع بعد هذا. فحج عبد الله في تلك السنة، فبينا هو واقف على بعض أولئك الياعة يشتري لصبيانه؛ إذا هارون يسعى بين الصفا والمروة على دابة، إذ عرض له عبد الله وترك ما يريد، فأتاه حتى أخذ بلجام دابته، فأهوت إليه الأجناد والأحراس، فكفهم عنه هارون فكلمه. قال: فرأيت دموع هارون؛ وإنها لتسيل على معرفة دابته، ثم انصرف. وذكر محمد بن أحمد مولى بني سليم قال: حدثني الليث بن عبد العزيز الجوزجاني - وكان مجاورًا بمكة أربعين سنة - أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقال على أصابعه، وقال: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردًا حاضرًا، وجوابًا عتيدًا، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة؛ ورحمتك الواسعة. صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا. يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات؛ إن حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي. اللهم لك الحمد حمدًا يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صل على محمد صلاة تكون له رضًا، وصل على محمد صلاة تكون له حرزًا، واجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى. اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين! وذكر علي بن محمد عن عبد الله، قال: أخبرني القاسم بن يحيى، قال: بعث الرشيد إلى أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن علي الحير، فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد، وقال: ما لك؟ قال: بعث إلي هذا الرجل - يعني الرشيد - فأحضرني، ولست آمنة على نفسي، قال له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بن راشد وضعني في ذلك الموضع. فلما دخل عليه قال هذا القول، قال: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قال: فلما حضر قال: ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قال: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه كل شهر ثلاثين درهمًا فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى - وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بن منصور. وذكر علي بن محمد أن أباه حدثه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، وفي بيت مكشوف؛ وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج؛ وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه؛ لأنه كان يؤذيه؛ ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش؛ ولا يجلس فيه. وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفًا دون سقف؛ وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس؛ فاتخذ هو سقفًا يلي سقف البيت الذي يقيل فيه. وقال علي عن أبيه: خبرت أنه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاوية وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمدًا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقبله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب. وذكر علي بن حمزة أن عبد الله بن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قال: قال لي العباس بن الحسن: قال لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قال: قلت: بكلام أو بشعر؟ قال: بكلام وشعر، قال: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قال: فتبسم، فقلت له: يا وادي القصر نعم القصر والوادي ** من منزل حاضر إن شئت أو بادي ترى قراقيره والعيس واقفةً ** والضب والنون والملاح والحادي وذكر محمد بن هارون، عن أبيه، قال: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قال: أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدًا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما؛ جنة أو نار. قال: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحد شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قال: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا - يعني الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك. قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه. وأفحم الفضل بن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا. قال: ودخل ابن السماك على الرشيد يومًا؛ فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة ماء؛ فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قال ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين؛ بقرابتك من رسول الله ﷺ، لو منعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله؛ فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله ﷺ، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي؛ قال ابن السماك: إن ملكًا قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه. فبكى هارون؛ فأشار الفضل بن الربيع إلى السماك بالانصراف فانصرف. قال: ووعظ الرشيد عبد الله بن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف؛ بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم؛ يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم اخذ من الكيس دينارًا، وقال: كرهت أن اجمع سوء القول وسوء الفعل. وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: مالي ولابن عمتكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي؛ يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا؛ فكتب إلى موسى بن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلامًا كثيرًا، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين. فأخذ نعله، وقام وهو يقول: " فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير ". وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يومًا مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى انصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قال: ذاك أقل ما يجب لك، قال: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون، قال: " أنا ربكم الأعلى " وقال: " ما علمت لكم من إله غيري "، قال: صدقت؛ فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه، اصطنعه لنفسه، وأتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قال: صدقت؛ أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما: " فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى "، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه؛ وهذا وهو في عتوه وجبريته؛ على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدًا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه؛ فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه؛ فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيًا. قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين؛ وأنا أستغفرك؛ قال: قد غفر لك الله؛ وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح. فقال هرثمة - وخزره: أترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه؛ ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت؛ وضعها حيث أحببت. فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب. ذكر من كان عند الرشيد من النساء والمهائر قيل: إنه تزوج زبيدة؛ وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بن سليمان - التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله - فولدت له محمدًا الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين. وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له علي بن الرشيد. وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس؛ كانت أملكت من إبراهيم بن المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد. وتزوج العباسة ابنة سليمان بن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه. وتزوج عزيزة ابنة الغطريف؛ وكانت قبله عند سليمان بن أبي جعفر، فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران. وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية. ذكر ولد الرشيد وولد للرشيد من الرجال: محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلي وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها خبث ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد أبو أحد وأمه أم ولد يقال لها كتمان. ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي وأمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينة. بقية ذكر بعض سير الرشيد ذكر يعقوب بن إسحاق الأصفهاني، قال: قال المفضل بن محمد الضبي: وجه الرشيد؛ فما علمت إلا وقد جاءتني الرسل ليلًا، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه؛ وذلك في يوم خميس؛ وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه؛ فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كم إسمًا في: " فسيكفيكهم "؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله ﷺ، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل. قال: صدقت؛ هكذا أفادنا هذا الشيخ - يعني الكسائي - ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قال: نعم، قال: أعد علي المسألة كما قال المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال: يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال وما هي؟ قلت: قول الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع قال: هيهات أفادناها متقدمًا قبلك هذا الشيخ؛ لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قال: قلت: فأزيد في السؤال؟ قال: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قال: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر؛ فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر، واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قال الله عز وجل: " بعد المشرقين " وهو المشرق والمغرب. قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت إلى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قال: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب. قال: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قال: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر محمدًا ﷺ، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين. قال: فاشرأب أمير المؤمنين؛ وقال: يا فضل بن الربيع؛ احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال: أذن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول: قل للإمام المقتدي بأمه ** ما قاسم دون مدى ابن أمه فقد رضيناه فقم فسمه فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائمًا! قال: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قال: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده: ما تنقضي حسرة مني ولا جزع حتى بلغ: ما كان أحسن أيام الشباب وما ** أبقى حلاوة ذكراه التي تدع ما كنت أوفي شبابي كنه غرته ** حتى مضى فإذا الدنيا له تبع قال الرشيد: لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب. وذكر أن سعيد بن سلم الباهلي دخل على الرشيد، فسلم عليه، فأومأ إليه الرشيد فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، أعرابي من باهلة واقف على باب أمير المؤمنين؛ ما رأيت قط أشعر منه، قال: أما أنك استبحت هذين - يعني العماني ومنصور النمري، وكانا حاضريه - نهبي لهما أحجارك، قال: هما يا أمير المؤمنين يهباني لك؛ فيؤذن للأعرابي؟ فأذن له، فإذا أعرابي في جبة خز، ورداء يمان، قد شد وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على خديه، وأرخى لها عذبة، فمثل بين يدي أمير المؤمنين، وألقيت الكراسي، فجلس الكسائي والمفضل وابن سلم والفضل بن الربيع، فقال بن سلم للأعرابي: خذ في شرف أمير المؤمنين، فاندفع الأعرابي في شعره، فقال أمير المؤمنين،: أسمعك مستحسنًا، وأنكرك متهمًا عليك؛ فإن يكن هذا الشعر لك وأنت قلته من نفسك، فقل لنا في هذين بيتين - يعني محمدا والمأمون - وهما حفا فاه فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على القدر في غير الحذر روعة الخلافة، وبهر البديهة، ونفور القوافي عن الروية، فيمهلني أمير المؤمنين؛ يتألف إلي نافراتها، ويسكن روعي. قال: قد أمهلتك يا أعرابي، وجعلت اعتذارك بدلًا من امتحانك، فقال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق، وسهلت ميدان النفاق، ثم أنشأ يقول: هما طنباها بارك الله فيهما ** وأنت أمير المؤمنين عمودها بنيت بعبد الله بعد محمدٍ ** ذري قبة الإسلام فاهتز عودها فقال: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك؛ فسلنا، ولا تكن مسألتك دون إحسانك، قال: الهنيدة يا أمير المؤمنين، قال: فتبسم أمير المؤمنين، وأمر له بمائة ألف درهم وسبع خلع. وذكر أن الرشيد قال لابنه القاسم - وقد دخل عليه قبل أن يبايع له: أنت للمأمون ببعض لحمك هذا، قال: ببعض حظه. وقال للقاسم يومًا قبل البيعة له: قد أوصيت الأمين والمأمون بك، قال: أما أنت يا أمير المؤمنين فقد توليت النظر لهما، ووكلت النظر لي إلى غيرك. وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: قدم الرشيد مدينة الرسول ﷺ ومعه ابناه الأمين وعبد الله المأمون، فأعطى فيها العطايا وقسم في تلك السنة في رجالهم ونسائهم ثلاثة أعطية؛ فكانت الثلاثة الأعطية التي قسمها فيهم ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وفرض في تلك السنة لخمسمائة من وجوه موالي المدينة، ففرض لبعضهم في الشرف منهم يحيى بن مسكين وابن عثمان، ومخراق مولى بني تميم، وكان يقرئ القرآن بالمدينة. وقال إسحاق المولى: لما بايع الرشيد لولده، كان فيمن بايع عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، فلما قدم ليبايع، قال: لا قصرا عنها ولا بلغتهما ** حتى يطول على يديك طوالها فاستحسن الرشيد ما تمثل، وأجزل له صلته. قال: والشعر لطريح بن إسماعيل، قال في الوليد بن يزيد وفي ابنيه. وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد: غربت في الشرق شمس ** فلها عينان تدمع ما رأينا قط شمسًا ** غربت من حيث تطلع وقال أبو نواس الحسن بن هانئ: جرت جوارٍ بالسعد والنحس ** فنحن في مأتمٍ وفي عرس القلب يبكي والسن ضاحكة ** فنحن في وحشة وفي أنس يضحكنا القائم الأمين ويب ** كينا وفاة الإمام بالأمس بدران: بدر أضحى ببغداد بال ** خلد، وبدر بطوس في رمس وقيل: مات هارون الرشيد، وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف. خلافة الأمين وفي هذه السنة بويع لمحمد الأمين بن هارون بالخلافة في عسكر الرشيد، وعبد الله بن هارون المأمون يومئذ بمرو؛ وكان - فيما ذكر - قد كتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى أبي مسلم سلام، مولاه وخليفته ببغداد على البريد والأخبار، يعلمه وفاة الرشيد. فدخل على محمد فعزاه وهنأه بالخلافة، وكان أول الناس فعل ذلك، ثم قدم عليه رجاء الخادم يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، كان صالح بن الرشيد أرسله إليه بالخبر بذلك - وقيل: أتاه الخبر بذلك - ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة، فأظهره يوم الجمعة، وستره الخبر بقية يومه وليلته، وخاض الناس في أمره. ولما قدم كتاب صالح على محمد الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد - وكان نازلًا في قصره بالخلد - تحول إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلى بهم؛ فلما قضى صلاته صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم خيرًا، وبسط الآمال، وآمن الأسود والأبيض، وبايعه جلة أهل بيته وخاصته ومواليه وقواده، ثم دخل. ووكل ببيعته على من بقي منهم عم أبيه سليمان بن أبي جعفر، فبايعهم، وأمر السندي بمبايعته جميع الناس من القواد وسائر الجند، وأمر للجند ممن بمدينة السلام برزق أربعة وعشرين شهرًا، وبخواص من كانت له خاصة بهذه الشهور. ذكر الخبر عن بدء الخلاف بين الأمين والمأمون وفي هذه السنة كان بدء اختلاف الحال بين الأمين محمد وأخيه المأمون، وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهما العمل به، في الكتاب الذي ذكرنا أنه كان كتبه عليهما وبينهما. ذكر الخبر عن السبب الذي كان أوجب اختلاف حالهما فيما ذكرت قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل أن الرشيد جدد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القواد الذين معه، وأشهد من معه من القواد وسائر الناس وغيرهم أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون، وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون. فلما بلغ محمد بن هارون أن أباه قد اشتدت علته، وأنه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كل يوم، وأرسل بكر بن المعتمر، وكتب معه كتبًا، وجعلها في قوائم صناديق منقورة وألبسها جلود البقر، وقال: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على شيء من أمرك ولو قتلت حتى بموت أمير المؤمن؛ فإذا مات فادفع إلى كل رجل منهم كتابه. فلما قدم بكر بن المعتمر طوس، بلغ هارون قدومه، فدعا به، فسأله. ما أقدمك؟ قال: بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به، قال: فهل معك كتاب؟ قال: لا، فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا معه شيئًا، فهدده بالضرب فلم يقر بشيء، فأمر به فحبس وقيد. فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بن المعتمر فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، فصار إليه، فقرره فلم يقر بشيء، ثم غشي على هارون، فصاح النساء، فأمسك الفضل عن قتله، وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق هارون وهو ضعيف، قد شغل عن بكر وعن غيره لحس الموت، ثم غشي عليه غشيةً ظنوا أنها هي، وارتفعت الضجة، فبعث بكر بن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بن الربيع مع عبد الله بن أبي نعيم، يسأله ألا يعجلون بأمر، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إلى علمها - وكان بكر محبوسًا عند حسين الخادم - فلما توفي هارون في الوقت الذي توفي فيه، دعا الفضل بن الربيع ببكر من ساعته، فسأله عما عنده، فأنكر أن يكون عنده شيء، وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيًا، حتى صح عنده موت هارون، وأدخله عليه، فأخبره أن عنده كتبًا من أمير المؤمنين محمد، وأنه لا يجوز له إخراجها؛ وهو على حاله في قيوده وحبسه، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل، فأتاهم بالكتب التي عنده، وكانت في قوائم المطابخ المجلدة بجلود البقر، فدفع إلى كل إنسان منهم كتابه. وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بن هارون إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى عبد الله المأمون. فاحتبس كتاب المأمون عنده ليبعثه إلى المأمون بمرو، وأرسلوا إلى صالح بن الرشيد - وكان مع أبيه بطوس، وذلك أنه كان أكبر من يحضر هارون من ولده - فأتاهم في تلك الساعة، فسألهم عن أبيه هارون، فأعلموه، فجزع جزعًا شديدًا، ثم دفعوا إليه كتاب أخيه محمد الذي جاء به بكر. وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا أمره وغسله وتجهيزه، وصلى عليه ابنه صالح. وكانت نسخة كتاب محمد إلى أخيه عبد الله المأمون: إذا ورد عليك كتاب أخيك - أعاذه الله من فقدك - عند حلول ما لامرد له ولا مدفع مما قد أخلف وتناسخ في الأمم الخالية والقرون الماضية فعز نفسك بما عزاك الله به. واعلم أن الله جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، واجزل الحظين فقبضه الله طاهرًا زاكيًا، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه إن شاء الله. فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه ونفسه وسلطانه وعامة المسلمين. وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط الأجر، ويعقب الوزر. وصلوات الله على أمير المؤمنين حيًا وميتًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون! وخذ البيعة عمن قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم بن أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك ما قلدك الله من قبلك رأيي في صلاحهم وسد خلتهم والتوسعة عليهم؛ فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه مع خبره. وإياك وإقالته؛ فإن النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابًا حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطًا محمودًا قائدًا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله. ومرهم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به من أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على عدوهم. وأعلمهم أني متفقد حالاتهم ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا تني في تقوية أجنادي وأنصاري، ولتكن كتبك إليهم كتبًا عامة، لتقرأ عليهم؛ فإن في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم. واعمل بما تأمر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك؛ على حسب ما ترى وتشاهد؛ فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك؛ وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشتد بك عضده، ويجمع بك أمره؛ إنه لطيف لما يشاء. وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ثنتين وتسعين ومائة. وإلى أخيه صالح: بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقل: " كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون "، فاحمدوا الله ما صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقه وأنبيائه، صلوات الله عليهم، وإنا إليه راجعون. وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه محمد ﷺ، وقد كان لهم عصمةً وكهفًا، وبهم رءوفًا رحيمًا؛ فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك؛ فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق. وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بن أمير المؤمنين؛ على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين، صلوات الله عليه من فسخها على القاسم أو إثباتها، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضي على مناهجه. وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم؛ فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. واضمم إلى الميمون بن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله؛ ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بن مالك أمر العسكر وأحداثه؛ فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، واضمم إليه جميع جند الشرط من الروابط وغيرهم إلى من معه من جنده، ومره بالجد والتيقظ وتقديم الحزم في أمره كله، ليلة نهاره؛ فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة. وأقر حاتم بن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها بمعاقد من الله مما قدم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء. ومر الخدم بإحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك؛ فإنهم حد من حدودك، وصير مقدمتك إلى أسد بن يزيد بن مزيد، وساقتك إلى يحيى بن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما بمناوبتك في كل ليلة، والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل؛ فإن ذلك أرفق بك. ومر أسد بن يزيد بن مزيد أن يتخير رجلًا من أهل بيته أو قواده، فيصير إلى مقدمته ثم يصير أمامه لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق؛ فإن لم يحضرك في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته ونصيحته وهيبته عند العوام؛ فإن ذلك لن يعوزك من قوادك وأنصارك إن شاء الله. وإياك أن تنفذ رأيًا أو تبرم أمرًا إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك؛ ولا تخرجن أحدًا منهم من ضمن ما يلي إلى أن تقدم علي. وقد أوصيت بكر بن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وما ترى، وان أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق؛ فليكن الفضل بن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه؛ بمحضر من أصحاب الدواوين؛ فإن الفضل بن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور. وأنفذ إلي عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بن صبيح وبكر بن المعتمر على مركبيهما من البريد؛ ولا يكون لك عرجة ولا مهلة بموضعك الذي أنت فيه حتى توجه إلي بعسكرك بمافية من الأموال والخزائن إن شاء الله. أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته. وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة ثنتين وتسعين ومائة. وخرج رجاء الخادم بالخاتم والقضيب والبردة، وبنعي هارون حين دفن حتى قدم بغداد ليلة الخميس - وقيل الأربعاء - فكان من الخبر ما قد ذكر قبل. وقيل: إن نعي الرشيد لما ورد بغداد صعد إسحاق بن عيسى بن علي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أعظم الناس رزيئةً، وأحسن الناس بقية رزؤنا، فإنه لم يرزأ كرزئنا، فمن له مثل عوضنا! ثم نعاه إلى الناس، وحض الناس على الطاعة. وذكر الحسن بن الفضل بن سهل أخبره، قال: استقبل الرشيد وجوه أهل خراسان، وفيهم الحسين بن مصعب. قال: ولقيني فقال لي: الرشيد ميت أحد هذين اليومين، وأمر محمد بن الرشيد ضعيف، والأمر أمر صاحبك؛ مد يدك. فمد يده فبايع للمأمون بالخلافة. قال: ثم أتاني بعد أيام ومعه الخليل بن هشام، فقال: هذا ابن أخي، وهو لك ثقة خذ بيعته. وكان المأمون قد رحل من مرو إلى قصر خالد بن حماد على فرسخ من مرو يريد سمرقند، وأمر العباس بن المسيب بإخراج الناس واللحوق بالعسكر، فمر به إسحاق الخادم ومعه نعي الرشيد، فغم العباس قدومه، فوصل إلى المأمون فأخبره، فرجع المأمون إلى مرو، ودخل دار الإمارة، دار أبي مسلم، ونعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرًا. قال: ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند وأولاد هارون؛ تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكًا حاضرًا لآخر لا يدري ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل، ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قواد أبيه، فكان معه منهم عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وشبيب بن حميد بن قحطبة، والعلاء مولى هارون، والعباس ابن المسيب بن زهير وهو على شرطته، وأيوب بن أبي سمير وهو على كتابته؛ وكان معه من أهل بيته عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذو الرياستين؛ وهو عنده من أعظم الناس قدرًا وأخصهم به، فشاورهم وأخبرهم الخبر، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، وسمي لذلك قوم، فدخل عليه ذو الرياستين، فقال له: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابًا، وتوجه إليهم رسولًا؛ فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين. قال: قلت له: إن كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بن صاعد - وكان على قهرمته - فإنه يأملك، ويرجو أن ينال أمله؛ فلن يألوك نصحًا، وتوجه نوفلًا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين - وكان عاقلًا. فكتب كتابًا، ووجههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل. فذكر الحسن بن أبي سعيد عن سهل بن صاعد، أنه قال له: فأوصلت إلى الفضل بن الربيع كتابه، فقال لي: إنما أنا واحد منهم، قال لي سهل: وشد علي عبد الرحمن بن جبلة بالرمح، فأمره على جنبي، ثم قال لي: قل لصاحبك: والله لو كنت حاضرًا لوضعت الرمح فيك، هذا جوابي. قال: ونال من المأمون، فرجعت بالخبر. قال الفضل بن سهل: قلت للمأمون: أعداء قد استرحت منهم؛ ولكن افهم عني ما أقول لك؛ إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع العسكر بخروجه بخراسان، فكفاه الله المؤنة، ثم خرج بعد يوسف البرم وهو عند بعض المسلمين كافر؛ فكفا الله المؤنة، ثم خرج أستاذسيس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري إلى نيسابور فكفي المؤنة؛ ولكن ما أصنع! أكثر عليك! أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قال: رأيتهم اضطربوا اضطرابًا شديدًا، قلت: وكيف بك وأنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم! كيف يكون اضطراب أهل بغداد! اصبر وأنا أضمن لك الخلافة - ووضعت يدي على صدري - قال: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك فقم به. قال: قلت: والله لأصدقنك، إن عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء، إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع مني لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادمًا له حتى تصير إلى محبتك، وترى رأيك في. فلقيتهم في منازلهم، وذكرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء. قال: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج، وقال بعضهم: من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه! فجئت فأخبرته، قال: قم بالأمر قال: قلت: قد قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على اللبود، وترد المظالم. ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء، وأكرمنا القواد والملوك وأبناء الملوك؛ فكنا نقول للتيمي: نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعي: نقيمك مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ولليماني: نقيمك مقام قحطبة ومالك بن الهيثم؛ فكنا ندعو كل قبيلة إلى نقباء رءوسهم، واستلمنا الرءوس، وقلنا لهم مثل ذلك، وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذلك منهم، وسروا به، وقالوا: ابن أختنا، وابن عم النبي صلى الله عليه. قال علي بن إسحاق: لما أفضت الخلافة إلى محمد، وهدأ الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم؛ فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد: بنى أمين الله ميدانا ** وصير الساحة بستانا وكانت الغزلان فيه بانا ** يهدى إليه فيه غزلانا وفي هذه السنة شخصت أم جعفر من الرقة بجميع ما كان معها هنالك من الخزائن وغير ذلك في شعبان؛ فتلقاها ابنها محمد الأمين بالأنبار في جميع من كان ببغداد من الوجوه، وأقام المأمون على ما كان يتولى من عمل خراسان ونواحيها إلى الري، وكاتب الأمين، وأهدى إليه هدايا كثيرة، وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح. وفي هذه السنة دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة، وراسل رافع الترك فوافوه، فصار هرثمة بين رافع والترك، ثم انصرف الترك، فضعف رافع. وقتل في هذه السنة نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه - فيما قيل - سبع سنين، وملك بعده إستبرق بن نقفور وهو مجروح، فبقي شهرين ومات. وملك ميخائيل بن جورجس ختنه على أخته. وحج بالناس في هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وكان والي مكة. وأقر محمد بن هارون أخاه القاسم بن هارون في هذه السنة على ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بن خازم، وأقر القاسم على قنسرين والعواصم. ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من مخالفة أهل حمص عاملهم إسحاق بن سليمان، وكان محمد ولاه إياها، فلما خالفوه انتقل إلى سلمية، فصرفه محمد عنهم، وولى مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي ومعه عافية بن سليمان، فحبس عدة من وجوههم، وضرب مدينتهم من نواحيها بالنار، وسألوه الأمان فأجابهم، وسكنوا ثم هاجوا؛ فضرب أيضًا أعناق عدة منهم. وفيها عزل محمد أخاه القاسم عن جميع ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الشأم وقنسرين والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بن خازم، وأمره بالمقام بمدينة السلام. وفي هذه السنة أمر محمد بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة. ذكر تفاقم الخلاف بين الأمين والمأمون وفيها مكر كل واحد منهما بصاحبه: محمد الأمين وعبد الله المأمون، وظهر بينهما الفساد. ذكر الخبر عن سبب ذلك ذكر أن الفضل بن الربيع فكر بعد مقدمه العراق على محمد منصرفًا عن طوس، وناكثًا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يومًا وهو حي لم يبق عليه؛ وكان في ظفره به عطبه، فسعى في إغراء محمد به، وحثه على خلعه، وصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى؛ ولم يكن ذلك من رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه - فيما ذكر عنه - الوفاء لأخويه: عبد الله والقاسم، بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل الفضل به يصغر في عينه شأن المأمون، ويزين له خلعه؛ حتى قال له: ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك! فإن البيعة كانت لك متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدًا بعد واحد، وأدخل في ذلك من رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته؛ فأزال محمدًا عن رأيه. فأول ما بدء به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالاٍمرة بعد الدعاء له وللمأمون والقاسم بن الرشيد، فذكر الفضل بن إسحاق بن سليمان أن المأمون لما بلغه ما أمر به محمد من الدعاء لابنه موسى وعزله القاسم عما يدبر عليه في خلعه، فقطع البريد عن محمد، واسقط اسمه من الطرز والضرب. وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون حسن سيرته في أهل عمله وإحسانه إليهم، بعث في طلب الأمان لنفسه، فسارع إلى ذلك هرثمة وخرج رافع فلحق بالمأمون، وهرثمة بعد مقيم بسمرقند فأكرم المأمون رافعًا. وكان مع هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة في حصار رافع طاهر بن الحسين؛ فلما دخل رافع في الأمان، استأذن هرثمة المأمون في القدوم عليه، فعبر نهر بلخ بعسكره والنهر جامد، فتلقاه الناس، وولاه المأمون الحرس. فأنكر ذلك كله محمد، فبدأ بالتدبير على المأمون؛ فكان من التدبير أنه كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك - وهو عامل المأمون على الري - وأمره أن يبعث إليه بغرائب غروس الري - مريدًا بذلك امتحانه - فبعث إليه ما أمره به، وكتم المأمون وذا الرياستين. فبلغ ذلك من أمره المأمون، فوجه الحسن بن علي المأموني وأردفه بالرستمي على البريد، وعزل العباس بن عبد الله بن مالك؛ فذكر عن الرستمي أنه لم ينزل عن دابته حتى اجتمع إليه ألف رجل من أهل الري. ووجه محمد إلى المأمون ثلاثة أنفس رسلًا: أحدهم العباس بن موسى بن عيسى، والآخر صالح صاحب المصلى، والثالث محمد بن عيسى بن نهيك؛ وكتب معهم كتابًا إلى صاحب الري؛ أن استقبلهم بالعدة والسلاح الظاهر. وكتب إلى والي قومس ونيسابور وسرخس بمثل ذلك؛ ففعلوا. ثم وردت الرسل مرو، وقد أعد لهم من السلاح وضروب العدد والعتاد، ثم صاروا إلى المأمون؛ فأبلغوه رسالة محمد بمسألته تقديم موسى على نفسه؛ ويذكر له أنه سماه الناطق بالحق؛ وكان الذي أشار عليه بذلك علي بن عيسى بن هامان، وكان يخبره أن أهل خراسان يطيعونه؛ فرد المأمون ذلك وأباه. قال: فقال لي ذو الرئاستين: قال العباس بن موسى بن عيسى بن موسى: وما عليك أيها الأمير من ذلك؛ فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره ذلك، قال: فصحت به: اسكت، فإن جدك كان في أيديهم أسيرًا؛ وهذا بين أخواله وشيعته. قال: فانصرفوا، وأنزل كل واحد منهم منزلًا. قال ذو الرياستين: فأعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوت به فقلت: أيذهب عليك في فهمك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام - وسمي المأمون في ذلك اليوم بالإمام ولم يسم بالخلافة، وكان سبب ما سمي به الإمام ما جاء من خلع محمد له، وقد كان محمد قال للذين أرسلهم: قد تسمى المأمون بالإمام، فقال لي العباس: قد سميتموه الإمام! قال: قلت له: قد يكون إمام المسجد والقبيلة، فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك. قال: ثم قلت للعباس: لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت. قال: فما برح حتى أخذ عليه البيعة للمأمون بالخلافة؛ فكان بعد ذلك يكتب إلينا بالأخبار، ويشير علينا بالرأي. قال: فأخبرني علي بن يحيى السرخسي، قال: مر بي العباس بن موسى ذاهبًا إلى مرو - وقد كنت وصفت له سيرة المأمون وحسن تدبير ذي الرياستين واحتماله الموضع، فلم يقبل ذلك مني - فلما رجع مر بي، فقلت له: كيف رأيت؟ قال: ذو الرياستين أكثر مما وصفت، فقلت: صافحت الإمام؟ قال: نعم، قلت: امسح يدك على رأسي. قال: ومضى القوم إلى محمد فأخبروه بامتناعه، قال: فألح الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى على محمد في البيعة لابنه وخلع المأمون، وأعطى الفضل الأموال حتى بايع لابنه موسى، وسماه الناطق بالحق، وأحضنه علي بن عيسى وولاه العراق. قال: وكان أول من أخذ له البيعة بشر بن السميدع الأزدي، وكان واليًا على بلد، ثم أخذها صاحب مكة وصاحب المدينة على خواص من الناس قليل، دون عامة. قال: ونهى الفضل بن الربيع عن ذكر عبد الله والقاسم والدعاء لهما على شيء من المنابر، ودس لذكر عبد الله والوقيعة فيه، ووجه إلى مكة كتابًا مع رسول من حجبة البيت يقال له محمد بن عبد الله بن عثمان بن طلحة في أخذ الكتابين اللذين كان هارون كتبهما، وجعلهما في الكعبة لعبد الله على محمد، فقدم بهما عليه، وتكلم في ذلك بقية الحجبة، فلم يحفل بهم، وخافوا على أنفسهم، فلما صار بالكتابين إلى محمد قبضهما منه، وأجازه بجائزة عظيمة، ومزقهما وأبطلهما. وكان محمد - فيما ذكر - كتب إلى المأمون قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان - سماها - وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره. فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك، كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن، فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: الأمر مخطر، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمر دونهم وحشة، وظهوره قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك. وقال الحسن: كان يقال: شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاورته، فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعًا له: أيها الأمير، تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظًا من الروية، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثًا، فلما اجتمعوا بعد ذلك، قال أحدهم: أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما. وقال آخر: كان يقال أيها الأمير، أسعدك الله، إذا كان الأمر مخطرًا، فإعطاؤك من نازعك طرفًا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته. وقال آخر: إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبًا عنك، فخذ ما أمكنك من هدنة يومك؛ فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعًا بفساد غدك. وقال آخر: لئن خيفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث الإباء من الفرقة. وقال آخر: لا أرى مفارقة منزلة سلامة؛ فلعلي أعطى معها العافية. فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم؛ وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، فقال له المأمون: فناظرهم، قال: لذلك ما كان الاجتماع. وأقبل الحسن عليهم، فقال: هل تعلمون أن محمدًا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا نعم؛ ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه. قال: فهل تثقون بكفه بعد إعطائه إياها، فلا يتجاوز بالطلب إلى غيرها؟ قالوا: لا، ولعل سلامة تقع دون ما يخاف ويتوقع. قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة؛ أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه! قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبة بمدافعة محذور في عاجله! قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا، قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدًا على مخالفتك! وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبةٍ؛ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم. فقال المأمون: بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا أو أمر آخرة. قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي؛ والله يؤيد الأمير بالتوفيق. فقال: اكتب يا فضل إليه، فكتب: قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسألني التجافي عن مواضع سماها مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره؛ غير أن الذي جعل إلى الطرف الذي أنابه، لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره، ولو لم يكن ذلك مثبتًا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال وطرف من الإفضال - لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرًا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله؛ فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكد به مأخوذ العهد! وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع بمسألة ما كتب بمسألته إلي. ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله. وكان المأمون قد وجه حارسه إلى الحد، فلا يجوز رسول من العراق حتى يوجهوه مع ثقات من الأمناء، ولا يدعه يستعلم خبرًا ولا يؤثر أثرًا، ولا يستتبع بالرغبة ولا بالرهبة أحدًا، ولا يبلغ أحدًا قولًا ولا كتابًا. فحصر أهل خراسان من أن يستمالوا برغبة، أو أن تودع صدورهم رهبة، أو يحملوا على منزل خلاف أو مفارقة. ثم وضع على مراصد الطرق ثقات من الحراس لا يجوز عليهم إلا من لا يدخل الظنة في أمره ممن أتى بجواز في مخرجه إلى دار مآبه، أو تاجر معروف مأمون في نفسه ودينه، ومنع الأشتاتات من جواز السبل والقطع بالمتاجر والوغول في البلدان في هيئة الطارئة والسابلة، وفتشت الكتب. وكان - فيما ذكر - أول من أقبل من قبل محمد مناظرًا في منعه ما كان سأل جماعة، وإنما وجهوا ليعلم أنهم قد عاينوا وسمعوا، ثم يلتمس منهم أن يبذلوا أو يحرموا فيكون مما قالوا حجة يحتج بها، أو ذريعة إلى ما التمس منها. فلما صاروا إلى حد الري، وجدوا تدبيرًا مؤبدًا، وعقدًا مستحصدًا متأكدًا، وأخذتهم الأحراس من جوانبهم، فحفظوا في حال ظعنهم وإقامتهم من أن يخبروا أو يستخبروا، وكتب بخبرهم من مكانهم، فجاء الإذن في حملهم فحملوا محروسين؛ لا خبر يصل إليهم، ولا خبر يتطلع منهم إلى غيرهم؛ وقد كانوا معدين لبث الخبر في العامة وإظهار الحجة بالمفارقة والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة؛ يبذلون الأموال، ويضمنون لهم معظم الولايات والقطائع والمنازل؛ فوجدوا جميع ذلك ممنوعًا محسومًا؛ حتى صاروا إلى باب المأمون. وكان الكتاب النافذ معهم إلى المأمون: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل؛ تأييدًا لأمرك، وتحصينًا لطرفك؛ فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك. وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيًا لحدثه، ثم تتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده؛ وقد ضم لك إلى الطرف كورًا من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودةً في أهلها، ومواضع حقها. فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور إلى ما كانت عليه من حالها؛ لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها؛ وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعنى به من خبر طرفك؛ فكتبت تلط دون ذلك بما تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك؛ فاثن عن همك اثن عن مطالبتك، إن شاء الله. فلما قرأ المأمون الكتاب كتب مجيبًا له: أما بعد؛ فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسأل ما يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته؛ وإنما يتجاوز المتناظران منزلة النصفة عن أهلها؛ فمتى تجاوز متجاوز - وهي موجودة الوسع - ولم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها؛ فلا تبعثني يابن أبي على مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك. وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك. والسلام. ثم أحضر الرسل، فقال: إن أمير المؤمنين كتب في أمر كتبت له في جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته؛ حتى يضطرني بترك الحق الواجب إلى مخالفته. فذهبوا يقولون، فقال: قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم، وأحسنوا تأدية ما سمعتم؛ فقد أبلغتمونا من كتابنا ما عسى أن تقولوه لنا. فانصرف الرسل ولم يثبتوا لأنفسهم حجة، ولم يحملوا خبرًا يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا جدًا غير مشوب بهزل، في منع ما لهم من حقهم الواقع - بزعمهم. فلما وصل كتاب المأمون إلى محمد وصل منه ما فظع به، وتخمط غيظًا بما تردد منه في سمعه، وأمر عند ذلك بما ذكرناه من الإمساك عن الدعاء له على المنابر؛ وكتب إليه: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك غامطًا لنعمة الله عليك فيما مكن لك من ظلها، متعرضًا لحراق نار لا قبل لك بها، ولحظك عن الطاعة كان أودع لك؛ وإن كان قد تقدم مني متقدم؛ من مواضع نفعك إذ كان راجعًا على العامة من رعيتك؛ وأكثر من ذلك ما يمكن لك من منزلة السلامة، ويثبت لك من حال الهدنة؛ فأعلمني رأيك أعمل عليه. إن شاء الله. وذكر سهل بن هارون عن الحسن بن سهل، أن المأمون قال لذي الرياستين: إن ولدي وأهلي ومالي الذي أفرده الرشيد لي بحضرة محمد - وهو مائة ألف ألف - وأنا إليها محتاج، وهي قبله فما ترى في ذلك؟ وراجعه في ذلك مرارًا. فقال له ذو الرياستين: أيها الأمير، بك حاجة إلى فضلة مالك؛ وأن يكون أهلك في دارك وجنابك؛ وإن أنت كتبت فيه كتاب عزمة فمنعك صار إلى خلع عهده؛ فإن فعل حملك ولو بالكره على محاربته؛ وأنا أكره أن تكون المستفتح باب الفرقة ما أرتجه الله دونك؛ ولكن تكتب كتاب طالب لحقك، وتوجيه أهلك على ما لا يوجب عليه المنع نكثًا لعهدك؛ فإن أطاع فنعمة وعافية؛ وإن أبى لم تكن بعثت على نفسك حربًا أو مشاقة. فاكتب إليه، فكتب عنه: أما بعد؛ فإن نظر أمير المؤمنين للعامة نظر من لا يقتصر عنه على إعطاء النصفة من نفسه حتى يتجاوزها إليهم ببره وصلته؛ وإذا كان ذلك رأيه في عامته؛ فأحر بأن يكون على مجاوزة ذلك بصنوه وقسيم نسبه؛ فقد تعلم يا أمير المؤمنين حالًا أنا عليها من ثغور حللت بين لهواتها، وأجناد لا تزال موقنة بنشر غيها وبنكث آرائها، وقلة الحرج قبلي، والأهل والولد قبل أمير المؤمنين، وما للأهل - وإن كانوا في كفاية من بر أمير المؤمنين، فكان لهم والدًا - بد من الإشراف والنزوع إلى كنفي، ومالي بالمال من القوة والظهير على لم الشعث بحضرتي، وقد وجهت لحمل العيال وحمل ذلك المال؛ فرأى أمير المؤمنين في إجازة فلان إلى الرقة في حمل ذلك المال، والأمر بمعونته عليه، غير محرج له فيه إلى ضيقة يقع بمخالفته، أو حامل له على رأي يكون على غير موافقة. والسلام. فكتب إليه محمد: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك بما ذكرت مما عليه رأي أمير المؤمنين في عامته فضلًا عما يجب من حق لذي حرمته وخليط نفسه، ومحلك بين لهوات ثغور، وحاجتك لمحلك بينها إلى فضلة من المال لتأييد أمرك؛ والمال الذي سمي لك من مال الله، وتوجيهك من وجهت في حمله وحمل أهلك من قبل أمير المؤمنين. ولعمري ما ينكر أمير المؤمنين رأيًا هو عليه مما ذكرت لعامته، يوجب عليه من حقوق أقربيه وعامته. وبه إلى ذلك المال الذي ذكرت حاجة في تحصين أمور المسلمين؛ فكان أولى به إجراؤه منه على فرائضه، ورده على مواضع حقه؛ وليس بخارج من نفعك ما عاد بنفع العامة من رعيتك. وأما ما ذكرت من حمل أهلك؛ فإن رأي أمير المؤمنين تولي أمرهم؛ وإن كنت بالمكان الذي أنت به من حق القرابة. ولم أر من حملهم على سفرهم مثل الذي رأيت من تعريضهم بالسفر للتشتت؛ وإن أر ذلك من قبلي أوجههم إليك مع الثقة من رسلي إن شاء الله. والسلام. قال: ولما ورد الكتاب على المأمون، قال: لاط دون حقنا يريد أن نتوهن مما يمنع من قوتنا، ثم يتمكن للوهنة من الفرصة في مخالفتنا. فقال له ذو الرياستين: أوليس من المعلوم دفع الرشيد ذلك المال إلى الأمين لجمعه، وقبض الأمين إياه على أعين الملأ من عامته؛ على أن يحرسه قنيةً، فهو لا ينزع إليها؛ فلا تأخذ عليه مضايقها، وأمل له ما لم تضطرك جريرته إلى مكاشفته بها؛ والرأي لزوم عروة الثقة، وحسم الفرقة؛ فإن أمسك فبنعمة وإن تطلع إليها فقد تعرض لله بالمخالفة، وتعرضت منه بالإمساك للتأييد والمعونة. قال: وعلم المأمون والفضل أنه سيحدث بعد كتابه من الحدث ما يحتاج إلى لمه، ومن الخبر ما يحتاج أن يباشره بالثقة من أصحابه، وأنه لا يحدث في ذلك حدثًا دون مواطأة رجال النباهة والأقدار من الشيعة وأهل السابقة؛ فرأى أن يختار رجلًا يكتب معه إلى أعيان أهل العسكر من بغداد؛ فإن أحدث محمد خلعًا للمأمون صار إلى دفعها، وتلطف لعلم حالات أهلها؛ وإن لم يفعل من ذلك شيئًا خنس في حقته، وأمسك عن إيصالها، وتقدم إليه في التعجيل. ولما قدم أوصل الكتب، وكان كتابه مع الرسول الذي وجهه لعلم الخبر: أمما بعد؛ فإن أمير المؤمنين كأعضاء البدن، يحدث العلة في بعضها؛ فيكون كره ذلك مؤلمًا لجميعها؛ وكذلك الحدث في المسلمين، يكون في بعضهم فيصل كره ذلك إلى سائرهم؛ للذي يجمعهم من شريعة دينهم، ويلزمهم من حرمة أخوتهم، ثم ذلك من الأئمة أعظم للمكان الذي به الأئمة من سائر أممهم؛ وقد كان من الخبر ما لا أحسبه إلا سيعرب عن محنة، ويسفر عما استتر من وجهه؛ وما اختلف مختلفان فكان أحدهما مع أمر الله إلا كان أول معونة المسلمين وموالاتهم في ذات الله؛ وأنت يرحمك الله من الأمر بمرأى ومسمع؛ وبحيث إن قلت أذن لقولك؛ وإن لم تجد للقول مساغًا فأمسكت عن مخوف أقتدي فيه بك؛ ولن يضيع على الله ثواب الإحسان مع ما يجب علينا بالإحسان من حقك، ولحظ حاز لك النصيبين أو أحدهما أمثل من الإشراف لأحد الحظين، مع التعرض لعدمهما، فاكتب إلي برأيك، وأعلم ذلك لرسولي ليؤديه إلي عنك. إن شاء الله. وكتب إلى رجال النباهة من أهل العسكر بمثل ذلك. قال: فوافق قدوم الرسول بغداد ما أمر به من الكف عن الدعاء للمأمون في الخطبة يوم الجمعة، وكان بمكان الثقة من كل من كتب إليه معه؛ فمنهم من أمسك عن الجواب وأعرب للرسول عما في نفسه، ومنهم من أجاب عن كتابه؛ فكتب أحدهم: أما بعد فقد بلغني كتابك وللحق برهان يدل على نفسه تثبت به الحجة على كل من صار إلى مفارقته؛ وكفى غبنًا بإضاعة حظ من حظ العاقبة؛ لمأمول من حظ عاجلة، وأبين من الغبن إضاعة حظ عاقبة مع التعرض للنكبة والوقائع؛ ولي من العلم بمواضع حظي ما أرجو أن يحسن معه النظر مني لنفسي، ويضع عني مؤنة استزادتي. إن شاء الله. قال: وكتب الرسول المتوجه إلى بغداد إلى المأمون وذي الرياستين: أما بعد، فإني وافيت البلدة، وقد أعلن خليطك بتنكره، وقدم علمًا من اعتراضه ومفارقته وأمسك عما كان يجب ذكره وتوفيته بحضرته؛ ودفعت كتبك فوجدت أكثر الناس ولاة السريرة ونفاة العلانية، ووجدت المشرفين بالرعية لا يحوطون إلا عنها ولا يبالون ما احتملوا فيها؛ والمنازع مختلج الرأي، لا يجد دافعًا منه عن همه، ولا راغبًا في عامه، والمحلون بأنفسهم يحلون تمام الحدث؛ ليسلموا من منهزم حدثهم، والقوم على جد، ولا تجعلوا للتواني في أمركم نصيبًا إن شاء الله والسلام. قال: ولما قدم على محمد من معسكر المأمون سعيد بن مالك بن قادم وعبد الله بن حميد بن قحطبة والعباس بن الليث مولى أمير المؤمنين ومنصور بن أبي مطر وكثير بن قادرة، ألطفهم وقربهم، وأمر لمن كان قبض منهم الستة الأشهر برزق اثني عشر شهرًا، وزادهم في الخاصة والعامة، ولمن لم يقبضها بثمانية عشر شهرًا. قال: ولما عزم محمد على خلع المأمون دعا يحيى بن سليم فشاوره في ذلك، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للإيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه! فقال له محمد: إن رأى الرشيد شيئًا كان فلتةً شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرسًا مكروهًا لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور باجتثاثه والراحة منه فقال: أما إذا كان رأى أمير المؤمنين خلعة، فلا يجاهره مجاهرة فستنكرها الناس، ويستشنعها العامة؛ ولكن تستدعي الجند بعد الجند والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال، وتستميلهم بالأطماع؛ فإذا أوهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته بالقدوم عليك؛ فإن قدم صار إلى الذي تريد منه؛ وإن كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه. فقال محمد: ما قطع أمرًا كصريمة، أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح؛ قم فالحق بمدادك وأقلامك؛ قال يحيى: فقلت: غضب يشوبه صدق ونصيحة، أشرت إلى رأي يخلطه غش وجهل. قال: فوالله ما ذهبت الأيام حتى ذكر كلامه، وقرعه بخطئه وخرقه. قال سهل بن هارون: وقد كان الفضل بن سهل دس قومًا اختارهم ممن يثق به من القواد والوجوه ببغداد ليكاتبوه بالأخبار يومًا يومًا، فلما هم محمد بخلع المأمون، بعث الفضل بن الربيع إلى أحد هؤلاء الرجال يشاوره فيما يرى من ذلك، فعظم الرجل عليه أمر نقض العهد للمأمون، وقبح الغدر به، فقال له الفضل: صدقت؛ ولكن عبد الله قد أحدث الحدث الذي وجب به نقض ما أخذ الرشيد له. قال: لا، قال: أفتثبت الحجة عند العوام بمعلوم حدثه كما تثبت الحجة بما جدد من عهده! قال: أفحدث هذا منكم يوجب عند العامة نقض عهدكم ما لم يكن حدثه معلومًا يجب به فسخ عهده! قال: نعم، قال الرجل - ورفع صوته: بالله ما رأيت كاليوم رأى رجل يرتاد به النظر، يشاور في رفع ملك في يده بالحجة ثم يصير إلى مطالبته بالعناد والمغالبة! قال: فأطرق الفضل مليًا، ثم قال: صدقتني الرأي، واحتملت ثقل الأمانة؛ ولكن أخبرني إن نحن أغمضنا من قالة العامة ووجدنا مساعدين من شيعتنا وأجنادنا، فما القول؟ قال: أصلحك الله، وهل أجنادك إلا من عامتك في أخذ بيعتهم وتمكن برهان الحق في قلوبهم! أفليسوا وإن أعطوك ظاهر طاعة هم مع ما تأكد من وثائق العهد في معارفهم؛ قال: فإن أعطونا بذلك الطاعة قال: لا طاعة دون تكون على تثبت من البصائر. قال: نرغبهم بتشريف حظوظهم، قال: إذًا يصيروا إلى التقبل، ثم إلى خذلانك عند حاجتك إلى مناصحتهم. قال: فما ظنك بأجناد عبد الله؟ قال: قوم على بصيرة من أمرهم لتقدم بيعتهم وما يتعاهدون من حظهم، قال: فما ظنك بعامتهم؟ قال: قوم كانوا بلوى عظيمة من تحيف ولاتهم في أموالهم، ثم في أنفسهم صاروا به إلى الأمنية من المال والرفاغة في المعيشة، فهم يدافعون عن نعمة حادثة لهم، ويتذكرون بلية لا يأمنون العودة إليها. قال: فهل من سبيل إلى استفساد عظماء البلاد عليه؛ لتكون محاربتنا إياه بالمكيدة من ناحيته، لا بالزخرف نحوه لمناجزته! قال: أما الضعفاء فقد صاروا له إلبًا لما نالوا به من الأمان والنصفة، وأما ذوو القوة فلم يجدوا مطعنًا ولا موضع حجة، والضعفاء السواد الأكثر. قال: ما أراك أبقيت لنا موضع رأي في اعتزالك إلى أجنادنا، ولا تمكن النظر في ناحيته باحتيالنا، ثم أشد من ذلك ما قلت به وهنة أجنادنا وقوة أجناده في مخالفته. وما تسخو نفس أمير المؤمنين بترك ما لا يعرف من حقه، ولا نفسي بالهدنة مع تقدمٍ جرى في أمره، وربما أقبلت الأمور مشرفة بالمخافة، ثم تكشف عن الفلج والدرك في العاقبة. ثم تفرقًا. قال: وكان الفضل بن الربيع أخذ بالمراصد لئلا تجاوز الكتب الحد؛ فكتب الرسول مع امرأة، وجعل الكتاب وديعة في عود منقور من أعواد الأكاف، وكتب إلى صاحب البريد بتعجيل الخبر؛ وكانت المرأة تمضي على المسالح كالمجتازة من القرية إلى القرية، لا تهاج ولا تفتش. وجاء الخبر إلى المأمون موافقًا لسائر ما ورد عليه من الكتب، وقد شهد بعضها ببعض، فقال لذي الرياستين: هذه أمور قد كان الرأي أخبر عن عيبها، ثم هذه طوالع تخبر عن أواخرها، وكفانا أن نكون مع الحق، ولعل كرهًا يسوق خيرًا. قال: وكان أول ما دبره الفضل بن سهل بعد ترك الدعاء للمأمون وصحة الخبر به، أن جمع الأجناد التي كان أعدها بجنبات الري مع أجناد قد كان مكنها فيها، وأجناد للقيام بأمرهم؛ وكانت البلاد أجدبت بحضرتهم؛ فأعد لهم من الحمولة ما يحمل إليهم من كل فج وسبيل؛ حتى ما فقدوا شيئًا احتاجوا إليه، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه ولا يطلقون يدًا بسوء في عامد ولا مجتاز. ثم أشخص طاهر بن الحسين فيمن ضم إليه من قواده وأجناده، فسار طاهر مغذًا لا يلوى على شيء، حتى ورد الري، فنزلها ووكل بأطرافها، ووضع مسالحه، وبث عيونه وطلائعه، فقال بعض شعراء خراسان: رمى أهل العراق ومن عليها ** إمام العدل والملك الرشيد بأحزم من مشى رأيًا وحزمًا ** وكيدًا نافذًا فيما يكيد بداهية نآدٍ خنفقيقٍ ** يشيب لهول صولتها الوليد وذكر أن محمدًا وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وولاه حرب كور الجبل، وأمره بالمقام بهمذان، وأن يوجه مقدمته إلى ساوة، واستخلف أخاه عبد الرحمن بن حماد على الحرس، وجعل الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى يلهبان محمدًا، ويبعثانه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى. وفي هذه السنة عقد محمد بن هارون في شهر ربيع الأول لابنه موسى على جميع ما استخلفه عليه، وجعل صاحب أمره كله علي بن عيسى بن ماهان، وعلى شرطه محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى خراجه عبد الله بن عبيدة وعلى ديوان رسائله علي بن صالح صاحب المصلى. وفي هذه السنة وثب الروم على ميخائيل صاحب الروم فهرب وترهب، وكان ملكه سنتين فيما قيل. وفيها ملك على الروم ليون القائد. وفيها صرف محمد بن هارون إسحاق بن سليمان عن حمص، وولاها عبد اله بن سعيد الحرشي، ومعه عافية بن سليمان، فقتل عدة من وجوههم، وحبس عدة، وحرق مدينتهم من نواحيها بالنار، فسألوه الأمان، فأجابهم فسكنوا ثم هاجوا، فضرب أعناق عدة منهم. ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلكما كان من أمر محمد بن هارون بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في سنة أربع وتسعين ومائة؛ لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وكان يقال لتلك الدنانير والدراهم الرباعية، وكانت لا تجوز حينًا النهي عن الدعاء للمأمون على المنابر وفيها نهى الأمين عن الدعاء على المنابر في عمله كله للمأمون والقاسم، وأمر بالدعاء له عليها ثم من بعده لابنه موسى، وذلك في صقر من هذه السنة، وابنه موسى يومئذ طفل صغير، فسماه الناطق بالحق، وكان ما فعل من ذلك عن رأي الفضل بن الربيع، فقال في ذلك بعض الشعراء: أضاع الخلافة غش الوزير ** وفسق الأمير وجهل المشير ففضل وزير، وبكر مشير ** يريدان ما فيه حتف الأمير فبلغ ذلك المأمون، فتسمى بإمام الهدى، وكوتب بذلك. عقد الإمرة لعلي بن عيسى وفيها عقد محمد لعلي بن عيسى بن ماهان يوم الأربعاء لليلة خلت من شهر ربيع الآخر على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد وأمر له - فيما ذكر - بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالًا عظيمًا، وأمر له من السيوف المحلاة بألفي سيف وستة آلاف ثوب للخلع، وأحضر محمد أهل بيته ومواليه وقواده المقصورة بالشماسية يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة، فصلى محمد الجمعة، ودخل وجلس لهم ابنه موسى في المحراب، ومعه الفضل بن الربيع وجميع من أحضر، فقرأ عليهم كتابًا من الأمين يعلمهم رأيه فيهم وحقه عليهم، وما سبق لهم من البيعة متقدمًا مفردًا بها، ولزوم ذلك لهم، وما أحدث عبد الله من التسمي بالإمامة، والدعاء إلى نفسه، وقطع ذكره في دور الضرب والطرز؛ وأن ما أحدث من ذلك ليس له؛ ولا ما يدعي من الشروط التي شرطت له بجائزة له. وحثهم على طاعته، والتمسك ببيعته. وقال سعيد بن الفضل الخطيب بعد قراءة الكتاب، فعرض ما في الكتاب بتصديقه والقول بمثله. ثم تكلم الفضل بن الربيع وهو جالس، فبالغ في القول فأكثر وذكر أنه لا حق لأحد في الإمامة والخلافة إلا لأمير المؤمنين محمد الأمين؛ وأن الله لم يجعل لعبد الله ولا لغيره في ذلك حظًا له ولا نصيبًا. فلم يتكلم أحد من أهل بيت محمد ولا غيرهم بشيء إلا محمد بن عيسى بن نهيك ونفر من وجوه الحرس. وقال الفضل بن الربيع في كلامه: إن الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم يا معاشر أهل خراسان من صلب ماله بثلاثة آلاف ألف درهم تقسم بينكم. ثم انصرف الناس، وأقبل علي بن عيسى على محمد يخبره أن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن خرج هو أطاعوه وانقادوا معه. شخوص علي بن عيسى إلى حرب المأمون وفيها شخص علي بن عيسى إلى الري إلى حرب المأمون. ذكر الخبر عن شخوصه إليها وما كان من أمره في شخوصه ذلك ذكر الفضل بن إسحاق، أن علي بن عيسى شخص من مدينة السلام عشية الجمعة لخمس عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة، سخص عشية تلك فيما بين صلاة الجمعة إلى صلاة العصر إلى معسكره بنهر بين، فأقام فيه في زهاء أربعين ألفًا، وحمل معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، وشخص معه محمد الأمين إلى النهروان يوم الأحد لست بقين من جمادى الآخرة، فعرض بها الذين ضموا إلى علي بن عيسى، ثم أقام بقية يومه ذلك بالنهروان، ثم انصرف إلى مدينة السلام. وأقام علي بن عيسى بالنهروان ثلاثة أيام، ثم شخص إلى ما وجه له مسرعًا حتى نزل همذان، فولى عليها عبد الله بن حميد بن قحطبة. وقد كان محمد كتب إلى عصمة بن حماد بالانصراف في خاصة أصحابه وضم بقية العسكر وما فيه من الأموال وغير ذلك إلى علي بن عيسى، وكتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بالانضمام إليه فيمن معه من أصحابه، ووجه معه هلال بن عبد الله الحضرمي، وأمر له بالفرض، ثم عقد لعبد الرحمن بن جبلة الأبناوي على الدينور، وأمره بالسير في بقية أصحابه، ووجه معه ألفي ألف درهم حملت إليه قبل ذلك، ثم شخص علي بن عيسى من همذان يريد الري قبل ورود عبد الرحمن عليه فسار حتى بلغ الري على تعبئة، فلقيه طاهر بن الحسين وهو أقل من أربعة آلاف - وقيل كان في ثلاثة آلاف وثمانمائة - وخرج من عسكر طاهر ثلاثة أنفس إلى علي بن عيسى يتقربون إليه بذلك، فسألهم: من هم؟ ومن أي البلدان هم؟ فأخبره أحدهم أنه كان من جند عيسى أبيه الذي قتله رافع. قال: فأنت من جندي! فأمر به فضرب مائتي سوط، واستخف بالرجلين. وانتهى الخبر إلى أصحاب طاهر، فازدادوا جدًا في محاربته ونفورًا منه. فذكر أحمد بن هشام أنه لم يكن ورد عليهم الكتاب من المأمون، بأن تسمى بالخلافة، إذ التقيا - وكان أحمد على شرطة طاهر - فقلت لطاهر: قد ورد علي بن عيسى فيمن ترى، فإن ظهرنا له؛ فقال: أنا عامل أمير المؤمنين وأقررنا له بذلك، لم يكن لنا أن نحاربه. فقال لي طاهر: لم يجئني في هذا شيء، فقلت: دعني وما أريد، قال: شأنك، قال: فصعدت المنبر، فخلعت محمدًا، ودعوت للمأمون بالخلافة، وسرنا من يومنا أو من غد يوم السبت، وكان ذلك في شعبان سنة خمس وتسعين ومائة، فنزلنا قسطانة، وهي أول مرحلة من الري إلى العراق. وانتهى علي بن عيسى إلى برية يقال لها مشكويه، وبيننا وبينه سبعة فراسخ، وجعلنا مقدمتنا على فرسخين من جنده. وكان علي بن عيسى ظن أن طاهرًا إذا رآه يسلم إليه العمل؛ فلما رأى الجد منه، قال: هذا موضع مفازة، وليس موضع مقام فأخذ يساره إلى رستاق يقال له رستاق بني الرازي؛ وكان معنا الأتراك، فنزلنا على نهر، ونزل قريبًا منا، وكان بيننا وبينه دكادك وجبال؛ فلما كان في آخر الليل جاءني رجل فأخبرني أن علي بن عيسى دخل الري - وقد كان كاتبهم فأجابوه - فخرجت معه إلى الطريق، فقلت له: هذا طريقهم؛ وما هنا أثر حافر، وما يدل على أنه سار. وجئت إلى طاهر فأنبهته، فقلت له: تصلي؟ قال: نعم فدعا بماء فتهيأ، فقلت له: الخبر كيت وكيت. وأصبحنا، فقال لي: تركب، فوقفنا على الطريق، فقال لي: هل لك أن تجوز هذه الدكادك؟ فأشرفنا على عسكر علي بن عيسى وهم يلبسون السلاح، فقال: ارجع أخطأنا؛ فرجعنا فقال لي: أخرج أصحابنا. قال: فدعوت المأموني والحسن بن يونس المحاربي والرستمي؛ فخرجوا جميعًا؛ فكان على الميمنة المأموني، وعلى الميسرة الرستمي ومحمد بن مصعب. قال: وأقبل علي في جيشه؛ فامتلأت الصحراء بياضًا وصفرة من السلاح والمذهب، وجعل على ميمنته الحسين بن علي ومعه أبو دلف القاسم بن عيسى بن إدريس، وعلى ميسرته آخر، وكروا، فهزمونا حتى دخلوا العسكر، فخرج إليهم الساعة السوعاء فهزموهم. قال: وقال طاهر لما رأى علي بن عيسى: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن نجعلها خارجية، فقصد قصد القلب، فجمع سبعمائة رجل من الخوارزمية؛ فيهم ميكائيل وداود سياه. قال أحمد بن هشام: قلنا لطاهر: نذكر علي بن عيسى البيعة التي كانت، والبيعة التي أخذها هو للمأمون خاصة على معاشر أهل خراسان، فقال: نعم؛ قال: فعلقناهما على رمحين، وقمت بين الصفين، فقلت: الأمان! لا ترمونا ولا نرميكم؛ فقال علي بن عيسى: ذلك لك، فقلت: يا علي بن عيسى، ألا تتقي الله! أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة! اتق الله فقد بلغت باب قبرك، فقال: من أنت؟ قلت: أحمد بن هشام - وقد كان علي بن عيسى ضربه أربعمائة سوط - فصاح علي بن عيسى: يا أهل خراسان، من جاء به فله ألف درهم. قال: وكان معنا قوم بخارية، فرموه، وقالوا: نقتلك ونأخذ مالك: وخرج من عسكره العباس بن الليث مولى المهدي، وخرج رجل يقال له حاتم الطائي، فشد عليه طاهر، وشد يديه على مقبض السيف، فضربه فصرعه، وشد داود سياه على علي بن عيسى فصرعه؛ وهو لا يعرفه. وكان علي بن عيسى على برذون أرحل، حمله عليه محمد - وذلك يكره في الحرب ويدل على الهزيمة - قال: فقال داود: ناري أسنان كتبتم. قال: فقال طاهر الصغير - وهو طاهر بن التاجي: علي بن عيسى أنت؟ قال: نعم، أنا علي بن عيسى، وظن أنه يهاب فلا يقدم عليه أحد، فشد عليه فذبحه بالسيف. ونازعهم محمد بن مقاتل بن صالح الرأس، فنتف محمد خصلة من لحيته، فذهب بها إلى طاهر وبشره؛ وكانت ضربة طاهر هي الفتح، فسمي يومئذ ذا اليمينين بذلك السبب لأنه أخذ السيف بيديه جميعًا. وتناول أصحابه النشاب ليرمونا، فلم أعلم بقتل علي حتى قيل: قتل والله الأمير. فتبعناهم فرسخين، وواقفونا اثني عشرة مرة، كل ذلك نهزمهم؛ فلحقني طاهر بن التاجي، ومعه رأس علي بن عيسى؛ وكان آلى أن ينصب رأس أحمد عند المنبر الذي خلع عليه محمد، وقد كان علي أمر أن يهيأ له الغداء بالري. قال: فانصرفت فوجدت عيبة علي فيها دراعة وجبة وغلالة، فلبستها، وصليت ركعتين شكرًا لله تبارك وتعالى. ووجدنا في عسكره سبعمائة كيس؛ في كل كيس ألف درهم، ووجدنا عدة بغال عليها صناديق في أيدي أولئك البخارية الذين شتموه، وظنوا أنه مال؛ فكسروا الصناديق؛ فإذا فيها خمر سوادي، وأقبلوا يفرقون القناني، وقالوا: عملنا الجد حتى نشرب. قال أحمد بن هشام: وجئت إلى مضرب طاهر، وقد اغتم لتأخري عنه، فقال: لي البشرى! هذه خصلة من لحية علي، فقلت له: البشرى! هذا رأس علي. قال: فأعتق طاهر من كان بحضرته من غلمانه شكرًا لله، ثم جاءوا بعلي وقد شد الأعوان يديه إلى رجليه، فحمل على خشبة كما يحمل الحمار الميت وأمر به فلف في لبد وألقي في بئر. قال: وكتب إلى ذي الرياستين بالخبر. قال: فسارت الخريطة وبين مرو وذلك الموضع نحو من خمسين ومائتي فرسخ؛ ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، ووردت عليهم يوم الأحد. قال ذو الرياستين: كنا قد وجهنا هرثمة، واحتشدنا في السلاح مددًا، وسار في ذلك اليوم، وشيعه المأمون فقلت للمأمون: لا تبرح حتى يسلم عليك بالخلافة فقد وجبت لك، ولا نأمن أن يقال: يصلح بين الأخوين، فإذا سلم عليك بالخلافة لم يمكن أن ترجع. فتقدمت أنا وهرثمة والحسن بن سهل، فسلمنا عليه بالخلافة، وتبادر شيعة المأمون، فرجعت وأنا كال تعب لم أنم ثلاثة أيام في جهاز هرثمة، فقال لي الخادم: هذا عبد الرحمن بن مدرك - وكان يلي البريد، ونحن نتوقع الخريطة لنا أو علينا - فدخل وسكت، قلت: ويلك! ما وراءك؟ قال: الفتح؛ فإذا كتاب طاهر إلي: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك؛ كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي؛ والحمد لله رب العالمين. فوثبت إلى دار أمير المؤمنين، فلحقني الغلام بالسواد، فدخلت على المأمون فبشرته، وقرأت عليه الكتاب، فأمر بإحضار أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فدخلوا فسلموا عليه بالخلافة، ثم ورد رأس يوم الثلاثاء، فطيف به في خراسان. وذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: عقدنا لطاهر سنة أربع وتسعين ومائة فاتصل عقده إلى الساعة. وذكر محمد بن يحيى بن عبد الملك النيسابوري، قال: لما جاء نعي علي بن عيسى وقتله إلى محمد بن زبيدة - وكان في وقته ذلك على الشط يصيد السمك - فقال للذي أخبره: ويلك! دعني؛ فإن كوثرًا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئًا بعد. قال: وكان بعض أهل الحسد يقول: ظن طاهر أن عليًا يعلو عليه، وقال: متى يقوم طاهر لحرب علي مع كثرة جيشه وطاعة أهل خراسان له! فلما قتل علي تضاءل، وقال: والله لو لقيه طاهر وحده لقاتله في جيشه حتى يغلب أو يقتل دونه. وقال رجل من أصحاب علي له بأس ونجدة قي قتل علي ولقاء طاهر: لقينا الليث مفترسًا لديه ** وكنا ما ينهنهنا اللقاء نخوض الموت والغمرات قدمًا ** إذا ما كر ليس به خفاء فضعضع ركبنا لما التقينا ** وراح الموت وانكشف الغطاء وأردى كبشنا والرأس منا ** كأن بكفه كان القضاء ولما انتهى الخبر بمقتل علي بن عيسى إلى محمد والفضل، بعث إلى نوفل خادم المأمون - وكان وكيل المأمون ببغداد وخازنه، وقيمه في أهله وولده وضياعه وأمواله - عن لسان محمد، فأخذ منه الألف ألف درهم التي كان الرشيد وصل بها المأمون، وقبض ضياعه وغلاته بالسواد، وولى عمالًا قبله، ووجه عبد الرحمن الأبناوي بالقوة والعدة فنزل همذان. وذكر بعض من سمع عبد الله بن خازم عند ذلك يقول: يريد محمد إزالة الجبال وفل العساكر بتدبيره والمنكوس من تظهيره، هيهات! هو والله كما قال الأول: " قد ضيع الله ذودًا أنت راعيها " ولما بايع محمد لابنه موسى ووجه علي بن عيسى، قال الشاعر من أهل بغداد في ذلك لما رأى تشاغل محمد بلهوه وبطالته وتخليته عن تدبير علي والفضل بن الربيع: أضاع الخلافة غش الوزير ** وفسق الأمير وجهل المشير ففضل وزير، وبكر مشير ** يريدان ما فيه حتف الأمير وما ذاك إلا طريق غرورٍ ** وشر المسالك طرق الغرور لواط الخليفة أعجوبة ** وأعجب منه خلاق الوزير فهذا يدوس وهذا يداس ** كذاك لعمري اخترف الأمور فلو يستعينان هذا بذاك ** لكانا بعرضة أمرستير ولكن ذا لج في كوثرٍ ** ولم يشف هذا دعاس الحمير فشنع فعلاهما منهما ** وصارا خلافًا كبول البعير وأعجب من ذا وذا أننا ** نبايع للطفل فينا الصغير ومن ليس يحسن غسل استه ** ولم يخل من بوله حجر ظير وما ذاك إلا بفضل وبكرٍ ** يريدان نقض الكتاب المنير وهذان لولا انقلاب الزمان ** أفي العير هذان أم في النفير ولكنها فتن كالجبال ** ترفع فيها الوضيع الحقير فصبرًا ففي الصبر خير كثير ** وإن كان قد ضاق صدر الصبور فيا رب فاقبضهما عاجلًا ** إليك وأوردهم عذاب السعير ونكل بفضلٍ وأشياعه ** وصلبهم حول هذي الجسور وذكر أن محمدًا لما بعث إلى المأمون في البيعة لابنه موسى، ووجه الرسل إليه في ذلك، كتب المأمون جواب كتابه: أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكرًا لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري أن لو رد أمير المؤمنين الأمر إلى النصفة فلم يطالب إلا بها، ولم يوجب نكرة على تركها، لانبسطت بالحجة مطالع مقالته؛ ولكنت محجوجًا بمفارقة ما يجب من طاعته؛ فأما وأنا مذعن بها وهو على ترك إعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به، ويعطي من نفسه؛ فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه؛ وإن أبيت الحق قام الحق بمعذرته. وأما ما وعد من بر بطاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فأبقى للمستبين موضع ثقة بقوله! والسلام. قال: وكتب إلى علي بن عيسى لما بلغه ما عزم عليه: أما بعد؛ فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها؛ وعلى العناية بحفظها ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدًا على أهل مخالفتكم، وحزبًا وأعوانًا لأهل موافقتكم، تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزلة شديدة ورجاء، لا ترون شيئًا أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم؛ ولا أحرى لبواركم مما دعا إلى شتات كلمتكم، وترون من رغب عن ذلك جائرًا عن القصد وعن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفًا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة، وجزرًا جامجة؛ قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه، غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمة، وغير عاجل حظه؛ ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك؛ بحيث أنزلتم أنفسكم، من الثقة بكم في آثارها؛ وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها؛ حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع أهل دعوتك، والعلم القائم بمعظم أمر أئمتك؛ إن قلت: ادنوا دنوا وإن أشرت: أقبلوا أقبلوا وإن أمسكت وقفوا وأقروا، وئامًا لك واستنصاحًا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى ما تقدم من صالح فعلك؛ أو خلاف فيضل له متقدم سعيك؛ وقد ترى يا أبا يحيى حالًا عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك؛ من طعن بعقدة كنت القائم بشدها، وخثر بعهود توليت معاقد أخذها؛ يبدأ فيها بالأخصين، حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجة والمواثيق المؤكدة. وما طلع مما يدعو إلى نشر كلمة، وتفريق أمر أمة وشت أمر جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة؛ ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص أنفسكم؛ ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وليس الساعي في نشرها بساعٍ فيها على نفسه دون السعي على حملتها، القائمين بحرمتها؛ قد عرضوهم أن يكونوا جزرًا لأعدائهم، وطعمة قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم. ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك؛ ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق. ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة؛ مع وفور الحظ في عاجلته، وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف؛ ولكنه حق من حق أحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك؛ فإن أعجزك قول أو فعل فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك، وتحكم فيها برأيك وتنحاز إلى من يحسن تقبلًا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك؛ ولك بذلك الله، وكفى بالله وكيلا. وإن تعذر ذلك بقيةً على نفسك، فإمساكًا بيدك، وقولًا بحق، ما لم تخف وقوعه بكرهك؛ فلعل مقتديًا بك، ومغتبطًا بنهيك. ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله. قال: فأتى علي بالكتاب إلى محمد، فشب أهل النكث من الكفاة من تلهيبه، وأوقدوا نيرانه، وأعان على ذلك حميًا قدرته، وتساقط طبيعته، ورد الرأي إلى الفضل بن الربيع لقيامه كان بمكانفته. وكانت كتب ذي الرياستين ترد إلى الدسيس الذي كان يشاوره في أمره: إن أبى القوم إلا عزمة الخلاف؛ فألطف لأن يجعلوا أمره لعلي بن عيسى. وإنما خص ذو الرياستين عليًا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على ما كرهه؛ وإن العامة قائلة بحربه. فشاور الفضل الدسيس الذي كان يشاوره، فقال: علي بن عيسى إن فعل فلم ترمهم بمثله، في بعد صوبه وسخاوة نفسه، ومكانه في بلاد خراسان في طول ولايته عليهم وكثرة صنائعه فيهم، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة؛ فأجمعوا على توجيه علي؛ فكان من توجيهه ما كان. وكان يجتمع للمأمون بتوجيه علي جندان: أجناده الذين يحاربه بهم، والعامة من أهل خراسان حرب عليه لسوء أثره فيهم؛ وذلك رأي يكثر الأخطار به إلا في صدور رجال ضعاف الرأي لحال علي في نفسه، وما تقدم له ولسلفه؛ فكان ما كان من أمره ومقتله. وذكر سهل أن عمر بن حفص مولى محمد قال: دخلت على محمد في جوف الليل - وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل إليه أحد من مواليه وحشمة - فوجدته والشمع بين يديه، وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفًا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي، فقال: أحضرني عبد الله بن خازم، فمضيت إلى عبد الله، فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله! فقال: اسكت، لله أبوك! فعبد الملك كان أفضل منك رأيًا، وأكمل نظرًا؛ حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة. قال عمرو بن حفص: وسمعت محمدًا يقول للفضل بن الربيع: ويلك يا فضل! لا حياة مع بقاء عبد الله وتعرضه؛ ولا بد من خلعه، والفضل يعينه على ذلك، ويعده أن يفعل؛ وهو يقول: فمتى ذلك! إذا غلب على خراسان وما يليها! وذكر بعض خدم محمد أن محمدًا لما هم بخلع المأمون والبيعة لابنه؛ ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم؛ فشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول. وأقبل علي بن عيسى بن ماهان، فتبسم محمد، ثم قال: لكن شيخ هذه الدعوة، وناب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته، ثم رفعه إلى موضع لم أره رفعه إليه فيما مضى، فيقال: إنه أول القواد أجاب إلى خلع عبد الله، وتابع محمدًا على رأيه. قال أبو جعفر ك ولما عزم محمد على خلع عبد الله، قال له الفضل بن الربيع: ألا تعذر إليه يا أمير المؤمنين فإنه أخوك؛ ولعله يسلم هذا الأمرفي عافية، فتكون قد كفيت مؤونته، وسلمت من محاربته ومعاندته! قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكتب إليه كتابا، تستطيب به نفسه، وتسكن وحشته، وتسأله الصفح لك عما في يده؛ فإن ذلك أبلغ في التدبير، وأحسن في القالة من مكارثه بالجنود، ومعالجته بالكبد. فقال له: أعمل في ذلك برأيك. فلما حضر إسماعيل بن صبيح للكتاب إلى عبد الله قال: يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر ولكن اكتب فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته. فقال الفضل: القول ما قال يا أمير المؤمنين، قال: فليكتب بما رأى، قال: فكتب إليه: من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين. أما بعد، فإن أمير المؤمنين روى في أمرك، والموضع الذي أنت فيه من ثغره، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله، وقلده من أمور عباده وبلاده؛ وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله. وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور، وأصلح للجنود، وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعًا عن أهل بيتك، متغيبًا عن أمير المؤمنين أن يولى موسى بن أمير المؤمنين فيما يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك. فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل وأفسح رجاء وأحمد عاقبة وأنفذ بصيرة؛ فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه من صلاح أهل ملته وذمته. والسلام. ودفع الكتاب إلى العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وإلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك، وإلى صالح صاحب المصلى، وأمرهم أن يتوجهوا به إلى عبد الله المأمون، وألا يدعوا وجهًا من اللين والرفق إلا بلغوه، وسهلوا الأمر عليه فيه؛ وحمل بعضهم الأموال والألطاف والهدايا؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. فتوجهوا بكتابه، فلما وصلوا إلى عبد الله، أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد، وما كان بعث به معهم من الأموال والألطاف والهدايا. ثم تكلم العباس بن موسى بن عيسى، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الأمير؛ إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلًا عظيمًا، ومن النظر في أمور الناس عبئًا جليلًا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاة في العدل؛ وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه؛ وقد فزع إليك في أموره، وأملك للموازرة والمكانفة؛ ولسنا نستبطئك في بره اتهامًا لنصرك له، ولا نحضك على طاعة تخوفًا لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أنس عظيم، وصلاح لدولته وسلطانه؛ فأجب أيها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره؛ فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة. عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه. وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، فقال: إن الإكثار على الأمير - أيده الله - في القول خرق، والاقتصاد في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير؛ وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير المؤمنين ولم يستغن عن قربه، ومن شهد غيره من أهل بيته فلا يجد عنده غناءً، ولا يجد منه خلفًا ولا عوضًا؛ والأمير أولى من بر أخاه، وأطاع إمامه؛ فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين، بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته؛ فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين. وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك، فقال: أيها الأمير؛ إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين. وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعًا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فيما دعاك فنعمة عظيمة تتلافى بها رعيتك وأهل بيتك؛ وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك؛ ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على طاعتك ونصيحتك. وتكلم صاحب المصلى، فقال: أيها الأمير؛ إن الخلافة ثقيلة والأعوان قليل؛ ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده، والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أمور، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة. وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له! فحمد الله المأمون وأثنى عليه، ثم قال: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين أكرمه الله ما لا أنكره، من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه؛ وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي الروية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام؛ والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبيطًا ومدافعةً، ولا أتقدم عليه اعتسافًا وعجلة، وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه، شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته، وإيثار طاعته؛ فانصرفوا حتى أنظر في أمري، ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله. ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم. فذكر سفيان بن محمد أن المأمون لما قرأ الكتاب أسقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بن سهل، فأقرأه الكتاب، وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قال: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل عليك سبيلا؛ وأنت تجد من ذلك بدًا. قال: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد، وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده! وإنما الناس مائلون مع الدراهم، منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة، ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة. فقال له الفضل: إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق؛ ولأن تكون في جندك وعزك مقيمًا بين ظهراني أهل ولايتك أحرى؛ فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته؛ فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظًا مكرمًا، غير ملق بيديك، ولا ممكن عدوك من الاحتكام في نفسك ودمك. قال: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري، وصلاح من الأمور؛ كان خطبه يسيرًا، والاحتيال في دفعه ممكنًا؛ ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جبغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك كابل للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك إبراز بنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد؛ وأنا أعلم أن محمدًا لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به وببلاده، فبالحري أن آمن على نفسي، وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي. فقال له الفضل: أيها الأمير؛ إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزًا، ومقهور قد عاد قاهرًا مستطيلًا؛ وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أيسر من حرج الذل والضيم؛ وما أرى أن تفارق ما أنت فيه وتصير إلى طاعة محمد متجردًا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه، فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلى عذرًا في جهاد ولا قتال؛ ولكن اكتب إلى جبغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها، وسله الموادعة تجده على ذلك حريصًا، وسلم الملك إبرازبنده ضريبته في هذه السنة، وصيرها صلة منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال؛ فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرًا. فعرف عبد الله صدق ما قال، فقال: أعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى، وأنفذ الكتب إلى أولئك العصاة، فرضوا وأذعنوا؛ وكتب إلى من كان شاذًا عن مرو من القواد والجنود، فأقدمهم عليه، وكتب إلى طاهر بن الحسين وهو يومئذ عامل عبد الله على الري، فأمره أن يضبط ناحيته، وأن يجمع إليه أطرافه؛ ويكون على حذر وعدة من جيش إذا طرقه، أو عدو إن هجم عليه. واستعد للعرب، وتهيأ لدفع محمد عن بلاد خراسان. ويقال: إن عبد الله بعث إلى الفضل بن سهل فاستشاره في أمر محمد، فقال: أيها الأمير، أنظرني في يومي هذا أغد عليك برأيي؛ فبات يدبر الرأي ليلته؛ فلما أصبح غدًا عليه، فأعلمه أنه نظر في النجوم فرأى أنه سيغلبه، وأن العاقبة له. فأقام عبد الله بموضعه، ووطن نفسه على محاربة محمد ومناجزته. فلما فرغ عبد الله مما أراد إحكامه من أمر خراسان، كتب إلى محمد: لعبد الله محمد أمير المؤمنين من عبد الله بن هارون؛ أما بعد؛ فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين؛ وإنما أنا عامل من عماله وعون من أعوانه، أمرني الرشيد صلوات الله عليه بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين؛ ولعمري إن مقامي به، أرد على أمير المؤمنين وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطًا بقربه، مسرورًا بمشاهدة نعمة الله عنده؛ فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه، فعل إن شاء الله والسلام. ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمدًا وصالحًا؛ فدفع الكتاب إليهم، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره. قال سفيان بن محمد: لما قرأ محمد كتاب عبد الله، عرف أن المأمون لا يتابعه على القدوم إليه، فوجه عصمة بن حماد بن سالم صاحب حرسه، وأمره أن يقيم مسلحةً فيما بين همذان والري، وأن يمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة، وأن يفتش المارة، فلا يكون معهم كتب بأخباره وما يريد؛ وذلك في سنة أربع وتسعين ومائة. ثم عزم على محاربته، فدعا علي بن عيسى بن ماهان، فعقد له خمسين ألف فارس ورجل من أهل بغداد، ودفع إليه دفاتر الجند، وأمره أن ينتقي ويتخير من أراد على عينه، ويخص من أحب ويرفع من أراد إلى الثمانين، وأمكنه من السلاح وبيوت الأموال، ثم وجهوا إلى المأمون. فذكر يزيد بن الحارث، قال: لما أراد علي الشخوص إلى خراسان ركب إلى باب أم جعفر، فودعها، فقالت: يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي؛ إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري؛ فإني على عبد الله منعطفة ومشفقة، لما يحدث عليه من مكروه وأذى؛ وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، وغاره على ما في يده؛ والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره؛ فاعرف لعبد اله حق والده وأخوته، ولا تجبه بالكلام، فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادمًا، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير؛ ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده. ثم دفعت إليه قيدًا من فضة، فقالت: إن صار في يدك فقيده بهذا القيد. فقال لها: سأقبل أمرك، وأعمل في ذلك بطاعتك. وأظهر محمد خلع المأمون، وبايع لابنيه - في جميع الآفاق إلا خراسان - موسى وعبد الله؛ وأعطى عند بيعتهما بني هاشم والقواد والجند الأموال والجوائز، وسمى موسى الناطق بالحق، وسمى عبد الله القائم بالحق. ثم خرج علي بن عيسى لسبع ليال خلون من شعبان سنة خمس وتسعين ومائة من بغداد حتى عسكر بالنهروان، وخرج معه يشيعه محمد، وركب القواد والجنود، وحشرت الأسواق، وأشخص معه الصناع والفعلة؛ فيقال: إن عسكره كان فرسخًا بفسطاطيه وأهبته وأثقاله، فذكر بعض أهل بغداد أنهم لم يروا عسكرًا كان أكثر رجالًا، وأفره كراعًا، وأظهر سلاحًا، وأتم عدة، وأكمل هيئة؛ من عسكره. وذكر عمر بن سعيد أن محمدًا لما جاز باب خراسان نزل علي فترجل، وأقبل يوصيه، فقال: امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء؛ وول الري يحيى بن علي، واضمم إليه جندًا كثيفًا، ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجبى من خراجها؛ وول كل كورة ترحل عنها رجلًا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخًا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحدًا رماك بسهم، أو طعن في أصحابك برمح؛ ولا تأذن لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة من اليوم الذي تظهر فيه عليه؛ فإذا أشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك؛ فإن غره الشيطان فناصبك فاحرص أن تأسره أسرًا، وإن هرب منك إلى بعض كور خراسان فتول إليه المسير بنفسك. أفهمت كل ما أوصيك به؟ قال: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين! قال: سر على بركة الله وعونه! وذكر أن منجمه أتاه فقال: أصلح الله الأمير! لو انتظرت بمسيرك صلاح القمر؛ فإن النحوس عليه عالية، والسعود عنه ساقطة منصرفة! فقال لغلام له: يا سعيد؛ قل لصاحب المقدمة يضرب بطبله ويقدم علمه؛ فإنا لا ندري ما فساد القمر من صلاحه؛ غير أنه من نازلنا نازلناه، ومن وادعنا وادعناه وكففنا عنه؛ ومن حاربنا وقاتلنا لم يكن لنا إلا إرواء السيف من دمه. إنا لا نعتد بفساد القمر؛ فإنا وطنا أنفسنا على صدق اللقاء ومناجزة الأعداء. قال أبو جعفر: وذكر بعضهم أنه قال: كنت فيمن خرج في معسكر علي بن عيسى بن ماهان؛ فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان؛ فكان يسألها عن الأخبار، يستطلع علم أهل خراسان؛ فيقال له: إن طاهرًا مقيم بالري يعرض أصحابه، ويرم آلته، فيضحك ثم يقول: وما طاهر! فوالله ما هو إلا شوكة من أغصاني، أو شرارة من ناري؛ وما مثل طاهر يتولى علي الجيوش، ويلقى الحروب؛ ثم اتفت إلى أصحابه فقال: والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف؛ إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد؛ فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظباة السيوف وأسنة الرماح. وذكر يزيد بن الحارث أن علي بن عيسى لما صار إلى عقبة همذان استقبل قافلة قدمت من خراسان، فسأله عن الخبر، فقالوا: إن طاهرًا مقيم بالري، وقد استعد للقتال، واتخذ آلة الحرب، وإن المدد يترى عليه من خراسان وما يليها من الكور؛ وإنه في كل يوم يعظم أمره، ويكثر أصحابه؛ وإنهم يرون أنه صاحب جيش خراسان. قال علي: فهل شخص من أهل خراسان أحد يعتد به؟ قالوا: لا؛ غير أن الأمور بها مضطربة، والناس رعبون، فأمر بطي المنازل والمسير، وقال لأصحابه: إن نهاية القوم الري، فلو قد صيرناها خلف ظهورنا فت ذلك في أعضادهم، وانتشر نظامهم، وتفرقت جماعتهم. ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وجبال طبرستان وما والاها من الملوك، يعدهم الصلات والجوائز. وأهدى إليهم التيجان والأسورة والسيوف المحلاة بالذهب، وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان، ويمنعوا من أراد الوصول إلى طاهر من المدد؛ فأجابوه إلى ذلك، وسار حتى صار في أول البلاد الري، وأتاه صاحب مقدمته، فقال: لو كنت - أبقى الله أمير المؤمنين - أذكيت العيون، وبعثت الطلائع، وارتدت موضعًا تعسكر فيه، وتتخذ خندقًا لأصحابك يأمنون به؛ كان ذلك أبلغ في الرأي، وآنس للجند. قال: لا؛ ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ؛ إن حال طاهر تؤول إلى أحد أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلها فيكفوننا مؤنته، أو يخليها ويدبر راجعًا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه. واتاه يحيى بن علي، فقال: اجمع متفرق العسكر واحذر على جندك البيات، ولا تسرح الخيل إلا ومعها كنف من القوم؛ فإن العساكر لا تساس بالتواني، والحروب لا تدبر بالاغترار؛ والثقة أن تحترز، ولا تقل: إن المحارب أي طاهر؛ فالشرارة الخفية ربما صارت ضرامًا، والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحرًا عظيمًا؛ وقد قربت عساكرنا من طاهر؛ فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا. قال: اسكت؛ فإن طاهرًا ليس في هذا الموضع الذي ترى؛ وإنما تتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها، وتستعد إذا كان المناوئ لها أكفاءها ونظراءها. وذكر عبد الله بن مجالد، قال: أقبل علي بن عيسى حتى نزل من الري على عشرة فراسخ، وبها طاهر قد سد أبوابها، ووضع المسالح على طرقها، واستعد لمحاربته؛ فشاور طاهر أصحابه، فأشاروا عليه أن يقيم بمدينة الري، ويدافع القتال ما قدر عليه إلى أن يأتيه المدد من الخيل، وقائد يتولى الأمر دونه، وقالوا: إن مقامك بمدينة الري أرفق بأصحابك، وأقدر لهم على المبرة، وأكن من البرد، وأحرى إن دهمك قتال أن يعتصموا بالبيوت، وتقوى على المماطلة والمطاولة؛ إلى أن يأتيك مدد، أو ترد عليك قوة من خلفك. فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم؛ إن أهل الري لعلي هائبون، ومن معرته وسطوته متقون؛ ومعه من قد بلغكم من أعراب البوادي وصعاليك الجبال ولفيف القرى؛ ولست آمن إن هجم علينا مدينة الري أن يدعوا أهلها خوفهم إلى الوثوب بنا، ويعينوه على قتالنا،؛ مع أنه لم يكن قوم قط رعبوا في ديارهم، وتورد عليهم عسكرهم إلا وهنوا وذلوا، وذهب عزهم واجترأ عليهم عدوهم. وما الرأي إلا أن نصير مدينة الري قفا ظهورنا؛ فإن أعطانا الله الظفر، وإلا عولنا عليها فقاتلنا في سككها، وتحصنا في منعتها إلى أن يأتينا مدد أو قوة من خراسان. قالوا: الرأي ما رأيت. فنادى طاهر في أصحابه فخرجوا. فعسكروا على خمسة فراسخ من الري بقرية يقال لها كلواص؛ وأتاه محمد بن العلاء فقال: أيها الأمير؛ إن جندك قد هابوا هذا الجيش، وامتلأت قلوبهم خوفًا ورعبًا، فلو أقمت بمكانك، ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم! فقال: لا؛ إني لا أوتى من قلة تجربة وحزم؛ إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم، فإن دافعت القتال، وأخرت المناجزة لم آمن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا؛ وأن يستميلوا من معي برغبة أو رهبة، فينفر عني أكثر أصحابي، ويخذلني أهل الحفاظ والصبر، ولكن ألف الرجال بالرجال، وألحم الخيل بالخيل، واعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بفضل الشهادة؛ فإن يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو؛ وإن تكن الأخرى؛ فلست بأول من قاتل فقتل، وما عند الله أجزل وأفضل. وقال علي لأصحابه: بادروا القوم؛ فإن عددهم قليل، ولو زحفتم إليهم لم يكن لهم صبر على حرارة السيوف وطعن الرماح. وعبأ جنده ميمنة وميسرة وقلبًا؛ وصير عشر رايات؛ في كل راية ألف رجل، وقدم الرايات رايةً رايةً، فصير بين كل راية وراية غلوة، وأمر أمراءها: إذا قاتلت الأولى فصبرت وحمت وطال بها القتال أن تقدم التي تليها وتؤخر التي قاتلت حتى ترجع إليها أنفسها، وتستريح وتنشط للمحاربة والمعاودة. وصير أصحاب الدروع والجواشن والخوذ أمام الرايات، ووقف في القلب في أصحابه من آهل البأس والحفاظ والنجدة منهم. وكتب طاهر بن الحسين كتائبه وكردس كراديسه، وسوى صفوفه، وجعل يمر بقائد قائد، وجماعة جماعة؛ فيقول: يا أولياء الله وأهل الوفاء والشكر؛ إنكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النكث والغدر؛ إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما عظمتم، ونكثوا الأيمان التي رعيتم؛ وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على الغدر والجهل؛ أصحاب سلب ونهب؛ فلو قد غضضتم الأبصار، وأثبتم الأقدام! قد أنجز الله وعده، وفتح عليكم أبواب عزه ونصره؛ فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار عن دينكم، ودافعوا بحقكم باطلهم؛ فإنما هي ساعة واحدة حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين. وقلق قلقًا شديدًا، وأقبل يقول: يا أهل الوفاء والصدق؛ الصبر الصبر الحفاظ الحفاظ! وتزاحف الناس بعضهم إلى بعض، ووثب أهل الري، فغلقوا أبواب المدينة، ونادى طاهر: يا أولياء الله، اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم؛ فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق. وتلاحموا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر الفريقان جميعًا، وعلت ميمنة علي على ميسرة طاهر ففضتها فضًا منكرًا، وميسرته على ميمنته فأزالتها عن موضعها. وقال طاهر: اجعلوا بأسكم وجدكم على كراديس القلب؛ فإنكم لو فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها على أواخرها. فصبر أصحابه صبرًا صادقا، ثم حملوا على أوائل رايات القلب فهزموهم؛ وأكثروا فيهم القتل؛ ورجعت الرايات بعضها على بعض، وانتقضت ميمنة علي. ورأى أصحاب ميمنة طاهر وميسرته ما عمل أصحابه، فرجعوا على من كان في وجوههم، فهزموهم، وانتهت الهزيمة إلى علي فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الأسورة والأكاليل! يا معشر الأبناء، إلى الكرة بعد الفرة؛ معاودة الحرب من الصبر فيها. ورماه رجل من أصحاب طاهر بسهم فقتله، ووضعوا فيهم السيوف يقتلونهم ويأسرونهم؛ حتى حال الليل بينهم وبين الطلب، وغنموا غنيمة كثيرة؛ ونادى طاهر في أصحاب علي: من وضع سلاحه فهو آمن، فطرحوا أسلحتهم، ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى مدينة الري، وبعث بالأسرى والرءوس إلى المأمون. وذكر أن عبد الله بن علي بن عيسى طرح نفسه في ذلك اليوم بين القتلى، وقد كانت به جراحات كثيرة، فلم يزل بين القتلى متشبها بهم يومه وليلته؛ حتى أمن الطلب، ثم قام فانضم إلى جماعة من فل العسكر، ومضى إلى بغداد، وكان من أكابر ولده. وذكر سفيان بن محمد أن عليًا لما توجه إلى خراسان بعث المأمون إلى من كان معه من القواد يعرض عليهم قتاله رجلًا رجلًا؛ فكلهم يصرخ بالهيبة، ويعتل بالعلل، ليجدوا إلى الإعفاء من لقائه ومحاربته سبيلًا. وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر، بخبر علي وما أوقع الله به، قعد للناس؛ فكانوا يدخلون فيهنئونه ويدعون له بالعز والنصر. وإنه في ذلك اليوم أعلن خلع محمد، ودعي له بالخلافة في جميع كور خراسان وما يليها، وسر أهل خراسان، وخطب بها الخطباء، وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول شاعر من أهل خراسان: أصبحت الأمة في غبطةٍ ** من أمر دنياها ومن دينها إذ حفظت عهد إمام الهدى ** خير بني حواء مأمونها على شفًا كانت فلما وفت ** تخلصت من سوء تحيينها قامت بحق الله إذ زبرت ** في ولده كتب دواوينها ألا تراها كيف بعد الردى ** وفقها الله لتزيينها! وهي أبيات كثيرة. وذكر علي بن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل، أرجف الناس ببغداد إرجافًا شديدًا، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة خمس وتسعين ومائة، فقالوا: إن عليًا قد قتل، ولسنا نشك أن محمدًا يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع؛ وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها؛ فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز؛ فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا، ويصلح جندنا. فاتفق على ذلك رأيهم وأصبحوا، فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز. وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وسمع محمد التكبير والضجيج؛ فأرسل بعض مواليه أن يأتيه بالخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم. قال: فهل يطلبون شيئًا غير الأرزاق؟ قال: لا، قال: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله بن خازم فمره فلينصرف عنهم؛ ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز. توجيه الأمين عبد الرحمن بن جبلة لحرب طاهر وفي هذه السنة وجه محمد المخلوع عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي إلى همذان لحرب طاهر. ذكر الخبر عن ذلك ذكر عبد الله بن صالح أن محمدًا لما انتهى إليه قتل علي بن عيسى بن ماهان، واستباحة طاهر عسكره، وجه عبد الرحمن الأبناوي في عشرين ألف رجل من الأبناء، وحمل معه الأموال، وقواه بالسلاح والخيل، وأجازه بجوائز، وولاه حلوان إلى ما غلب عليه من أرض خراسان، وندب معه فرسان الأبناء وأهل البأس والنجدة والغناء منهم، وأمره بالإنكماش في السير، وتقليل اللبث والتضجع؛ حتى ينزل مدينة همذان، فيسبق طاهرًا إليها، ويخندق عليه وعلى أصحابه، ويجمع إليه آلة الحرب، ويغادي طاهرًا وأصحابه إلى القتال. وبسط يده وانفذ أمره في كل ما يريد العمل به، وتقدم إليه في التحفظ والاحتراس، وترك ما عمل به من الاغترار والتضجع، فتوجه عبد الرحمن حتى نزل مدينة همذان، فضبط طرقها، وحصن سورها وأبوابها، وسد ثلمها، وحشر إليها الأسواق والصناع، وجمع الآلات والمير، واستعد للقاء طاهر ومحاربته. بين الري وهمذان؛ فكان لا يمر به أحد من قبل أبيه إلا احتسبه؛ وكان يرى أن محمدًا سيوليه مكان أبيه، ويوجه إليه الخيل والرجال؛ فأراد أن يجمع الفل إلى أن يوافيه القوة والمدد؛ وكتب إلى محمد يستمده ويستنجده؛ فكتب إليه محمد يعلمه توجيه عبد الرحمن الأبناوي، ويأمره بالمقام موضعه؛ وتلقى طاهر فيمن معه؛ وإن احتاج إلى قوة ورجال كتب إلى عبد الرحمن فقواه وأعانه. فلما بلغ طاهرًا الخبر توجه نحو عبد الرحمن وأصحابه، فلما قرب من يحيى، قال يحيى لأصحابه: إن طاهرًا قد قرب منا ومعه من تعرفون من رجال خراسان وفرسانها، وهو صاحبكم بالأمس، ولا آمن عن لقيته بمن معي من هذا الفل أن يصدعنا صدعًا يدخل وهنه على من خلفنا، وأن يعتل عبد الرحمن بذلك، ويقلدني به العار والوهن والعجز عند أمير المؤمنين، وأن أستنجد به وأقمت على انتظار مدده؛ لم آمن أن يمسك عنا ضنًا برجاله وإبقاءً عليهم، وشحًا بهم على القتل؛ ولكن نتزاحف إلى مدينة همذان فنعسكر قريبًا من عبد الرحمن؛ فإن استعنا به قرب منا عونه؛ وإن احتاج إلينا أعناه وكنا بفنائه، وقاتلنا معه. قالوا: الرأي ما رأيت؛ فانصرف يحيى، فلما قرب من مدينة همذان خذله أصحابه، وتفرق أكثر من كان اجتمع إليه، وقصد طاهر لمدينة همذان؛ فأشرف عليها، ونادى عبد الرحمن في أصحابه، فخرج على تعبية، فصادف طاهرًا، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر الفريقان جميعًا، وكثر القتلى والجرحى فيهم. ثم إن عبد الرحمن انهزم، فدخل مدينة همذان، فأقام بها أيامًا حتى قوي أصحابه، واندمل جرحاهم، ثم أمر بالاستعداد، وزحف إلى طاهر؛ فلما رأى طاهر أعلامه وأوائل أصحابه قد طلعوا، قال لأصحابه: إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم؛ فإذا قربتم منه قاتلكم؛ فإن هزمتموه بادر إلى المدينة فدخلها، وقاتلكم على خندقها، وامتنع بأبوابها وسورها؛ وإن هزمكم اتسع لهم المجال عليكم، وأمكنته سعة المعترك من قتالكم، وقتل من انهزم وولى منكم؛ ولكن قفوا من خندقنا وعسكرنا قريبًا؛ فإن تقارب منا قاتلناه؛ وإن بعد من خندقهم قربنا منه. فوقف طاهر مكانه، وظن عبد الرحمن أن الهيبة بطأت به من لقائه والنهود إليه، فبادر قتاله فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وصبر طاهر، وأكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن، وجعل عبد الرحمن يقول لأصحابه: يا معشر الأبناء، يا أبناء الملوك وألفاف السيوف؛ إنهم العجم، وليسوا بأصحاب مطاولة ولا صبر؛ فاصبروا لهم فداكم أبي وأمي! وجعل يمر على راية راية، فيقول: اصبروا؛ إنما صبرنا ساعة، هذا أول الصبر والظفر. وقات بيديه قتالًا شديدًا، وحمل حملات منكرة ما منها حملة إلا وهو يكثر في أصحاب طاهر القتل؛ فلا يزول أحد ولا يتزحزح. ثم إن رجلًا من أصحاب طاهر حمل على أصحاب علم عبد الرحمن فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر زحمة شديدة، فولوهم أكتافهم، فوضعوا فيهم السيوف، فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا بهم إلى باب مدينة همذان؛ فأقام طاهر على باب المدينة محاصرًا لهم وله؛ فكان عبد الرحمن يخرج في كل يوم فيقاتل على أبواب المدينة، ويرمي أصحابه بالحجارة من فوق السور، واشتد بهم الحصار، وتأذى بهم أهل المدينة، وتبرموا بالقتال والحرب، وقطع طاهر عنهم المادة من كل وجه. فلما رأى عبد الرحمن، ورأى أصحابه قد هلكوا وجهدوا، وتخوف أن يثب به أهل همذان أرسل إلى طاهر فسأله الأمان له ولمن معه؛ فآمنه طاهر ووفى له، واعتزل عبد الرحمن فيمن كان استأمن معه من أصحابه وأصحاب يحيى بن علي. تسمية طاهر بن الحسين ذا اليمينين وفي هذه السنة سمي طاهر بن الحسين ذا اليمينين. ذكر الخبر عن ذلك قد مضى الخبر عن السبب الذي من أجله سمي بذلك، ونذكر الذي سماه بذلك. ذكر أن طاهرًا لما هزم جيش علي بن عيسى بن ماهان، وقتل علي بن عيسى، وكتب إلى الفضل بن سهل: أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداك! كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي، والحمد لله رب العالمين. فنهض الفضل، فسلم على المأمون بأمير المؤمنين؛ فأمد المأمون طاهر بن الحسين بالرجال والقواد، وسماه ذا اليمين، وصاحب حبل الدين، ورفع من كان معه في دون الثمانين إلى الثمانين. ظهور السفياني بالشام وفي هذه السنة ظهر بالشأم السفياني علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فدعا إلى نفسه؛ وذلك في ذي الحجة منها، فطرد عنها سليمان بن أبى جعفر بعد حصره إياه بدمشق - وكان عامل محمد عليها - فلم يفلت منه إلا بعد اليأس، فوجه إليه محمد المخلوع الحسين بن علي بن ماهان، فلم ينفذ إليه؛ ولكنه لما صار إلى الرقة أقام بها. طرد طاهر عمال الأمين عن قزوين وكور الجبال وفي هذه السنة طرد طاهر عمال محمد عن قزوين وسائر كور الجبال. ذكر الخبر عن سبب لك ذكر علي بن عبد الله بن صالح أن طاهرًا لما توجه إلى عبد الرحمن الأبناوي بهمذان، تخوف أن يثب به كثير بن قادرة - وهو بقزوين عامل من عمال محمد - في جيش كثيف إن هو خلفه وراء طهره؛ فلما قرب طاهر من همذان أمر أصحابه بالنزول فنزلوا. ثم ركب في ألف فارس وألف راجل، ثم قصد كثير بن قادرة، فلما قرب منه هرب كثير وأصحابه. وأخلى قزوين، وجعل طاهر فيها جندًا كثيفًا، وولاها رجلًا من أصحابه، وأمر أن يحارب من أراد دخولها من أصحاب عبد الرحمن الأبناوي وغيرهم. ذكر قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي وفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي بأسداباذ. ذكر الخبر عن مقتله ذكر عبد الرحمن بن صالح أن محمدًا المخلوع لما وجه عبد الرحمن الأبناوي إلى همذان، أتبعه بابني الحرشي: عبد الله وأحمد، في خيل عظيمة من أهل بغداد، وأمرهما أن ينزلا قصر اللصوص، وأن يسمعا ويطيعا لعبد الرحمن، ويكونا مددًا له إن احتاج إلى عونهما. فلما خرج عبد الرحمن إلى طاهر في الأمان أقام عبد الرحمن يري طاهرًا وأصحابه أنه له مسالم، راض بعهودهم وأيمانهم؛ ثم اغترهم وهم آمنون. فركب في أصحابه، فلم يشعر طاهر وأصحابه حتى هجموا عليهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثبت لهم رجالة أصحاب طاهر بالسيوف والتراس والنشاب، وجثوا على الركب، فقاتلوه كأشد ما يكون من القتال، ودافعهم الرجال إلى أن أخذت الفرسان عدتها وأهبتها، وصدقوهم القتال، فاقتتلوا قتالًا منكرًا، حتى تقطعت السيوف، وتقصفت الرماح. ثم إن أصحاب عبد الرحمن هربوا، وترجل هو في ناس من أصحابه، فقاتل حتى قتل، فجعل أصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب؛ فإن القوم قد كلوا من القتال، وأتعبتهم الحرب، وليس بهم حراك ولا قوة على الطلب، فيقول: لا أرجع أبدًا، ولا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزمًا. وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة، واستبيح عسكره، وانتهى من أفلت من أصحابه إلى عسكر عبد الله وأحمد ابني الحرشي، فدخلهم الوهن والفشل، وامتلأت قلوبهم خوفًا ورعبًا فولوا منهزمين لا يلوون على شيء من غير أن يلقاهم أحد؛ حتى صاروا إلى بغداد، وأقبل طاهر وقد خلت له البلاد، يحوز بلدةً بلدةً، وكورةً كورةً؛ حتى نزل بقرية من قرى حلوان يقال لها شلاشان؛ فخندق بها، وحصن عسكره، وجمع إليه أصحابه. وقال رجل من الأبناء يرثي عبد الرحمن الأبناوي: ألا إنما تبكي العيون لفارس ** نفى العار عنه بالمناصل والقنا تجلى غبار الموت عن صحن وجهه ** وقد أحرز العليا من المجد واقتنى فتى لا يبالي إن دنا من مروءةٍ ** أصاب مصون النفس أو ضيع الغنى يقيم لأطراف الذوابل سوقها ** ولا يرهب الموت المتاح إذ ادنا وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة من قبل محمد بن هارون داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو الذي حج بالناس في هذه السنة وسنتين قبلها وذلك سنة ثلاث وتسعين ومائة، وأربع وتسعين ومائة. وعلى الكوفة العباس بن موسى الهادي من قبل محمد. وعلى البصرة منصور بن المهدي من قبل محمد. وبخراسان المأمون، وببغداد أخوه محمد. ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر توجيه الأمين الجيوش لحرب طاهر بن الحسين فمما كان من ذلك حبس محمد بن هارون أسد بن يزيد بن مزيد، وتوجيهه أحمد بن مزيد وعبد الله بن حميد بن قحطبة إلى حلوان لحرب طاهر. ذكر الخبر عن سبب حبسه وتوجيهه من ذكرت ذكر عبد الرحمن بن وثاب أن أسد بن يزيد بن مزيد حدثه، أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن الأبناوي. قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدًا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها، واحمرت عيناه واشتد غضبه، وهو يقول: ينام نوم الظربان؛ وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاء والكلاب ترصده. لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة؛ قد ألهاه كأسه وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه؛ قد شمر عبد الله له عن ساقه، وفوق له أصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متن الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف. ثم استرجع، وتمثل بشعر البعيث: ومجدولة جدل العنان خريدة ** لها شعر جعد ووجه مقسم وثغر نقي اللون عذب مذاقه ** تضيء لها الظلماء ساعة تبسم وثديان كالحقين، والبطن ضامر ** خميص، وجهم ناره تتضرم لهوت بها ليل التمام ابن خالدٍ ** وأنت بمرو الروذ غيظًا تجرم أظل أناغيها وتحت ابن خالدٍ ** أمية نهد المركلين عثمثم طواه طراد الخيل في كل غارة ** لها عارض فيه الأسنة ترزم يقارع أتراك ابن خاقان ليلةً ** إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم فيصبح من طول الطراد، وجسمه ** نحيل وأضحى في النعيم أصمصم أباكرها صهباء كالمسك ريحها ** لها أرج في دنها حين ترشم فشتان ما بيني وبين ابن خالد ** أمية في الرزق الذي الله قاسم ثم التفت إلي فقال: يا أبا الحارث، أنا وإياك نجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا؛ وإنما نحن شعب من أصل؛ إن قوي قوينا؛ وإن ضعف ضعفنا؛ إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا؛ وقد أمكن مسامعه من أهل اللهو والجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام؛ والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل؛ وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه؛ فارس العرب وابن فارسها؛ قد فزع إليك في لقاء هذا الرجل وأطمعه فيما قبلك أمران؛ أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك، والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك؛ وقد أمرني إزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت؛ غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك؛ فإني أرجو أن يوليك الله شرف هذا الفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة. فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين - أعزه الله - وطاعتك مقدم، ولكل ما أدخل الوهن والذل على عدوه وعدوك حريص؛ غير أن المحارب لا يعمل بالغرور، ولا يفتتح أمره بالتقصير والخلل؛ وإنما ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال؛ وقد ملأ أمير المؤمنين أعزه الله أيدي من شهد العسكر من جنوده، وتابع لهم الأرزاق والدارة والصلات والفوائد الجزيلة، فإن سرت بأصحابي وقلوبهم متطلعة إلى من خلفهم من إخوانهم لم أنتفع بهم في لقاء من أمامي، وقد فضل أهل السلم على أهل الحرب، وجاز بأهل الدعة منازل أهل النصب والمشقة؛ والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، ويحمل معهم أرزاق سنة، ويخص من لا خاصة له منهم من أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الزمنى والضعفاء، وأحمل ألف رجل ممن معي على الخيل؛ ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. فقال: قد اشتططت؛ ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين. ثم ركب وركبت معه، فدخل قبلي على محمد، وأذن لي فدخلت، فما كان بيني وبينه إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي. وذكر عن بعض خاصة محمد أن أسدًا قال لمحمد: ادفع إلي ولدي عبد الله المأمون حتى يكونا أسيرين في يدي؛ فإن أعطاني الطاعة، وألقى إلي بيده، وإلا عملت فيهما أمري. فقال: أنت أعرابي مجنون؛ أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وارفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط. وكان ببغداد ابنان لعبد الله المأمون، وهما مع أمهما أم عيسى ابنة موسى الهادي، نزولأ في قصر المأمون ببغداد؛ فلما ظفر المأمون ببغداد خرجا إليه مع أمهما إلى خراسان؛ فلم يزالا بها حتى قدموا بغداد، وهما اكبر ولده. وذكر عن زياد بن علي، قال: لما غضب محمد على أسد بن زيد، وأمر بحبسه، قال: هل في أهل بيت هذا من يقوم من مقامه؛ فإني أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم؟ قالوا: نعم؛ فيهم أحمد بن مزيد، وهو أحسنهم طريقة، وأصحهم نية في الطاعة، وله مع هذا بأس ونجده وبصر بسياسة الجنود ولقاء الحروب؛ فأنفذ إليه محمد بريدًا يأمره بالقدوم عليه؛ فذكر بكر بن أحمد، قال: كان أحمد متوجهًا إلى قرية تدعى إسحاقية، ومعه نفر من أهل بينه ومواليه وحشمه؛ فلما جاوز نهر أبان سمع صوت بريد في جوف الليل، فقال: إن هذا لعجيب، بريد في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا الموضع! إن هذا الأمر لعجيب. ثم لم يلبث البريد أن وقف، ونادى الملاح: هل معك أحمد ابن مزيد؟ قال: نعم؛ فنزل فدفع إليه كتاب محمد، فقرأه ثم قال: إني قد بلغت ضيعتي؛ وإنما بيني وبينها ميل؛ فدعني أقعها وقعة فآمر فيها بما أريد ثم أغدو معك، فقال: لا، إن أمير المؤمنين أمرني ألا أنظرك ولا أرفهك؛ وأن أشخصك أي ساعة صادفتك فيها؛ من ليل أو نهار فانصرف معه حتى الكوفة، فأقام بها يومًا حتى تجمل وأخذ أهبة السفر، ثم مضى إلى محمد. فذكر عن أحمد، قال: لما دخلت بغداد، بدأت بالفضل بن الربيع، فقلت: أسلم عليه، وأستعين بمنزلته ومحضره عند محمد؛ فلما أذن لي دخلت عليه؛ وإذا عنده عبد الله بن حميد بن قحطبة، وهو يريده على الشخوص إلى طاهر، وعبد الله يشتط عليه في طلب المال والإكثار من الرجال؛ فلما رآني رحب بي وأخذ بيدي، ورفعني حتى صيرني معه على صدر المجلس، وأقبل على عبد الله يداعبه ويمازحه، فتبسم في وجهه، ثم قال: إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم ** من آل شيبان أما دونكم وأبا الأكثرون إذا عد الحصى عددًا ** والأقربون إلينا منكم نسبا فقال عبد الله: إنهم لكذلك؛ وإن منهم لسد الخلل ونكاء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة. ثم أقبل على الفضل، فقال: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له بحسن الطاعة وفضل النصيحه والشدة على أهل المعصيه، والتقدم بالرأي، فاحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك. والتفت إلى خادمه، فقال: يا سراج؛ مر دوابي، فلم ألبث أن أسرج له، فمضى ومضيت معه، حتى دخلنا على محمد وهو في صحن داره، له ساج، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت ألاصقه، فقال: إنه قد كثر علي تخليط ابن أخيك وتنكره، وطال خلافه علي حتى أوحشني ذلك منه، وولد في قلبي التهمة له، وصيرني لسوء المذهب وخبث الطاعة إلى أن تناولته من الأدب والحبس بما لم أحب أن أكون أتناوله، وقد وصفت لي بخير، ونسبت إلى جميل فأحببت أن أرفع قدرك وأعلي منزلتك، وأقدمك على أهل بيتك، وأن أوليك جهاد هذه الفئة الباغية الناكثة، وأعرضك للأجر والثواب في قتالهم ولقائهم؛ فانظر كيف تكون، وصحح نيتك، وأعن أمير المؤمنين على اصطناعك، وسره في عدوه ينعم سرورك وتشريفك. فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين أعزه الله مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي، ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله. فقال: يا فضل، قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ادفع إليه دفاتر أصحاب أسد، واضمم إليه من شهد العسكر من رجال الجزيرة والأعراب، وقال: أكمش على أمرك، وعجل المسير إليه. فخرجت فانتخبت الرجال واعترضت الدفاتر، فبلغت عدة من صححت اسمه عشرين ألف رجل. ثم توجهت بهم إلى حلوان. وذكر أن أحمد بن مزيد لما أراد الشخوص دخل على محمد، فقال: أوصني أكرم الله أمير المؤمنين! فقال: أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي، فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلًا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفًا إلا بعد إعذار؛ ومهما قدرت باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي؛ ولا تستقها فيما تتخوف رجوعه علي، وكن لعبد الله أخًا مصافيًا، وقرينًا برًا، وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته، ولا تخذله إن استنصرك، ولا تبطئ عنه إذا استصرخك؛ ولتكن أيديكما واحدةً، وكلمتكما متفقة. ثم قال: سل حوائجك، وعجل السراح إلى عدوك. فدعا له أحمد، وقال: يا أمير المؤمنين، كثر لي الدعاء ولا تقبل في قول باغ، ولا ترفضني قبل المعرفة بموضع قدمي لك، ولا تنقض علي ما استجمع من رأي، ومن علي بالصفح عن ابن أخي، قال: ذلك لك. ثم بعث إلى أسد فحل قيوده وخلى سبيله، فقال أبو الأسد الشيباني في ذلك يمدح أحمد ويذكر حاله ومنزلته: ليهن أبو العباس رأي إمامه ** وما عنده منه القضا بمزيد دعاه أمير المؤمنين إلى التي ** يقصر عنها ظل كل عميد فبادرها بالرأي والحزم والحجى ** ورأي أبي العباس رأي سديد نهضت بما أعيا الرجال بحمله ** وأنت بسعد حاضر وسعيد رددت بها للرائدين أعزهم ** ومثلك والى طارفًا بتليد كفى أسدًا ضيق الكبول وكربها ** وكان عليه عاطفًا كيزيد وحصله فيها كليث غضنفر ** أبي أشبل عبل الذراع مديد وذكر يزيد بن الحارث أن محمدًا وجه أحمد بن مزيد في عشرين ألف رجل من الأعراب، وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألف رجل من الأبناء، وأمرهما أن ينزلا حلوان، ويدفعا طاهرًا وأصحابه عنها؛ وإن أقام طاهر بشلاشان أن يتوجها إليه في أصحابهما حتى يدفعاه، وينصبا له الحرب، وتقدم إليهما في اجتماع الكلمة والتواد والتحاب على الطاعة؛ فتوجها حتى نزلا قريبًا من حلوان بموضع يقال له خانقين، وأقام طاهر بموضعه، وخندق عليه وعلى أصحابه، ودس الجواسيس والعيون إلى عسكريهما؛ فكانوا يأتونهم بالأراجيف، ويخبرونهم أن محمدًا قد وضع العطاء لأصحابه؛ وقد أمر لهم من الأرزاق بكذا وكذا؛ ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا، وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضًا، فأخلوا خانقين، ورجعوا عنها من غير أن يلقوا طاهرًا، ويكون بينهم وبينه قتال. وتقدم طاهر حتى نزل حلوان؛ فلما دخل طاهر حلوان لم يلبث إلا يسيرًا حتى أتاه هرثمة بن أعين بكتاب المأمون والفضل بن سهل، يأمرانه بتسليم ما حوى من المدن والكور إليه، والتوجه إلى الأهواز، فسلم ذلك إليه، وأقام هرثمة بحلوان فحصنها ووضع مسالحه ومراصده في طرقها وجبالها، وتوجه طاهر إلى الأهواز. ذكر رفع منزلة الفضل بن سهل عند المأمون وفي هذه السنة رفع المأمون منزلة الفضل بن سهل وقدره. ذكر الخبر عما كان من المأمون إليه في ذلك ذكر أن المأمون لما انتهى إليه الخبر عن قتل طاهر علي بن عيسى واستيلائه على عسكره وتسميته إياه أمير المؤمنين؛ وسلم الفضل بن سهل عليه بذلك، وصح عنده الخبر عن قتل طاهر عبد الرحمن بن جبلة الأبناوي وغلبته على عسكره، دعا الفضل بن سهل، فعقد له في رجب من هذه السنة على المشرق؛ من جبل همذان إلى جبل سقينان والتبت طولًا، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الديلم وجرجان عرضًا؛ وجعل عمالته ثلاثة آلاف ألف درهم، وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين، وأعطاه علمًا، وسماه ذا الرياستين؛ فذكر بعضهم أنه رأى سيفه عند الحسن بن سهل مكتوبا عليه بالفضة من جانب: رياسة الحرب، ومن الجانب الآخر: رياسة التدبير. فحمل اللواء علي بن هاشم، وحمل العلم نعيم بن حازم، وولى الحسن بن سهل ديوان الخراج. ذكر خبر ولاية عبد الملك بن صالح على الشام وفي هذه السنة ولى محمد بن هارون عبد الملك بن صالح بن علي على الشأم وأمره بالخروج إليها، وفرض له من رجالها جنودًا يقاتل بها طاهرًا وهرثمة. ذكر الخبر عن سبب توليته ذلك ذكر داود بن سليمان أن طاهرًا لما قوي واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد - وكان عبد الملك محبوسًا في حبس الرشيد؛ فلما توفي الرشيد، وأفضى الأمر إلى محمد أمر بتخلية سبيله؛ وذلك في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين ومائة، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد، ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته - فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك؛ فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم؛ وليس تملك الجنود بالإمساك، ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف؛ ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتم الحرب والوقائع؛ وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولًا عن لقائهم ومناهضتهم؛ فإن سيرنهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشأم قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي، مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندًا تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته. فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك؛ فاعمل عملًا يظهر أثره، ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله. فولاه الشام والجزيرة، واستحثه بالخروج استحثاثًا شديدًا، ووجه معه كنفًا من الجند والأبناء. وفي هذه السنة سار عبد الملك بن صالح إلى الشأم، فلما بلغ الرقة أقام بها، وأنفذ رسله وكتبه إلى رؤساء أجناد أهل الشأم بجمع الرجال بها، وإمداد محمد بهم لحرب طاهر. ذكر الخبر عن ذلك قد تقدم ذكري عن سبب توجيه محمد إياه لذلك؛ فذكر داود بن سليمان أنه لما قدم عبد الملك الرقة، أنفذ رسله، وكتب إلى رؤساء أجناد الشام ووجوه الجزيرة، فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته، فقدموا عليه رئيسًا بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة؛ فكان لا يدخل عليه أحد إلى أجازه وخلع عليه وحمله؛ فأتاه أهل الشأم: الزواقيل والأعراب من كل فج، واجتمعوا عنده حتى كثروا. ثم إن بعض جند أهل خراسان نظر إلى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل فتعلق بها، فجرى الأمر بينهما إلى أن اختلفا؛ واجتمعت جماعة من الزواقيل والجند، فتلاحموا، وأعان كل فريق منهم صاحبه، وتلاطموا وتضاربوا بالأيدي، ومشى بعض الأبناء إلى بعض، فاجتمعوا إلى محمد بن أبي خالد، فقالوا: أنت شيخنا وفارسنا؛ وقد ركب الزواقيل منا ما قد بلغك؛ فاجمع أمرنا وإلا استذلونا، وطمعوا فينا، وركبوا بمثل هذا في كل يوم. فقال: ما كنت لأدخل في شغب، ولا أشاهدكم على مثل الحالة. فاستعد الأبناء وتهيئوا، وأتوا الزواقيل وهم غارون فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وذبحوهم في رحالهم، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، ونشبت الحرب بينهم. وبلغ ذلك عبد الملك بن صالح فوجه إليهم رسولًا يأمرهم بالكف ووضع السلاح، فرموه بالحجارة، واقتتلوا يومهم ذلك قتالًا شديدًا، وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل؛ فأخبر عبد الملك بكثرة من قتل - وكان مريضًا مدنفًا - فضرب بيده على يد، ثم قال: وا ذلاه! تستضام العرب في دارها ومحلها وبلادها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر فيما بينهم، وقام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وأصبح الزواقيل؛ فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة؛ وقام رجل من أهل حم، فقال: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل؛ إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة! ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم. إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم. النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المذهب، ويبعد العمل، ويقترب الأجل! وقال رجل من كلب في غرز ناقته، ثم قال: شؤبوب حرب خاب من يصلاها ** قد شرعت فرسانها قناها فأورد الله لظى لظاها ** إن غمرت كلب بها لحاها ثم قال: يا معشر كلب؛ إنها الراية السوداء؛ والله ما ولت ولا عدلت ولا ذل ناصرها، ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم. اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضرم. شأمكم شأمكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري. ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي. ثم سار وسار معه عامة أهل الشأم، وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان التجار جمعوا من الأعلاف بالنار، وأقام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان مع جماعة أهل خراسان والأبناء على باب الرافقة تخوفًا لطوق بن مالك. فأتى طوقًا رجل من بني تغلب، فقال: ألا ترى ما لقيت العرب من هؤلاء! انهض فإن مثلك لا يقعد عن هذا الأمر، قد مد أهل الجزيرة أعينهم إليك، وأملوا عونك ونصرك. فقال: والله ما أنا من قيسها ولا يمنها، ولا كنت في أول هذا الأمر لأشهد آخره؛ وإني لأشهد إبقاء على قومي، وأنظر لعشيرتي من أن أعرضهم للهلاك بسبب هؤلاء السفهاء من الجند وجهال قيس، وما أرى السلامة إلا في الإعتزال. وأقبل نصر بن شبث في الزواقيل على فرس كميت أغر، عليه دراعة سوداء قد ربطها خلف ظهره، وفي يده رمح وترس، وهو يقول: فرسان قيس اصمدن للموت ** لاترهبني عن لقاء الفوت دع التمني بعسى وليت ثم حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالًا شديدًا، فصبر لهم الجند، وكثر القتل في الزواقيل، وحملت الأبناء حملات، في كلها يقتلون ويجرحون؛ وكان أكثر القتل والبلاء في تلك الدفعة لكثير بن قادرة وأبي الفيل وداود بن موسى بن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر بن شبث وعمرو السلمي والعباس بن زفر. وتوفي في هذه السنة عبد الملك بن صالح. ذكر خلع الأمين والمبايعة للمأمون وفي هذه السنة خلع محمد بن هارون، وأخذت عليه البيعة لأخيه عبد الله المأمون ببغداد وفيها حبس محمد بن هارون في قصر أبي جعفر مع أم جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر. ذكر الخبر عن سبب خلعه ذكر عن داود بن سليمان أن عبد الملك بن صالح لما توفي بالرقة، نادى الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان في الجند، فصير الرجالة في السفن والفرسان على الظهر ووصلهم، وقوى ضعفاءهم، ثم حملهم حتى أخرجهم من بلاد الجزيرة؛ وذلك في سنة ست وتسعين ومائة. وذكر أحمد بن عبد الله، أنه كان فيمن شهد مع عبد الملك الجزيرة لما انصرف بهم الحسين بن علي، وذلك في رجب من سنة ست وتسعين ومائة. وذكر أنه تلقاه الأبناء وأهل بغداد بالتكرمة والتعظيم، وضربوا له القباب، واستقبله القواد والرؤساء والأشراف، ودخل منزله في أفضل كرامة وأحسن هيئة؛ فلما كان في جوف الليل بعث إليه محمد يأمره بالركوب إليه؛ فقال للرسول: والله ما أنا بمغن ولا بمسامر ولا مضحك؛ ولا وليت له عملًا، ولا جرى له على يدي مال؛ فلأي شيء يريدني في هذه الساعة! انصرف؛ فإذا أصبحت غدوت إليه إن شاء الله. فانصرف الرسول، فلما أصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع الناس، فأمر بإغلاق الباب الذي يخرج منه إلى قصر عبد الله بن علي وباب سوق يحيى وقال: يا معشر الأبناء؛ إن خلافة الله لا تجاور بالبطر، ونعمه لا تستصحب بالتجبر والتكبر؛ وإن محمدًا يريد أن يوتغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق جمعكم؛ وينقل عزكم إلى غيركم؛ وهو صاحب الزواقيل بالأمس، وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة، ليرجعن وبال ذلك عليكم؛ وليعرفن ضرره وكروهه في دولتكم ودعوتكم؛ فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فوالله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل، ولا يمنعه مانع إلا قتل؛ وما عند الله لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه. ثم أمر الناس بعبور الجسر فعبروا؛ حتى صاروا إلى سكة باب خراسان؛ واجتمعت الحربية وأهل الأرباض مما يلي باب الشأم، وباب الأنبار وشط الصراة مما يلي باب الكوفة. وتسرعت خيول من خيول محمد من الأعراب وغيرهم إلى الحسين بن علي؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا مليًا من النهار، وأمر الحسين من كان معه من قواده وخاصة أصحابه بالنزول فنزلوا إليهم بالسيوف والرماح، وصدقوهم القتال، وكشفوهم حتى تفرقوا عن باب الخلد. قال: فخلع الحسين بن علي محمدًا يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة، وأخذ البيعة لعبد الله المأمون من غد يوم الثلاثاء، فوثب بعد الوقعة التي كانت بين الحسين وبين أصحاب محمد العباس بن موسى بن عيسى الهاشمي على محمد، ودخل عليه فأخرجه من قصر الخلد إلى قصر أبي جعفر، فحبسه هناك إلى صلاة الظهر، ثم وثب العباس بن موسى بن عيسى على أم جعفر فأمرها بالخروج من قصرها إلى مدينة أبي جعفر، فأبت، فدعا لها بكرسي، وأمرها بالجلوس فيه، فقنعها بالسوط وساءها، وأغلظ لها القول، فجلست فيه، ثم أمر بها فأدخلت المدينة مع ابنها وولدها. فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض، وقام محمد بن أبي خالد بباب الشأم، فقال: أيها الناس؛ والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا! ما هو بأكبرنا سنًا، ولا أكرمنا حسبًا، ولا أعظمنا منزلة، وإن فينا من لا يرضى بالدنية، ولا يقاد بالمخادعة؛ وإني أولكم نقض عهده، وأظهر التغيير عليه، والإنكار لفعله؛ فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي. وقام أسد الحربي، فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه. فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس، فصاح بالناس: اسكتوا، فسكتوا، فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطعٍ منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحدًا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك! قال: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل، والحتف الجارف؛ انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه، وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به. ونهضت الحربية، ونهض معهم عامة أهل الأرباض في المشهرات والعدة الحسنة. فقاتلوا الحسين بن علي وأصحابه قتالًا شديدًا منذ ارتفاع النهار إلى انكسار الشمس، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأسر الحسين بن علي، ودخل أسد الحربي على محمد، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة؛ فنظر محمد إلى قوم ليس عليهم لباس الحرب والجند، ولا عليهم سلاح؛ فأمرهم فأخذوا من السلاح الذي في الخزائن حاجتهم ووعدهم ومناهم، وانتهب الغوغاء بذلك السبب سلاحًا كثيرًا ومتاعًا من خز وغير ذلك؛ وأتي بالحسين بن علي، فلامه محمد على خلافه وقال له: ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال؛ وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد! قال: بلى، قال: فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس علي، وتندبهم إلى قتالي! قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك، ومن قتل من أهل بيتك. ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب، وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه. وذكر عن عثمان بن سعيد الطائي، قال: كانت لي من الحسين بن علي ناحية خاصة، فلما رضي عنه محمد، ورد إليه قيادته ومنزلته، عبرت إليه مع المهنئين، فوجدته واقفًا بباب الجسر، فهنأته ودعوت له، ثم قلت له: إنك قد أصبحت سيد العسكرين، وثقة أمير المؤمنين، فاشكر العفو والإقالة، ثم داعبته ومازحته، ثم أنشأت أقول: هم قتلوه حين تم تمامه ** وصار معزًا بالندى والتمجد أغر كأن البدر سنة وجهه ** إذا جاء يمشي في الحديد المسرد إذا جشأت نفس الجبان وهللت ** مضى قدمًا بالمشرفي المهند حليم لدى النادي جهول لدى الوغى ** عكور على الأعداء قليل التزيد فثأرك أدركه من القوم إنهم ** رموك على عمدٍ بشنعا مزند فضحك، ثم قال: ما أحرصني على ذاك إن ساعدني عمر، وأيدت بفتح ونصر. ثم وقف على باب الجسر، وهرب في نفر من خدمه ومواليه، فنادى محمد في الناس، فركبوا في طلبه، فأدركوه بمسجد كوثر، فلما بصر بالخيل نزل وقيد فرسه، وصلى ركعتين وتحرم، ثم لقيهم فحمل عليهم حملات في محلها يهزمهم ويقتل فيهم. ثم إن فرسه عثر به وسقط، وابتدره الناس طعنًا وضربًا وأخذوا رأسه، وفي ذلك يقول علي بن جبلة - وقيل الخريمي: ألا قاتل الله الألى كفروا به ** وفازوا برأس الهرثمي حسين لقد أوردوا منه قناةً صليبةً ** بشطب يماني ورمح رديني رجا في خلاف الحق عزًا وإمرةً ** فألبسه التأميل خف حنين وقيل: إن محمدًا لما صفح عن الحسين استوزره ودفع إليه خاتمه. وقتل الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان للنصف من رجب من هذه السنة في مسجد كوثر، وهو على فرسخ من بغداد في طريق النهرين. وجدد البيعة لمحمد يوم الجمعة لست عشرة خلت من رجب من هذه السنة، وكان حبس الحسين محمدًا في قصر أبي جعفر يومين. وفي الليلة التي قتل فيها حسين بن علي هرب الفضل بن الربيع. وفي هذه السنة توجه طاهر بن الحسين حين قدم عليه هرثمة من حلوان إلى الأهواز، فقتل عامل محمد عليها، وكان عامله عليها محمد بن يزيد المهلبي بعد تقديم طاهر جيوشًا أمامه إليها قبل انفصاله إليه لحربه. ذكر الخبر عن مقتل محمد بن يزيد المهلبي ودخول طاهر إلى الأهواز ذكر عن يزيد بن الحارث، قال: لما نزل طاهر شلاشان، وجه الحسين بن عمر الرستمي إلى الأهواز، وأمره أن يسير سيرًا مقتصدًا، ولا يسير إلا بطلائع، ولا ينزل إلا في موضع حصين يأمن فيه على أصحابه. فلما توجه أتت طاهرًا عيونه، فأخبروه أن محمد بن يزيد المهلبي - وكان عاملًا لمحمد على الأهواز - قد توجه في جمع عظيم يريد نزول جندي سابور - وهو حد ما بين الأهواز والجبل - ليحمي الأهواز، ويمنع من أراد دخولها من أصحاب طاهر؛ وإنه في عدة وقوة، فدعا طاهر عدة من أصحابه؛ منهم محمد بن طالوت ومحمد بن العلاء والعباس بن بخاراخذاه والحارث بن هشام وداود بن موسى وهادي بن حفص، وأمرهم أن يكمشوا السير حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الحسين بن عمر الرستمي، فإن احتاج إلى إمداد أمدوه، أو لقيه جيش كانوا ظهرًا له. فوجه تلك الجيوش، فلم يلقهم أحد حتى شارفوا الأهواز. وبلغ محمد بن يزيد خبرهم، فعرض أصحابه، وقوى ضعفاءهم، وحمل الرجالة على البغال، وأقبل حتى نزل سوق عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بن شبل، وتوجه هو بنفسه حتى كان قريبًا منهم، ووجه الحسن بن علي المأموني، وأمره بمضامة قريش بن شبل والحسين بن عمر الرستمي، وسارت تلك العساكر حتى قاربوا محمد بن يزيد بعسكر مكرم؛ فجمع أصحابه فقال: ما ترون؟ أطال القوم القتال وأماطلهم اللقاء، أم أناجزهم كانت لي أم علي؟ فوالله ما أرى أن أرجع إلى أمير المؤمنين أبدًا، ولا انصرف عن الأهواز، فقالوا له: الرأي أن ترجع إلى الأهواز؛ فتتحصن بها وتغادي طاهرًا القتال وتبعث إلى البصرة فتفرض بها الفروض، وتستجيش من قدرت عليه وتابعك من قومك. فقبل ما أشاروا عليه، وتابعه قومه، فرجع حتى صار بسوق الأهواز. وأمر طاهر قريش بن شبل أن يتبعه، وأن يعاجله قبل أن يتحصن بسوق الأهواز، وأمر الحسن بن علي المأموني والحسين بن عمر الرستمي أن يسيرا بعقبه؛ فإن احتاج إلى معونتهما أعاناه. ومضى قريش بن شبل يقفو محمد بن يزيد، كلما ارتحل محمد بن يزيد من قرية نزلها قريش؛ حتى صاروا إلى سوق الأهواز. وسبق محمد بن يزيد إلى المدينة فدخلها، واستند إلى العمران، فصيره وراء ظهره، وعبى أصحابه، وعزم على مواقعتهم؛ ودعا بالأموال فصبت بين يديه، وقال لأصحابه: من أحب منكم الجائزة والمنزلة فليعرفني أثره. وأقبل قريش بن شبل حتى صار قريبًا منه، وقال لأصحابه: الزموا مواضعكم ومصافكم، وليكن أكثر ما قاتلتموهم وأنتم مريحون، فقاتلوهم بنشاط وقوة؛ فلم يبق أحد من أصحابه إلا جمع بين يديه ما قدر من الحجارة، فلم يعبر إليهم محمد بن يزيد، حتى أوهنوهم بالحجارة، وجرحوهم جراحاتٍ كثيرة بالنشاب، وعبرت طائفة من أصحاب محمد بن يزيد، فأمر قريش أصحابه أن ينزلوا إليهم فنزلوا إليهم، فقاتلوهم قتالًا شديدًا حتى رجعوا، وتراد الناس بعضهم إلى بعض. والتفت محمد بن يزيد إلى نفر كانوا معه من مواليه؛ فقال: ما رأيكم؟ قالوا: في ماذا؟ قال: إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن من خذلانهم، ولا آمل رجعته، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله ما أحب، فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف؛ فوالله لأن تبقوا أحب إلي من أن تعطبوا وتهلكوا. فقالوا: والله ما أنصفناك، إذًا تكون أعتقتنا من الرق ورفعتنا من الضعة، ثم أغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال؛ بل نتقدم أمامك ونموت تحت ركابك؛ فلعن الله الدنيا والعيش بعدك. ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فأكثروا فيهم القتل، وشدخوهم بالحجارة وغير ذلك؛ وانتهى بعض أصحاب طاهر إلى محمد بن يزيد، فطعنه بالرمح فصرعه؛ وتبادروا إليه بالضرب والطعن حتى قتلوه؛ فقال بعض أهل البصرة يرثيه، ويذكر مقتله: من ذاق طعم الرقاد من فرحٍ ** فإنني قد أضر بي سهري ولي فتى الرشد فافتقدت به ** قلبي وسمعي وغرني بصري كان غياثًا لدى المحول فقد ** ولى غمام الربيع والمطر وفي العييني للإمام ولم ** يرهبه وقع المشطب الذكر ساور ريب المنون داهيةً ** لولا خضوع العباد للقدر فامض حميدًا فكل ذي أجلٍ ** يسعى إلى ما سعيت بالأثر وقال بعض المهالبة؛ وجرح في تلك الوقعة جراحات كثيرة وقطعت يده: فما لمت نفسي غير أني لم أطق ** حراكًا وأني كنت بالضرب مثخنا ولو سلمت كفاي قاتلت دونه ** وضاربت عنه الطاهري الملعنا فتىً لا يرى أن يخذل السيف في الوغى ** إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى وذكر عن الهيثم بن عدي، قال: لما دخل ابن أبي عيينة على طاهر فأنشده قوله: من آنسته البلاد لم يرم ** منها ومن أوحشته لم يقم حتى انتهى إلى قوله: ما ساء ظني إلا لواحدةٍ ** في الصدر محصورةٍ عن الكلم فتبسم طاهر، ثم قال: أما والله لقد ساءني ما ساءك، وآلمني ما آلمك؛ ولقد كنت كارهًا لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازلة، ولا بد من قطع الأواصر والتنكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة؛ فظننا أنه يريد محمد بن يزيد بن حاتم. وذكر عمر بن أسد، قال: أقام طاهر بالأهواز بعد قتله محمد بن يزيد بن حاتم، وأنفذ عماله في كورها، وولى على اليمامة والبحرين وعمان مما يلي الأهواز، ومما يلي عمل البصرة، ثم أخذ على طريق البر متوجهًا إلى واسط، وبها يومئذ السندي بن يحيى بن الحرشي والهيثم خليفة خزيمة بن خازم؛ فجعلت المسالح والعمال تتقوض، مسلحة مسلحة، وعاملًا عاملًا، كلما قرب طاهر منهم تركوا أعمالهم وهربوا منها؛ حتى قرب من واسط، فنادى السندي بن يحيى والهيثم بن شعبة في أصحابهما، فجمعاهم إليهما؛ وهما بالقتال، وأمر الهيثم بن شعبة صاحب مراكبه أن يسرج له دوابه، فقرب إليه فرسًا، فأقبل يقسم طرفه بينها، واستقبلته عدة، فرأى المراكبي التغير والفزع في وجهه فقال: إن أردت الهرب فعليك بها؛ فإنها أبسط في الركض، وأقوى على السفر. فضحك ثم قال: قرب فرس الهرب؛ فإنه طاهر، ولا عار علينا في الهرب منه، فتركا واسطًا، وهربا عنها. ودخل طاهر واسطًا، وتخوف إن سبق الهيثم والسندي إلى فم الصلح فيتحصنا بها. فوجه محمد بن طالوت، وأمره أن يبادرهما إلى فم الصلح، ويمنعهما من دخولها إن أرادا ذلك، ووجه قائدًا من قواده يقال له أحمد بن المهلب نحو الكوفة. وعليها يومئذ العباس بن موسى الهادي؛ فلما بلغ العباس خبر أحمد بن المهلب خلع محمدًا، وكتب بطاعته إلى طاهر وببيعته للمأمون؛ ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة؛ وكتب المنصور بن المهدي - وكان عاملًا لمحمد على البصرة - إلى طاهر بطاعته، ورحل طاهر حتى نزل طرنايا؛ فأقام بها يومين فلم يرها موضعًا للعسكر، فأمر بجسر فعقد وخندق له، وأنفذ كتبه بالتولية إلى العمال. وكانت بيعة المنصور بن المهدي بالبصرة وبيعة العباس بن موسى الهادي بالكوفة، وبيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون، وخلعهم محمدًا في رجب من سنة ست وتسعين ومائة. وقيل: إن الذي كان على الكوفة حين نزل طاهر من قبل محمد الفضل بن العباس بن موسى بن عيسى. ولما كتب من ذكرت إلى طاهر ببيعتهم للمأمون وخلعه محمدًا، أقرهم طاهر على أعمالهم، وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي مكة والمدينة، ويزيد بن جرير البجلي اليمن، ووجه الحارث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة. ذكر خبر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر وفي هذه السنة أخذ طاهر بن الحسين من أصحاب محمد المدائن؛ ثم صار منها إلى صرصر، فعقد جسرًا، ومضى إلى صرصر. ذكر الخبر عن سبب دخوله المدائن ومصيره إلى صرصر ذكر أن طاهرًا لما وجه إلى قصر ابن هبيرة الحارث بن هشام وداود بن موسى، وبلغ محمدًا خبر عامله بالكوفة وخلعه إياه وبيعته للمأمون، وجه محمد بن سليمان القائد ومحمد بن حماد البربري وأمرهما أن يبيتا الحارث وداود بالقصر، فقيل لهما: إن سلكتما الطريق الأعظم لم يخف ذلك عليهما؛ ولكن اختصر الطريق إلى فم الجامع، فإنه موضع سوق ومعسكر، فأنزلاه وبيتاهما إن أردتما ذلك وقد قربتما منهما، فوجه الرجال من الياسرية إلى فم الجامع. وبلغ الحارث وداود الخبر، فكبا في خيل مجرد، وتهيأ للرجالة، فعبرا من مخاضة في سوراء إليهم؛ وقد نزلوا إلى جنبها، فأوقعا بهم وقعة شديدة. ووجه الطاهر محمد بن زياد ونصير بن الخطاب مددًا للحارث وداود، فاجتمعت العساكر بالجامع، وساروا حتى لقوا محمد بن سليمان ومحمد بن حماد فيما بين نهر درقيط والجامع، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وانهزم أهل بغداد، وهرب محمد بن سليمان حتى صار إلى قرية شاهي، وعبر الفرات. وأخذ على طريق البرية إلى الأنبار، ورجع محمد بن حماد إلى بغداد، وقال أبو يعقوب الخريمي في ذلك: هما عدوا بالنكث كي يصدعا به ** صفا الحق فانفضا بجمع مبدد وأفلتنا ابن البربري مضمر ** من الخيل يسمو للجياد ويهتدي وذكر يزيد بن الحارث، أن محمد بن حماد البربري لما دخل بغداد، وجه محمد المخلوع الفضل بن موسى بن عيسى الهاشمي إلى الكوفة، وولاه عليها، وضم إليه أبا السلاسل وإياس الحرابي وجمهورًا النجاري؛ وأمره بسرعة السير؛ فتوجه الفضل؛ فلما عبر نهر عيسى عثر به فرسه، فتحول منه إلى غيره وتطير، وقال: اللهم إني أسألك بركة هذا الوجه. وبلغ طاهر الخبر، فوجه محمد بن العلاء، وكتب إلى الحارث بن هشام وداود بن موسى بالطاعة له، فلقي محمد بن العلاء الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع لطاهر؛ وإنما كان مخرجي بالكيد مني لمحمد؛ فخل لي الطريق حتى أصير إليه، فقال له محمد: لست أعرف ما تقول ولا أقبله ولا أنكره؛ فإن أردت الأمير طاهرًا فارجع وراءك؛ فخذ أسهل الطريق وأقصدها، فرجع وقال محمد لأصحابه: كونوا على حذر؛ فإني لست آمن مكر هذا؛ فلم يلبث أن كبر وهو يرى أن محمد بن العلاء قد أمنه، فوجده على عدة وأهبة؛ واقتتلوا كأشد ما يكون من القتال، وكبا بالفضل فرسه؛ فقاتل عنه أبو السلاسل حتى ركب وقال: أذكر هذا الموقف لأمير المؤمنين. وحمل أصحاب محمد بن العلاء على أصحاب الفضل فهزموه، ولم يزالوا يقتلونهم إلى كوثي، وأسر في تلك الوقعة إسماعيل بن محمد القرشي وجمهور النجاري، وتوجه طاهر إلى المدائن، وفيها جند كثير من خيول محمد؛ عليهم البرمكي قد تحصن بها، والمدد يأتيه في كل يوم. والصلات والخلع من قبل محمد. فلما قرب طاهر من المدائن - وكان منها على رأس فرسخين - نزل فصلى ركعتين، وسبح فأكثر التسبيح، فقال: اللهم إنا نسألك نصرًا كنصرك المسلمين يوم المدائن. ووجه الحسن بن علي المأموني وقريش بن شبل، ووجه الهادي بن حفص على مقدمته وسار. فلما سمع أصحاب البرمكي صوت طبوله أسرجوا الدواب، وأخذوا في تعبيتهم، وجعل من في أوائل الناس ينضم إلى أواخرهم، وأخذ البرمكي في تسوية الصفوف؛ فكلما سوى صفًا انتقض واضطرب عليه أمرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان؛ ثم التفت إلى صاحب ساقته، فقال: خل سبيل الناس؛ فإني أرى جندًا لا خير عندهم؛ فركب بعضهم بعضًا نحو بغداد، فنزل طاهر المدائن، وقدم منها قريش بن شبل والعباس بن بخاراخذاه إلى الدرزيجان، وأحمد بن سعيد الحرشي ونصر بن منصور بن نصر بن مالك معسكران بنهر ديائي، فمنعا أصحاب البرمكي من الجواز إلى بغداد، وتقدم طاهر حتى صار إلى الدرزيجان حيال أحمد ونصر بن المنصور، فسير إليهما الرجال، فلم يجر بينهما كثير قتال حتى انهزموا، وأخذ طاهر ذات اليسار إلى نهر صرصر، فعقد بها جسرًا ونزلها. ذكر خبر خلع داود بن عيسى الأمين وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى عامل مكة والمدينة محمدًا - وهو عامله يومئذ عليها - وبايع المأمون، وأخذ البيعة بهما على الناس له؛ وكتب بذلك إلى طاهر والمأمون؛ ثم خرج بنفسه إلى المأمون. ذكر الخبر عن ذلك وكيف جرى الأمر فيه ذكر أن الأمين لما أفضت الخلافة إليه بعث إلى مكة والمدينة داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وعزل عامل الرشيد على مكة؛ وكان عامله عليها محمد بن عبد الرحمن بن محمد المخزومي، وكان إليه الصلاة بها وأحداثها القضاء بين أهلها؛ فعزل محمد عن ذلك كله بداود بن عيسى؛ سوى القضاء فإنه أقره على القضاء. فأقام داود واليًا على مكة والمدينة لمحمد، وأقام للناس أيضًا الحج سنة ثلاث وأربع وخمس وتسعين ومائة، فلما دخلت سنة ست وتسعين ومائة بلغه خلع عبد الله المأمون أخاه، وما كان فعل طاهر بقواد محمد، وقد كان محمد كتب إلى داود بن عيسى يأمره بخلع عبد الله المأمون والبيعة لابنه موسى، وبعث محمد إلى الكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما وعلقهما في الكعبة فأخذهما، فلما فعل ذلك جمع داود حجبة الكعبة والقرشيين والفقهاء ومن كان شهد على ما في الكتابين من الشهود - وكان داود أحدهم - فقال داود: قد علمتم ما أخذ علينا وعليكم الرشيد من العهد والميثاق عند بيت الله الحرام حين بايعنا لابنيه؛ ولنكونن مع المظلوم منهما على الظالم، ومع المبغي عليه على الباغي، ومع المغدور به على الغادر؛ فقد رأينا ورأيتم أن محمدا قد بدأ بالظلم والبغي والغدر على أخويه عبد الله المأمون والقاسم المؤتمن، وخلعهما وبايع لابنه الطفل؛ رضيع صغير لم يفطم، واستخرج الشرطين من الكعبة عاصيًا ظالمًا، فحرقهما بالنار. وقد رأيت خلعه، وأن أبايع لعبد الله المأمون بالخلافة؛ إذ كان مظلومًا مبغيًا عليه. فقال له أهل مكة: رأينا تبع لرأيك، ونحن خالعوه معك؛ فوعدهم صلاة الظهيرة؛ وأرسل في فجاج مكة صائح يصيح: الصلاة جامعة! فلما جاء وقت صلاة الظهر - وذلك يوم الخميس لسبع وعشرين ليلة خلت من رجب سنة ست وتسعين ومائة - خرج داود بن عيسى، فصلى بالناس صلاة الظهر، وقد وضع له المنبر بين الركن والمقام، فصعد فجلس عليه، وأمر بوجوه الناس وأشرافهم فقربوا من المنبر؛ وكان داود خطيبًا فصيحًا جهير الصوت؛ فلما اجتمع الناس قام خطيبًا، فقال: الحمد لله مالك الملك؛ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائمًا بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالدين، وختم به النبيين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله عليه في الأولين والآخرين. أما بعد يا أهل مكة؛ فأنتم الأصل والفرع، والعشيرة والأسرة، والشركاء في النعمة، إلى بلدكم نفذ وفد الله، وإلى قبلتكم يأتم المسلمون، وقد علمتم ما أخذ عليكم الرشيد هارون رحمة الله عليه وصلاته حين بايع لابنيه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق لتنصرن المظلوم منهما على الظالم، والمبغي عليه على الباغي، والمغدور به على الغادر؛ ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بن هارون قد بدأ بالظلم والبغي والغدر، وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام؛ وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغي عليه المغدور به. ألا وإني أشهدكم أني قد خلعت محمد بن هارون من الخلافة كما خلعت قلنسوتي هذه من رأسي - وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته، وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء، وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها - ثم قال: قد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة، ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم. فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر، رجل فرجل، فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة، وخلع محمدًا، ثم نزل عن المنبر، وحانت صلاة العصر، فصلى بالناس، ثم جلس في ناحية المسجد، وجعل الناس يبايعونه جماعة بعد جماعة؛ يقرأ عليهم كتاب البيعة، ويصافحونه على كفه، ففعل ذلك أيامًا. وكتب إلى ابنه سليمان بن داود بن عيسى وهو خليفته على المدينة؛ يأمره أن يفعل بأهل المدينة مثل ما فعل هو بأهل مكة؛ من خلع محمد والبيعة لعبد الله المأمون. فلما رجع جواب البيعة من المدينة إلى داود وهو بمكة، رحل من فوره بنفسه وجماعة من ولده يريد المأمون بمرو على طريق البصرة، ثم على فارس، ثم على كرمان؛ حتى صار إلى المأمون بمرو، فأعلمه ببيعته وخلعه محمدًا ومسارعة أهل مكة وأهل المدينة إلى ذلك؛ فسر بذلك المأمون، وتيمن ببركة مكة والمدينة؛ إذ كانوا أول من بايعه، وكتب إليهم كتابًا لينًا لطيفًا يعدهم فيه الخير، ويبسط أملهم، وأمر أن يكتب لداود عهد على مكة والمدينة وأعمالها من الصلاة والمعاون والجباية، وزيد له ولاية عك، وعقد له على ذلك ثلاثة ألوية، وكتب له إلى الري بمعونة خمسمائة ألف درهم، وخرج داود بن عيسى مسرعًا مغذًا مبادرًا لإدراك الحج، ومعه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وقد عقد المأمون للعباس بن موسى بن عيسى على ولاية الموسم، فسار هو وعمه داود حتى نزلا بغداد على طاهر بن الحسين، فأكرمهما وقربهما، وأحسن معونتهما، ووجه معهما يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وقد عقد له طاهر على ولاية اليمن، وبعث معه خيلًا كثيفة، وضمن لهم يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري أن يستميل قومه وعشيرته من ملوك أهل اليمن وأشرافهم؛ ليخلعوا محمدًا ويبايعوا عبد الله المأمون. فساروا جميعًا حتى دخلوا مكة. وحضر الحج، فحج بأهل الموسم العباس بن موسى بن عيسى؛ فلما صدروا عن الحج انصرف العباس حتى أتى طاهر بن الحسين - وهو على حصار محمد - وأقام داود بن عيسى على عمله بمكة والمدينة؛ ومضى يزيد بن جرير إلى اليمن، فدعا أهلها إلى خلع محمد وبيعة عبد الله المأمون، وقرأ عليهم كتابًا من طاهر بن الحسين يعدهم العدل والإنصاف، ويرغبهم في طاعة المأمون، ويعلمهم ما بسط المأمون من العدل في رعيته؛ فأجاب أهل اليمن إلى بيعة المأمون، واستبشروا بذلك، وبايعوا للمأمون، وخلعوا محمدًا، فسار فيهم يزيد بن جرير بن يزيد بأحسن سيرة، وأظهر عدلًا وإنصافًا، وكتب بإجابتهم وبيعتهم إلى المأمون وإلى طاهر بن الحسين. وفي هذه السنة عقد محمد في رجب وشعبان منها نحوًا من أربعمائة لواء لقواد شتى، وأمر على جميعهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين، فساروا فالتقوا بجللتا في رمضان على أميال من النهروان، فهزمهم هرثمة، وأسر علي بن محمد ين عيسى بن نهيك، وبعث به هرثمة إلى المأمون، وزحف هرثمة فنزل النهروان. ذكر خبر شغب الجند على طاهر بن الحسين وفي هذه السنة استأمن إلى محمد من طاهر جماعة كثيرة، وشغب الجند على طاهر، ففرق محمد فيمن صاروا إليه من أصحاب طاهر مالًا عظيمًا وقود رجالًا وغلف لحاهم بالغالية، فسموا بذلك قواد الغالية ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الآمر فيه ذكر عن يزيد بن الحارث، قال: أقام طاهر على نهر صرصر لما صار إليها، وشمر في محاربة محمد وأهل بغداد، فكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، فاشتد على أصحابه ما كان محمد يعطي من الأموال والكسا، فخرج من عسكره نحو من خمسة آلاف رجل من أهل خراسان ومن التف إليهم، فسر بهم محمد، ووعدهم ومناهم، وأثبت أسماءهم في الثمانين. قال: فمكثوا بذلك أشهرًا، وقود جماعة من الحربية وغيرهم ممن تعرض لذلك وطلبه، وعقد لهم، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، ووجه إليهم حبيب بن جهم النمري الأعرابي في أصحابه؛ فلم يكن بينهم كثير قتال، وندب محمد قوادًا من قواد بغداد، فوجههم إلى الياسرية والكوثرية والسفينتين، وحمل إليهم الأطعمة، وقواهم بالأرزاق، وصيرهم ردءًا لمن خلفهم، وفرق الجواسيس في أصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند الكتب بالإطماع والترغيب، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى محمد، ومع كل عشرة أنفس منهم طبل، فأرعدوا وأبرقوا وأجلبوا، ودنوا حتى أشرفوا على نهر صرصر، فعبى طاهر أصحابه كراديس، ثم جعل يمر على كل كردوس منهم، فيقول: لا يغرنكم كثرة ما ترون، ولا يمنعكم استئمان من استأمن منهم، فإن النصر مع الصدق والثبات، والفتح مع الصبر، ورب فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. ثم أمرهم بالتقدم، فتقدموا واضطربوا بالسيوف مليًا. ثم إن الله ضرب أكتاف أهل بغداد فولوا منهزمين، وأخلوا موضع عسكرهم، فانتهب أصحاب طاهر كل ما كان فيه من سلاح ومال. وبلغ الخبر محمدًا، فأمر بالعطاء فوضع، وأخرج خزائنه وذخائره، وفرق الصلات وجمع أهل الأرباض، واعترض الناس على عينه، فكان لا يرى أحدًا وسيمًا حسن الرواء إلا خلع عليه وقوده؛ وكان لا يقود أحدًا إلا غلفت لحيته بالغالية؛ وهم الذين يسمون قواد الغالية. قال: وفرق في قواده المحدثين لكل رجل منهم خمسمائة رجل وقارورة غالية، ولم يعط جند القواد وأصحابه شيئًا. وأتت عيون طاهر وجواسيسه طاهرًا بذلك؛ فراسلهم وكاتبهم، ووعدهم واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على محمد يوم الأربعاء لست خلون من ذي الحجة سنة ست وتسعين ومائة، فقال رجل من أبناء أهل بغداد في ذلك: قل للأمين الله في نفسه ** ما شتت الجند سوى الغالية وطاهر نفسي تقي طاهرًا ** برسله والعدة الكافية أضحى زمام الملك في كفه ** مقاتلًا للفئة الباغية يا ناكثًا أسلمه نكثه ** عيوبه من خبثه فاشيه قد جاءك الليث بشداته ** مستكلبًا في أسد ضاريه فاهرب ولا مهرب من مثله ** إلا إلى النار أو الهاويه قال: فلما شغب الجند، وصعب الأمر على محمد شاور قواده، فقيل له: تدارك القوم، فتلاف أمرك؛ فإن بهم قوام ملكك؛ وهم بعد الله أزالوه عنك أيام الحسين، وهم ردوه عليك، وهم من قد عرفت نجدتهم وبأسهم. فلج في أمرهم وأمر قتالهم، فوجه إليهم التنوخي وغيره من المستأمنة والأجناد الذين كانوا معه، فعاجل القوم القتال وراسلهم طاهر وراسلوه؛ فأخذ رهائنهم على بذل الطاعة له، وكتب إليهم، فأعطاهم الأمان، وبذل لهم الأموال، ثم قدم فصار إلى البستان الذي على باب الأنبار يوم الثلاثاء لاثني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، فنزل البستان بقواده وأجناده وأصحابه، ونزل من لحق بطاهر من المستأمنة من قواد محمد وجنده في البستان وفي الأرباض، وألحقهم جميعًا بالثمانين في الأرزاق، وأضعف للقواد وأبناء القواد الخواص، وأجرى عليهم وعلى كثير من رجالهم الأموال، ونقب أهل السجون السجون وخرجوا منها؛ وفتن الناس، ووثب على أهل الصلاح الدعار والشطار، فعز الفاجر، وذل المؤمن، واختل الصالح، وساءت حال الناس إلا من كان في عسكر طاهر لتفقده أمرهم، وأخذه على أيدي سفهائهم وفساقهم؛ واشتد في ذلك عليهم، وغادي القتال ورواحه، حتى تواكل الفريقان، وخربت الدار. وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي من قبل طاهر، ودعا للمأمون بالخلافة، وهو أول موسم دعي له فيه بالخلافة بمكة والمدينة. ثم دخلت سنة يبع وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففي هذه السنة لحق القاسم بن هارون الرشيد ومنصور بن المهدي بالمأمون من العراق، فوجه المأمون القاسم إلى جرجان. ذكر خبر حصار الأمين ببغداد وفيها حاصر طاهر وهرثمة وزهير بن المسيب محمد بن هارون ببغداد. ذكر الخبر عما آل إليه أمر حصارهم في هذه السنة وكيف كان الحصار فيها ذكر محمد بن يزيد التميمي وغيره أن زهير بن المسيب الضبي نزل قصر رقة كلواذي، ونصب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار ويجبى السفن، وبلغ من الناس كل مبلغ؛ وبلغ أمره طاهرًا وأتاه الناس فشكوا إليه ما نزل بهم من زهير بن المسيب، وبلغ ذلك هرثمة، فأمده بالجند، وقد كان يؤخذ، فأمسك عنه الناس، فقال الشاعر من أهل الجانب الشرقي - لم يعرف اسمه - في زهير وقتله الناس بالمجانيق: لا تقرب المنجنيق والحجرا ** فقد رأيت القتيل إذ قبرا باكر كي لا يفوته خبر ** راح قتيلًا وخلف الخبرا ماذا به كان من نشاط ومن ** صحة جسم به إذا ابتكرا أراد ألا يقال كان له ** أمر فلم يدر من به أمرا يا صاحب المنجنيق ما فعلت ** كفاك، لم تبقيا ولم تذرا كان هواه سوى الذي قدرا ** هيهات لن يغلب الهوى القدرا ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطًا وخندقًا، وأعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار، فذكر عن الحسين الخليع أنه قال: لما تولى طاهر البستان بباب الأنبار، دخل محمدًا أمر عظيم من دخوله بغداد، وتفرق من كان في يده من الأموال، وضاق ذرعًا، وتحرق صبرًا فأمر ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وحملها إليه لأصحابه وفي نفقاته، وأمر حينئذ برمي الحربية بالنفط والنيران والمجانيق والعرادات، يقتل بها المقبل والمدبر، ففي ذلك يقول عمرو بن عبد الملك العتري الوراق: يا رماة المنجنيق ** كلكم غير شفيق ما تبالون صديقًا ** كان أو غير صديق ويلكم تدرون ما تر ** مون مرار الطريق رب خودٍ ذات دلٍ ** وهي كالغصن الوريق أخرجت من جوف دنيا ** ها ومن عيشٍ أنيق لم تجد من ذاك بدًا ** أبرزت يوم الحريق وذكر عن محمد بن منصور الباوردي، قال: لما اشتدت شوكة طاهر على محمد، وهزمت عساكره، وتفرق قواده كان فيمن استأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فلحق به، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك وشاطئ دجلة؛ وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمده بالنفقات والفعلة والسلاح، وأمر الحربية بلزومه على النوائب، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشأم واحدًا بعد واحد؛ وأمر بمثل الذي أمر به سعيد بن مالك؛ وكثر الحراب والهدم حتى درست محاسن بغداد؛ ففي ذلك يقول العتري: من ذا أصابك يا بغداد بالعين ** ألم تكوني زمانًا قرة العين! ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ** وكان قربهم زينًا من الزين! صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا ** ماذا لقيت بهم من لوعة البين! أستودع الله قومًا ما ذكرتهم ** إلا تحدر ماء العين من عيني كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ** والدهر يصدع ما بين الفريقين قال: ووكل محمد عليًا فراهمود؛ فيمن ضم إليه من المقاتة، بقصر صالح وقصر سليمان بن أبي جعفر إلى قصور دجلة وما والاها، فألح في إحراق الدور والدروب وهدمها بالمجانيق والعرادات على يدي رجل كان يعرف بالسمرقندي؛ فكان يرمي بالمنجنيق، وفعل طاهر مثل ذلك؛ وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها؛ وكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله، وأحرق منزله؛ فكان كذلك يغدو ويروح بقواده وفرسانه ورجالته؛ حتى أوحشت بغداد، وخاف الناس أن تبقى خرابًا؛ وفي ذلك يقول الحسين الخليع: أتسرع الرجلة إغذاذا ** عن جانبي بغداذ أم ماذا! ألم تر الفتنة قد ألفت ** إلى أولى الفتنة شذاذا وانتقضت بغداذ عمرانها ** عن رأي لا ذاك ولا هذا هدمًا وحرقًا قد أبيد أهلها ** عقوبة لاذت بمن لاذا ما أحسن الحالات إن لم تعد ** بغداذ في القلة بغداذا قال: وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ومدينة أبي جعفر الشرقية، وأسواق الكرخ والخلد وما والاها دار النكث، وقبض ضياع من لم ينحز إليه من بني هاشم والقواد والموالي وغلاتهم، حيث كانت من عمله، فذلوا وانكسروا وانقادوا، وذلت الأجناد وتواكلت عن القتال؛ إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق. وكان حاتم بن صقر قد أباحهم النهب، وخرج الهرش والأفارقة، فكان طاهر يقاتلهم لا يفتر عن ذلك ولا يمله، ولا يني فيه فقال الخريمي يذكر بغداد، ويصف ما كان فيها: قالوا: ولم يلعب الزمان ببغ ** داد وتعثر بها عواثرها إذ هي مثل العروس باطنها ** مشوق للفتى وظاهرها جنة خلدٍ ودار مغبطةٍ ** قل من النائبات واترها درت خلوف الدنيا لساكنها ** وقل معسورها وعاسرها وانفرجت بالنعيم وانتجعت ** فيها بلذاتها حواضرها فالقوم منها في روضة أنفٍ ** أشرق غب القطار زائرها من غرة العيش في بلهنيةٍ ** لو أن دنيا يدوم عامرها دار ملوكٍ رست قواعدها ** فيها وقرت بها منابرها أهل العلا والندى وأندية ال ** فخر إذا عددت مفاخرها أفراخ نعمى في إرث مملكةٍ ** شد عراها لها أكابرها فلم يزل والزمان ذو غيرٍ ** يقدح في ملكها أصاغرها حتى تساقت كأسًا مثملةً ** من فتنةٍ لا يقال عاثرها وافترقت بعد ألفةٍ شيعًا ** مقطوعةً بينها أواصرها يا هل رأيت الأملاك ما صنعت ** إذ لم يرعها بالنصح زاجرها أورد أملاكنا نفوسهم ** هوة غي أعيت مصادرها ما ضرها لو وفت بموثقها ** واستحكمت في التقى بصائرها ولم تسافك دماء شيعتها ** وتبتعث فتيةً تكابرها وأقنعتها الدنيا التي جمعت ** لها ورعب النفوس ضائرها ما زال حوض الأملاك يحفره ** مسجورها بالهوى وساجرها تبغي فضول الدنيا مكاثرةً ** حتى أبيحت كرهًا ذخائرها تبيع ما جمع الأبوة لل ** أبناء لا أربحت متاجرها يا هل رأيت الجنان زاهرةً ** يروق عين البصير زائرها! وهل رأيت القصور شارعةً ** تكن مثل الدمى مقاصرها وهل رأيت القرى التي غرس ال ** أملاك مخضرة دساكرها محفوفةً بالكروم والنخل والر ** يحان ما يستغل طائرها فإنها أصبحت خلايا من ال ** إنسان قد أميت محاجرها قفرًا خلاءً تعوي الكلاب بها ** ينكر منها الرسوم زائرها وأصبح البؤس ما يفارقها ** إلفًا لها والسرور هاجرها بزند ورد والياسرية والشط ** ين حيث انتهت معابرها ويا ترحلي والخيزرانية ال ** عليا التي أشرفت قناطرها وقصر عبدويه عبرة وهدىً ** لكل نفس زكت سرائرها فأين حراسها وحارسها ** وأين مجبورها وجابرها! وأين خصيانها وحشواتها ** وأين سكانها وعامرها أين الجرادية الصقالب وال ** أحبش تعدو هدلًا مشافرها ينصدع الجند عن مواكبها ** تعدو بها سربًا ضوامرها بالسند والهند والصقالب وال ** نوبة شيبت بها برابرها طيرًا أبابيل أرسلت عبثًا ** يقدم سودانها أحامرها أين الظباء الأبكار في روضه ال ** ملك تهادي بها غرائرها! أين غضاراتها ولذتها ** وأين محبورها وحابرها! بالمسك والعنبر اليمان وال ** يلنوج مشبوبة مجامرها يرفلن في الخز والمجاسد وال ** موشي محطومه مزامرها فأين رقاصها وزامرها ** يجبن حيث انتهت حناجرها تكاد أسماعهم تسك إذا ** عارض عيدانها مزاهرها أمست كجوف الحمار خاليةً ** يسعرها بالجحيم ساعرها كأنما أصبحت بساحتهم ** عاد ومستهم صراصرها لا تعلم النفس ما يبايتها ** من حادث الدهر أو يباكرها تضحي وتمسي درية غرضًا ** حيث استقرت بها شراشرها لأسهم الدهر وهو يرشقها ** محنطًا مرةً وباقرها يا بوس بغداد دار مملكة ** دارت على أهلها دوائرها أمهلها الله ثم عاقبها ** لما أحاطت بها كبائرها بالخسف والقذف والحريق وبال ** حرب التي أصبحت تساورها كم قد رأينا من المعاصي ببغدا ** د فهل ذو الجلال غافرها! حلت ببغداد وهي آمنة ** داهية لم تكن تحاذرها طالعها السوء من مطالعه وأدركت أهلها جرائرها رق بها الدين واستخف بذي ال ** فضل وعز النساك فاجرها وخطم العبد أنف سيده بالرغم ** واستعبدت حرائرها وصار رب الجيران فاسقهم ** وابتز أمر الدروب ذاعرها من ير بغداد والجنود بها ** قد ربقت حولها عساكرها كل طحون شهباء باسلة ** تسقط أحبالها زماجرها تلقى بغي الردى أوانسها ** يرهقها للقاء طاهرها والشيخ يعدو حزمًا كتائبه ** يقدم أعجازها يعاورها ولزهير بالفرك مأسدة ** مرموقة صلبة مكاسرها كتائب الموت تحت ألوية ** أبرح منصورها وناصرها يعلم أن الأقدار واقعة ** وقعًا على ما أحب قادرها فتلك بغداد ما يبني من الذ ** لة في دورها عصافرها محفوفة بالردى منطقة ** بالصغر محصورة جبابرها ما بين شط الفرات منه إلى ** دجلة حيث انتهت معابرها بارك هادي الشقراء نافرة ** تركض من حولها أشاقرها يحرقها ذا وذاك يهدمها ** ويشتفي بالنهاب شاطرها والكرخ أسواقها معطلة ** يستن عيارها وعائرها أخرجت الحرب من سواقطها ** آساد غيل غلبًا تساورها من البواري تراسها ومن ال ** خوص إذا استلأمت مغافرها تغدو إلى الحرب في جواشنها ال ** صوف إذا ما عدت أساورها كتائب الهرش تحت رايته ** ساعد طرارها مقامرها لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا ** يحشرها للقاء حاشرها في كل درب وكل ناحية ** خطارة يستهل خاطرها بمثل هام الرجال من فلق الص ** خر يزود المقلاع بائرها كأنما فوق هامها فرق ** من القطا الكدر هاج نافرها والقوم من تحتها لهم زجل ** وهي ترامى بها خواطرها بل هل رأيت السيوف مصلتةً ** أشهرها في الأسواق شاهرها والخيل تستن في أزقتها ** بالترك مسنونة خناجرها والنفط والنار في طرائقها ** وهابيا للدخان عامرها والنهب تعدو به الرجال وقد ** أبدت خلاخيلها حرائرها معصوصبات وسط الأزقة قد ** أبرزها للعيون ساترها كل رقود الضحى مخبأة ** لم تبد في أهلها محاجرها بيضة خدر مكنونة برزت ** للناس منشورة غدائرها تعثر في ثوبها وتعجلها ** كبة خيل ريعت حوافرها تسأل أين الطريق والهة ** والنار من خلفها تبادرها لم تجتل الشمس حسن بهجتها ** حتى اجتلتها حرب تباشرها يا هل رأيت الثكلى مولولة ** في الطرق تسعى والجهد باهرها! في إثر نعش عيه واحدها ** في صدره طعنة يساورها فرغاء ينقى الشنار مربدها ** يهزها بالسنان شاجرها تنظر في وجهه وتهتف بالث ** كل وجارى الدموع حادرها غرغر بالنفس ثم أسلمها ** مطلوبة لا يخاف ثائرها وقد رأيت الفتيان في عرصة ال ** معرك مغفورة مناخرها كل فتى مانع حقيقته ** تشقى به في الوغى مساعرها باتت عليه الكلاب تنهشه ** مخضوبة من دم أظافرها أما رأيت الخيول جائلة ** بالقوم منكوبة دوائرها تعث بالأوجه الحسان من ال ** قتلى وغلت دمًا أشاعرها يطأن أكباد فتية نجد ** يفلق هاماتهم حوافرها أما رأيت النساء تحت المجا ** نيق تعادي شعثًا ضفائرها عقائل القوم والعجائز وال ** عنس لم تحتبر معاصرها يحملن قوتًا من الطحين على ال ** أكتاف معصوبة مهاجرها وذات عيش ضنك ومقعسة ** تشدخها صخرة تعاورها تسأل عن أهلها وقد سلبت ** وابتز عن رأسها غفائرها يا ليت شعري والدهر ذو دول ** يرجى وأخرى تخشى بوادرها هل ترجعن أرضنا كما غنيت ** وقد تناهت بنا مصايرها من مبلغ ذا الرياستين رسا ** لات تأتي للنصح شاعرها بأن خير الولاة قد علم الن ** اس إذا عددت مآثرها خليفة الله في بريته ال ** مأمون منتاشها وجابرها سمت إليه آمال أمته ** منقادةً برها وفاجرها شاموا حيا العدل من مخايله ** وأصحرت بالتقى بصائرها وأحمدوا منك سيرة جلت ال ** شك وأخرى صحت معاذرها واستجمعت طاعة برفقك للمأ ** مون نجديها وغائرها وأنت سمع في العالمين له ** ومقلة ما يكل ناظرها فاشكر لذي العرش نعمته ** وأوجب فضل المزيد شاكرها واحذر فداءً لك الرعية وال ** أجناد مأمورها وآمرها لا تردن غمرةً بنفسك لا ** يصدر عنها بالرأي صادرها عليك ضحضاحها فلا تلج الغم ** رة ملتجةً زواخرها والقصد إن الطريق ذو شعبٍ ** أشماخها وعثها وجائرها أصبحت في أمةٍ أوائلها ** قد فارقت هديها أواخرها وأنت سرسورها وسائسها ** فهل على الحق أنت قاسرها! أدب رجالًا رأيت سيرتهم ** خالف حكم الكتاب سائرها وامدد إلى الناس كف مرحمة ** تسد منهم بها مفاقرها أمكنك العدل إذ هممت به ** ووافقت مده مقادرها وأبصر الناس قصد وجههم ** وملكت أمةً أخايرها تشرع أعناقها إليك إذ الس ** ادات يومًا جمت عشائرها كم عندنا من نصيحة لك في الل ** ه وقربى عزت زوافرها وحرمةٍ قربت أواصرها ** منك، وأخرى هل أنت ذاكرها! سعى رجال في العلم مطلبهم ** رائحها باكر وباكرها دونك غراء كالوذيلة لا ** تفقد في بلدةٍ سوائرها لا طمعًا قلتها ولا بطرًا ** لكل نفسٍ هوىً يؤامرها سيرها الله بالنصيحة وال ** خشية فاستدنجت مرائرها جاءتك تحكي لك الأمور كما ** ينشر بز التجار ناشرها حملتها صاحبًا أخا ثقةٍ ** يظل عجبًا بها يحاضرها وفي هذه السنة استأمن الموكلون بقصر صالح من قبل محمد. ذكر خبر وقعة قصر صالح وفيها كانت الوقعة التي كانت على أصحاب طاهر قصر صالح. ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر عن محمد بن الحسين بن مصعب، أن طاهرًا لم يزل مصابرًا محمدًا وجنده على ما وصفت من أمره؛ حتى مل أهل بغداد من قتاله، وأن علي فراهمرد الموكل بقصر صالح وسليمان بن أبي جعفر من قبل محمد، كتب إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه؛ وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، ووجه إليه أبا العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي فيمن ضم إليه من قواده وذوي البأس من فرسانه ليلًا، فسلم إليه كل ما كان محمد وكله به من ذلك ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة. واستأمن إليه محمد بن عيسى صاحب شرطة محمد؛ وكان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش؛ وكان محمد بن عيسى غير مداهن في أمر محمد؛ وكان مهيبًا في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أشفى محمد على الهلاك، ودخله من ذلك ما أقامه وأقعده حتى استسلم؛ وصار على باب أم جعفر يتوقع ما يكون؛ وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار. قال: فقتل في داخل القصر أبو العباس يوسف بن يعقوب الباذغيسي ومن كان معه من القواد والرؤساء المعدودين، وقاتل فراهمرد وأصحابه خارجًا من القصر حتى فل وانحاز إلى طاهر؛ ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها، ولا أكثر قتيلًا وجريحًا معقورًا من أصحاب طاهر من تلك الوقعة؛ فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب. وقال فيها الغوغاء والرعاع، وكان مما قيل في ذلك قول الخليع: أمين الله ثق بالل ** ه تعط الصبر والنصره كل الأمر إلى الله ** كلاك الله ذو القدره لنا النصر بعون الل ** ه والكرة لا الفره وللمراق أعدائ ** ك يوم السوء والدبره وكأس تلفظ الموت ** كريه طعمها مره سقينا وسقيناهم ** ولكن بهم الحره كذاك الحرب أحيانًا ** علينا ولنا مره فذكر عن بعض الأبناء أن طاهرًا بث رسله، وكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن حاز ضياعهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان والدخول في خلع محمد والبيعة للمأمون؛ فلحق به جماعة، منهم عبد الله بن حميد بن قحطبة الطائي وإخوته، وولد الحسن بن قحطبة ويحيى بن علي بن ماهان ومحمد بن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه. قال: ولما كانت وقعة قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى الهرش؛ فوضعا مما يليهما من الدروب والأبواب وكلاءهما بأبواب المدينة والأرباض وسوق الكرخ. وفرض دجلة وباب المحول والكناسة؛ فكان لصوصها وفساقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من أهل الملة والذمة؛ فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب. قال: ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم؛ فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على أهل الريب. وأمر محمد بن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم؛ فكان الرجل إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو بز؛ حتى قيل: إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا، مثل السور الذي قال الله تعالى ذكره: " فضرب بينهم بسور له باب باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ". فلما طال على الناس ما بلوا به ساءت حالهم، وضاقوا به ذرعًا؛ وفي ذلك يقول بعض فتيان بغداد: بكيت دمًا على بغداد لما ** فقدت غضارة العيش الأنيق تبدلنا همومًا من سرورٍ ** ومن سعةٍ تبدلنا بضيق أصابتها من الحساد عين ** فأفنت أهلها بالمنجنيق فقوم أحرقوا بالنار قسرًا ** ونائحة تنوح على غريق وصائحة تنادي واصباحًا ** وباكية لفقدان الشفيق وحوراء المدامع ذات دل ** مضمخة المجاسد بالخلوق تفر من الحريق إلى انتهابٍ ** ووالدها يفر إلى الحريق وسالبة الغزالة مقلتيها ** مضاحكها كلألأة البروق حيارى كالهدايا مفكرات ** عليهن القلائد في الحلوق ينادين الشفيق ولا شفيق ** وقد فقد الشقيق من الشقيق وقوم أخرجوا من ظل دنيا ** متاعهم يباع بكل سوق ومغترب قريب الدار ملقىً ** بلا رأسٍ بقارعة الطريق توسط من قتالهم جميعًا ** فما يدرون من أي الفريق فلا ولد يقيم على أبيه ** وقد هرب الصديق بلا صديق ومهما أنس من شيء تولى ** فإني ذاكر دار الرقيق وذكر أن قائدًا من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس، خرج يومًا إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من أرى؛ استهانة بأمرهم واحتقارًا لهم؛ فقيل له: نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة؛ فقال: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم، وأنتم في السلاح الظاهر، والعدة والقوة؛ ولكم ما لكم من الشجاعة والنجدة! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم! فأوتر قوسه وتقدم، وأبصره بعضهم فقصد نحوه وفي يده بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فوقع في باريته أو قريبًا منه؛ فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك، وجعله شبيهًا بالجعبة. وجعل كلما وقع سهم أخذه وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه؛ ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه؛ فأخرج من مخلاته حجرًا؛ فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بآخر؛ فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه؛ وكر راجعًا وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس؛ قال: فحدثت أن طاهرًا حدث بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إلى الحرب؛ فقال بعض شعراء بغداد في ذلك: خرجت هذه الحروب رجالًا ** لا لقحطانها ولا لنزار معشرًا في جواشن الصوف يغدو ** ن إلى الحرب كالأسود الضواري وعليهم مغافر الخوص تجزي ** هم عن البيض. والتراس البواري ليس يدرون ما الفرار إذا الأب ** طال عاذوا من القنا بالفرار واحد منهم يشد على أل ** فين عريان ما له من إزار ويقول الفتى إذا طعن الطع ** نة: خذها من الفتى العيار كم شريف قد أخملته وكم قد ** رفعت من مقامر طرار ذكر خبر منع طاهر الملاحين من إدخال شيء إلى بغداد قال محمد بن جرير: وفي هذه السنة منع طاهر الملاحين وغيرهم من إدخال شيء إلى بغداد إلا من كان من عسكره منهم، ووضع الرصيد عليهم بسبب ذلك. ذكر الخبر عما كان منه ومن أصحاب محمد المخلوع في ذلك وعن السبب الذي من أجله فعل ذلك طاهر أما السبب في ذلك فإنه - فيما ذكر - كان أن طاهرًا لما قتل من قتل في قصر صالح من أصحابه، ونالهم فيه من الجراح ما نالهم، مضه ذلك وشق عليه؛ لأنه لم يكن له وقعة إلا كانت له لا عليه؛ فلما شق عليه أمر بالهدم والإحراق عند ذلك، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشأم وباب الكوفة، إلى الصراة وأرجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة؛ وجعل يبايت أصحاب محمد ويدالجهم، ويحوي في كل يوم ناحية، ويخندق عليها المراصد من المقاتلة؛ وجعل أصحاب محمد ينقصون، ويزيدون؛ حتى لقد كان أصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون؛ فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد، ويكونون أضر على أصحابهم من أصحاب طاهر تعديًا؛ فقال شاعر منهم - وذكر أنه عمرو بن عبد الملك الوراق العتري - في ذلك: لنا كل يوم ثلمة لا نسدها ** يزيدون فيما يطلبون وننقص إذا هدموا دارًا أخذنا سقوفها ** ونحن لأخرى غيرها نتربص وإن حرصوا يومًا على الشر جهدهم ** فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص فقد ضيقوا من أرضنا كل واسعٍ ** وصار لهم أهل بها، وتعرصوا يثيرون بالطبل القنيص فإن بدا ** لهم وجه صيدٍ من قريب تقنصوا لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها ** علينا فما ندري إلى أين نشخص! إذا حضروا قالوا بما يعرفونه ** وإن يروا شيئًا قبيحًا تخرصوا وما قتل الأبطال مثل مجربٍ ** رسول المنايا ليله يتلصص ترى البطل المشهور في كل بلدة ** إذا ما رأى العريان يومًا يبصبص إذا ما رآه الشمري مقزلًا ** على عقبيه للمخافة ينكص يبيعك رأسًا للصبي بدرهمٍ ** فإن قال إني مرخص فهو مرخص فكم قاتلٍ منا لآخر منهم ** بمقتله عنه الذنوب تمحص تراه إذا نادى الأمان مبارزًا ** ويغمرنا طورًا وطورًا يخصص وقد رخصت قراؤنا في قتالهم ** وما قتل المقتول إلا المرخص وقال أيضًا في ذلك: الناس في الهدم وفي الانتقال ** قد عرض الناس بقيلٍ وقال يأيها السائل عن شأنهم ** عينك تكفيك مكان السؤال قد كان للرحمن تكبيرهم ** فاليوم تكبيرهم للقتال اطرح بعينيك إلى جمعهم ** وانتظر الروح وعد الليال لم يبق في بغداد إلا امرؤ ** حالفه الفقر كثير العيال لا أم تحمي عن حماها ولا ** خال له يحمي ولا غير خال ليس له مال سوى مطردٍ ** مطرده في كفه رأس مال هان على الله فأجرى على ** كفيه للشقوة قتل الرجال إن صار ذا الأمر إلى واحدٍ ** صار إلى القتل على كل حال ما بالنا نقتل من أجلهم ** سبحانك اللهم يا ذا الحلال! وقال أيضًا: ولست بتاركٍ بغداد يومًا ** ترحل من ترحل أو أقاما إذا ما العيش ساعدنا فلسنا ** نبالي بعد من كان الإماما قال عمرو بن عبد الملك العتري: لما رأى طاهر أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق أمر عند ذلك بمنع التجار أن يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع من ناحيته إلى مدينة أبي جعفر والشرقية والكرخ، وأمر بصرف سفن البصرة وواسط بطرنايا إلى الفرات؛ ومنه إلى المحول الكبير وإلى الصراة، ومنها إلى خندق باب الأنبار؛ بما كان زهير بن المسيب يبذرقه إلى بغداد، وأخذ من كل سفينة فيها حمولة ما بين الألف درهم إلى الألفين والثلاثة، وأكثر وأقل، وفعل عمال طاهر وأصحابه ببغداد في جميع طرقها مثل ذلك وأشد، فغلت الأسعار، وصار الناس في أشد الحصار، فيئسوا أو كثير منهم من الفرج والروح، واغتبط من كان خرج منها، وأسف على مقامه من أقام. وفي هذه السنة استأمن ابن عائشة إلى طاهر، وكان قد قاتل مع محمد حينًا بالياسرية. ذكر خبر وقعة الكناسة وفيها جعل طاهر قوادًا من قواده بنواحي بغداد، فجعل العلاء بن الوضاح الأزدي في أصحابه ومن ضم إليه بالوضاحية على المحول الكبير، وجعل نعيم بن الوضاح أخاه فيمن كان معه من الأتراك وغيرهم مما يلي ربض أبي أيوب على شاطئ الصراة، ثم غادى القتال وراوح أشهرًا، ثم صبر الفريقان جميعًا؛ فكانت لهم فيها وقعة بالكناسة؛ باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها بشر كثير من أصحاب محمد، فقال عمرو بن عبد الملك: وقعة يوم الأحد ** صارت حديث الأبد كم جسد أبصرته ** ملقىً وكم من جسد وناظر كانت له ** منية بالرصد أتاه سهم عاثر ** فشك جوف الكبد وصائحٍ يا والدي ** وصائحٍ يا ولدي وكم غريقٍ سابحٍ ** كان متين الجلد! لم يفتقده أحد ** غير بنات البلد وكم فقيدٍ بئس ** عز على المفتقد كان من النظارة ال ** أولى شديد الحرد لم يبق من كهل لهم ** فات ولا من أمرد وطاهر ملتهم ** مثل التهام الأسد خيم لا يبرح في ال ** عرصة مثل اللبد تقذف عيناه لدى ال ** حرب بنار الوقد فقائل قد قتلوا ** ألفًا ولما يزد وقائل أكثر بل ** ما لهم من عدد وهارب نحوهم ** يرهب من خوف غد هيهات لا تبصر مم ** ن قد مضى من أحد لا يرجع الماضي إلى ال ** باقي طوال الأبد قلت لمطعون وفي ** ه روحه لم تبد من أنت يا ويلك يا ** مسكين من محمد فقال لا من نسبٍ ** دانٍ ولا من بلد لم أره قط ولم ** أجد له من صفد قلت لا للغي قا ** تلت ولا للرشد إلا لشيء عاجلٍ ** يصير منه في يدي وذكر عن عمرو بن عبد الملك أن محمدًا أمر زريحًا غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلًا، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالًا كثيرة، وأهلك خلقًا، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك: أظهروا الحج وما ينوونه ** بل من الهرش يريدون الهرب كم أناس أصبحوا في غبطة ** وكل الهرش عليهم بالعطب كل من راد زريح بيته ** لقي الذل ووافاه الحرب ذكر خبر وقعة درب الحجارة وفيها كانت وقعة درب الحجارة. ذكر الخبر عنها ذكر أن هذه الوقعة كانت بحضرة درب الحجارة؛ وكانت لأصحاب محمد على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير، فقال في ذلك عمرو بن عبد الملك العتري: وقعة السبت يوم درب الحجاره ** قطعت قطعة من النظاره ذاك من بعد ما تفانوا ولكن ** أهلكتهم غوغاؤنا بالحجاره قدم الشورجين للقتل عمدًا ** قال إني لكم أريد الإماره فتلقاه كل لص مريبٍ ** عمر السجن دهره بالشطاره ما عليه شيء يواريه منه ** أيره قائم كمثل المناره فتولوا عنهم وكانوا قديمًا ** يحسنون الضراب في كل غاره هؤلاء مثل هولاك لدينا ** ليس يرعون حق جار وجاره كل من كان خاملًا صار رأسًا ** من نعيمٍ في عيشه وغضاره حامل في يمينه كل يومٍ ** مطردًا فوق رأسه طياره أخرجته من بيتها أم سوءٍ ** طلب النهب أمه العياره يشتم الناس ما يبالي بإفصا ** حٍ لذي الشتم لا يشير إشاره ليس هذا زمان حر كريم ** ذا زمان الأنذال أهل الزعاره كان فيما مضى القتال قتالًا ** فهو اليوم يا علي تجاره وقال أيضًا: بارية قيرت ظاهرها ** محمد فيها ومنصور العز والأمن أحاديثهم ** وقولهم قد أخذ السور وأي نفع لك في سورهم ** وأنت مقتول ومأسور؟ قد قتلت فرسانكم عنوةً ** وهدمت من دوركم دور هاتوا لكم من قائد واحد ** مهذب في وجهه نور يأيها السائل عن شأننا ** محمد في القصر محصور ذكر خبر وقعة باب الشماسية وفيها أيضًا كانت وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة. ذكر عن علي بن يزيد أنه قال: كان ينزل هرثمة نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحيانًا، فيقف بباب خراسان مشفقا من أهل العسكر، كارهًا للحرب، فيدعو الناس إلى ما هو عليه فيشتمه، ويستخف به؛ فيقف ساعة ثم ينصرف. وكان حاتم بن الصقر من قواد محمد؛ وكان قد واعد أصحابه الغزاة والعيارين أن يوافوا عبيد الله بن الوضاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم؛ فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولى منهزمًان فأصابوا له خيلًا وسلاحًا ومتاعًا كثيرًا، وغلب على الشماسية حاتم ابن صقر. وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته، وليرد العسكر إلى موضعه؛ فوافاه أصحاب محمد، ونشب الحرب بينهم، وأسر رجل من الغزاة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على الرجل، فقطع يده وخلصه، فمر منهزمًا، وبلغ خبره أهل عسكره، فتقوض بما فيه، وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز أصحاب محمد الليل عن الطلب؛ وما كانوا من النهب والأسر. فحدثت أن عسكر هرثمة لم يتراجع أهله يومين، وقويت الغزاة بما سار في أيديهم. وقيل في تلك الوقعة أشعار كثيرة، فمن ذلك قول عمرو الوراق: عريان ليس بذي قميص ** يغدو على طلب القميص يعدو على ذي جوشنٍ ** يعمي العيون من البصيص في كفه طرادة ** حمراء تلمع كالفصوص حرصًا على طلب القتا ** ل أشد من حرص الحريص سلس القياد كأنما ** يغدو على أكل الخبيص ليثًا مغيرًا لم يزل ** رأسًا يعد من اللصوص أجرى وأثبت مقدمًا ** في الحرب من أسدٍ رهيص يدنو على سنن الهوا ** ن وعيصه من شر عيص ينجو إذا كان النجا ** ء على أخف من القلوص ما للكمي إذا لمق ** تله تعرض من محيص كم من شجاعٍ فارسٍ ** قد باع بالثمن الرخيص يدعو: ألا من يشتري ** رأس الكمي بكف شيص! وقال بعض أصحاب هرثمة: يفنى الزمان وما يفنى قتالهم ** والدور تهدم والأموال تنتقص والناس لا يستطيعون الذي طلبوا ** لا يدفعون الردى عنهم وإن حرصوا يأتوننا بحديثٍ لا ضياء له ** في كل يوم لأولاد الزنا قصص قال: ولما بلغ طاهرًا ما صنع الغزاة وحاتم بن الصقر بعبيد الله بن الوضاح وهرثمة اشتد ذلك عليه، وبلغ منه؛ وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، ووجه أصحابه وعبأهم، وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا إليهم وقاتلوهم أشد القتال، وأمدهم بأصحابه ساعة بعد ساعة حتى ردوا أصحاب محمد، وأزالوهم عن الشماسية، ورد المهاجر عبيد الله بن الوضاح وهرثمة. قال: وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه الخيزرانية بعد ظفر الغزاة ألفي ألف درهم، فحرقها أصحاب طاهر كلها، وكانت السقوف مذهبة، وقتلوا من الغزاة والمنتهبين بشرًا كثيرًا، وفي ذلك يقول عمرو الوراق: ثقلان وطاهر بن الحسين ** صبحونا صبيحة الإثنين جمعوا جمعهم بليل ونادوا ** اطلبوا اليوم ثأركم بالحسين ضربوا طلبهم فثار إليهم ** كل صلب القناة والساعدين يا قتيلا بالقاع ملقىً على الشط ** هواه بطيء الجبلين ما الذي في يديك أنت إذا ما اص ** طلح الناس أنت بالخلتين أوزير أم قائد، بل بعيد ** أنت من ذين موضع الفرقدين كم بصير غدا بعينين كي يب ** صر ما حالهم فعاد بعين ليس يخطون ما يريدون ما يع ** مد راميهم سوى الناظرين سائلي عنهم هم شر من أب ** صرت في الناس ليس غير كذين شر باقٍ وشر ماضٍ من النا ** س مضى أو رأيت في الثقلين قال: وبلغ ذلك من فعل طاهر محمدًا، فاشتد عليه وغمه وأحزنه؛ فذكر كاتب لكوثر أن محمدًا قال - أو قيل على لسانه هذه الأبيات: منيت بأشجع الثقلين قلبًا ** إذا ما طال ليس كما يطول له مع كل ذي بدنٍ رقيب ** يشاهده ويعلم ما يقول فليس بمغفلٍ أمرًا عنادًا ** إذا ما الأمر ضيعه الغفول وفي هذه السنة ضعف أمر محمد، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بن خازم بن خزيمة من بغداد إلى المدائن؛ فذكر عن الحسين بن الضحاك أن عبد الله بن خازم بن خزيمة ظهرت له التهمة من محمد والتحامل عليه من السفلة والغوغاء، فهم على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلًا في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئًا من القتال. وذكر غيره أن طاهرًا كاتبه وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره ونجا من تلك الفتنة وسلم؛ فقال بعض قرائبه في ذلك: وما جبن ابن خازم من رعاعٍ ** وأوباش الطغام من الأنام ولكن خاف صولة ضيغمي ** هصور الشد مشهور العرام فذاع أمره في الناس، ومشى تجار الكرخ بعضهم إلى بعض، فقالوا: ينبغي لنا أن نكشف أمرنا لطاهر ونظهر له براءتنا من المعونة عليه، فاجتمعوا وكتبوا كتابًا أعلموه فيه أنهم أهل السمع والطاعة والحب له؛ لما يبلغهم من إيثاره طاعة الله والعمل بالحق، والأخذ على يد المريب، وأنهم غير مستحلي النظر إلى الحرب؛ فضلًا عن القتال، وأن الذي يكون حزبه من جانبهم ليس منهم، قد ضاقت بهم طرق المسلمين؛ حتى إن الرجال الذين بلوا من حربه من جانبهم، ولا لهم بالكرخ دور ولا عقار؛ وإنما هم بين طرار وسواط ونطاف، وأهل السجون. وإنما مأواهم الحمامات والمساجد، والتجار منهم إنما هم باعة الطريق يتجرون في محقرات البيوع، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى أن الرجل ليستقبل المرأة في زحمة الناس فيلتثان قبل التخلص؛ وحتى إن الشيخ ليسقط لوجهه ضعفًا وحتى إن الحامل الكيس في حنجرته وكفه ليطر منه، وما لنا بهم يدان ولا طاقة؛ ولا نملك لأنفسنا معهم شيئًا؛ وإن بعضنا يرفع الحجر عن الطريق لما جاء فيه من الحديث عن النبي ﷺ؛ فكيف لو اقتدرنا على من في إقامته عن الطريق، وتخليده السجن، وتنفيته عن البلاد وحسم الشر والشغب ونفي الزعارة والطر والسرق، وصلاح الدين والدنيا، وحاش لله أن يحاربك منا أحد! فذكر أنهم كتبوا بهذا قصة، واتعد قوم على الانسلال إليه بها، فقال لهم أهل الرأي منهم والحزم: لاتظنوا أن طاهرًا غبي عن هذا أو قصر عن إذكاء العيون فيكم وعليكم؛ حتى كأنه شاهدكم؛ والرأي ألا تشهروا أنفسكم بهذا؛ فإنا لا نأمن إن رآكم أحد من السفلة أن يكون به هلاككم وذهاب أموالكم؛ والخوف من تعرضكم لهؤلاء السفلة أعظم من طلبكم براءة الساحة عند طاهر خوفًا، بل لو كنتم من أهل الأثام والذنوب لكنتم إلى صفحه وتغمده وعفوه أقرب، فتوكلوا على الله تبارك وتعالى وأمسكوا. فأجابوهم وأمسكوا. وقال ابن أبي طالب المكفوف: دعوا أهل الطريق فعن قليل ** تنالهم مخاليب الهصور فتهتك حجب أفئدة شداد ** وشيكًا ما تصير إلى القبور فإن الله مهلكهم جميعًا ** بأسباب التمني والفجور وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة العباس، وخرجت عصابة من أصحاب طاهر، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وكانت ناحية لم يقاتل فيها، فصار ذلك على الوجه بعد ذلك اليوم موضعًا للقتال؛ حتى كان الفتح منه؛ وكان أول يوم قاتلوا فيه استعلى أصحاب محمد على أصحاب طاهر حتى بلغوا بهم دار أبي يزيد الشروي. وخلف أهل الأرباض في تلك النواحي مما يلي طريق باب الأنبار؛ فذكر أن طاهرًا لما رأى ذلك وجه إليهم قائدًا من أصحابه، وكان مشتغلًا بوجوه كثيرة يقاتل منها أصحاب محمد، فأوقع بهم فيها وقعة صعبة، وغرق في الصراة بشر كثير، وقتل آخرون، فقال في هزيمة طاهر في أول يوم عمرو الوراق: نادى منادي طاهرٍ عندنا ** يا قوم كفوا واجلسوا في البيوت فسوف يأتيكم غد فاحذروا ** ليثًا هريت الشدق فيه عيوت فثارت الغوغاء في وجهه ** بعد انتصاف الليل قبل القنوت في يوم سبتٍ تركوا جمعه ** في ظلمة الليل سمودًا خفوت وقال في الوقعة التي كانت على أصحاب محمد: كم قتيل قد رأينا ** ما سألناه لأيش دارعًا يلقاه عريا ** ن بجهلٍ وبطيش إن تلقاه برمحٍ ** يتلقاه بفيش حبشيًا يقتل النا ** س على قطعة خيش مرتدٍ بالشمس راض ** بالمنى من كل عيش يحمل الحملة لا يق ** تل إلا رأس جيش كعلي أفراهمردٍ ** أو علاءٍ أو قريش أحذر الرمية يا طا ** هر من كف الحبيشي وقال أيضًا عمرو الوراق في ذلك: ذهبت بهجة بغدا ** د وكانت ذات بهجه فلها في كل يومٍ ** رجة من بعد رجه ضجت الأرض إلى الل ** ه من المنكر ضجه أيها المقتول ما أن ** ت على دين المحجه ليت شعري ما الذي نل ** ت ووقد أدلجت دلجه أإلى الفردوس وجه ** ت أم النار توجه حجر أرداك أم أر ** ديت قسرًا بالأزجه إن تكن قاتلت برًا ** فعلينا ألف حجه وذكر عن علي بن يزيد أن بعض الخدم حدثه أن محمدًا أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت، فكتم ولاتها ما فيها لتسرق، فتضايق على محمد أمره، وفقد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال يومًا وقد ضجر مما يرد عليه: وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعًا، وأراح الناس منهم؛ فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا؛ أما هؤلاء فيريدون مالي؛ وأما أولئك فيريدون نفسي. وذكرت أبياتًا قيل أنه قالها: تفرقوا ودعوني ** يامعشر الأعوان فكلكم ذو وجوهٍ ** كخلقة الإنسان وما أرى غير إفكٍ ** وترهات الأماني ولست أملك شيئًا ** فسائلوا خزاني فالويل لي ما دهاني ** من ساكن البستان قال: وضعف أمر محمد، وانتشر جنده وارتاع في عسكره، وأحس من طاهر بالعلو عليه وبالظفر به. وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك. وكان على مكة في هذه السنة داود بن عيسى. ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر استيلاء طاهر على بغداد فمن ذلك ما كان من خلاف خزيمة بن خازم محمد بن هارون ومفارقته إياه واستئمانه إلى طاهر بن الحسين ودخول هرثمة الجانب الشرقي. ذكر الخبر عن سبب فراقه إياه وكيف كان الأمر في مصيره والدخول في طاعة طاهر ذكر السبب في ذلك كان طاهرًا كتب إلى خزيمة يذكر له أن الأمر يقطع بينه وبين محمد ولم يكن له أثر في نصرته، لم يقصر في أمره. فلما وصل كتابه إليه شاور الرجل أخذ بقفا صاحبنا، فاحتل لنفسك ولنا؛ فكتب إلى طاهر بطاعته، وأخبره أنه لو كان هو النازل في الجانب الشرقي مكان هرثمة لكان يحمل نفسه له على كل هول، وأعلمه قلة ثقته بهرثمة، ويناشده ألا يحمله على مكروه من أمره إلا أن يضمن له القيام دونه، وإدخال هرثمة إليه ليقطع الجسور، ويتبع هو أمرًا يؤثر رأيه ورضاه؛ وانه إن لم يضمن له ذلك؛ فليس يسعه تعريضه للسفلة والغوغاء والرعاع والتلف. فكتب طاهر إلى هرثمة يلومه ويعجزه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وأقطعها دون أمير المؤمنين ودوني، وفي مثل حاجتي إلى الكلف والنفقات؛ وقد وقفت على قوم هينة شوكتهم، يسير أمرهم، وقوف المحجم الهائب؛ إن في ذلك جرمًا؛ فاستعد للدخول؛ فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر وقطع الجسور؛ وأرجو ألا يختلف عليك في ذلك اثنان إن شاء الله. قال: وكتب إليه هرثمة: أنا عارف ببركة رأيك، ويمن مشورتك، فمر بما أحببت؛ فلن أخالفك؛ قال: فكتب طاهر بذلك إلى خزيمة. وقد ذكر أن طاهرًا لما كتب أيضًا إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك. قيل: فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وركزا أعلامهما عليه، وخلعا محمدًا، ودعوا لعبد الله المأمون؛ وسكن أهل عسكر المهدي ولزموا منازلهم وأسواقهم في يومهم ذلك؛ ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر يسير غيرهما من القواد، فحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروهًا، فقبل ذلك منهم، فقال حسين الخليع في قطع خزيمة الجسر: علينا جميعًا من خزيمة منة ** بها أخمد الرحمن ثائرة الحرب تولى أمور المسلمين بنفسه ** فذب وحامى عنهم أشرف الذب ولولا أبو العباس ما انفك دهرنا ** يبيت على عتب ويغدو على عتب خزيمة لم ينكر له مثل هذه ** إذا اضطربت شرق البلاد مع الغرب أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ** شوارع والأرواح في راحة العضب وأم المنايا بالمنايا مخيلة ** تفجع عن خطب وتضحك عن خطب فكانت كنار ما كرتها سحابة ** فأطفأت اللهب الملفف باللهب وما قتل نفس في نفوس كثيرة ** إذا صارت الدنيا إلى الأمن والخصب بلاء أبي العباس غير مكفر ** إذا فزع الكرب المقيم إلى الكرب فذكر عن يحيى بن سلمة الكاتب أن طاهرًا غدًا يوم الخميس على المدينة الشرقية وأرباضها، والكرخ وأسواقها، وهدم قنطرتي الصراة العتيقة والحديثة واشتد عندهما القتال، واشتد طاهر على أصحابه، وباشر القتال بنفسه، وقاتل من كان معه بدار الرقيق فهزمهم حتى ألحقهم بالكرخ، وقاتل طاهر بباب الكرخ وقصر الوضاح، فهزمهم أصحاب محمد وردوا على وجوههم، ومر طاهر لا يلوي على أحد حتى دخل قسرًا بالسيف. وأمر مناديه فنادى بالأمان لمن لزم منزله، ووضع بقصر الكرخ والأطراف قوادًا وجندًا في كل موضع على قدر حاجته منهم؛ وقصد إلى مدينة أبي جعفر، فأحاط بها وبقصر زبيدة وقصر الخلد من لدن باب الجسر إلى باب خراسان وباب البصرة وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة بالخيول والعدة والسلاح، وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش والأفارقة، فنصب المجانيق خلف السور على المدينة وبإزاء قصر زبيدة وقصر الخلد ورمى، وخرج محمد وبأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في السكك والطرق، لا يلوي منهم أحد على أحد، وتفرق الغوغاء والسفلة، وفي ذلك يقول عمرو الوراق: يا طاهر الظهر الذي ** مثاله لم يوجد يا سيد بن السيد ب ** ن السيد بن السيد رجعت إلى أعمالها الأ ** ولى غزاة محمد من بين نطافٍ وسو ** اطٍ وبين مقرد ومجردٍ يأوي إلى ** عيارةٍ ومجرد ومقيدٍ نقب السجو ** ن فعاد غير مقيد ومقيدٍ بالنهب سا ** د وكان غير مسود ذلوا لعزك واستكا ** نوا بعد طول تمرد وذكر عن علي بن يزيد، أنه قال: كنت يومًا عند عمرو الوراق أنا وجماعة، فجاء رجل، فحدثنا بوقعة طاهر بباب الكرخ وانهزام الناس عنه، فقال عمرو: ناولني قدحًا، وقال في ذلك: خذها فللخمرة أسماء ** لهل دواء ولها داء يصلحها الماء إذا صفقت ** يومًا وقد يفسدها الماء وقائلٍ كانت لهم وقعة ** في يومنا هذا وأشياء قلت له: أنت امرؤ جاهل ** فيك عن الخيرات إبطاء اشرب ودعنا من أحاديثهم ** يصطلح الناس إذا شاءوا قال: ودخل علينا آخر، فقال: قاتل فلان الغزاة، وأقدم فلان، وانتهب فلان. قال: فقال أيضًا: أي دهر نحن فيه ** مات فيه الكبراء هذه السفلة والغو ** غاء فينا أمناء ما لنا شيء من الأش ** ياء إلا ما يشاء ضجت الأرض وقد ضج ** ت إلى الله السماء ورفع الدين وقد ها ** نت على الله الدماء يا أبا موسى لك الخي ** رات قد حان اللقاء هاكها صرفًا عقارًا ** قد أتاك الندماء وقال أيضًا عمرو الوراق في ذلك: إذا ما شئت أن تغض ** ب جنديًا وتستامر فقل: يا معشر الأجنا ** د قد جاءكم طاهر قال وتحصن محمد بالمدينة هو ومن يقاتل معه، وحصره طاهر وأخذ عليه الأبواب، ومنع منه ومن أهل المدينة الدقيق والماء وغيرهما. فذكر عن الحسين بن أبي سعيد أن طارقًا الخادم - وكان من خاصة محمد، وكان المأمون بعد مقدمه أخبره أن محمد سأله يومًا من الأيام وهو محصور، أو قال في آخر يوم من أيامه، أن يطعمه شيئًا - قال: فدخلت المطبخ فلم أجد شيئًا، فجئت إلى جمرة العطارة - وكانت جارية الجوهر - فقلت لها: إن أمير المؤمنين جائع، فهل عندك شيء، فإني لم أجد في المطبخ شيئًا؟ فقالت لجارية لها يقال لها بنان: أي شيء عندك؟ فجاءت بدجاجة ورغيف، فأتيته بهما فأكل، وطلب ماء يشربه فلم يوج في خزانة الشراب، فأمسى وقد كان عزم على لقاء هرثمة؛ فما شرب ماء حتى أتى عليه. وذكر عن محمد بن راشد أن إبراهيم بن المهدي أخبره أنه كان نازلًا مع محمد المخلوع في مدينة المنصور في قصره بباب الذهب، لما حصره طاهر. قال: فخرج ذات ليلة من القصر يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر القرار - في قرن الصراة - أسفل من قصر الخلد - في جوف الليل، ثم أرسل إلي فصرت إليه، فقال: يا إبراهيم، أما ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء! ونحن حينئذٍ في شاطئ دجلة، فهل لك في الشرب! فقلت: شأنك، جعلني الله فداك! فدعا برطل نبيذ فشربه، ثم أمر فسقيت مثله. قال: فابتدأت أغنيه من غير أن يسألني؛ لعلمي بسوء خلقه، فغنيت ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحوجني إلى ذلك؛ فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها؛ ونحن في تلك الحال التي هو عليها، فلما صارت بين يديه، قال: تغني، فغنت بشعر النابغة الجعدي: كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ** وأيسر ذنبًا منك ضرج بالدم قال: فاشتد ما غنت به عليه وتطير منه، وقال لها: عن غير هذا فتغنت: أبكي فراقهم عيني وأرقها ** إن التفرق للأحباب بكاء ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ** حتى تفانوا وريب الدهر عداء فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء شيئًا غير هذا! قالت: يا سيدي، ما تغنيت إلا بما ظننت أنك تحبه؛ وما أردت ما تكرهه؛ وما هو إلا شيء جاءني. ثم أخت في غناء آخر: أما ورب السكون والحرك ** إن المنايا كثيرة الشرك ما اختلف الليل والنهار ولا ** دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل النعيم من ملك ** عان بحب الدنيا بلا ملك وملك ذي العرش دائم أبدًا ** ليس بفانٍ ولا مشترك فقال لها: قومي غضب الله عليك! قال: فقامت. وكان له قدح بلور حسن الصنعة، وكان محمد يسميه زبرباح، وكان موضوعًا بين يديه، فقامت الجارية منصرفة فتعثرت بالقدح فكسرته - قال إبراهيم: والعجب أنا لم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا ما نكره في مجلسنا هذا - فقال لي: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية؛ ثم ماكان من أمر القدح! والله ما أظن أمري إلا وقد قرب، فقلت: يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، ويديم لك، ويكبت عدوك. فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتًا من دجلة " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "، فقال: يا إبراهيم ما سمعت ما سمعت! قلت: لا والله، ما سمعت شيئًا - وقد كنت سمعت - قال: تسمع حسًا! قال: فدنوت من الشط فلم أر شيئًا، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت: " قضي الأمر الذي فيه تستفتيان "، فوثب من مجلسه ذلك مغتمًا، ثم ركب فرجع إلى موضعه بالمدينة، فما كان بعد هذا إلا ليلة أو ليلتان حتى حدث ما حدث من قتله، وذلك ليوم الأحد لست - أو لأربع - خلون من صفر، سنة ثمان وتسعين ومائة. وذكر عن أبي الحسن المدائني؛ قال: لما كان ليلة الجمعة لسبع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، دخل محمد بن هارون مدينة السلام هاربًا من القصر الذي كان يقال له الخلد مما كان يصل إليه من حجارة المنجنيق، وأمر بمجالسه وبسطه أن تحرق فأحرقت، ثم صار إلى المدينة؛ وذلك لأربع عشرة شهرًا منذ ثارت الحرب مع طاهر إلا اثنا عشر يوما. ذكر الخبر عن قتل الأمين وفي هذه السنة قتل محمد بن هارون. ذكر الخبر عن مقتله ذكر عن محمد بن عيسى الجلودي أنه قال: لما صار محمد إلى المدينة، وقر فيها، وعلم قواده أنه ليس لهم ولا له فيها عدة للحصار، وخافوا أن يظفر بهم؛ دخل على محمد حاتم بن الصقر ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي وقواده، فقالوا: قد آلت حالك وحالنا إلى ما ترى؛ وقد رأينا رأيًا نعرضه عليك، فانظر فيه واعتزم عليه؛ فإنا نرجو أن يكون صوابًا ويجعل الله فيه الخيرة إن شاء الله. قال: ما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك من كل جانب، وقد بقي من خيلك معك ألف فرس من خيارها وجيادها؛ فنرى أن نختار من قد عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعمائة رجل، فنحملهم على هذه الخيل ونخرج ليلًا على باب من هذه الأبواب فإن الليل لأهله؛ ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله؛ فنخرج حتى نلحق بالجزيرة والشأم فتفرض الفروض، وتجبى الخراج، وتصير في مملكة واسعة، وملك جديد، فيسارع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجنود، وإلى ذلك ما قد أحدث الله عز وجل في مكر الليل والنهار. فقال لهم: نعم ما رأيتم؛ واعتزم على ذلك. وخرج الخبر إلى طاهر؛ فكتب إلى سليمان بن أبي جعفر، وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى السندي بن شاهك: والله لإن لم تقروه وتردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتها، ولا تكون لي همة إلا أنفسكم. فدخلوا على محمد، فقالوا: قد بلغنا الذي عزمت عليه؛ فنحن نذكرك الله في نفسك! إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ الأمر إلى ما ترى من الحصار، وضاق عليهم المذهب، وهم يرون ألا أمان لهم على أنفسهم وأموالهم عند أخيك وعند طاهر وهرثمة لما قد انتشر عنهم من مباشرة الحرب والجد فيها؛ ولسنا نأمن إذا برزوا بك، وحصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرًا، ويأخذوا رأسك فيتقربوا بك، ويجعلوك سبب أمانهم؛ وضربوا له فيه الأمثال. قال محمد بن عيسى الجلودي: وكان أبي وأصحابه قعودًا في رواق البيت الذي محمد وسليمان وأصحابه فيه. قال: فلما سمعوا كلامه، ورأوا أنه قد قبله مخافة أن يكون الأمر على ما قالوا له؛ هموا أن يدخلوا عليهم فيقتلوا سليمان وأصحابه؛ ثم بدا لهم وقالوا: حرب من داخل، وحرب من خارج. فكفوا وأمسكوا. قال محمد بن عيسى: فلما نكت ذلك في قلب محمد، ووقع في نفسه ما وقع منه، أضرم عما كان عزم عليه، ورجع إلى قبول ما كانوا بذلوا له من الأمان والخروج؛ فأجاب سليمان والسندي ومحمد بن عيسى إلى ما سألوه من ذلك، فقالوا: إنما غايتك اليوم السلام واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويفردك في موضع، ويجعل لك كل ما يصلحك وكل ما تحب وتهوى؛ وليس عليك منه بأس ولا مكروه. فركن إلى ذلك، وأجابهم إلى الخروج إلى هرثمة. فقال محمد بن عيسى: وكان أبي وأصحابه يكرهون الخروج إلى هرثمة؛ لأنهم كانوا من أصحابه، وقد عرفوا مذاهبه، وخافوا أن يجفوهم ولا يخصهم، ولا يجعل لهم مراتب، فدخلوا على محمد فقالوا له: إذا أبيت أن تقبل منا ما أشرنا عليك - وهو الصواب - وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة. قال محمد بن عيسى: فقال لهم: ويحكم! أنا أكره طاهرًا وذلك أني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء، عريض الأساس وثيق لم أر حائطًا شبهه في الطول والعرض والوثاقة، وعلى سوادي ومنطقتي وسيفي وقلنسوتي وخفتي؛ وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضرب أصله حتى سقط الحائط وسقطت، وندرت قلنسوتي من رأسي، وأنا أتطير من طاهر، وأستوحش منه، وأكره الخروج إليه لذلك؛ وهرثمة مولانا وبمنزلة الوالد، وأنا به أشد أنسًا وأشد ثقة. وذكر عن محمد بن إسماعيل، عن حفص بن أرميائيل، أن محمدًا لما أراد أن يعبر من الدار بالقرار إلى منزل كان في بستان موسى - وكان له جسر في ذلك الموضع - أمر أن يفرش في ذلك المجلس ويطيب. قال: فمكثت ليلتي أنا وأعواني نتخذ الروائح والطيب ونكثب التفاح والرمان والأترج، ونضعه في البيوت؛ فسهرت ليلتي أنا وأعواني؛ ولما صليت الصبح دفعت إلى عجوز قطعة بخور من عنبر، فيها مائة مثقال كالبطيخة، وقلت لها: إني سهرت ونعست نعاسًا شديدًا؛ ولا بد لي من نومة، فإذا نظرت إلى أمير المؤمنين قد أقبل على الجسر، فضعي هذا العنبر على الكانون. وأعطيتها كانونًا من فضة عليه جمر، وأمرتها أن تنفخ حتى تحرقها كلها، ودخلت حراقة فنمت، فما شعرت إلا بالعجوز قد جاءت فزعة حتى أيقظتني، فقالت لي: قم يا حفص؛ فقد وقعت في بلاء، قلت: ما هو؟ قالت: نظرت إلى رجل مقبل على الجسر منفرد، شبيه الجسم بجسم أمير المؤمنين، وبين يديه جماعة وخلفه جماعة؛ فلم أشك أنه هو؛ فأحرقت العنبرة، فلما جاء، فإذا هو عبد الله بن موسى، وهذا أمير المؤمنين قد أقبل. قال: فشتمتها وعنفتها. قال: وأعطيتها أخرى مثل تلك لتحرقها بين يديه، ففعلت؛ وكان هذا من أوائل الإدبار. وذكر علي بن يزيد، قال: لما طال الحصار على محمد، فارقه سليمان بن أبي جعفر وإبراهيم بن المهدي ومحمد بن عيسى بن نهيك، ولحقوا جميعًا بعسكر المهدي، ومكث محمد محصورًا في المدينة يوم الخميس ويوم الجمعة والسبت. وناظر محمد أصحابه ومن بقي معه في طلب الأمان؛ وسألهم عن الجهة في النجاة من طاهر، فقال له السندي: والله يا سيدي؛ لئن ظفر بنا المأمون لعلى رغم منا وتعس جدودنا؛ وما أرى فرجًا إلا هرثمة. قال له: وكيف بهرثمة؛ وقد أحاط الموت بي من كل جانب! وأشار عليه آخرون بالخروج إلى طاهر وقالوا: لو حلفت له بما يتوثق به منك أنك مفوض إليه ملكك؛ فلعله كان سيركن إليك. فقال لهم: أخطأتم وجه الرأي، وأخطأت في مشاورتكم؛ هل كان عبد الله أخي لو جهد نفسه وولي الأمور برأيه بالغًا عشر ما بلغه له طاهر! وقد محصته وبحثت عن رأيه، فما رأيته يميل إلى غدر به؛ ولا طمع فيما سواه؛ ولو أجاب إلى طاعتي، وانصرف إلي ثم ناصبني أهل الأرض ما اهتممت بأمر؛ ولوددت أنه أجاب إلى ذلك، فمنحته خزائني وفوضت إليه أمري، ورضيت أن أعيش في كنفه؛ ولكني لا أطمع في ذلك منه. فقال له السندي: صدقت يا أمير المؤمنين؛ فبادر بنا إلى هرثمة؛ فإنه يرى ألا سبيل عليك إذا خرجت إليه من الملك؛ وقد ضمن إلي أنه مقاتل دونك إن هم عبد الله بقتلك؛ فاخرج ليلًا في ساعة قد نوم الناس فيها؛ فإني أرجو أن يغبى على الناس أمرنا. وقال أبو الحسن المدائني: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة، وأجابه إلى ما أراد، اشتد ذلك على طاهر، وأبى أن يرفه عنه ويدعه يخرج، وقال: هو في حيزي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أخرجته بالحصار والحرب؛ حتى صار إلى طلب الأمان؛ ولا أرضى أن يخرج إلى هرثمة دوني؛ فيكون الفتح له. ولما رأى هرثمة والقواد ذلك، اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم؛ فصار إليهم طاهر وخاصته وقواده، وحضرهم سليمان بن المنصور ومحمد بن عيسى بن نهيك والسندي بن شاهك، وأداروا الرأي بينهم، وأداروا الرأي بينهم، ودبروا الأمر، وأخبروا طاهرًا أنه لا يخرج إليه أبدًا، وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن أن يكون الأمر في أمره مثله في أيام الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، فقالوا له: يخرج ببدنه إلى هرثمة - إذ كان يأمن به ويثق بناحيته، وكان مستوحشًا منك، ويدفع إليك الخاتم والقضيب والبردة - وذلك الخلافة - ولا تفسد هذا الأمر واغتنمه إذ يسره الله. فأجاب إلى ذلك ورضي به. ثم قيل: إن الهرش لما علم بالخبر، أراد التقرب إلى طاهر، فخبره أن الذي جرى بينهم وبينه مكر، وأن الخاتم والبردة والقضيب تحمل مع محمد إلى هرثمة. فقبل طاهر ذلك منه، وظن أنه كما كتب به إليه، فاغتاظ وكمن حول قصر أم جعفر وقصور الخلد كمناء بالسلاح ومعهم العتل والفؤوس، وذلك ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، وفي الشهر السرياني خمسة وعشرون من أيلول. فذكر الحسن بن أبي سعيد، قال: أخبرني طارق الخادم، قال: لما هم محمد بالخروج إلى هرثمة عطش قبل خروجه، فطلبت له في خزانة شرابه ماء فلم أجده. قال: وأمسى فبادر يريد هرثمة للوعد الذي كان بينه وبينه؛ ولبس ثياب الخلافة؛ دراعة وطيلسانًا والقلنسوة الطويلة، وبين يديه شمعة. فلما انتهينا إلى دار الحرس من باب البصرة، قال: اسقني من جباب الحرس، فناولته كوزًا من ماء، فعافه لزهوكته فلم يشرب منه؛ وصار إلى هرثمة. فوثب به طاهر، وأكمن له نفسه في الخلد؛ فلما صار إلى الحراقة؛ خرج طاهر وأصحابه فرموا الحراقة بالسهام والحجارة، فمالوا ناحية الماء، وانكفأت الحراقة؛ فغرق محمد وهرثمة ومن كان فيها، فسبح محمد حتى عبر وصار إلى بستان موسى، وظن أن غرقه إنما كان حيلة من هرثمة، فعبر دجلة حتى صار إلى قرب الصراة، وكان على المسلحة إبراهيم بن جعفر البلخي ومحمد بن حميد هو ابن أخي شكلة أم إبراهيم بن المهدي - وكان طاهر ولاه وكان إذا ولى رجلًا من أصحابه خراسانيًا ضم إليه قومًا - فعرفه محمد بن حميد - وهو المعروف بالطاهري؛ وكان طاهر يقدمه في الولايات، فصاح بأصحابه فنزلوا، فأخذوه، فبادر محمدًا لمًا، فأخذ بساقيه فجذبه، وحمل على برذون، وألقي عليه إزار من أزر الجند غير مفتول، وصار به إلى منزل إبراهيم بن جعفر البلخي، وكان ينزل باب الكوفة، وأردف رجلًا خلفه يمسكه لئلا يسقط، كما يفعل بالأسير. فذكر عن الحسن بن أبي سعيد، أن خطاب بن زياد حدثه أن محمدًا وهرثمة لما غرقا، بادر طاهر إلى بستان مؤنسة، بإزاء باب الأنبار، موضع معسكره لئلا يتهم بغرق هرثمة. قال: فلما انتهى طاهر ونحن معه في الموكب والحسن بن علي المأموني والحسن الكبير خادم الرشيد - إلى باب الشأم، لحقنا محمد بن حميد، فترجل ودنا من طاهر، فأخبره أنه أسر محمدًا، ووجه به إلى باب الكوفة إلى منزل إبراهيم البلخي. قال: فالتفت إلينا طاهر، فأخبرنا الخبر، وقال: ما تقولون؟ فقال له المأموني: مكن، أي لا تفعل فعل حسين بن علي. قال: فدعا طاهر بمولى له يقال له قريش الدنداني، فأمره بقتل محمد. قال: واتبعه طاهر يريد باب الكوفة إلى الموضع. وأما المدائني فإنه ذكر عن محمد بن عيسى الجلودي؛ قال: لما تهيأ للخروج - وكان بعد عشاء الآخرة من ليلة الأحد - خرج إلى صحن القصر، فقعد على كرسي، وعليه ثياب بيض وطيلسان أسود؛ فدخلنا عليه، فقمنا بين يديه بالأعمدة. قال: فجاء كتلة الخادم، فقال: يا سيدي، أبو حاتم يقرئك السلام، ويقول: يا سيدي وافيت للميعاد لحملك، ولكني أرى ألا تخرج الليلة؛ فإني رأيت في دجلة على الشط أمرًا قد رابني، وأخاف أن أغلب فتؤخذ من يدي أو تذهب نفسك؛ ولكن أقم بمكانك حتى أرجع ثم استعد ثم آتيك القابلة فأخرجك؛ فإن حوربت حاربت دونك ومعي عدني. قال: فقال محمد: ارجع إليه، فقل له لا تبرح؛ فإني خارج إليك الساعة لا محالة؛ ولست أقيم إلى غد. قال: وقلق وقال: قد تفرق عني الناس ومن على بابي من الموالي والحرس، ولا آمن إن أصبحت وانتهى الخبر بتفريقهم إلى طاهر أن يدخل علي فيأخذني. ودعا بفرس له أدهم محذوف أغر محجل كان يسميه الزهري، ثم دعا بابنيه فضمهما إليه، وشمهما وقبلهما، وقال: أستودعكما الله؛ ودمعت عيناه، وجعل يمسح دموعه بكمه، ثم قام فوثب على الفرس، وخرجنا بين يديه إلى باب القصر؛ حتى ركبنا دوابنا وبين يديه شمعة واحدة. فلما صرنا إلى الطاقات مما يلي باب خراسان، قال لي أبي: يا محمد ابسط يدك عليه؛ فإني أخاف أن يضربه إنسان بالسيف؛ فإن ضرب كان الضرب بك دونه. قال: فألقيت عنان فرسي بين معرفته، وبسطت يدي عليه حتى انتهينا إلى باب خراسان فأمرنا به ففتح، ثم خرجنا إلى المشرعة، فإذا حراقة هرثمة، فرقي إليها، فجعل الفرس يتلكأ وينفر وضربه بالسوط وحمله عليها، حتى ركبها في دجلة فنزل في الحراقة، وأخذنا الفرس، ورجعنا إلى المدينة، فدخلناها وأمرنا بالباب فأغلق؛ وسمعنا الواعية، فصعدنا على القبة التي على الباب، فوقفنا فيها نسمع الصوت. فذكر عن أحمد بن سلام صاحب المظالم أنه قال: كنت فيمن ركب مع هرثمة من القواد في الحراقة فلما نزلها محمد قمنا على أرجلنا إعظامًا، وجثى هرثمة على ركبتيه، وقال له: يا سيدي، ما أقدر على القيام لمكان النقرس الذي بي، ثم احتضنه وصيره في حجره، ثم جعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، ويقول: يا سيدي ومولاي وابن سيدي ومولاي. قال: وجعل يتصفح وجوهنا، قال: ونظر إلى عبيد الله بن الوضاح، فقال له: أيهم أنت؟ قال: أنا عبيد الله بن الوضاح، قال: نعم، فجزاك الله خيرًا، فما أشكرني لما كان منك من أمر الثلج! ولو قد لقيت أخي أبقاه الله لم أدع أن أشكرك عنده، وسألته مكافأتك عني. قال: فبينا نحن كذلك - وقد أمر هرثمة بالحراقة أن تدفع - إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق والشذوات وعطعطوا وتعلقوا بالسكان، فبعض يقطع السكان، وبعض ينقب الحراقة، وبعض يرمي بالآجر والنشاب. قال: فنقبت الحراقة، فدخلها الماء فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، فأخرجه ملاح؛ وخرج كل واحد منا على حيله؛ ورأيت محمدًا حين صار إلى تلك الحال قد شق عليه ثيابه، ورمى بنفسه إلى الماء. قال: فخرجت إلى الشط، فعلقني رجل من أصحاب طاهر؛ فمضى بي إلى رجل قاعد على كرسي من حديد على شط دجلة في ظهر قصر أم جعفر، بين يديه نار توقد، فقال بالفارسية: هذا رجل خرج من الماء ممن غرق من أهل الحراقة، فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب هرثمة؛ أنا أحمد بن سلام صاحب شرطة مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت فاصدقني، قال: قلت. قد صدقتك، قال: فما فعل المخلوع؟ قلت: قد رأيته حين شق ثيابه، وقذف بنفسه في الماء قال: قدموا دابتي؛ فقدموا دابته، فركب وأمر بي أن أجنب. قال: فجعل في عنقي حبل وجنبت؛ وأخذ في درب الرشدية، فلما انتهى إلى مسجد أسد بن المرزبان، انبهرت من العدو فلم أقدر أن أعدو، فقال الذي يجنبني: قد قام هذا الرجل؛ وليس يعدو، قال: انزل فحز رأسه، فقلت له: جعلت فداك! لم تقتلني وأنا رجل علي من الله نعمة، ولم أقدر على العدو، وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم. قال: فلما سمع ذكر العشرة آلاف درهم، قلت: تحبسني عندك حتى تصبح وتدفع إلي رسولًا حتى أرسله إلى وكيلي في منزلي في عسكر المهدي، فإن لم يأتك بالعشرة آلاف فاضرب عنقي. قال: قد أنصفت، فأمر بحملي، فحملت ردفًا لبعض أصحابه، فمضى بي إلى دار صاحبه، دار أبي صالح الكاتب؛ فأدخلني الدار، وأمر غلمانه أن يحتفظوا بي، وتقدم إليهم، وأوعز وتفهم مني خبر محمد ووقوعه في الماء، ومضى إلى طاهر ليخبره خبره؛ فإذا هو إبراهيم البلخي. قال: فصيرني غلمانه في بيت من بيوت الدار فيه بوار ووسادتان أو ثلاث - وفي رواية حصر مدرجة - قال: فقعدت في البيت، وصيروا فيه سراجًا، وتوثقوا من باب الدار، وقعدوا يتحدثون. قال: فلما ذهب من الليل ساعة؛ إذا نحن بحركة الخيل فدقوا الباب، ففتح لهم، فدخلوا وهم يقولون: يسر زبيدة. قال: فأدخل علي رجل عريان عليه سراويل وعمامة متلثم بها، وعلى كتفيه خرقة خلقة، فصيروه معي، وتقدموا إلى من في الدار في حفظه، وخلفوا معهم قومًا آخرين أيضًا منهم. قال: فلما استقر في البيت حسر العمامة عن وجهه فإذا هو محمد، فاستعبرت واسترجعت فيما بيني وبين نفسي. قال: وجعل ينظر إلي، ثم قال: أيهم أنت؟ قال: قلت: أنا مولاك يا سيدي، قال: وأي الموالي؟ قلت: أحمد بن سلام صاحب المظالم، فقال: وأعرفك بغير هذا، كنت تأتيني بالرقة؟ قال: قلت نعم، قال: كنت تأتيني وتلطفني كثيرًا، لست مولاي بل أنت أخي ومني. ثم قال: يا أحمد، قلت: لبيك يا سيدي؛ قال: ادن مني وضمني إليك، فإني أجد وحشة شديدة. قال: فضممته إلي فإذا قلبه يخفق خفقًا شديدًا كاد أن يفرج عن صدره فيخرج. قال: فلم أزل أضمه إلي وأسكنه. قال: ثم قال: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قال: قلت: هو حي، قال: قبح الله صاحب بريدهم ما أكذبه! كان يقول: قد مات، شبه المعتذر من محاربته؛ قال: قلت: بل قبح الله وزراءك! قال: لا تقل لوزرائي إلا خيرًا، فما لهم ذنب؛ ولست بأول من طلب أمرًا فلم يقدر عليه. ثم قال: يا أحمد، ما تراهم يصنعون بي؟ أتراهم يقتلوني أو يفون لي بأيمانهم؟ قال: قلت: بل يفون لك يا سيدي. قال: وجعل يضم على نفسه الخرقة التي على كتفيه، ويضمها ويمسكها بعضده يمنة ويسرة. قال: فنزعت مبطنة كانت علي ثم قلت: يا سيدي، ألق هذه عليك. قال: ويحك! دعني، هذا من الله عز وجل، لي في هذا الموضع خير. قال: فبينا نحن كذلك، إذ دق باب الدار، ففتح، فدخل علينا رجل عليه سلاحه، فتطلع في وجهه مستثبتًا له، فلما أثبته معرفة، انصرف وغلق الباب؛ وإذا هو محمد بن حميد الطاهري، قال: فعلمت أن الرجل مقتول. قال: وكان بقي علي من صلاتي الوتر، فخفت أن أقتل معه ولم أوتر، قال: فقمت أوتر، فقال لي: يا أحمد، لا تتباعد مني، وصل إلى جانبي، أجد وحشة شديدة. قال: فاقتربت منه؛ فلما انتصف الليل أو قارب، سمعت حركة الخيل، ودق الباب، ففتح، فدخل الدار قوم من العجم بأيديهم السيوف مسللة، فلما رآهم قام قائمًا، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت والله نفسي في سبيل الله! أما من حيلة! أما من مغيث! أما من أحد من الأبناء! قال: وجاءوا حتى قاموا على باب البيت الذي نحن فيه، فأحجموا عن الدخول، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضًا. قال: فقمت فصرت خلف الحصر المدرجة في زاوية البيت، وقام محمد، فأخذ بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! إني ابن عم رسول الله ﷺ، أنا ابن هارون؛ وأنا أخو المأمون، الله الله في دمي! قال: فدخل عليه رجل منهم يقال له خمارويه - غلام لقريش الدنداني مولى طاهر - فضربه بالسيف ضربة وقعت على مقدم رأسه؛ وضرب محمد وجهه بالوسادة التي كانت في يده، واتكأ عليه ليأخذ السيف من يده فصاح خمارويه: قتلني قتلني - بالفارسية قال: فدخل منهم جماعة، فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، وركبوه فذبحوه ذبحًا من قفاه، وأخذوا رأسه، فمضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته. قال: ولما كان في وقت السحر جاءوا إلى جثته فأدرجوها في جل، وحملوها. قال: فأصبحت فقيل لي: هات العشرة آلاف درهم وإلا ضربنا عنقك. قال: فبعثت إلى وكيلي فأتاني، بها، فدفعتها إليه. قال: وكان دخول محمد المدينة يوم الخميس، وخرج إلى دجلة يوم الأحد. وذكر عن أحمد بن سلام في هذه القصة أنه قال: قلت لمحمد لما دخل على البيت وسكن: لاجزى الله وزراءك خيرًا، فإنهم أوردوك هذا المورد! فقال لي: يا أخي؛ ليس بموضع عتاب. ثم قال: أخبرني عن المأمون أخي، أحي هو؟ قلت: نعم؛ هذا القتال عمن إذًا! هو إلا عنه! قال: فقال لي: أخبرني يحيى أخو عامر بن إسماعيل بن عامر - وكان يلي الخبر في عسكر هرثمة - أن المأمون مات، فقلت له: كذب. قال: ثم قلت له: هذا الإزار الذي عليك إزار غليظ فالبس إزاري وقميصي هذا فإنه لين، فقال لي: من كانت حاله مثل حالي فهذا له كثير. قال: فلقنته ذكر الله والاستغفار، فجعل يستغفر. قال: وبينا نحن كذلك، إذ هدة تكاد الأرض ترجف منها؛ وإذا أصحاب طاهر قد دخلوا الدار وأرادوا البيت، وكان في الباب ضيق، فدافعهم محمد بمجنة كانت معه في البيت؛ فما وصلوا إليه حتى عرقبوه، ثم هجموا عليه فحزوا رأسه. واستقبلوا به طاهرًا، وحملوا جثته إلى بستان مؤنسة إلى معسكره؛ إذ أقبل عبد السلام بن العلاء صاحب حرس هرثمة فأذن له - وكان عبر إليه على الجسر الذي كان بالشماسية - فقال له: أخوك يقرئك السلام، فما خبرك؟ قال: يا غلام، هات الطس، فجاءوا به وفيه رأس محمد، فقال: هذا خبري فأعلمه. فلما أصبح نصب رأس محمد على باب الأنبار، وخرج من أهل بغداد للنظر إليه ما لا يحصى عددهم، وأقبل طاهر يقول: رأس المخلوع محمد. وذكر محمد بن عيسى أنه رأى المخلوع على ثوبه قملة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: شيء يكون في ثياب الناس، فقال: أعوذ بالله من زوال النعمة! فقتل من يومه. وذكر عن الحسن بن أبي سعيد أن الجندين: جند طاهر وجند أهل بغداد، ندموا على قتل محمد، لما كانوا يأخذون من الأموال. وذكر عنه أنه ذكر أن الخزانة التي كان فيها رأس محمد ورأس عيسى بن ماهان ورأس أبي السرايا كانت إليه. قال: فنظرت في رأس محمد، فإذا فيه ضربة في وجهه، وشعر رأسه ولحيته صحيح لم يتحات منه شيء، ولونه على حاله. قال: وبعث طاهر برأس محمد إلى المأمون مع البردة والقضيب والمصلى - وهو من سعف مبطن - مع محمد بن الحسن بن مصعب ابن عمه، فأمر له بألف ألف درهم، فرأيت ذا الرياستين، وقد أدخل رأس محمد على ترس بيده إلى المأمون، فلما رآه سجد. قال الحسن: فأخبرني ابن أبي حمزة، قال: حدثني علي بن حمزة العلوي، قال: قدم جماعة من آل أبي طالب على طاهر وهو بالبستان حين قتل محمد بن زبيدة ونحن بالحضرة، فوصلهم ووصلنا، وكتب إلى المأمون بالإذن لنا أو لبعضنا، فخرجنا إلى مرو، وانصرفنا إلى المدينة، فهنئونا بالنعمة، ولقينا من بها من أهلها وسائر أهل المدينة، فوصفنا لهم قتل محمد، وأن طاهر بن الحسين دعا مولى يقال له قريش الدنداني، وأمره بقتله. قال: فقال لنا شيخ منهم: كيف قلت! فأخبرته، فقال الشيخ: سبحان الله! كنا نروي هذا أن قريشًا يقتله؛ فذهبنا إلى القبيلة، فوافق الاسم الاسم! وذكر عن محمد بن أبي الوزير أن علي بن محمد بن خالد بن برمك أخبره أن إبراهيم بن المهدي لما بلغه قتل محمد، استرجع وبكى طويلًا، ثم قال: عوجا بمغنى طلل دائر ** بالخلد ذات الصخر والآجر والمرمر المسنون يطلى به ** والباب باب الذهب الناضر عوجا بها فاستيقنا عندها ** على يقين قدرة القادر وأبلغا عني مقالًا إلى ال ** مولى على المأمور والآمر قولا له: يابن ولي الهدى ** طهر بلاد الله من طاهر لم يكفه أن حز أوداجه ** ذبح الهدايا بمدى الجازر حتى أتى يسحب أوصاله ** في شطن يفني مدى السائر قد برد الموت على جنبه ** وطرفه منكسر الناظر قال: وبلغ ذلك المأمون فاشتد عليه. وذكر المدائني أن طاهرًا كتب إلى المأمون بالفتح: أما بعد، فالحمد لله المتعالي ذي العزة والجلال، والملك والسلطان، الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. كان فيما قدر الله فأحكم، ودبر فأبرم، انتكاث المخلوع ببيعته، وانتقاضه بعهده، وارتكاسه في فتنته، وقضاؤه عليه القتل بما كسبت يداه وما الله بظلام للعبيد. وقد كتبت إلى أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - في إحاطة جند الله بالمدينة والخلد، وأخذهم بأفواهها وطرقها ومسالكها في دجلة نواحي أزقة مدينة السلام وانتظام المسالح حواليها وحد ري السفن والزواريق بالعرادات والمقاتلة، إلى ما واجه الخلد وباب خراسان، تحفظًا بالمخلوع، وتخوفًا من أن يروغ مراغًا، ويسلك مسلكًا يجد به السبيل إلى إثارة فتنة وإحياء ثائرة، أو يهيج قتالًا بعد أن حصره الله عز وجل وخذله، ومتابعة الرسل بما يعرض عليه هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين، ويسألني من تخلية الطريق له في الخروج واجتماعي وهرثمة بن أعين؛ لنتناظر في ذلك، وكراهتي ما أحدث وراءه من أمره بعد إرهاق الله إياه، وقطعه رجاءه من كل حيلة ومتعلق، وانقطاع المنافع عنه؛ وحيل بينه وبين الماء؛ فضلًا عن غيره؛ حتى هم به خدمه وأشياعه من أهل المدينة ومن نجا معه إليها، وتحزبوا على الوثوب به للدفع عن أنفسهم والنجاة بها، وغير ذلك مما فسرت لأمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - مما أرجو أن يكون قد أتاه. وإني أخبر أمير المؤمنين أني رويت فيما دبر هرثمة بن أعين مولى أمير المؤمنين في المخلوع، وما عرض عليه وأجابه إليه، فوجدت الفتنة في تخلصه من موضعه الذي قد أنزله الله فيه بالذلة والصغار وصيره فيه إلى الضيق والحصار تزداد، ولا يزيد أهل التربص في الأطراف إلا طمعًا وانتشارًا، وأعلمت ذلك هرثمة بن أعين، وكراهتي ما أطمعه فيه وأجابه إليه؛ فذكر أنه لا يرى الرجوع عما أعطاه، فصادرته - بعد يأس من انصرافه - عن رأيه، على أن يقدم المخلوع رداء رسول الله ﷺ وسيفه وقضيبه قبل خروجه؛ ثم أخلي له طريق الخروج إليه؛ كراهة أن يكون بيني وبينه اختلاف نصير منه إلى أمرٍ يطمع الأعداء فينا، أو فراق القلوب بخلاف ما نحن عليه من الائتلاف والاتفاق على ذلك، وعلى أن نجتمع لميعادنا عشية السبت. فتوجهت في خاصة ثقاتي الذين اعتمدت عليهم، وأثق بهم، بربط الجأش، وصدق البأس، وصحة المناصحة؛ حتى طالعت جميع أمر كل من كنت وكلت بالمدينة والخلد برًا وبحرًا، والتقدمة إليهم في التحفظ والتيقظ والحراسة والحذر، ثم انكفأت إلى باب خراسان، وكنت أعددت حراقات وسفنًا؛ سوى العدة التي كنت لأركبها بنفسي لوقت ميعادي بيني وبين هرثمة، فنزلتها في عدة ممن كان ركب معي من خاصة ثقاتي وشاكريتي، وصيرت عدة منهم فرسانًا ورجالة بين باب خراسان والمشرعة وعلى الشط. وأقبل هرثمة بن أعين حتى صار بقرب خراسان معدًا مستعدًا؛ وقد خاتلني بالرسالة إلى المخلوع إلى أن يخرج إليه إذا وافى المشرعة، ليحمله فبل أن أعلم، أو يبعث إلي بالرداء والسيف والقضيب؛ على ما كان فارقني عليه من ذلك. فلما وافى خروج المخلوع على من وكلت بباب خراسان، نهضوا عند طلوعه عليهم ليعرفوا الطابع لأمري كان أتاهم، وتقدمي إليهم ألا يدعوا أحدًا يجوزهم إلا بأمري. فبادرهم نحو المشرعة، وقرب هرثمة إليه الحراقة، فسبق الناكث أصحابي إليها، وتأخر كوثر، فظفر به قريش مولاي، ومعه الرداء والقضيب والسيف، فأخذه وما معه، فنفر أصحاب المخلوع عند ما رأوا من إرادة أصحابي منع مخلوعهم من الخروج، فبادر بعضهم حراقة هرثمة، فتكفأت بهم حتى أغرقت بالماء ورسبت، فانصرف بعضهم إلى المدينة، ورمى المخلوع عند ذلك بنفسه من الحراقة في دجلة متخلصًا إلى الشط، نادمًا على ما كان من خروجه، ناقضًا للعهد، داعيًا بشعاره، فابتدره عدة من أوليائي الذين كنت وكلتهم بما بين مشرعة باب خراسان وركن الصراة، فأخذوه عنوة قهرًا بلا ولا عقد؛ فدعا بشعاره وعاد في نكثه، فعرض عليهم مائة حبة، ذكر أن قيمة كل حبة مائة ألف درهم، فأبوا إلا الوفاء لخليفتهم أبقاه الله، وصيانة لدينهم وإيثارًا للحق الواجب عليهم، فتعلقوا به، قد أسلمه الله وأفرده؛ كل يرغبه، ويريد أن يفوز بالحظوة عندي دون صاحبه؛ حتى اضطربوا فيما بينهم، وتناولوه بأسيافهم منازعة فيه، وتشاحًا عليه، إلى أن أتيح له مغيظ لله ودينه ورسوله وخليفته، فأتى عليه وأتاني الخبر بذلك، فأمرت بحمل رأسه إلي، فلما أتيت به تقدمت إلى من كنت وكلت بالمدينة والخلد وما حواليها وسائر من في المسالح، في لزوم مواضعهم، والاحتفاظ بما يليهم، إلى أن يأتيهم أمري. ثم انصرفت. فأعظم الله لأمير المؤمنين الصنع والفتح عليه وعلى الإسلام به وفيه. فلما أصبحت هاج الناس واختلفوا في المخلوع، فمصدق بقتله، ومكذب وشاك وموقن، فرأيت أن أطرح عنهم الشبهة في أمره، فمضيتبرأسه لينظروا إليه فيصح بعينهم، وينقطع بذلك بعل قلوبهم، ودخل التياث المستشرفين للفساد والمستوفزين للفتنة، وغدوت نحو المدينة فاستسلم من فيها وأعطى أهلها الطاعة، واستقام لأمير المؤمنين شرقي ما يلي مدينة السلام وغربيه وأرباعه وأرباضه ونواحيه؛ وقد وضعت الحرب أوزارها وتلافى بالسلام والإسلام أهله؛ وبعد الله الدغل عنهم، وأصارهم ببركة أمير المؤمنين إلى الأمن والسكون والدعة والاستقامة والاغتباط؛ والصنع من الله جل وعز والخيرة، والحمد لله على ذلك. فكتبت إلى أمير المؤمنين حفظه الله، وليس قبلي داعٍ إلى فتنة، ولا متحرك ولا ساعٍ في فساد، ولا أحد إلا سامع مطيع باخع حاضر؛ قد أذاقه الله حلاوة أمير المؤمنين ودعة ولايته؛ فهو يتقلب في ظلها، يغدو في متجره ويروح في معايشه؛ والله ولي ما صنع من ذلك، والمتمم له، والمان بالزيادة فيه برحمته. وأنا أسأل الله أن تهنئ أمير المؤمنين نعمته، ويتابع له فيها مزيده ويوزعه عليها شكره؛ وأن يجعل منته لديه متوالية دائمًا متواصلة؛ حتى يجمع الله له خير الدنيا والآخرة، ولأوليائه وأنصار حقه ولجماعة المسلمين ببركته وبركة ولايته ويمن خلافته، إنه ولي ذلك منهم وفيه، إنه سميع لطيف لما يشاء. وكتب يوم الأحد لأربع بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة. وذكر عن محمد المخلوع أنه قبل مقتله، وبعد ما صار في المدينة، ورأى الأمر قد تولى عنه، وأنصاره يتسللون فيخرجون إلى طاهر، قعد في الجناح الذي كان عمله على باب الذهب - وكان تقدم في بنائه قبل ذلك - وأمر بإحضار كل من كان معه في المدينة من القواد والجند، فجمعوا في الرحبة، فأشرف عليهم، وقال: الحمد لله الذي يرفع ويضع. ويعطي ويمنع، ويقبض ويبسط؛ وإليه المصير. أحمده على نوائب الزمان، وخذلان الأعوان، وتشتت الرجال، وذهاب الأموال، وحلول النوائب، وتوفد المصائب؛ حمدًا يدخر لي به أجزل الجزاء، ويرفدني أحسن العزاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأن محمدًا عبده الأمين، ورسوله إلى المسلمين، ﷺ، آمين رب العالمين. أما بعد يا معشر الأبناء، وأهل السبق إلى الهدى، فقد علمتم غفلتي كانت أيام الفضل بن الربيع وزير علي ومشير، فمادت به الأيام بما لزمني به من الندامة في الخاصة والعامة، إلى أن نبهتموني فانتبهت، واسعنتموني في جميع ما كرهتم من نفسي وفيكم، فبذلت لكم ما حواه ملكي، وناولته مقدرتي، مما جمعته وورثته عن آبائي، فقودت من لم يجز، واستكفيت من لم يكف، واجتهدت - علم الله - في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه؛ من ذلك توجيهي إليكم علي بن عيسى شيخكم وكبيركم وأهل الرأفة بكم والتحنن عليكم؛ فكان منكم ما يطول ذكره؛ فغفرت الذنب، وأحسنت واحتملت واحتملت، وعزيت نفسي عند معرفتي بشرود الظفر، وحرصي على مقامكم مسلحة بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم، ومن على يدي أبيه كان فخركم، وبه تمت طاعتكم: عبد الله بن حميد بن قحطبة، فصرتم من التألب عليه إلى ما لا طاقة له به، ولا صبر عليه. يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفًا؛ إلى عامدين، وعلى سيدكم متوثبين مع سعيد الفرد، سامعين له مطيعين. ثم وثبتم مع الحسين علي، فخلعتموني وشتمتموني، وانتهبتموني وحبستموني، وقيدتموني؛ وأشياء منعتموني من ذكرها؛ حقد قلوبكم وتلكؤ طاعتكم أكبر وأكثر. فالحمد لله حمد من أسلم لأمره، ورضي بقدره؛ والسلام. وقيل: لما قتل محمد، وارتفعت الثائرة، وأعطي الأمان الأبيض والأسود، وهدأ الناس، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطبهم خطبة بليغة، نزع فيها من قوارع القرآن؛ فكان مما حفظ من ذلك أن قال: الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير. في آي من القرآن أتبع بعضها بعضًا، وحض على الطاعة ولزوم الجماعة، ورغبتهم في التمسك بحبل الطاعة. وانصرف إلى معسكره. وذكر أنه لما صعد المنبر يوم الجمعة، وحضره من بني هاشم والقواد وغيرهم جماعة كثيرة، قال: الحمد لله مالك الملك، يؤتيه من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين؛ إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا، بل اختار الله الخلافة إذ جعلها عمادًا لدينه، وقوامًا لعباده، وضبط الأطراف وسد الثغور، وإعداد العدة، وجمع الفيء، وإنفاذ الحكم، ونشر العدل، وإحياء السنة؛ بعد إذبال البطالات، والتلذذ بموبق الشهوات. والمخلد إلى الدنيا مستحسن لداعي غرورها، محتلب درة نعمتها، ألف لزهرة روضتها، كلف برونق بهجتها. وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز وجل لمن بغى عليه، وما أحل به من بأسه ونقمته، لما نكب عن عهده، وارتكب معصيته، وخالف أمره، وغير ناهيه، وعظته مردية؛ واحذروا مصارع أهل الخلاف والمعصية، الذين قدحوا زناد الفتنة، وصدعوا شعب الألفة، فأعقبهم الله خسار الدنيا والآخرة. ولما فتح طاهر بغداد كتب إلى أي إسحاق المعتصم - وقد ذكر بعضهم أنه إنما كتب بذلك إلى إبراهيم بن المهدي، وقال الناس: كتبه إلى أبي إسحاق المعتصم: أما بعد، فإنه عزيز علي أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير؛ ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى، إلى الناكث المخلوع؛ وإن كان كذلك فكثير ما كتبت به إليك، وإن كان غير ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. وكتب في أسفل الكتاب هده الأبيات: ركوبك الأمر ما لم تبل فرصته ** وجل ورأيك بالتغرير تغرير أقبح بدنيا ينال المخطئون بها ** حظ المصيبين والمغرور مغرور وثوب الجند بطاهر بن الحسين بعد مقتل الأمين وفي هذه السنة وثب الجند بعد مقتل محمد بطاهر، فهرب منهم وتغيب أيامًا حتى أصلح أمرهم. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به وإلى ما آل به أمره وأمرهم ذكر عن سعيد بن حميد؛ أنه ذكر أباه حدثه؛ أن أصحاب طاهر بعد مقتل محمد بخمسة أيام، وثبوا به؛ ولم يكن في يديه مال، فضاق به أمره، وظن أن ذلك عن مواطأةٍ من أهل الأرباض إياهم، وأنهم معهم عليه، ولم يكن تحرك في ذلك من أهل الأرباض أحد، فاشتدت شوكة أصحابه، وخشي على نفسه، فهرب من البستان، وانتهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف. وكان قد أحر بحفظ أبواب المدينة وباب القصر على أم جعفر، وموسى وعبد الله ابني محمد، ثم أمر بتحميل زبيدة وموسى وعبد الله ابني محمد معها من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فحولوا ليلة الجمعة لاثني عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول، ثم مضى بهم من ليلتهم في حراقة إلى همينيا على الغربي من الزاب الأعلى، ثم أبر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما بخراسان على طريق الأهواز وفارس. قال: ولما وثب الجند بطاهر، وطلبوا الأرزاق، وأحرقوا باب الأنبار الذي على الخندق وباب البستان، وشهروا السلاح، وكانوا كذلك يومهم ومن الغد، ونادوا موسى: يا منصور. وصوب الناس إخراج طاهر وموسى وعبد الله؛ وقد كان طاهر انحاز ومن معه من القواد، وتعبأ لقتالهم ومحاربتهم، فلما بلغ ذلك القواد والوجوه صاروا إليه واعتذروا، وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم وقبول عذرهم والرضا عنهم، وضمنوا له ألا يعودوا لمكروه له ما أقام معهم. فقال لهم طاهر: والله ما خرجت عنكم إلا لوضع سيفي فيكم، وأقسم بالله لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم؛ فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر؛ فقال في ذلك بعض الأبناء: آلى الأمير وقوله وفعالهحق بجمع معاشر الزعار إن هاج هائجهم وشغب شاغب ** منكل ناحيةٍ من الأقطار ألا يناظر معشرًا من جمعهم ** إمهال ذي عدلٍ وذي إنظار حتى ينيخ عليهم بعظيمةٍ ** تدع الديار بلاقع الآثار فذكر عن المدائني أن الجند لما شغبوا، وانحاز طاهر، ركب إليه سعيد بن مالك بن قادم ومحمد بن أبي خالد وهبيرة بن خازم؛ في مشيخةٍ من أهل الأرباض، فحلفوا بالمغلظة من الأيمان، أنه لم يتحرك في هذه الأيام أحد من أبناء الأرباض، ولا كان ذلك عن رأيهم، ولا أرادوه، وضمنوا له صلاح نواحيهم من الأرباض، وقيام كل إنسان منهم في ناحيته بكل ما يجب عليه، حتى لا يأتيه من ناحية أمر يكرهه. وأتاه عميرة - أبو شيخ بن عميرة الأسدي - وعلى ابن يزيد؛ في مشيخة من الأبناء، فلقوه بمثل ما لقيه به ابن أبي خالد وسعيد بن مالك وهبيرة، وأعلموه حسن رأي من خلفهم من الأبناء ولين طاعتهم له، وأنهم لم يدخلوا في شيء مما صنع أصحابه في البستان. فطابت نفسه إلا أنه قال لهم: إن القوم يطلبون أرزاقهم، وليس عندي مال. فضمن لهم سعيد بن مالك عشرين ألف دينار، وحملها إليه، فطابت بها نفسه، وانصرف إلى معسكره بالبستان. وقال طاهر لسعيد: إني أقبلها منك على أن تكون علي دينًا، فقال له: بل هي إنما صلة وقليل لغلامك وفيما أوجب الله من حقك. فقبلها منه، وأمر للجند برزق أربعة أشهر، فرضوا وسكنوا. قال المدائني: وكان مع محمد رجل يقال له السمرقندي، وكان يرمي عن مجانيق كانت في سفن من باطن دجلة؛ وربما كان يشتد أمر أهل الأرباض على من بإزائهم من أصحاب محمد في الخنادق، فكان يبعث إليه، فيجيء به فيرميهم - وكان راميًا لم يكن حجره يخطئ - ولم يقتل الناس يومئذ بالحجارة كما قيل، فلما قتل محمد قطع الجسر، واحترقت المجانيق التي كانت في دجلة يرمي عنها، فأشفق على نفسه، وتخوف من بعض من وتره أن يطلبه، فاستخفى، وطلبه الناس، فتكارى بغلًا، وخرج إلى ناحية خراسان هاربًا، فمضى حتى إذا كان في بعض الطريق استقبله رجل فعرفه؛ فلما جازه قال الرجل للمكاري: ويحك! أين تذهب مع هذا الرجل! والله لئن ظفر بك معه لتقتلن، وأهون ما هو مصيبك أن تحبس، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قد والله عرفت اسمه، وسمعت به قتله الله! فانطلق المكاري إلى أصحابه - أو مسلحة انتهى إليها - فأخبرهم خبره، وكانوا من أصحاب كندغوش من أصحاب هرثمة، فأخذوه وبعثوا به إلى هرثمة، وبعث به هرثمة إلى خزيمة بن خازم بمدينة السلام، فدفعه خزيمة إلى بعض من وتره فأخرجه إلى شاطئ دجلة من الجانب الشرقي فصلب حيًا، فذكروا أنه لما أرادوا شده على خشبته، اجتمع خلق كثير، فجعل يقول قبل أن يشدوه: أنتم بالأمس تقولون: لا قطع الله يا سمرقندي يدك، واليوم قد هيأتم حجارتكم ونشابكم لترموني! فلما رفعت الخشبة أقبل الناس عليه رميًا بالحجارة والنشاب وطعنًا بالرماح حتى قتلوه، وجعلوا يرمونه بعد موته، ثم أحرقوه من غد، وجاءوا بنار ليحرقوه بها، وأشعلوها فلم تشتعل، وألقوا عليه قصبًا وحطبًا، فأشعلوها فيه، فاحترق بعضه، وتمزقت الكلاب بعضه؛ وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر. ذكر الخبر عن صفة محمد بن هارون وكنيته وقدر ما ولي ومبلغ عمره قال هشام بن محمد وغيره: ولي محمد بن هارون وهو أبو موسى يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقتل ليلة الأحد لست بقين من صفر سنة سبع وتسعين ومائة. وأمه زبيدة بنة جعفر الأكبر بن أبي جعفر؛ فكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد قيل: كانت كنيته أبا عبد الله. وأما محمد بن موسى الخوارزمي فإنه ذكر عنه أنه قال: أتت الخلافة محمد بن هارون للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، وحج بالناس في هذه السنة التي ولي فيها داود بن عيسى بن موسى، وهو على مكة وأبو البختري على ولايته، وبعد ولايته، بعشرة أشهر وخمسة أيام وجه عصمة بن أبي عصمة إلى ساوة، وعقد ولايته لابنه موسى بولاية العهد لثلاثون خلون من شهر ربيع الأول؛ وكان على شرطه علي بن عيسى بن ماهان. وحج بالناس سنة أربع وتسعين ومائة علي بن الرشيد، وعلى المدينة إسماعيل بن العباس بن محمد، وعلى مكة داود بن عيسى، وكان بين أن عقد لابنه إلى التقاء علي بن عيسى بن ماهان وطاهر بن الحسين وقتل علي بن عيسى بن ماهان سنة خمس وتسعين ومائة، سنة وثلاثة أشهر وتسعة وعشرون يومًا. قال: وقتل المخلوع ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم، قال: فكانت ولايته مع الفتنة أربع سنين وسبعة أشهر وثلاثة أيام. ولما قتل محمد ووصل خبره إلى المأمون في خريطة من طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمان وتسعين ومائة أظهر المأمون الخبر، وأذن للقواد فدخلوا عليه. وقام الفضل بن سهل فقرأ الكتاب بالخبر، فهنئ بالظفر، ودعوا الله له. وورد الكتاب من المأمون بعد قتل محمد على طاهر وهرثمة بخلع القاسم بن هارون، فأظهر ذلك ووجها كتبهما به، وقرئ الكتاب بخلعه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين ومائة، وكان عمر بن محمد كله - فيما بلغني - ثمانيًا وعشرين سنة. وكان سبطًا أنزع أبيض صغير العينين أقنى، جميلًا، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين. وكان مولده بالرصافة. وذكر أن طاهرًا قال حين قتله: قتلت الخليفة في داره ** وأنهبت بالسيف أمواله وقال أيضًا: ملكت الناس قسرًا واقتدارا ** وقتلت الجبابرة الكبارا ووجهت الخلافة نحو مروٍ ** إلى المأمون تبتدر ابتدارا ذكر ما قيل في محمد بن هارون ومرثيته فما قيل في هجائه: لم نبكيك لماذا؟ للطرب! ** يا أبا موسى وترويج اللعب ولترك الخمس في أوقاتها ** حرصًا منك على ماء العني وشنيف أنا لا أبكي له ** وعلى كوثر لا أخشى العطب لم تكن تعرف ما حد الرضا ** لا ولا تعرف ما حد الغضب لم تكن تصلح للملك ولم ** تعطلك الطاعة بالملك العرب أيها الباكي عليه لا بكت ** عين من أبكاك إلا للعجب لم نبكيك لما عرضتنا ** للمجانيق وطورًا للسلب ولقومٍ صيرونا أعبدًا ** لهم ينزو على الرأس الذنب في عذاب وحصار مجهدٍ ** سدد الطرق ولا وجه طلب زعموا أنك حي حاشر ** كل من قال بهذا قد كذب ليت من قد قاله في وحدة ** من جميع ذاب حيث ذهب أوجب الله علينا قتله ** فإذا ما أوجب الأمر وجب كان والله علينا فتنةً ** غضب الله عليه وكتب وقال عمرو بن عبد الملك الوراق يبكي، بغداد، ويهجو طاهرًا ويعرض به: من ذا أصابك يا بغداد بالعين ** ألم تكوني زمانًا قرة العين! ألم يكن فيك أقوام لهم شرف ** بالصالحات والمعروف يلقوني ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم ** وكان قربهم زينًا من الزين صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا ** ماذا الذي فجعتني لوعة البين! أستودع الله قومًا ما ذكرتهم ** إلا تحدر ماء العين من عيني كانوا ففرقهم دهر وصدعهم ** والدهر يصدع ما بين الفريقين كم كان لي مسعد منهم على زمني ** كم كان منهم على المعروف من عون لله در زمان كان يجمعنا ** أين الزمان الذي ولى ومن أين! يا من يخرب بغدادًا ليعمرها ** أهلكت نفسك مل بين الفريقين كانت قلوب جميع الناس واحدةً ** عينًا، وليس لكون العين كالدين لما أشتهم فرقتهم فرقًا ** والناس طرًا جميعًا بين قلبين وذكر عمرو بن شبة أن محمد بن أحمد الهاشمي حدثه، أن لبانة ابنة علي بن المهدي قالت: أبكيك لا للنعيم والأنس ** بل للمعالي والرمح والترس أبكي على هالكٍ فجعت به ** أرملني قبل ليلة العرس وقد قيل إن هذا الشعر لابنة عيسى بن جعفر، وكانت مملكة بمحمد. وقال الحسين بن الضحاك الأشقر، مولى باهلة، يرثي محمدًا، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه: يا خير أسرته وإن زعموا ** إني عليك لمثبت أسف الله يعلم أن لي كبدًا ** حرى عليك ومقلةً تكف لئن شجيت بما رزئت به ** إني لأضمر فوق ما أصف هلا بقيت لسد فاقتنا ** أبدًا، وكان لغيرك التلف! فلقد خلفت خلائفًا سلفوا ** ولسوف يعوز بعدك الخلف لا بات رهطك بعد هفوتهم ** إني لرهطك بعدها شنف هتكوا بحرمتك التي هتكت ** حرم الرسول ودونها السجف وثبت أقاربك التي خذلت ** وجميعها بالذل معترف لم يفعلوا بالشط إذ حضروا ** ما تفعل الغيرانة الأنف تركوا حريم أبيهم نفلًا ** والمحصنات صوارخ هتف أبدت مخلخلها على دهش ** أبكارهن ورنت النصف سلبت معاجرهن واجتليت ** ذات النقاب ونوزع الشنف فكأنهن خلال منتهب ** در تكشف دونه الصدف ملك تخون ملكه قدر ** فوهى وصرف الدهر مختلف هيهات بعدك أن يدوم لنا ** عز وأن يبقى لنا شرف لا هيبوا صحفًا مشرفةً ** للغادلين وتحتها الجدف أفبعد عهد الله تقتله ** والقتل بعد أمانه سرف فستعرفون غدًا بعاقبة ** عز الإله فأوردوا وقفوا يا من يخون نومه أرق ** هدت الشجون وقلبه لهف قد كنت لي أملًا غنيت به ** فمضى وحل محله الأسف مرج النظام وعاد منكرنا ** عرفًا وأنكر بعدك العرف فالشمل منتشر لفقدك والد ** نيا سدىً والبال منكسف وقال أيضًا يرثيه: إذا ذكر الأمين نعى الأمينا ** وإن رقد الخلي حمى الجفونا وما برحت منازل بين بصرى ** وكلواذى تهيج لي شجونا عراص الملك خاوية تهادى ** بها الأرواح تنسجها فنونا تخون عز ساكنها زمان ** تلعب بالقرون الأولينا فشتت شملهم بعد اجتماعٍ ** وكنت بحسن ألفتهم ضنينا فلم أر بعدهم حسنًا سواهم ** ولم ترهم عيون الناظرينا فوا أسفًا وإن شمت الأعادي ** وآه على أمير المؤمنينا أضل العرف بعدك متبعوه ** ورفه عن مطايا الراغبينا وكن إلى جنابك كل يومٍ ** يرحن على السعود ويغتدينا هو الجبل الذي هوت المعالي ** لهدته وريع الصالحونا ستندب بعدك الدنيا جوارًا ** وتندب بعدك الدين المصونا فقد ذهبت بشاشة كل شيءٍ ** وعاد الدين مطروحًا مهينا تعقد عز متصل بكسرى ** وملته وذل المسلمونا وقال أيضًا يرثيه: أسفًا عليك سلاك أقرب قربةً ** مني وأحزاني عليك تزيد وقال عبد الحمن بن أبي الهداهد يرثي محمدًا: يا غرب جودي قد بت من وذمه ** فقد فقدنا العزيز من ديمه ألوت بدنياك كف نائبةٍ ** وصرت مغضىً لنا على نقمه أصبح للموت عندنا علم ** يضحك سن المنون من علوه ما استنزلت درة المنون على ** أكرم من حل في ثرى رحمه خليفة الله في بريته ** تقصر أيدي الملوك عن شيمه يفتر عن وجهه سنا قمرٍ ** ينشق عن نوره دجى ظلمه زلزلت الأرض من جوانبها ** إذ أولغ السيف من نجيع دمه من سكت نفسه لمصرعه ** من عمم الناس أو ذوي رحمه رأيته مثل ما رآه به ** حتى تذوق الأمر من سقمه كم قد رأينا عزيز مملكةٍ ** ينقل عن أهله وعن خدمه يا ملكًا ليس بعده ملك ** لخاتم الأنبياء في أممه جاد وحيا الذي أقمت به ** سح غزير الوكيف عن ديمه لو أحجم الموت عن أخي ثقة ** أسوي في العز مستوى قدمه أو ملكٍ لا ترام سطوته ** إلا مرام الشتيم في أجمه خلدك العز ما سرى سدف ** أو قام طفل العشي في قدمه أصبح ملك إذا اتزرت به ** يقرع سن الشقاة من ندمه أثر ذو العرش في عداك كما ** أثر في عاده وفي إرمه لا يبعد الله سورة تليت ** لخير داعٍ دعاه في حرمه ما كنت إلا كحلم ذي حلمٍ ** أولج باب السرور في حلمه حتى إذا أطلقته رقدته ** عاد إلى ما اعتراه من عدمه وقال أيضًا يرثيه: أقول وقد دنوت من الفرار ** سقيت الغيث يا قصر القرار رمتك يد الزمان بسهم عينٍ ** فصرت ملوحًا بدخان نار أبن لي عن جميعك أين حلوا ** وأين مزارهم بعد المزار وأين محمد وابناه ما لي ** أرى أطلالهم سود الديار! كأن لم يؤنسوا بأنيس ملكٍ ** يصون على الملوك بخير جار إمام كان في الحدثان عونًا ** لنا والغيث يمنح بالقطار لقد ترك الزمان بني أبيه ** وقد غمرتهم سود البحار أضاعوا شمسهم فجرت بنحسٍ ** فصاروا في الظلام بلا نهار وأجلوا عنهم قمرًا منيرًا ** وداستهم خيول بني الشرار ولو كانوا لهم كفوًا مثلًا ** إذا ما توجوا تيجان عار ألا بان الإمام ووارثاه ** لقد ضرما الحشا منا بنار وقالوا الخلد بيع فقلت ذلًا ** يصير ببائعيه إلى صغار كذاك الملك يتبع أوليه ** إذا قطع القرار من القرار وقال مقدس بن صيفي يرثيه: خليلي ما أتتك به الخطوب ** فقد أعطتك طاعته النحيب تدلت من شماريخ المنايا ** منايا ما تقوم لها القلوب خلال مقابر البستان قبر ** يجاور قبره أسد غريب لقد عظمت مصيبته على من ** له في كل مكرمةٍ نصيب على أمثاله العبرات تذرى ** وتهتك في مآتمه الجيوب وما اذخرت زبيدة عنه دمعًا ** تخص به النسيبة والنسيب دعوا موسى ابنه لبكاء دهرٍ ** على موسى ابنه دخل الحزيب رأيت مشاهد الخلفاء منه ** خلاء ما بساحتها مجيب ليهنك أنني كهل عليه ** أذوب، وفي الحشا كبد تذوب أصيب به البعيد فخر حزنًا ** وعاين يومه فيه المريب أنادي من بطون الأرض شخصًا ** يحركه النداء فما يجيب لئن نعت الحروب إليه نفسًا ** لقد فجعت بمصرعه الحروب وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر: لخير إمام قام من خير عنصر ** وأفضل سام فوق أعواد منبر لوارث علم الأولين وفهمهم ** وللملك المأمون من أم جعفر كتبت وعيني مستهل دموعها ** إليك ابن عمي من جفوني ومحجري وقد مسني ضر وذل كآبةٍ ** وأرق عيني يابن عمي تفكري وهمت لما لاقيت بعد مصابه ** فأمري عظيم منكر جد منكر سأشكو الذي لاقيته بعد فقده ** إليك شكاة المستهام المقهر وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته ** فأنت لبثي خير رب مغير أتى طاهر لا طهر الله طاهرًا ** فما طاهر فيما أتى بمطهر فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرًا ** وأنهب أموالي وأحرق آدري يعز على هارون ما قد لقيته ** وما مر بي من ناقص الخلق أعور فإن كان ما أسدى بأمرٍ أمرته ** صبرت لأمرٍ من قدير مقدر تذكر أمير المؤمنين قرابتي ** فديتك من ذي حرمةٍ متذكر وقال أيضًا يرثيه: سبحان ربك رب العزة الصمد ** ماذا أصبنا به في صبحة الأحد وما أصيب به الإسلام قاطبةً ** من التضعضع في ركنيه والأود من لم يصب بأمير المؤمنين ولم ** يصبح بمهلكةٍ والهم في صعد فقد أصبت به حتى تبين في ** عقلي وديني وفي دنياي والجسد يا ليلةً يشتكي الإسلام مدتها ** والعالمون جميعًا آخر الأبد غدرت بالملك الميمون طائره ** وبالإمام وبالضرغامة الأسد سارت إليه المنايا وهي ترهبه ** فواجهته بأوغادٍ ذوي عدد بشورجين وأغتامٍ يقودهم ** قريش بالبيض في قمصٍ من الزرد فصادفوه وحيدًا لا معين له ** عليهم غائب الأنصار بالمدد فجرعوه المنايا غير ممتنعٍ ** فردًا فيا لك من مستسلم فرد يلقى الوجوه بوجهٍ غير مبتذلٍ ** أبهى وأنقى من القوهية الجدد وا حسرتا وقريش قد أحاط به ** والسيف مرتعد في كف مرتعد فما تحرك بل ما زال منتصبًا ** منكس الرأس لم يبدئ ولم يعد حتى إذا السيف وافى وسط مفرقة ** أذرته عنه يداه فعل متئد وقام فاعتقلت كفاه لبته ** كضيغمٍ شرس مستبسل لبد فاحتزه ثم أهوى فاستقل به ** للأرض من كف ليثٍ محرجٍ حرد فكاد يقتله لو لم يكاثره ** وقام منفلتًا منه ولم يكد هذا حديث أمير المؤمنين وما ** نقصت من أمره حرفًا ولم أزد لا زلت أندبه حتى الممات وإن ** أخنى عليه الذي أخنى على لبد وذكر عن الموصلي أنه قال: لما بعث طاهر برأس محمد إلى المأمون بكى ذو الرياستين، وقال: سل علينا سيوف الناس وألسنتهم؛ أمرناه أن يبعث به أسيرًا فبعث به عقيرًا! وقال المأمون: قد مضى ما مضى فاحتل في الاعتذار منه؛ فكتب الناس فأطالوا، وجاء أحمد بن يوسف بشبرٍ من قرطاس فيه: أما بعد؛ فإن المخلوع كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، وقد فرق الله بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصم الدين، وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين؛ يقول الله عز وجل حين اقتص علينا نبأ ابن نوح: " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح "، فلا طاعة لأحد في معصية الله ولا قطيعة إذا كانت القطيعة في جنب الله. وكتابي إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، ورداه رداء نكثه، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، وما ينتظر من صادق وعده حين رد به الألفة بعد فرقتها، وجمع الأمة بعد شتاتها، وأحيا به أعلام الإسلام بعد دروسها. ذكر الخبر عن بعض سير المخلوع محمد بن هارون ذكر عن حميد بن سعيد، قال: لما ملك محمد، وكاتبه المأمون وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم. وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه؛ وفرض لهم فرضًا سماه الجرادية، وفرضًا من الحبشلن سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهن، ففي ذلك يقول بعضهم: ألا يا مزمن المثوى بطوس ** عزيبًا ما يفادى بنفوس لقد أبقيت للخصيان بعلًا ** تحمل منهم شؤم البسوس فأما نوفل فالشأن فيه ** وفي بدرٍ، فيا لك من جليس! وما العصمى بشار لديه ** إذا ذكروا بذي سهم خسيس لهم من عمره شطر وشطر ** يعاقر فيه شرب الخندريس وما للغانيات لديه حظ ** سوى التقطيب بالوجه العبوس إذا كان الرئيس كذا سقيمًا ** فكيف صلاحنا بعد الرئيس! فلو علم المقيم بدار طوسٍ ** لعز على المقيم بدار طوس قال حميد: ولما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأخذ الوحوش والسباع والطير وغير ذلك؛ واحتجب عن أخوته وأهل بيته، وقواده، واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمنتزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلا ورقة كلواذى وباب الأنبار وبناوري والهوب؛ وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالًا عظيمًا، فقال أبو النواس يمدحه: سخر الله للأمين مطايا ** لم تسخر لصاحب المحراب فإذا ما ركابه سن برًا ** سار في الماء راكبًا ليث غاب أسدًا باسطًا ذراعيه يهوى ** أهرت الشدق كالح الأنياب لا يعانيه باللجام ولا السو ** ط ولا غمز رجليه في الركاب عجب الناس إذ رأوك على صو ** رة ليثٍ تمر مر السحاب سبحوا إذ رأوك صرت عليه ** كيف لو أبصروك فوق العقاب ذات زور ومنسر وجناح ** ين تشق العباب بعد العباب تسبق الطير في السماء إذا ما اس ** تعجلوها بجيئة وذهاب بارك الله للأمير وأبقا ** ه وأبقى له رداء الشباب ملك تقصر المدائح عنه ** هاشمي موفق للصواب وذكر عن الحسين بن الضحاك، قال: ابتنى الأمير سفينة عظيمة، أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين، فقال في ذلك أبو نواس الحسن بن هانئ: قد ركب الدلفين بدر الدجى ** مقتحمًا في الماء قد لحجا فأشرقت دجلة في حسنه ** وأشرق الشطان واستبهجا لم ترى عيني مثله مركبًا ** أحسن إن سار وإن أحنجا إذا استحثثته مجاديفه ** أعتق فوق الماء أو هملجا خص به الله الأمين الذي ** أضحى بتاج الملك قد توجا وذكر عن احمد بن إسحاق بن برصومة المغني الكوفي أنه قال: كان العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر من رجالات بني هاشم جلدًا وعقلأ وصنيعًا؛ وكان يتخذ الخدم، وكان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له المنصور، فوجد الخادم عليه، فهرب إلى محمد، وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوةً عجيبة. قال: فركب الخادم يومًا في جماعة خدم كانو لمجمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس هيئته وحاله التي هو عليها. وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج محضرا في قميص حاسرأ، في يده عمود عليه كيمخت، فلحقه في سويقة أبي الورد، فعلق بلجامه، ونازعه أولئك الخدم، فجعل لا يضرب أحدًا منهم إلا أوهنه، حتى تفرقوا عنه، وجاء به يقوده حتى أدخله داره. وبلغ الخبر محمدًا، فبعث إلى داره جماعة، فوقفوا حيالها، وصف العباس غلمانه ومواليه على سور داره، ومعهم الترسة والسهام، فقام أحمد بن إسحاق: فخفنا والله النار أن تحرق منازلنا؛ وذلك أنهم أرادوا أن يحرقوا دار العباس. قال: وجاء رشيد الهاروني، فاستأذن عليه فدخل غليه، فقال: ماتصنع! أتدري ما أنت فيه وما قد جاءك! لو أذن لهم لاقتلعوا دارك بالأسنه، ألست في الطاعة! قال: بلى، قال: فقم فاركب. قال: فخرج في سواده، فلما صار على باب داره، قال: يا غلام، هلم دابتي فقال رشيد: لا ولا كرامة! ولكن تمضي راجلًا. قال: فمضى، فلما صار إلى الشارع نظر؛ فإذا العالمون قد جاءوا، وجاءه الجلودي والإفريقي وأبو البط وأصحاب الهرش. قال: فجعل ينظر إليهم، وأنا أراه راجلًا ورشيد راكب. قال: وبلغ أم جعفر الخبر، فدخلت على محمد، وجعل تطلب إلى محمد، فقال لها: نفيت من قرابتي من رسول الله ﷺ إن لم أقتله! وجعلت تلح عليه، فقال لها: والله إني لأظنني سأسطو بك. قال: فكشفت شعرها، وقالت: ومن يدخل علي وأنا حاسر! قال: فبينما محمد كذلك - ولم يأت العباس بعد - إذ قدم صاعد الخادم عليه بقتل علي بن عيسى بن ماهان، فاشتغل بذلك، وأقام العباس في الدهليز عشرة أيام، ونسيه ثم ذكره، فقال: يحبس في حجرة من حجر داره، ويدخل عليه ثلاثة رجال من مواليه من مشايخهم يخدمونه، ويجعل له وظيفة في كل يوم ثلاثة ألوان. قال: فلم يزل على هذه الحال حتى خرج حسين بن علي بن عيسى بن ماهان، ودعا إلى المأمون وحبس محمد. قال: فمر إسحاق بن عيسى بن علي ومحمد بن محمد المعبدى بالعباس بن عبد الله وهو في منظره، فقالا له: ما قعودك؟ اخرج إلى هذا الرجل - يعنيان حسين بن علي - قال: فخرج فأتى حسينًا، ثم وقف عند باب الجسر؛ فما ترك لأم جعفر شيئًا من الشتم إلا قاله، وإسحاق بن موسى يأخذ البيعة للمأمون. قال: ثم لم يكن إلا يسيرًا حتى قتل الحسين، وهرب العباس إلى نهر بين إلى هرثمة، ومضى ابنه العباس إلى محمد، فسعى إليه بما كان لأبيه، ووجه محمد إلى منزله، فأخذ منه أربعة ألف درهم وثلثمائة أف دينار، وكانت في قماقم في بئر، وأنسوا قمقمين من تلك القماقم، فقال: ما بقي من ميراث أبي سوى هذين القمقمين، وفيهما سبعون ألف دينار. فلما انقضت الفتنة وقتل محمد رجع إلى منزله فأخذ القمقمين وجعلهما.. وحج في تلك السنة، وهي سنة ثمان وتسعين ومائة. قال أحمد بن إسحاق: وكان العباس بن عيد الله يحدث بعد ذلك؛ فيقول: قال لي سليمان بن جعفر ونحن في دار المأمون: أما قتلت ابنك بعد؟ فقالت: يل عم، جعلت فداك! ومن يقتل ابنه! فقال لي: اقتله؛ فهو الذي سعى بك وبمالك فأفقرك. وذكر عن أحمد بن إسحاق بن برصوما، قال: لما حصر محمد وضغطه الأمر، قال: ويحكم! ما أحد يستراح إليه! فقيل له: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة، يقال له وضاح بن حبيب بن بديل التميمي؛ وهو بقية من بقايا العرب، وذو رأي أصيل، قال: فأرسلوا إليه، قال: فقدم علينا، فلما صار إليه قال له: إني قد خيرت بمذهبك ورأيك، فأشر علينا في أمرنا، قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب؛ ولكن استعمل الأراجيف؛ فإنها من آلة الحرب؛ فنصب رجلًا كان ينزل دجيلًا يقال له بكير بن المعتمر؛ فكان إذا نزل بمحمد نازلة وحادثة هزيمة قال له: هات؛ فقد جاءنا نازلة، فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها. قال أحد بن إسحاق: كأني أنظر إلى بكير بن المعتمر شيخ عظيم الخلق. وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان الكاتب، قال: حدثنا إبراهيم بن الجراح، قال: حدثني كوثر، قال: أمر محمد بن زبيدة يومًا أن يفرش له على دكان الخلد، فبسط له عليه بساط زرعي، وطرحت عليه نمارق وفرش مثله، وهيئ له من آنية الفضة والذهب والجوهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشرًا عشرًا، بأيديهن العيدان يغنين بصوت واحد؛ فأصعدت إليه عشرًا فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين: هم قتلوه كي يكونوا مكانه ** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه قال: فتأفف من هذا، ولعنها ولعن الجواري، فأمر بهن فأنزلن، ثم لبث هنيهة وأمرها أن تصعد عشرًا، فلما استوين على الدكان اندفعن فغنين: من كان مسرورًا بمقتل مالكٍ ** فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرًا يندبنه ** يلطمن قبل تبلج الأسحار قال: فضجر وفعل مثل فعلته الأولى، وأطرق طويلًا، ثم قال: أصعدي عشرًا فأصعدتهن، فلما وقفن على الدكان، اندفعن يغنين بصوت واحد: كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ** وأيسر ذنبًا منك ضرج بالدم قال: فقام من مجلسه، وأمر بهدم ذلك المكان تطيرًا مما كان. وذكر عن محمد بن عبد الرحمن الكندي، قال: حدثني محمد بن دينار، قال: كان محمد المخلوع قاعدًا يومًا، وقد اشتد عليه الحصار، فاشتد اغتمامه، وضاق صدره؛ فدعا بندمائه والشراب ليتسلى به، فأتي به، وكانت له جارية يتحظاها من جواريه، فأمرها أن تغني، وتناول كأسًا ليشربه؛ فحبس الله لسانها عن كل شيء، فغنت: كليب لعمري كان أكثر ناصرًا ** وأيسر ذنبًا منك ضرج بالدم فرماها بالكأس الذي في يده، وأمر بها فطرحت للأسد، ثم تناول كأسًا أخرى، ودعا أخرى فغنت: هم قتلوه كي يكونوا مكانه ** كما غدرت يومًا بكسرى مرازبه فرمى وجهها بالكأس، ثم تناول كأسًا أخرى ليشربها، وقال لأخرى: غني، فغنت: قومي هم قتلوا أميم أخي فرمى وجهها بالكأس، ورمى الصينية برجله، وعاد إلى ما كان فيه من همه، وقتل بعد ذلك بأيام يسيرة. وذكر عن أبي سعيد أنه قال: ماتت فطيم - وهي أم موسى بن محمد بن هارون المخلوع - فجزع عليها جزعًا شديدًا، وبلغ أم جعفر، فقالت: احملوني إلى أمير المؤمنين، قال: فحملت إليه، فاستقبلها، فقال: يا سيدتي، ماتت فطيم، فقالت نفسي فداؤك لا يذهب بك اللهف ** ففي بقائك ممن قد مضى خلف عوضت موسى فهانت كل مرزئةٍ ** ما بعد موسى على مفقوده أسف وقالت: أعظم الله أجرك، ووفر صبرك، وجعل العزاء عنها ذخرك! وذكر عن إبراهيم بن إسماعيل بن هانئ، ابن أخي أبي نواس، قال: حدثني أبي قال: هجا عمك أبو نواس مضر في قصيدته التي يقول فيها: أما قريش فلا افتخار لها ** إلا التجارات من مكاسبها وإنها إن ذكرت مكرمةً ** جاءت قريش تسعى بغالبها إن قريشًا إذا هي انتسبت ** كان لها الشطر من مناسبها قال: يريد أن أكرمها يغالب. قال: فبلغ ذلك الرشيد في حياته، فأمر بحبسه؛ فلم يزل محبوسًا حتى ولي محمد، فقال يمدحه، وكان انقطاعه إليه أيام إمارته، فقال: تذكر أمين الله والعهد يذكر ** مقامي وإنشاديك والناس حضر ونثري عليك الدر يا در هاشمٍ ** فيا من رأى درًا على الدر ينثر! أبوك الذي لم يملك الأرض مثله ** وعمك موسى عدله المتخير وجدك مهدي الهدى وشقيقه ** أبو أمك الأدنى أبو الفضل جعفر وما مثل منصوريك: منصور هاشمٍ ** ومنصور قحطانٍ إذا عد مفخر فمن ذا الذي يرمي بسهميك في العلا ** وعبد منافٍ والداك وحمير قال: فتغنت بهذه الأبيات جارية بين يدي محمد، فقال لها: لمن الأبيات؟ فقيل له: لأبي نواس، فقال: وما فعل؟ فقيل له: محبوس، فقال: ليس عليه بأس. قال: فبعث إليه إسحاق بن فراشة وسعيد بن جابر أخا محمد من الرضاعة، فقالا: إن أمير المؤمنين ذكرك البارحة فقال: ليس عليه بأس، فقال أبياتًا وبعث بها إليه، وهي هذه الأبيات: أرقت وطار من عيني النعاس ** ونام السامرون ولم يواسوا أمين الله قد ملكت ملكًا ** عليك من التقى فيه لباس ووجهك يستهل ندى فيحيا ** به في كل ناحيةٍ أناس كأن الخلق في تمثال روحٍ ** له جسد وأنت عليه راس أمين الله إن السجن باس ** وقد أرسلت: ليس عليك باس فلما أنشده قال: صدق، علي به، فجيء به في الليل، فكسرت قيوده؛ وأخرج حتى دخل عليه، فأنشأ يقول: مرحبًا مرحبًا بخير إمامٍ ** صيغ من جوهر الخرفة نحتا يا أمين الإله يكلؤك الل ** ه مقيمًا وظاعنًا حيث سرتا إنما الأرض كلها لك دار ** فلك الله صاحب حيث كنتا قال: فخلع عليه، وخلي سبيله، وجعله في ندمائه. وذكر عن عبد الله بن عمرو التميمي، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الفارسي، قال: شرب أبو نواس الخمر، فرفع ذلك إلى محمد في أيامه، فأمر بحبسه، فحبسه أبو الفضل بن الربيع ثلاثة أشهر، ثم ذكره محمد، فدعا به وعنده بنو هاشم وغيرهم، ودعا له بالسيف والنطع يهدده بالقتل، فأنشده أبو نواس هذه الأبيات: تذكر أمين الله والعهد يذكر الشعر الذي ذكرناه قبل، وزاد فيه: تحسنت الدنيا بحسن خليفةٍ ** هو البدر إلا أنه الدهر مقمر إمام يسوس الناس سبعين حجة ** عليه له منها لباس ومئزر يشير إليه الجود من وجناته ** وينظر من أعطافه حين ينظر أيا خير مأمولٍ يرجى، أنا امرؤ ** رهين أسير في سجونك مقفر مضى أشهر لي مذ حبست ثلاثة ** كأني قد أذنبت ما ليس يغفر فإن كنت لم أذنب ففيم تعقبي! ** وإن كنت ذا ذنبٍ فعفوك أكثر قال: فقال له محمد: فإن شربتها؟ قال: دمي لك حلال يا أمير المؤمنين، فأطلقه. قال: فكان أبو نواس يشمها ولا يشربها وهو قوله: لا أذوق المدام إلا شميما وذكر عن مسعود بن عيسى العبدي، قال: أخبرني يحيى بن المسافر القرقسائي، قال: أخبرني دحيم غلام أبي نواس؛ أن أبا نواس عتب عليه محمد في شرب الخمر، فطبق به - وكان للفضل بن الربيع خال يستعرض أهل السجون ويتعاهدهم ويتفقدهم - ودخل في حبس الزنادقة، فرأى فيه أبا نواس - ولم يكن يعرفه - فقال له: يا شاب، أنت مع الزنادقة! قال: معاذ الله، قال: فلعلك ممن يعبد الكبش! قال: أنا آكل الكبش بصوفه، قال: فلعلك ممن بعبد الشمس؟ قال: إني لأتجنب القعود فيها بغضًا لها، قال: فبأي جرم حبست؟ قال: حبست بتهمة أنا منها بريء، قال: ليس إلا هذا؟ قال: والله لقد صدقتك. قال: فجاء إلى الفضل، فقال له: يا هذا، لا تحسنون جوار نعم الله عز وجل! أيحبس الناس بالتهمة! قال: وما ذاك؟ فأخبره بما ادعى من جرمه، فتبسم الفضل، ودخل على محمد، فأخبره بذلك، فدعا به، وتقدم إليه أن يجتنب الخمر والسكر، قال: نعم، قيل له: فبعهد الله! قال: نعم، قال: فاخرج، فبعث إليه فتيان من قريش فقال لهم: إني لا أشرب، قالوا: وإن لم تشرب فآنسنا بحديثك، فأجاب، فلما دارت الكأس بينهم، قالوا: ألم ترتح لها؟ قال: لا سبيل والله إلى شربها، وأنشأ يقول: أيها الرائحان باللوم لوما ** لا أذوق المدام إلا شمما نالني بالملام فيها إمام ** لا أرى في خلافه مستقيما فاصرفاها إلى سواي فإني ** لست إلا على الحديث نديما إن حظي منها إذا هي دارت ** أن أراها وأن أشم النسيما فكأني وما أحسن منها ** قعدي يزين التحكيما كل عن حملة السلاح إلى الحر ** ب فأوصى المطبق ألا يقيما وذكر عن أبي الورد السبعي أنه قال: كنت عند الفضل بن سهل بخراسان، فذكر الأمين، فقال: كيف لا يستحل قتال محمد وشاعره يقول في مجلسه: ألا سقني خمرًا وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر قال: فبلغت القصة محمدًا، فأمر الفضل بن الربيع فأخذ أبا نواس فحبسه. وذكر كامل بن جامع عن بعض أصحاب أبي نواس ورواته، قال: كان أبو نواس قال أبياتًا بلغت الأمين في آخرها: وقد زادني تيهًا على الناس أنني ** أراني أغناهم إذا كنت ذا عسر ولو لم أنل فخرًا لكانت صيانتي ** فمي عن جميع الناس حسبي من الفخر ولا يطمعن في ذاك مني طامع ** ولا صاحب التاج المحجب في القصر قال: فبعث إليه الأمين - وعنده سليمان بن أبي جعفر - فلما دخل عليه، قال: يا عاض بظر أمه العاهرة! يابن اللخناء - وشتمه أقبح الشتم - أنت تكسب بشعرك أوساخ أيدي اللئام، ثم تقول: ولا صاحب التاج المحجب في القصر أما والله لا نلت مني شيئًا أبدًا. فقال له سليمان بن أبي جعفر: والله يا أمير المؤمنين، وهو من كبار الثنوية، فقال محمد: هل يشهد عليه بذلك شاهد؟ فاستشهد سليمان جماعة، فشهد بعضهم أنه شرب في يوم مطير، ووضع قدحه تحت السماء، فوقع فيه القطر، وقال: يزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم ترى أني أشرب الساعة من الملائكة! ثم شرب ما في القدح، فأمر محمد بحبسه، فقال أبو نواس في ذلك: يا رب إن القوم قد ظلموني ** وبلا اقتراف تعطل حبسوني وإلى الجحود بما عرفت خلافه ** مني إليه بكيدهم نسبوني ما كان إلا الجري في ميدانهم ** في كل جري والمخافة ديني لا العذر يقبل لي فيفرق شاهدي ** منهم ولا يرضون حلف يميني ولكان كوثر كان أولى محبسًا ** في دار منقصة ومنزل هون أما الأمين فلست أرجو دفعه ** عني، فمن لي اليوم بالمأمون! قال: وبلغت المأمون أبياته فقال: والله لئن لحقته لأغنيه غنى لا يؤمله، قال: فمات قبل دخول المأمون مدينة السلام. قال: ولما طال حبس أبي نواس، قال في حبسه - فيما ذكر - عن دعامة: احمدوا الله جميعًا ** يا جميع المسلمينا ثم قولوا لا تملوا ** ربنا أبق الأمينا صير الخصيان حتى ** صير التعنين دينا فاقتدى الناس جميعًا ** بأمير المؤمنينا قال: وبلغت هذه الأبيات أيضًا المأمون وهو بخراسان، فقال: إني لأتوكفه أن يهرب إلي. وذكر يعقوب بن إسحاق، عمن حدثه، عن كوثر خادم المخلوع، أن محمدًا أرق ذات ليلة، وهو في حربه مع طاهر، فطلب من يسامره فلم يقرب إليه أحد من حاشيته، فدعى حاجبه، فقال: ويلك! قد خطرت بقلبي خطرات فأحضرني شاعرًا ظريفًا أقطع به بقية ليلتي، فخرج الحاجب، فاعتمد أقرب من بحضرته، فوجد أبا نواس، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: لعلك أردت غيري! قال: لم أرد أحدًا سواك. فأتاه به، فقال: من أنت؟ قال: خادمك الحسن بن هانئ، وطليقك بالأمس، قال: لا ترع؛ إنه عرضت بقلبي أمثال أحببت أن تجعلها في شعر، فإن فعلت ذلك أجزت حكمك فيما تطلب، فقال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: قولهم: عفا الله عما سلف، وبئس والله ما جرى فرسي، واكسري عودًا على أنفك، وتمنعي أشهى لك. قال: فقال أبو نواس. حكمي أربع وصائف مقدودات، فأمر بإحضارهن، فقال: فقدت طول اعتلالك ** وما أرى في مطالك لقد أردت جفائي ** وقد أردت وصالك ما ذا أردت بهذا! ** تمنعي أشهى لك وأخذ بيد وصيفته فعزلها، ثم قال: قد صحت الأيمان من حلفك ** وصحت حتى مت من خلفك بالله يا سني احنثي مرة ** ثم اكسري عودًا على أنفك ثم عزل الثانية، ثم قال: فديتك ماذا الصلف ** وشتمك أهل الشرف! صلي عاشقًا مدنفًا ** قد أعتب مما اقترف ولا تذكري ما مضى ** عفا الله عما سلف ثم عزل الثالثة، وقال: وباعثاتٍ إلى من في الغلس ** أن ائتنا واحترس من العسس حتى إذا نوم العداة ولم ** أخش رقيبًا ولا سنا قبس ركبت مهري وقد طربت إلى ** حورٍ حسان نواعم لعس فجئت والصبح قد نهضت له ** فبئس والله ما جرى فرسي فقال: خذهن لا بارك الله لك فيهن! وذكر عن الموصلي، عن حسين خادم الرشيد، قال: لما صارت الخلافة إلى محمد هيئ له منزل على الشط، بفرش أجود مما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي؛ لم يكن لأبيك فرش يباهي بك الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا؛ فأحببت أن أفرشه لك، قال: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المرداج، وقال: مزقوه، قال: فرأيت والله الخدم والفراشين قد صيروه ممزقًا وفرقوه. وذكر عن محمد بن الحسن. قال: حدثني أحمد بن محمد البرمكي أن إبراهيم بن المهدي غنى محمد بن زبيدة: هجرتك حتى قيل لا يعرف القلى ** وزرتك حتى قيل ليس له صبر فطرب محمد، وقال: أوقروا زورقه ذهبًا. وذكر عن علي بن محمد بن إسماعيل، عن مخارق، قال: إني لعند محمد بن زبيدة يومًا ماطرًا، وهو مصطبح، وأنا جالس بالقرب منه، وأنا أغني وليس معه أحد، وعليه جبة وشي؛ لا والله ما رأيت أحسن منها. فأقبلت أنظر إليها، فقال: كأنك استحسنتها يا مخارق! قلت: نعم يا سيدي؛ عليك لأن وجهك حسن فيها، فأنا أنظر إليه وأعوذك. قال: يا غلام، فأجابه الخادم، قال: فدعا بجبة غير تلك، فلبسها وخلع التي عليه علي، ومكثت هنيهة ثم نظرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الكلام، وعاودته، فدعا بأخرى حتى فعل ذلك بثلاث جباب ظاهرت بينها. قال: فلما رآها علي ندم وتغير وجهه، وقال: يا غلام، اذهب إلى الطباخين فقل لهم: يطبخون لن مصلية، ويجيدوا صنعتها، وأتني بها الساعة، فما هو إلا أن ذهب الغلام حتى جاء الخوان، وهو لطيف صغير، وفي وسطه غضارة ضخمة ورغيفان، فوضعت بين يديه، فكسر لقمة فأهوى بها إلى الصحيفة، ثم قال: كل يا مخارق، قلت: يا سيدي، اعفني من الأكل، قال: لست أعفيك فكل، فكسرت لقمة، ثم تناولت شيئًا، فلما وضعتها في فمي قال: لعنك الله! ما أشرهك! نغصتها علي وأفسدتها، وأدخلت يدك فيها؛ ثم رفع الغضارة بيده، فإذا هي في حجري، وقال: قم لعنك الله! فقمت وذاك الودك والمرق يسيل من الجباب، فخلعتها وأرسلت بها إلى منزلي، ودعوت القصارين والوشائين، وجهدت جهدي أن تكون كما كانت فما عادت. وذكر عن البحتري أبي عبادة عن عبيد الله بن أبي غسان، قال: كنت عند محمد في يوم شات شديد البرد؛ وهو في مجلس له مفرد مفروش بفرش؛ قلما رأيت أرفع قيمة مثله ولا أحسن، وأنا في ذلك اليوم طاو ثلاثة أيام ولياليهن إلا من النبيذ؛ والله لا أستطيع أن أتكلم ولا أعقل، فنهض نهضة البول، فقلت لخادم من خدمي الخاصة: ويلك! قد والله مت فهل من حيلة إلى شيء تلقيه في جوفي يبرد عني ما أنا فيه! فقال: دعني حتى أحتال لك وأنظر ما أقول، وصدق مقالتي، فلما رجع محمد وجلس نظر الخادم إلي نظرة، فتبسم، فرآه محمد، فقال: مم تبسمت؟ قال: لا شيء يا سيدي، فغضب. قال البحتري: فقال: شيء في عبيد الله بن أبي غسان؛ لا يستطيع أن يشم رائحة البطيخ ولا يأكله، ويجزع منه جزعًا شديدأً. فقال: يا عبيد الله هذا فيك؟ قال: قلت: إي والله يا سيدي ابتليت به، قال: ويحك! مع طيب البطيخ وطيب ريحه! قال: فقلت: أنا كذا. قال: فتعجب ثم قال: علي ببطيخ؛ فأتى منه بعدة، فلما رأيته أظهرت القشعريرة منه، وتنحيت. قال: خذوه وضعوا البطيخ بين يديه، قال: فأقبلت أريه الجزع والاضطراب من ذلك، وهو يضحك، ثم قال: كل واحدة، قال: فقلت: يا سيدي، تقتلني وترمي بكل شيء في جوفي وتهيج علي العلل، الله الله في! قال: كل بطيخة ولك فرش هذا البيت؛ علي عهد الله بذلك وميثاقه، قلت: ما أصنع بفرش بيت وأنا أموت إن أكلت! قال: فتأبيت، وألح علي، وجاء الخادم بالسكاكين فقطعوا بطيخة، فجعلوا يحشونها في فمي وأنا أصرخ وأضطرب؛ وأنا مع ذلك أبلع، وأنا أريه أني بكره أفعل ذلك وألطم رأسي، وأصبح وهو يضحك، فلما فرغت تحول إلى بيت آخر، ودعا الفراشين، فحملوا فرش ذلك البيت إلى منزلي ثم عاودني في فرش ذلك البيت في بطيخة أخرى، ثم فعل كفعله الأول، وأعطاني فرش البيت؛ حتى أعطاني فرش ثلاثة أبيات؛ وأطعمني ثلاث بطيخات، قال: وحسنت والله حالي واشتد ظهري. قال: وكان منصور بن المهدي يريه أنه ينصح له، فجاء وقد قام محمد يتوضأ، وعلمت أن محمدًا سيعقبني بشر ندامة على ما خرج من يديه؛ فأقبل علي منصور ومحمد غائب عن المجلس، وقد بلغه الخبر، فقال: يابن الفاعلة، تخدع أمير المؤمنين، فتأخذ متاعه! والله لقد هممت أفعل وأفعل، فقلت: يا سيدي، قد كان ذاك؛ وكان السبب فيه كذا وكذا، فإن أحببت أن تقتلني فتأثم فشأنك، وإن تفضلت فأهل لذلك أنت، ولست أعود. قال: فإني أتفضل عليك. قال: وجاء محمد، فقال: افرشوا لنا على تلك البركة، ففرشوا له عليها، فجلس وجلسنا وهي مملوءة ماء، فقال: يا عم، اشتهيت أن أصنع شيئًا؛ أرمي عبيد الله إلى البركة وتضحك منه. قال: يا سيدي إن فعلت هذا قتلته لشدة برد الماء وبرد يومنا هذا؛ ولكني أدلك على شيء خيرت به، طيب، قال: ما هو؟ قال: تأمر به يشد في تخت، ويطرح على باب المتوضأ، ولا يأتي باب المتوضأ أحد إلا بال على رأسه. فقال: طيب والله؛ ثم أتى بتخت فأمر فشددت فيه، ثم أمر فحملت فألقيت على باب المتوضأ، وجاء الخدم فأرخوا الرباط عني، وأقبلوا يرونه أنهم يبولون علي وأنا أصرخ، فمكث بذلك ما شاء الله وهو يضحك. ثم أمر بي فحللت وأريته أني تنظفت وأبدلت ثيابي وجاوزت عليه. وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع عن أبيه - وكان حاجب المخلوع - قال: كنت قائمًا على رأسه، فأتى بغداء فتغدى وحده، وأكل أكلًا عجيبًا، وكان يومًا يعد للخلفاء قبله على هيئة ما كان يهيأ لكل واحد منهم يأكل من كل طعام، ثم يؤتى بطعامه. قال: فأكل حتى فرغ ثم رفع رأسه إلى أبي العنبر - خادم كان لأمه - فقال: اذهب إلى المطبخ، فقل لهم يهيئون لي بزماورد، ويتركونه طوالًا لا يقطعونه، ويكون حشوه شحوم الدجاج والسمن والبقل والبيض والجبن والزيتون والجوز، ويكثرون منه ويعجلونه؛ فما مكث إلا يسيرًا حتى جاءوا به في خوان مربع، وقد جعل البزماورد الطوال، على هيئة القبة العبد صمدية، حتى صير أعلاها بزماوردة واحدة، فوضع بين يديه، فتناول واحدة فأكلها، ثم لم يزل كذلك حتى لم يبق على الخوان شيئًا. وذكر عن علي بن محمد أن جابر بن مصعب حدثه، قال: حدثني مخارق، قال: مرت بي ليلة ما مرت بي مثلها قط، إني لفي منزلي بعد ليلٍ إذ أتاني رسول محمد - وهو خليفة - فركض بي ركضًا، فانتهى بي إلى داره، فأدخلت فإذا إبراهيم بن المهدي قد أرسل إليه كما أرسل إلي، فوافينا جميعًا، فانتهى إلى باب مفض إلى صحن، فإذا الصحن مملوء شمعًا من شمع محمد العظام، وكأن ذلك الصحن في نهار، وإذا محمد في كرج، وإذا الدار مملوءة وصائف وخدمًا، وإذا اللعابون يلعبون، ومحمد وسطهم في الكرج يرقص فيه، فجاءنا رسول يقول: قال لكما: قوما في هذا الموضع على هذا الباب مما يلي الصحن، ثم ارفعا أصواتكما معبرًا ومقصرًا عن السورناي، واتبعاه في لحنه قال: وإذا السورناي والجواري واللعابون في شيء واحد: هذي دنانير تنساني وأذكرها تتبع الزمار. قال: فوالله ما زلت وإبراهيم قائمين نقولها، نشق بها حلوقنا حتى انفلق الصبح، ومحمد في الكرج ما يسأمه ولا يمله حتى أصبح يدنو منا، أحيانًا نراه، وأحيانًا يحول بيننا وبينه الجواري والخدم. وذكر الحسين بن فراس مولى بني هاشم، قال: غزا الناس في زمان محمد على أن يرد عليهم الخمس، فرد عليهم، فأصاب الرجل ستة دنانير، وكان ذلك مالًا عظيمًا. وذكر عن ابن الأعرابي، قال: كنت حاضر الفضل بن الربيع، وأتي بالحسن بن هانئ، فقال: رفع إلى أمير المؤمنين أنك زنديق، فجعل يبرأ من ذلك ويحلف، وجعل الفضل يكرر عليه، وسأله أن يكلم الخليفة فيه، ففعل وأطلقه، فخرج وهو يقول: أهلي أتيتكم من القبر ** والناس محتبسون للحشر لولا أبو العباس ما نظرت ** عيني إلى ولدٍ ولا وفر فالله ألبسني به نعمًا ** شغلت حسابتها يدي شكري لقيتها من مفهمٍ فهمٍ ** فمددتها بأناملٍ عشر وذكر عن الرياشي أن أبا حبيب الموشى حدثه، قال: كنت مع مؤنس بن عمران، ونحن نريد الفضل بن الربيع ببغداد، فقال لي مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس! فدخلنا عليه السجن، فقال لمؤنس: يا أبا عمران، أين تريد؟ قال: أردت أبا العباس الفضل بن الربيع، قال: فتبلغه رقعة أعطيكها؟ قال: نعم، قال: فأعطاه رقعة فيها: ما من يدٍ في الناس واحدةٍ ** إلا أبو العباس مولاها نام الثقات على مضاجعهم ** وسرى إلى نفسي فأحياها قد كنت خفتك ثم أمنني ** من أن أخافك خوفك الله فعفوت عني عفو مقتدرٍ ** وجبت له نقم فألغاها قال: فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من الحبس. وذكر عن محمد بن خلاد الشروي، قال: حدثني أبي قال: سمع محمد شعر أبي نواس وقوله: ألا سقني خمرًا وقل لي هي الخمر وقوله: اسقنيها يا ذفافه ** مزة الطعم سلافه ذل عندي من قلاها ** لرجاء أو مخافه مثل ما ذلت وضاعت ** بعد هارون الخلافه ثم أنشد له: فجاء بها زيتيةً ذهبيةً ** فلم نستطع دون السجود لها صبرا قال: فحبسه محمد على هذا، وقال: إيه! أنت كافر، وأنت زنديق. فكتب في ذلك إلى الفضل بن الربيع: أنت يا بن الربيع علمتني الخي ** ر وعودتنيه والخير عاده فارعوى باطلي وأقصر جه ** لي وأظهرت رهبةً وزهاده لو تراني شبهت بي الحسن البص ** ري في حال نسكه وقتاده بركوعٍ أزينه بسجودٍ واصفرارٍ مثل اصفرار الجراده فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ** فتأمل بعينك السجاده لو رآها بعض المرائين يومًا ** لاشتراها يعدها للشهاده خلافة المأمون عبد الله بن هارون وفي هذه السنة وضعت الحرب - بين محمد وعبد الله بني هارون الرشيد - أوزارها، واستوسق الناس بالمشرق والعراق والحجاز لعبد الله المأمون بالطاعة. وفيها خرج الحسن الهرش في ذي الحجة منها يدعو إلى الرضى من آل محمد - بزعمه - في سفلة الناس، وجماعة كثيرة من الأعراب؛ حتى أتى النيل، فجبى الأموال، وأغار على التجار، وانتهب القرى، واستاق المواشي. وفيها ولى المأمون كل ما كان طاهر بن الحسين افتتحه من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة واليمن الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل؛ وذلك بعد مقتل محمد المخلوع ودخول الناس في طاعة المأمون. وفيها كتب المأمون إلى طاهر بن الحسين، وهو مقيم ببغداد بتسليم جميع ما بيده من الأموال في البلدان كلها إلى خلفاء الحسن بن سهل، وأن يشخص عن ذلك كله إلى الرقة، وجعل إليه حرب نصر بن شبت، وولاه الموصل والجزيرة والشأم والمغرب. وفيها قدم علي بن أبي سعيد العراق خليفةً للحسن بن سهل على خراجها، فدافع طاهر عليًا بتسليم الخراج إليه؛ حتى وفى الجند أرزاقهم، فلما وفاهم سلم إليه العمل. وفيها كتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالشخوص إلى خراسان. وحج بالناس في هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث المشهورة فمن ذلك قدوم الحسن بن سهل فيها بغداد من عند المأمون، وإليه الحرب والخراج، فلما قدمها فرق عماله في الكور والبلدان. وفيها شخص طاهر إلى الرقة في جمادى الأولى، ومعه عيسى بن محمد بن أبي خالد. وفيها شخص أيضًا هرثمة إلى خراسان. وفيها خرج أزهر بن زهير بن المسيب إلى الهرش، فقتله في المحرم. وفيها خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له ابن طباطبا، وكان القيم بأمره في الحرب وتدبيرها وقيادة جيوشه أبو السرايا، واسمه السري بن منصور، وكان يذكر أنه ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. ذكر الخبر عن سبب خروج محمد بن إبراهيم بن طباطبا اختلف في ذلك، فقال بعضهم كان سبب خروجه صرف المأمون طاهر بن الحسين عما كان إليه من أعمال البلدان التي فتحها وتوجيهه إلى ذلك الحسن بن سهل؛ فلما فعل ذلك تحدث الناس بالعراق بينهم أن الفضل بن سهل قد غلب على المأمون، وأنه قد أنزله قصرًا حجبه فيه عن أهل بيته ووجوه قواده من الخاصة والعامة، وأنه يبرم الأمور على هواه، ويستبد بالرأي دونه. فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم ووجوه الناس، وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون، واجترءوا على الحسن بن سهل بذلك، وهاجت الفتن في الأمصار؛ فكان أول من خرج بالكوفة ابن طباطبا الذي ذكرت. وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه وأخره بها فغضب أبو السرايا من ذلك، ومضى إلى الكوفة، واستوسق له أهلها بالطاعة، وأقام محمد بن إبراهيم بالكوفة، وأتاه الناس من نواحي الكوفة والأعراب وغيرهم. ذكر الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب وفيها وجه الحسن بن سهل زهير بن المسيب في أصحابه إلى الكوفة - وكان عامل الكوفة يومئذ حين دخلها ابن طباطبا سليمان بن أبي جعفر المنصور من قبل الحسن بن سهل، وكان خليفة سليمان بن أبي جعفر بها خالد بن محجل الضبي - فلما بلغ الخبر الحسن بن سهل عنف سليمان وضعفه، ووجه زهير بن المسيب في عشرة آلاف فارس وراجل؛ فلما توجه إليهم وبلغهم خبر شخوصه إليهم تهيئوا للخروج إليه؛ فلم تكن لهم قوة على الخروج، فأقاموا حتى إذا بلغ زهير قرية شاهي خرجوا فأقاموا حتى إذا بلغوا القنطرة أتاهم زهير، فنزل عشية الثلاثاء صعنبا، ثم واقعهم من الغد فهزموه واستباحوا عسكره، وأخذوا ما كان معه من مال وسلاح ودواب وغير ذلك يوم الأربعاء. فلما كان من غد اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين أهل الكوفة وزهير بن المسيب - وذلك يوم الخميس لليلة خلت من رجب سنة تسع وتسعين ومائة - مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأةً؛ فذكر أن أبا السرايا سمه، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير من المال والسلاح والدواب وغير ذلك منعه أبا السرايا، وحظره عليه؛ وكان الناس له مطيعين، فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه؛ فلما مات ابن طباطبا أقام أبو السرايا مكانه غلامًا أمرد حدثًا يقال له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب؛ فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور، ويولي من رأى، ويعزل من أحب؛ وإليه الأمور كلها، ورجع زهير من يومه الذي هزم فيه إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به. وكان الحسن بن سهل قد وجه عبدوس بن محمد بن أبي خالد المروروذي إلى النيل حين وجه زهير إلى الكوفة فخرج بعد ما هزم زهير عبدوس يريد الكوفة بأمر الحسن بن سهل؛ حتى بلغ الجامع هو وأصحابه، وزهير مقيم بالقصر، فتوجه أبو السرايا إلى عبدوس، فواقعه بالجامع، يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من رجب فقتله، وأسر هارون بن محمد بن أبي خالد، واستباح عسكره. وكان عبدوس - فيما ذكر - في أربعة آلاف فارس، فلم يفلت منهم أحد، كانوا بين قتيل وأسير، وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة، ونقش عليها: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص "، ولما بلغ زهيرًا قتل أبي السرايا عبدوسًا وهو بالقصر، انحاز بمن كان معه إلى نهر الملك. ثم إن أبا السرايا أقبل حتى نزل قصر ابن هبيرة بأصحابه، وكانت طلائعه تأتي كوثى ونهر الملك، فوجه أبو السرايا جيوشًا إلى البصرة وواسط فدخلوهما، وكان بواسط ونواحيها عبد الله بن سعيد الحرشي واليًا عليها من قبل الحسن بن سهل، فواقعه جيش أبي السرايا قريبًا من واسط فهزموه، فانصرف راجعًا إلى بغداد، وقد قتل من أصحابه جماعة وأسر جماعة. فلما رأى الحسن بن سهل أن أبا السرايا ومن معه لا يلقون له عسكرًا إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها؛ ولم يجد معه من القواد من يكفيه حربه، اضطر إلى هرثمة - وكان هرثمة حين قدم عليه الحسن بن سهل العراق واليًا عليها من قبل المأمون. سلم ما كان بيده من الأعمال، وتوجه نحو خراسان مغاضبًا للحسن، فسار حتى بلغ حلوان - فبعث إليه السندي وصالحًا صاحب المصلى يسأله الانصراف إلى بغداد لحرب أبي السرايا، فامتنع وأبى. وانصرف الرسول إلى الحسن بإبائه؛ فأعاد إليه السندي بكتب لطيفة، فأجاب، وانصرف إلى بغداد، فقدمها في شعبان؛ فتهيأ للخروج إلى الكوفة. وأمر الحسن بن سهل علي بن أبي سعيد أن يخرج إلى ناحية المدائن وواسط والبصرة، فتهيئوا لذلك، وبلغ الخبر أبا السرايا وهو بقصر ابن هبيرة، فوجه إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم هو بنفسه وبمن معه حتى نزل نهر صرصر مما يلي طريق الكوفة في شهر رمضان. وكان هرثمة لما احتبس قدومه على الحسن ببغداد أمر المنصور بن المهدي أن يخرج فيعسكر بالياسرية إلى قدوم هرثمة، فخرج فعسكر، فلما قدم هرثمة خرج فعسكر بالسفينتين بين يدي منصور، ثم مضى حتى عسكر بنهر صرصر بإزاء أبي السرايا، والنهر بينهما؛ وكان علي بن أبي سعيد معسكرًا بكلواذى، فشخص يوم الثلاثاء بعد الفطر بيوم، ووجه مقدمته إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايا غداة الخميس إلى الليل قتالًا شديدًا. فلما كان الغد غدا أصحابه على القتال فانكشف أصحاب أبي السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن. وبلغ الخبر أبا السرايا وأخذ ابن أبي سعيد المدائن؛ فلما كان ليلة السبت لخمس خلون من شوال رجع أبو السرايا من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة؛ فنزل به، وأصبح هرثمة فجد في طلبه، فوجد جماعة كثيرة من أصحابه فقتلهم، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل، ثم صار هرثمة إلى قصر ابن هبيرة؛ فكانت بينه وبين أبي السرايا وقعة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، فانحاز أبو السرايا إلى الكوفة، فوثب محمد بن محمد ومن معه من الطالبيين على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا في ذلك عملًا قبيحًا، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها. وكان هرثمة - فيما ذكر - يخبر الناس أنه يريد الحج، فكان قد حبس من يريد الحج من خراسان والجبال والجزيرة وحاج بغداد وغيرهم؛ فلم يدع أحدًا يخرج، رجاء أن يأخذ الكوفة، ووجه أبو السرايا إلى مكة والمدينة من يأخذهما، ويقيم الحج للناس. وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس، وكان الذي وجهه أبو السرايا إلى مكة حسين بن حسن الأفطس بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب والذي وجه إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فدخلها ولم يقاتله بها أحد، ومضى حسين بن حسن يريد مكة فلما قرب منها وقف هنيهة لمن فيها. وكان داود بن عيسى لما بلغه توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الحج للناس جمع موالي بني العباس وعبيد حوائطهم، وكان مسرور الكبير الخادم قد حج في تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، فتعبأ لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، فقال لداود بن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك، وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم؛ والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من هذا الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم مكانك وسلطانك إلى عدوك ومن لا يأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك! قال له داود: أي ملك لي! والله أقمت معهم حتى شيخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت؛ إنما هذا الملك لك وأشباهك؛ فقاتل إن شئت أو دع. فانحاز داود من مكة إلى ناحية المشاش، وقد شد أثقاله على الإبل، فوجه بها في طريق العراق، وافتعل كتابًا من المأمون بتولية ابنه محمد بن داود على صلاة الموسم، فقال له: اخرج فصل بالناس الظهر والعصر بمنى، والمغرب والعشاء، وبت بمنى، وصل بالناس الصبح، ثم اركب دوابك فانزل طريق عرفة، وخذ على يسارك في شعب عمرو؛ حتى تأخذ طريق المشاش، حتى تلحقني ببستان ابن عامر. ففعل ذلك، وافترق الجمع الذي كان داود بن عيسى معهم بمكة من موالي بني العباس وعبيد الحوائط، وفت ذلك في عضد مسرور الخادم، وخشي إن قاتلهم أن يميل أكثر الناس معهم؛ فخرج في إثر داود راجعًا إلى العراق، وبقي الناس بعرفة؛ فلما زالت الشمس وحضرت الصلاة، تدافعها قوم من أهل مكة، فقال أحمد بن محمد بن الوليد الردمي - وهو المؤذن وقاضي الجماعة والإمام بأهل المسجد الحرام إذ لم تحضر الولاة - لقاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي: تقدم فاخطب بالناس، وصل بهم الصلاتين؛ فإنك قاضي البلد. قال: فلمن أخطب وقد هرب الإمام؛ وأطل هؤلاء القوم على الدخول! قال: لا تدع لأحد، قال له محمد: بل أنت تقدم واخطب، وصل بالناس، فأبى؛ حتى قدموا رجلًا من عرض أهل مكة، فصلى بالناس الظهر والعصر بلا خطبة، ثم مضوا فوقفوا جميعًا بالموقف من عرفة حتى غربت الشمس، فدفع الناس لأنفسهم من عرفة بغير إمام، حتى أتوا مزدلفة، فصلى بهم المغرب والعشاء رجل أيضًا من عرض الناس وحسين بن حسن يتوقف بسرف يرهب أن يدخل مكة، فيدفع عنها ويقاتل دونها، حتى خرج إليه قوم من أهل مكة ممن يميل إلى الطالبيين، ويتخوف من العباسيين، فأخبروه أن مكة ومنى وعرفة قد خلت ممن فيها من السلطان، وأنهم قد خرجوا متوجهين إلى العراق. فدخل حسين بن حسن مكة قبل المغرب من يوم عرفة، وجميع من معه لا يبلغون عشرة، فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة في الليل، فوقفوا بها ساعة من الليل، ثم رجع إلى مزدلفة فصلى بالناس الفجر، ووقف على قزح، ودفع بالناس منه. وأقام بمنى أيام الحج، فلم يزل مقيمًا حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة، وأقام محمد بن سليمان بن داود الطالبي بالمدينة السنة أيضًا، فانصرف الحاج ومن كان شهد مكة والموسم، على أن أهل الموسم قد أفاضوا من عرفة بغير إمام. وقد كان هرثمة لما تخوف أن يفوته الحج - وقد نزل قرية شاهي - واقع أبا السرايا وأصحابه في المكان الذي واقعه فيه زهير، فكانت الهزيمة على هرثمة في أول النهار، فلما كان آخر النهار كانت الهزيمة على أصحاب أبي السرايا، فلما رأى هرثمة أنه لم يصر إلى ما أراد، أقام بقرية شاهي، ورد الحاج وغيرهم، وبعث إلى المنصور بن المهدي فأتاه بقرية شاهي، وصار يكاتب رؤساء الكوفة، وقد كان علي بن أبي سعيد لما أخذ المدائن توجه إلى واسط فأخذها، ثم إنه توجه إلى البصرة فلم يقدر على أخذها حتى انقضت سنة تسع وتسعين ومائة. ثم دخلت سنة مائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن هرب أبي السرايا وما آل إليه أمره فمما كان فيها من ذلك هرب أبي السرايا من الكوفة ودخول هرثمة إليها. ذكر أن أبا السرايا هرب هو ومن معه من الطالبيين من الكوفة ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم من سنة مائتين، حتى أتى القادسية، ودخل منصور بن المهدي وهرثمة الكوفي صبيحة تلك الليلة، وآمنوا أهلها، ولم يعرضوا لأحد منهم، فأقاموا بها يومهم إلى العصر، ثم رجعوا إلى معسكرهم، وخلفوا بها رجلًا منهم يقال له غسان بن أبي الفرج أبو إبراهيم بن غسان صاحب حرس صاحب خراسان، فنزل في الدار التي كان فيها محمد بن محمد وأبو السرايا. ثم إن أبا السرايا خرج من القادسية هو ومن معه حتى أتوا ناحية واسط، وكان بواسط علي بن أبي سعيد، وكانت البصرة بيد العلويين بعد، فجاء أبو السرايا حتى عبر دجلة أسفل من واسط، فأتى عبدسي؛ فوجد بها مالًا كان حمل من الأهواز، فأخذه ثم مضى حتى أتى السوس، فنزلها ومن معه، وأقام بها أربعة أيام، وجعل يعطي الفارس ألفًا والراجل خمسمائة، فلما كان اليوم الرابع أتاهم الحسن بن علي الباذغيسي المعروف بالمأموني. فأرسل إليهم: اذهبوا حيث شئتم، فإنه لا حاجة لي في قتالكم، وإذا خرجتم من عملي فلست أتبعكم. فأبى أبو السرايا إلا القتال، فقاتلهم، فهزمهم الحسن، واستباح عسكرهم، وجرح أبو السرايا جراحة شديدة، فهرب واجتمع هو ومحمد بن محمد وأبو الشوك، وقد تفرق أصحابهم، فأخذوا ناحية طريق الجزيرة يريدون منزل أبي السرايا برأس العين؛ فلما انتهوا إلى جلولاء عثر بهم، فأتاهم حماد الكندغوش فأخذهم، فجاء بهم الحسن بن سهل، وكان مقيمًا بالنهروان حين طردته الحربية، فقدم بأبي السرايا، فضرب عنقه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول. وذكروا أن الذي تولى ضرب عنقه هارون بن محمد بن أبي خالد، وكان أسيرًا في أيدي أبي السرايا. وذكروا أنه لم يروا أحدًا عند القتل أشد جزعًا من أبي السرايا، كان يضطرب بيديه ورجليه، ويصيح أشد ما يكون من الصياح؛ حتى جعل في رأسه حبل، وهو في ذلك يضطرب ويلتوي ويصيح؛ حتى ضربت عنقه. ثم بعث برأسه فطيف به في عسكر الحسن بن سهل، وبعث بجسده إلى بغداد، فصلب نصفين على الجسر، في كل جانب نصف، وكان بين خروجه بالكوفة وقتله عشرة أشهر. وكان علي بن أبي سعيد حين عبر أبو السرايا توجه إليه، فلما فاته توجه إلى البصرة فافتتحها. والذي كان بالبصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بنعلي بن حسين بن علي بن أبي طالب ومعه جماعة من أهل بيته، وهو الذي يقال له زيد نار - وإنما سمي زيد النار لكثرة ما حرق من الدور بالبصرة من دور بني العباس وأتباعهم؛ وكان إذا أتي برجل من المسودة كانت عقوبته عنده أن يحرقه بالنار - وانتهبوا بالبصرة أموالًا، فأخذه علي بن أبي سعيد أسيرًا. وقيل إنه طلب الأمان فآمنه. وبعث علي بن أبي سعيد ممن كان معه من القواد عيسى بن يزيد الجلودي وورقاء بن جميل وحمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان وهارون بن المسيب إلى مكة والمدينة واليمن، وأمرهم بمحاربة من بها من الطالبيين. وقال التيمي في قتل الحسن بن سهل أبا السرايا: ألم تر ضربة الحسن بن سهلٍ ** بسيفك يا أمير المؤمنينا أدارت مرو رأس أبي السرايا ** وأبقت عبرةً للعابرينا وبعث الحسن بن سهل محمد بن محمد حين قتل أبو السرايا إلى المأمون بخراسان. ذكر الخبر عن خروج إبراهيم بن موسى باليمن وفي هذه السنة خرج إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب باليمن. ذكر الخبر عنه وعن أمره وكان إبراهيم بن موسى - فيما ذكر - وجماعة من أهل بيته بمكة حين خرج أبو السرايا وأمره وأمر الطالبيين بالعراق ما ذكر. وبلغ إبراهيم بن موسى خبرهم، فخرج من مكة مع من كان معه من أهل بيته يريد اليمن، ووالي اليمن يومئذ المقيم بها من قبل المأمون إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. فلما سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وقربه من صنعاء، خرج منصرفًا عن اليمن، في الطريق النجدية بجميع من في عسكره من الخيل والرجل، وخلى لإبراهيم بن موسى بن جعفر اليمن وكره قتاله، وبلغه ما كان من فعل عمه داود بن عيسى بمكة والمدينة، ففعل مثل فعله، وأقبل يريد مكة؛ حتى نزل المشاش، فعسكر هناك، وأراد دخول مكة، فمنعه من كان بها من العلويين، وكانت أم إسحاق بن موسى بن عيسى متوارية بمكة من العلويين، وكانوا يطلبونها فتوارت منهم، ولم يزل إسحاق بن موسى معسكرًا بالمشاش، وجعل من كان بمكة مستخفيًا يتسللون من رءوس الجبال، فأتوا بها ابنها في عسكره. وكان يقال إبراهيم بن موسى: الجزار؛ لكثرة من قتل باليمن من الناس وسبى وأخذ من الأموال. ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة وفي هذه السنة في أول يوم من المحرم منها بعد ما تفرق الحاج من مكة جلس الحسين بن حسن الأفطس خلف المقام على نمرقة مثنية، فأمر بثياب الكعبة التي عليها فجردت منها حتى لم يبق عليها من كسوته شيئًا، وبقيت حجارة مجردة، ثم كساها ثوبين من قز رقيق، كان أبو السرايا وجه بهما معه مكتوب عليهما: أمر به الأصفر بن الأصفر أبو السرايا داعية آل محمد، لكسوة بيت الله الحرام، وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس، لتطهر من كسوتهم. وكتب في سنة تسع وتسعين ومائة. ثم أمر حسين بن حسن بالكسوة التي كانت على الكعبة فقسمت بين أصحابه من العلويين وأتباعهم على قدر منازلهم عنده، وعمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه، ولم يسمع بأحد عنده وديعة لأحد من ولد العباس وأتباعهم عليه في داره؛ فإن وجد من ذلك شيئًا أخذه وعاقب الرجل؛ وإن لم يجد عنده شيئًا حبسه وعذبه حتى يفتدي نفسه بقدر طوله، ويقر عند الشهود أن ذلك للمسودة من بني العباس وأتباعهم، حتى عم هذا خلقًا كثيرًا. وكان الذي يتولى العذاب لهم رجلًا من أهل الكوفة يقال له محمد بن مسلمة، كان ينزل في دار خالصة عند الحناطين؛ فكان يقال لها دار العذاب، وأخافوا الناس؛ حتى هرب منهم خلق كثير من أهل النعم، فتعقبوهم بهدم دورهم حتى صاروا من أمر الحرم، وأخذ أبناء الناس في أمر عظيم، وجعلوا يحكون الذهب الرقيق الذي في رءوس أساطين المساجد، فيخرج من الأسطوانة بعد التعب الشديد قدر مثقال ذهب أو نحوه، حتى عم ذلك أكثر أساطين المسجد الحرام، وقلعوا الحديد الذي على شبابيك زمزم، ومن خشب الساج، فبيع بالثمن الخسيس. فلما رأى حسين بن حسن ومن معه من أهل بيته تغير الناس لهم بسيرتهم، وبلغهم أن أبا السرايا قد قتل، وأنه قد طرد من الكوفة والبصرة وكور العراق من كان بها من الطالبيين، ورجعت الولاية بها لولد العباس، واجتمعوا إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب - وكان شيخًا وداعًا محببًا في الناس، مفارقًا لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر بن محمد، وكان الناس يكتبون عنه، وكان يظهر سمتًا وزهدًا - فقالوا له: قد تعلم حالك في الناس، فأبرز شخصك نبايع لك بالخلافة؛ فإنك إن فعلت ذلك لم يختلف عليك رجلان؛ فأبى ذلك عليهم، فلم يزل به ابنه علي بن محمد بن جعفر وحسين بن حسن الأفطس حتى غلبا الشيخ على رأيه؛ فأجابهم. فأقاموه يوم صلاة الجمعة بعد الصلاة لست خلون من ربيع الآخر، فبايعوه بالخلافة، وحشروا إليه الناس من أهل مكة والمجاورين، فبايعوه طوعًا وكرهًا، وسموه بإمرة المؤمنين، فأقام بذلك أشهرًا، وليس له من الأمر إلا اسمه، وابنه علي وحسين بن حسن وجماعة منهم أسوأ ما كانوا سيرة، وأقبح ما كانوا فعلًا، فوثب حسين بن حسن على امرأة من قريش من بني فهر - وزوجها رجل من بني مخزوم، وكان لها جمال بارع - فأرسل إليها لتأتيه، فامتنعت عليه، فأخاف زوجها وأمر بطلبها فتوارت منه، فأرسل ليلًا جماعة من أصحابه فكسروا باب الدار، واغتصبوها نفسها، وذهبوا بها إلى حسين، فلبثت عنده إلى قرب خروجه من مكة، ورجعت إلى أهلها وهم يقاتلون بمكة. ووثب علي بن محمد بن جعفر على غلام من قريش، ابن قاضٍ بمكة يقال له إسحاق بن محمد، وكان جميلًا بارعًا في الجمال - فاقتحم عليه بنفسه نهارًا جهارًا في داره على الصفا مشرفًا على المسعى؛ حتى حمله على فرسه في السرج. وركب علي بن محمد على عجز الفرس، وخرج به يشق السوق حتى أتى بئر ميمون - وكان ينزل في دار داود بن عيسى في طريق منى - فلما رأى ذلك أهل مكة ومن بها من المجاورين، خرجوا فاجتمعوا في المسجد الحرام، وغلقت الدكاكين، ومال معهم أهل الطواف بالكعبة؛ حتى أتوا محمد بن جعفر بن محمد، وهو نازل دار داود، فقالوا: والله لنخلعنك ولنقتلنك، أو تردن إلينا هذا الغلام الذي ابنك أخذه جهرة. فأغلق باب الدار، وكلمهم من الشباك الشارع في المسجد، فقال: والله ما علمت، وأرسل إلى حسين بن حسن يسأله أن يركب إلى ابنه علي فيستنقذ الغلام منه. فأبى ذلك حسين، وقال: والله إنك لتعلم إني لا أقوى على ابنك، ولو جئته لقاتلني وحاربني في أصحابه. فلما رأى ذلك محمد قال لأهل مكة: آمنوني حتى أركب إليه وآخذ الغلام منه. فآمنوه وأذنوا له في الركوب، فركب بنفسه حتى صار إلى ابنه، فأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله. قال: فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى أقبل إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي مقبلًا من اليمن حتى نزل المشاش، فاجتمع العلويون إلى محمد بن جعفر بن محمد، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، هذا إسحاق بن موسى مقبلًا إلينا في الخيل والرجال، وقد رأينا أن نخندق خندقًا بأعلى مكة، وتبرز شخصك ليراك الناس ويحاربوا معك. وبعثوا إلى من حولهم من الأعراب، ففرضوا لهم، وخندقوا على مكة ليقاتلوا إسحاق بن موسى من ورائه، فقاتلهم إسحاق أيامًا. ثم إن إسحاق كره القتال والحرب، وخرج يريد العراق، فلقيه ورقاء بن جميل في أصحابه ومن كان معه من أصحاب الجلودي، فقالوا: ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك القتال. فرجع معهم حتى أتوا مكة فنزلوا المشاش. واجتمع إلى محمد بن جعفر من كان معه من غوغائها، ومن سودان أهل المياه، ومن فرض له من الأعراب، فعبأهم ببئر ميمون، وأقبل إليهم إسحاق بن موسى وورقاء بن جميل بمن معه من القواد والجند، فقاتلهم ببئر ميمون، فوقعت بينهم قتلى وجراحات. ثم رجع إسحاق وورقاء إلى معسكرهم، ثم عاودهم، بعد ذلك بيوم فقاتلهم، فكانت الهزيمة على محمد بن جعفر وأصحابه؛ فلما رأى ذلك محمد، بعث رجالًا من قريش فيهم قاضي مكة يسألون لهم الأمان؛ حتى يخرجوا من مكة، ويذهبوا حيث شاءوا، فأجابهم إسحاق وورقاء بن جميل إلى ذلك، وأجلوهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث، دخل إسحاق وورقاء إلى مكة في جمادى الآخرة وورقاء الوالي على مكة للجلودي، وتفرق الطالبيون من مكة، فذهب كل قوم ناحية؛ فأما محمد بن جعفر فأخذ ناحية جدة، ثم خرج يريد الجحفة، فعرض له رجل من موالي بني العباس يقال له محمد بن حكيم بن مروان، قد كان الطالبيون انتهبوا داره بمكة، وعذبوه عذابًا شديدًا؛ وكان يتوكل لبعض العباسيين بمكة لآل جعفر بن سليمان، فجمع عبيد الحوائط من عبيد العباسيين حتى لحق محمد بن جعفر بين جدة وعسفان، فانتهب جميع ما معه مما خرج به من مكة، وجرده حتى تركه في سراويل، وهم بقتله، ثم طرح عليه بعه ذلك قميصًا وعمامة ورداء ودريهمات يتسبب بها، فخرج محمد بن جعفر حتى أتى بلاد جهينة على الساحل، فلم يزل مقيمًا هناك حتى انقضى الموسم، وهو في ذلك بجمع الجموع. وقد وقع بينه وبين هارون بن المسيب والي المدينة وقعات عند الشجرة وغيرها، وذلك أن هارون بعث ليأخذه، فلما رأى ذلك أتاه بمن اجتمع حتى بلغ الشجرة، فخرج إليه هارون فقاتله، فهزم محمد بن جعفر، وفقئت عينه بنشابه، وقتل من أصحابه بشر كثير، فرجع حتى أقام بموضعه الذي كان فيه ينتظر ما يكون من أمر الموسم، فلم يأته من كان وعده. فلما رأى ذلك وانقضى الموسم، طلب الأمان من الجلودي ومن رجاء ابن عم الفضل بن سهل، وضمن له رجاء على المأمون وعلى الفضل بن سهل ألا يهاج، وأن يوفى له بالأمان، فقبل ذلك ورضيه، ودخل به إلى مكة، يوم الأحد بعد النفر الأخير بثمانية أيام لعشر بقين من ذي الحجة، فأمر عيسى بن يزيد الجلودي ورجاء بن أبي الضحاك ابن عم الفضل بن سهل بالمنبر؛ فوضع بين الركن والمقام حيث كان محمد بن جعفر بويع له فيه، وقد جمع الناس من القريشيين وغيرهم، فصعد الجلودي رأس المنبر، وقام محمد بن جعفر تحته بدرجة، وعليه قباء أسود وقلنسوة سوداء؛ وليس عليه سيف ليخلع نفسه. ثم قام محمد فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علب بن أبي طالب؛ فإنه كان لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين في رقبتي بيعة بالسمع والطاعة، طائعًا غير مكره، وكنت أحد الشهود الذين شهدوا في الكعبة في الشرطين لهارون الرشيد على ابنيه: محمد المخلوع وعبد الله المأمون أمير المؤمنين. ألا وقد كانت فتنة غشيت عامة الأرض منا ومن غيرنا. وكان نمي إلي خبر؛ أن وعبد الله المأمون أمير المؤمنين قد توفي؛ فدعاني ذلك إلى أن بايعوا لي بإمرة المؤمنين، واستحللت قبول ذلك لما كان علي من العهود والمواثيق في بيعتي لعبد الله عبد الله الإمام المأمون، فبايعتموني - أو من فعل منكم - ألا وقد بلغني وصح عندي أنه حي سوي. ألا وإني أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة، وقد خلعت نفسي من بيعتي التي بايعتموني عليها؛ كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي، وقد صرت كرجل من المسلمين فلا بيعة لي في رقابكم، وقد أخرجت نفسي من ذلك، وقد رد الله الحق إلى الخليفة المأمون وعبد الله المأمون أمير المؤمنين، والحمد لله رب العالمين؛ والصلاة على محمد خاتم النبيين والسلام عليكم أيها المسلمون. ثم نزل. فخرج به عيسى بن يزيد الجلودي إلى العراق، واستخلف على مكة ابنه محمد بن عيسى في سنة إحدى ومائتين، وخرج عيسى ومحمد بن جعفر حتى سلمه إلى الحسن بن سهل، فبعث به الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو مع رجاء بن أبي الضحاك. وفي هذه السنة وجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد الطالبي بعض ولد عقيل بن أبي طالب من اليمن في جند كثيف إلى مكة ليحج بالناس، فحورب العقيلي فهزم، ولم يقدر على دخول مكة. ذكر الخبر عن أمر إبراهيم والعقيلي الذي ذكرنا أمره ذكر أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد حج بالناس في سنة مائتين، فسار حتى دخل مكة، ومعه قواد كثير، فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان، وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن، ودخلوا مكة، وبها الجلودي في جنده وقواده، ووجه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي من اليمن راجلًا من ولد عقيل بن أبي طالب، وأمره أن يحج بالناس، فلما صار العقيلي إلى بستان ابن عامر، بلغه أن أبا إسحاق بن هارون الرشيد قد ولي الموسم، وأن معه من القواد والجنود ما لا قبل لأحد به، فأقام ببستان ابن عامر، فمرت به قافلة من الحاج والتجار، فيها كسوة الكعبة وطيبها، فأخذ أموال التجار وكسوة الكعبة وطيبها، وقدم الحاج والتجار مكة عراة مسلبين، فبلغ ذلك أبا إسحاق بن الرشيد وهو نازل بمكة في دار القوارير، فجمع إليه القواد فشاورهم، فقال له الجلودي - وذلك قبل التروية بيومين أو ثلاثة: أصلح الله الأمير! أنا أكفيكهم، وأخرج إليهم في خمسين من نخبة أصحابي، وخمسين أنتخبهم من سائر القواد. فأجابوه إلى ذلك، فخرج الجلودي في مائة حتى أصبح العقيلي وأصحابه ببستان ابن عامر، فأحدق بهم، فأسر أكثرهم وهرب من هرب منهم يسعى على قدميه، فأخذ كسوة الكعبة إلا شيئًا كان هرب به من هرب قبل ذلك بيوم واحد، وأخذ الطيب وأموال التجار والحاج، فوجه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي، فأمر بهم فقنع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قال: اعزبوا يا كلاب النار؛ فوالله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال. وخلى سبيلهم، فرجعوا إلى اليمن يستطعمون في الطريق حتى هلك أكثرهم جوعًا وعريًا. وخالف ابن أبي سعيد على الحسن بن سهل، فبعث المأمون بسراج الخادم، وقال له: إن وضع علي يده في يد الحسن أو شخص إلي بمرو وإلا فاضرب عنقه. فشخص إلى المأمون مع هرثمة بن أعين. وفي هذه السنة شخص هرثمة في شهر ربيع الأول منها من معسكره إلى المأمون بمرو. ذكر الخبر عن شخوص هرثمة إلى المأمون وما آل إليه أمره في مسيره ذلك ذكر أن هرثمة لما فرغ من أمر أبي السرايا ومحمد بن محمد العلوي، ودخل الكوفة، أقام في معسكره إلى شهر ربيع الأول؛ فلما أهل الشهر خرج حتى أتى نهر صرصر، والناس يرون أنه يأتي الحسن بن سهل بالمدائن؛ فلما بلغ نهر صرصر خرج على عقرقوف، ثم خرج حتى أتى البردان، ثم أتى النهروان، ثم خرج حتى أتى إلى خراسان؛ وقد أتته كتب المأمون في غير منزل، أن يرجع فيلي الشأم والحجاز، فأبى وقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين،؛ إدلالًا منه عليه؛ لما كان يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل بن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وألا يدعه حتى يرده إلى بغداد، دار خلافة آبائه وملكهم ليتوسط سلطانه، ويشرف على أطرافه. فعلم الفضل بما يريد، فقال للمأمون: إن هرثمة قد أنغل عليك البلاد والعباد، وظاهر عليك عدوك، وعادى وليك، ودس أبا السرايا، وهو جندي من جنده حتى عمل ما عمل، ولو شاء هرثمة ألا يفعل ذلك أبو السرايا ما فعله. وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب؛ أن يرجع فيلي الشأم والحجاز فأبى، وقد رجع إلى باب أمير المؤمنين عاصيًا مشاقًا، يظهر القول الغليظ، ويتواعد بالأمر الجليل، وإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره. فأشرب قلب أمير المؤمنين عليه. وأبطأ هرثمة في المسير فلم يصل إلى خراسان حتى كان ذو القعدة؛ فلما بلغ مرو خشي أن يكتم المأمون قدومه، فضرب بالطبول لكي يسمعها المأمون، فسمعها فقال: ما هذا؟ قالوا: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، وظن هرثمة أن قوله المقبول. فأمر بإدخاله، فلما أدخل - وقد أشرب قلبه ما أشرب - قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة والعلويين وداهنت ودسست إلى أبي السرايا حتى خرج وعمل ما عمل؛ وكان رجلًا من أصحابك؛ ولو أردت أن تأخذهم جميعًا لفعلت، ولكنك أرخيت خناقهم، وأجررت لهم رسنهم. فذهب هرثمة ليتكلم ويعتذر، ويدفع عن نفسه ما قرف به فلم يقبل ذلك منه، وأمر به فوجئ على أنفه، وديس بطنه، وسحب من بين يديه. وقد تقدم الفضل بن سهل إلى الأعوان بالغلظ عليه والتشديد حتى حبس، فمكث في الحبس أيامًا ثم دسوا إليه فقتلوه وقالوا له: إنه مات. ذكر الخبر عن وثوب الحربية ببغداد وفي هذه السنة هاج الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل. ذكر الخبر عن ذلك وكيف كان ذكر أن الحسن بن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى خراسان، فلم يزل مقيمًا بها إلى أن اتصل بأهل بغداد والحربية ما صنع به، فبعث الحسن بن سهل إلى علي بن هشام - وهو والي بغداد، من قبله: أن أمطل الجند من الحربية والبغداديين أرزاقهم، ومنهم ولا تعطهم. وقد كان الحسن قبل ذلك اتعدهم أن يعطيهم أرزاقهم، وكانت الحربية حين خرج هرثمة إلى خراسان وثبوا وقالوا: لا برضى حتى نطرد الحسن بن سهل عن بغداد؛ وكان من عماله بها محمد بن أبي خالد وأسد بن أبي الأسد، فوثبت الحربية عليهم فطردوهم، وصيروا إسحاق بن موسى بن المهدي خليفة للمأمون ببغداد؛ فاجتمع أهل الجانبين على ذلك، ورضوا به، فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم حتى وثبوا من جانب عسكر المهدي، وجعل يعطي الجند أرزاقهم لستة أشهر عطاء نزرًا؛ فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل. وجاء زهير بن المسيب فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن بن سهل بن علي بن هشام، فجاء من الجانب الآخر؛ حتى نزل نهر صرصر، ثم جاء هو ومحمد بن أبي خالد وقوادهم ليلًا؛ حتى دخلوا بغداد، فنزل علي بن هشام دار العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي على باب المحول لثمانٍ خلون من شعبان؛ وقبل ذلك ما كان الحربية حين بلغهم أن أهل الكرخ يريدون أن يدخلوا زهيرًا وعلي بن هشام، شدوا على باب الكرخ فأحرقوه، وأنهبوا من حد قصر الوضاح إلى داخل باب الكرخ إلى أصحاب القراطيس ليلة الثلاثاء، ودخل علي بن هشام صبيحة تلك الليلة، فقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة العتيقة والجديدة والأرحاء. ثم إنه وعد الحربية أن يعطيهم رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، فسألوه أن يعجل لهم خمسين درهمًا لكل رجل لينفقوها في شهر رمضان، فأجابهم إلى ذلك، وجعل يعطي، فلم يتم لهم إعطاءهم؛ حتى خرج زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، الخارج بالبصرة المعروف بزيد النار؛ كان أفلت من الحبس عند علي بن أبي سعيد، فخرج في ناحية الأنبار ومعه أخو أبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه، فأخذ، فأتى به علي بن هشام، فلم يلبث إلا جمعة حتى هرب من الحربية، فنزل نهر صرصر، وذلك أنه كان يكذبهم، ولو يف لهم بإعطاء الخمسين؛ إلى أن جاء الأضحى؛ وبلغهم خبر هرثمة وما صنع به، فشدوا على علي فطردوه. وكان المتولي ذلك والقائم بأمر الحرب محمد بن أبي خالد؛ وذلك أن علي بن هشام لما دخل بغداد كان يستخف به، فوقع بين محمد بن أبي خالد وبين زهير بن المسيب إلى أن قنعه زهير بالسوط. فغضب محمد من ذلك، وتحول إلى الحربية في ذي القعدة، ونصب لهم الحرب، واجتمع إليه الناس فلم يقو بهم علي بن هشام حتى أخرجوه من بغداد؛ ثم اتبعهم حتى هزمهم من نهر صرصر. وفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك وفرناس الخادم لإشخاص علي بن موسى بن جعفر بن محمد ومحمد بن جعفر. وأحصي في هذه السنة ولد العباس؛ فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفًا ما بين ذكرٍ وأنثى. وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها ليون، فكان قد ملك عليهم سبع سنين وستة أشهر، وملكوا عليهم ميخائيل بن جورجس ثانية. وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل؛ وذلك أن يحيى أغلظ له، فقال له: يا أمير الكافرين؛ فقتل بين يديه. وأقام للناس الحج في هذه السنة أبو إسحاق بن الرشيد. ثم دخلت سنة إحدى ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ولاية منصور بن المهدي ببغداد فمما كان فيها من ذلك مراودة أهل بغداد المنصور بن المهدي على الخلافة وامتناعه عليهم؛ فلما امتنع من ذلك راودوه على الإمرة عليهم، على أن يدعو للمأمون بالخلافة؛ فأجابهم إلى ذلك. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان الأمر فيه قد ذكرنا قبل ذلك سبب إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد. ويذكر عن الحسن بن سهل أن الخبر عن إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد لما اتصل به وهو بالمدائن، انهزم حتى صار إلى واسط؛ وذلك في أول السنة إحدى ومائتين. وقد قيل إن سبب إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد، كان أن الحسن بن سهل وجه محمد بن خالد المروروذي بعد ما قتل أبو السرايا، أفسده وولى علي بن هشام الجانب الغربي من بغداد وزهير بن المسيب يلي الجانب الشرقي، وأقام هو بالخيزرانية، وضرب الحسن عبد الله بن علي بن عيسى بن ماهان حدًا بالسياط، فغضب الأبناء، فشغب الناس، فهرب إلى بربخا ثم إلى باسلاما، وأمر بالأرزاق لأهل عسكر المهدي، ومنع أهل الغربي، واقتتل أهل الجانبين، ففرق محمد بن خالد على الحربية مالًا، فهزم علي بن هشام، فانهزم الحسن بن سهل بانهزام علي بن هشام، فلحق بواسط، فتبعه محمد بن أبي خالد بن الهندوان مخالفًا له؛ وقد تولى القيام بأمر الناس، وولى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب الغربي ونصر بن حمزة بن مالك الشرقي، وكنفه ببغداد منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع. وقد قيل أن عيسى بن محمد بن أبي خالد قدم في هذه السنة من الرقة، وكان عند طاهر بن الحسين، فاجتمع هو وأبوه على قتال الحسن، فمضيا حتى انتهيا ومن معهما من الحربية وأهل بغداد إلى قرية أبي قريش قرب واسط، وكان كلما أتيا موضعًا فيه عسكر من عساكر الحسن فيكون بينهما فيه وقعة، تكون الهزيمة فيه على أصحاب الحسن. ولما انتهى محمد بن خالد إلى دير العاقول، أقام به ثلاثًا، وزهير بن المسيب حينئذ مقيم بإسكاف بني الجنيد، وهو عامل الحسن على جوخي مقيم في عمله؛ فكان يكاتب قواد أهل بغداد. فبعث ابنه الأزهر، مضى حتى انتهى إلى نهر النهروان، فلقي محمد بن أبي خالد، فركب إليه، فأتاه بإسكاف، فأحاط به فأعطاه الأمان، وأخذه أسيرًا، فجاء به إلى عسكره بدير العاقول، وأخذ أمواله ومتاعه وكل قليل وكثير وجد له. ثم تقدم محمد بن أبي خالد، فلما صار إلى واسط بعث به إلى بغداد، فحبسه عند ابن له مكفوف، يقال له جعفر؛ فكان الحسن مقيمًا بجرجرايا، فلما بلغه خبر زهير، وأنه قد صار في يد محمد بن أبي خالد ارتحل حتى دخل واسط، فنزل بفم الصلح، ووجه محمد من دير العاقول ابنه هارون إلى النيل وبها سعيد بن الساجور الكوفي، فهزمه هارون، ثم تبعه حتى دخل الكوفة، فأخذها هارون، وولي عليها. وقدم عيسى بن يزيد الجلودي من مكة؛ ومعه محمد بن جعفر، فخرجوا جميعًا حتى أتوا واسط في طريق البر، ثم رجع هارون إلى أبيه، فاجتمعوا جميعًا في قرية أبي قريش ليدخلوا واسط، وبها الحسن بن سهل، فتقدم الحسن بن سهل، فنزل خلف واسط وفي أطرافها. وكان الفضل بن الربيع مختفيًا من حين قتل المخلوع، فلما رأى أن محمد بن أبي خالد قد بلغ واسط بعث إليه يطلب الأمان منه، فأعطاه إياه وظهر. ثم تعبأ محمد بن أبي خالد للقتال، فتقدم هو وابنه عيسى وأصحابهما، حتى صاروا على ميلين من واسط، فوجه إليهم الحسن أصحابه وقواده، فاقتتلوا قتالًا شديدًا عند أبيات واسط. فلما كان بعد العصر هبت ريح شديدة وغبرة حتى اختلط القوم بعضهم ببعض؛ وكانت الهزيمة على أصحاب محمد بن أبي خالد، فثبت للقوم فأصابته جراح شديدة في جسده، فانهزم هو وأصحابه هزيمة شديدة قبيحة، فهزم أصحابه الحسن؛ وذلك يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين. فلما بلغ محمد فم الصلح خرج عليهم أصحاب الحسن فصافهم للقتال، فلما جنهم الليل، ارتحل هو وأصحابه حتى نزلوا المبارك؛ فأقاموا به؛ فلما أصبحوا غدا عليهم أصحاب الحسن فصافوهم، واقتتلوا. فلما جنهم الليل ارتحلوا حتى أتوا جبل، فأقاموا بها، ووجه ابنه هارون إلى النيل، فأقام بها، وأقام محمد بجرجايا، فلما اشتدت به الجراحات خلف قواده في عسكره، وحمله ابنه أبو زنبيل حتى أدخله بغداد ليلة الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، فدخل أبو زنبيل ليلة الاثنين، ومات محمد بن أبي خالد من ليلته من تلك الجراحات، ودفن من ليلته في داره سرًا. وكان زهير بن المسيب محبوسًا عند جعفر بن محمد بن أبي خالد، فلما قدم أبو زنبيل أتى خزيمة بن خازم يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر، فأعلمه أمر أبيه، فبعث خزيمة إلى بني هاشم والقواد وأعلمهم ذلك، وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد بن أبي خالد، وأنه يكفيهم الحرب. وفرضوا بذلك، فصار عيسى مكان أبيه على الحرب، وانصرف أبو زنبيل من عند خزيمة حتى أتى زهير بن المسيب، فأخرجه من حبسه، فضرب عنقه. ويقال إنه ذبحه ذبحًا وأخذ رأسه، فبعث به إلى عيسى في عسكره فنصبه على رمح وأخذوا جسده، فشدوا في رجليه حبلًا، ثم طافوا به في بغداد، ومروا به على دوره ودور أهل بيته عند باب الكوفة، ثم طافوا به في الكرخ، ثم ردوه إلى باب الشأم بالعشي؛ فلما جنهم الليل طرحوه في دجلة، وذلك يوم الاثنين لثمان خلون من شهر ربيع الآخر. ثم رجع أبو زنبيل حتى انتهى إلى عيسى فوجهه عيسى إلى فم الصراة. وبلغ الحسن بن سهل موت محمد بن خالد، فخرج من واسط حتى انتهى إلى المبارك، فأقام بها. فلما كان جمادى الآخرة وجه حميد بن عبد الحميد الطوسي ومعه عركو الأعرابي وسعيد بن الساجور وأبو البط ومحمد بن إبراهيم الإفريقي، وعدة سواهم من القواد، فلقوا أبا زنبيل بفم الصراة فهزموه، وانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، فالتقوا عند بيوت النيل، فاقتتلوا ساعة، فوقعت الهزيمة على أصحاب هارون، وأبي زنبيل، فخرجوا هاربين حتى أتوا المدائن؛ وذلك يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الآخرة. ودخل حميد وأصحابه النيل فانتهبوها ثلاثة أيام، فانتهبوا أموالهم وأمتعتهم، وانتهبوا ما كان حولهم من القرى؛ وقد كان بنو هاشم والقواد حين مات محمد بن أبي خالد تكلموا في ذلك؛ وقالوا: نصير بعضنا خليفة ونخلع المأمون، فكانوا يتراضون في ذلك؛ إذا بلغهم خبر هارون وأبي زنبيل وهزيمتهم، فجدوا فيما كانوا فيه، وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة؛ فأبى ذلك عليهم، فلم يزالوا به حتى صيروه أميرًا خليفةً للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسي ابن المجوسي الحسن بن سهل، ونطرده حتى يرجع إلى خراسان. وقد قيل: إن عيسى بن محمد بن أبي خالد لما اجتمع إليه أهل بغداد، وساعدوه على حرب الحسن بن سهل، رأى الحسن أنه لا طاقة له بعيسى، فبعث إليه وهب بن سعيد الكاتب، وبذل له المصاهرة ومائة ألف دينار والأمان له ولأهل بيته بغداد وولاية أي النواحي أحب، فطلب كتاب المأمون بذلك بخطة، فرد الحسن بن سهل وهبًا بإجابته، فغرق وهب بين المبارك وجبل؛ فكتب عيسى إلى أهل بغداد: إني مشغول بالحرب عن جباية الخراج، فولوا رجلًا من بني هاشم، فولوا منصور بن المهدي، وعسكر منصور بن المهدي بكلواذى، وأرادوه على الخلافة فأبى، وقال: أنا خليفة أمير المؤمنين حتى يقدم أو يتولى من أحب، فرضى بذلك بنو هاشم والقواد الجند؛ وكان القيم بهذا الأمر خزيمة بن خازم، فوجه القواد في كل ناحية، وجاء حميد الطوسي من فوره في طلب بني محمد حتى انتهى إلى المدائن، فأقام بها يومه، ثم انصرف إلى النيل. فلما بلغ منصورًا خبره خرج حتى عسكر بكلواذي، وتقدم يحيى بن علي بن عيسى بن ماهان إلى المدائن. ثم إن منصورًا وجه إسحاق بن العباس بن محمد الهاشمي من الجانب الآخر، فعسكر بنهر صرصر، ووجه غسان بن عباد بن أبي الفرج أبا إبراهيم بن غسان صاحب حرس صاحب خراسان ناحية الكوفة، فتقدم حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به. فلما بلغ حميدًا الخبر لم يعلم إلا وحميد قد أحاط بالقصر، فأخذ غسان أسيرًا، وسلب أصحابه، وقتل منهم؛ وذلك يوم الاثنين لأربع خلون من رجب. ثم لم يزل كل قوم مقيمين في عساكرهم؛ إلا أن محمد بن يقطين بن موسى كان مع الحسن بن سهل، فهرب منه إلى عيسى، فوجهه عيسى إلى منصور، فوجهه منصور إلى ناحية حميد؛ وكان حميدًا مقيمًا بالنيل إلا أن له خيلًا بالقصر. وخرج ابن يقطين من بغداد يوم السبت لليلتين خلتا من شعبان حتى أتى كوثي. وبلغ حميدًا الخبر، فلم يعلم ابن اليقطين حتى أتاه حميد وأصحابه إلى كوثي، فقاتلوه فهزموه، وقتلوا من أصحابه، وأسروا، وغرق منهم بشر كثير، وانتهب حميد وأصحابه وما كان حول كوثي من القرى وأخذوا البقر والغنم والحمير وما قدورا عليه من حلي ومتاع وغير ذلك؛ ثم انصرف حتى النيل، وراجع ابن يقطين، فأقام بنهر صرصر. وفي محمد بن أبي خالد قال أبو الشداخ: هوى خيل الأبناء بعد محمد ** وأصبح منها كاهل العز أخضعا فلا تشتموا يا آل سهل موته ** فإن لكم يومًا من الدهر مصرعًا وأحصى عيسى بن محمد بن أبي خالد ما كان في عسكره، فكانوا مائة ألف وخمس وعشرين ألفا بين فارس وراجل؛ فأعطى الفارس أربعين درهمًا. ذكر خبر خروج المطوعة للنكير على الفساق وفي هذه السنة تجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد، رئيسهم خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري أبو حاتم من أهل خراسان. ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله فعلت المطوعة ما ذكرت كان السبب في ذلك أن فساق الحربية والشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذىً شديدًا، وأظهروا الفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق؛ فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه، فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع؛ وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم؛ وكانوا يجتمعون فيأتون القرى، فيكاثرون أهلها، ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك؛ لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم؛ لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يركبونه، وكانوا يحبسون المارة في الطريق وفي السفن وعلى الظهر ويخفرون البساتين، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يعدو عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم؛ ثم كان آخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل، فانتهبوها علانيةً، وأخذوا المتاع والذهب والفضة والغنم والبقر والحمير وغير ذلك، وأدخلوها بغداد، وجعلوا يبيعونها علانية، وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم، فلم يمكنه أعداؤهم عليهم، ولم يرد عليهم شيئًا مما كان أخذ منهم، وذلك آخر شعبان. فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم؛ وما بيع من متاع الناس في أسواقهم، وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم؛ فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدًا، لقمعتم هؤلاء الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم. فقام رجل من ناحية طريق الأنبار يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم مما كانوا يصنعون، فامتنعوا عليه، وأرادوا قتاله، فقاتلهم فهزمهم وأخذ بعضهم، فضربهم وحبسهم ورفعهم إلى السلطان؛ إلا أنه كان يرى أن يغير السلطان شيئًا، ثم قام من بعده رجل من أهل الحربية، يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان؛ يكنى أبا حاتم؛ فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل بكتاب الله جل وعز وسنة نبيه ﷺ، وعلق مصحفًا في عنقه، ثم بدأ بجيرانه وأهل محلته، فأمرهم ونهاهم فقبلوا منه، ثم دعا الناس جميعًا إلى ذلك؛ الشريف منهم والوضيع؛ بني هاشم ومن دونهم، وجعل له ديوانًا يثبت فيه اسم من أتاه منهم، فبايعه على ذلك، وقتال من خالفه وخالف ما دعا إليه كائنًا من كان؛ فأتاه خلق كثير، فبايعوا. ثم إنه طاف ببغداد وأسواقها وأرباضها وطرقها، ومنع كل من يخفر ويجبي المارة والمختلفة، وقال: لا خفارة في الإسلام - والخفارة أنه كان يأتي الرجل بعض أصحاب البساتين فيقول: بستانك في خفري، أدفع عنه من أراده بسوء، ولي في عنقك كل شهر كذا وكذا درهمًا، فيعطيه ذلك شائيًا وآبيا، فقوي على ذلك إلا أن الدريوش خالفه، وقال: أنا لا أعيب على السلطان شيئًا ولا أغيره، ولا أقاتله، ولا آمره بشيء ولا أنهاه. وقال سهل بن سلامة: لكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسنة كائنًا من كان؛ سلطانًا أو غيره؛ والحق قائم في الناس أجمعين، فمن بايعني على هذا قبلته، ومن خالفني قاتلته. فقام في ذلك سهل يوم الخميس لأربع خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين في مسجد طاهر بن الحسين؛ الذي كان بناه في الحربية. وكان خالد الدريوش قام قبله بيومين أو ثلاثة، وكان المنصور بن المهدي مقيمًا بعسكره بجبل، فلما كان من ظهور سهل بن سلامة وأصحابه ما كان، وبلغ ذلك منصورًا وعيسى - وإنما كان عظم أصحابهما الشطار، ومن لا خير فيه - كسرهما ذلك، ودخل منصور بغداد. وقد كان عيسى يكاتب الحسن بن سهل، فلما بلغه خبر بغداد، سأل الحسن بن سهل أن يعطيه الأمان له ولأهل بيته ولأصحابه، على أن يعطى الحسن أصحابه وجنده وسائر أهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت له الغلة، فأجابه الحسن، وارتحل عيسى من معسكره، فدخل بغداد يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من شوال، وتقوضت جميع عساكرهم، فدخلوا بغداد، فأعلمهم عيسى ما دخل لهم فيه من الصلح، فرضوا بذلك. ثم رجع عيسى إلى المدائن، وجاء يحيى بن عبد الله، ابن عم الحسن بن سهل، حتى نزل دير العاقول، فولوه السواد، وأشركوا بينه وبين عيسى في الولاية، وجعلوا لكل عدة من الطساسيج وأعمال بغداد. فلما دخل عيسى فيما دخل فيه - وكان أهل عسكر المهدي مخالفين له - وثب المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون وإلى الفضل والحسن ابني سهل؛ فامتنع عليه سهل بن سلامة، وقال: ليس على هذا بايعتني. وتحول منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع - وكانوا يوم تحولوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسنة - فنزلوا بالحربية فرارًا من الطلب، وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن، وبعث إلى المطلب أن يأتيه، وقال: ليس على هذا بايعتني، فأبى المطلب أن يجيشه، فقاتله سهل يومين أو ثلاثة قتالًا شديدًا؛ حتى اصطلح عيسى والمطلب، فدس عيسى إلى سهلٍ من اغتاله فضربه ضربة بالسيف؛ إلا أنها لم تعمل فيه؛ فلما اغتيل سهل رجع إلى منزله، وقام عيسى بأمر الناس، فكفوا عن القتال. وقد كان حميد بن عبد الحميد مقيمًا بالنيل، فلما بلغه هذا الخبر دخل الكوفة، فأقام بها أيامًا. ثم إنه خرج منها حتى أتى قصر ابن هبيرة، فأقام به، واتخذ منزلًا وعمل عليه سورًا وخندقًا؛ وذلك آخر ذي القعدة، وأقام عيسى ببغداد يعرض الجند ويصححهم، إلى أن تدرك الغلة، وبعث إلى سهل بن سلامة فاعتذر إليه مما كان صنع به، وبايعه وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأنه عونه على ذلك، فقام سهل بما قام به أولًا من الدعاء إلى العمل بالكتاب والسنة. ذكر خبر البيعة لعلي بن موسى بولاية العهد وفي هذه السنة جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضي من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر جنده بطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق. ذكر الخبر عن ذلك وعما كان سبب ذلك وما آل الأمر فيه إليه ذكر أن عيسى بن محمد بن أبي خالد، بينما هو فيما هو فيه من عرض أصحابه بعد منصرفه من عسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل يعلمه أن أمير المؤمنين المأمون قد جعل علي بن موسى بن جعفر بن محمد ولي عهده من بعده؛ وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحدًا هو أفضل ولا أروع ولا أعلم منه؛ وأنه سماه الرضي من آل محمد، وأمره بطرح لبس الثياب السود ولبس ثياب الخضرة؛ وذلك يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له، وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ جميعًا بذلك. فلما أتى عيسى الخبر دعا أهل بغداد إلى ذلك على أن يعجل لهم رزق شهر، والباقي إذا أدركت الغلة، فقال بعضهم: نبايع ونلبس الخضرة، وقال بعضهم: لا نبايع ولا نلبس الخضرة، ولا نخرج هذا الأمر من ولد العباس؛ وإنما هذا دسيس من الفضل بن سهل، فمكثوا بذلك أيامًا. وغضب ولد العباس من ذلك، واجتمع بعضهم إلى بعض، وتكلموا فيه، وقالوا: نولي بعضنا ونخلع المأمون؛ وكان المتكلم في هذا والمختلف والمتقلد له إبراهيم ومنصور ابنا المهدي. ذكر الدعوة لمبايعة إبراهيم بن المهدي وخلع المأمون وفي هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلعوا المأمون. ذكر السبب في ذلك قد ذكرنا سبب إنكار العباسيين ببغداد على المأمون ما أنكروا عليه، واجتماع من اجتمع على محاربة الحسن بن سهل منهم؛ حتى خرج عن بغداد. ولما كان من بيعة المأمون لعلى بن موسى بن جعفر - وأمره الناس بلبس الخضرة ما كان، وورود كتاب الحسن على عيسى بن محمد بن أبي خالد يأمره بذلك، وأخذ الناس به ببغداد، وذلك يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة - أظهر العباسيون ببغداد أنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة، ومن بعده ابن أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي؛ وأنهم قد خلعوا المأمون، وأنهم يعطون عشرة دنانير كل إنسان، أول يوم من المحرم أول يوم من السنة المستقبلة. فقبل بعض ولم يقبل بعض حتى يعطى؛ فلما كان يوم الجمعة وأرادوا الصلاة أرادوا أن يجعلوا إبراهيم خليفة للمأمون مكان منصور، فأمروا رجلًا يقول حين أذن المؤذن: إنا نريد أن ندعو للمأمون ومن بعده لإبراهيم يكون خليفة؛ وكانوا قد دسوا قومًا، فقالوا لهم: إذا قام يقول ندعو للمأمون، فقوموا أنتم فقولوا: لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم ومن بعده لإسحاق، وتخلعوا المأمون أصلًا، ليس نريد أن تأخذوا أموالنا كما صنع منصور، ثم تجلسوا في بيوتكم. فلما قام من يتكلم أجابه هؤلاء، فلم يصل بهم تلك الجمعة صلاة الجمعة، ولا خطب أحد، إنما صلى الناس أربع ركعات ثم انصرفوا؛ وذلك يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة إحدى ومائتين. وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبه وهو والي طبرستان اللارز والشيرز؛ من بلاد الديلم، وزادهما في بلاد الإسلام، وافتتح جبال طبرستان، وأنزل شهريار بن شروين عنها، فقال سلام الخاسر: إنا لنأمل فتح الروم والصين ** بمن أدال لنا من ملك شروين فاشدد يديك بعبد الله إن له ** مع الأمانة رأي غير موهون وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، وأسر أبا ليلى ملك الديلم بغير عهد في هذه السنة. وفيها مات محمد بن محمد صاحب أبي السرايا. وفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويذانية أصحاب جاويذان بن سهل، صاحب البذ، وادعى أن روح جاويذان دخلت فيه، وأخذ في العبث والفساد. وفيها أصاب أهل خراسان والري وإصبهان مجاعة، وعز الطعام، ووقع الموت. وحج بالناس فيها إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي. ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر بيعة إبراهيم بن المهدي فمما كان فيها من ذلك بيعة أهل بغداد لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، وتسميتهم إياه المبارك. وقبل إنهم بايعوه في أول يوم من المحرم بالخلافة، وخلعوا المأمون؛ فلما كان يوم الجمعة صعد إبراهيم المنبر؛ فكان أول من بايعه عبيد الله بن العباس بن محمد الهاشمي، ثم منصور بن المهدي، ثم سائر بني هاشم، ثم القواد. وكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك؛ وكان الذي سعى في ذلك وقام به السندي وصالح صاحب المصلى ومنجاب ونصير الوصيف وسائر الموالي؛ إلا أن هؤلاء كانوا الرؤساء والقادة غضبًا منهم على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من ولد العباس إلى ولد علي، ولتركه لباس آبائه السواد ولبسه الخضرة. ولما فرغ من البيعة وعد الجند أن يعطيهم أرزاق ستة الأشهر، فدافعهم بها، فلما رأوا ذلك شغبوا عليه، فأعطاهم مائتي درهم لكل رجل، وكتب لبعضهم إلى السواد بقيمة مالهم حنطة وشعيرًا. فخرجوا في قبضها فلم يمروا بشيء إلا انتهبوه، فأخذوا النصيبين جميعًا؛ نصيب أهل البلاد ونصيب السلطان. وغلب إبراهيم مع أهل بغداد على أهل الكوفة والسواد كله، وعسكر بالمدائن. وولي الجانب الشرقي من بغداد العباس بن موسى الهادي والجانب الغربي إسحاق ابن موسى الهادي. وقال إبراهيم بن المهدي: ألم تعلموا يا آل فهر بأنني ** شريت بنفسي دونكم في المهالك خبر تحكيم مهدي بن علوان الحروري وفي هذه السنة حكم مهدي بن علوان الحروري، وكان خروجه ببزرجسابور، وغلب على طساسيج هنالك. وعلى نهر بوق والراذانين. وقد قيل: إن خروج مهدي كان في سنة ثلاث ومائتين في شوال منها، فوجه إليه إبراهيم بن المهدي أبا إسحاق بن الرشيد في جماعة من القواد، منهم أبو البط وسعيد بن الساجور، ومع أبي إسحاق غلمان له أتراك؛ فذكر عن شبيل صاحب السلبة، أنه كان معه وهو غلام، فلقوا الشراة، فطعن رجل من الأعراب أبا إسحاق، فحامى عنه غلام له تركي، وقال له: أشناس مرا، أي أعرفني، فسماه يومئذ أشناس؛ وهو أبو جعفر أشناس، وهزم مهدي إلى حولايا. وقال بعضهم: إنما وجه إبراهيم إلى مهدي بن علوان الدهقاني الحروري المطلب، فسار إليه، فلما قرب منه أخذ رجلًا من قعد الحرورية يقال له أقذى، فقتله، واجتمعت الأعراب فقاتلوه فهزموه حتى أدخلوا بغداد. وفي هذه السنة وثب أخو أبي السرايا بالكوفة، فبيض، واجتمعت إليه جماعة، فلقيه غسان بن أبي الفرج في رجب فقتله، وبعث برأسه إلى إبراهيم بن المهدي. ذكر الخبر عن تبييض أخي أبي السرايا وظهوره بالكوفة ذكر أن الحسن بن سهل أتاه وهو مقيم بالمبارك في معسكره كتاب المأمون يأمره بلبس الخضرة، وأن يبايع لعلي بن موسى بن جعفر بن محمد بولاية العهد من بعده، ويأمره أن يتقدم إلى بغداد حتى يحاصر أهلها، فارتحل حتى نزل سمر، وكتب إلى حبيب بن عبد الحميد أن يتقدم إلى بغداد ويحاصر أهلها من ناحية أخرى، ويأمره بلباس الخضرة، ففعل ذلك حميد. وكان سعيد بن الساجور وأبو البط وغسان بن أبي الفرج ومحمد بن إبراهيم الإفريقي وعدة من قواد حميد كاتبوا إبراهيم بن المهدي، على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة. وكان قد تباعد ما بينه وبين حميد، فكانوا يكتبون إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميدًا يكاتب إبراهيم، وكان يكتب فيهم بمثل ذلك، وكان الحسن يكتب إلى حميد يسأله أن يأتيه فلم يفعل، وخاف إن هو خرج إلى الحسن أن يثب الآخرون بعسكره؛ فكانوا يكتبون إلى الحسن أنه ليس يمنعه من إتيانك إلا أنه مخالف لك، وأنه قد اشترى الضياع بين الصراة وسورا والسواد. فلما ألح عليه الحسن بالكتب، خرج إليه يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر، فكتب سعيد وأصحابه إلى إبراهيم يعلمونه، ويسألون أن يبعث إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، حتى يدفعوا إليه القصر وعسكر حميد؛ وكان إبراهيم قد خرج من بغداد يوم الثلاثاء حتى عسكر بكلواذى يريد المدائن، فلما أتاه الكتاب وجه عيسى إليهم. فلما بلغ أهل عسكر حميد خروج عيسى ونزوله قرية الأعراب على فرسخ من القصر تهيئوا للهرب؛ وذلك ليلة الثلاثاء، وشد أصحاب سعيد وأبي البط والفضل بن محمد بن الصباح الكندي الكوفي على عسكر حميد؛ فانتهبوا ما فيه، وأخذوا الحميد - فيما ذكر - مائة بدرة أموالًا ومتاعًا، وهرب بن لحميد ومعاذ بن عبد الله، فأخذ بعضهم نحو الكوفة وبعض نحو النيل؛ فأما ابن حميد، فإنه انحدر بجواري أبيه إلى الكوفة، فلما أتى الكوفة اكترى بغالًا ثم أخذ الطريق، ثم لحق بأبيه بعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر وسلمه له سعيد وأصحابه، وصار عيسى وأخذه منهم، وذلك يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الآخر. وبلغ الحسن بن سهل وحميد عنده، فقال له حميد: ألم أعلمك بذلك! ولكن خدعت، وخرج من عنده حتى أتى الكوفة، فأخذ أموالًا له كانت هنالك ومتاعًا. وولى على الكوفة العباس بن موسى بن جعفر العلوي، وأمره بلباس الخضرة، وأن يدعو للمأمون ومن بعده لأخيه علي بن موسى؛ وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك. فلما كان الليل خرج حميد من الكوفة وتركه، وقد كان الحسن وجه حكيمًا الحارثي حين بلغه الخبر إلى النيل، فلما بلغ ذلك عيسى وهو بالقصر تهيأ هو وأصحابه، حتى خرجوا إلى النيل؛ فلما كان ليلة السبت لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر طلعت حمرة في السماء، ثم ذهبت الحمرة، وبقي عمودان أحمران في السماء إلى آخر الليل؛ وخرج غداة السبت عيسى وأصحابه من القصر إلى النيل، فواقعهم حكيم، وأتاهم عيسى وسعيد وهم في الوقعة، فانهزم حكيم، ودخلوا النيل. فلما صاروا بالنيل، بلغهم خبر العباس بن موسى بن جعفر العلوي، وما يدعو إليه أهل الكوفة، وأنه قد أجابه قوم كثير منهم، وقال له قوم آخرون: إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك. فقال: أنا أدعو إلى المأمون ثم من بعده لأخي؛ فقعد عنه الغالية من الرافضة وأكثر الشيعة. وكان يظهر أن حميدًا يأتيه فيعينه ويقويه، وأن الحسن يوجه إليه قومًا من قبله مددًا، فلم يأته منهم أحد، وتوجه إليه سعيد وأبو البط من النيل إلى الكوفة؛ فلما صاروا بدير الأعور، أخذوا طريقًا يخرج بهم إلى عسكر هرثمة عند قرية شاهي. فلما التأم إليه أصحابه، خرجوا يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى. فلما صاروا قرب القنطرة خرج عليهم علي بن محمد بن جعفر العلوي، ابن المبايع له بمكة، وأبو عبد الله أخو أبي السرايا ومعهم جماعة كثيرة، وجههم مع علي بن محمد، فقاتلوهم ساعة، فانهزم علي وأصحابه حتى دخلوا الكوفة، وجاء سعيد وأصحابه حتى نزلوا الحيرة؛ فلما كان يوم الثلاثاء غدوا فقاتلوهم مما يلي دار عيسى بن موسى، وأجابهم العباسيون ومواليهم، فخرجوا إليهم من الكوفة، فاقتتلوا يومهم إلى الليل، وشعارهم: " يا إبراهيم يا منصور، لا طاعة للمأمون "، وعليهم السواد، وعلى العباس وأصحابه من أهل الكوفة الخضرة. فلما كان يوم الأربعاء اقتتلوا في ذلك الموضع، فكان كل فريق منهم إذا ظهروا على شيء أحرقوه. فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة، أتوا سعيدًا وأصحابه، فسألوه الأمان للعباس بن موسى بن جعفر وأصحابه؛ على أن يخرج من الكوفة، فأجابوهم إلى ذلك، ثم أتوا العباس فأعلموه، وقالوا: إن عامة من معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرق والنهب والقتل؛ فأخرج من بين أظهرنا، فلا حاجة لنا فيك. فقبل منهم، وخاف أن يسلموه، وتحول من منزله الذي كان فيه بالكناسة، ولم يعلم أصحابه بذلك، وانصرف سعيد وأصحابه إلى الحيرة، وشد أصحاب العباس بن موسى على من بقي من أصحاب سعيد وموالي عيسى بن موسى العباسي، فهزموهم حتى بلغوا بهم الخندق، ونهبوا ربض عيسى بن موسى، فأحرقوا الدور، وقتلوا من ظهروا به. فبعث العباسيون ومواليهم إلى سعيد يعلمونه بذلك، وأن العباس قد رجع عما كان طلب من الأمان. فركب سعيد وأبو البط وأصحابهما حتى أتوا الكوفة عتمةً، فلم يظفروا بأحد منهم ينتهب إلا قتلوه، ولم يظهروا على شيء مما كان في أيدي أصحاب العباس إلا أحرقوه؛ حتى بلغوا الكناسة، فمكثوا بذلك عامة الليل حتى خرج إليهم رؤساء أهل الكوفة، فأعلموهم أن هذا من عمل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن شيء. فانصرفوا عنهم. فلما كان غداة الخميس لخمس خلون من جمادى الأولى، جاء سعيد وأبو البط حتى دخلوا الكوفة، ونادى مناديهم: أمن الأبيض والأسود؛ ولم يعرضوا لأحد من الخلق إلا بسبيل خير، وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي، من أهلها. فكتب إليهم إبراهيم بن المهدي يأمرهم بالخروج إلى ناحية واسط، وكتب إلى سعيد أن يستعمل على الكوفة غير الكندي، لميله إلى أهل بلده؛ فولاها غسان بن الفرج، ثم عزله بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايا، فولاها سعيد ابن أخيه الهول؛ فلم يزل واليًا عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد، وهرب الهول منها، وأمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر ابن عائشة الهاشمي ونعيم بن خازم أن يسيرا جميعًا، فخرجا مما يلي جوخى، وبذلك أمرهما، وذلك في جمادى الأولى. ولحق بهما سعيد وأبو البط والإفريقي حتى عسكروا بالصيادة قرب واسط؛ فاجتمعوا جميعًا في مكان واحد، وعليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، فكانوا يركبون حتى يأتوا عسكر الحسن وأصحابه بواسط في كل يوم، فلا يخرج إليهم من أصحاب الحسن أحد، وهم متحصنون بمدينة واسط. ثم إن الحسن أمر أصحابه بالتهيؤ للخروج للقتال، فخرجوا إليهم يوم السبت لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالًا شديدًا إلى قريب الظهر. ثم وقعت الهزيمة على عيسى وأصحابه، فانهزموا حتى بلغوا طرنايا والنيل، وأخذ أصحاب الحسن جميع ما كان في عسكرهم من سلاح ودواب وغير ذلك. ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي وفي هذه السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوعي فحبسه وعاقبه. ذكر الخبر عن سبب ظفره به وحبسه إياه ذكر أن سهل بن سلامة كان مقيمًا ببغداد، يدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ؛ فلم يزل كذلك حتى اجتمع إليه عامة أهل بغداد ونزلوا عنده؛ سوى من هو مقيم في منزله، وهواه ورأيه معه؛ وكان إبراهيم قد هم بقتاله قبل الوقعة، ثم أمسك عن ذلك، فلما كانت هذه الوقعة، وصارت الهزيمة على أصحاب عيسى ومن معه أقبل على سهل بن سلامة، فدس إليه وإلى أصحابه الذين بايعوه على العمل بالكتاب والسنة، وألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فكان كل من أجابه إلى ذلك قد عمل على باب داره برجًا بجص وآجر، ونصب عليه السلاح والمصاحف؛ حتى بلغوا قرب باب الشأم؛ سوى من أجابه من أهل الكرخ وسائر الناس؛ فلما رجع عيسى من الهزيمة إلى بغداد، أقبل هو وإخوته وجماعة أصحابه نحو سهل ابن سلامة؛ لأنه كان يذكرهم بأسواء أعمالهم وفعالهم، ويقول: الفساق؛ لم يكن لهم عنده اسم غيره، فقاتلوه أيامًا؛ وكان الذي تولى قتاله عيسى بن محمد بن أبي خالد؛ فلما صار إلى الدروب التي قرب سهل أعطى أهل الدروب الألف الدرهم والألفين درهمًا؛ على أن يتنحوا له عن الدروب، فأجابوه إلى ذلك؛ فكان نصيب الرجل الدرهم والدرهمين ونحو ذلك؛ فلما كان يوم السبت لخمس بقين من شعبان تهيئوا له من كل وجه، وخذله أهل الدروب حتى وصلوا إلى مسجد طاهر بن الحسين وإلى منزله؛ وهو بالقرب من المسجد؛ فلما وصلوا إليه اختفى منهم، وألقى سلاحه، واختلط بالنظارة، ودخل بين النساء فدخلوا منزله. فلما لم يظفروا به جعلوا عليه العيون؛ فلما كان الليل أخذوه في بعض الدروب التي قرب منزله، فأتوا به إسحاق بن موسى الهادي - وهو ولي العهد بعد عمه إبراهيم بن المهدي وهو بمدينة السلام - فكلمه وحاجه، وجمع بينه وبين أصحابه، وقال له: حرضت علينا الناس، وعبت أمرنا! فقال له: إنما كانت دعوتي عباسية؛ وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسنة؛ وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة. فلم يقبلوا ذلك منه. ثم قالوا له: اخرج إلى الناس، فقل لهم: إن ما كنت أدعوكم إليه باطل. فأخرج إلى الناس وقال: قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إليه الساعة. فلما قال لهم هذا وجئوا عنقه، وضربوا وجهه؛ فلما صنعوا ذلك به قال: المغرور من غررتموه يا أصحاب الحربية؛ فأخذ فأدخل إلى إسحاق، فقيده، وذلك يوم الأحد. فلما كان ليلة الاثنين خرجوا به إلى إبراهيم بالمدائن؛ فلما دخل عليه كلمه بما كلم به إسحاق، فرد عليه مثل ما رد على إسحاق. وقد كانوا أخذوا رجلًا من أصحابه يقال له محمد الرواعي، فضربه إبراهيم، ونتف لحيته، وقيده وحبسه؛ فلما أخذ سهل بن سلامه حبسوه أيضًا، وادعوا أنه كان دفع إلى عيسى، وأن عيسى قتله؛ وإنما أشاعوا ذلك تخوفًا من الناس أن يعلموا بمكانه فيخرجوه؛ فكان بين خروجه وبين أخذه وحبسه اثنا عشر شهرًا. ذكر خبر شخوص المأمون إلى العراق وفي هذه السنة شخص المأمون من مرو يريد العراق. ذكر الخبر عن شخوصه منها ذكر أن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء؛ وأنهم يقولون إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي بالخلافة. فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة؛ وإنما صيروه أميرًا يقوم بأمرهم، على ما أخبره به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك، فقال: ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم علي حتى أسألهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه؛ وهم يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وموسى وعلي بن أبي سعيد - وهو ابن أخت الفضل - وخلف المصري، فسألهم عما أخبره، فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل؛ ألا يعرض لهم، فضمن ذلك لهم، وكتب لكل رجل منهم كتابًا بخطه، ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن، وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليبين له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد نصحه؛ وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة، حتى إذا وطئ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة، قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك، ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهر بن الحسين قد تنوسي في هذه السنين منذ قتل محمد في الرقة، لا يستعان به في شيء من هذه الحروب؛ استعين بمن هو دونه أضعافًا، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد في بني هاشم والموالي والقواد، والجند لو رأوا عزتك سكنوا إلى ذلك، وبخعوا بالطاعة. فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد؛ فلما أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضًا، ونتف لحى بعض؛ فعاوده علي بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم؛ فأعلمه أنه يداري ما هو فيه. ثم ارتحل من مرو فلما أتى سرخس شد قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمام، فضربوه بالسيوف حتى مات؛ وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة اثنتين ومائتين. فأخذوا. وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون وهم أربعة نفر: أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، وقتلوه وله ستون سنة؛ وهربوا. فبعث المأمون في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم بن بزرجمهر الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم. وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أخذوا ساءلهم المأمون؛ فمنهم من قال: إن علي بن أبي سعيد، ابن أخت الفضل دسهم، ومنهم من أنكر ذلك، وأمر بهم فقتلوا. ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلي بن موسى وخلف فساءلهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك؛ فلم يقبل ذلك منهم وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل إلى واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه. ووصل الكتاب بذلك إلى الحسن في شهر رمضان، فلم يزل الحسن وأصحابه حتى أدركت الغلة وجبي بعض الخراج، ورحل المأمون من سرخس نحو العراق يوم الفطر، وكان إبراهيم بن المهدي بالمدائن وعيسى وأبو البط وسعيد بالنيل وطرنايا يراوحون القتال ويغادونه؛ وقد كان المطلب بن عبد الله بن مالك بن عبد الله قدم من المدائن، فاعتل بأنه مريض، وجعل يدعو في السر إلى المأمون؛ على أن المنصور بن المهدي خليفة المأمون، ويخلعون إبراهيم، فأجابه إلى ذلك منصور وخزيمة بن خازم وقواد كثير من أهل الجانب الشرقي، وكتب المطلب إلى حميد وعلي بن هشام أن يتقدما فينزل حميد نهر صرصر وعلى النهروان؛ فلما تحقق عند إبراهيم الخبر خرج من المدائن إلى بغداد، فنزل زند ورد يوم السبت لأربع عشرة خلت من صفر، وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة، فلما أتاهم رسوله اعتدوا عليه؛ فلما رأى ذلك بعث إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد وأخوته؛ فأما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما وأما المطلب فإن مواليه وأصحابه قاتلوا عن منزله حتى كثر الناس عليهم، وأمر إبراهيم مناديًا فنادى: من أراد النهب فليأت دار المطلب، فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره، فانتهبوا ما وجدوا فيها، وانتهبوا دور أهل بيته، وطلبوه فلم يظفروا به، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من صفر. فلما بلغ حميدًا بن هشام الخبر بعث حميد قائدًا فأخذ المدائن، وقطع الجسر، ونزل بها، وبعث علي بن هشام قائدًا فنزل المدائن، وأتى نهر ديالى فقطعه، وأقاموا بالمدائن، وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع، ثم لم يظفر به. وفي هذه السنة تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل. وفيها زوج المأمون علي بن موسى الرضي ابنته أم حبيب، وزوج محمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد، فدعا لأخيه بعد المأمون بولاية العهد. وكان الحسن بن سهل كتب إلى عيسى بن يزيد الجلودي، وكان بالبصرة فوافى مكة في أصحابه، فشهد الموسم، ثم انصرف، ومضى إبراهيم بن موسى إلى اليمن؛ وكان قد غلب عليها حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان. ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث موت علي بن موسى الرضي ذكر أن مما كان فيها موت علي بن موسى بن جعفر. ذكر الخبر عن سبب وفاته ذكر أن المأمون شخص من سرخس حتى صار إلى طوس، فلما صار بها أقام بها عند قبر أبيه أيامًا. ثم إن علي بن موسى أكل عنبًا فأكثر منه، فمات فجأة؛ وذلك في آخر صفر؛ فأمر به المأمون فدفن عند قبر الرشيد، وكتب في شهر ربيع الأول إلى الحسن بن سهل يعلمه أن علي بن موسى بن جعفر مات، ويعلمه ما دخل عليه من الغم والمصيبة بموته؛ وكتب إلى بني العباس والموالي وأهل بغداد يعلمهم موت علي بن موسى، وأنهم إنما نقموا بيعته له من بعده؛ ويسألهم الدخول في طاعته. فكتبوا إليه وإلى الحسن جواب الكتاب بأغلظ ما يكتب به إلى أحد. وكان الذي صلى على علي بن موسى المأمون. ورحل المأمون في هذه السنة من طوس يريد بغداد، فلما صار إلى الري أسقط من وظيفتها ألفي ألف درهم. وفي هذه السنة غلبت السوداء على الحسن بن سهل، فذكر سبب ذلك أنه كان مرض مرضًا شديدًا، فهاج به من مرضه تغير عقله، حتى شد في الحديد وحبس في بيت. وكتب بذلك قواد الحسن إلى المأمون، فأتاهم الكتاب أن يكون على عسكره دينار بن عبد الله، ويعلمهم أنه قادم على أثر كتابه. خبر حبس إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد وفي هذه السنة ضرب إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد وحبسه. ذكر الخبر عن سبب ذلك ذكر أن عيسى بن محمد بن أبي خالد كان يكاتب حميدًا والحسن؛ وكان الرسول بينهم محمد بن محمد المعبدي الهاشمي، وكان يظهر لإبراهيم الطاعة والنصيحة، ولم يكن يقاتل حميدًا ولا يعرض له في شيء من عمله؛ وكان كلما قال إبراهيم: تهيأ للخروج لقتال حميد، يعتل عليه بأن الجند يريدون أرزاقهم، ومرة يقول: حتى تدرك الغلة؛ فما زال بذلك حتى إذا توثق مما يريد مما بينه وبين الحسن وحميد فارقهم، على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدي يوم الجمعة لانسلاخ شوال. وبلغ الخبر إبراهيم؛ فلما كان يوم الخميس، جاء عيسى إلى باب الجسر، فقال للناس: إني قد سالمت حميدًا، وضمنت له ألا أدخل عمله، وضمن لي ألا يدخل عملي. ثم أمر أن يحفر خندق بباب الجسر وباب الشأم، وبلغ إبراهيم ما قال وما صنع، وقد كان عيسى سأل إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك، فلما تكلم عيسى بما تكلم به، وبلغ إبراهيم الخبر وأنه يريد أخذه حذر. وذكر أن هارون أخا عيسى أخبر إبراهيم بما يريد أن يصنع به عيسى؛ فلما أخبره، بعث إليه أن يأتيه حتى يناظره في بعض ما يريد، فاعتل عليه عيسى، فلم يزل إبراهيم يعيد إليه الرسل حتى أتاه إلى قصره بالرصافة، فلما دخل عليه حجب الناس، وخلا إبراهيم وعيسى، وجعل يعاتبه، وأخذ عيسى يعتذر إليه مما يعتبه به، وينكر بعض ما يقول؛ فلما قرره بأشياء أمر به فضرب. ثم إنه حبسه وأخذ عدة من قواده فحبسهم، وبعث إلى منزله، فأخذ أم ولده وصبيانًا له صغارًا؛ فحبسهم؛ وذلك ليلة الخميس لليلة بقيت من شوال. وطلب خليفة له يقال له العباس فاختفى. فلما بلغ حبس عيسى أهل بيته وأصحابه، مشى بعضهم إلى بعض، وحرض أهل بيته وإخوته الناس على إبراهيم واجتمعوا؛ وكان رأسهم عباس خليفة عيسى، فشدوا على عامل إبراهيم على الجسر فطردوه، وعبر إلى إبراهيم فأخبره الخبر، وأمر بقطع الجسر فطردوا كل عامل كان لإبراهيم في الكوخ وغيره، ظهر الفساق والشطار، فقعدوا في المسالح. وكتب إلى حميد يسأله أن يقدم إليهم حتى يسلموا إليه بغداد؛ فلما كان يوم الجمعة صلوا في مسجد المدينة أربع ركعات، صلى بهم المؤذن بغير خطبة. ذكر خبر خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي، ودعوا للمأمون بالخلافة. ذكر الخبر عن سبب ذلك قد ذكرنا قبل ما كان من إبراهيم وعيسى بن محمد بن أبي خالد وحبس إبراهيم إياه، واجتماع عباس خليفة عيسى وإخوة عيسى على إبراهيم، وكتابهم إلى حميد يسألونه المصير إليهم ليسلموا بغداد إليه؛ فذكر أن حميدًا لما أتاه كتابهم، وفيه شرط منهم عليه أن يعطي جند أهل بغداد؛ كل رجل منهم خمسين درهمًا، فأجابهم إلى ذلك، وجاء حتى نزل صرصر بطريق الكوفة يوم الأحد، وخرج إليه عباس وقواد أهل بغداد، فلقوه غداة الاثنين، فوعدهم ومناهم وقبلوا ذلك منه، فوعدهم أن يضع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية، على أن يصلوا الجمعة فيدعوا للمأمون، ويخلعوا إبراهيم؛ فأجابوه إلى ذلك. فلما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى وإخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى ذلك عليه. فلما كان يوم الجمعة بعث عباس إلى محمد بن أبي رجاء الفقيه، فصلى بالناس الجمعة، ودعا للمأمون، فلما كان يوم السبت جاء حميد إلى الياسرية فعرض حميد جند أهل بغداد، وأعطاهم الخمسين التي وعدهم، فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة، فيعطيهم أربعين درهمًا لكل رجل منهم؛ لما كانوا تشاءموا به من علي بن هشام حين أعطاهم الخمسين. فغدر بهم، وقطع العطاء عنهم، فقال لهم حميد: لا بل أزيدكم وأعطيكم ستين درهمًا لكل رجل، فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى فسأله أن يقاتل حميدًا، فأجابه إلى ذلك، فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، فكلم عيسى الجند أن يعطيهم مثل ما أعطى حميد؛ فأبوا ذلك عليه؛ فلما كان يوم الاثنين عبر إليهم عيسى وإخوته وقواد أهل الجانب الشرقي، فعرضوا على أهل الجانب الغربي أن يزيدوهم على ما أعطى حميد، فشتموا عيسى وأصحابه، وقالوا: لا نريد إبراهيم. فخرج عيسى وأصحابه حتى دخلوا المدينة، وأغلقوا الأبواب، وصعدوا السور، وقاتلوا الناس ساعة. فلما كثر عليهم الناس انصرفوا راجعين؛ حتى أتوا باب خراسان، فركبوا في السفن، ورجع عيسى كأنه يريد أن يقاتلهم، ثم احتال حتى صار في أيديهم شبه الأسير، فأخذه بعض قواده فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك غمًا شديدًا؛ وقد كان المطلب بن عبد الله بن مالك اختفى من إبراهيم، فلما قدم حميد أراد العبور إليه فأخذه المعبر، فذهب إلى إبراهيم فحبسه عنده ثلاثة أيام أو أربعة، ثم إنه خلى عنه ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة. ذكر خبر اختفاء إبراهيم بن المهدي وفي هذه السنة اختفى إبراهيم بن المهدي، وتغيب بعد حرب بينه وبين حميد بن عبد الحميد، وبعد أن أطلق سعد بن سلامة من حبسه. ذكر الخبر عن اختفائه والسبب في ذلك ذكر أن سهل بن سلامة كان الناس يذكرون أنه مقتول، وهو عند إبراهيم محبوس؛ فلما صار حميد إلى بغداد ودخلها أخرجه إبراهيم. وكان يدعو في مسجد الرصافة كما كان يدعو، فإذا كان الليل رده إلى حبسه؛ فمكث بذلك أيامًا، فأتاه أصحابه ليكونوا معه، فقال لهم: الزموا بيوتكم، فإني أرزأ هذا - يعني إبراهيم - فلما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من ذي الحجة خلى سبيله، فذهب فاختفى، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده أن حميدًا قد نزل في أرحاء عبد الله بن مالك، تحول عامتهم إليه، وأخذوا له المدائن؛ فلما رأى ذلك إبراهيم، أخرج جميع من عنده حتى يقاتلوا، فالتقوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوا، فهزمهم حميد، فقطعوا الجسر فتبعهم أصحابه حتى أدخلوهم بيوت بغداد، وذلك يوم الخميس لانسلاخ ذي القعدة. فلما كان يوم الأضحى أمر إبراهيم القاضي أن يصلي بالناس في عيساباذ، فصلى بهم فانصرف الناس، واختفى الفضل بن الربيع، ثم تحول إلى حميد، ثم تحول علي بن ريطة إلى معسكر حميد، وجعل الهاشميون والقواد يلحقون بحميد واحدًا بعد واحد؛ فلما رأى إبراهيم أسقط في يده، فشق عليه. وكان المطلب يكاتب حميدًا على أن يأخذ له الجانب الشرقي، وكان سعيد بن الساجور وأبو البط وعبدويه وعدة معهم من القواد يكاتبون علي بن هشام، على أن يأخذوا له إبراهيم؛ فلما علم إبراهيم بأمرهم وما اجتمع عليه كل قوم من أصحابه، وأنهم قد أحدقوا به، جعل يداريهم؛ فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث ومائتين، وبعث المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحدق بدار إبراهيم هو وأصحابه؛ فإن كان يريده فليأته. وكتب ابن الساجور وأصحابه إلى علي بن هشام، فركب حميد من ساعته؛ وكان نازلًا في أرحاء عبد الله، فأتى باب الجسر، وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين، وتقدم إلى مسجد كوثر، وخرج إليه ابن الساجور وأصحابه، وجاء المطلب إلى حميد، فلقوه بباب الجسر، فقربهم ووعدهم ونبأهم أن يعلم المأمون ما صنعوا، فأقبلوا إلى دار إبراهيم، وطلبوه فلم يجدوه، فلم يزل إبراهيم متواريًا حتى قدم المأمون وبعد ما قدم؛ حتى كان من أمره ما كان. وقد كان سهل بن سلامة حيث اختفى وتحول إلى منزله وظهر، وبعث إليه حميد، فقربه وأدناه، وحمله على بغل، ورده إلى أهله، فلم يزل مقيمًا حتى قدم المأمون، فأتاه فأجازه ووصله، وأمره أن يجلس في منزله. وفي هذه السنة انكسفت الشمس يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي الحجة حتى ذهب ضوءها، وكان غاب أكثر من ثلثيها، وكان انكسافها ارتفاع النهار، فلم يزل كذلك حتى قرب الظهر ثم انجلت. فكانت أيام إبراهيم بن المهدي كلها سنة وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا. وغلب علي بن هشام على شرقي بغداد وحميد بن عبد الحميد على غربيها، وصار المأمون إلى همذان في آخر ذي الحجة وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي. ثم دخلت سنة أربع ومائتين ذكر الأحداث التي كانت فيها خبر قدوم المأمون إلى بغداد فمما كان في ذلك قدوم المأمون العراق، وانقطاع مادة الفتن ببغداد. ذكر الخبر عن مقدمه العراق وما كان فيه بها عند مقدمه ذكر عن المأمون أنه لما قدم جرجان أقام بها شهرًا، ثم خرج منها، فصار إلى الري في ذي الحجة، فأقام بها أيامًا، ثم خرج منها، فجعل يسير المنازل، ويقيم اليوم واليومين حتى صار إلى النهروان؛ وذلك يوم السبت، فأقام فيه ثمانية أيام، وخرج إليه أهل بيته والقواد ووجوه الناس، فسلموا عليه؛ وقد كان كتب إلى طاهر بن الحسين من الطريق وهو بالرقة، أن يوافيه إلى النهروان، فوافاه بها، فلما كان السبت الآخر دخل بغداد ارتفاع النهار، لأربع عشرة ليلة بقيت من صفر سنة أربع ومائتين، ولباسه ولباس أصحابه؛ أقبيتهم وقلانسهم وطراداتهم وأعلامهم كلها الخضرة. فلما قدم نزل الرصافة، وقدم معه طاهر، فأمره بنزول الخيزرانية مع أصحابه، ثم تحول فنزل قصره على شط دجلة، وأمر حميد بن عبد الحميد وعلي بن هشام وكل قائد كان في عسكره أن يقيم في عسكره؛ فكانوا يختلفون إلى دار المأمون في كل يوم؛ ولم يكن يدخل عليه أحد إلا في الثياب الخضر، ولبس ذلك أهل بغداد وبنو هاشم أجمعون، فكانوا يخرقون كل شيء يرونه من السواد على إنسان إلا القلنسوة؛ فإنه كان يلبسها الواحد بعد الواحد على خوف ووجل؛ فأما قباء أو علم فلم يكن أحد يجترئ أن يلبس شيئًا من ذلك ولا يحمله. فمكثوا بذلك ثمانية أيام؛ فتكلم في ذلك بنو هاشم وولد العباس خاصةً، وقالوا له: يا أمير المؤمنين، تركت لباس آبائك وأهل بيتك ودولتهم، ولبست الخضرة. وكتب إليه في ذلك قواد أهل خراسان. وقيل إنه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول حاجة سأله أن يطرح لباس الخضرة، ويرجع إلى لبس السواد زي دولة الآباء؛ فلما رأى طاعة الناس له في لبس الخضرة وكراهتهم لها، وجاء السبت قعد لهم وعليه ثياب خضر، فلما اجتمعوا عنده دعا بسواد فلبسه، ودعا بخلعة سواد فألبسها طاهرًا، ثم دعا بعدة من قواده، فألبسهم أقبية وقلانس سودًا؛ فلما خرجوا من عنده وعليهم السواد، طرح سائر القواد والجند لبس الخضرة، ولبسوا السواد، وذلك يوم السبت لسبع بقين من صفر. وقد قيل: إن المأمون لبس الثياب الخضر بعد دخوله بغداد سبعة وعشرين، ثم مزقت. وقيل إنه لم يزل مقيمًا ببغداد في الرصافة حتى بنى منازل على شط دجلة عند قصره الأول؛ وفي بستان موسى. وذكر عن إبراهيم بن العباس الكاتب، عن عمرو بن مسعدة، أن أحمد بن أبي خالد الأحول قال: لما قدمنا من خراسان مع المأمون وصرنا في عقبة حلوان - وكنت زميله - قال لي: يا أحمد، إني أجد رائحة العراق، فأجبت بغير جوابه، وقلت: ما أخلقه! قال: ليس هذا جوابي، ولكني أحسبك سهوت أو كنت مفكرًا، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فيم فكرت؟ قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم، مع فتنة غلبت على قلوب الناس، فاستعذبوها، فكيف يكون حالنا إن هاج هائج، أو تحرك متحرك! قال: فأطرق مليًا، ثم قال: صدقت يا أحمد، ما أحسن ما فكرت؛ ولكني أخبرك؛ الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم؛ فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإمساكنا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينتصف إلا بنا، ومن كان لا ظالمًا ولا مظلومًا فبيته يسعه. فوالله ما كان إلا كما قال. وأمر المأمون في هذه السنة بمقاسمة أهل السواد على الخمسين؛ وكانوا يقاسمون على النصف، واتخذ القفيز الملجم - وهو عشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني - كيلا مرسلا. وفي هذه السنة واقع يحيى بن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه. وولى المأمون صالح بن الرشيد البصرة، وولى عبيد الله بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب الحرمين. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن. ثم دخلت سنة خمس ومائتين ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث ولاية طاهر بن الحسين خراسان فمن ذلك تولية المأمون فيها طاهر بن الحسين من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وقد كان قبل ذلك ولاه الجزيرة والشرط وجانبي بغداد ومعاون السواد، وقعد للناس. ذكر الخبر عن سبب توليته وكان سبب توليته إياه خراسان، والمشرق، ما ذكر عن حماد بن الحسن، عن بشر بن غياث المريسي، قال: حضرت عبد الله المأمون أنا وثمامة ومحمد بن أبي العباس وعلي بن الهيثم، فتناظروا في التشيع، فنصر محمد بن أبي العباس الإمامة، ونصر علي بن الهيثم الزيدية، وجرى الكلام بينهما؛ إلى أن قال محمد لعلي: يا نبطي، ما أنت والكلام! قال: فقال المأمون - وكان متكئًا فجلس: الشتم عي، والبذاء لؤم؛ إنا قد أبحنا الكلام، وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل ذلك وقفناه، ومن جهل الأمرين حكمنا فيه بما يجب؛ فاجعلا بينكما أصلًا، فإن الكلام فروع؛ فإذا افترعتم شيئًا رجعتم إلى الأصول. قال: فإنا نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وذكرا الفرائض والشرائع في الإسلام، وتناظرا بعد ذلك. فأعاد محمد لعلي بمثل المقالة الأولى، فقال له علي: والله لولا جلالة مجلسه وما وهب الله من رأفته، ولولا ما نهى عنه لأعرقت جبينك؛ وبحبسك من جهلك وغسلك المنبر بالمدينة. قال: فجلس المأمون - وكان متكئًا - فقال: وما غسلك المنبر؟ ألتقصير مني في أمرك أو لتقصير المنصور كان في أمر أبيك؟ لولا أن الخليفة إذا وهب شيئًا استحيا أن يرجع فيه لكان أقرب شيء بيني وبينك إلى الأرض رأسك، قم وإياك ما عدت. قال: فخرج محمد بن أبي العباس، ومضى إلى طاهر بن الحسين - وهو زوج أخته - فقال له: كان من قصتي كيت وكيت؛ وكان يحجب المأمون على النبيذ فتح الخادم، وياسر يتولى الخلع، وحسين يسقي، وأبو مريم غلام سعيد الجوهري يختلف في الحوائج. فركب طاهر إلى الدار؛ فدخل فتح، فقال: طاهر بالباب؛ فقال: إنه ليس من أوقاته، ائذن له: فدخل طاهر فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: اسقوه رطلًا، فأخذه في يده اليمنى وقال له: اجلس، فخرج فشربه ثم عاد، وقد شرب المأمون رطلًا آخر، فقال: اسقوه ثانيًا، ففعل كفعله الأول، ثم دخل، فقال له المأمون: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ليس لصاحب الشرطة أن يجلس بين يدي سيده، فقال له المأمون: ذلك في مجلس العامة، فأما مجلس الخاصة فطلق، قال: وبكى المأمون، وتغرغرت عيناه، فقال له طاهر: يا أمير المؤمنين؛ لم تبكي لا أبكى الله عينيك! فوالله دانت لك البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك. فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن؛ فتكلم بحاجة إن كانت لك، قال: يا أمير المؤمنين، محمد بن أبي العباس أخطأ فأقله عثرته، وارض عنه. قال: قد رضيت عنه، وأمرت بصلته، ورددت عليه مرتبته؛ ولولا أنه ليس من أهل الأنس لأحضرته. قال: وانصرف طاهر، فأعلم ابن أبي العباس ذلك، ودعا بهارون بن جبغويه؛ فقال له: إن للكتاب عشيرة، وإن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض؛ فخذ معك ثلثمائة ألف درهم، فأعط الحسين الخادم مائتي ألف، وأعط كاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون: لم بكى؟ قال: ففعل ذلك، قال: فلما تغدى قال: يا حسين اسقني، قال: لا والله لأسقينك أو تقول لي: لم بكيت حين دخل عليك طاهر؟ قال: يا حسين، وكيف عنيت بهذا فسألتني عنه! قال: لغمي بذاك، قال: يا حسين هو أمر إن خرج من رأسك قتلتك، قال: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سرًا! قال: إني ذكرت محمدًا أخي، وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرًا مني ما يكره. قال: فأخبر حسين طاهرًا بذلك؛ فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فقال له: سأفعل، فبكر إلي غدًا. قال: فركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلما دخل عليه قال: ما نمت البارحة، فقال: لم ويحك! قال: لأنك وليت غسان خراسان، وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج عليه خارجة من الترك فتصطلمه، فقال له: لقد فكرت فيما فكرت فيه، قال: فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين، قال: ويلك يا أحمد! هو والله خالع، قال: أنا الضامن له، قال: فأنفذه، قال: فدعا بطاهر من ساعته، فعقد له؛ فشخص من ساعته، فنزل في بستان خليل بن هاشم، فحمل إليه في كل يوم ما أقام فيه مائة ألف. فأقام شهرًا، فحمل إليه عشرة آلاف ألف، التي تحمل إلى صاحب خراسان. قال أبو حسان الزيادي: وكان قد عقد له على خراسان والجبال من حلوان إلى خراسان، وكان شخوصه من بغداد يوم الجمعة لليلة بقيت من ذي القعدة سنة خمس ومائتين، وقد كان عسكر قبل ذلك بشهرين، فلم يزل مقيمًا في عسكره. قال أبو حسان: وكان سبب ولايته - فيما اجتمع الناس عليه - أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعًا بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان، فتخوفوا أن يكون ذلك لأصل عمله عليه. وكان غسان بن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن بن سهل، وهو ابن عم الفضل بن سهل. وذكر عن علي بن هارون أن طاهر بن الحسين قبل خروجه إلى خراسان وولايته لها، ندبه الحسن بن سهل للخروج إلى محاربة نصر بن شبث، فقال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأومر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن توجه لهذا قائدًا من قوادي؛ فكان سبب المصارمة بين الحسن وطاهر. قال: وخرج طاهر إلى خراسان لما تولاها، وهو لا يكلم الحسن بن سهل، فقيل له في ذلك، فقال: ما كنت لأحل عقدة عقدها لي في مصارمته. وفي هذه السنة ورد عبد الله بن طاهر بغداد منصرفًا من الرقة، وكان أبوه طاهرًا استخلفه عليها، وأمره بقتال نصر بن شبث، وقدم يحيى بن معاذ فولاه المأمون الجزيرة. وفيها ولى المأمون عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك. وفيها مات السري بن الحكم بمصر وكان واليها. وفيها مات داود بن يزيد عامل السند، فولاها المأمون بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم. وفيها ولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط. وفيها شخص طاهر بن الحسين إلى خراسان في ذي القعدة، وأقام شهرين حتى بلغه خروج عبد الرحمن النيسابوري المطوعي بنيسابور، فشخص ووافى التغرغزية أشروسنة. وفيها أخذ فرج الرخجي عبد الرحمن بن عمار النيسابوري. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن، وهو والي الحرمين. ثم دخلت سنة ست ومائتين ذكر ما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك من تولية المأمون داود بن ماسجور محاربة الزط وأعمال بصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين. وفيها كان المد الذي غرق منه السواد وكسكر وقطيعة أم جعفر وقطيعة العباس وذهب بأكثرها. وفيها نكب بابك بعيسى بن محمد بن أبي خالد. ولاية عبد الله بن طاهر على الرقة وفيها ولى المأمون عبد الله بن طاهر الرقة لحرب نصر بن شبث ومضر. ذكر الخبر عن سبب توليته إياه وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن يحيى بن معاذ كان المأمون ولاه الجزيرة، فمات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد على عمله، فذكر عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، أن المأمون دعا عبد الله بن طاهر في شهر رمضان، فقال بعض: كان ذلك في سنة خمس ومائتين، وقال بعض: سنة ست. وقال بعض: سنة سبع. فلما دخل عليه، قال: يا عبد الله أستخير الله منذ شهر، وأرجو أن يخير الله لي، ورأيت الرجل يصف ابنه ليطريه لرأيه فيه، وليرفعه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك، وقد مات يحيى بن معاذ، واستخلف ابنه أحمد بن يحيى، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مضر ومحاربة نصر بن شبث، فقال: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، وأرجو أن يجعل الله الخيرة لأمير المؤمنين وللمسلمين. فال: فعقد له، ثم أمر أن تقطع حبال القصارين عن طريقه، وتنحى عن الطرقات المظال، كيلا يكون في طريقه ما يرد لواءه، ثم عقد له لواء مكتوبًا عليه بصفرة ما يكتب على الألوية؛ وزاد فيه المأمون: " يا منصور "، وخرج معه الناس فصار إلى منزله؛ ولما كان من غد ركب إليه الناس وركب إليه الفضل بن الربيع؛ فأقام عنده إلى الليل؛ فقام الفضل، فقال عبد الله: يا أبا العباس، قد تفضلت وأحسنت، وقد تقدم أبي وأخوك إلي ألا أقطع أمرًا دونك، وأحتاج أن أستطلع رأيك، وأستضيء بمشورتك؛ فإن رأيت أن تقيم عندي إلى أن نفطر فافعل. فقال له: إن لي حالات ليس يمكنني معها الإفطار ها هنا. قال: إن كنت تكره طعام أهل خراسان فابعث إلى مطبخك يأتون بطعامك، فقال له: إن لي ركعات بين العشاء والعتمة، قال: ففي حفظ الله؛ وخرج معه إلى صحن داره يشاوره في خاص أموره. وقيل: كان خروج عبد الله الصحيح إلى مضر؛ لقتال نصر بن شبث بعد خروج أبيه إلى خراسان، بستة أشهر. وصية طاهر إلى ابنه عبد الله وكان طاهر حين ولى ابنه ديار ربيعة، كتب إليه كتابًا نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم " عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه؛ وموقوف عليه، ومسئول عنه؛ والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه؛ فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك، ولا يذهلنك عنه ذاهل، ولا يشغلنك عنه شاغل؛ فإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوقفك الله به لرشدك. وليكن أول ما تلزم به نفسك، وتنسب إليه فعالك؛ المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها؛ في إسباغ وضوء لها، وافتتاح ذكر الله فيها. وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك ونيتك. واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله ﷺ والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده؛ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل في كتابه؛ من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار على النبي ﷺ؛ ثم قم فيه بما يحق لله عليك، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد. وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به؛ فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب فيه منه إلى الله؛ فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها. وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز وجل، وإجلالًا له، ودركًا للدرجات العلا في المعاد؛ مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك والثقة بعدلك. وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها؛ فليس شيء أبين نفعًا، ولا أحضر أمنًا، ولا أجمع فضلًا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة. وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة، ومعالم الرشد فلا غاية للاستكثار من البر والسعي له؛ إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه في دار كرامته. واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به، تتم أمورك، وتزدد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك. وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك، ولا تنهض أحدًا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكسف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم. واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنهم سوء الظن بهم، وارفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم. ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزًا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك. واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك. ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها؛ بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤناتهم آثر عندك مما سوى ذلك؛ فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة. وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن. ومأخوذ بما أساء؛ فإن الله جعل الدين حرزًا وعزًا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى. وأقم حدود الله في أصحاب الحرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه. ولا تعطل ذلك ولا تهاون به. ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك. واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشبه والبدعات، يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدًا ففي به، وإذا وعدت بالخير فأنجزه؛ واقبل الحسنة، وادفع بها، واغمض عن عيب كلذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وابغض أهله، وأقص أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر. وأحب أهل الصدق والفلاح، وأعن الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة. واجتنب سوء الأهوار والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك؛ وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة والطيرة والغرور فيما أنت بسبيله. وإياك أن تقول إني مسلط أفعل ما أشاء؛ فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له. وأخلص لله النية فيه واليقين به؛ واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله. ودع عنك شره نفسك. ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح العية، وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدهمائهم، ولإغاثة لملهوفهم. واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر؛ وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المؤنة عنهم نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت الولاة، وطاب به الزمان، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم؛ فإنك إذا فعلت ذلك قررت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك أقدر، وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفسًا لكل ما أردت. فأجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه؛ فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه، واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه. وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك؛ فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب؛ فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله؛ فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد يزدك الله خيرًا وإحسانًا، فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين؛ وقض الحق فيما حمل من النعم، والبس من العافية والكرامة. ولا تحقرن ذنبًا، ولا تمايلن حاسدًا، ولا ترحمن فاجرًا، ولا تصلن كفورًا، ولا تداهنن عدوًا، ولا تصدقن نمامًا، ولا تأمنن غدارًا؛ ولا توالين فاسقًا، ولا تتبعن غاويًا، ولا تحمدن مرائيًا، ولا تحقرن إنسانًا، ولا تردن سائلًا فقيرًا، ولا تجيبن باطلًا، ولا تلاحظن مضحكًا، ولا تخلفن وعدًا، ولا ترهبن فجرًا، ولا تعملن غضبًا، ولا تأتين بذخًا، ولا تمشين مرحًا، ولا تركبن سفهًا، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عيانًا، ولا تغمضن عن الظالم رهبةً أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ من أهل التجارب وذوي العقول والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولًا؛ فإن ضررهم أكثر من منفعتهم. وليس شيء أسرع فسادًا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح. واعلم أنك إذا كنت حريصًا كنت كثير الأخذ، قليل العطية؛ وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلًا؛ فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم، ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم، فاجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي؛ وهو قول الله عز وجل: " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون "؛ فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظًا ونصيبًا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقًا، وارض به عملًا ومذهبًا. وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم؛ ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصًا وانشراحًا، وحسب ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمةً في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته؛ فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار تكملة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحًا وصلاحًا وفلاحًا. واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذي ليس به شيء من الأمور، لأنه ميزان الله الذي تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة، ويؤدي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء. واشتد في أمر الله، وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وأبعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقتك، وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وابلغ في الحاجة، ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم - فإن الدماء من الله بمكان عظيم - انتهاكًا لها بغير حقها. وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزًا ورفعةً، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتًا وغيظًا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلًا وصغارًا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل، والتسوية والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئًا عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد لخاصتك. ولا تأخذن منه فوق منه فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرًا فيه شطط. واحمل الناس كلهم على مر الحق؛ فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضا العامة. واعلم أنك جعلت بولايتك خازنًا وحافظًا وراعيًا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك؛ لأنك راعيهم وقيمهم؛ تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم؛ فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي التدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق؛ فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف؛ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في أعمالك، واحترزت النصيحة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، فكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل القوة، وآلة وعدة، فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئًا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله. واجعل في كل كورة من عملك أمينًا يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم؛ حتى كأنك مع كل عامل في عمله، معاين لأمره كله. وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك؛ فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه؛ وإلا فتوقف عنه. وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته؛ فإنه ربما نظر الرجل في أمره قد واتاه على ما يهوى، فقواه ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره. فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك؛ وأكثر مباشرته بنفسك؛ فإن لغد أمورًا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت. واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه؛ فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك؛ فاستخلصهم وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤنتهم، وأصلح حالهم؛ حتى لا يجدوا لخلتهم مسًا. وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك. والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه؛ فاسأل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله أمرهم. وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقًا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. واجر للأضراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورًا تؤويهم، وقوامًا يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال. واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعًا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة؛ وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل؛ كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله، ويلتمس رحمته به. وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك؛ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان؛ فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله. واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة؛ ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه؛ واجتنب ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله. واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وينفقون منها. ولا تجمع حرامًا، ولا تنفق إسرافًا، وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم. وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها؛ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبًا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر، وإعلامك ما فيه من النقص؛ فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك. وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك؛ فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتًا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامراته، وما عنده من حوائج عمالك، وأمر كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك، وكرر النظر إليه والتدبير له؛ فما كان موافقًا للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه، وما كان مخالفًا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه، والمسألة عنه. ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا في ذلك. وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله؛ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله رضًا ولدينه نظامًا، ولأهله عزًا وتمكينًا؛ وللذمة والملة عدلًا وصلاحًا. وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك؛ حتى يجعلك أفضل مثالك نصيبًا، وأسناهم ذكرًا، وأمرًا، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك وساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب. وذكر أن طاهرًا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه، وتدارسوه وشاع أمره؛ حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه، فقال: ما بقى أبو الطيب شيئًا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به وتقدم؛ وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال. وتوجه عبد الله إلى عمله فسار بسيرته، واتبع أمره وعمل بما عهد إليه. وفي هذه السنة ولى عبد الله بن طاهر إسحاق بن إبراهيم الجسرين، وجعله خليفته على ما كان طاهر أبوه استخلفه من الشرط وأعمال بغداد؛ وذلك حين شخص إلى الرقة لحرب نصر بن شبث. وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بن الحسن؛ وهو والي الحرمين. ثم دخلت سنة سبع ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خروج عبد الرحمن بن أحمد العلوي باليمن فمن ذلك خروج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضي من آل محمد ﷺ. ذكر الخبر عن سبب خروجه وكان السبب في خروجه أن العمال أساءوا السيرة، فبايعوا عبد الرحمن هذا، فلما بلغ ذلك المأمون وجه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيفٍ، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار بن عبد الله الموسم وحج، فلما فرغ من حجه سار إلى اليمن حتى أتى عبد الرحمن، فبعث إليه بأمانه من المأمون؛ فقبل ذلك، ودخل ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون، فمنع المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمر بأخذه بلبس السواد؛ وذلك يوم الخميس لليلة بقيت من ذي القعدة. ذكر الخبر عن وفاة طاهر بن الحسين وفي هذه السنة كانت وفاة طاهر بن الحسين. ذكر الخبر عن وفاته ذكر عن مطهر بن طاهر، أن وفاة ذي اليمينين كانت من حمى وحرارة أصابته، وأنه وجد في فراشه ميتًا. وذكر أن عميه علي بن مصعب وأخاه أحمد بن مصعب، صارا إليه يعودانه، فسألا الخادم عن خبره - وكان يغلس بصلاة الصبح - فقال الخادم: هو نائم لم ينتبه، فانتظراه ساعة، فلما انبسط الفجر، وتأخر عن الحركة في الوقت الذي كان يقوم فيه للصلاة، أنكرا ذلك، وقالا للخادم: أيقظه، فقال الخادم: لست أجسر على ذلك، فقالا له: اطرق لنا لندخل إليه، فدخلا فوجداه ملتفًا في دواج، قد أدخله تحته، وشده عليه من عند رأسه ورجليه، فحركاه فلم يتحرك، فكشفا عن وجهه فوجداه قد مات. ولم يعلما الوقت الذي توفي فيه، ولا وقف أحد من خدمه على وقت وفاته؛ وسألا الخادم عن خبره وعن آخر ما وقف عليه منه؛ فذكر أنه صلى المغرب والعشاء الآخرة، ثم التف في دواجه. قال الخادم: فسمعته يقول بالفارسية كلامًا وهو " درمرك ينزمردي وبذ "؛ تفسيره أنه يحتاج في الموت أيضًا إلى الرجلة. وذكر عن كلثوم بن ثابت بن أبي سعد - وكان يكنى أبا سعدة - قال: كنت على بريد خراسان، ومجلسي يوم الجمعة في أصل المنبر، فلما كان في سنة سبع ومائتين، بعد ولاية طاهر بن الحسين بسنتين، حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، فقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤنة من بغى فيها، وحشد عليها، بلم الشعث، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين. قال: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول؛ لأني لا أكتم الخبر؛ فانصرفت واغتسلت بغسل الموتى، وائتزرت بإزار الموتى، ولبست قميصًا، وارتديت رداء، وطرحت السواد، وكتبت إلى المأمون. قال: فلما صلى العصر دعاني، وحدث به حادث في جفن عينه وفي مأقه، فخر ميتًا. قال: فخرج طلحة بن طاهر، فقال: ردوه ردوه - وقد خرجت فردوني، فقال: هل كتبت بما كان؟ قلت: نعم، قال: فاكتب بوفاته، وأعطاني خمسمائة ألف ومائتي ثوب، فكتبت بوفاته وبقيام طلحة بالجيش. قال: فردت الخريطة على المأمون بخلعه غدوة، فدعا ابن أبي خالد فقال له: اشخص: فأت به - كما زعمت، وضمنت - قال: أبيت ليلتي، قال: لا لعمري لا تبيت إلا على ظهر. فلم يزل يناشده حتى أذن له في المبيت. قال: ووافت الخريطة بموته ليلًا، فدعاه فقال: قد مات، فمن ترى؟ قال: ابنه طلحة، قال: الصواب ما قلت، فاكتب بتوليته. فكتب بذلك، وأقام طلحة واليًا على خراسان في أيام المأمون سبع سنين بعد موت طاهر، ثم توفي، وولي عبد الله خراسان - وكان يتولى حرب بابك - فأقام بالدينور، ووجه الجيوش، ووردت وفاة طلحة على المأمون؛ فبعث إلى عبد الله يحيى بن أكتم يعزيه عن أخيه ويهنئه بولاية خراسان، وولي علي بن هشام حرب بابك. وذكر عن العباس أنه قال: شهدت مجلسًا للمأمون، وقد أتاه نعي طاهر، فقال: لليدين وللفم! الحمد لله الذي قدمه وأخرنا. وقد ذكر في أمر ولاية طلحة خراسان بعد أبيه طاهر غير هذا القول؛ والذي قيل من ذلك، أن طاهرًا لما مات - وكان موته في جمادى الأولى - فأعطوا رزق ستة أشهر. فصير المأمون عمله إلى طلحة خليفة لعبد الله بن طاهر؛ وذلك أن المأمون ولى عبد الله في قول هؤلاء بعد موت طاهر عمل طاهر كله - وكان مقيمًا بالرقة على حرب نصر بن شبث - وجمع له مع ذلك الشأم، وبعث إليه بعهده على خراسان وعمل أبيه؛ فوجه عبد الله أخاه طلحة بخراسان، واستخلف بمدينة السلام إسحاق بن إبراهيم، وكاتب المأمون طلحة باسمه، فوجه المأمون أحمد بن أبي خالد إلى خراسان للقيام بأمر طلحة، فشخص أحمد إلى ما وراء النهر، فافتتح أشروسنة، وأسر كاوس بن خاراخره وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون، ووهب طلحة لابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم وعروضًا بألفي ألف، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتب أحمد بن أبي خالد خمسمائة ألف درهم. وفي هذه السنة غلا السعر ببغداد والبصرة والكوفة حتى بلغ سعر القفيز من الحنطة بالهاروني أربعين درهمًا إلى الخمسين بالقفيز الملجم. وفي هذه السنة ولي موسى بن حفص طبرستان والرويان ودنباوند. وحج بالناس في هذه السنة أبو عيسى بن الرشيد. ثم دخلت سنة ثمان ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك مصير الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان، ممتنعًا بها، ومصير أحمد بن خالد إليه حتى أخذه، فقدم به على المأمون، فعفا عنه. وفيها ولي المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدي في المحرم. وفيها استعفى محمد بن سماعة القاضي من القضاء فأعفي، وولي مكانه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وفيها عزل محمد بن عبد الرحمن عن القضاء بعد أن وليه فها في شهر ربيع الأول، ووليه بشر بن الوليد الكندي، فقال بعضهم: يأيها الملك الموحد ربه ** قاضيك بشر بن الوليد حمار ينفي شهادة من يدين بما به ** نطق الكتاب وجاءت الأخبار ويعد عدلًا من يقول بأنه ** شيخ يحيط بجسمه الأقطار ومات موسى بن محمد المخلوع في شعبان، ومات الفضل بن الربيع في ذي القعدة. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن الرشيد. ثم دخلت سنة تسع ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر الظفر بنصر بن شبث فمن ذلك ما كان من حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث وتضييقه عليه؛ حتى طلب الأمان، فذكر عن جعفر بن محمد العامري أنه قال: قال المأمون لثمامة: ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان ومعرفة، يؤدي عني ما أوجهه به إلى نصر بن شبث؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، رجل من بني عامر يقال له جعفر بن محمد، قال له: أحضرنيه، قال جعفر: فأحضرني ثمامة، فأدخلني عليه، فكلمني بكلام كثير، ثم أمرني أن أبلغه نصر بن شبث. قال: فأتيت نصرًا وهو بكفر عزرن بسروج، فأبلغته رسالته، فأذعن وشرط شروطًا، منها ألا يطأ له بساطًا. قال: فأتيت المأمون فأخبرته، فقال: لا أجيبه والله إلى هذا أبدًا، ولو أفضيت إلي بيع قميصي حتى يطأ بساطي؛ وما باله ينفر مني! قال: قلت: لجرمه وما تقدم منه، فقال: أتراه أعظم جرمًا عندي من الفضل بن الربيع ومن عيسى بن أبي خالد! أتدري ما صنع بي الفضل! أخذ قوادي وجنودي وسلاحي وجميع ما أوصى به لي أبي، فذهب به إلى محمد وتركني بمرو وحيدًا فريدًا وأسلمني، وأفسد علي أخي؛ حتى كان من أمره ما كان؛ وكان أشد علي من كل شيء. أتدري ما صنع بي عيسى بن أبي خالد! طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي، وذهب بخراجي وفيئي، وأخرب علي دياري، وأقعد إبراهيم خليفة دوني، ودعاه باسمي. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الكلام فأتكلم؟ قال: تكلم، قلت: الفضل بن الربيع رضيعكم ومولاكم، وحال سلفه حالكم، وحال سلفكم حاله، ترجع عليه بضروب كلها تردك إليه، وأما عيسى بن أبي خالد فرجل من أهل دولتك، وسابقته وسابقة من مضى من سلفه سابقتهم ترجع عليه بذلك؛ وهذا رجل لم تكن له يد قط فيحمل عليها، ولا لمن مضى من سلفه؛ إنما من جند بني أمية. قال: إن كان كذلك كما تقول، فكيف بالحنق والغيظ؛ ولكني لست أقلع عنه حتى يطأ بساطي، قال: فأتيت نصرأ فأخبرته بذلك كله، قال: فصاح بالخيل صيحة فجالت، ثم قال: ويلي عليه؟ هو لم يقو على أربعمائة ضفدع تحت جناحه - يعني الزط - يقوى على حلبة العرب! فذكر أن عبد الله بن طاهر لما جاده القتال وحصره وبلغ منه، طلب الأمان فأعطاه، وتحول من معسكره إلى الرقة سنة تسع ومائتين، وصار إلى عبد الله بن طاهر، وكان المأمون قد كتب إليه قبل ذلك أن هزم عبد الله بن طاهر جيوشه كتابًا يدعوه إلى طاعته ومفارقة معصيته، فلم يقبل، فكتب عبد الله إليه - وكان كتاب المأمون إليه من المأمون كتبه عمرو بن مسعدة: أما بعد؛ فإنك يا نصر بن شبث قد عرفت الطاعة وعزها وبرد ظلها وطيب مرتعها وما في خلافها من الندم والخسار، وإن طالت مدة الله بك، فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه لتقع عبره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم. وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقع منك؛ فإن الصدق صدق والباطل باطل؛ وإنما القول بمخارجه وبأهل الذين يعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك، ولا أحرص على استنقاذك والانتياش لك من خطائك مني؛ فبأي أول أو آخر أو سطة أو إمرة إقدامك يا نصر على أمير المؤمنين! تؤخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله، وتريد أن تبيت آمنًا أو مطمئنًا، أو وادعًا أو ساكنًا أو هادئًا! فوعالم السر والجهر، لأن لم تكن للطاعة مراجعًا وبها خانعًا، لتستوبلن وخم العاقبة؛ ثم لأبدأن بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تقطع كانت في الأرض فتنة وفسادًا كبيرًا، ولأطأن بمن معي من أنصار الدولة كواهل رعاع أصحابك، ومن تأشب إليك من أداني البلدان وأقاصيها وطغامها وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خراب الناس، ومن لفظه بلده، ونفته عشيرته؛ لسوء موضعه فيهم. وقد أعذر من أنذر. والسلام. وكان مقام عبد الله بن طاهر على نصر بن شبث محاربًا له - فيما ذكر - خمس سنين حتى طلب الأمان؛ فكتب عبد الله إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه، وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه، أمانًا نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم " أما بعد؛ فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز؛ ولا يزال المعذر بالحق، المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين؛ حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير الممكنين؛ ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورًا يطلب الغلبة ظلمًا؛ فإن كنت للدين تسعى بما تصنع، فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقًا، فلعمري ما همته الكبر، ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال؛ وإن كنت للدنيا تقصد، فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها؛ والأمر الذي تستحقها به؛ فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك. فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهورًا فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك. ويعجل ذلك، كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدًا، وأكثف جندًا. وأكثر جمعًا وعددًا ونصرًا منك فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم جوائح الظالمين. وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله ﷺ؛ وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أتيت وراجعت؛ إن شاء الله. والسلام. ولما خرج بصر بن شبث إلى عبد الله بن طاهر بالأمان هدم كيسوم وخربها. وفي هذه السنة ولى المأمون صدقة بن علي المعروف بزريق أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك، وانتدب للقيام بأمره أحمد بن الجنيد بن فرزندي الإسكافي، ثم رجع أحمد بن الجنيد بن فرزندي إلى بغداد، ثم رجع إلى الخرمية، فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل التجيبي أذربيجان. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد بن علي، وهو والي مكة. وفيها مات ميخائيل بن جورجس صاحب الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملكت الروم عليهم ابنه توفيل بن ميخائيل. ثم دخلت سنة عشر ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك وصول نصر بن شبث فيها إلى بغداد، وجه به عبد الله بن طاهر إلى المأمون، فكان دخوله إليها يوم الاثنين لسبع خلون من صفر، فأنزله مدينة أبي جعفر ووكل به من يحفظه. ذكر الخبر عن ظفر المأمون بابن عائشة ورفقائه وفيها ظهر المأمون على إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، الذي يقال له ابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الإفريقي ومالك بن شاهي وفرج البغواري ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة إبراهيم بن المهدي، وكان الذي أطلعه عليهم وعلى ما كانوا يسعون فيه من ذلك عمران القطربلي؛ فأرسل إليهم المأمون يوم السبت - فيما ذكر - لخمس خلون من صفر سنة عشر ومائتين؛ فأمر المأمون بإبراهيم بن عائشة أن يقام ثلاثة أيام في الشمس على باب دار المأمون، ثم ضربه يوم الثلاثاء بالسياط، ثم حبسه في المطبق، ثم ضرب مالك بن شاهي وأصحابه، وكتبوا للمأمون أسماء من دخل معهم في هذا الأمر من القواد والجند وسائر الناس، فلم يعرض المأمون لأحد ممن كتبوا له؛ ولم يأمن أن يكونوا قد قذفوا أقوامًا برآء، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بن شبث، فغمر بهم فأخذوا، ودخل نصر بن شبث بعد ذلك وحده؛ ولم يوجه إليه أحد من الجند، فأنزل إسحاق بن إبراهيم، ثم حول إلى مدينة أبي جعفر. ذكر خبر الظفر بإبراهيم المهدي وفيها أخذ إبراهيم بن المهدي ليلة الأحد لثلاث عشرة من ربيع الآخر، وهو متنقب مع امرأتين في زي امرأة؛ أخذه حارس أسود ليلًا، فقال: من أنتن؟ وأين تردن في هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم - فيما ذكر - خاتم ياقوت كان في يده، له قدر عظيم؛ ليخليهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استراب بهن، وقال: هذا خاتم رجل له شأن، فرفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فتمنع إبراهيم، فجبذه صاحب المسلحة، فبدت لحيته، فرفعه إلى صاحب الجسر فعرفه؛ فذهب به إلى باب المأمون، فأعلم به؛ فأمر بالاحتفاظ به في الدار؛ فلما كان غداة الأحد أقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصيروا المقنعة التي كان متنقبًا بها في عنقه، والملحفة التي كان ملتحفًا بها في صدره، ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ. فلما كان يوم الخميس حوله المأمون إلى منزل أحمد بن أبي خالد فحبسه عنده، ثم أخرجه المأمون معه حيث خرج إلى الحسن بن سهل بواسط، فقال الناس: إن الحسن كلمه فيه، فرضي عنه وخلى سبيله، وصيره عند أحمد بن أبي خالد، وصير معه أحمد بن يحيى بن معاذ وخالد بن يزيد بن مزيد يحفظانه؛ إلا أنه موسع عليه، عنده أمه وعياله، ويركب إلى دار المأمون، وهؤلاء معه يحفظونه. ذكر خبر قتل ابن عائشة وفي هذه السنة قتل المأمون إبراهيم بن عائشة وصلبه. ذكر الخبر عن سبب قتله إياه كان السبب في ذلك أن المأمون حبس ابن عائشة ومحمد بن إبراهيم الإفريقي ورجلين من الشطار، يقال لأحدهما أبو مسمار وللآخر عمار، وفرج البغواري ومالك بن شاهي وجماعة معهم ممن كان سعى في البيعة إبراهيم؛ بعد أن ضربوا بالسياط ما عدا عمارًا، فإنه أومن لما كان من إقراره على القوم في المطبق، فرفع بعض أهل المطبق أنهم يريدون أن يشغبوا وينقبوا السجن - وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن من داخل فلم يدعوا أحدًا يدخل عليهم - فلما كان الليل وسمعوا شغبهم، بلغ المأمون خبرهم، فركب إليهم من ساعته بنفسه، فدعا بهؤلاء الأربعة فضرب أعناقهم صبرًا، وأسمعه ابن عائشة شتمًا قبيحًا؛ فلما كانت الغداة صلبوا على الجسر الأسفل؛ فلما كان من الغداة يوم الأربعاء أنزل إبراهيم بن عائشة، فكفن وصلي عليه، ودفن في مقابر قريش، وأنزل الإفريقي فدفن في مقابر الخيزران وترك الباقون. العفو عن إبراهيم بن المهدي وذكر أن إبراهيم بن المهدي لما أخذ صير به إلى دار أبي إسحاق بن الرشيد - وأبو إسحاق عند المأمون - فحمل رديفًا لفرج التركي؛ فلما أدخل على المأمون قال له: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين، ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء أمكن عادية الدهر من نفسه؛ وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك، قال: بل أعفو يا إبراهيم، فكبر ثم خر ساجدًا. وقيل إن إبراهيم كتب بهذا الكلام إلى المأمون وهو مختف؛ فوقع المأمون في حاشية رقعته: " القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله، وهو أكبر ما نسأله "، فقال إبراهيم بمدح المأمون: يا خير من ذملت يمانية به ** بعد الرسول لآيس ولطامع وأبر من عبد الإله على التقى ** عينًا وأقوله بحقٍ صادع عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ** فالصاب يمزج بالسمام الناقع متيقظًا حذرًا وما يخشى العدى ** نبهان من وسنات ليل الهاجع ملئت قلوب الناس منك مخافةً ** وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع بأبي وأمي فديةً وبنيهما ** من كل معضلة وريبٍ واقع ما ألين الكنف الذي بوأتني ** وطنًا وأمرع رتعه للراتع للصالحات أخًا جعلت وللتقى ** وأبًا رءوفًا للفقير القانع نفسي فداؤك إذ تضل معاذري ** وألوذ منك بفضل حلمٍ واسع أملًا لفضلك والفواضل شيمة ** رفعت بناءك بالمحل اليافع فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ** وسع النفوس من الفعال البارع وعفوت عمن لم يكن عن مثله ** عفو، ولم يشفع إليك بشافع إلا العلو عن العقوبة بعدما ** ظفرت يداك بمستكين خاضع فرحمت أطفالًا كأفراخ القطا ** وعويل عانسةٍ كقوس النازع وعطفت آصرةً علي كما وعى ** بعد انهياض الوشي عظم الظالع الله يعلم ما أقول فإنها ** جهد الألية من حنيفٍ راكع ما إن عصيتك والغواة تقودني ** أسبابها إلا بنية طالع حتى إذا علقت حبائل شقوتي ** بردى إلى حفر المهالك هائع لم أدر أن لمثل جرمي غافرًا ** فوقفت أنظر أي حتفٍ صارعي رد الحياة علي بعد ذهابها ** ورع الإمام القادر المتواضع أحياك من ولاك أطول مدة ** ورمى عدوك في الوتين بقاطع كم من يد لك لم تحدثني بها ** نفسي إذا آلت إلي مطامعي أسديتها عفوًا إلي هنيهةً ** فشكرت مصطنعًا لأكرم صانع إلا يسيرًا عندما وليتني ** وهو الكثير لديغير الضائع إن أنت جدت بها علي تكن لها ** أهلًا، وإن تمنع فأعدل مانع إن الذي قسم الخلافة حازها ** في صلب آدم للإمام السابع جمع القلوب عليك جامع أمرها ** وحوى رداؤك كل خير جامع فذكر أن المأمون حين أنشده إبراهيم هذه القصيدة، قال: أقول ما قال يوسف لأخوته: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ". ذكر الخبر عن بناء المأمون ببوران وفي هذه السنة بنى المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل في رمضان منها. ذكر الخبر عن أمر المأمون في ذلك وما كان في أيام بنائه ذكر أن المأمون لما مضى إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بن سهل، حمل معه إبراهيم بن المهدي، وشخص المأمون من بغداد حين شخص إلى ما هنالك للبناء ببوران، راكبًا زورقًا، حتى أرسى على باب الحسن؛ وكان العباس بن المأمون قد تقدم أباه على الظهر، فتلقاه الحسن خارجًا عسكره في موضع قد اتخذ له على شاطئ دجلة، بني له فيه جوسق؛ فلما عاينه العباس ثنى رجله لينزل، فحلف عليه الحسن ألا يفعل، فلما ساواه ثنى الحسن رجله لينزل، فقال له العباس: بحق أمير المؤمنين لا تنزل؛ فاعتنقه الحسن وهو راكب. ثم أمر أن يقدم إليه دابته، ودخلا جميعًا منزل الحسن، ووافى المأمون في وقت العشاء، وذلك في شهر رمضان من سنة عشر ومائتين، فأفطر هو والحسن والعباس - ودينار بن عبد الله قائم على رجله - حتى فرغوا من الإفطار، وغسلوا أيديهم، فدعا المأمون بشراب، فأتى بجام ذهب فصب فيه وشرب، ومد يده بجام فيه شراب إلى الحسن، فتباطأ عنه الحسن؛ لأنه لم يكن يشرب قبل ذلك؛ فغمز دينار بن عبد الله الحسن، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، أشربه بإذنك وأمرك؟ فقال له المأمون: لولا أمري لم أمدد يدي إليك، فأخذ الجام فشربه. فلما كان في الليلة الثانية، جمع بينمحمد بن الحسن بن سهل والعباسة بنت الفضل ذي الرئاستين، فلما كان في الليلة الثالثة دخل على بوران، وعندها حمدونة وأم جعفر وجدتها؛ فلما جلس المأمون معها نثرت عليها جدتها ألف درة كانت في صينية ذهب، فأمر المأمون أن تجمع، وسألها عن عدد ذلك الدر كم هو؟ فقالت: ألف حبة، فأمر بعدها فنقصت عشرًا، فقال: من أخذها منكم فليردها، فقالوا: حسين زجلة، فأمره بردها، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنما نثر لنأخذه، قال: ردها فإني أخلفها عليك، فردها. وجمع المأمون ذلك الدر في الآنية كما كان، فوضع في حجرها، وقال: هذه نحلتك، وسلي حوائجك؛ فأمسكت. فقالت لها جدتها: كلمي سيدك، وسليه حوائجك فقد أمرك، فسألته الرضا عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وسألته الإذن لأم جعفر في الحج، فأذن لها. وألبستها أم جعفر البدنة الأموية؛ وابتنى بها في ليلته، وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر؛ فيها أربعون منًا في تور ذهب. فأنكر المأمون ذلك عليهم، وقال: هذا سرف؛ فلما كان من الغد دعا بإبراهيم بن المهدي فجاء يمشي من شاطئ دجلة، عليه مبطنة ملحم، وهو معتم بعمامة، حتى دخل؛ فلما رفع الستر عن المأمون رمى بنفسه، فصاح المأمون: يا عم، لا بأس عليك، فدخل فسلم عليه تسليم الخلافة، وقبل يده، وأنشد شعره، ودعا بالخلع فخلع عليه خلعة ثانية، ودعا له بمركب وقلده سيفًا، وخرج فسلم الناس، ورد إلى موضعه. وذكر أن المأمون أقام عند الحسن بن سهل سبعة عشر يومًا يعد له في كل يوم لجميع من معه جميع ما يحتاج إليه، وأن الحسن خلع على القواد على مراتبهم، وحملهم ووصلهم؛ وكان مبلغ النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم. قال: وأمر المأمون غسان بن عباد عند منصرفه أن يدفع إلى الحسن عشرة آلاف ألف من مال فارس، وأقطعه الصلح فحملت إليه على المكان؛ وكانت معدة عند غسان بن عباد، فجلس الحسن ففرقها على قواده وأصحابه وحشمه وخدمه؛ فلما انصرف المأمون شيعه الحسن، ثم رجع إلى فم الصلح. فذكر عن أحمد بن الحسن بن سهل، قال: كان أهلنا يتحدثون أن الحسن بن سهل كتب رقاعًا فيها أسماء ضياعه. ونثرها على القواد وعلى بني هاشم؛ فمن وقعت في يده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها. وذكر عن أبي الحسن علي بن الحسين بن عبد الأعلى الكاتب، قال: حدثني الحسن بن سهل يومًا بأشياء كانت في أم جعفر، ووصف رجاحة عقلها وفهمها، ثم قال: سألها يومًا المأمون بفم الصلح حيث خرج إلينا عن النفقة على بوران، وسأل حمدونة بنت غضيض عن مقدار ما أنفقت في ذلك الأمر. قال: فقالت حمدونة: أنفقت خمسة وعشرين ألف ألف، قال: فقالت أم جعفر: ما صنعت شيئًا، قد أنفقت ما بين خمسة وثلاثين ألف ألف إلى سبعة وثلاثين ألف ألف درهم. قال: وأعددنا له شمعتين من عنبر، قال: فدخل بها ليلًا، فأوقدتا بين يديه، فكثر دخانهما. فقال: ارفعوهما قد أذانا الدخان، وهاتوا الشمع. قال: ونحلتها أم جعفر في ذلك اليوم الصلح قال: فكان سبب عود الصلح إلى ملكي، وكانت قبل ذلك لي، فدخل علي يومًا حميد الطوسي فأقرأني أربعة أبيات امتدح بها ذا الرياستين. فقلت له: ننفذها لك ذي الرياستين، وأقطعك الصلح في العاجل إلى أن تأتي مكافأتك من قبله، فأقطعه إياها، ثم ردها المأمون على أم جعفر فنحلتها بوران. وروى علي بن الحسين أن الحسن بن سهل كان لا ترفع الستور عنه، ولايرفع الشمع بين يديه حتى تطلع الشمس ويتبينها إذا نظر إليها. وكان متطيرًا يحب أن يقال له إذا دخل عليه: انصرفنا من فرح وسرور، ويكره أن يذكر له جنازة أو موت أحد. قال: ودخلت عليه يومًا فقال لي قائل: إن علي بن الحسين أدخل ابنه الحسن اليوم الكتاب، قال: فدعا لي فانصرفت، فوجدت في منزلي عشرين ألف درهم هبة للحسن وكتابًا بعشرين ألف درهم. قال: وكان قد وهب لي من أرضه بالبصرة ما قوم بخمسين ألف دينار، فقبضه عني بغا الكبير، وأضافه إلى أرضه. وذكر عن أبي حسان الزيادي أنه قال: لما صار المأمون إلى الحسن بن سهل، أقام عنده أيامًا بعد البناء ببوران، وكان مقامه في مسيره وذهابه ورجوعه أربعين يومًا. ودخل إلى بغداد يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وذكر عن محمد بن موسى الخوارزمي أنه قال: خرج المأمون نحو الحسن بن سهل إلى فم الصلح لثمان خلون من شهر رمضان، ورحل من فم الصلح لتسع بقين من شوال سنة عشر ومائتين. وهلك حميد بن عبد الحميد يوم الفطر من هذه السنة؛ وقالت جاريته عذل: من كان أصبح يوم الفطر مغتبطًا ** فما غبطنا به والله محمود أو كان منتظرًا في الفطر سيده ** فإن سيدنا في الترب ملحود وفي هذه السنة افتتح عبد الله بن طاهر مصر، واستأمن إليه عبيد الله بن السري بن الحكم. ذكر الخبر عن سبب شخوص عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر وسبب خروج ابن السري إليه في الأمان ذكر أن عبد الله بن طاهر لما فرغ من نصر بن شبث العقيلي، ووجهه إلى المأمون فوصل إليه ببغداد كتب المأمون يأمره بالمصير إلى مصر؛ فحدثني أحمد بن محمد بن مخلد، أنه كان يومئذ بمصر، وأن عبد الله بن طاهر لما قرب منها، وصار منها على مرحلة، قدم قائدًا من قواده إليها ليرتاد لمعسكره موضعًا يعسكرفيه، وقد خندق ابن السري عليها خندقًا، فاتصل الخبر بابن السري عن مصير القائد إلى ما قرب منها، فخرج بمن استجاب له من أصحابه إلى القائد الذي كان عبد الله بن طاهر وجهه لطلب موضع معسكره؛ فالتقى جيش ابن السري وقائد عبد الله وأصحابه وهم في قلة، فجال القائد وأصحابه جولةً، وأبرد القائد إلى عبد الله بريدًا يخبره بخبره وخبر ابن السري، فحمل رجاله على البغال؛ على كل بغل رجلين بآلتهما وأدواتهما، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير حتى لحقوا القائد وابن السري؛ فلم تكن من عبد الله وأصحابه إلا حملة واحدة حتى انهزم ابن السري وأصحابه، وتساقطت عامة أصحابه - يعني ابن السري - في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض في الخندق كان أكثر ممن قتله الجند بالسيف، وانهزم ابن السري، فدخل الفسطاط، وأغلق على نفسه وأصحابه ومن فيها الباب، وحاصره عبد الله بن طاهر؛ فلم يعاوده ابن السري الحرب بعد ذلك حتى خرج إليه في الأمان. وذكر عن ابن ذي القلمين، قال: بعث ابن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ورد مصر ومانعه من دخولها بألف وصيف ووصيفة؛ مع كل وصيف ألف دينار في كيس حرير، وبعث بهم ليلًا. قال: فرد ذلك عليه عبد الله وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهارًا لقبلتها ليلًا " بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة صاغرين "، قال: فحينئذ طلب الأمان وخرج إليه. وذكر أحمد بن حفص بن عمر، عن أبي السمراء، قال: خرجنا مع الأمير عبد الله بن طاهر إلى مصر؛ حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق؛ إذا نحن بأعرابي قد اعترض؛ فإذا شيخ فيه بقيه على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا عليه السلام. قال أبو السمراء: وأنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي وإسحاق بن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذ أفره من الأمير دواب، وأجود منه كسًا. قال: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قال " فقال: يا شيخ؛ قد ألححت في النظر، أعرفت شيئًا أم أنكرته؟ قال: لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم؛ ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم، قال: فأشرت له إلى إسحاق بن أبي ربيعة، فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال: أرى كاتبًا داهي الكتابة بين ** عليه وتأديب العراق منير له حركات قد يشاهدن أنه ** عليم بتقسيط الخراج بصير ونظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي، فقال: ومظهر نسك ما عليه ضميره ** يحب الهدايا، بالرجال مكور أخال به جبنًا وبخلأ وشيمةً ** تخبر عنه أنه لوزير ثم نظر إلي وأنشأ يقول: وهذا نديم للأمير ومؤنس ** يكون له بالقرب منه سرور إخاله للأشعار والعلم راويًا ** فبغض نديم مرةً وسمير ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول: وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ** فما إن له فيمن رأيت نظير عليه رداء من جمال وهيبة ** ووجه بإدراك النجاح بشير لقد عصم الإسلام منه بدابد ** به عاش معرف ومات نكير ألا إنما عبد الإله بن طاهر ** لنا والد بر بنا، وأمير قال: فوقع ذلك من عبد الله احسن موقع، وأعجبه ما قاله الشيخ، فأمر له بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه. وذكر عن الحسن بن يحيى الفهري، قال: لقينا البطين الشاعر الحمصي، ونحن مع عبد الله بن طاهر فيما بين سلمية وحمص، فوقف على الطريق، فقال لعبد الله بن طاهر: مرحبًا وأهلًا وسهلًا ** بابن ذي الجود طاهر بن الحسين مرحبًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا ** بابن ذي الغرتين في الدعوتين مرحبًا مرحبًا بمن كفه البح ** ر إذا فاض مزبد الرجوين ما يبالي المأمون أيده الل ** ه إذا كنتما له باقيين أنت غرب وذاك شرق مقيمًا ** أي فتق أتى من الجانبين وحقيق إذ كنتما في قديم ** لزيق ومصعب وحسين أن تنالا ما نلتماه من المج ** د وأن تعلوا على الثقلين قال: من أنت ثكلتك أمك! قال: أنا البطين الشاعر الحمصي، قال: اركب يا غلام وانظر كم بيتًا؟ قال: قال: سبعة، فأمر له بسبعة آلاف درهم أو بسبعمائة دينار، ثم لم يزل معه حتى دخلوا مصر والإسكندرية، حتى انخسف به وبدايته مخرج، فمات فيه بالإسكندرية. ذكر الخبر عن فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية وفي هذه السنة فتح عبد الله بن طاهر الإسكندرية - وقيل كان فتحه إياها في سنة إحدى عشرة ومائتين - وأجلى من كان تغلب عليها من أهل الأندلس عنها. ذكر الخبر عن أمره وأمرهم حدثني غير واحد من أهل مصر أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبيل الأندلس، فيها جماعة كبيرة أيام شغل الناس قبلهم بفتنة الحروي وابن السري، حتى أرسلوا مراكبهم بالإسكندرية؛ ورئيسهم يومئذ رجل يدعى أبا حفص؛ فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله بن طاهر مصر، قال لي يونس بن الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث - يعنى عبد الله بن طاهر - والدنيا عندنا مفتونة، قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في البلاء؛ فأصلح الدنيا، وأمن البريء، وأخاف السقيم؛ واستوسقت له الرعية بالطاعة. ثم قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن لهيعة، قال: لا أدري رفعه إلى قبل أم لا! فلم يجد فيما قرأنا من الكتب أن لله بالمشرق جندًا لم يطغ عليه أحد من خلقه إلا بعثهم عليه، وانتقم بهم منه - أو كلامًا هذا معناه - فلما دخل عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر، أرسل إلى من كان بها من الأندلسيين، وإلى من كان انضوى إليهم، يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأخبروني أنهم أجابوه إلى الطاعة، وسألوه الأمان، على أن يرتحلوا من الإسكندرية إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، وأنهم رحلوا عنها، فنزلوا جزيرة من جزائر البحر؛ يقال لها إقريطش، فاستوطنوها وأقاموا بها، وفيها بقايا أولادهم إلى اليوم. ذكر الخبر عن خروج أهل قم على السلطان وفي هذه السنة خلع أهل قمّ السلطان ومنعوا الخراج. ذكر الخبر عن سبب خلعهم السلطان ومآل أمرهم في ذلك ذكر أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ما عليهم من الخراج، وكان خراجهم ألفي درهم، وكان المأمون قد حط عن أهل الري حين دخلها منصرفًا من خراسان إلى العراق، ما قد ذكرت قبل، فطمع أهل قم من المأمون في الفعل بهم في الحط عنهم والتخفيف مثل الذي فعل من ذلك بأهل الري، فرفعوا إليه يسألونه الحط، ويشكون إليه ثقله عليهم؛ فلم يجبهم؛ المأمون إلى ما سألوه، فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بن هشام، ثم أمد بعجيف بن عنبسة، وقدم قائد حميد يقال له محمد بن يوسف الكح بعرض من خراسان، فكتب إليه بالمصير إلى قم لحرب أهلها مع علي بن هشام، فحاربهم علي فظفر بهم، وقتل يحيى بن عمران وهدم سور قم، وجباها سبعة آلاف ألف درهم بعد ما كانوا يتظلمون من ألفي ألف درهم. ومات في هذه السنة شهريار، وهو ابن شروين، وصار في موضعه ابنه سابور، فنازعه مازيار بن قارن فأسره وقتله، وصارت الجبال في يد مازيار بن قارن. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد وهو يومئذ والي مكة ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث أمر عبيد الله بن السري فمن ذلك خروج عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر بالأمان، ودخول عبد الله بن طاهر مصر - وقيل إن ذلك في سنة عشر ومائتين - وذكر بعضهم أن ابن السري خرج إلى عبد الله بن طاهر يوم السبت لخمس بقين من صفر سنة إحدى عشرة ومائتين، وأدخل بغداد لسبع بقين من رجب سنة إحدى عشرة ومائتين، وأنزل مدينة أبي جعفر، وأقام عبد الله بن طاهر بمصر واليًا عليها وعلى سائر الشأم والجزيرة؛ فذكر عن طاهر بن خالد بن نزار الغسائي، قال: كتب المأمون إلى عبد الله بن طاهر وهو بمصر حين فتحها في أسفل كتاب له: أخي أنت ومولاي ** ومن أشكر نعماه فما أحببت من أمرٍ ** فإني الدهر أهواه وما تكره من شيء ** فإني لست أرضاه لك الله على ذاك ** لك الله لك الله وذكر عن عطاء صاحب مظالم عبد الله بن طاهر، قال: قال رجل من أخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله. قال: فدفع ذلك المأمون وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلًا ثم قال له: امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعةً من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثًا شافيًا، وائتني بما تسمع منه. قال: ففعل الرجل ما قال له، وأمره به؛ حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام، فقعد يوما بباب عبد الله بن طاهر، وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف إليه الرجل، فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده؛ فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه، وخفاه فيهما، فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك، قال: ولي أمانك وذمة الله معك؟ قال: لك ذلك، قال: فأظهر له ما أراد، ودعاه إلى القاسم، وأخبره بفضائله وعلمه وزهده، فقال له عبد الله: أتنصفني؟ قال: نعم، قال: هل يجب شكر الله على العباد؟ قال: نعم، قال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟ قال: نعم، قال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحالة التي ترى، لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك؛ وفيما بينهما أمري مطاع، وقولي مقبول ثم ما ألتفت يميني ولا شمالي وورائي وقدامي إلا رأيت نعمة لرجلٍ أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدًا لائحة بيضاء ابتداني بها تفضلًا وكرمًا، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرًا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانًا من حيث أعلم؛ أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك؛ فارحل عن هذا البلد؛ فإن السلطان لأعظم إن بلغه أمرك - وما آمن ذلك عليك - كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك. فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون، فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحدٍ شيئًا، ولا علم به عبد الله إلابعد موت المأمون. وذكر عن عبد الله بن طاهر أنه قال وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السري: بكرت تسبل دمعًا ** أن رأت وشك براحي وتبدلت صقيلًا ** يمنيًا بوشاحي وتماديت بسيرٍ ** لغدوٍ ورواح زعمت جهلًا بأني ** تعب غير مراح أقصري عني فإني ** سالك قصدي فلاحي أنا للمأمون عبد ** منه في ظل جناحي إن يعاف الله يومًا ** فقريب مستراحي أو يكن هلك فقولي ** بعويل وصياح: حل في مصر قتيل ** ودعي عنك التلاحي وذكر عن عبد الله بن أحمد بن يوسف أن أباه كتب إلى عبد الله بن طاهر عند خروج عبيد الله بن السري إليه يهنئه بذلك الفتح: بلغني أعز الله الأمير ما فتح الله عليك، وخروج ابن السري إليك؛ فالحمد لله الناصر لدينه المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته، ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك به مذ ظعنت لوجهك؛ فإنا ومن قبلنا نتذاكر سيرك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جندٍ ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك؛ ولقل ما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلًا على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظًا وكفاية وسلطانًا وولاية لم يخلد إلى ما عفا حتى يخل بمساماة ما أمامه. ثم لا نعلم سائسًا استحق النجح لحسن السيرة وكف معرة الأتباع استحقاقك. وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحدًا يهوى عند الحاقة والنازلة والمعضلة فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك بالمحافظة على ما به تمت لك؛ من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه. وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرمًا مقدمًا معظمًا؛ وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامة جلالة وبجالة؛ فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم؛ وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه؛ فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك، ولم تزدد إلا تذللًا وتواضعًا؛ فالحمد لله على ما أنالك وأبلاك، وأودع فيك. والسلام. وفي هذه السنة قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين مدينة السلام من المغرب، فتلقاه العباس بن المأمون وأبو إسحاق المعتصم وسائر الناس، وقدم معه بالمتغلبين على الشأم كابن السرج وابن أبي الجمل وابن أبي الصفر. ومات موسى بن حفص، فولى محمد بن موسى طبرستان مكان أبيه. وولى حاجب بن صالح الهند فهزمه بشر بن داود، فانحاز إلى كرمان. وفيها أمر المأمون مناديًا فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله ﷺ. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس وهو والي مكة. وفيها مات أبو العتاهية الشاعر. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من توجيه المأمون محمد بن حميد الطوسي إلى بابك لمحاربته على طريق الموصل وتقويته إياه، فأخذ محمد بن حميد يعلى بن مرة ونظراءه من المتغلبة بأذربيجان، فبعث بهم إلى المأمون. وفيها خلع أحمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر العين باليمن. وفيها ولى المأمون محمد بن عبد الحميد المعروف بأبي الرازي اليمن. وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام، وقال: هو أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ، وذلك في شهر ربيع الأول منها. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد. ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من خلع عبد السلام وابن جليس بمصرفي القيسية واليمانية ووثوبهما بها. وفيها مات طلحة بن طاهر بخراسان. وفيها ولى المأمون أخاه أبا إسحاق الشأم ومصر، وولى ابنه العباس بن المأمون الجزيرة والثغور والعواصم، وأمر لكل واحد منهما ومن عبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف دينار. وقيل: إنه لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك. ذكر الخبر عن ولاية غسان بن عباد السند وفيها ولى غسان بن عباد السند. ذكر الخبر عن سبب توليته إياه السند وكان السبب في ذلك - فيما بلغني - أن بشر بن داود بن يزيد خالف المأمون، وجبى الخراج فلم يحمل إلى المأمون شيئًا منه؛ فذكر أن المأمون قال يومًا لأصحابه: أخبروني عن غسان بن عباد؛ فإني أريده لأمر جسيم - وكان قد عزم على أن يوليه السند لما كان من أمر بشر بن داود - فتكلم من حضر، وأطنبوا في مدحه، فنظر المأمون إلى أحمد بن يوسف وهو ساكت، فقال له: ما تقول يا أحمد؟ قال: يا أمير المؤمنين ذاك رجل محاسنه أكثر من مساويه؛ لا تصرف به إلى طبقة إلا انتصف منهم؛ فمهما تخوفت عليه، فإنه لن يأتي أمرًا يعتذر منه؛ لأنه قسم أيامه بين أيام الفضل، فجعل لكل خلق نوية، إذا نظرت في أمرهلم تدر أي حالاته أعجب! إما هداه إليه عقله؛ أم إما اكتسبه بالأدب، قال: لقد مدحته على سوء رأيك فيه! قال: لأنه فيما قلت كما قال الشاعر: كفى شكرًا بما أسديت أني ** مدحتك في الصديق وفي عدائي قال: فأعجب المأمون كلامه.، واسترجح أدبه. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك مقتل محمد بن حميد الطوسي، قتله بابك بهشتادسر، يوم السبت لخمس ليالٍ بقين من شهر ربيع الأول، ورفض عسكره، وقتل جمعًا كثيرًا ممن كان معه. وفيها قتل أبو الرازي باليمن. وفيها قتل عمير بن الوليد الباذغيسي عامل أبي إسحاق بن الرشيد بمصر بالحوف في شهر ربيع الأول، فخرج أبو إسحاق إليها فافتتحها، وظفر بعبد السلام وابن جليس، فقتلهما فضرب المأمون بن الحروري ورده إلى مصر. وفيها خرج بلال الضبابي الشاري، فشخص المأمون إلى العلث، ثم رجع إلى بغداد، فوجه عباسًا ابنه في جماعة من القواد، فيهم علي بن هشام وعجيف وهارون بن محمد بن أبي خالد، فقتل هارون بلالًا. وفيها خرج عبد الله بن طاهر إلى الدينور، فبعث المأمون إليه إسحاق بن إبراهيم ويحيى بن أكثم يخيرانه بين خراسان والجبال وأرمينية وأذربيجان، ومحاربة بابك، فاختار خراسان، وشخص إليها. وفيها تحرك جعفر بن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر، وكان هرب من مصر فرد إليها. وفيها ولى علي بن هشام الجبل وقم وإصبهان وأذربيجان. وحج بالناس في هذه السنة إسحاق بن العباس بن محمد. ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر شخوص المأمون لحرب الروم وفي هذه السنة شخص المأمون من مدينة السلام لغزو الروم، وذلك يوم السبت - لثلاث بقين من المحرم - وقيل كان ارتحاله من الشماسية إلى البردان يوم الخميس بعد صلاة الظهر، لست بقين من المحرم سنة خمس عشرة ومائتين - واستخلف حين رحل عن مدينة السلام عليها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولي مع ذلك السواد وحلوان وكور دجلة. فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله، من المدينة في صفر ليلة الجمعة من هذه السنة، ولقيه بها فأجازه، وأمره أن يدخل بابنته أم الفضل وكان زوجها منه؛ فأدخلت عليه في دار أحمد بن يوسف التي على شاطئ دجلة، فأقام بها، فلما كان أيام الحج خرج بأهله وعياله حتى أتى مكة، ثم أتى منزله بالمدينة؛ ثم سلك المأمون طريق الموصل؛ حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة، ثم خرج منها إلى طرسوس إلى بلاد الروم للنصف من جمادى الأولى. ورحل العباس بن المأمون من ملطية؛ فأقام المأمون على حصن يقال له قرة؛ حتى فتحه عنوة؛ وأمر بهدمه؛ وذلك يوم الأحد لأربع بقين من جمادى الأولى؛ وكان قد افتتح قبل ذلك حصنًا يقال له ماجدة؛ فمن على أهلها. وقيل إن المأمون لما أناخ على قرة، فحارب أهلها وطلبوا الأمان، فآمنهم المأمون، فوجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفًا وجعفرًا الخياط إلى صاحب حصن سنان، فسمع وأطاع. وفي هذه السنة انصرف أبو إسحاق بن الرشيد من مصر. فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه متويل وعباس ابنه برأس العين. وفيها شخص المأمون بعد خروجه من أرض الروم إلى دمشق. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث عود إلى ذكر غزو المأمون أرض الروم فمن ذلك كر المأمون إلى أرض الروم. ذكر السبب في كره إليها اختلف في ذلك، فقيل: كان السبب فيه ورود الخبر على المأمون بقتل ملك الروم قومًا من أهل طرسوس والمصيصة؛ وذلك - فيما ذكر - ألف وستمائة. فلما بلغه ذلك شخص حتى دخل أرض الروم يوم الاثنين لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فلم يزل مقيمًا فيها إلى النصف من شعبان. وقيل: إن سبب ذلك أن توفيل بن ميخائيل كتب إليه، فبدأ بنفسه، فلما ورد الكتاب عليه لم يقرأه، وخرج إلى أرض الروم، فوافاه رسل توفيل بن ميخائيل لأذنة، ووجه بخمسمائة رجل من أسارى المسلمين إليه؛ فلما دخل المأمون أرض الروم، ونزل على أنطيغوا، فخرج أهلها على صلح وصاروا إلى هرقلة، فخرج أهلها إليه على صلح، ووجه أخاه أبا إسحاق، فافتتح ثلاثين حصنًا مطمورة. ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار وقتل وحرق، وأصاب سبيًا ورجع إلى العسكر. ثم خرج المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم ارتحل إلى دمشق. وفي هذه السنة ظهر عبدوس الفهري، فوثب بمن معه على عمال أبي إسحاق، فقتل بعضهم؛ وذلك في شعبان، فشخص المأمون من دمشق يوم الأربعاء لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة إلى مصر. وفيها قدم الأفشين من برقة منصرفًا عنها، فأقام بمصر. وفيها كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا، فبدءوا بذلك في مسجد المدينة والرصافة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بيت من شهر رمضان من هذه السنة، حين قضوا الصلاة، فقاموا قيامًا، فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة. وفيها غضب المأمون على علي بن هشام، فوجه إليه عجيف بن عنبسة وأحمد بن هشام، وأمر بقبض أمواله وسلاحه. وفيها ماتت أم جعفر ببغداد في جمادى الأولى. وفيها قدم غسان بن عباد من السند، وقد استأمن إليه بشر بن داود المهلبي، وأصلح السند، واستعمل عليها عمران بن موسى البرمكي، فقال الشاعر: سيف غسان رونق الحرب فيه ** وسمام الحتوف في ظبتيه فإذا جره إلى بلد السن ** د فألقى المقاد بشر إليه مقسمًا لا يعود ما حج لل ** ه مصل وما رمى جمرتيه غادرًا يخلع الملوك ويغتا ** ل جنودًا تأوي إلى ذروتيه فرجع غسان إلى المأمون، وهرب جعفر بن داود القمي إلى قم، وخلع بها. وفي هذه السنة كان البرد شديد. وحج بالناس - في قول بعضهم - في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. وفي قول بعضهم: حج بهم في هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس؛ وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلدة يدخلها حتى يدخل إلى اليمن، فخرج من دمشق حتى قدم بغداد، فصلى بالناس بها يوم الفطر، فشخص من بغداد يوم الاثنين لليلةٍ خلت من ذي القعدة، وأقام الحج للناس. ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ظفر الأفشين فيها بالبيما؛ وهي من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، قرئ كتاب فتحها لليلة بقيت من شهر ربيع الآخر. وورد المأمون فيها مصرفي المحرم، فأتى بعبدوس الفهري فضرب عنقه، وانصرف إلى الشام ذكر الخبر عن قتل علي وحسين ابني هشام وفيها قتل المأمون ابني هشام عليًا وحسينًا بأذنة في جمادى الأولى. ذكر الخبر عن سبب قتله عليا وكان السبب ذلك، أن المأمون للذي بلغه من سوء سيرته في أهل عمله الذيكان المأمون ولاه - وكان ولاه كور الجبال - وقتله الرجال، وأخذه الأموال؛ فوجه إليه عجيف، فأراد أن يفتك به ويلحق ببابك، فظفر به عجيف، فقدم به على المأمون، فأمر بضرب عنقه فتولى قتله ابن الجليل. وتولى ضرب عنق الحسين محمد بن يوسف ابن أخيه بأذنة، يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى، ثم بعث رأس علي بن هشام إلى بغداد وخراسان، فطيف به، ثم رد إلى الشام والجزيرة فطيف به كورة كورة، فقدم به دمشق في ذي الحجة، ثم ذهب به إلى مصر، ثم ألقي بعد ذلك في البحر. وذكر أن المأمون لما قتل علي بن هشام، أمر أن يكتب رقعة وتعلق على رأسه ليقرأها؛ فكتب: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان دعا علي بن هشام فيمن دعا من أهل خراسان أيام المخلوع، إلى معاونته والقيام بحقه، وكان فيمن أجاب وأسرع الإجابة، وعاون فأحسن المعاونة. فرعى أمير المؤمنين ذلك له واصطنعه، وهو يظن به تقوى الله وطاعته والانتهاء إلى أمر أمير المؤمنين في عمل إن أسند إليه في حسن السيرة وعفاف الطعمة، وبدأه أمير المؤمنين بالافضال عليه، فولاه الأعمال السنية، ووصله بالصلات الجزيلة التي أمر أمير المؤمنين بالنظر في قدرها، فوجدها اكثر من خمسين ألف ألف درهم، فمد يده إلى الخيانة والتضييع لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأقصاه، ثم استقال أمير المؤمنين عثرته فأقاله إياها، وولاه الجبل وأذربيجان وكور أرمينية، ومحاربة أعداء الله الخرمية، على ألا يعود لماكان منه؛ فعاود أكثر ما كان بتقديمه الدينار والدرهم على العمل لله ودينه، وأساء السيرة وعسف الرعية وسفك الدماء المحرمة، فوجه أمير المؤمنين عجيف بن عنفسة مباشرًا لأمره، وداعيًا إلى تلافي ما كان منه؛ فوثب بعجيف يريد قتله، فقوى الله عجيفًا بنيته الصادقة في طاعة أمير المؤمنين؛ حتى دفعه عن نفسه، واو تم ما أراد بعجيف لكان في ذلك ما لا يستدرك ولا يستقال؛ ولكن الله إذا أراد أمرًا كان مفعولأ. فلما أمضى أمير المؤمنين حكم الله في علي بن هشام، رأى ألا يؤاخذ من خلفه بذنبه، فأمر أن يجري لولده ولعياله ولمن اتصل بهم ومن كان يجري عليهم مثل الذي كان جاريًا لهم في حياته؛ ولو لا أن علي بن هشام أراد العظمى بعجيف، لكان في عداد من كان في عسكره ممن خالف وخان، كعيسى بن منصور ونظرائه. والسلام: وفي هذه السنة دخل المأمون أرض الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنها وخلف عليها عجيفًا، فاختدعه أهلها وأسروه؛ فمكث أسيرًا في أيديهم ثمانية أيام، ثم أخرجوه، وصار توفيل إلى لؤلؤة، فأحاط بعجيف، فصرف المأمون الجنود إليه، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان. كتاب توفيل إلى المأمون ورد المأمون عليه وفيها كتب توفيل صاحب الروم إلى المأمون يسأله الصلح، وبدأ بنفسه في كتابه، وقدم بالكتاب الفضل وزير توفيل يطلب الصلح، وعرض الفدية. وكانت نسخة كتاب توفيل إلى المأمون: أما بعد، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما؛ ولست حريًا أن تدع الحظ يصل إلى غيرك حظًا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك؛ وقد كنت كتبت إليك داعيًا إلى المسالمة، راغبًافي فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد وليًا وحزبا؛ مع اتصال المرافق والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطرق والبيضة؛ فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر، ولا أزخرف لك في القول؛ فغني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها؛ شان خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة. والسلام. فكتب إليه المأمون: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة؛ مما استعطفت به؛ من شرح المتاجر واتصال المرافق، وفك الأسارى، ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من أعمال التؤدة والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبله إلا في استصلاح ما أوثره في معتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلًا تحمل رجالًا من أهل البأس والنجدة والبصيرة ينازعونكم عن ثكلكم ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الإمداد، وأبلغ لهم كافيًا من العدة والعتاد، هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرتهم عليكم؛ موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب؛ غير أني رأيت لأن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة؛ من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية؛ فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك، ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول الإغراق في الصفة. والسلام على من اتبع الهدى. وفيها صار المأمون إلى سلغوس. وفيها بعث علي بن عيسى القمي جعفر بن داود القمي فضرب أبو إسحاق بن الرشيد عنقه. وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي. ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من شخوص المأمون من سلغوس إلى الرقة، وقتله بها ابن أخت الداري. وفيها أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه، فضج من ذلك أهلها فأعفاهم. وفيها وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم، وأمره بنزول الطوانة وبنائها، وكان قد وجه الفعلة والفروض، فابتدأ البناء، وبناها ميلًا في ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصنًا؛ وكان توجيهه ابنه العباس في ذلك في أول يوم من جمادى. وكتب إلى أخيه أبي إسحاق بن الرشيد؛ إنه قد فرض على جند دمشق وحمص والأردن وفلسطين أربعة آلاف رجل، وأنه يجري على الفارس مائة درهم، وعلى الراجل أربعين درهمًا، وفرض على مصر فرضًا، وكتب على أهل بغداد وهم ألفا رجل، وخرج بعضهم حتى وافى طوانة ونزلها مع العباس. ذكر خبر المحنة بالقرآن وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة؛ وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك، ونسختة كتابه إليه: أما بعد؛ فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم، والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته. وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله، وعمىً عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به. ونكوبٍ عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصورٍ أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكير والتذكر؛ وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه يخترعه، وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاءً، وللمؤمنين رحمةً وهدىً: " إنا جعلناه قرآنًا عربيًا "، فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور "، وقال عز وجل: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق "، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بها وتلا به متقدمها، وقال: " آلر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير "، وكل محكمٍ مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله؛ فهو خالقه ومبتدعه. ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم، ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم من أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيء آرائهم، تزينًا بذلك عندهم وتصنعًا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نياتهم ويقينهم. وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا، وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم، " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها ". فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة، والمنقوصون من التوحيد حظًا، والمخسوسون من الإيمان نصيبًا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه؛ من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، لا يوثق بقوله ولا عمله؛ فإنه لا عمل له إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده؛ كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلًا. ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته، من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه من رد شهادة الله على كتابه، وبهت حق الله بباطله. فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه؛ فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة. فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده. واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم؛ والأمر لهم بمثل ذلك؛ ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك. إن شاء الله. وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين. وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو سليم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين وزهير بن حرب أبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي؛ فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعًا إن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم. وكان ما فعل من ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون. وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم: أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه والائتمام بعدله في بريته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه - تبارك اسمه وتعالى - بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت نجاحهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم وسبيل فوزهم وعصمتهم ويكشفوا لهم مغطيات أمورهم ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبينة على كافتهم، وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعًا لفنون مصانعهم، ومنتظمًا لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم، ويتذكروا ما الله مرصد من مساءلتهم عما حملوه، ومجازاتهم بما أسلفوه وقدموا عنده، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به. ومما بينه أمير المؤمنين برويته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، وما ينال المسلمين بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إمامًا لهم، وأثرًا من رسول الله ﷺ وصفيه محمد ﷺ باقيًا لهم، واشتباهه على كثير منهم؛ حتى حسن عندهم، وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقًا، فتعرضوا بذلك لدفع خلق الله الذي بان به عن خلقه، وتفرد بجلالته؛ من ابتداع الأشياء كلها بحكمته وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوليته التي لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها؛ وكان كل شيء دونه خلقًا من خلقه، وحدثًا هو المحدث له؛ وإن كان القرآن ناطقًا به ودالًا عليه، وقاطعًا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى في دعائهم في عيسى بن مريم: إنه ليس بمخلوق؛ إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول: " إنا جعلناه قرآنًا عربيًا "، وتأويل ذلك أنا خلقناه كما قال جل جلاله: " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " وقال: " وجعلنا الليل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا "، " وجعلنا من الماء كل شيء حي " فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها في شية الصنعة، وأخبر أنه جاعله وحده، فقال: " بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " فدل ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط إلا بمخلوق، وقال لنبيه ﷺ: " لا تحرك به لسانك لتعجل به " وقال: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " وقال: " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو كذب بآياته " وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم أنهم قالوا: " ما أنزل الله على بشر من شيء " ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى "، فسمى الله تعالى القرآن وذكرًا وإيمانًا ونورًا وهدى ومباركًا وعربيًا وقصصًا، فقال: " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن "، وقال: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن بمثله. وقال: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ". وقال: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " فجعل له أولًا وآخرًا، ودل عليه أنه محدود مخلوق وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به، والاشتباه أولى بخلقه، وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظًا في الدين، ولا نصيبًا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحل أحدًا منهم محل الثقة في أمانة، ولا عدالة ول شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم؛ فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها؛ ومن كان جاهلًا بأمر دينه الذي أمر الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلًا، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلا. فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق القاضي كتاب أمير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصها عن علمهما في القرآن، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن؛ فمن لم يقل منهم إنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكمًا بقوله؛ وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره. وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافًا يزيد الله به ذا البصيرة، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك. إن شاء الله. قال: فأحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين، وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن أبي مقاتل والفضل بن غانم والذيال بن الهيثم وسجادة والقواريري وأحمد بن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بن الجعد وإسحاق بن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بن عبد الرحمن العمري وشيخ آخر من ولد عمر بن الخطاب - كان قاضي الرقة - وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن نوح المضروب وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بن شميل وابن علي بن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فأدخلوا جميعًا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة؛ قال: فقد تجدد من كاتب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء، قال: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قال: فمخلوق؟ قال: ليس بخالق، قال: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك. فأخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأ عليه، ووقفه عليها، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله أحدًا فردًا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنىً من المعاني، ولا وجه من الوجوه، قال: نعم؛ وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب: اكتب ما قال. ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ قال: قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة وما عندي غير ما سمع، فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها، ثم قال: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، قال: لم أسألك عن هذا، قال: هو كلام الله؛ وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: اكتب مقالته. ثم قال للذيال نحوًا من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك. ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سل عما شئت، فقرأ عليه الرقعة ووقفه عليها، فأقر بما فيها، ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، إن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا. قال: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبا حسان مقالته، قال: إن هذه مقالة أمير المؤمنين، قال: قد تكون مقال أمير المؤمنين ولا يؤمر بها الناس ولا يدعوهم إليها؛ وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به؛ فإنك الثقة المأمون فيما أبلغتني عنه من شيء؛ فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه، قال: ما أمرني أن أبلغك شيءًا. قال علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله ﷺ في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها، قال له أبو حسان: ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر، قال: ما أمرني أن آمرك؛ وإنما أن أمتحنك. ثم عاد إلى أحمد بن حنبل فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: هو كلام الله، قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد عليها، فامتحنه بما في الرقعة، فلما أتى على " ليس كمثله شيء "، قال: " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وأمسك عن لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد بن حنبل: ما معنى قوله: " سميع بصير "؟ قال: هو كما وصف نفسه، قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه. ثم دعا بهم رجلًا رجلًا، كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمد بن الحسن وابن علية الأكبر وابن البكاء وعبد المنعم بن إدريس بن بنت وهب بن منبه والمظفر بن مرجأ، ورجلًا ضريرًا ليس من أهل الفقه، ولا يعرف بشيء منه، إلا أنه دس في ذلك الموضع، ورجلًا من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة وابن الأحمر؛ فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: " إنا جعلناه قرآنًا عربيا " والقرآن محدث لقوله: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قال: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول؛ فكتب مقالته. فلما فرغ من امتحان القوم، وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة فلو أمرتهما فأعادوا الكلام! قال له إسحاق: هما ممن يقوم بحجة أمير المؤمنين، فلو أمرتهما أن يسمعانا مقالتهما، لنحكي ذلك عنهما! قال له إسحاق: إن شهدت عندهما بشهادة، فستعلم مقالتهما إن شاء الله. فكتب مقالة القوم رجلًا رجلًا، ووجهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام؛ ثم دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمرهم، ونسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد؛ فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنعه أهل القبلة وملتمسو الرئاسة، فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم وإحلالهم محالهم. تذكر إحضارك جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق عند ورود كتاب أمير المؤمنين مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينسب نفسه للفتيان بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعًا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، وللدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى في السر والعلانية، وتقدمك إلى السندي وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدمت به فيهم إلى القاضيين بمثل ما مثل لك أمير المؤمنين من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمنحهم على ما حده أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت. وأمير المؤمنين يحمد الله كثيرًا كما هو أهله ويسأله أن يصلي على عبده ورسوله محمد ﷺ، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة على صالح نيته برحمته. وقد تدبر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئٍ منهم، وما شرحت من مقالتهم. فأما ما قال المغرور بشر بن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وأدعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين؛ فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه؛ فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قال بمقالته؛ إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح، والشرك المحض عند أمير المؤمنين؛ فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه؛ وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقًا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه؛ إن شاء الله. وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرًا؛ فإنهكان يقول بقوله. وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ؛ فإن قال: إن القرآن مخلوق فأشهر أمره واكشفه؛ وإلا فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه؛ إن شاء الله. وأما علي بن أبي مقاتل، فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلل وتحرم، والمكلم له بمثل ما كلمته به؛ مما لم يذهب عنه ذكره! وأما الذيال بن الهيثم؛ فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله؛ وأنه لو كان مقتفيًا آثار سلفه، وسالكًا مناهجهم، ومحتذيًا سبيلهم لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه. وأما أحمد بن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه، جاهل، وأنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك؛ إن شاء الله. وأما أحمد بن حنبل وما تكتب عنه؛ فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها، واستدل على جهله وآفته بها. وأما الفضل بن غانم؛ فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب بن عبد الله في ذلك؛ فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعًا فيهما، وإيثارًا لعاجل نفعهما، وأنه مع ذلك القائل لعلي بن هشام ما قال، والمخالف له فيما خالفه فيه؛ فما الذي حال به عن ذلك ونقله إلى غيره! وأما الزيادي، فأعلمه أنه كان منتحلًا، ولا كأول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله ﷺ، وكان جديرًا أن يسلك مسلكه، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد أو يكون مولى لأحد من الناس؛ وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور. وأما المعروف بأبي نصر التمار؛ فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره. وأما الفضل بن الفرخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بن إسحاق وغيره تربصًا بمن استودعه، وطمعًا في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بن إسحاق: لا جزاك الله خيرًا عن تقويتك مثل هذا واتمانك إياه، وهو معتقد للشرك منسلخ من التوحيد. وأما محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر؛ فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لأربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم قد جمعوا مع الإرباء شركًا، وصار للنصارى مثلًا! وأما أحمد بن شجاع؛ فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام؛ وأنه ممن الدينار والدرهم دينه. وأما سعدويه الواسطي، فقل له: قبح الله رجلًا بلغ به التصنع للحديث، والتزين به، الحرص على طلب الرئاسة فيه؛ أن يتمنى وقت المحنة، فيقول بالتقرب بها متى يمتحن، فيجلس للحديث! وأما المعروف بسجادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث وأهل الفقه القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن أبي يوسف ومحمد بن الحسن يقولانه؛ إن كان شاهدهما وجالسهما. وأما القواريري؛ ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات، ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه؛ وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بن عيسى الحسني مسائله، فتقدم إلى جعفر بن عيسى في رفضه، وترك الثقة به والاستنامة إليه. وأما يحيى بن عبد الرحمن العمري؛ فإن كان من ولد عمر بن الخطاب، فجوابه معروف. وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم، فإنه لو كان مقتديًا بمن مضى من سلفه، لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي يحتاج إلى تعلم. وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته بالقرآن، فحجم عنها ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميمًا، فأنصصه عن إقراره؛ فإن كان مقيمًا عليه فأشهر ذلك وأظهره؛ إن شاء الله. ومن لم يرجع عن شركه سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا؛ ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم؛ حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه، لينصهم أمير المؤمنين؛ فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعًا على السيف، إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله. وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية؛ ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية، معجلًا به، تقربًا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل من جزيل ثواب الله عليه؛ فأنفذ لما أتاك من أمير المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرف أمير المؤمنين ما يعلمونه إن شاء الله. وكتب سنة ثمان عشرة ومائتين. فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر؛ منهم أحمد بن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بن نوح المضروب. فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدوا في الحديد؛ فلما كان من الغد دعا بهم جميعًا يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم؛ فلما كان من الغد عاودهم أيضًا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما، ولم يرجعا، فشدا جميعًا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب معهما كتابًا بإشخاصهما، وكتب كتابًا مفردًا بتأويل القوم فيما أجابوا إليه فمكثوا أيامًا، ثم دعا بهم فإذا كتاب قد ورد من المأمون على إسحاق بن إبراهيم، أن قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وذكر سليمان بن يعقوب صاحب الخبر أن بشر بن الوليد تأول الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر: " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " وقد أخطأ التأويل؛ إنما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقد الإيمان، مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان؛ فليس هذه له. فأشخصهم جميعًا إلى طرسوس؛ ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الروم. فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا العسكر بطرسوس؛ فأشخص أبا حسان وبشر بن الوليد والفضل بن غانم وعلي بن أبي مقاتل والذيال بن الهيثم ويحيى بن عبد الرحمن العمري وعلي بن الجعد وأبا العوام وسجادة والقواريري وابن الحسن بن علي بن عاصم وإسحاق بن أبي إسرائيل والنضر بنشميل وأبا نصر التمار وسعدويه الواسطي ومحمد بن حاتم بن ميمون وأبا معمر وابن الهرش وابن الفرخان وأحمد بن شجاع وأبا هارون بن البكاء. فلما صاروا إلى الرقة بلغتهم وفاة المأمون؛ فأمر بهم عنبسة بن إسحاق - وهو والي الرقة، ثم أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السلام مع الرسول المتوجه بهم إلى أمير المؤمنين، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثم رخص لهم بعد ذلك في الخروج، فأما بشر بن الوليد والذيال وأبو العوام وعلي بن أبي مقاتل؛ فإنهم شخصوا من غير أن يؤذن لهم حتى قدموا بغداد، فلقوا إسحاق بن إبراهيم في ذلك أذى، وقدم الآخرون مع رسول إسحاق بن إبراهيم؛ فخلى سبيلهم. كتب المأمون إلى عماله ووصيته في كتبه وفي هذه السنة نفذت كتب المأمون إلى عماله في البلدان: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. وقيل إن ذلك لم يكتبه المأمون كذلك؛ وإنما كتب في حال إفاقة من غشية أصابته في مرضه بالبدندون، عن أمر المأمون إلى العباس بن المأمون وإلى إسحاق وعبد الله بن طاهر؛ أنه إن حدث به حدث الموت في مرضه هذا، فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. فكتب بذلك محمد بن داود، وختم الكتب وأنفذها. فكتب أبو إسحاق إلى عماله: من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين. فورد كتاب من أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ عامله على جند دمشق يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، عنوانه: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد: أما بعد؛ فإن أمير المؤمنين أمر بالكتاب إليك في التقدم إلى عمالك في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل عمالك، في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك. وكتب إلى جميع عماله في أجناد الشام؛ جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك؛ فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب صلى الجمعة إسحاق بن يحيى بن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: اللهم أصلح الأمير أخا المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبا إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد. ذكر الخبر عن وفاة المأمون وفي هذه السنة توفي المأمون. ذكر الخبر عن سبب المرض الذي كانت فيه وفاته ذكر عن سعيد العلاف القارئ، قال: أرسل المأمون وهو ببلاد الروم - وكان دخلها من طرسوس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة - فحملت إليه وهو في البدندون، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه، فأمرني فجلست نحوه منه؛ فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه؛ فهل رأيت ماء قط أشد بردًا، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قال: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ؛ فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على إعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الألطاف رطب؟ فانظره فإن كان آزاذ فأت به؛ فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة؛ فأظهر شكرًا لله تعالى؛ وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعًا من ذلك الماء؛ فما قام منا أحد إلا وهو محموم؛ فكانت منية المأمون من تلك العلة؛ ولم يزل المعتصم عليلًا حتى دخل العراق، ولم أزل عليلًا حتى كان قريبًا. ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر أبي إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أيامًا، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق. وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته: هذا ما أشهد عليه عبد الله بن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره؛ وأشهدهم جميعًا على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في مكة، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئًا له مثل؛ ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وأن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء النار، وأن محمدًا ﷺ قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته؛ حتى قبضه الله إليه صلى الله عليه أفضل صلاة صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وأني مقر مذنب، أرجو وأخاف؛ إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني؛ ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد؛ إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي؛ فإذا أنتم وضعتموني للصلاة؛ فليتقدم بها من هو أقربكم بي نسبًا، وأكبركم سنًا، فليكبر خمسًا، يبدأ في الأولى في أولها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على سيدي وسيد المرسلين جميعًا، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات؛ الأحياء منهم والأموات، ثم الدعاء للذين سبقونا بالإيمان، ثم ليكبر الرابعة، فيحمد الله ويهلله ويكبره ويسلم في الخامسة، ثم أقلوني فأبلغوا بي حفرتي، ثم لينزل أقربكم إلي قرابةً، وأودكم محبة، وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة، وحلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا للحد باللبن، واحثوا ترابًا علي، واخرجوا عني وخلوني وعملي؛ فكلكم لا يغني عني شيئًا، ولا يدفع عني مكروهًا، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرًا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شرٍ إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون وما تلفظون به، ولا تدعوا باكية عندي، فإن المعول عليه يعذب. رحم الله امرأ اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء. ثم لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة؛ هل أغنى ذلك عني شيئًا إذ جاء أمر الله! لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرًا، بل ليته لم يكن خلقًا! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه؛ ولا تغتر بالله ومهلته؛ فكأن قد نزل بك الموت. ولا تغفل أمر الرعية. الرعية الرعية! العوام العوام! فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم. الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين! ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأتهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت. والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة؛ فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجيًا ثواب الله عليه. واعلم أن العظة إذا طالت أوجبت على السامع لها والموصي بها الحجة؛ فاتق الله في أمرك كله، ولا تفتن. ثم دعا أبا إسحاق بعد ساعة حين اشتد به الوجع، وأحس بمجيء أمر الله فقال له: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسول الله ﷺ لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته؛ إذ أنا نقلتها من غيرك إليك؟ قال: اللهم نعم، قال: فانظر من كنت تسمعني أقدامه على لساني فأضعف له التقدمة؛ عبد الله بن طاهر أقره على عمله ولا تهجه، فقد عرفت الذي سلف منكما أيام حياتي وبحضرتي، استعطفه بقلبك، وخصه ببرك، فقد عرفت بلاءه وغناءه عن أخيك. وإسحاق بن إبراهيم فأشركه في ذلك؛ فإنه أهل له. وأهل بيتك، فقد علمت أنه لا بقية فيهم وإن كان بعضهم يظهر الصيانة لنفسه. عبد الوهاب عليك به من بين أهلك، فقدمه عليهم، وصير أمرهم إليه. وأبو عبد الله بن أبي داود فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك؛ فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدي وزيرًا تلقي إليه شيئًا؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته! قاليًا له غير راضٍ بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيرًا! وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى. اتقوا الله ربكم حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. اتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلها. أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله مما سلف، وأستغفر الله مما كان مني، إنه كان غفارًا، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمها، وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله حسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة! ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مدة خلافته قال أبو جعفر: وأما وقت وفاته، فإنه اختلف فيه، فقال بعضهم: توفي يوم الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر سنة ثمان عشرة ومائتين. وقال آخرون: بل توفي في هذا اليوم مع الظهر، ولما توفي حمله ابنه العباس وأخوه أبو إسحاق محمد بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ثم وكلوا به حرسًا من أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل، وأجري على كل رجلٍ منهم تسعون درهمًا. وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا، وذلك سوى سنتين كان دعي له فيهما بمكة وأخوه الأمين محمد بن الرشيد محصور ببغداد. وكان يكنى - فيما ذكر ابن الكلبي - أبا العباس. وكان ربعة أبيض جميلًا، طويل اللحية، وقد وخطه الشيب. وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أحنى أعين طويل اللحية رقيقها، أشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود. واستخلف يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم. ذكر بعض أخبار المأمون وسيره ذكر عن محمد بن الهيثم بن عدي، أن إبراهيم بن عيسى بن بريهة بن المنصور، قال: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلامًا، مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه! إن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله، له الحمد كثيرًا عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها بشكر الله وشكر أمير المؤمنين، مد الله في عمره عليها. وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين أيده الله أني لا أرغب بنفسي عن خدمته أيده الله بشيء من الخفض والدعة؛ إذ كان هو أيده الله يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا، لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته ومعرفة ما أوجب الله من حقه؛ فإن رأى أمير المؤمنين أكرمه الله أن يكرمني بلزوم خدمته، والكينونة معه فعل. فقال لي مبتدئًا من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدًا من أهل بيتك بدأ بك؛ وكنت المقدم عنده في ذلك؛ ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه؛ وإن ترك ذلك فمن غير قلًا لمكانك؛ ولكن بالحاجة إليك. قال: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي. وذكر عن محمد بن علي بن صالح السرخسي، قال: تعرض رجل للمأمون بالشأم مرارًا، فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشأم كما نظرت لعجم أهل خراسان! فقال: أكثرت علي يا أخا أهل الشأم؛ والله ما أنزلت قيسًا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد؛ وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط؛ وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريًا، اعزب فعل الله بك! وذكر عن سعيد بن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قال له: أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لكم، قال: فأريته، قال: فقال: إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قال: فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو، قال: فقال: ما أشك أن النبي ﷺ عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدًا عقده رسول الله ﷺ. ثم قال للواثق: خذ فضعه على عينيك؛ لعل الله يشفيك. قال: وجعل المأمون يضعه على عينه ويبكي. وذكر عن العيثي صاحب إسحاق بن إبراهيم، أنه قال: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه. قال: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما يتولاه له، قال: فلما ورد عليه ذلك المال، قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قال: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه؛ وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أبا عره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها. قال: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك، فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم، وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم! إنا إذًا للئام. ثم دعا محمد بن يزداد، فقال له: وقع لأل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلها، ولآل فلان بمثلها. قال: فوالله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا. قال العيشي: فجئت حتى قمت نصب عينيه. فلم أرد طرفي عنها، لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال. فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من الستة الآلاف ألف؛ لا يختلس ناظري. قال: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال. وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان؛ أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعرًا ظريفًا خبيثًا منكرًا؛ وكنت أنا والي البصرة، آنس به وأستحليه؛ فأردت أن أخدعه وأستنزله، فقلت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف؛ فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيبًا فارهًا ونفقة سابغة، وتخرج إليه وقد امتدحته؛ فإنك إن حظيت بلقائه، صرت إلى أمنيتك. قال: والله أيها الأمير ما إخالك أبعدت؛ فأعد لي ما ذكرت. قال: فدعوت له بنجيب فاره، فقلت: شأنك به فامتطه؛ قال: هذه إحدى الحسنيين، فما بال الأخرى! فدعوت له بثلثمائة درهم، وقلت: هذه نفقتك؛ قال: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا هي كافية، وإن قصرت عن السرف. قال: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفًا حتى تراه في أصاغرها! فأخذ النجيب والنفقة، ثم عمل أرجوزة ليست بالطويلة، فأنشد فيها وحذف منها ذكري والثناء علي - وكان ماردًا - فقلت له: ما صنعت شيئًا. قال: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خداعًا، ولمثلها ضرب هذا المثل: " من ينك العير ينك نياكًا "؛ أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك، ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل؛ ولكن لأذكرك في شعري وأمدحك عند الخليفة، أفهم هذا. قلت: قد صدقت، فقال: أما إذا أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك، وأثنيت عليك، فقلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت؛ ثم ودعني وخرج فأتى الشام؛ وإذا المأمون بسلغوس. قال: بينا أنا في غزاةٍ قرة، قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي، وأنا أروم العسكر؛ فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره، ولا يدرك خطاه. قال: فتلقاني مكافحة ومواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم - بكلام جهوري ولسان بسيط - فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: قف إن شئت، فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك والأذفر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر، قال: ونحن من مضر، ثم قال: ثم ماذا؟ قلت: رجل من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: هيه، فما أقدمك هذا البلد؟ قال: قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعًا، ولا أمد يفاعًا منه. قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين، قال: فأنشدنيه، فغضبت وقلت: يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته، ومديح حبرته، تقول: أنشدنيه! قال: فتغافل والله عنها، وتطأمن لها، وألغى عن جوابها، قال: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قال: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدًا والكلام عذبًا وأضع عنك العناء، وطول الترداد؛ ومتى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامحٍ ونابل! قلت: فلي الله عليك أن تفعل! قال: نعم لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قال: هذا بغلي وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قال: فغضبت أيضًا وعارضني نزق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب! قال: فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قال: فأنشدته: مأمون يا ذا المنن الشريفه ** وصاحب المرتبة المنيفه وقائد الكتيبة الكثيفة ** هل لك في أرجوزة ظريفه أظرف من فقه أبي حنيفه ** لا والذي أنت له خليفه ما ظلمت في أرضنا ضعيفه ** أميرنا مؤنته خفيفه وما اجتبى شيئًا سوى الوظيفه ** فالذئب والنعجة في سقيفه واللص والتاجر في قطيفه قال: فوالله ما عدا أن أنشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! قال: فأخذني أفكل، ونظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أتعرف لغات العرب؟ قال: أي لعمرالله، قلت: فمن جعل الكاف منهم مكان القاف؟ قال: هذه حمير، قلت: لعنها الله، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم! فضحك المأمون، وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه، فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيسًا فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال: هاك، ثم قال: السلام عليك؛ ومضى فكان آخر العهد به. وقال أبو سعيد المخزومي: هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ** مون شيئًا أو ملكه المأسوس خلفوه بعرصتي طرسوس ** مثل ما خلفوا أباه بطوس وقال علي بن عبيدة الريحاني: ما أقل الدموع للمأمون ** لست أرضى إلا دمًا من جفوني وذكر أبو موسى هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي أن علي بن صالح حدثه، قال: قال لي المأمون يومًا: أبغني رجلًا من أهل الشام، له أدب يجالسني ويحدثني، فالتمست ذلك فوجدته، فدعوته فقلت له: إني مدخلك على أمير المؤمنين، فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك، فإني أعرف الناس بمسألتهم يا أهل الشأم، فقال: ما كنت متجاوزًا ما أمرتني به. فدخلت على المأمون، فقلت له: قد أصبت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال: أدخله، فدخل فسلم، ثم استدناه - وكان المأمون على شغله من الشراب - فقال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثتي، فقال الشأمي: يا أمير المؤمنين، إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة، قال: فأمر المأمون أن يخلع عليه؛ قال: فدخلني من ذلك ما الله به أعلم، قال: فلما خلع عليه، ورجع إلى مجلسه، قال: يا أمير المؤمنين؛ إن قلبي إذا كان متعلقًا بعيالي لم تنتفع بمحادثتي، قال: خمسون ألفًا تحمل إلى منزله، ثمقال: يا أمير المؤمنين، وثالثة، قال: وما هي؟ قال: قد دعوت بشيء يحول بين المرء وعقله؛ فإن كانت مني هنة فاغتفرها، قال: وذاك! قال علي: فكأن الثالثة جلت عني ما كان بي. وذكر أبو حشيشة محمد بن علي بن أمية بن عمرو، قال: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق، فغنى علويه: برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ** أتاك به الواشون عني كما قالوا ولكنهم لما رأوك سريعةً ** إلي، تواصوا بالنميمة واحتالوا فقال: يا علويه، لمن هذا اشعر؟ فقال: للقاضي، قال: أي قاض ويحك! قال: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قال: قد عزلته، قال: فيحضر الساعة. قال: فأحضر شيخ مخضوب وقصير؛ فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان بن فلان الفلاني، قال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله. فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فأنشده، فقال: هذا الشعر لك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قال الشعر منذ ثلاثون سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحق اعزله؛ فما كنت أولي رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام. ثم قال: اسقوه؛ فأتي بقدح فيه شراب، فأخذه وهو يرتعد، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذقته قط، قال: فلعلك تريد غيره! قال: لم أذق منه شيئًا قط، قال: فحام هو؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أولى لك! بها نجوت، اخرج. ثم قال: يا علويه، لا تقل: " برئت من الإسلام "، ولكن قل: حرمت مناي منك إن كان ذا الذي ** أتاك به الواشون عني كما قالوا قال: وكنا مع المأمون بدمشق، فركب يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، فاستحسن المأمون الموضع، فدعا ببزماورد ورطل، وذكر بني أميه، فوضع منهم وتنقصهم؛ فأقبل علويه على العود، واندفع يغني: أولئك قومي بعد عز وثروةٍ ** تفانوا فإلا أذرف العين أكمدا فضرب المأمون الطعام برجله، ووثب وقال لعلويه: يابن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت! فقال: مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام؛ وأنا عندكم أموت من الجوع! فغضب عليه عشرين يومًا، ثم رضي عنه. قال: وزرياب مولى المهدي، صار إلى الشأم ثم صار إلى المغرب، إلى بني أمية هناك. وذكر السليطي أبو علي، عن عمارة بن عقيل، قال: أنشدت المأمون قصيدةً فيها مديح له، هي مائة بيت؛ فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين؛ ما سمعها مني أحد قط، قال: هكذا ينبغي أن يكون؛ ثم أقبل علي، فقال لي: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن العباس قصيدته التي يقول فيها: تشط غدًا دار جيراننا فقال ابن العباس: وللدار بعد غد أبعد حتى أنشده القصيدة، يقفيها ابن عباس! ثم قال: أنا ابن ذاك. وذكر عن أبي مروان كازر بن هارون، أنه قال: قال المأمون: بعثتك مرتادًا ففزت بنظرةٍ ** وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا فناجيت من أهوى وكنت مباعدًا ** فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى! أرى أثرًا منه بعينك بينًا ** لقد أخذت عيناك من عينه حسنا قال أبو مروان: وإنما عول المأمون في قوله في هذا المعنى على قول العباس ابن أحنف، فإنه اخترع: إن تشق عيني بها فقد سعدت ** عين رسولي، وفزت بالخبر وكلما جاءني الرسول لها ** رددت عمدًا في طرفه نظري تظهر في وجهه محاسنها ** قد أثرت فيه أحسن الأثر خذ مقلتي يا رسول عاريةً ** فانظر بها واحتكم على بصري قال أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يومًا، فصرت إليه، فألفيته مطرقًا مفكرًا، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال؛ فرفع رأسه؛ فنظر إلي وأشار بيده؛ أن ادن، فدنوت ثم أطرق مليًا، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق؛ شأن النفس الملل وحب الاستطراف؛ تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قال: وما هو؟ قلت: لا يصلح النفس إذ كانت مقسمةً ** إلا التنقل من حالٍ إلى حال وذكر عن أبي نزار الضرير الشاعر أنه قال: قال لي علي بن جبلة: قلت لحميد بن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض؛ فاذكرني له، فقال: أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق؛ فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابًا بمديحه؛ وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بن عيسى؛ فإن كان الذي قال فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه، وإن كان الذي قال فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه. فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل. قال علي بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ قلت: الإقالة أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قال حميد: فقلت لعلي بن جبلة: إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قال: إلى قولي في أبي دلف: إنما الدنيا أبو دلفٍ ** بين مغزاه ومحتضره فإذا ولي أبو دلفٍ ** ولت الدنيا على أثره وإلى قولي فيك: لولا حميد لم يكن ** حسب يعد ولا نسب يا واحد العرب الذي ** عزت بعزته العرب قال: فأطرق حميد ساعة، ثم قال: يا أبا الحسن، لقد انتقد عليك أمير المؤمنين. وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملان وخلعة وخادم، وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك منهما في ستر لم يعلم به أحد إلى أنحدثتك يا أبا نزار بهذا. قال أبو نزار: وظننت أن المأمون تعقد عليه هذا البيت في أبي دلف: تحدر ماء الجود من صلب آدمٍ ** فأثبته الرحمن في صلب قاسم وذكر عن سليمان بن رزين الخزاعي، ابن أخي دعبل، فقال: هجا دعبل المأمون، فقال: ويسومني المأمون خطة عارفٍ ** أو ما رأى بالأمس رأس محمد يوفي على هام الخلائف مثل ما ** يوف الجبال على رءوس القردد ويحل في أكناف كل ممنعٍ ** حتى يذلل شاهقًا لم يصعد إن التراث مسهد طلابها ** فاكفف لعابك عن لعاب الأسود فقيل للمأمون: إن دعبلًا هجاك، فقال: هو يهجو أبا عباد لا يهجوني. يريد حدة أبي عباد، وكان أبو عباد إذا دخل على المأمون كثيرًا ما يضحك المأمون، ويقول له: ما أراد دعبل منك حين يقول: وكأنه من دير هزقل مفلت ** حرد يجر سلاسل الأقياد وكان المأمون يقول لإبراهيم بن شكلة إذا دخل عليه: لقد أوجعك دعبل حين يقول: إن كان إبراهيم مضطلعًا بها ** فلتصلحن من بعده لمخارق ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ ** ولتصلحن من بعده للمارق أنى يكون ولا يكون ولم يكن ** لينال ذلك فاسق عن فاسق! وذكر محمد بن الهيثم الطائي أن أبا القاسم بن محمد الطيفوري حدثه، قال: شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته، ودينًا لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني. قال: فرم لنفسك أمرًا تنال به نفعًا فقال: لك منادمون فيهم من إن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قال: فإذا حضروا وحضرت فمر فلانًا الخادم أن يوصل إليك رقعتي؛ فإذا قرأتها، فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر؛ ولكن اختر لنفسك من أحببت. قال: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم، أتى الباب، فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها إلى المأمون، فقرأها فإذا فيها: يا خير إخواني وأصحابي ** هذا الطفيلي لدى الباب خبر ان القوم في لذةٍ ** يصبو إليها كل أواب فصيروني واحدًا منكم ** أو أخرجوا لي بعض أترابي قال: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحال. فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت تنادمه، فقال: ما أرى لنفسي اختيارًا غير عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: لقد وقع اختياره عليك، فصر إليه، قال: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك طفيلي! قال: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين؛ فإن أحببت أن تخرج، وإلا فافتد نفسك، قال: فقال: يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم، قال: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قال: فلم يزل يزيده عشرة عشرة، والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ المائة ألف. قال: فقال له المأمون: فعجلها له، قال: فكتب له بها إلى وكيله، ووجه معه رسولًا، فأرسل إليه المأمون: قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، وأنفع عاقبة. وذكر عن محمد بن عبد الله صاحب المراكب قال: أخبرني أبي عن صالح بن الرشيد، قال: دخلت على المأمون، ومعي بيتان للحسين بن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين، قال: أنشدهما، قال: فأنشده صالح: حمدنا الله شكرًا إذ حبانا ** بنصرك يا أمير المؤمنينا فأنت خليفة الرحمن حقًا ** جمعت سماحةً وجمعت دينا فاستحسنهما المأمون، وقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ قلت: لعبدك يا أمير المؤمنين الحسين بن الضحاك، قال: قد أحسن، قلت: وله يا أمير المؤمنين ما هو أجود من هذا، قال: وماهو؟ فأنشدته: أيبخل فرد الحسن فرد صفاته ** علي، وقد أفردته بهوىً فرد! رأى الله عبد الله خير عباده ** فملكه والله أعلم بالعبد وذكر عن عمارة بن عقيل، أنه قال: قال لي عبد الله بن أبي السمط: علمت أن المأمون لا يبصر الشعر، قال: قلت: ومن ذا يكون أعلم منه! فوالله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال: أنشدته بيتًا أجدت فيه، فلم أره تحرك له، قال: قلت: وما الذي أنشدته؟ قال: أنشدته: أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلًا ** بالدين والناس بالدنيا مشاغيل قال: فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئًا، وهل زدت على أن جعلته عجوزًا في محرابها، في يدها سبحتها! فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها، وهو المطوق بها! هلا قلت فيه كما قال عمك جرير في عبد العزيز بن الوليد: فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ** ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله فقال: الآن علمت أني قد أخطأت. وذكر عن محمد بن إبراهيم السياري قال: لما قدم العتابي على المأمون مدينة السلام أذن له، فدخل عليه، وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصلي - وكان شيخًا جليلًا - فسلم عليه، فرد السلام، وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، فأقبل عليه يسائله عن حاله، فجعل يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك. فأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإبساس قبل الإيناس قال: فاشتبه على المأمون الإبساس، فنظر إلى إسحاق بن إبراهيم، ثم قال: نعم، يا غلام ألف دينار؛ فأتى بها، ثم صبت بين يدي العتابي، ثم أخذوا في المفاوضة والحديث، وغمز عليه إسحاق بن إبراهيم، فأقبل لا يأخذ العتابي بشيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فبقي متعجبًا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إيذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، قال: نعم، سله، قال: ياشيخ، من أنت؟ وما اسمك؟ قال: أنا من الناس، واسمي كل بصل، قال: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقل إنصافك! وما كل ثوم من الأسماء! البصل أطيب من الثوم، فقال العتابي: لله درك! ما أحجك! يا أمير المؤمنين، ما رأيت كالشيخ قط، أتأذن لي في صلته بما وصلني به أمير المؤمنين؛ فقد والله غلبني! فقال المأمون: بل هذا موفر عليك؛ ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: أما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال: والله ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره في العراق؛ ويعرف بابن الموصلي! قال: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: وأما إذا اتفقتما على الصلح والمودة، فقوما فانصرفا متنادمين؛ فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده. وذكر عن محمد بن عبد الله بن جشم الربعي أن عمارة بن عقيل قال: قال لي المأمون يومًا وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قال: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قال: كيف قلت: قالت مفداة لما أن رأت أرقي ** والهم يعتادني من طيفه لمم نهبت مالك في الأدنين آصرةً ** وفي الأباعد حتى حفك العدم فاطلب إليهم ترى ما كنت من حسنٍ ** تسدي إليهم فقد باتت لهم صرم فقلت عذلك قد أكثرت لائمتي ** ولم يمت حاتم هزلًا ولا هرم فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بن سنان سيد العرب وحاتم الطائي! فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال علي بفضلهما، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب. وذكر عن محمد بن زكرياء بن ميمون الفرغاني، قال: قال المأمون لمحمد بن الجهم: أنشدني ثلاثة أبيات في المديح والهجاء والمراثي؛ ولك بكل بيت كورة، فأنشده في المديح: يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود وأنشده في الهجاء: قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ** حسنت مناظرهم لقبح المخبر وأنشده في المراثي: أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ** فطيب تراب القبر دل على القبر وذكر عن العباس بن أحمد بن أبان بن القاسم الكاتب، قال: أخبرني الحسين بن الضحاك، قال: قال لي علويه: أخبرك أنه مر بي مرة ما أيست من نفسي معه لولا كرم المأمون؛ فإنه دعا بنا؛ فلما أخذ فيه النبيذ؛ قال: غنوني، فسبقني مخارق، فاندفع فغنى صوتًا لابن سريج في شعر جرير: لما تذكرت بالديرين أرقني ** صوت الدجاج وضرب بالنواقيس فقلت للركب إذ جد المسير بنا ** يا بعد يبرين من باب الفراديس! قال: فحين لي أن غنيت، وكان قد هم بالخروج إلى دمشق يريد الثغر: الحين ساق إلى دمشق وما ** كانت دمشق لأهلها بلدا فضرب بالقدح الأرض، وقال: ما لك! عليك لعنة الله. ثم قال: يا غلام، أعط مخارقًا ثلاثة آلاف درهم؛ وأخذ بيدي فأقمت وعيناه تدمعان، وهو يقول للمعتصم: هو والله آخر خروج، ولا أحسبني أن أرى العراق أبدًا، فكان والله آخر عهده بالعراق عند خروجه كما قال. خلافة أبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق المعتصم محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بالخلافة؛ وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين. وذكر أن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعة العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك. ذكر أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي؛ وسلمت الخلافة إليه؛ فسكن الجند. وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وأحرق ما لم يقد على حمله؛ وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم. وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها - فيما ذكر - يوم السبت مستهل شهر رمضان. وفيها دخل - فيما ذكر - جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجانقذق في دين الخرمية، وتجمعوا، فعسكروا في عمل همذان؛ فوجه المعتصم إليهم عساكر؛ فكان آخر عسكر وجه إليهم عسكر وجهه مع إسحاق بن إبراهيم بم مصعب، وعقد له على الجبال في شوال في هذه السنة، فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفًا، وهرب باقيهم إلى بلاد الروم. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد، وضحى أهل مكة يوم الجمعة، وأهل بغداد يوم السبت. المقدمة ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة ثم دخلت سنة تسعا وأربعين ومائة ثم دخلت سنة خمسين ومائة ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائة ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائة ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائة ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة ثم دخلت سنة ستين ومائة ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة ثم دخلت سنة ست وستين ومائة ثم دخلت سنة سبع وستين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائة ثم دخلت سنة تسع وستين ومائة ثم دخلت سنة سبعين ومائة ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين ومائة ثم دخلت سنة أربع وسبعين ومائة ثم دخلت سنة خمس وسبعين ومائة ثم دخلت سنة ست وسبعين ومائة ثم دخلت سنة سبع وسبعين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائة ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائة ثم دخلت سنة ثمانين ومائة ثم دخلت سنة إحدى وثمانين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة ثم دخلت سنة تسعون ومائة ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائة ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائة ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائة ثم دخلت سنة يبع وتسعين ومائة ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة ثم دخلت سنة مائتين ثم دخلت سنة إحدى ومائتين ثم دخلت سنة اثنتين ومائتين ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين ثم دخلت سنة أربع ومائتين ثم دخلت سنة خمس ومائتين ثم دخلت سنة ست ومائتين ثم دخلت سنة سبع ومائتين ثم دخلت سنة ثمان ومائتين ثم دخلت سنة تسع ومائتين ثم دخلت سنة عشر ومائتين ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين ثم دخلت سنة ثلاث عشرة ومائتين ثم دخلت سنة أربع عشرة ومائتين ثم دخلت سنة خمس عشرة ومائتين ثم دخلت سنة ست عشرة ومائتين ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين ========================================= ج9.................. المحتويات تاريخ الطبري/والجزء التاسع تاريخ الرسل والملوك للطبري بسم الله الرحمن الرحيم ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوي فمن ذلك ما كان من ظهور محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالطالقان من خراسان، يدعو إلى الرضا من آل محمد ﷺ؛ فاجتمع إليه بها ناس كثير؛ وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن ظاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالها فهزم هو وأصحابه فخرج هاربًا يريد بعض كور خراسان، كان أهله كاتبوه؛ فلما صار بنساء وبها والد لبعض من معه، مضى الرجل الذي معه من أهل نسا إلى والده ليسلم عليه، فلما لقي أباه سأله عن الخبر، فأخبره بأمرهم، وانهم يقصدون كورة كذا، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا، فأخبره بأمر محمد بن القاسم؛ فذكر أن العالم بذل له عشرة آلاف درهم على دلالته عليه فدله عليه، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم، فأخذه فاستوثق منه؛ وبعث به إلى عبد الله بن طاهر، فبعث به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم فقدم به عليه يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، فحبس - فيما ذكر - بسامرا عند مسرور الخادم الكبير في محبس ضيق، يكون قدر ثلاث أذرع في ذراعين فمكث فيه ثلاثة أيام، ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك، وأجرى عليه طعام، ووكل به قوم يحفظونه، فلما كان ليلة الفطر، واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج، وذكر أنه هرب من الحبس بالليل، دلى إليه حبل من كوةٍ كانت في أعلى البيت، يدخل عليها منها الضوء؛ فلما أصبحوا أتوا بالطعام للغداء افتقد فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم وصاح بذلك الصائح، فلم يعرف له خبر. وفي هذه السنة قدم إسحاق بن إبراهيم بغداد من الجبل، يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، ومعه الأسرى من الخرمية والمستأمنة وقيل: إن إسحاق بن إبراهيم قتل منهم في محابته إياهم نحوًا من مائة ألف سوى النساء والصبيان. ذكر الخبر عن محاربة الزط وفي هذه السنة وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة منها لحرب الزط الذين كانوا قد عاثوا في طريق البصرة فقطعوا فيه الطريق، واحتملوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيل، ورتب الخيل في كل سكة من سكك البرد تركض بالأخبار، فكان الخبر يخرج من عند عجيف، فيصل إلى المعتصم من يومه؛ وكان الذي يتولى النفقة على عجيف من قبل المعتصم محمد بن منصور كاتب إبراهيم بن البختري؛ فلما صار عجيف إلى واسط، ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها الصافية في خمسة آلاف رجل، وصار عجيف إلى نهر يحمل من دجلة يقال له بردودًا؛ فلم يزل مقيمًا عليه حتى سده. وقيل إن عجيفًا نما ضرب عسكره بقرية أسفل واسط يقال لها نجيدًا، ووجه هارون بن نعيم ابن الوضاح القائد الخراساني إلى موضع يقال له الصافية في خمسة آلاف رجل؛ ومضى عجيف في خمسة آلاف بردودًا فأقام عليه حتى سده وسد أنهارًا أخر كانوا يدخلون منها ويخرجون، فحصرهم من كل وجه؛ وكان من الأنهار التي سدها عجيف، نهر يقال له العروس؛ فلما أخذ عليهم طرقهم حاربهم، وأسر منهم خمسمائة رجل، وقتل منهم في المعركة ثلثمائة رجل، فضرب أعناق الأسرى وبعث برءوس جميعهم إلى باب المعتصم؛ ثم أقام عجيف بازاء الزط خمسة عشر يومًا، فظفر منهم بخلق كثير. وكان رئيس الزط رجلًا يقال له محمد بن عثمان؛ وكان صاحب أمره والقائم بالحرب سملق، ومكث عجيف يقاتلهم - فيما قيل - تسعة أشهر. وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد. ثم دخلت سنة عشرين ومائتين ذكر ما كان فيها من الأحداث ذكر ظفر عجيف بالزط فمن ذلك ما كان من دخول عجيف بالزط بغداد، وقهره إياهم حتى طلبوا منه الأمان فآمنهم، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين على أنهم آمنون على دمائهم وأموالهم؛ وكانت عدتهم - فيما ذكر - سبعة وعشرين ألفًا؛ المقاتلة منهم اثنا عشر ألفًا؛ وأحصاهم عجيف سبعة وعشين ألف إنسان؛ بين رجل وامرأة وصبي، ثم جعلهم في السفن، وأقبل بهم حتى نزل الزعفرانية، فأعطى أصحابه دينارين دينارين جائزة، وأقام بها يومًا، ثم عبأهم في زوايقهم على هيئتهم في الحرب؛ معهم البوقات، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء سنة عشرين ومائتين والمعتصم بالشماسية في سفينة يقال لها الزو، حتى مّر به الزط على تعبئتهم ينفخون بالبوقات؛ فكان أولهم بالقفص وآخرهم بحذاء الشماسية، وأقاموا في سفنهم ثلاثة أيام، ثم عبر بهم إلى الجانب الشرقي؛ فدفعوا إلى بشر بن السميدع، فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر إلى عين زربة، فأغارت عليهم الروم؛ فاجتاحوهم فلم يفلت منهم أحد، فقال شاعرهم: يا أهل بغداد موتوا دام غيظكم ** شوقًا إلى تمر برني وشهريز نحن الذين ضربناكم مجاهرةً ** قسرًا وسقناكم سوق المعاجيز لم تشكروا الله نعماه التي سلفت ** ولم تحوطوا أياديه بتعزيز فاستنصروا العبد من أبناء دولتكم ** من يا زمان ومن بلج ومن توز ومن شناس وأفشين ومن فرجٍ ** المعلمين بديباجٍ وإبريز واللابسي كميخار الصين قد خرطت ** أردانه درز برواز الدخاريز والحاملين الشكى نيطت علائقها ** إلى مناطق خاصٍ غير مخرور يفرى ببيضٍ من الهندي هامهم ** بنو بهلة في أبناء فيروز فوارسٌ خيلها دهم مودعةٌ ** على الخراطيم منها والفراريز مسخرات لها في الماء أجنحةٌ ** كالآبنوس إذا استحضرن والشيز متى تروموا لنا في غمر لجتنا ** حذرًا نصيدكم صيد المعافيز أو اختطافًا وإزهاقًا كما اختطفت ** طير الدحال حثاثًا بالمناقير ليس الجلاد جلاد الزط فاعترفوا ** أكل الثريد ولا شرب القواقيز نحن الذين سقينا الحرب درتها ** ونقنقنا مقاساة الكواليز لنسفعنكم سفعًا يذل له ** رب السرير ويشجى صاحب التيز فابكوا على التمر أبكى الله أعينكم ** في كل أضحى، وفي فطر ونيروز ذكر خبر مسير الأفشين لحرب بابك وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين خيذر بن كاوس على الجبال، ووجه به لحرب بابك؛ وذلك يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الآخرة؛ فعسكر بمصلى بغداد، ثم صار إلى برزند. ذكر الخبر عن أمر بابك ومخرجه ذكر أن ظهور بابك كان في سنة إحدى ومائتين، وكانت قريته ومدينته البذّ؛ وهزم من جيوش السلطان، وقتل من قواده جماعة؛ فلما أفضى الأمر إلى المعتصم، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال مسالح لحفظ الطريق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل؛ فتوجه أبو سعيد لذلك، وبنى الحصون التي خربها بابك، ووجه بابك سرية له في بعض غاراته، وصيّر أميرهم رجلًا يقال له معاوية؛ فخرج فأغار على بعض النواحي، ورجع منصرفًا؛ فبلغ ذلك أبا سعيد محمد بن يوسف، فجمع الناس وخرج إليه يعترض في بعض الطريق، فواقعه، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر منهم جماعة، واستنفذ ما كان حواه؛ فهذه أول هزيمة كانت على أصحاب بابك. ووجه أبو سعيد الرءوس والأسرى إلى المعتصم بالله. ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث؛ وذلك أن محمد بن البعيث كان في قلعة له حصينة تسمى شاهي؛ كان ابن البعيث أخذها من الوجناء بن الرواد، عرضها نحو من فرسخين، وهي من كورة أذربيجان، وله حصن آخر في بلاد أذربيجان يسمى تبريز، وشاهى أمنعهما؛ وكان ابن البعيث مصالحًا لبابك، إذا توجهت سراياه نزلت به. فأضافهم، وأحسن إليهم حتى أنسوا به، وصارت لهم عادة. ثم إنّ بابك وجه رجلًا من أصحابه يقال له عصمة من أصبهبذته في سرية، فنزل بابن البعيث، فأنزل إليه ابن البعيث على العادة الجارية الغنم والأنزال وغير ذلك، وبعث إلى عصمة أن يصعد إليه في خاصته ووجوه أصحابه، فصعد فغذّاهم وسقاهم حتى أسكرهم، ثم وثب على عصمة فاستوثق منه، وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمي رجلًا رجلًا من أصحابه باسمه؛ فكان يدعي بالرجل باسمه فيصعد، ثم يأمر به فيضرب عنقه؛ حتى علموا بذلك؛ فهربوا. ووجّه ابن البعيث بعصمة إلى المعتصم - وكان البعيث أبو محمد صعلوكًا من صعاليك ابن الرواد - فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك، فأعلمه طرقها ووجوه القتال فيها؛ ثم لم يزل عصمة محبوسًا إلى أيام الواثق. ولما صار الأفشين إلى برزند عسكر بها، ورمّ الحصون فيما بين برزند وأردبيل، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خشّ، فاحتفر فيه خندقًا، وأنزل الهيثم الغنوي القائد من أهل الجزيرة في رستاق يقال له أرشق، فرمّ حصنه، وحفر حوله خندقًا، وأنزل علّويه الأعور من قوّاد الأبناء في حصن ممّا يلي أردبيل يسمّى حصن النهر؛ فكانت السابلة والقوافل تخرج من أردبيل معها من يبذرقها حتى تصل إلى حصن النهر، ثم يبذرقها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي، ويخرج هيثم فيمن جاء من ناحيته حتى يسلمه إلى أصحاب حصن النهر، ويبذرق من جاء من أردبيل حتى يصير الهيثم وصاحب حصن النهر في منتصف الطريق، فيسلّم صاحب حصن النهر من معه إلى هيثم، ويسلّم هيثم من معه إلى صاحب حصن النهر؛ فيسير هذا مع هؤلاء؛ وهذا مع هؤلاء. وإن سبق أحدهما صاحبه إلى الموضع لم يجزه حتى يجيء الآخر؛ فيدفع كلّ واحد منهما من معه إلى صاحبه ليبذرقهم؛ هذا إلى أردبيل، وهذا إلى عسكر الأفشين، ثم يبذرق الهيثم الغنوي من كان معه إلى أصحاب أبي سعيد؛ وقد خرجوا فوقفوا على منتصف الطريق، معهم قوم، فيدفع أبو سعيد وأصحابه من معهم إلى الهيثم، ويدفع الهيثم من معه إلى أصحاب أبي سعيد، فيصير أبو سعيد وأصحابه بمن في القافلة إلى خش، وينصرف الهيثم وأصحابه بمن صار في أيديهم إلى أرشق حتى يصيروا به من غد، فيدفعوهم إلى علويه الأعور وأصحابه ليوصلوهم إلى حيث يريدون، ويصير أبو سعيد ومن معه إلى خش، ثم إلى عسكر الأفشين، فتلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيقبض منه من في القافلة، فيؤديهم إلى عسكر الأفشين، فلم يزل الأمر جاريًا على هذا؛ وكلما صار إلى أبي سعيد أو إلى أحد من المسالح أحد من الجواسيس وجهوا به إلى الأفشين؛ فكان الأفشين لا يقتل الجواسيس ولا يضربهم؛ ولكن يهب لهم ويصلهم ويسألهم ما كان بابك يعطيهم فيضعفه لهم، ويقول للجاسوس: كن جاسوسًا لنا. ذكر خبر وقعة الأفشين مع بابك بأرشق وفيها كانت وقعة بين بابك وأفشين بأرشق، قتل فيها الأفشين من أصحاب بابك خلقًا كثيرًا؛ قيل أكثر من ألف، وهرب بابك إلى موقان، ثم شخص منها إلى مدينته التي تدعى البذ ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة بين الأفشين وبابك ذك أن سبب ذلك أن المعتصم وجه مع بغا الكبير بمالٍ إلى الأفشين عطاءً لجنده وللنفقات، فقدم بغا بذلك المال إلى أردبيل، فلما نزل أردبيل بلغ بابك وأصحابه خبره، فتهيأ بابك وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين، فقدم صالح الجاسوس على الأفشين، فأخبره أن بغا الكبير قد قدم بمال وأن بابك وأصحابه تهيئوا ليقتطعوه قبل وصوله إليك. وقيل: كان مجئ صالح إلى أبي سعيد، فوجه به أبو سعيد إلى الأفشين وهيأ بابك كمينًا في مواضع، فكتب الأفشين إلى أبي سعيد يأمره أن يحتال لمعرفة صحة خبر بابك، فمضى أبو سعيد متنكرًا هو وجماعة من أصحابه، حتى نظروا إلى النيران والوقود في المواضع التي وصفها لهم صالح، فكتب الأفشين إلى بغا؛ أن يقيم بأردبيل حتى يأتيه رأيه، وكتب أبو سعيد إلى الأفشين بصحة خبر صالح، فوعد الأفشين صالحًا وأحسن إليه. ثم كتب الأفشين إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل، ويشد المال على الإبل ويقطرها، ويسير متوجهًا من أردبيل؛ كأنه بيد برزند؛ فإذا صار إلى مسلحة النهر، أو سار شبيهًا بفرسخين، احتبس القطار حتى يجوز من صحب المال إلى برزند؛ فإذا جازت القافلة رجع بالمال إلى أردبيل. ففعل ذلك بغا، وسارت القافلة حتى نزلت النهر، وانصرفت جواسيس بابك إليه يعلمونه أن المال قد حمل، وعاينوه محمولًا حتى صار إلى النهر، ورجع بغا بالمال إلى أردبيل، وركب الأفشين في اليوم الذي وعد فيه بغا عند العصر من برزند، فوافى خش مع غروب الشمس، فنزل معسكرًا خارج خندق أبي سعيد؛ فلما أصبح ركب في سرّ؛ لم يضرب طبلًا ولا نشر علمًا، وأمر أن يلف الأعلام، وأم بالناس بالسكوت، وجد في السير، ورحلت القافلة التي كانت توجهت في ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم الغنوي، ورحل الأفشين من خش يريد ناحية الهيثم ليصادفه في الطريق، ولم يعلم الهيثم " بمن كان معه " فرحل بمن كان معه من القافلة يريد بها النهر. وتعبأ بابك في خيله ورجاله وعساكره، وصار على طريق النهر، وهو يظن أن المال موافيه، وخرج صاحب النهر ببذرق من قبله إلى الهيثم، فخرجت عليه خيل بابك؛ وهم لا يشكون أن المال معه؛ فقاتلهم صاحب النهر، فقتلوه وقتلوا من كان معه من الجند والسابلة، وأخذوا جميع ما كان معهم من المتاع وغيره، وعلموا أن المال قد فاتهم، وأخذوا علمه، وأخذوا لباس أهل النهر ودراريعهم وطراداتهم وخفاتينهم فلبسوها، وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضًا، ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاءوا كأنهم أصحاب النهر، فلما جاءوا لم يعرفوا الموضع الذي كان يقف فيه علم صاحب النهر، فوقفوا في غير موضع صاحب النهر، وجاء الهيثم فوقف في موقفه، فأنكر ما رأى فوجه ابن عم له، فقال له: اذهب إلى هذا البغيض، فقل له: لأي شيء وقوفك؟ فجاء ابن عم الهيثم، فلما رأى القوم أنكرهم لما دنا منهم، فرجع إلى الهيثم، فقال له: إن هؤلاء القوم لست أعرفهم، فقال له الهيثم: أخزاك الله! ما أجبنك! ووجه خمسة فرسان من قبله، فلما جاءوا وقربوا من بابك، خرج من الخرمية رجلان فتلقوهما وأنكروهما، وأعلموهما أنهم قد عرفوهما، ورجعوا إلى الهيثم ركضًا، فقالوا: إن الكافر قد قتل علويه وأصحابه، وأخذوا أعلامهم ولباسهم، فحل هيثم منصرفًا، فأتى القافلة التي جاء بها معه، وأمرهم أن يركضوا ويرجعوا، لئلا يؤخذوا، ووقف هوم في أصحابه، يسير بهم قليلًا قليلًا، ويقف بهم قليلًا، ليشغل الخرمية عن القافلة، وصار شبيهًا بالحامية لهم؛ حتى وصلت القافلة إلى الحصن الذي يكو فيه الهيثم - وهو أرشق - وقال لأصحابه: من يذهب منكم إلى الأمير وإلى أبي سعيد فيعلمهما به وله عشرة آلاف درهم ومن فرس بدل فرسه إن نفق فرسه فله مثل فرسه على مكانه؟ فتوجه رجلان من أصحابه على فرسين فارهين يركضان، ودخل الهيثم الحصن، وخرج بابك فيمن معه؛ فنزل بالحصن، ووضع له كرسي وجلس على شرف بحيال الحصن، وأرسل إلى الهيثم: خل عن الحصن وانصرف حتى أهدمه فأبى الهيثم وحاربه. وكان مع الهيثم في الحصن سمائة راجل وأربعمائة فارس، وله خندق حصين. فقاتله، وقعد بابك فيمن معه، ووضع الخمر بين يريد ليشربها، والحرب مشتبكة كعادته، ولقى الفارسان الأفشين على أقل من فرسخ من أرشق، فساعة نظر إليهما من بعيد قال لصاحب مقدمته: أرى فارسين يركضان ركضًا شديدًا، ثم قال: اضربوا الطبل، وانشروا الأعلام واركضوا نحو الفارسين: ففعل أصحابه ذلك، وأسرعوا السير، وقال لهم: صيحوا بهما: لبيك لبيك! فلم يزل الناس في طلق واحد متراكضين، يكسر بعضهم بعضًا حتى لحقوا بابك، وهو جالس، فلم يتدارك أن يتحول ويركب حتى وافته الخيل والناس، واشتنبكت الحرب، فلم يفلت من رجالة بابك أحد، وأفلت هو في نفر يسير، ودخل موقان، وقد تفطع عنه أصحابه، وأقام الأفشين في ذلك الموضع، وبات ليلته، ثم رجع إلى معسكره ببرزند، فأقام بابك بموقان أيامًا. ثم إنه بعث إلى البذ، فجاءه في الليل عسكر فيه رجالة، فرحل بهم من موقان حتى دخل البذ، فلم يزل الأفشين معسكرًا ببرزند، فلما دخل من كان في بعض الأيام مرت به قافلة من خش إلى برزند، ومعها رجل من قبل أبي سعيد يسمى صالح آب كش - تفسيره السقاء - فخرج عليه أصبهبذ بابك، فأخذ القافلة، وقتل من فيها، وقتل من كان مع صالح، وأفلت صالح بلا خف منه من أفلت، وقتل جميع أهل القافلة، وانتهت متاعهم، فقحط عسكر الأفشين من أجل تلك القافلة التي أخذت من الآب كش؛ وذلك أنها كانت تحمل الميرة، فكتب الأفشين إلى صاحب المراغة يأمره بحمل الميرة وتعجيلها عليه؛ فإن الناس قد قحطوا وجاعوا فوجه إليه صاحب المراغة بقافلة ضخمة، فيها قريب من ألف ثور سوى الحم والدواب وغير ذلك، تحمل الميرة، ومعها جند يبذرقونها، فخرجت عليهم أيضًا سرية لبابك، كان عليها طرخان - أو آذين - فاستباحوها عن آخرها بجميع ما فيها، وأصاب الناس ضيق شديد؛ فكتب الأفشين إلى صاحب السيروان أن يحمل إليه طعامًا، فحمل إليه طعامًا كثيرًا، وأغاث الناس في تلك السنة، وقد بغا على الأفشين بمال ورجال. ذكر الخبر عن خروج المعتصم إلى القاطول وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى القاطول، وذلك في ذي القعدة منها. ذكر الخبر عن سبب خروجه إليها ذكر عن أبي الوزير أحمد بن خالد، أنه قال: بعثني المعتصم في سنة تسع عشرة ومائتين، وقال لي: يا أحمد، اشتر لي بناحية سامرا موضعًا أبني فيه مدينة؛ فإني أتخوف أن يصيح هؤلاء الخرمية صيحة، فيقتلوا غلماني؛ حتى أكون فوقهم، فإن رابني منهم ريب أتيتهم في البر والبحر؛ حتى آتى عليهم. وقال لي: خذ مائة ألف دينار، قال: قلت: آخذ خمسة آلاف دينار، فكلما احتجت إلى زيادة بعثت إليك فاستزدت؟ قال: نعم؛ فأتيت الموضع، فاشتريت سامرا بخمسمائة درهم من النصارى أصحاب الدير، واشتريت موضع البستان الخاقاني بخمسة آلاف درهم، اشتريت عدة مواضع حتى أحكمت ما أردت، ثم انحدرت فأتيته بالصكاك، فعزم على الخروج إليها في سنة عشرين ومائتين، فخرج حتى إذا قارب القاطول، ضربت له فيه القباب والمضارب، وضرب الناس الأخبية؛ ثم لم يزل يتقدم، وتضرب له القباب حتى وضع البناء بسامرا في سنة إحدى وعشرين ومائتين. فذكر عن أبي الحسن بن أبي عباد الكاتب، أن مسرورًا الخادم الكبير، قال: سألني المعتصم: أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر من المقام ببغداد؟ قال: قلت له: بالقاطول؛ وقد كان بني هناك مدينة آثارها وسورها قائم؛ وقد كان خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشآم وعصوا، خرج الرشيد إلى الرقة فأقام بها، وبقيت مدينة القاطول لم تستمر، ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه هارون الواثق وقد حدثني جعفر بن محمد بن بوازة الفراء، أن سبب خروج المعتصم إلى القاطول، كان أن غلمانه الأتراك كانوا لا يزالون يجدون الواحد بعد الواحد منهم قتيلًا في أرباضها؛ وذلك أنهم كانوا عجمًا جفاة يركبون الدواب، فيتراكضون في طرق بغداد وشوراعها، فيصدمون الرجل والمرأة ويطئون الصبي، فيأخذهم الأبناء فينسكونهم عن دوابهم ويجرحون بعضهم؛ فربما هلك من الجراح بعضهم، فشكت الأتراك ذلك إلى المعتصم، وتأذت بهم العامة؛ فذكر أنه رأى المعتصم راكبًا منصرفًا من المصلى في يوم عيد أضحى أو فطر؛ فلما صار في مربعة الحرشي، نظر إلى شيخ قد قام إليه، فقال له: يا أبا إسحاق، قال: فابتدره الجند ليضربوه؛ فأشار إليهم المعتصم فكفهم عنه، فقال للشيخ: مالك! قال: لا جزاك الله عن الجوار خيرًا! جاورتنا بهؤلاء العلوج فأسكنتهم بين أظهرنا، فأيتمت بهم صبياننا، وأرملت بهم نسواننا، وقتلت بهم رجالنا! والمعتصم يسمع ذلك كله. قال: ثم دخل داره فلم ير راكبًا إلى السنة القابلة في مثل ذلك اليوم؛ فلما كان في العام المقبل في مثل ذلك اليوم خرج فصلى بالناس العيد؛ ثم لم يرجع إلى منزله ببغداد؛ ولكنه صرف وجه دابته إلى ناحية القاطول؛ وخرج من بغداد ولم يرجع إليها. ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الفضل بن مروان وفي هذه السنة غضب المعتصم على الفضل بن مروان وحبسه. ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه وسبب اتصاله بالمعتصم ذكر أن الفضل بن مروان - وهو رجل من أهل البردان - كان متصلًا برجل من العمال يكتب له، وكان حسن الخط، ثم صار مع كاتب كان للمعتصم يقال له يحيى الجرمقاني، وكان الفضل بن مروان يخط بين يديه؛ فلما مات الجرمقاني صار الفضل في موضعه؛ وكان يكتب للفضل علي بن حسان الأنباري، فلم يزل كذلك حتى بلغ المعتصم الحال التي بلغها؛ والفضل كاتبه، ثم خرج معه إلى معسكر المأمون، ثم خرج معه إلى مصر، فاحتوى على أموال مصر، ثم قدم الفضل قبر موت المأمون بغداد، ينفذ أمور المعتصم، ويكتب على لسانه بما أحب حتى قدم المعتصم خليفةً، فصار الفضل صاحب الخلافة، وصارت الدواوين كلها تحت يديه وكنز الأموال، وأقبل أبو إسحاق حين دخل بغداد يأمره بإعطاء المغني والملهي؛ فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على أبي إسحاق. فحدثني إبراهيم بن جهرويه أن إبراهيم المعروف بالهفتي - وكان مضحكًا - أمر له المعتصم بمال؛ وتقدم إلى الفضل بن مروان في إعطائه ذلك، فلم يعطه الفضل ما أمر به المعتصم؛ فينا الهفتي يومًا عند المعتصم؛ بعد ما بنيت له داره التي ببغداد، واتخذ له بستان، قام المعتصم يتمشى في البستان ينظر إليه وإلى ما فيه من أنواع الرياحين والغروس، ومعه الهفتي، وكان الهفتي يصحب المعتصم قبل أن تفضى الخلافة إليه، فيقول فيما يداعبه: والله لا تفلح أبدًا! قال: وكان الهفتي رجلًا مربوعًا ذا كنة، والمعتصم رجلًا معرقًا خفيف اللحم، فجعل المعتصم يسبق الهفتي في المشي؛ فإذا تقدمه ولم ير الهفتي معه التفت إليه، فقال له: مالك لا تمشي! يستعجله المعتصم في المشي ليلحق به؛ فلما كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتي، قال له الهفتي، مداعبًا له: كنت أصلحك الله، أراني أماشي خليفة؛ ولم أكن أراني أماشي فيجًا، والله لا أفلحت! فضحك منها المعتصم، وقال: ويلك! هل بقي من الفلاح شيء لم أدركه! أبعد الخلافة تقول هذا لي! فقال له الهفتي: أتحسب أنك قد أفلحت الآن! إنما لك من الخلافة الاسم؛ والله ما يجاوز أمرك أذنيك؛ وإنما الخليفة الفضل بن مروان، الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته؛ فقال له المعتصم: وأي أمر لي لا ينفذ! فقال له: الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين؛ فما أعطيت مما أمرت به منذ ذاك حبة! قال: فاحتجنها على الفضل المعتصم حتى أوقع به. فقيل: إن أول ما أحدثه في أمره حين تغير له أن صير أحمد بن عمار الخراساني زمامًا عليه في نفقات الخاصة، ونصر بن منصور بن بسام زمامًا عليه في الخراج وجميع الأعمال؛ فلم يزل كذلك؛ وكان محمد بن عبد الملك الزيات يتولى ما كان أبواه يتولاه للمأمون من عمل المشمش والفساطيط وآلة الجمازات ويكتب على ذلك مما جرى على يدي محمد بن عبد الملك، وكان يلبس إذا حضر الدار دراعة سوداء وسيفًا بحمائل، فقال له الفضل بن مروان: إنما أنت تاجر، فما لك وللسواد والسيف! فترك ذلك محمد، فلما تركه أخذه الفضل يرفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني، فرفعه، فأحسن دليل في أمره؛ ولم يرزأه شيئًا، وعرض عليه محمد هدايا، فأبى دليل أن يقبل منها شيئًا، فلما كانت سنة تسع عشرة ومائتين - وقيل سنة عشرين، وذلك عندي خطأ - خرج المعتصم يريد القاطول، ويريد البناء بساما، فصرفه كثرة زيادة دجلة؛ فلم يقدر على الحركة، فانصرف إلى بغداد إلى الشماسية، ثم خرج بعد ذلك؛ فلما صار بالقاطول غضب على الفضل بن مروان وأهل بيته في صفر، وأمرهم برفع ما جرى على أيدهم؛ وأخذ الفضل وهو مغضوب عليه في عمل حسابه، فلما فرغ من الحساب لم يناظر فيه، وأمر بحبسه؛ وأن يحمل إلى منزله ببغداد في شارع الميدان، وحبس أصحابه، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات، فحبس دليلًا، ونفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل يقال لها السن، فلم يزل بها مقيمًا؛ فصار محمد بن عبد الملك وزيرًا كاتبًا، وجرى على يديه عامة ما بنى المعتصم بسامرا من الجانبين الشرقي والغربي، ولم يزل في مرتبته حتى استخلف المتوكل، فقتل محمد بن عبد الملك. وذكر أن المعتصم لما استوزر الفضل بن مروان حلّ من قبله المحل الذي لم يكن أحد يطمع في ملاحظته، فضلًا ع منازعته ولا في الاعتراض في أمره ونهيه وإرادته وحكمه؛ فكانت هذه صفته ومقداره؛ حتى حملته الدالة، وحركته الحرمة على خلافه في بعض ما كان يأمره به، ومنعه ما كان يحتاج إليه من الأموال في مهمّ أموره؛ فذكر عن ابن أبي داود أنه قال: كنت أحضر مجلس المعتصم؛ فكثيرًا ما كنت أسمعه يقول للفضل بن مروان: احمل إلي كذا وكذا من المال، فيقول: ما عندي، فيقول: فاحتلها من وجه من الوجوه؛ فيقول: ومن أين أحتالها! ومن يعطيني هذا القدر من المال؟ وعند من أجده؟ فكان ذلك يسوءه وأعرفه في وجهه؛ فلمّا كثر هذا من فعله ركبت إليه يومًا فقلت له مستخليًا به: يا أبا العباس؛ إنّ الناس يدخلون بيني وبينك بما أكره وتكره؛ وأنت امرؤ قد عرفت أخلاقك، وقد عرفها الداخلون بيننا؛ فإذا حّركت فيك بحقّ فاجعله باطلًا؛ وعلى ذلك فما أدع نصيحتك وأداء ما يجب علي في الحق لك؛ وقد أراك كثيرًا ما تردّ على أمير المؤمنين أجوبةً غليظة ترمضه، وتقدح في قلبه، والسلطان لا يحتمل هذا لابنه، لا سيما إذا كثر ذلك وغلظ. قال: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قلت: أسمعه كثيرًا ما يقول لك: نحتاج إلى كذا من المال لنصرفه في وجه كذا، فتقول: ومن يعطيني هذا! وهذا ما لا يحتمله الخلفاء، قال: فما أصنع ذا طلب مني ما ليس عندي؟ قلت: تصنع أن تقول: يا أمير المؤمنين، نحتال في ذاك بحيلة، فتدفع عنك أيامًا إلى أن يتهيّأ، وتحمل إليه بعض ما يطلب وتسوّفه بالباقي، قال: نعم أفعل وأصير إلى ما أشرت به. قال: فوا لله لكأني كنت أغريه بالمنع، فكان إذا عاوده بمثل ذلك من القول، عاد إلى مثل ما يكره من الجواب. قال: فلما كثر ذلك عليه، دخل يومًا إليه وبين يديه حزمة نرجس غضّ، فأخذها المعتصم فهزّها، ثم قال: حيّاك الله يا أبا العباس! فأخذها الفضل بيمينه، وسلّ المعتصم خاتمه من إصبعه بيساره، وقال له بكلام خفي: أعطني خاتمي، فانتزعه من يده، ووضعه في يد ابن عبد الملك. وحجّ بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك الوقعة التي كانت بين بابك وبغا الكبير من ناحية هشتادسر، فهزم بغا واستبيح عسكره. ذكر الخبر عن وقعة الأفشين مع بابك في هذه السنة وفيها واقع الأفشين بابك وهزمه. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وكيف كان السبب فيها ذكر أن بغا الكبير قدم بالمال الذي قد مضى ذكره؛ وأن المعتصم وجهه معه إلى الأفشين عطاءً للجند الذي كان معه ولنفقات على الأفشين، وبالرجال الذين توجهوا معه إليه، فأعطى الأفشين أصحابه، وتجهز بعد النيروز، ووجّه بغا في عسكر ليدور حول هشتادسر، وينزل في خندق محمد بن حميد ويحفره ويحكمه وينزه. فتوجه بغا إلى خندق محمد بن حميد، وصار إليه، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبو سعيد من خش يريد بابك، فتوافوا بموضع يقال له دروذ، فاحتقر الأفشين بها خندقًا، وبنى حوله سورًا، ونزل هو وأبو سعيد في الخندق مع من كان صار إليه من المطوعة؛ فكان بينه وبين البذ ستة أميال. ثم إن بغا تجهز، وحمل معه الزاد من غير أن يكون الأفشين كتب إليه ولا أمره بذلك؛ فدار حول هشتادسر حتى دخل إلى قرية البذ، فنزل في وسطها، وأقام بها يومًا واحدًا، ثم وجه ألف رجل في علافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك، فاستباح العلافة، وقتل جميع من قاتله منهم، وأسر من قدر عليه، وأخذ بعض الأسرى؛ فأرسل منهم رجلين مما يلي الأفشين، وقال لهما: إلى الأفشين، وأعلماه ما نزل بأصحابكم فأشرف الرجلان، فنظر إليهما صاحب الكوهبانية؛ فحرك العلم، فصاح أهل العسكر: السلاح السلاح! وركبوا يريدون البذ، فتلقاهم الرجلان عريانين؛ فأخذهما صاحب المقدمة، فمضى بهما إلى الأفشين، فأخبراه بقصتيهما، فقال: فعل شيئًا من غير أن نأمره. ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيهًا بالمنهزم؛ وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، ويعلمه أن العسكر مفلول، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وجناحًا الأعور السكري وصاحب شرطة الحسن بن سهل - وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل - فداروا حول هشتادسر، فسر أهل عسكره بهم؛ ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنه يغزو بابك في يوم سماه له، ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه، ليحاربه من كلا الوجهين؛ فخرج الأفشين في ذلك اليوم من دروذ يريد بابك، وخرج بغا من خندق محمد بن حميد، فصعد إلى هشتادسر، فعسكر على دعوة يجنب قبر محمد بن حميد، فهاجت ريح باردة ومطر شديد؛ فلم يكن للناس عليها صبر لشدة البرد وشدة الريح، فانصرف بغا إلى عسكره، وواقعهم الأفشين من الغد، وقد رجع بغا إلى عسكره، فهزمه الأفشين، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه في العسكر. ونزل الأفشين في معسكر بابك. ثم تجهز بغا من الغد، وصعد هشتادستر، فأصاب العسكر الذي كان مقيمًا بازائه بهشتادسر، قد انصرف إلى بابك ورحل بغا إلى موضعه، فأصاب خرثيًا وقماشًا، وانحدر من هشتادسر يريد البذ، فأصاب رجلًا وغلامًا نائمين فأخذهما داودسياه - وكان على مقدمته - فساءلهما، فذكرا أن رسول بابك أتاهم في الليلة التي انهزم فيها بابك، فأمرهم أن يوافوه بالبذ، فكان الرجل والغلام سكرانين، فذهب بهما النوم، فلا يعرفان من الخبر غير هذا؛ وكان ذلك قبل صلاة العصر. فبعث بغا إلى داودسياه: قد توسطنا الموضع الذي تعرفه - يعني الذي كنا فيه في المرة الأولى - وهذا وقت المساء، وقد تعب الرجالة، فانظر جبلًا حصينًا يسع عسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه. فالتمس داودسياه ذلك، فصعد إلى بعض الجبال، فالتمس أعلاه فأشرف، فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال فقال: هذا موضعنا إلى غدوة، ونتحدر من الغد إلى الكافر إن شاء الله. فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير؛ فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل يأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد وكثرة الثلج؛ وكأنهم كانوا في ليل من شدة الظلمة والضباب. فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا: قد فنى ما معنا من الزاد، وقد أضر بنا البرد؛ فانزل على أي حالة كانت؛ إما راجعين وإما إلى الكافر. وكان في أيام الضباب. فبيت بابك الأفشين ونقض عسكره، وانصرف الأفشين عنه إلى معسكره، فضرب بغا بالطبل، وانحدر يريد البذ حتى صار إلى البطن، فنظر إلى السماء منجلية، والدنيا طيبة، غير رأس الجبل الذي كان عليه بغا، فعبى بغا أصحابه ميمنةً وميسرةً ومقدمة، وتقدم يريد البذ، وهو لا يشك أن الأفشين في موضع معسكره، فمضى حتى صار بلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذ إلا صعود قدر نصف ميل؛ وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيثن له قرابة بالبذ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا ها هنا؟ فسمى له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعنى به يتنحى؛ فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت. فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمى له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل؛ هذه خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدّم داود وجدّ في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه إلى هشتادستر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرّة الأولى، يدور حول هشتادسر، وليس فيه مضيق إلّا في موضع واحد. ضهم الغلام، فقال له: فلان، فقال: من هذا ها هنا؟ فسمى له من كان معه من أهل بيته، فقال: ادن حتى أكلمك، فدنا الغلام منه، فقال له: ارجع وقل لمن تعنى به يتنحى؛ فإنا قد بيتنا الأفشين، وانهزم إلى خندقه وقد هيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك أن تفلت. فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث بذلك، وسمى له الرجل، فعرفه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا شاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل؛ هذه خدعة ليس من هذا شيء، فقال بعض الكوهبانيين: إن هذا رأس جبل أعرفه، من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممن نشط، فأشرفوا على الموضع، فلم يروا فيه عسكر الأفشين فتيقنوا أنه قد مضى، وتشاوروا، فرأوا أن ينصرف الناس راجعين في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر بغا داود سياه بالانصراف، فتقدّم داود وجدّ في السير، ولم يقصد الطريق الذي كان دخل منه إلى هشتادستر مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي كان دخل منه في المرّة الأولى، يدور حول هشتادسر، وليس فيه مضيق إلّا في موضع واحد. فسار بالناس، وبعث بالرّجالة، فطرحوا رماحهم وأسلحتهم في الطريق، ودخلتهم وحشة شديدة ورعب، وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة القوّاد في الساقة، وظهرت طلائع بابك؛ فكلما نزل هؤلاء جبلًا صعدته طلائع بابك؛ يتراءون لهم مرّة ويغيبون عنهم مرّة، وهو في ذلك يقفون آثارهم، وهو قدر عشرة فرسان؛ حتى كان بين الصلاتين: الظهر والعصر، فنزل بغا ليتؤضأ ويصلي، فتدانت منهم طلائع بابك، فبرزوا لهم، وصلى بغا، ووقف في وجوهم، فوقفوا حين رأوه، فتخوّف بغا على عسكره أن يواقعه الطلائع من ناحية، ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق قومٌ آخرون، فشارو من حضره وقال: لست آمن أن يكونوا جعلوا هؤلاء مشغلة، يحبسوننا عن المسير، ويقدمون أصحابهم ليأخذوا على أصحابنا المضايق. فقال له الفضل بن كاوس: ليس هؤلاء أصحاب نهار؛ وإنما هم أصحاب ليل؛ وإنما يتخوّف على أصحابنا من الليل، فوجّه إلى داود سياه ليسرع السير ولا ينزل، ولو صار إلى نصف الليل حتى يجاوز المضيق، ونقف نحن هاهنا؛ فإن هؤلاء ما داموا يروننا في وجوهم لا يسيرون، فنماطلهم وندافعهم قليلًا قليلًا حتى تجيء الظلمة؛ فإذا جاءت الظلمة لم يعرفوا لنا موضعًا، وأصحابنا يسيرون فينفذون أوّلا فأوّلا، فإن أخذ علينا نحن المضيق تخلصنا من طريق هشتادستر أو من طريق آخر. وأشار غيره على بغا. فقال: إنّ العسكر قد تقطّع، وليس يدرك أوّله آخره، والناس قد رموا بسلاحهم، وقد بقي المال والسلاح على البغال، وليس معه أحد، ولا نأمن من أن يخرج عليه من يأخذ المال والأسير - وكان ابن جويدان معهم أسيرًا أرادوا أن يفادوا به كاتبًا لعبد الرحمن بن حبيب، أسره بابك - فعزم بغا على أن يعسكر بالناس حين ذكر له المال والسلاح والأسي فوجه إلى داود سياه: حيثما رأيت جبلًا حصينًا، فعسكر عليه. فعدل داود إلى جبل مؤوب، لم يكن لناس موضع يقعدون فيه من شدة هبوطه، فعسكر عليه، فضرب مضربًا لبغا على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط؛ ليس فيه مسلك، وجاء بغا فنزل، وأنزل الناس وقد تعبوا وكلوا، وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة وتحارس من ناحية المصعد فجاءهم العدو من الناحية الأخرى فتعلقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوا المضرب، وبيتوا العسكر، وخرج بغا راجلًا حتى نجا، وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح السكري، وقتل ابن جوشن، وقتل أحد الأخوين قرابة الفضل ابن سهل وخرج بغا من العسكر راجلًا، فوجد دابة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتادسر، حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد فوافاه في جوف الليل، وأخذ الخرمية المال والسلاح والأسير ابن جويدان، ولم يتبعوا الناس ومر الناس منهزمين منقطعين حتى وافوا بغا، وهو في خندق محمد بن حميد، فأقام بغا في خندق محمد بن حميد خمسة عشر يومًا، فأتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة وأن يرد إليه المدد الذي كان أمده به، فمضى بغا إلى المراغة، وانصرف بن كاوس وجميع من جاء معه من معسكر الأفشين، وفرق الأفشين اناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع من السنة المقبلة. خبر مقتل طرخان قائد بابك وفي هذه السنة قت قائد لبابك كان يقال له طرخان. ذكر سبب قتله ذكر أن طرخان هذا كان عظيم المنزلة عند بابك؛ وكان أحد قواده، فلما دخل الشتاء من هذه السنة استأذن بابك في الأذن له أن يشتو في قرية له بناحية المراغة - وكان الأفشين يرصده، ويحب الظفر به؛ لمكانه من بابك - فأذن له بابك، فصار إلى قريته ليشتو بها بناحية هشتادسر فكتب الأفشين إلى ترك مولى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وهو بالمراغة، أن يسري إلى تلك القرية - ووصفها له - حتى يقتل طرخان، أو يبعث به إليه أسيرًا. فأسرى ترك إلى طرخان، فصار إليه في جوف الليل، فقتل طرخان وبعث طرخان وبعث برأسه إلى الأفشين. وفي هذه السنة قدم صول أرتكين وأهل بلاده في قيود فنزعت قيودهم، وحمل على الدوابّ منهم نحو من مائتي رجل. وفيها غضب الأفشين على رجاء الحضاري وبعث به مقيّدًا. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو والي مكة. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من توجيه المعتصم جعفر بن دينار الخياط إلى الأفشين مددًا له، ثم إتباعه بعد ذلك بإيتاخ وتوجيهه معه ثلاثين ألف ألف درهم عطاء للجند والنفقات. ذكر خبر الوقعة بين أصحاب الأفشين وآذين قائد بابك وفيها كانت وقعة بين أصحاب الأفشين وقائد لبابك يقال له آذين. ذكر الخبر على هذه الوقعة وما كان سببها ذكر أن الشتاء لما انقضى من سنة إحدى وعشرين ومائتين وجاء الربيع، ودخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ووجهّ المعتصم إلى الأفشين ما وجهه إليه من المدد والمال، فوافاه ذلك كله وهو ببرزند، سلّم إيتاخ إلى الأفشين المال والرّجال الذين كانوا معه وانصرف، وأقام جعفر الخياط مع الأفشين مدّة، ثم رحل الأفشين عند إمكان الزمان، فصار إلى موضع يقال له كلان روذ، فاحتفر فيه خندقًا، وكتب إلى أبي سعيد، فرحل من برزند إلى إزائه على طرف رستاق كلان روذ، وتفسيره: نهر كبير؛ بينهما قدر ثلاثة أميال، فأقام معسكرًا في خندق، فأقام بكلان روذ خمسة أيام، فأتاه من أخبره أن قائدًا من قواد بابك يدعى آذين، قد عسكر بإزاء الأفشين، وأنه قد صير عياله في جبل يشرف على روذ الروذ، وقال: لا أتحصن من اليهود - يعني المسملين - ولا أدخل عيالي حصنًا؛ وذلك أن بابك قال له: أدخل عيالك الحصن، قال: أنا أتحصن من اليهود! والله لا أدخلتهم حصنًا أبدًا، فنقلهم إلى هذا الجبل، فوجه الأفشين ظفر بن العلاء السعدي والحسين بن خالد المدائني من قواد أبي سعيد في جماعة من الفرسان والكوهبانية، فساروا ليلتهم من كلان روذ؛ حتى انحدروا في مضيق لا يمر فيه راكب واحد إلا بجهد، فأكثر الناس قادوا دوابهم، وانسلوا رجلًا خلف رجل، فأمرهم أن يصيروا قبل طلوع الفجر على روذ الروذ فيعبر الكوهبانية رجالة؛ لأنه لا يمكن الفارس أن يتحرك هناك، ويتسلقوا الجبل؛ فصاروا على روذ الروذ قبل السحر، ثم أمر من أطاق من الفرسان أن يترجل وينزع ثيابه، فترجل عامة الفرسان، وعبروا وعبر معهم الكوهبانية جميعًا، وصعدوا الجبل؛ فأخذوا عيال آذين وبعض ولده، وعبروا بهم، وبلغ آذين الخبر بأخذ عياله؛ وكان الأفشين عند توجه هؤلاء الرجالة ودخولهم المضيق يخاف أن يؤخذ عليهم المضيق، فأم الكوهبانية أن يكون معهم أعلام، وأن يكونوا على رءوس الجبال الشواهق في المواضع التي يشرفون منها على ظفر بن العلاء وأصحابه؛ فإن رأوا أحدًا يخافونه حركوا الأعلام، فبات الكوهبانية على رءوس الجبال، فلما رجع ابن العلاء والحسين بن خالد بمن أخذوا من عيال آذين، وصاروا في بعض الطريق قبل أن يصيروا إلى المضيق، انحدر عليهم رجالة آذين فحاربوهم قبل أن يدخلوا المضيق، فوقع بينهم قتلى، واستنفذوا بعض النساء. ونظر إليهم الكوهبانية الذين رتبهم الأفشين؛ وكان آذين قد وجه عسكرين؛ عسكرًا يقاتلهم، وعسكرًا يأخذ عليهم المضيق؛ فلما حركوا الأعلام وجه الأفشين مظفر بن كيدر في كردوس من أصحابه، فأسرع الركض. ووجه أبا سعيد خلف المظفر، وأتبعهما ببخارا خذاه، فوافوا؛ فلما نظر إليهم رجالة آذين الذين كانوا على المضيق انحدروا عن المضيق، وانضموا إلى أصحابهم، ونجا ظفر بن العلاء والحسين بن خالد ومن معهما من أصحابهما، ولم يقتل إلا من قتل في الوقعة الأولى، وجاءوا جميعًا إلى عسكر الأفشين؛ ومعهم النساء اللواتي أخذوهن. ذكر خبر فتح البذ مدينة بابك وفي هذه السنة فتحت البذّ مدينة بابك، ودخلها المسملون، واستباحوها؛ وذلك في يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان في هذه السنة ذكر الخبر عن أمرها وكيف فتحت والسبب في ذلك ذكر أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ والإرتحال من كلان روذ جعل يزحلف قليلًا قليلًا - على خلاف زحفه قبل ذلك - إلى المنازل التي كان ينزلها؛ فكان يتقدم الأميال الأربعة، فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إلى روذ الروذ، ولا يحفر خندقًا؛ ولكنه يقيم معسكرًا في الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس تقف على ظهور الخيل، كما يدور العسكر بالليل؛ فبعض القوم معسكرون وبعض وقوف على ظهور دوابهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار مخافة البيات؛ كي إن دهمهم أمر أن يكون الناس على تعبية والرجالة في العسكر؛ فضج الناس من التعب، وقالوا: كم نقعد ها هنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء، وبيننا وبين العدو أربعة فراسخ، ونحن نفعل فعلًا؛ كأن العدو بإزائنا! قد استحينا من الناس والجواسيس الذين يمرون بيننا وبين العدو أربعة فراسخ؛ ونحن قد متنا من الفزع؛ أقدم بنا؛ فإما لنا وإما علينا، فقال: أنا والله أعلم أن ما تقولون حق؛ ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا. ولا أجد منه بدًا. فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرى بدراجة الليل على حسب ما كان؛ فلم يزل كذلك أيامًا، ثم انحدر في خاصته حتى نز إلى روذ الروذ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي به الركوة التي واقعة عليها بابك في العام الماضي؛ فنظر إليهما، ووجد عيها كردوسًا من الخرمية؛ فلم يزل يحاربوه ولم يحاربهم؛ فقال بعض العلوج: ما لكم تجيئون وتفرون! أما تستحيون! فأمر الأفشين ألا يجيئوهم ولا يبرز إليهم أحد؛ فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر، ثم رجع إلى معسكره، فمكث فيه يومين، ثم انحدر أيضًا في أكثر مما كان انحدر في المرة الأولى، فأمر أبا سعيد أن يذهب فيوافقهم على حسب ما كان وافقهم في المرة الأولى، ولا يحركهم ولا يهجم عليهم. وقام الأفشين بروذ الروذ، وأمر الكوهبانية أن يصعدوا إلى رءوس الجبال التي يظنون أنها حصينة، فيتراءوا فيها، ويختاروا له في رءوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة؛ فاختاروا له ثلاثة أجبل، قد كانت عليها حصون فيما مضى، فخربت فعرفها، ثم بعث إلى أبي سعيد، فصرفه يومه ذلك؛ فلما كان بعد يومين انحدر من معسكره إلى روذ الروذ، وأخذ معه الكلغرية - وهم الفعلة - وحملوا معهم شكاء الماء والكعك؛ فما صاروا إلى روذ الروذ وجه أبا سعيد، وأمره أن يوافقهم أيضًا على حسب ما كان أمره به في اليوم الأول، وأمر الفعلة بنقل الحجارة وتحصين الطرق التي تسلك إلى تلك الثلاثة الأجبل؛ حتى صارت شبه الحصون، وأمر فاحتفر على كل طريق وراء تلك الحجارة إلى المصعد خندقًا؛ فلم يترك مسلكًا إلى جبل منها إلا مسلكًا واحدًا. ثم أمر أبا سعيد بالانصراف، فانصرف، ورجع الأفشين إلى معسكره. قال: فلما كان في اليوم الثامن من الشهر، واستحكم الحصر، دفع إلى الرجالة كعكًا وسويقًا، ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير، ووكل بمعسكره ذلك من يحفظه. وانحدروا، وأمر الرجالة أن يصعدوا إلى رءوس تلك الجبال، وأن يصعدوا معهم بالماء، وبجميع ما يحتاجون إليه، ففعلوا ذلك، وعسكر ناحية، ووجه أبا سعيد ليواقف القوم على حسب ما كان يوافقهم، وأمر الناس بالنزول في سلاحهم، وألا يأخذوا الفرسان سروج دوابهم. ثم خط الخندق، وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكل بهم من يستحثهم، ونزل هو والفرسان، فوقفوا تحت الشجر في ظل يرعون دوابهم، فلما صلى العصر، أمر الفعلة بالصعود إلى رءوس الجبال التي حصنها مع الرجالة، وأمر الرجالة أن يتحارسوا ولا يناموا، ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، وأمر الفرسان بالركوب عند اصفرار الشمس، فصيرهم كراديس وقفها حيالهم، بين كل كردوس وكردوس قدر رمية سهم، وتقدم إلى جميع الكراديس ألا يلتفتن كل واحد منكم إلى الآخر؛ ليحفظ كل واحد منكم ما يليه؛ فإن سمعتم هدة فلا يلتفتن أحد منكم إلى أحد، وكل كردوس منكم قائم بما يليه، فإنه لا بهدة يأخذ. فلم يزل الكراديس وقوفًا على ظهور دوابهم إلى الصباح، والرجالة فوق رءوس الجبال يتحارسون. وتقدم إلى الرجالة: متى ما أحسوا في الليل بأحد فلا يكترثوا، وليلزم كل قوم منهم المواضع التي لهم؛ وليحفظوا جبلهم وخندقهم فلا يلتفتن أحد إلى أحد. فلم يزالوا كذلك إلى الصباح؛ ثم أمر من يتعاهد الفرسان والرجالة بالليل، فينظر إلى حالتهم؛ فلبثوا في حفر الخندق عشرة أيام، ودخله اليوم العاشر فقسمه بين الناس وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق، وأتاه رسول بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار؛ يعلمه أنه في أيامه هذه في جفاء؛ إنما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنه أحب أن يلطفه بذلك. فقال الأفشين للرسول: قد عرفت أي شيء أراد؟ أخي بهذا؛ إنما أراد أن ينظر إلى المعسكر، وأنا أحقّ من قبل بّره، وأعطاه شهوته؛ فقد صدق، أنا في جفاء. وقال للّرسول: أما أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتى معسكرنا، فقد رأيت ما ها هنا، وترى ما وراءنا أيضًا، فأمر بحمله على دابة، وأن يصعد به حتى يرى الخندق، ويرى خندق كلان روذ وخندق برزند، ولينظر إلى الخنادق الثلاثة ويتأملها ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه. ففعل به ذك؛ حتى صار إلى برزند، ثم رده إليه، فأطلقه وقال له: اذهب فاقرئه مني السلام - وكان من الخرمية الذين يتعرضون لمن يجلب الميرة إلى المعسكر - ففعل ذك مرة أو مرتين ثم جاءت الخرمية بعد ذلك في ثلاثة كراديس، حتى صاروا قريبًا من سور خندق الأفشين يصيحون، فأمر الأفشين الناس ألا ينطق أحد منهم، ففعلوا ذلك ليلتين أو ثلاث ليال، وجعلوا يركضون دوابهم خلف السور، ففعلوا ذلك غير مرة؛ فلما أنسوا هيأ لهم الأفشين أربعة كراديس من الفرسان والرجالة، فكانت الرجالة ناشبة فكمنوا لهم في الأودية، ووضع عليهم العيون؛ فلما انحدروا في وقتهم الذي كانوا ينحدرون فيه في كل مرة وصاحوا وجلبوا كعادتهم شدت عليهم الخيل والرجالة الذين رتبوا فأخذوا عليهم طريقهم. وأخرج الأفشين إليهم كردوسين من الرجالة في جوف الليل، فأحسوا أن قد أخذت عليهم العقبة؛ فتفرقوا في عدة طرق؛ حتى أقبلوا يتسلقون الجبال فمروا فلم يعودوا إلى ما كانوا يفعلون، ورجع الناس من الطلب مع صلاة الغداة إلى الخندق بروذ الروذ، ولم يلحقوا من الخرمية أحدًا. قوا من الخرمية أحدًا. ثم إن الأفشين كان في كل أسبوع يضرب الطبول نصف الليل، ويخرج بالشمع والنفاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كل إنسان منهم كردوسه؛ من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة؛ فيخرج الناس فيقفون في مواقفهم ومواضعهم. وكان الأفشين يحمل أعلامًا سودًا كبارًا، اثني عشر علمًا يحملها على البغال؛ ولم يكن يحملها على الخيل لئلا تزعزع يحملها على اثني عشر بغلًا؛ وكانت طبوله الكبار واحد وعشرين طبلًا؛ وكانت الأعلام الصغار نحو من خمسمائة علم، فيقف أصحابه كل فرق على مرتبتهم من ربع الليل؛ حتى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه فيؤذن المؤذن بين يديه ويصلي ثم يصلي الناس بغلس ثم يأمر بضرب الطبول، ويسير زحفًا. وكانت علامته في المسير والوقوف تحريك الطبول وسكونها، لكثرة الناس ومسيرهم في الجبال والأزفة على مصافهم؛ كلما استقبلوا جبلًا صعدوه، وإذا هبطوا إلى واد مضوا فيه؛ إلا أن يكون جبلًا منيعًا لا يمكنهم صعوده وهبوطه؛ فإنهم كانوا ينضمون إلى العساكر، ويرجعون إذا جاءوا إلى الجبل إلى مصافهم ومواضعهم؛ وكانت علامة المسير ضرب الطبول؛ فإن أراد أن يقف أمسك عن ضرب الطبول؛ فيقف الناس جميعًا من كل ناحية على جبل، أو في وادٍ أو في مكانهم؛ وكان يسير قليلًا قليلًا؛ كلما جاءه كوهباني بخبر وقف قليلًا؛ وكان يسير هذه السنة الأميال التي بين روذ الروذ، وبين البذ، ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر؛ فإذا أراد أن يصعد إلى الركوة التي كانت الحرب تكون عليها في العام الماضي، خلف بخاراخداه على رأس العقبة مع ألف فارس وستمائة راجل؛ يحفظون عليه الطريق؛ لا يخرج أحد من الخرمية؛ فيأخذ عليه الطريق. وكان بابك إذا أحس بالعسكر أنه وارد عليه وجه عسكرًا له فيه رجالة إلى واد تحت تلك العقبة التي كان عليها بخاراخداه، ويكمنون لمن يريد أن يأخذ عليه الطريق. وكان الأفشين يقف بخاراخذاه يحفظ هذه العقبة التي وجه بابك عسكره إليها ليأخذها على الأفشين؛ وكان بخاراخذاه يقف بها أبدًا، ما دام الأفشين داخل البذ على الركوة، وكان الأفشين يتقدم إلى بخاراخذاه أن يقف على وادٍ فيما بينه وبين البذ شبه الخندق، وكان يأمر أبا سعيد محمد بن يوسف أن يعبر ذلك الوادي في كردوس من أصحابه، ويأمر جعفرًا الخياط أن يقف أيضًا في كردوس من أصحابه، ويأمر أحمد بن الخليل فيقف في كردوس آخر؛ فيصير في جانب ذلك الوادي ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم؛ وكان بابك يخرج عسكرًا مع آذين، فيقف على تل بإزاء هؤلاء الثلاثة الكراديس خارجًا من البذ لئلا يتقدم أحد من عساكر الأفشين إلى باب البذ. وكان الأفشين يقصد إلى باب البذ، ويأمرهم إذا عبروا بالوقوف فقط، وترك المحاربة، وكان بابك إذا أحس بعساكر الأفشين أنها قد تحركت من الخندق تريده فرق أصحابه كمناء؛ ولم يبق معه إلا نفير يسير؛ وبلغ ذلك الأفشين، ولم يكن يعرف الواضع التي يكمنون فيها. ثم أتاه الخبر بأن الخرمية قد خرجوا جميعًا، ولم يبق مع بابك إلا شر ذمة من أصحابه. وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع بسط له نطع، ووضع له كرسي، وجلس على تل مشرف يشرف على باب قصر بابك، والناس كراديس وقوف من كان معه من جانب الوادي هذا أمره بالنزول عن دابته، ومن كان من ذاك الجانب مع أبي سعيد وجعفر الخياط وأصحابه وأحمد بن الخليل لم ينزل لقربه من العدو؛ فهم وقوف على ظهور دوابهم؛ ويفرق رجالته الكوهبانية ليفتشوا الأودية؛ طمع أن يقع على مواضع دوابهم؛ فيعرفها. فكانت هذه حالته في التفتيش إلى بعد الظهر، والحزمية بين يدي بابك يشربون النبيذ ويزمرون بالسرنيايات ويضربون بالطبول حتى إذا صلى الأفشين الظهر تقدم فانحدر إلى خندقه بروذ الروذ؛ فكان أول من ينحدر أبو سعيد ثم أحمد بن الخليل ثم جعفر بن دينا، ثم ينصرف الأفشين وكان مجيئه ذلك مما يغيظ بابك وانصرافه فإذا دنا الانصراف ضربوا بصنوجهم ونفخوا بوقاتهم استهزاء ولا يبرح بخاراخذاه من العقبة التي هو عليها؛ حتى تجوز الناس جميعًا، ثم ينصرف في آثارهم؛ فلما كان في بعض أيامهم ضجرت الحزمية من المعادلة والتفتيش الذي كان يفتش عليهم؛ فانصرف الأفشين كعادته، وانصرفت الكراديس أولًا فأولا، وعبر أبو سعيد الوادي، وعبر أحمد بن الخليل، وعبر بعض أصحاب جعفر الخياط، وفتح الخرمية باب خندقهم، وخرج منهم عشرة فوارس، وحملوا على من بقى من أصحاب جعفر الخياط في ذلك الموضع، وارتفعت الضجة في العسكر، فرجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه فحمل على أولئك الفرسان حتى ردهم إلى باب البذ، ثم وقعت الضجة في العسكر، فرجع الأفشين وجعفر وأصحابه من ذلك الجانب يقاتلون؛ وقد خرج من أصحاب جعفر عدة، وخرج بابك بعدة فرسان لم يكن معهم رجالة؛ لا من أصحاب الأفشين ولا من أصحاب بابك؛ كان هؤلاء يحملون؛ وهؤلاء يحملون؛ فوقعت بينهم جراحات، ورجع الأفشين حتى طرح له النطع والكرسي فجلس في موضعه الذي كان يجلس فيه؛ وهو يتلظى على جعفر ويقول: قد أفسد على تعبيتي وما أريد. وارتفعت الضجة، وكان مع أبي دلف في كردوس قوم من المطوعة من أهل البصرة وغيرهم؛ فلما نظروا إلى جعفر يحارب انحدر أولئك المطوعة بغير أمر الأفشين، وعبروا إلى ذلك جانب الوادي؛ حتى صاروا إلى جانب البذ، فتعلقوا به، وأثروا فيه آثارًا؛ وكادوا يصعدونه فيدخلون البذ، ووجه جعفر إلى الأفشين: أن أمدني بخمسمائة راجل من الناشبة؛ فإني أرجوا أن أدخل البذ إن شاء الله؛ ولست أرى في وجهي كثير أحد إلا هذا الكردوس الذي تراه أنت فقط - يعني كردوس آذين - فبعث إليه الأفشين أن قد أفسدت على أمري، فتخلص قليلًا قليلًا وخلّص أصحابك وانصرف. وارتفعت الضجة من المطوّعة حين تعلّقوا بالبذّ، وظنّ الكمناء الذين أخرجهم بابك أنها حرب قد اشتبكت؛ فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب كمين آخر من مراء الركوة التي كان الأفشين يقعد عليها، فتحركت الخرمية، والناس وقوف على رءوسهم لم يزل منهم أحد؛ فقال الأفشين: الحمد لله الذي بين لنا مواضع هؤلاء. ثم انصرف جعفر وأصحابه والمطوعة، فجاء جعفر إلى الأفشين؛ فقال له: إنما وجهني سيدي أمير المؤمين للحرب التي ترى، ولم يوجهني للقعود هاهنا، وقد قطعت بي في موضع حاجتي ما كان يكفيني إلا خمسمائة راجل حتى أدخل البذ أو جوف داره؛ أني قد رأيت من بين يدي فقال له الأفشين: لا تنظر إلى ما بين يديك ولكن انظر إلى ما خلفك وما قد وثبوا ببخاراخذاه وأصحابه فقال الفضل بن كاوس لجعفر الخياط: لو كان الأمر إليك ما كنت تقدر أن تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف؛ حتى تقول: كنت وكنت.. فقال له جعفر: هذه الحرب؛ وما أنا واقف لمن جاء. فقال له الفضل: ولا مجلس الأمير لعرفتك نفسك الساعة؛ فصاح بهما الأفشين فأمسكا، وأمر أبا دلف أن يرد المطوعة عن السور، فقال أبو دلف للمطوعة: انصرفوا. فجاء رجل منهم ومعه صخرة، فقال: أتردنا وهذا الحجر أخذته من السور! فقال له: الساعة، إذا انصرفت تدري من على طريقك جالس - يعني العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من وراء الناس. ثم قال الأفشين لأبي سعيد في وجه جعفر: أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين؛ فإني ما علمتك عالمًا بأمر هذه العساكر وسياستها؛ ليس كل من حف رأسه يقول: إن الوقوف في الموضع الذي يحتاج إليه خبر من المحاربة في الموضع الذي لا يحتاج إليه، لو وثب هؤلاء الذين تحتك - وأشار إلى الكمين الذي تحت الجبل - كيف كنت ترى هؤلاء المطوعة الذين هم في القمص؟ أي شيء كان يكون حالهم ومن كان يجمعهم؟ الحمد لله الذي سلمهم؛ فقف ها هنا فلا تبرح حتى لا يبق ها هنا أحد. وانصرف الأفشين؛ وكان من سنته إذا بدأ بالانصراف ينحدر علم الكراديس وفرسانه ورجالته، والكردوس الآخر واقف بينه وبينه قدر رمية سهم؛ لا يدنو من العقبة، ولا من المضيق؛ حتى ير أنه قد عبر كل من في الكردوس الذي بين يديه خلابه الطريق ثم يدنو بعد ذلك فينحدر في الكردوس الآخر بفرسانه ورجالته؛ ولا يزال كذلك؛ وقد عرف كل كردوس من خلف من ينصرف؛ فلم يكن يتقدم أحد منهم بين يدي صاحبه، ولا يتأخر هكذا؛ حتى إذا نفذت الكراديس كلها ولم يبق أحد غير بخاراخذاه، انحدر بخار اخذاه وخلى العقبة. فانصرف ذلك اليوم على هذه الهيئة؛ وكان أبو سعيد آخر من انصرف؛ وكلما مر العسكر بموضع بخاراخذاه، ونظروا إلى الموضع الذي كان فيه الكمين؛ علموا ما كان وطئ لهم، وتفرق أؤلئك الأعلاج الذين أرادوا أخذ الموضع الذي كان بخاراخذاه يحفظه، ورجعوا إلى مواضعهم، فأقام الأفشين في خندقه بروذ الروذ أيامًا؛ فشكا إليه المطوعة الضيق في العلوفة والأزواد والنفقات، فقال لهم: من صبر منكم فليصبر، ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام؛ معي جند أمير المؤمنين؛ ومن هو في أرزاقه يقيمون معي في الحر والبرد؛ ولست أبرح من ها هنا حتى يسقط الثلج. فانصرف المطوعة وهم يقولون: لو ترك الأفشين جعفرًا وتركنا لأخذنا البذ؛ هذا لا يشتهى إلا المماطلة؛ فبلغه ذلك وما كثر المطوعة فيه، ويتناولونه بألسنتهم وأنه لا يحب المناجزة؛ وإنما يريد التطويل؛ حتى قال بعضهم إنه رأى في المنام، أن رسول الله ﷺ قال له: قل للأفشين: إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت في أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة؛ فتحدث الناس بذلك في العسكر علانية؛ كأنه مستور، فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوعة، فأحضرهم وقال لهم: أحب أن تروني هذا الرجل؛ فإن الناس يرون في المنام أبوابًا؛ فأتوه بالرجل في جماعة من الناس، فسلم عليه، فقربه وأدناه وقال له: قص علي رؤياك، لا تحتشم ولا تستحي؛ فإنما تؤدي. قال: رأيت كذا ورأيت كذا؛ فقال: الله يعلم كل شيء قبل كل أحد؛ وما أريد بهذا الخلق. إن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يأمر الجبال أن ترجم أحدًا لرجم الكافر وكفانا مؤنته؛ كيف يرجمني حتى أكفيه مؤنة الكافر كان يرجمه؛ ولا يحتاج أن أقاتله أنا، وأنا أعلم أن الله عز وجل لا يخفى عليه خافية؛ فهو مطلع على قلبي؛ وما أريد بكم يا مساكين! فقال رجل من المطوعة من أهل الدين: يأيها الأمير؛ لا تحرمنا شهادة إن كانت قد حضرت؛ وإنما قصدنا وطلبنا ثواب الله ووجهه؛ فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك؛ فلعل الله أن يفتح علينا. فقال الأفشين: إني أرى نياتكم حاضرة؛ وأحسب هذا الأمر يريده الله؛ وهو خير إن شاء الله؛ وقد نشطتم ونشط الناس؛ والله أعلم ما كان هذا رأيي؛ وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم، وأرجو أن يكون أراد هذا الأمر وهو خير؛ اعزموا على بركة الله أي يوم أحببتم حتى نناهضهم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! فخرج القوم مستبشرين فبشروا أصحابهم؛ فمن كان أراد أن ينصرف أقام، ومن كان في القرب وقد خرج مسيرة أيام فسمع بذلك رجع؛ ووعد الناس ليوم، وأمر الجند والفرسان والرجالة وجميع الناس بالأهبة، وأظهر أنه يريد الحرب لا محالة. وخرج الأفشين وحمل المال والزاد، ولم يبق في العسكر بغل إلا وضع عليه محمل للجرحى، وأخرج معه المتطببين، وحمل الكعك والسويق وغير ذلك؛ وجميع ما يحتاج إليه، وزحف الناس حتى صعد إلى البذ، وخلف بخاراخذاه في موضعه الذي كان يخلفه عليه على العقبة، ثم طرح النطع ووضع له الكرسي، وجلس عليه كما كان يفعل، وقال لأبي دلف: قل للمطوعة: أي ناحية هي أسهل عليكم، فاقتصروا عليها. وقال لجعفر: العسكر كله بين يديك، والناشبة والنفاطون؛ فإن أردت رجالًا دفعتهم إليك؛ فخذ حاجتك وما تريد، واعزم على بركة الله؛ فادن من أي موضع تريد. قال: أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه، قال: امض إليه. ودعا أبا سعيد، فقال له: قف بين يدي؛ أنت وجميع أصحابك، ولا يبرحن منكم أحد. ودعا أحمد بن الخليل فقال له: قف أنت وأصحابك ها هنا، ودع جعفرًا يعبر وجميع من معه من الرجال؛ فإن أراد رجالًا أو فرسانًا أمددناه؛ ووجهنا بهم إليه؛ ووجه أبا دلف وأصحابه من المطوعة؛ فانحدروا إلى الوادي، وصعدوا إلى حائط البذ من الموضع الذي كانوا صعدوا عليه تلك المرة، وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم؛ وحمل جعفر حملةً حتى ضرب باب البذ؛ على حسب ما كان فعل تلك المرة الأولى؛ ووقف على الباب، وواقفه الكفرة ساعة صالحة؛ فوجه الأفشين برجل معه بدرة دنانير، وقال له اذهب إلى أصحاب جعفر، فقل: من تقدم، فاحث له ملء كفك، ودفع بدرة أخرى إلى رجل من أصحابه، وقال له: اذهب إلى المطوعة ومعك هذا المال وأطواق وأسورة؛ وقل لأبي دلف: كل من رأيته محسنًا من المطوعة وغيرهم فأعطه. ونادى صاحب الشراب، فقال له: اذهب فتوسط الحرب معهم حتى أراك بعيي معك السويق والماء؛ لئلا يعطش القوم فيحتاجوا إلى الرجوع؛ وكذلك فعل بأصحاب جعفر في الماء والسويق ودعا صاحب الكلغريّة، فقال له: من رأيته في وسط الحرب من المطوّعة في يده فأس فله عندي خمسون درهمًا؛ ودفع إليه بدرة دراهم؛ وفعل مثل ذلك بأصحاب جعفر ووجه إليهم الكلغرّية بأيديهم الفئوس، ووجه إلى جعفر بصندوق فيه أطواق وأسوارة، فقال له: ادفع إلى من أردت من أصحابك هذا سوى ما لهم عندي، وما تضمن لهم علي من الزيادة في أرزاقهم والكتاب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم. فاشتبكت الحرب على الباب طويلًا، ثم فتح الخرّميةّ الباب وخرجوا على أصحاب جعفر، فنحّوهم عن الباب، وشدوّا على المطوّعة من الناحية الأخرى؛ فأخذوا منهم علّمين وطرحوهم عن السور. وجرحوهم بالصّخر حتى أثّروا فيهم، فرقّوا عن الحرب، ووقفوا، وصاح جعفر بأصحابه، فبدر منهم نحو من مائة رجل، فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم، وواقفوهم متحاجزين؛ لا هؤلاء يقدمون على هؤلاء ولا هؤلاء يقدمون على هؤلاء؛ فلم يزالوا كذلك حتى صلّى الناس الظهر؛ وكان الأفشين قد حمل عرّادات، فنصب عرّادة منها مما يلي جعفرًا على الباب، وعرّادة أخرى من طرف الوادي من ناحية المطوّعّة؛ فأما العرّادة التي من ناحية جعفر؛ فدافع عنها جعفر حتى صارت العرّادة فيما بينهم وبين الخرّمية ساعة طويلة؛ ثم تخلّصها أصحاب جعفر بعد جهد، فقلعوها وردّوها إلى العسكر؛ فلم يزل الناس متوافقين متحاجزين؛ يختلف بينهم النشاب والحجارة أؤلئك على سورهم والباب وهؤلاء قعود تحت أتراسهم؛ ثم تناجزوا بعد ذلك؛ فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ في الناس، فوجّه الرجالة الذين كان أعدّهم قبله؛ حتى وقفوا في موضع المطوّعة، وبعث إلى جعفر بكردوس فيه رجّالة، فقال جعفر: لست أوتي من قلة الرجّالة معي رجال فرهٌ ولكني لست أرى للحرب موضعًا يتقدمون؛ إنما هاهنا موضع مجال رجل أو رجلين قد وقفوا عليه، وانقطعت الحرب، فبعث إليه: انصرف على بركة الله؛ فانصرف جعفر، وبعث الأفشين بالبغال التي كان جاء بها معه عليها المحامل؛ فجعلت فيها الجرحى ومن كان به وهن من الحجارة ولا يقدر على المشي؛ وأمر الناس بالانصراف؛ فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف أكثر المطوّعة. صراف؛ فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف أكثر المطوّعة. ثم إنّ الأفشين تجهزّ بعد جمعتين؛ فلمّا كان في جوف الليل؛ بعث الرجّالة الناشبة؛ وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كل واحد منهم شكوة وكعكًا، ودفع إلى بعضهم أعلامًا سودًا وغير ذلك، وأرسلهم عند مغيب الشمس، وبعث معهم أدلّاء، فساروا ليلتهم في جبال منكرة صعبة على غير الطريق؛ حتى داروا فصاروا خلف التلّ الذي يقف آذين عليه - وهو جبل شاهق - وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد؛ حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلّوا الغداة ورأوا الوقعة، ركبّوا تلك الأعلام في الرماح، وضربوا الطبول، وانحدروا من فوق الجبل، ورموا بالنشاب والصخر على الخرّمية؛ وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره؛ ففعلوا ذلك. فوافوا رأس الجبل عند السحر، وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي؛ وصاروا فوق الجبل، فلمّا كان في بعض الليل وجّه الأفشين إلى القواد أن يتهيئوا في السلاح؛ فإنه يركب في السحر؛ فلما كان في بعض الليل، وجهّ بشيرًا التركي وقوّادًا من الفراعنة كانوا معه؛ فأمرهم أن يسيوا حتى يصيروا تحت التلّ مع أسفل الوادي الذي حملوا منه الماء؛ وهو تحت الجبل الذي كان عليه آذين؛ وقد كان الأفشين علم أنّ الكافر يكمن تحت ذلك الجبل كلّما جاءه العسكر؛ فقصد بشير والفراعنة إلى ذلك الموضع الذي علم أن للخرمّية فيه عسكرًا كامنين، فساروا في بعض الليل؛ ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر. ثم بعث للقوّاد: تأهبّوا للركوب في السلاح؛ فإن الأمير يغدو في السحر؛ فلمّا كان السحر خرج وأخرج الناس، وأخرج النفّاطين والنفّاطات والشمع على حسب ما كان يخرج، فصلّى الغداة، وضرب الطبل، وركب حتى وافى الموضع الذي كان يقف فيه في كلّ مرّة، وبسط له النطع، ووضع له الكرسي كعادته. وكان بخارًا خذاه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كلّ يوم؛ فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخارًا خذاه في المقدّمة مع أبي سعيد وجعفرٍ الخياط وأحمد بن الخليل؛ فأنكر الناس هذه التعبية في ذلك الوقت، وأمرهم أن يدنوا من التلّ الذي عليه آذين؛ فيحدقوا به؛ وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم؛ فمضى الناس مع هؤلاء القوّاد الأربعة الذين سمّينا؛ حتى صاروا حول التلّ. وكان جعفر الخياط مما يلي باب البذّ. وكان أبو سعيد مما يليه، وبخارًا خذاه مما يلي أبا سعيد، وأحمد بن الخليل بن هشام ممّا يلي بخارًا خذاه؛ فصاروا جميعًا حلقة حول التلّ، وارتفعت الضجة من أسفل الوادي؛ وإذا الكمين الذي تحت التلّ الذي كان يقف عليه آذين قد وثب ببشير التركي والفراعنة؛ فحاربوهم واشتبكت الحرب بينهم ساعة. وسمع أهل العسكر ضجّتهم، فتحرّك الناس، فأمر الأفشين أن ينادوا: أيها الناس، هذا بشير التركي والفراعنة قد وجّهتهم؛ فأثاروا كمينًا فلا تتحرّكوا. فلما سمع الرجّالة الناشبة الذين كانوا تقدموا، وصاروا فوق الجبل ركبوا الأعلام كما أمرهم الأفشين؛ فنظر الناس إلى أعلام تجيء من جبل شاهق؛ أعلام سود، وبين العسكر وبين الجبل نحو فرسخ؛ وهم ينحدرون على جبل آذين من فوقهم؛ قد ركبّوا الأعلام، وجعلوا ينحدرون يريدون آذين؛ فلّما نظر إليهم أهل عسكر آذين وجّه إليهم بعض رجّالته الذين معه من الخرمية. ولما نظر الناس إليهم راعوهم؛ فبعث إليهم الأفشين: أولئك رجالنا أنجدتنا على آذين؛ فحمل جعفر الخياط وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليهم، فحملوا عليهم حملة شديدة، قلبوه وأصحابه في الوادي، وحمل عليهم رجل ممّن في ناحية أبي سعيد، يقال له معاذ بن محمد - أو محمد بن معاذ - في عدّة معه؛ فإذا تحت حوافز دوابّهم آبار محفورة تدخل أيدي الدوابّ فيها، فتساقطت فرسان أبي سعيد فيها؛ فوجّه الأفشين الكلغرية يقلعون حيطان منازلهم، ويطمون بها تلك الآبار؛ ففعلوا ذلك؛ فحمل الناس عليهم حملة واحدة؛ وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلًا عليها صخر؛ فلما حمل الناس عليه، دفع العجل على الناس فأفرجوا عنها، فقد خرجت؛ ثم حمل الناس من كلّ وجه فلمّا نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، خرج من طوف البذّ، من باب مما يلي الأفشين، يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل. فأقبل بابك في جماعة معه يسألون عن الأفشين، فقال لهم أصحاب أبي دلف: من هذا؟ فقالوا: هذا بابك يريد الأفشين؛ فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه بذلك؛ فأرسل الأفشين رجلًا يعرف بابك؛ فنظر إ ليه، ثم عاد إلى الأفشين، فقال: نعم هو بابك؛ فركب إليه الأفشين، فدنا منه حتى صار في موضع يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت عليك هذا؛ وهو لك مبذولُ متى شئت، فقال: قد شئت الآن؛ على أن تؤجّلني أجلًا أحمل فيه عيالي، وأتجهّز. فقال له الأفشين: قد والله نصحتك غير مرّة فلم تقبل نصيحتي؛ وأنا أنصحك الساعة، خروجك اليوم في الأمان خيرٌ من غدٍ. قال: قد قبلت أيها الأمير؛ وأنا على ذلك؛ فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك. قال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التلّ، فأمر أصحابك بالتوقف. قال: فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس، فقيل له: أعلام الفراعنة قد دخلت البذّ وصعدوا بها القصور. فركب وصاح بالناس، فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك؛ وكان قد كمّن في قصوره - وهي أربعة - ستمائة رجل؛ فوافاهم الناس؛ فصعدوا بالأعلام فوق القصور، وامتلأت شوارع البذّ وميدانها من الناس، وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور، وخرجوا رجّالة يقاتلون الناس. ومرّ بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر، واشتغل الأفشين وجميع قوّاده بالحرب عل أبواب القصور، فقاتل الخرّمية قتالًا شديدًا، وأحضر النفّاطين، فجعلوا يصبّون النفط والنار، والناس يهدمون القصور؛ حتى قتلوا عن آخرهم. وأخذ الأفشين أولاد بابك ومن كان معهم في البذّ من عيالاتهم حتى أدركهم المساء، فأمر الأفشين بالانصراف فانصرفوا، وكان عامة الخرّمية في البيوت؛ فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ. فذكر أن بابك وأصحابه الذين نزلوا معه الوادي حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه، رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله، وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادي الذي يلي هشتادسر. فلمّا كان في الغد خرج الأفشين حتى دخل البذّ، فوقف في القرية، وأمر بهدم القصور، ووجّه الرجالة يطوفون في أطراف القرية، فلم يجدوا فيها أحدًا من العلوج، فأصعد الكلغريّة، فهدموا القصور وأحرقوها؛ فعل ذلك ثلاثة أيام حتى أحرق خزائنه وقصوره؛ ولم يدع فيها بيتًا ولا قصرًا إلا أحرقه وهدمه؛ ثم رجع وعلم أنّ بابك قد أفلت في بعض أصحابه؛ فكتب الأفشين إلى ملوك أرمينية وبطارقتها يعلمهم أنّ بابك قد هرب وعدّة معه، وصار إلى وادٍ، وخرج منه إلى ناحية أرمينية؛ وهو مارّ بكم، وأمرهم أن يحفظ كلّ واحدً منه ناحيته، ولا يسلكها أحدٌ إلا أخذوه حتى يعرفوه. فجاء الجواسيس إلى الأفشين، فأخبروه بموضعه في الوادي؛ وكان واديًا كثير العشب والشجر، طرفه بإرمينة وطرفه الآخر بأذربيجان؛ ولم يكن الخيل أن تنزل إليه، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجرة ومياهه لما كانت غيضة واحدة؛ ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع يعلم أن منه طريقًا ينحدر منه إلى تلك الغيضة أو يمكن بابك أن يخرج من ذلك الطريق؛ فصير على كل طريق وموضع من هذه المواضع عسكرًا فيه ما بين أربعمائة إلى خمسمائة مقاتل ووجه معهم الكوهبانية ليقفوهم على الطريق وأمرهم بحراسة الطريق في الليل لئلا يخرج منه أحد. وكان يوجه إلى كل عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت هذه العساكر خمسة عشر عسكرًا، فكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالذهب مختومًا فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحاب بابك، وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان فمن يأخذه منكم ويذهب به إليه؛ فلم يحسر عل ذلك أحد منهم فقال بعضهم: أيها الأمير ما فينا أحد يجترىء أن يلقاه بهذا فقال له الأفشين: ويحك إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحن أعرف بهذا منك؛ قال: فلا بد لكم من أن تهبوا لي أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه فقام رجلان منهم فقالا له: اضمن لنا أنك تجري على عيالنا فضمن لهما الأفشين ذلك وأخذا الكتاب وتوجها فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه وكتب معهما ابن بابك بكتاب يعلمه الخبر، ويسأله أن يصير الأمان فهو أسلم له وخير فدفعا إليه كتاب ابنه فقرأه، وقل: أي شيء كنتم تصنعون؟ قالا: أسر عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا ولم نعرف موضعك فنأتيك وكنا في موضع تحوفنا أن يأخذونا فطلبنا الأمان. فقال للذي كان الكتاب معه: هذا لا أعرفه ولكن أنت يا بن الفاعلة: كيف اجترأ على هذا أن تجيئي من عند ذاك ابن الفاعلة! فأخذه وضرب عنقه وشد الكتاب على صدره مختومًا لم يفضه ثم قال الآخر: أذهب وقل لذامك لابن الفاعلة يعني ابنه حيث يكتب لي، وكتب إليه: لو أنك لحق بي واتبعت دعوتك حتى يجيئك الأم يومًا كنت ابني وقد صح عندي الساعة فساد أمك الفاعلة، يا بن الفاعلة عسى أن أعيش بعد اليوم قد كنت كتب باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكًا ولكنك من جنس لا خير فيه وأنا أشهد أنك لست با بني تعيش يومًا واحدًا وأنت رئيس خير أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل. ورحل موضعه من وضعه، ووجه مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوه من وضع من المواضع ثم الحقوا بباك فلم يزل في تلك الغيضة حتى فنى زاده وخرج مما يأتي طريقًا كان عليه بعض العساكر وكان موضع الطريق جبلًا ليس فيه ماء فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء فتنحى العسكر عن الطريق الى قرب الماء وصيروا كوهبانين وفارسين على طرف الطريق يحرسونه والعسكر بينه وبين الطريق نحو من ميل ونصف كل ينوب على الطريق كل يوم فارسان وكوهبانيان، فبيناهم ذات يوم نصف النهار إذ خرج بابك وأصحابه؛ ولم يروا أحدًا، ولم يروا الفارسين والكوهبانيين، وظنوا أن ليس هناك عسكر؛ فخرج هو وأخواه: عبد الله ومعاوية وأمه وامرأة له يقال لها ابنة الكلندانية. فخرجوا من الطريق؛ وساروا يريدون إرمينية ونظر إليهم الفارسان والكوهبانيّان، فوجّهوا إلى العسكر، وعليه أبو الساج: إنا قدر رأينا فرسانًا يمروّن ولا ندري من هم. فركب الناس، وساروا، فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدوّن عليها؛ فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه، فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له، فوجهّ أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر، ومرّ بابك متوجّهًا حتى دخل جبال إرمينية يسير في الجبال متكمنًا، فاحتاج إلى طعام؛ وكان جميع بطارقة إرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم، وأوصوا مسالحهم ألا يجتاز عليهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه؛ فكان أصحاب المسالح كلهم متحفظين؛ وأصاب بابك الجوع، فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحرّاث، وخذ معك دنانير ودراهم؛ فإن كان معه خبز فخذه وأعطه؛ وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته؛ فنزل الغلام إلى الحرّاث، فنظر إليه شريكه من بعيد، فوقف بالبعد يفرق من أن يجيء إلى شريكه وهو ينظر ما يصنع شريكه، فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئًا، فجاء الحراث فأخذ الخبز، فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر إليه؛ ويظنّ أنما اغتصبه خبزه؛ ولم يظنّ أنه أعطاه شيئًا، فعدا إلى المسلحة؛ فأعلمهم أن رجلًا جاءهم عليه سيف وسلاح؛ وأنه أخذ خبز شريكه من الوادي؛ فركب صاحب المسلحة - وكان في جبال ابن سنباط - ووجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعًا، فوافى الحراث والغلام عنده فقال له: ما هذا؟ قال له الحراث: هذا رجل مرّ بي، فطلب مني خبزًا فأعطيته، فقال للغلام: وأين مولاك؟ قال: ها هنا - وأومى إليه - فاتبعه فأدركه وهو نازل؛ فلما رأى وجهه عرفه، فترجل له ابن سنباط عن دابته، ودنا منه فقبل يده، ثم قال له: يا سيداه؛ إلى أين؟ قال: أريد بلاد الروم - أو موضعًا سماه - فقال له: لا تجد موضعًا ولا أحدًا أعرف بحقك؛ ولا أحق أن تكون عنده مني، تعرف موضعي؛ ليس بيني وبين السلطان عمل؛ ولا تدخل على أحد من أصحاب السلطان وأنت عارف بقضيتي وبلدي؛ وكل من ها هنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد؛ وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعض البطارقة ابنة أو أختًا جميلة وجه إليها يطلبها؛ فإن بعث بها إليه وإلا بيته وأخذها وأخذ جميع ماله من متاع وغير ذلك، وصار به إلى بلده غضبًا. ثم قال ابن سنباط له: صر عندي في حصني؛ فإنما هو منزلك؛ وأنا عبدك؛ كن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك. وكان بابك قد أصابه الضر والجهد، فركن إلى كلام سهل بن سنباط؛ وقال له: ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد؛ فلعله أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر؛ ولكن أقيم عندك أنا ويتوجه عبد الله أخي إلى ابن اصطفانوس؛ لا ندري ما يكون؛ وليس لنا خلفٌ يقوم بدعوتنا. فقال له ابن سنباط: ولدك كثير، قال: ليس فيهم خير. وعزم على أن يصير أخاه في حصن ابن اصطفانوس - وكان يثق به - فصار هو مع ابن سنباط في حصنه فما أصبح عبد الله مضى إلى حصن ابن اصطفانوس؛ وأقام بابك عند ابن سنباط، وكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أن بابك عنده في حصنه. فكتب إليه: إن كان هذا صحيحًا فلك عندي وعند أمير المؤمنين - أيده الله - الذي تحب؛ وكتب يجزيه خيرًا، ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصته، ممن يثق به، ووجه به إلى ابن سنباط وكتب إليه يعلمه أنه قد وجه إليه برجل من خاصته، يحب أن يرى بابك ليحكي للأفشين ذلك. فكره ابن سنباط أن يوحش بابك، فقال لرجل: ليس يمكن أن تراه إلا في الوقت الذي يكون منكبًا على طعامه يتغدى؛ فإذا رأيتنا قد دعونا بالغداء فالبس ثياب الطباخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنك تقدم الطعام، أو تناول شيئًا؛ فإنه يكون منكبًا على الطعام؛ فتفقد منه ما تريد؛ فاذهب فاحكه لصاحبك. ففعل ذلك في وقت الطعام، فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره، فقال: من هذا الرجل؟ فقال له ابن سنباط: هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان؛ نصراني. فلقن ابن سنباط الأشروسني ذلك. فقال له بابك: منذ كم أنت ها هنا؟ قال: منذ كذا وكذا سنة، قال: وكيف أقمت ها هنا؟ قال: تزوجت ها هنا، قال: صدقت إذا قيل للرجل: من أين أنت؟ قال: من حيث امرأتي. ثم رجع إلى الأفشين فأخبره، ووصف له جميع ما رأى ثم من بابك. ووجه الأفشين أبا سعيد وبوزبارة إلى ابن سنباط، وكتب إليه معهما، وأمرهما إذا صارا إلى بعض الطريق قدما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج، وأمرهما ألا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما. ففعلا ذلك، فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع - قد سماه ووصفه لهما - إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين بالموضع الذي وصفه لهما، ووجه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد، حتى تحرك بابك للخروج إلى الصيد، فقال له: ها هنا وادٍ طيب، وأنت مغموم في جوف هذا الحصن! فلو خرجنا ومعنا بازي وباشق وما يحتاج إليه، فنتفرج إلى وقت الغداء بالصيد! فقال له بابك: إذا شئت. فأنفذ ليركبا بالغداة، وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبوزبارة يعلمهما ما قد عزم عليه، ويأمرهما أن يوافياه، واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر في عسكرهما وأن يسيرا متكمنين مع صلاة الصبح؛ فإذا جاءهما رسوله وأشرفا على الوادي، فانحدروا عليه إذا رأوهم وأخذوهم. فلما ركب ابن سنباط وبابك بالغداة وجه ابن سنباط رسولًا إلى أبي سعيد ورسولًا إلى بوزبارة، وقال لكل رسول: جيء بهذا إلى موضع كذا، وجئ بهذا إلى موضع كذا؛ فأشرفا علينا؛ فإذا رأيتمونا فقولوا: هم هؤلاء خذوهم؛ وأراد أن يشبه على بابك، فيقول: هذه خيل جاءتنا، فأخذتنا، ولم يحب أن يدفعه إليهما من منزله؛ فصار الرسولان إلى أبي سعيد وبوزبارة، فمضيا بهما حتى أشرفا على الوادي، فإذا هما ببابك وابن سنباط، فنظر إليه وانحدرا وأصحابهما عليه؛ هذا من ها هنا، وهذا من ها هنا، وأخذاهما ومعهما البواشيق؛ وعلى بابك دراعة بيضاء وعمامة بيضاء، وخف قصير. ويقال كان بيده باشق؛ فلما نظر إلى العساكر قد أحدقت به وقف، فنظر إليهما، فقالا له: انزل، فقال: ومن أنتما؟ فقال أحدهما: أنا أبو سعيد، والآخر: أنا بوزبارة، فقال: نعم، وثنى رجله، فنزل، وكان ابن سنباط ينظر إليه؛ فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه، وقال: إنما بعتني لليهود بالشيء اليسير؛ لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء، فقال له أبو سعيد: قم فاركب، قال: نعم فحملوه وجاءوا به إلى الأفشين؛ فلما قرب من العسكر صعد الأفشين برزند، فضربت له خيمة على برزند، وأمر الناس فاصطفوا صفين، وجلس الأفشين في فازة، وجاءوا به، وأمر الأفشين ألا يتركوا عربيًا يدخل بين الصفين فرقًا أن يقتله إنسان أو يخرجه ممن قتل أولياءه، أو صنع به داهية. وكان قد صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان؛ ذكروا أن بابك كان أسرهم؛ وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشين فجعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبيًا أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه؛ فجاء الناس، فأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم. ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينه قدر نصف ميل، أزل بابك يمشي بين الصفين في دراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر؛ فنزلوا به راكبًا، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليه طموا على وجوههم، وصاحوا به وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس؛ تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله. قالوا: كان يحسن إلينا. فأمر به الأفشين فأدخل بيتًا، ووكل به رجالًا من أصحابه. وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار إلى عيسى بن يوسف بن اصطفانوس؛ فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معه في عسكره ووكل به، أعلم بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس؛ فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجه إليه بعبد الله؛ فوجه به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد؛ ووكل بهما قومًا يحفظونهما. وكتب الأفشين إلى المعتصم بأخذه بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمره بالقدوم بهما عليه، فلما أراد أن يسير إلى العراق وجه إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافر بك، فانظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي. فوجه معه الأفشين قومًا في ليلة مقمرة إلى البذ حتى دار فيه، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصبح، ثم رده إلى الأفشين؛ وكان الأفشين قد وكل به رجلًا من أصحابه فاستعفاه منه بابك، فقال له الأفشين: لم استعفيت منه؟ قال: يجئ ويده ملأى غمرًا، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحها. فأعفاه منه. وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال بين بوزبارة وديوداذ. وحج الناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر قدوم الأفشين ببابك على المعتصم فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس ثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامرا فرسًا وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامرا إلى عقبة حلوان خيلًا مضمرة، على رأس كل فرسخ فرسًا معه مجر مرتب؛ فكان يركض بالخبر ركضًا حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يدًا بيد؛ وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج؛ فكان يركض بها يومًا أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر؛ فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق؛ فيأخذ الخريطة منه؛ فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة أيام وأقل فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي داود متنكرًا فرآه وكلمه ثم رجع إلى المعتصم فوصفه له فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير فدخل إليه متنكرًا، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه؛ فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامةً إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أميرالمؤمنين؛ لا شيء أشهر من الفيل، فقال صدقت؛ فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة؛ وهو وحده؛ فقال محمد بن عبد الملك الزيات: قد خضب الفيل كعادته ** يحمل شيطان خراسان والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلا لذي شأنٍ من الشأن فاشتشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة؛ فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزارًا ليقطع يديه ورجليه؛ ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامة؛ وهو ينادي: نودنود - وهو اسم سياف بابك - فارتفعت صيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر أن بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟ فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلًا من الدهاقين يتولى قتلي. قال: إنما يتولى قتلك هذا - وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك - فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج فأخبرني، أأمرت أن تطعمني شيئًا أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غدًا أني دهقان إن شاء الله. ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذًا؟ قال؟ نعم، ولا تكثر، قال فإني لا أكثر، قال فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به رأس الجسر، وأمر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام. وذكر عن طوق بن أحمد، أن بابك ما هرب صار إلى سهل بن سنباط فوجه الأفشين أبا سعيد وبوزبارة، فأخذاه منه، فبعث سهل مع بابك بمعاوية ابنه إلى الأفشين، فأمر لمعاوية بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر وتاج البطرقة، فبطرق سهل بهذا السبب، والذي كان عنده عبد الله أخو بابك عيسى بن يوسف المعروف بابن أخت اصطفانوس ملك البيلقان. وذكر عن محمد بن عمران كاتب علي بن مر، قال: حدثني علي بن مر، عن رجل من الصعاليك يقال له مطر، قال: كان واله يا أبا الحسن بابك ابني، قلت: وكيف؟ قال: كنا مع ابن الرواد، وكانت أمه ترتوميذ العوراء من علوج ابن الرواد، فكنت أنزل عليها، وكانت مصكة، فكانت تخدمني وتغسل ثيابي، فنظرت إليها يومًا، فواثبتها بشبق السفر وطول الغربة، فأقررته في رحمها. ثم قال: غبنا غيبة بعد ذلك، ثم قدمنا فإذا هي تطلبني، فنزلت في منزل آخر، فصارت إلي يومًا، فقالت: حين ملأت بطني تنزل ها هنا وتتركني! فأذاعت أنه مني، فقلت: والله لئن ذكرتني لأقتلنك؛ فأمسكت عني، فهو واله ابني. وكان يجزي الأفشين في مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق، والأنزال والمعاون في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم. وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفًا وخمسمائة إنسان، وغلب يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد، وأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث، وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلثمائة وتسعة أناسي، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهم سبعة آلاف وستمائة إنسان، وعدة من صار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلًا ومن البنات والكنات ثلاث وعشرون امرأة، فتوج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، منها عشرة آلاف ألف صلة وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي: بذ الجلاد البذ فهو دفين ** ما إن به إلا الوحوش قطين لم يقر هذا السيف هذا الصبر في ** هيجاء إلا عز هذا الدين قد كان عذرة سودد فافتضها ** بالسيف فحل المشرق الأفشين فأعادها تعوي الثعالب وسطها ** ولقد ترى بالأمس وهي عرين هطلت عليها من جماجم أهلها ** ديمٌ أمارتها طلى وشؤون كانت من المهجات قبل مفازةً ** عسرًا، فأصبحت وهي منه معين ذكر خبر إيقاع الروم بأهل زبطرة وفي هذه السنة أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون الملسلمين؛ إلى غير ذلك؛ وسبا من المسلمات - فيما قيل - أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم. ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك ذكر أن السبب في ذلك كان ما لحق ببابك من تضييق الأفشين عليه وإشرافه على الهلاك، وقهر الأفشين إياه؛ فلما أشرف على الهلاك، وأيقن بالضعف من نفسه عن حربه، كتب إلى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس؛ يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه حياطه - يعني جعفر بن دينار - وطباخه - يعني إيتاخ - ولم يبق على بابه أحد؛ فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك؛ طمعًا منه بكتابه ذلك إليه في أن ملك الروم إن تحرك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بإزائه من جيوشه إلى ملك الروم، واشتغاله به عنه. فذكر أن توفيل خرج في مائة ألف - وقيل أكثر - فيهم من الجند نيف وسبعون ألفًا، وبقيتهم أتباع حتى صار إلى زبطرة، ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم بارسيس. وكان ملك الروم قد فرض لهم، وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه؛ فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها، وسبى الذرارى والنساء التي فيها وأحرقها، بلغ النفير - فيما ذكر - إلى سامرا، وخرج أهل ثغور الشأم والجزيرة وأهل الجزيرة إلا من لم يكن عنده دابة ولا سلاح، واستعظم المعتصم ذلك. فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته وسمط خلفه كشالًا وسكة حديد وحقيبة، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبية، فجلس - فيما ذكر - في دار العامة، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل، ومعهما ثلثمائة وثمانية وعشرون رجلًا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع. فجعل ثلثًا ولده، وثلثًا لله، وثلثًا لمواليه. ثم عسكر بغربي دجلة؛ وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى. ووجه عجيف بن عنبسة وعمرًا الفرغاني ومحمد كوتة وجماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى باده بعد ما فعل ما قد ذكرناه، فوقفوا قليلًا؛ حتى تراجع الناس إلى قراهم، واطمأنوا. فلما ظفر المعتصم ببابك، قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها؛ وهي أشرف عندهم من القسطنطينية. ذكر الخبر عن فتح عمورية وفي هذه السنة شخص المعتصم غازيًا إلى بلاد الروم. وقيل كان شخوصه إليها من سامرا في سنة أربع وعشرين ومائتين - وقيل في سنة اثنتين وعشرين ومائتين - بعد قتله بابك. فذكر أنه تجهز جهازًا لم يتجهز مثله قبله خليفة قط، من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة. ولما دخل بلاد الروم أقام على نهر اللمس. وهو على سلوقية قريبًا من البحر، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء إذا فودي بين المسلمين والروم، وأمضى المعتصم الأفشين خيذر بن كاوس إلى سروج وأمره بالبروز منها والدخول من درب الحدث، وسمي له يومًا أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر لعسكره وعسكر أشناس يومًا جعله بينه وبين اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، بقدر ما بين المسافتين إلى الموضع الذي رأى أن يجتمع العساكر فيه - وهو أنقرة - ودبر النزول على أنقرة، فإذا فتحها الله عليه صار إلى عمّورية، إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين، ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمّها. وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وأمره بانتظاره بالصفّصاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقين من رجب، وقدّم المعتصم وصيفًا في أثر أشناس على مقدّمات المعتصم، ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب. فلما صار أشناس بمرج الأسقف، ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن الملك بين يديه، وأنه يريد أن يجوز العساكر اللمس، فيقف على المخاضة، فيكسبهم، ويأمره بالمقام بمرج الأسقفّ - وكان جعفر بن دينار على ساقة المعتصم - وأعلم المعتصم أشناس في كتابه أن ينتظر موافاة الساقة، لأن فيها الأثقال والمجانيق والزّاد وغير ذلك؛ وكان ذلك بعد في مضيق الدرب لم يخلص، ويأمره بالمقام إلى أن يتخلص صاحب الساقة من مضيق الدرب بمن معه، ويصحر حتى يصير في بلاد الروم. فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيام؛ حتى ورد كتاب المعتصم، يأمره أن يوّجه قائدًا من قوّاده في سريّة يلتمسون رجلًا من الروم، يسألونه عن خبر الملك ومن معه، فوجه أشناس عمرًا الفرعاني في مائتي فارس، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرّة فخرجوا يلتمسون رجلًا من حول الحصن؛ فلم يمكن ذلك، ونذر بهم صاحب قرّة، فخرج في جميع فرسانه الذين كانوا معه بالفرة، وكمن في الجبل الذي فيما بين قرّة ودرّة؛ وهو جبل كبير يحيط برستاق يسمى رستاق قرّة، وعلم عمرو الفرعاني أن صاحب قرّة قد نذر بهم، فتقدّم إلى درّة، فكمن بها ليلته؛ فلما إنفجر عمود الصبح صيّر عسكره ثلاثة كراديس، وأمرهم أن يركضوا ركضًا سريعًا، بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك، ووعدهم أن يوافوه به في بعض المواضع التي عرفها الأدلّاء، ووجّه مع كل كردوس دليلين. وخرجوا مع الصبح، فتفرقّوا في ثلاثة وجوه؛ فأخذوا عدّة من الروم؛ بعضهم من أهل عسكر الملك، وبعضهم من الضواحي؛ وأخذ عمرو رجلًا من الروم من فرسان أهل القرّة، فسأله عن الخبر؛ فأخبره أن الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللمس بأربعة فراسخ، وأنّ صاحب قرّة نذر بهم في ليلتهم هذه، وأنه ركب فكمن في هذا الجبل فوق رءوسهم؛ فلم يزل عمرو في الموضع الذي كان وعد فيه أصحابه، وأمر الأدلاء الذين معه أن يتفرّقوا رءوس الجبال، وأن يشرفوا على الكراديس الذين وجّههم إشفاقًا أن يخالفهم صاحب قرذة إلى أحد الكراديس، فرآهم الأدلّاء، ولوّحوا لهم، فأقبلوا فتوافواهم وعمرو في موضع غير الموضع الذي كانوا اتعّدوا له، ثم نزلوا قليلًا، ثم ارتحلوا يريدون العسكر، وقد أخذوا عدة ممن كان في عسكر الملك، فصاروا إلى أشناس في اللمس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم منذ أكثر من ثلاثين يومًا ينتظر عبور المعتصم ومقدمّته باللمس؛ فيواقعهم من وراء اللمس، وأنه جاءه الخبر قريبًا، أنه قد رحل من ناحية الأرمنياق عسكر ضخم، وتوسط البلاد - يعني عسكر الأفشين - وأنه قد صارخلفه. فأمر الملك رجلًا من أهل بيته ابن خاله، فأستخلفه على عسكره، وخرج ملك الروم في طائفة من عسكره يريد ناحية الأفشين، فوجّه أشناس بذلك الرجل الذي أخبره بهذا الخبر إلى المعتصم، فأخبره بالخبر، فوجه المعتصم من عسكره قومًا من الأدلاء، وضمن لهم لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم؛ على أن يوافوا بكتابه الأفشين، وأعلمه فيه أن أمير المؤمنين مقيم، فليقم إشفاقًا من أن يواقعه ملك الروم. وكتب إلى أشناس كتابًا يأمره أن يوجه من قبله رسولًا من الأدلاء الذين يعرفون الجبال والطرق والمشبهة بالروم، وضمن لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم إن هو أوصل الكتاب، ويكتب إليه أن ملك الروم قد أقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه كتاب أمير المؤمنين. فتوجهت الرسل إلى ناحية الأفشين، فلم يلحقه أحد منهم؛ وذلك أنه كان وغل في بلاد الروم، وتوافت آلات المعتصم وأصقاله مع صاحب الساقة إلى العسكر، فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدم؛ فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا. ولم يرد عليهم من الأفشين خبر؛ حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل؛ وضاق عسكر المعتصم ضيقًا شديدًا من الماء والعلف. وكان أشناس قد أسر عدة أسرى في طريقه، فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخٌ كبير؛ فقال الشيخ: ما تنتفع بقتلي؛ وأنت في هذا الضيق، وعسكرك أيضًا في ضيق من الماء والزاد، وها هنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفًا من أن ينزل بهم ملك العرب؛ وهم بالقرب منا ها هنا، معهم من الميرة والطعام والشعير شيء كثير، فوجه معي قومًا لأدفعهم إليهم، وخل سبيلي!. فنادى منادي أشناس: من كان به نشاط فليركب، فركب معه قريب من خمسمائة فارس؛ فخرج أشناس حتى صار من العسكر على ميل، وبرز معه من نشط من الناس ثم برز فضرب دابته بالسوط، فركض قريبًا من ميلين ركضًا شديدًا، ثم وقف ينظر إلى أصحابه خلفه؛ فمن لم يلحق بالكردوس لضعف دابته رده إلى العسكر، ودفع الرجل الأسير إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى ما أراك هذا سبيًا وغنيمة كثيرة فخل سبيله على ما ضمنا له. فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة، فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمرج الناس دوابهم في الحشيش حتى شبعت، وتعشى الناس وشربوا حتى رووا، ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة، وسار أشناس من موضعه الذي كان به متوجهًا إلى أنقرة. وأمر مالك بن كيدر والأدلاء الذين معه أن يوافوه بأنقرة، فسار بهم الشيخ العلج بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ليس يخرجهم منه، فقال الأدلاء لمالك بن كيدر: هذا الرجل يدور بنا، فسأله مالك عما ذكر الأدلاء، فقال: صدقوا، القوم الذين تريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر؛ فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم نر أحدًا قتلني، ولكن أدور بك في هذا الجبل إلى الصبح؛ فإذا أصبحنا خرجنا إليهم، فأريتك إياهم حتى آمن ألا تقتلني. فقال له مالك: ويحك! فأنزلنا في هذا الجبل حتى تستريح، فقال: رأيك؛ فنزل مالك ونزل الناس على الصخرة، وأمسكوا لجم دوابهم حتى انفجر الصبح؛ فلما طلع الفجر قال: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوقه، فيأخذان من أدركا فيه، فصعد أربعة من الرجال، فأصابوا رجلًا وامرأة؛ فأنزلوهما، فساءلهما العلج: أين بات أهل أنقرة؟ فسموا لهم الموضع الذي باتوا فيه، مالك عنهما، ثم سار بهم العلج إلى الموضع الذي سماه لهم، فأشرف بهم على العسكر عسكر أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة فلما رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان، فدخلوا الملاحة، ووقفوا لهم على طرف الملاحة يقاتلون بالقنا، ولم يكن موضع حجارة ولا موضع خيل، وأخذوا منهم عدة أسرى وأصابوا في الأسرى عدة بهم جراحات عتق من جراحات متقدمة، فساءلوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا لهم: حدثونا بالقضية فأخبروهم أن الملك كان معسكرًا على أربعة فراسخ من اللمس؛ حتى جاءه رسول، أن عسكرًا ضخمًا قد دخل من ناحية الأرميناق، فاستخلف على عسكره رجلًا من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه؛ فإن ورد عليه مقدمة ملك العرب، واقعه إلى أن يذهب هو فيواقع العسكر الذي دخل الأرميناق - يعني عسكر الأفشين - فقال أميرهم: نعم؛ وكنت ممن سار مع الملك، فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم، وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم؛ فلما كان الظهر رجع فرسانهم، فقاتلونا قتالًا شديدًا حتى حرقوا عسكرنا، واختلطوا بنا واختلطنا بهم؛ فلم ندر في أي كردوس الملك! فلم نزل كذلك إلى وقت العصر، ثم رجعنا إلى موضع عسكر الملك الذي كنا فيه فلم نصادفه، فرجعنا إلى موضع معسكر الملك الذي خلفه على اللمس، فوجدنا العسكر قد انتقض، وانصرف الناس عن الرجل قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر؛ فأقمنا على ذلك ليلتنا؛ فلما كان الغد، وأفانا الملك في جماعة يسيرة، فوجد عسكره قد اختل، وأخذ الذي استخلفه على العسكر، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون ألا يأخذوا رجلًا ممن انصرف من عسكر الملك إلا ضربوه بالسياط، أو يرجع إلى موضع سماه لهم الملك انحاز إليه ليجتمع إليه الناس، ويعسكر به، ليناهض ملك العرب؛ ووجه خادمًا له خصيًا إلى أنقرة على أن يقيم بها، ويحفظ أهلها إن نزل بها ملك العرب. قال الأسير: فجاء الخصي إلى أنقرة، وجئنا معه، فإذا أنقرة قد عطلها أهلها، وهربوا منها، فكتب الخصي إلى ملك الروم يعلمه ذلك، فكتب إليه الملك يأمره بالمسير إلى عمورية. قال: وسألت عن الموضع الذي قصد إليه أهلها - يعني أهل أنقرة - فقالوا لي: إنهم بالملاحة فلحقنا بهم. قا مالك بن كيدر: فدعوا الناس كلهم، خذوا ما أخذتم، ودعوا الباقي، فترك الناس السبي والمقاتلة وانصرفوا راجعين يريدون عسكر أشناس، وساقوا في طريقهم غنمًا كثيرًا وبقرًا، وأطلق ذلك الشيخ الأسير مالك وسار إلى عسكر أشناس بالأسرى؛ حتى لحق بأنقرة فمكث أشناس يومًا واحدًا، ثم لحقه المعتصم من غد؛ فأخبره بالذي به الأسير، فسرّ المعتصم بذلك. فلمّا كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة، وأنه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة. قال: ثم ورد المعتصم الأفشين بعد ذلك اليوم بيوم بأنقرة، فأقاموا بها أيامًا، ثم صيّر العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، والأفشين في الميمنة؛ وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقّوا القرى ويخرّبوها، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبى، وإذا كان وقت النزول توافى كلّ أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عموّريّة؛ وبينهما سبع مراحل؛ حتى توافت العساكر بعمّورية. قال: فلما توافت العساكر بعمّورية، كان أوّل من وردها أشناس؛ وردها يوم الخميس ضحوة، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش؛ فلما طلعت الشمس من الغد، ركب المعتصم، فدار حولها دورةً، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد كما تدور؛ صيّر إلى كل واحد منهم أبراجًا منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم، وصار لكلّ قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجًا، وتحصّن أهل عمّورية وتحرّزوا. وكان رجلٌ من المسلمين قد أسره أهل عمورية، فتنصر وتزوج فيهم، فحبس نفسه عند دخولهم الحصن، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وصار إلى المسليمن، وجاء إلى المعتصم، وأعلمه أن موضعًا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر جاءهم شديد، فحمل الماء عليه، فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبنى ذلك الموضع، فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فيمر بالسور، فلا يراه بني، فوجه خلف الصناع فبنى وجه السور بالحجارة حجرًا حجرًا، وصير وراءه من جانب المدينة حشوًا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عمورية انفراج السور، علقوا عليه الخشب الكبار، كل واحد بلزق الأخرى؛ فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فعلقوا خشبًا غيره، وصيروا فوق الخشب البراذع ليترسوا السور. فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع، انصدع السور، فكتب ياطس والخصي إلى ملك الروم، كتابًا يعلمانه أمر السور، ووجها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي، وأخرجاهما من الفصيل، فعبروا الخندق، ووقعا إلى ناحية أبناء الملوك المضمونين إلى عمرو الفرغاني، فلما خرجا من الخندق أنكروهما فسألوهما: من أين أنتما؟ قالا لهم: نحن من أصحابكم، قالوا: من أصحاب من أنتم؟ فلم يعرفا أحدًا من قواد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى عمر الفرغاني بن أربخا، فوجه بهما عمرو إلى أشناس، فوجه بهما أشناس إلى المعتصم، فساءلهما المعتصم، وفتشهما، فوجد معهما كتابًا من ياطس إلى ملك الروم، يعلمه فيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة في جمع كثير، وقد ضاق بهم الموضع. وقد كان دخوله ذلك الموضع خطأ - وأنه قد اعتزم على أن يركب، ويحمل خاصة أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلًا غفلة، ويخرج فيحمل على العسكر كائنًا فيه ما كان؛ أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب؛ حتى يتخلص من الحصار، ويصير إلى الملك. فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلم منهما بالعربية والغلام الرومي الذي معه ببدرة، فأسلما وخلع عليهما، وأمر بهما حين طعت الشمس فأدارهما حول عمورية، فقالا: ياطس يكون في هذا البرج، فأمر بهما فوقفا بحذاء البرج الذي فيه ياطس طويلًا، وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدارهم وعليهما الخلع، ومعهما الكتاب حتى فهمهما ياطس وجميع الروم، وشتموهما من فوق السور، ثم أمر بهما المعتصم فنحوهما، وأمر المعتصم أن يكون الحراسة بينهم نوائب؛ في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بالسلاح وهم وقوف عليها؛ لئلا يفتح الباب ليلًا، فيخرج من عمورية إنسان، فلم يزل الناس يبيتون كذلك نوائب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجهما، حتى انهدم السور ما بين برجين من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله. وسمع أهل العسكر الوجبة فتشوفوا، وظنوا أن العدو قد خرج على بعض الكراديس حتى أرسل المعتصم من طاف على الناس في العسكر يعلمهم أن ذلك صوت السور وقد سقط، فطيبوا نفسًا. وكان المعتصم حين نزل عمورية ونظر إلى سعة خندقها وطول سورها؛ وكان قد استاق في طريقه غنمًا كثيرة، فدبر في ذلك أن يتخذ مجانيق كبارًا على قدر ارتفاع السور، ويسع كل منجنيق منها أربعة رجال وعملها أوثق ما يكون وأحكمه، وجعلها على كراسي تحتها عجل ودبر في ذلك أن يدفع الغنم إلى أهل العسكر إلى كل رجل شاة فيأكل لحمها، ويحشو جلدها ترابًا ثم يؤتى بالجلود مملوءة ترابًا؛ حتى تطرح في الخندق. ففعل ذلك بالخندق، وعمل دبابات كبارًا تسع كل دبابة عشرة رجال، وأحكمها على أن يدحرجها على الجلود المملوءة ترابًا حتى يمتلئ الخندق ففعل ذك وطرحت الجلود فلم تقع الجلود مستوية منضدة خوفًا منهم من حجارة الروم، فوقعت مختلفة؛ ولم يكن تسويتها، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدمت دبابة فدحرجها، فلما صارت من الخندق في نصفه تعلقت بتلك الجلود، وبقي القوم فيها؛ فما تخلصوا منها إلا بعد جهد. ثم مكثت تلك العجلة مقيمة هناك، لم يكن فيها حيلة حتى فتحت عموريته، وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم وغير ذلك حتى أحرقت فلما كان من الغد قاتلهم على الثلمة؛ وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقًا، فلم يمكنهم الحرب فيه؛ فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض، وصيرها حول الثلمة، وأمر أن يرمى ذلم الموضع؛ وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب وتقدموا. وكان المعتصم واقفًا على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه؛ وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفًا رجالة، فقال المعتصم: ما كان أحسن الحرب اليوم! فقال عمر الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، وسمعها أشناس فأمسك؛ فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم إلى مضربه، فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، وقرب أشناس من باب مضربه، ترجل له القواد كما كانوا يفعلون؛ وفيهم عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام فمشوا بين يديه كعادته عند مضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيش تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: إن الحرب اليوم أحسن منها أمس كان أمس يقاتل غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم. فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة - يعني أشناس - ما صنع بنا اليوم! أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل - وكان عند عمرو خبر -: يا أبا العباس، سيكفيك الله أمره، عن قريب أبشر. فأوهم أحمد أن عنده خبرًا، فألح عليه أحمد يسأله؛ فأخبره بما هم فيه؛ وقال: إن العباس بن المأمون قد تم أمره، وسنبايع له ظاهرًا، ونقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب. ثم قال له: أشير عليك أن تأتي العباس، فتقدم فتكون في عداد من مال إليه. فقال له أحمد: هذا أمر لا أحسبه يتم، فقال له عمرو: قد تم وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي - قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح؛ وكان المتولي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم - فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال له أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمر يتم بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل؛ فذهب الحارث، فلقى العباس فأخبره إن عمرًا قد ذكره لأحمد بن الخليل، فقال له: ما كنت أحب أن يطلع الخليل على شيء من أمرنا؛ أمسكوا عنه؛ ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما. فأمسكوا عنه. فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا فأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم؛ فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات. وكان قواد ملك الروم عند ما نزل بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج؛ لكل قائد وأصحابه عدة أبرجة؛ وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلًا من قواد الروم يقال له وندوا، وتفسيره بالعربية " ثور "؛ فقاتل الرجل وأصحابه قتالًا شديدًا بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابه، لم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم؛ فلما كان بالليل مضى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم، فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق أحد إلا قد جرح؛ فصّيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلًا؛ وإلا افتضحتم وذهبت المدينة. فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا؛ فشأنك وناحيتك؛ فليس لك عندنا مدد. فاعتزم هو وأصحابه على أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين المعتصم، ويسألوه الأمان على الذرية، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من الخرثى والمتاع والسلاح وغير ذلك. فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة؛ وخرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين؛ وأمر أصحابه ألا يحاربوا حتى يعود إليهم؛ فخرج حتى وصل إلى المعتصم؛ فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة؛ وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم: لا تحيوا، وهم يتقدموا، ووندوا بين يدي المعتصم جالس؛ فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه، وقابل حتى صار الناس معهم على حرف الثلمة، وعبد الوهاب بن علي بين يدي المعتصم، فأومأ إلى الناس بيده: أن ادخلوا، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا، وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟ قال: جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي، فغدرت بي؛ فقال المعتصم: كل شيء تريد أن تقوله فهو لك علي، قل ما شئت؛ فإني لست أخالفك. قال: أيشٍ لا تخالفني وقد دخلوا المدينة! فقال المعتصم: اضرب بيدك إلى ما شئت فهو لك، وقل ما شئت فإني أعطيكه. فوقف في مضرب المعتصم. وكان ياطس في برجه الذي هو فيه وحوله جماعة من الروم مجتمعين، وصارت طائفة منهم إلى كنيسة كبيرة في زاوية عمورية؛ فقاتلوا قتالًا شديدًا، فأحرق الناس الكنيسة عليهم فاحترقوا عن آخرهم، وبقي ياطس في برجه حول أصحابه، وباقي الروم وقد أخذتهم السيوف؛ فبين مقتول ومجروح؛ فركب المعتصم عند ذلك حتى جاء فوقف حذاء ياطس؛ وكان مما يلي عسكر أشناس، فصاحوا: يا ياطس، هذا أمير المؤمنين؛ فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس ها هنا، قالوا: بلى، قولوا له: إن أمير المؤمنين واقف، فقالوا ليس ياطس ها هنا. فمر أمير المؤمنين مغضبًا، فلما جاوز صاح الروم: هذا ياطس، هذا ياطس! فرجع المعتصم إلى حيال البرج حتى وقف؛ ثم أمر بتلك السلاليم التي هيئت، فحمل سلّم منها، فوضع على البرج الذي هو فيه، وصعد عليه الحسن الرومي - غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف - وكلمه ياطس، فقال: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه؛ فنزل الحسن، فأخبر المعتصم أنه قد رآه وكلمه، فقال المعتصم: قل له فلينزل؛ فصعد الحسن ثانية، فخرج ياطس من البرج متقلدًا سيفًا حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، فدفعه إلى الحسن، ثم نزل ياطس، فوقف بين يدي المعتصم؛ فقنّعه سوطًا، وانصرف المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه، فمشى قليلًا، ثم جاءه رسول المعتصم، أن احملوه، فذهب به إلى مضرب أمير المؤمنين. ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر؛ فأمر المعتصم بسيل الترجمان أن يميز الأسرى، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية، ويعزل الباقين في ناحية؛ ففعل ذلك بسيل. ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي عليه، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي ويبيع، وأمر إيتاخ بناحيته مثل ذلك؛ وجعفرًا الخياط بمثل ذلك في ناحيته، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلًا من قبل أحمد بن أبي داود يحصى عليه، فبيعت المقاسم في خمسة أيام؛ بيع منها ما استباع، وأمر بالباقي فضرب بالنار، وارتحل المعتصم منصرفًا إلى أرض طرسوس. ولما كان يوم إيتاخ قبل أن يرتحل المعتصم منصرفًا، وثب الناس على المغنم الذي كان إيتاخ على بيعه، وهو اليوم الذي كان عجيف وعد الناس فيه أن يثب بالمعتصم، فركب المعتصم بنفسه ركضًا، وسل سيفه، فتنحى الناس عنه من بين يديه، وكفوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه؛ فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات، ليتروح البيع، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات، وإلا بيع العلق؛ فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس؛ فكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، وعشرة عشرة، والمتاع الكثير جملة واحدة. قال: وكان ملك الروم قد وجه رسولًا في أول ما نزل المعتصم على عمورية فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كان الناس يستقون منه؛ وكان بينه وبين عمورية ثلاثة أميال؛ ولم يأذن له في المصير إليه حتى فتح عمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم؛ فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور؛ وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر؛ فمضى في طريق الجادة مرحلة؛ ثم رجع إلى عمورية، وأمر الناس بالرجوع، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادي الجور، ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم، فساروا في طريق نحوًا من أربعين ميلًا؛ ليس فيه ماء؛ فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه؛ فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وهرب. وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم أمر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعًا، وهم مقدار ستة آلاف رجل؛ قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر. ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء. وكانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم - فيما ذكر - يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، وقفل بعد خمسة وخمسين يومًا. وقال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم: أثبت المعصوم عزًا لأبي ** حسنٍ أثبت من ركن إضم كل مجدٍ دون ما أثله ** لبني كاوس أملاك العجم إنما الأفشين سيفٌ سله ** قدر الله بكف المعتصم لم يدع بالبذ من ساكنةٍ ** غير أمثالٍ كأمثال إرم ثم أهدى سلمًا بابكه ** رهن حجلين نجيا الندم وقرا توفيل طعنًا صادقًا ** فض جمعيه جميعًا وهزم قتل الأكثر منهم ونجا ** من نجا لحمًا على ظهر وضم ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمون وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه. ذكر الخبر عن سبب فعله ذلك ذكر أن السبب كان في ذلك أن عجيف بن عنبسة حين وجهه المعتصم إلى بلاد الروم، لما كان من أمر ملك الروم بزبطرة مع عمرو بن أربخا الفرغاني ومحمد كوتة، لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، واستبان ذلك لعجيف، فوبخ عجيف العباس على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك، ودس رجلًا يقال له الحارث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح - وكان العباس يأنس به، وكان الحارث رجلًا أديبًا له عقل ومداراة - فصيره العباس رسوله وسفيره إلى القواد؛ فكان يدور في العسكر حتى تألف له جماعة من القواد، وبايعوه وبايعه منهم خواص، وسمى لكل رجل من قواد المعتصم رجلًا من ثقات أصحابه ممن بايعه، ووكله بذلك وقال: إذا أمرنا بذلك؛ فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له ذلك، فكان يقول للرجل ممن بايعه: عليك يا فلان أن تقتل فلانًا، فيقول: نعم، فوكل من بايعه من خاصة المعتصم بالمعتصم ومن خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصة أشناس بأشناس؛ ممن بايعه من الأتراك، فضمنوا ذلك جميعًا. فلما أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية، ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس، وقد تقطعت عنه العساكر، فيقتله ويرجع إلى بغداد؛ فكان الناس يفرحون من الغزو، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسد هذه الغزاة؛ حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمّورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم، كم تنام! قد فتحت عمّوريّة، والرجل ممكن، دسّ قومًا ينتبهون هذا الخرثي، فإنه إذا بلغه ذلك ركب بسرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى العباس، وقال، أنتظر حتى يصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة؛ فهو أمكن منه هاهنا. وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع، فانتهب بعض الخرثي في عسكر إيتاخ. فركب المعتصم وجاء ركضًا، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحدًا من أولئك الرجال الذين كان واعدهم، فلم يحدثوا شيئًا، وكرهوا أن يفعلوا شيئًا بغير أمره. وكان عمرو الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم؛ ولعمرو الفرغاني قرابة، غلام أمرد في خاصة المعتصم، فجاء الغلام إلى ولد عمرو يشرب عندهم تلك في الليلة، فأخبرهم أن أمير المؤمنين ركب مستعجلًا؛ وأنه كان يعدو بين يديه، وقال: إنّ أمير المؤمنين قد غضب اليوم، فأمرني أن أسلّ سيفي، وقال: لا يستقبلك أحد إلا ضربته، فسمع عمرو ذلك من الغلام، فأشفق عليه أن يصاب، فقال له: يا بني، أنت أحمق، أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين بالليل، والزم خيمتك؛ فإن سمعت صيحةً مثل هذه الصيحة، أو شغبًا أو شيئًا فلا تبرح من خيمتك؛ فإنك غلام غرّ؛ لست تعرف بعد العساكر. فعرف الغلام مقالة عمرو. وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر، ووجّه الأفشين ابن الأقطع في طريق خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له، وأن يوافيه في بعض الطريق؛ فمضى ابن الأقطع، وتوجّه المعتصم يريد الثغر، فسار حتى صار إلى موضع أقام فيه ليريح ويستريح، وليسلك الناس من المضيق الذي بين أيديهم. ووافى ابن الأقطع عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم؛ وكان عسكر المعتصم على حدة وعسكر الأفشين على حدة، بين كل عسكر قدر ميلين أو أكثر، واعتلّ أشناش فركب المعتصم صلاة الغداة يعوده؛ فجاء إلى مضربه فعاده؛ ولم يكن الأفشين لحقه بعد. ثم خرج المعتصم منصرفًا، فتلقاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم: تريد أبا جعفر. وكان عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجهًا إلى ناحية عسكر الأفشين لينظرا ما جاء به ابن الأقطع من السبى فيشتريا منه ما أعجبهما، فتوجها ناحية عسكر الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس - فترجّلا، وسلمّا عليه، ونظر إليهما حاجب أشناس من بعد، فدخل الأفشين إلى أشناس، ثم انصرف، وتوجّها إلى عسكر الأفشين، فلم يكن السبى أخرج بعد، فوقفا ناحية ينتظران أن ينادي على السبي، فيشتريا منه؛ ودخل حاجب أشناس على أشناس، فقال، إن عمرًا الفرغاني وأحمد بن الخليل تلقيا الأفشين؛ وهما يريدان عسكره، فترجلا وسلما عليه وتوجها إلى عسكره. فدعا أشناس محمد بن سعيد السعدي فقال له: اذهب إلى عسكر الأفشين فانظر هل ترى هناك عمرًا الفرغاني وأحمد بن الخليل،! وانظر عند من نزلا وأي شيء قصتهما؟ فجاء محمد بن سعيد، فأصابهما واقفين على ظهور دوابهما فقال: ما أوقفكما ها هنا؟ قالا: وقفنا ننتظر سبي ابن الأقطع يخرج؛ فنشتري بعضه فقال لهما محمد بن سعيد: وكلا وكيلا يشتري لكما، فقال: لا نحب أن نشتري إلا ما نراه؛ فرجع محمد، فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه: قل لهؤلاء الزموا عسكركم: فهو خير لكم - يعني عمرًا وابن الخليل - ولا تذهبوا ها هنا وها هنا. فدعا الحاحب إليهما، فأعلمهما، فاعتما لذلك واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس؛ فصارا إلى صاحب الخبر، فقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، يضمنا إلى من شاء؛ فإن هذا الرجل يستخف بنا، وقد شتمنا وتوعدنا، ونحن نخاف أن يقدم علينا، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أحب. فأنهى صاحب الخبر ذلك إلى المعتصم من يومه، واتفق الرحيل صلاة الغداة؛ وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها، وسار أشناس والأفشين وجميع القواد في عسكر أمير المؤمنين، وكلوا خلفاءهم بالعساكر؛ فيسيرون بها. وكان الأفشين على الميسرة وأشناس على الميمنة؛ فلما ذهب أشناس إلى المعتصم قال له: أحسن أدب عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل؛ فإنهما قد حمقا أنفسهما؛ فجاء أشناس ركضًا إلى معسكره، فسأل عن عمرو وابن الخليل، فأصاب عمر أروكان ابن الخليل قد مضى في المسيرة يبادر الروم، فجاءه بعمرو الفرغاني؛ وقال: هاتوا سياطًا فمكث طويلًا مجرد أليس يؤتى بالسياط؛ فتقدم عمه إلى أشناس، فكلمه في عمرو - وكان عمه أعجميًا - وعمرو واقف، فقال: احملوه، فألبسوه قباء طاق، فحملوه على بغل في قبة، وساروا به إلى العسكر، وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض، فقال: احبسوا هذا معه، فأنزل عن دابته، وصير عديلته، ودفعا إلى محمد بن سعيد السعدي يحفظهما؛ فكان يضرب لهما مضربًا في فازة وحجرة ومائدة، ويفرش لهما فرشًا وطية، وحوضًا من ماء وأثقالهما وغلماتهما في العسكر؛ لم يحرك منها شيء؛ فلم يزالا كذك حتى صارا إلى جبل الصفصاف. وكان أشناس على الساقة، وكان بغا على ساقة عسكر المعتصم فلما صار بالصفصاف، وسمع الغلام الفرغاني قرابة عمرو بحبس عمرو، ذكر الغلام للمعتصم ما دار بينه وبين عمرو من الكلام في تلك الليلة، مما قال له عمرو؛ إذا رأيت شغبًا فالزم خيمتك؛ فقال المعتصم لبغا: لا ترحل غدًا حتى تجىء أشناس، فتأخذ منه عمرًا، وتلحقني به، وكان هذا بالصفصاف. فوقف بغا بأعلامه ينتظر أشناس، وجاء محمد بن سعيد ومعه عمرو وأحمد ابن الخليل، فقال بغا لأشناس: أمرني أمير المؤمنين أن أوافيه بعمرو الساعة، فأنزل عمرو، وجعل مع أحمد بن الخليل في القبة رجل يعادله، ومضى بغا بعمرو إلى المعتصم، فأرسل أحمد بن الخليل غلامًا من غلمانه إلى عمرو، لينظر ما يصنع به؛ فرجع الغلام فأخبره أنه أدخل على أمير المؤمنين، فمكث ساعة ثم دفع إلى إيتاخ؛ وكان أمير المؤمنين لما دخل ساء له عن الكلام الذي قاله للغلام قرابته؛ فأنكر وقال: هذا الغلام كان سكران ولم يفهم ولم أقل شيئًا مما ذكره فأمر به فدفع إلى إيتاخ، وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البدندون، وأقام أشناس ثلاثة أيام على مضيق البدنون ينتظر أن تتخلص عساكر أمير المؤمنين؛ لأنه كان على الساقة، فكتب أحمد بن الخليل إلى أشناس رقعة يعلمه أن لأمير المؤمنين عنده نصيحة، وأشناس مقيم على مضيق البدندون، فبعث إليه أشناس بأحمد بن الخصيب وأبي سعيد محمد ابن يوسف يسألانه عن النصيحة، فذكر أن لا غير إلا أمير المؤمنين فرجعا فأخبرا أشناس بذلك، فقال: راجعا فاحلفا له: إني حلفت بحياة أمير المؤمنين؛ إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت؛ فرجعا فأخبرا أحمد بن الخليل بذلك. فأخرج جميع من عنده، وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمرو الفرغاني من أمر العباس، وشرح لهما جميع ما كان عنده، وأخبرهما بخبر الحارث السمرقندي، فانصرفا إلى أشناس فأخبراه بذلك، فبعث أشناس في طلب الحدادين فجاءوا بحدادين من الجند، فدفع إليهما حديدًا، فقال اعملا لي قيدًا مثل قيد أحمد بن الخليل، وعجلا به الساعة، ففعلا ذلك؛ فلما كان عنده حبسه، وكان حاجب أشناس يبيت عند أحمد بن الخليل مع محمد بن سعيد السعدي. فلما كان تلك الليلة عند العتمة ذهب الحاجب إلى خيمة الحارث السمرقندي فأخرجه منها، وجاء به إلى أشناس فقيده، وأمر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين فحمله الحاحب إليه، واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة، فجاء أشناس إلى موضع معسكره، فتلقاه الحارث معه رجل من قبل المعتصم، وعليه خلع، فقال له أشناس: مه، فقال: القيد الذي كان في رجل صار في رجل العباس. وسأل المعتصم الحارث حين صار إليه عن أمره، فأقر أنه كان صاحب خبر العباس وأخبره بجميع أمره بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القواد فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم وكثرة من سمى منهم. وتحير المعتصم في أمر العباس فدعا به حين خرج إلى الدرب فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، وتغدى معه، وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل، فنادمه على النبيذ، وسقاه حتى أسكره؛ واستخلفه ألا يكتمه من أمره شيئًا، فشرح له قصته، وسمى له جميع من كان دب في أمره، وكيف كان السبب في ذلك في كل واحد منهم، فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك، فسأله عن الأسباب، فقص عليه مثل ما قص عليه العباس ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس، ثم قال للحارث: قد رضتك على أن تكذب؛ فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل، فقد أفلت، فقال له: يأمير المؤمنين ولست بصاحب كذب. ثم دفع العباس إلى الأفشين، ثم تتبّع المعتصم أولئك القوّاد، فأخذوا جميعًا، فأمر أن يحمل أحمد بن الخليل على بغل بإكاف بلا وطاء، ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم في كل يوم رغيفًا واحدًا، وأخذ عجيف بن عنبسة فيمن أخذ من القوّاد، فدفع من سائر القواد إلى إيتاخ، ودفع ابن الخليل إلى أشناس، فكان عجيف وأصحابه يحملون في الطريق على بغال بأكف بلا وطاء، وأخذ الشاه بن سهل - وهو الرأس ابن الرأس من أهل قرية من خراسان يقال لها سجستان - فدعا به المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: يا بن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر! فقال له الشاه بن سهل: ابن الزانية هذا الذي بين يديك - يعني العباس - لو تركني هذا كنت أنت الساعة لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول لي: يا بن الفاعلة؟ فأمر به المعتصم، فضربت عنقه؛ وهو أوّل من قتل من القواد ومعه صحبه، ودفع عجيف إلى إيتاخ فعلّق عليه حديدًا كثيرًا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء. وأما العبّاس فكان في يدي الأفشين؛ فلما نزل المعتصم منبج - وكان العباس جائعًا - سأل الطعام، فقدّم إليه طعام كثير؛ فأكل فلمّا طلب الماء منع وأدرج في مسحٍ، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته. وأما عمرو الفرغاني، فإنه لما نزل المعتصم بنصيبين في بستان، دعا صاحب البستان، فقال له: احفر بئرًا في موضع أومأ إليه بقدر قامة، فبدأ صاحب البستان فحفرها، ثم دعا بعمرو والمعتصم جالسٌ في البستان، قد شرب أقداحًا من نبيذ؛ فلم يكلمه المعتصم، ولم يتكلم عمرو حتى مثل بين يديه، فقال: جرّدوه، فجرّد، وضرب بالسياط ضربة الأتراك، والبئر تحفر؛ حتى إذا فرغ من حفرها قال صاحب البستان: قد حفرتها، فأمر المعتصم عند ذلك فضرب وجه عمرو وجسده بالخشب؛ فلم يضرب حتى سقط، ثم قال: جرّوه إلى البئر فاطرحوه فيها، فلم يتكلم عمرو ولم ينطق يومه ذلك، حتى مات فطرح في البئر، وطمّت عليه. وأما عجيف بن عنبسة؛ فلما صار بباعيناثا، فوق بلد قليلًا، مات في المحمل، فطرح عند صاحب المسلحة، وأمر أن يدفن فيها، فجاء به إلى جانب حائط خرب فطرحه عليه فقبر هناك. وذكر عن علي بن حسن الريداني أنه قال: كان عجيف في يد محمد ابن إبراهيم بن مصعب، فسأله المعتصم عنه؛ فقال له: يا محمد، لم يمت عجيف؟ يا سيّدي اليوم يموت، ثم أتى محمد مضربه، فقال لعجيف يا أبا صالح، أي شيء تشتهي؟ قال أسفيدباج وحلوى فالوذج، فأمر أن يعمل له من كلّ طعام؛ فأكل وطلب الماء فمنع؛ فلم يزل يطلب وهو يسوق حتى مات، فدفن بباعيناثا. قال: وأما التركي الذي كان ضمن للعباس قتل أشناس متى ما أمره العباس - وكان كريمًا على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه في ليل ولا نهار - فإنه أمر بحبسه، فحبسه أشناس قبله في بيت، وطيّن عليه الباب، وكان يلقي إليه في كلّ يوم رغيفًا وكوز ماء؛ فأتاه ابنه في بعض أيامه، فكلمه من وراء الحائط، فقال له، يا بني، لو كنت تقدر لي على سكين كنت أقدر أن أتخلص من موضعي هذا؛ فلم يزل ابنه يتلطف في ذلك حتى أوصل إليه سكينًا فقتل به نفسه. وأما السندي بن بختاشة، فأمر المعتصم أن يوهب لابنه بختاشة - لأن بختاشة لم يكن يتلطخ بشئ من أمر العباس - فقال المعتصم: لا يفجع هذا الشيخ بابنه؛ فأمر بتخلية سبيله. وأما أحمد بن الخليل؛ فإنه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد السعدي، فحفر له بئرًا في الجزيرة بسامرا، فسأل عنه المعتصم يومًا من الأيام، فقال لأشناس: ما فعل أحمد بن الخليل؟ فقال له أشناس: هو عند محمد بن سعيد السعدي، قد حفرله بئرًا وأطبق عليه، وفتح له فيها كوة ليرمي إليه بالخبز والماء. فقال المعتصم: هذا ما أحسبه قد سمن على هذه الحال؛ فأخبر أشناس محمد بن سعيد بذلك؛ فأمر محمد بن سعيد أن يسقى الماء، ويصب عليه في البئر حتى يموت: ويمتلئ البئر؛ فلم يزل يصب عليه الماء، والرمل ينشف الماء؛ فلم يغرق ولم يمتلئ البئر؛ فأمر أشناس بدفعه إلى غطريف الخجندي، فدفع إليه فمكث عنده أيامًا، ثم مات فدفن. وأما هرثمة بن النصر الختلي، فكان واليًا على المراغة؛ وكان في عداد من سماه العباس أنه من أصحابه؛ فكتب في حمله في الحديد، فتكلم فيه الأفشين، واستوهبه من المعتصم، فوهبه له فكتب الأفشين كتابًا إلى هرثمة ابن النضر يعلمه أن أمير المؤمنين قد وهبه له، وأنه قد ولاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فورد به الدينور عند العشاء مقيدًا، فطرح في الخان، وهو موثق في الحديد، فوافاه الكتاب في جنح الليل، فأصبح وهو والي الدينور. وقتل بافي القواد ومن لم يحفظ اسمه من الأاراك والفراعنة وغيرهم، قتلوا جميعًا. وورد المعتصم سامرا سالمًا بأحسن حال، فسمى العباس: اللعين يومئذ، ودفع ولد سندس من ولد المأمون إلى إيتاخ فحبسوا في سرداب من داره ثم ماتوا بعد. وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم؛ جرحه خادم له. وحج بالناس فيها محمد بن داود. ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن مخالفة مازيار بطبرستان فما كان فيها من ذلك إظهار مازيار بن قارن بن ونداهرمز بطبرستان الخلاف على المعتصم، ومحاربته أهل السفح والأمصار منها. ذكر الخبر عن سبب إظهاره الخلاف على المعتصم وفعله ما فعل من الوثوب بأهل السفح ذكر أن السبب في ذلك، كان أن مازيار بن قارن كان منافرًا لآل طاهر، لا يحمل إليهم الخراج؛ وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحمله إليه؛ ولكني أحمله إلى أمير المؤمنين؛ فكان المعتصم إذا حمل المازيار إليه الخراج، يأمر: إذا بلغ المال همذان رجلًا من قبله أن يستوفيه ويسلمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليرده إلى خراسان؛ فكانت هذه حاله في السنين كلها. ونافر آل طاهر حتى تفاقم الأمر بينهم. وكان الأفشين يسمع من المعتصم أحيانًا كلامًا يدل على أنه يريد عزل آل طاهر عن خراسان؛ فلما ظفر الأفشين ببابك، ونزل من المعتصم المنزلة التي لم يتقدمه فيها أحدٌ، طمع في ولاية خراسان، وبلغته منافرة مازيار آل طاهر، فرجا أن يكون ذلك سببًا لعزل عبد الله بن طاهر، فدس الأفشين الكتب إلى المازيار يستمليه بالدهقنة، ويعلمه ما هو عليه من المودة له، وأنه قد وعد ولاية خراسان؛ فدعا ذلك المازيار إلى ترك حمل خراجه إلى عبد الله ابن طاهر، وواتر عبد الله بن طاهر الكتب فيه إلى المعتصم؛ حتى أوحش المعتصم منه وأغضبه عليه، وحمل ذلك المازيار إلى أن أوثب وخالف، ومنع الخراج، وضبط جبال طبرستان وأطرافه. وكان ذلك مما يسر الأفشين ويطعمه في الولاية؛ فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربة مازيار، وكتب الأفشين إلى المازيار يأمره بمحاربة عبد الله بن طاهر، ويعلمه أنه يقوم له عند المعتصم بما يحب، وكاتبه المازيار أيضًا؛ فلا يشك الأفشين أن المازيار سيواقف عبد الله بن طاهر ويقاومه، حتى يحتاج المعتصم إلى أن يوجهه وغيره إليه. فذكر عن محمد بن حفص الثقفي الطبري أن المازيار لما عزم على الخلاف، دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرهًا، وأخذ منهم الرهائن، فحسبهم في برج الأصبهذ، وأمر أكرة الضياع بالوثوب بأرباب الضياع وانتهاب أموالهم؛ وكان المازيار يكاتب بابك، ويحرضه ويعرض عليه النصرة. فلما فرغ المعتصم من أمر بابك أشاع الناس أن أمير المؤمنين يريد المسير إلى قرماسين، ويوجه الأفشين إلى الري لمحاربة مازيار؛ فلما سمع المازيار بإرجاف الناس بذلك، أمر أن يمسح البلد، خلا من قاطع على ضياعه بزيادة العشرة ثلاثة، ومن لم يقاطع رجع عليه، فحسب ما عليه من الفضل ولم يحسب له النقصان. ثم أنشأ كتابًا إلى عامله على الخراج، وكان عامله عليه رجلًا يقال له شاذان بن الفضل، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم؛ إن الأخبار تواترت علينا، وصحت عندا بما يرجف به جهال أهل خراسان وطبرستان فينا، ويولدون علينا من الأخبار ويحملون عليه رءوسهم؛ من التعصب لدولتنا والطعن في تدبيرنا، والمراسلة لأعدائا وتوقع الفتن، وانتظار الدوائر فينا، جاحدين للنعم مستقلين للأمن والدعة والرفاهية والسعة التي آثرهم الله بها، فما يرد الري قائد ولا مشرق ولا مغرب، ولا يأتينا رسول صغير ولا كبير إلا قالوا كيت وكيت، ومدوا أعاقهم نحوه، وخاضوا فيما قد كذب الله أحدوثتهم، وخيب " أمانيهم " فيه مرة بعد مرة، فلاتنهاهم الأولى عن الآخرة، ولا يزجرهم عن ذلك تقية ولا خشية، كل ذلك نغضى عليه، وتجرع مكروهه، استبقاء على كافّتهم، وطلبًا للصلاح والسلامة لهم إلحاحًا؛ فلا يزيدهم استبقاؤنا إلّا لجاجًا، ولا كفّنا عن تأديبهم إلا إغراء؛ إن أخّرنا عنهم افتتاح الخراج نظرًا لهم ورفقًا بهم قالوا: معزول، وإن بادرنا به قالوا: لحادث أمر؛ لا يزدجرون عن ذلك بالشدّة إن أغلطنا، ولا برفق إن أنعمنا؛ والله حسبنا وهو ولينا؛ عليه نتوكل وإليه ننيب. وقد أمرنا بالكتاب إلى بندار آمل والرّويان في استغلاق الخراج في عملهما، وأجّلاهما في ذلك إلى سلخ تيرماه؛ فاعلم ذلك، وجرّد جبايتك، واستخرج ما على أهل ناحيتك كملًا، ولا يمضيّن عنك تيرماه، ولك درهم باقٍ؛ فإنك إن خالفت ذلك إلى غيره لم يكن جزاؤك عندنا إلا الصلب؛ فانظر لنفسك، وحام عن مهجتك وشمّر في أمرك، وتابع كتابك إلى العباس. وإياك والتغرير؛ واكتب بما يحدث منك من اإنكماش والتّشمير؛ فإنا قد رجونا أن يكون في ذلك مشغلة لهم عن الأراجيف، ومانع عن التسويف؛ فقد أشاعوا في هذه الأيام أن أمير المؤمنين أكرمه الله صائر إلى قرماسي، وموجّه الأفشين إلى الري. ولعمري لئن فعل أيده الله ذلك؛ إنه لممّا يسرّنا الله به، ويؤنسنا بجواره، ويبسط الأمل فيما قد عوّدنا من فؤائده وإفضاله، ويكبت أعداءه وأعداءنا؛ ولن يهمل أكرمه الله أموره ويرفض ثغوره، والتصرف في نواحي ملكه؛ لأراجيف مرجف بعماله، وقول قائل في خاصّته؛ فإنه لا يسرب أكرمه الله جنده إذا سرّب، ولا يندب قواده إذا ندب؛ إلا في المخالف. فاقرأ كتابنا هذا على من بحضرتك من أهل الخراج؛ يبلّغ شاهدهم غائبهم؛ وعنف عليهم في استخراجه، ومن همّ بكسره. فليبد بذلك صحفته؛ لينزل الله به ما أنزل بأمثاله؛ فإنّ لهم أسوةً في الوظائف وغيرها بأهل جرجان والرّي وما والاهما؛ فإنما خفف الخلفاء عنهم خراجهم، ورفعت الرفائع عنهم التي كانت إليهم في محاربة أهل الجبال ومغازي الديلم الضلال؛ وقد كفى الله أمير المؤمنين أعزّه الله ذلك كله، وجعل أهل الجبال والديلمك جندًا وأعوانًا، والله المحمود. قال: فلما ورد كتاب المازيار على شاذان بن الفضل عامله على الخراج، أخذ الناس بالخراج، فجبى جميع الخراج في شهرين، وكان يجبي في اثني عشر شهرًا، في كلّ أربعة أشهر الثلث؛ وإنّ رجلًا يقال له علي بن يزداد العطار؛ وهو ممن أخذ منه رهينة، هرب وخرج من عمل المازيار، فأخبر أبو صالح سرخستان بذلك؛ وكان خليفة المازيار على سارية، فجمع وجوه أهل مدينة ستارية، وأقبل يوبّخهم، ويقول: كيف يطمئن الملك إليكم! أم كيف يثق بكم! وهذا علي بن يزداد ممن قد حالف وبايع، وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج، وترك رهينته؛ فأنتم توفون بيمين، ولا تكرهون الحلف والحنث، فكيف يثق بكم الملك، أم كيف يرجع لكم إلى ماتحبون! فقال بعضهم: نقتل الرهينة حتى لا يعود غيره إلى الهرب، فقال لهم: أتفعلوا ذلك؟ قالوا: نعم؛ فكتب إلى صاحب الرهائن، فأمره أن يوجّه بالحسن بن علي بن يزداد وهو رهينة أبيه؛ فلمّا صاروا به إلى سارية ندم الناس على ما قالوا لأبي صالح، وجعلوا يرجعون على الذي أشار بقتله بالتعفيف. ثم جمعهم سرخاستان، وقد أحضر الرهينة، فقال لهم: إنكم قد ضمنتم شيئًا؛ وهذا الرهينة فاقتلوه، فقال له عبد الكريم بن عبد الرحمن الكاتب: أصلحك الله إنك أجلت من خرج من هذا البلد شهرين؛ وهذا الرهينة قبلك؛ نسألك أن تؤجله شهرين فإن رجع أبوه وإلا أمضيت فيه رأيك. قال: فغضب على القوم، ودعا بصاحب حرسه - وكان يقال له رستم ابن بارويه - فأمره بصلب الغلام. وإن الغلام سأله أن يأذن له أن يصلي ركعتين، فأذن له فطول في صلاته وهو يرعد، وقد مده جذع، فجذبوا الغلام من صلاته ومدوه فوق الجذع، وشدوا حلقه معه حتى اختنق، وتوفي فوقه، وأمر سرخستان أهل مدينة سارية أن يخرجوا إلى آمل، وتقدم إلى أصحاب المسالخ في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب، فأحضروا ومضى مع أهل سارية إلى آمل، وقال لهم: إي أريد أن أشهدكم على أهل آمل، وأشهد أهل آمل عليكم، وأرد ضياعكم وأموالكم؛ فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما كان أخذنا منكم. فلما وافوا آمل جمعهم بقصر الخليل بن ونداسنجان، وصير أهل سارية ناحية عن غيرهم ووكل بهم اللوزجان وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف منهم أحد عليه، ثم عرضهم بعد ذلك على الأسماء حتى اجتمعوا؛ ولم يتخلف منهم أحد، وأحدق الرجال في السلاح بهم وصفوا جميعًا، ووكل بكل واحد منهم رجلين بالسلاح وأمر الموكل بهم أن يحمل رأس كل من كاع عن المشي، وساقهم مكتفّين حتى وافى بهم جبلا يقال له هرمز داباذ، على ثمانية فراسخ اّمل وثمانية فراسخ من مدينة سارية، وكبلهم بالحديد، وحبسهم0وبلغت عدتهم عشرين ألفًا، وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتي فيما ذكر عن محمد بن حفص. قال: وكتب إلى الدري ليفعل ذلك بوجوه العرب والأبناء ممن كان معه بمرو، وكبلهم بالحديد وحسبهم، ووكل بهم الرجال في حبسهم؛ فلما تمكن المازيار، واستوى له أمره وأمر القوم، جمع أصحابه، وأمر سرخستان بخريب سور مدينة آمل؛ فخربه بالطبول والمزامير، ثم سار إلى مدينة سارية؛ ففعل بها مث ذلك. ثم وجه مازيار أخاه فوهيار إلى مدينة طميس - وهي على حد جرجان من عمل طبرستان - فخرب سورها ومدينتها، وأباح أهلها، فهرب منهم من هرب، وبلى من بلى. ثم توجه بعد ذلك إلى طميس سرخستان وانصرف عنها قوهيار فلحق بأخيه المازيار فعمل سرخستان سورًا من طميس إلى البحر ومده في البحر مقدار ثلاثة أميال. وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك؛ لأن الترك كانت تغير على طبرستان في أيامها، ونزل معسكرًا بطميس سرخستان وصير حولها خندقًا وثيقًا وأبراجًا للحرس، وصير عليها بابًا وثيقًا؛ ووكل به الرجال الثقات؛ ففزع أهل جرجان وخافوا على أموالهم ومدينتهم؛ فهرب منها نفر إلى نيسابور، وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر وإلى المعتصم؛ فوجه إليه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، وضم إليه جيشًا كثيفًا يحفظ جرجان، وأمره أن يعسكر على الخندق؛ فنزل الحسن بن الحسن معسكرًا على الخندق الذي عمله سرخستان، وصار بين العسكرين عرض الخندق، ووجه أيضًا عبد الله بن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس معسكرًا على حد جبال شروين، ووجه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف وضم إليه الحسن بن قارن الطبري القائد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجه منصور بن الحسن هار صاحب دنباود إلى مدينة الري ليدخل طبرستان من ناحية الري، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند؛ فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب بعث عند ذلك إبراهيم بن مهران صاحب شرطته وعلى بن ربن الكاتب النصراني، ومعهما خليفة صاحب الحرس إلى أهل المدن المحتبسين عنده؛ إن الخيل قد زحفت إلى من كل جانب؛ وإنما حبستكم ليبعث إلى هذا الرجل فيكم - يعني المعتصم - فلم يفعل؛ وقد بلغني أن الحجاج ابن يوسف غضب على صاحب السند في امرأة أسرت من المسلمين، وأدخلت إلى بلاد السند حتى غزا السند، وأنفق بيوت الأموال حتى استنفذ المرأة وردها إلى مدينتها؛ وهذا الرجل لا يكترث بعشرين ألفًا، ولا يبعث إلى يسأل فيكم؛ وإني لا أقدم على حربه؛ وأنتم ورائي، فأدوا إلي خراج سنتين، وأخلي سبيلكم؛ ومن كان منكم شابًا قويًا قدمته للقتال؛ فمن وفى لي منكم رددت عليه مآله، ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخًا أو ضعيفًا صيرته من الحفظة والبوابين فقال رجل يقال له موسى بن هرمز الزاهد - كان يقال إنه لم يشرب الماء منذ عشرين سنة - أنا أؤدي إليك خراج سنتين، وأقوم به، فقال خليفة صاحب الحرس لأحمد بن الصقير: لم لا تتكلم، وقد كنت أحظى القوم عند الأصبهبذ؛ وقد كنت أراك تتغذى معه، وتتكىء على وسادته! وهذا شيء لم يفعله الملك بأحد غيرك؛ فأنت أولى بالقيام بهذا الأمر من موسى قال أحمد: إن موسى لا يقدر عى القيام بجباية درهم واحد؛ وإنما أجابكم بجهل وبما هو عليه وعلى الناس أجمع؛ ولو علم صاحبكم أن عندنا درهمًا واحدًا لم يحبسنا؛ وإنما حبسنا بعد ما استنظف كل من عندنا من الأموال والذخائر؛ فإن أراد الضياع بهذا المال أعطيناه. فقال له علي بن ربن الكاتب: الضياع للملك لا لكم، فقال له إبراهيم بن مهران: أسألك بالله يا أبا محمد، لما سكت عن هذا الكلام! فقال له أحمد: لم أزل ساكتًا حتى كلمني هذا بما قد سمعت. ثم انصرفت الرسل على ضمان موسى الزاهد، وأعلموا المازيار ضمانه وانضم إلى موسى الزاهد قوم من السعاة، فقالوا: فلان يحتمل عشرة آلاف، وفلان يحتمل عشرين ألفًا وأقل أو أكثر، وجعلوا يستأكلون الناس أهل الخراج وغيرهم؛ فلما مضى لذلك أيام، رد مازيار الرسل مقتضيًا المال، ومتنجزًا ما كان من ضمان موسى الزاهد؛ فلم ير لذلك أثرًا ولا تحقيقًا، وتحقق قول أحمد، وألزمه الذنب. وعلم المازيار أن ليس عند القوم ما يؤدون؛ وإنما أراد أن يلقى الشر بين أصحاب الخراج؛ ومن لا خراج عليه من التجار والصناع. قال: ثم إن سرخاستان كان معه ممن اختار من أبناء القواد وغيرهم من أهل آمل فتيانٌ لهم جلد وشجاعة، فجمع منهم في داره مائتين وستين فتىً ممن يخاف ناحيته، وأظهر أنه يريد جمعهم للمناظرة، وبعث إلى الأكرة المختارين من الدهاقين، فقال لهم: إن الأبناء هواهم مع العرب والمسودة؛ ولست آمن غدرهم ومكرهم؛ وقد جمعت أهل الظنة ممن أخاف ناحيته، فاقتلوهم لتأمنوا ولا يكون في عسكركم ممن يخالف هواه هواكم. ثم أمر بكتفهم ودفعهم إلى الأكرة ليلًا، فدفعوهم إليهم، وصاروا بهم إلى قناة هناك، فقتلوهم ورموا بهم في آبار تلك القناة وانصرفوا. فلما ثاب إلى الأكرة عقولهم ندموا على فعلهم، وفزعوا من ذلك؛ فلما علم المازيار أن القوم ليس عندهم ما يؤدونه إليه، بعث إلى الأكرة المختارين الذين قتلوا المائتين والستين فتىً، فقال لهم: إني قد أبحتكم منازل الضياع وحرمهم - إلا ما كان من جارية جميلة من بناتهم؛ فإنها تصير للملك - وقال لهم: صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع جميعهم قبل ذلك، ثم حوزوا بعد ذلك، ما وهبت لكم من المنازل والحرم، فجبن القوم عن ذلك وخافوا وحذروا فلم يفعلوا ما أمرهم به. قال: وكان الموكلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدثون ليلًا مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب، وبينهم عرض الخندق؛ حتى استأنس بعضهم ببعض، وتآمروا وحرس سرخاستان بتسليم السور إليهم فسلموه، ودخل أصحاب الحسن بن الحسين من ذلك الموضع إلى عسكر سرخاستان في غفلة من الحسن بن الحسين ومن سرخاستان؛ فنظر أصحاب الحسن إلى قوم يدخلون من الحائط، فدخلوا معهم؛ فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فثاروا. وبلغ الحسن بن الحسين بن مصعب، فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم، ويقول: يا قوم؛ إني أخاف عليكم أن تكونوا مثل قوم داوندان، ومضى أصحاب قيس بن زنجويه - وهو من أصحاب الحسن بن الحسين - حتى نصبوا العلم على السور في معسكر سرخاستان، وانتهى الخبر إلى سرخاستان أن العرب قد كسروا السور، ودخلوا بغتةً، فلم تكن له همة إلا الهرب؛ وكان سرخاستان في الحمام، فسمع الصياح، فخرج هاربًا في غلالة. وقال الحسن بن الحسين حين لم يقدر على رد أصحابه: اللهم إنهم قد عصوني وأطاعوك؛ اللهم فاحفظهم وانصرهم، ولم يزل أصحاب الحسن يتبعون القوم حتى صاروا إلى الدرب الذي على السور فكسروه، ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر، ومضى قوم في الطلب. وذكر عن عن زرارة بن يوسف السجزي أنه قال: مررت في الطلب؛ فبينا أنا كذلك؛ إذ صرت إلى موضع عن يسرة الطريق، فوجلت من الممر فيه، ثم تقحمته بالرمح من غير أن أرى أحدًا، وصحت: من أنت؟ ويلك! فإذا شيخ جسيم قد صاح " زينهار " - يعني الأمان - قال: فحملت عليه، فأخذته، وشددت كتافه، فإذا هو شهريار أخو أبي صالح سرخاستان، صاحب العسكر قال: فدفعته إلى قائدي يعقوب بن منصور، وحال الليل بيننا وبين الطب؛ فرجع الناس إلى المعسكر، وأتى بشهريار إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه. وأما أبو صالح فمضى حتى صار على خمسة فراسخ من معسكره؛ وكان عليلًا؛ فجهده العطش والفزع، فنزل في غيضة يمنة الطريق إلى سفح جبل، وشد دابته واستلقى، فبصر به غلام له ورجل من أصحابه يقال له جعفر بن ونداميد؛ فنظر إليه نائمًا، فقال سرخاستان: يا جعفر؛ شربة ماء، فقد جهدني العطش؛ قال: فقلت: ليس معي إناء أغرف به من هذا الموضع؛ فقال سرخاستان: خذ رأس جعبتي فاسقني به؛ قال جعفر: وملت إلى عداد من أصحابي، فقلت لهم: هذا الشيطان قد أهلكنا فلم لا نتقرب به إلى السلطان؛ ونأخذ لأنفسنا الأمان! فقالوا لجعفر: كيف لنا به؟ قال: فوقفهم عليه، وقال لهم: أعينوني ساعة، وأنا أثاوره، فأخذ جعفر خشبة عظيمة وسرخاستان مستلقٍ، فألقى نفسه عليه، وملكوه وشدوه كتافًا مع الخشبة، فقال لهم أبو صالح: خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني؛ فإن العرب لا تعطيكم شيئًا، قالوا له: أحضرها، قال: هاتوا ميزانًا، قالوا: ومن أين ها هنا ميزان؟ قال: فمن أين ها هنا ما أعطيكم! ولكن صيروا معي إلى المنزل، وأنا أعطيكم العهود والمواثيق أني أفي لكم ذلك، وأوفر عليكم، فصاروا به إلى الحسن بن الحسين، فاستقبلهم خيل للحسن بن الحسين، فضربوا رءوسهم، وأخذوا سرخاستان منهم، فهمتهم أنفسهم، ومضى أصحاب الحسن بأبي صالح إلى الحسن؛ فلما وقفوه بين يديه، دعا الحسن قواد طبرستان؛ مثل محمد بن المغيرة بن شعبة الأزدي وعبد الله بن محمد القطقطي الضبي والفتح بن قراط وغيرهم؛ فسألهم: هذا سرخاستان؟ قالوا: نعم، فقال لمحمد ابن المغيرة؛ قم فاقتله بابنك وأخيك، فقام إليه فضربه بالسيف، وأخذته السيوف فقتل. ذكر خبر أبي شاس الشاعر وكان أبو شاس الشاعر، وهو الغطريف بن حصين بن حنش فتىً من أهل العراق، ربي بخراسان، أديبًا فهمًا، وكان سرخاستان ألزمه نفسه يتعلم منه أخلاق العرب ومذاهبها، فلما نزل سرخاستان ما نزل به وأبو شاس في معسكره، ومعه دواب وأثقال، هجم عليه قوم البخارية؛ من أصحاب الحسن؛ فانتبهوا جميع ما كان معه، وأصابته جراحات، فبادر أبو شاس فأخذ جرة كانت معه، فوضعها على عاتقه، وأخذ بيده قدحًا، وصاح: الماء للسبيل؛ حتى أصاب غفلة من القوم، فهرب من مضربه، وقد أصابته جراحة، فبصر به غلام - وقد كان مر بمضرب عبد الله بن محمد بن حميد القطقطي الطبري؛ وكان كاتب الحسن بن الحسين - فعرفوه، عرفه خدمه، وعلى عاتقه الجرة وهو يسقي الماء، فأدخلوه خيمتهم، وأخبروا صاحبهم بمكانه، فأدخل عليه، فحمله وكساه، وأكرمه غاية الإكرام، ووصفه للحسن بن الحسين، وقال له: قل في الأمير قصيدة، فقال أبو شاس: والله لقد امحى ما في صدري من كتاب الله من الهول، فكيف أحسن الشعر! ووجه الحسن برأس أبي صالح سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر، ولم يزل من معسكره. وذكر عن محمد بن حفص أن حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر، كان أقبل مع الحسن بن الحسين إلى ناحية طميس؛ فكاتب قارن بن شهريار، ورغبّه في الطاعة، وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار وهو ابن أخيه، وكان مازيار صيره مع أخيه عبد الله بن قارن، وضمّ إليهما عدة من ثقات قواده وقراباته؛ فلما استماله حيّان؛ وكان قارن قد ضمن له أن يسلم له الجبال، ومدينة سارية إلى حد جرجان، على أن يملكه عى جبال أبيه وجده إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، سجّل له عبد الله بن طاهر بكل ما سأل، وكتب إلى حيان بأن يتوقف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدل به على الوفاء؛ لئلا يكون منه مكر؛ فكتب حيان إلى قارن بذلك، فدعا قارن بعبد الله بن قارن وهو أخو مازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه؛ فلما أكلوا وضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح الشاك، وكتفهم ووجه بهم إلى حيان بن جبلة، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب حيان في جمعه حتى دخل جبال قارن. وبلغ مازيار الخبر فاغتم لذلك، وقال له القوهيار أخوه: في حبسك عشرون ألفًا من المسلمين؛ من بين إسكاف وخياط؛ وقد شغلت نفسك بهم؛ وإنما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقرابتك؛ فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك؟ قال: فأمر مازيار بتخلية جميع من حبسه، ثم دعا إبراهيم بن مهران صاحب شرطته، وعلي بن ربن النصراني كاتبه، وشاذان بن الفضل صاحب خراجه، ويحيى بن الروذبهار جهبذه؛ وكان من أهل السهل عنده، فقال لهم: إن حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل، وقد دخلت العرب إليكم، وأكره أن أشومكم؛ فاذهبوا إلى منازلكم، وخذوا لأنفسكم الأمان. ثم وصلهم، وأذن لهم في الانصراف، فصاروا إلى منازلهم وأخذوا الأمان لأنفسهم. ولما بلغ أهل مدينة سارية أخذ سرخاستان واستباحة عسكره ودخول حيان بن جبلة جبل شروين، وثبوا على عامل مازيار بسارية - وكان يقال مهريستاني بن شهريز - فهرب منهم، ونجا بنفسه، وفتح الناس باب السجن، وأخرجوا من فيه، ووافى حيان بعد ذلك مدينة سارية. وبلغ قوهيار أخا مازيار موافاة حيان سارية، فأطلق محمد بن موسى بن حفص الذي كان عامل طبرستان من حبسه، وحمله على بغل بسرج، ووجه به إلى حيان ليأخذ له الأمان، ويجعل له جبال أبيه وجده على أن يسلم إليه مازيار، ويوثق له بذلك بضمان محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير؛ فلما صار محمد بن موسى إلى حيان، وأخبره برسالة قوهيار إليه، قال له حيان: من هذا؟ يعني أحمد، قال: شيخ البلاد، وبقية الخلفاء والأمير عبد الله بن طاهر به عارف، فبعث حيان إلى أحمد، فأتاه فأمره بالخروج إلى مسلحة خرماباذ مع محمد بن موسى. وكان لأحمد ابن يقال له إسحاق، وكان قد هرب من مازيار؛ يأوي نهاره الغياض، ويصير بالليل إلى ضيعة يقال لها ساواشريان؛ وهي على طريق الجادة من قدح الأصبهذ الذي فيه قصر مازيار. فذكر عن إسحاق، أنه قال: كنت في هذه الضيعة، فمر بي عدة من أصحاب مازيار؛ معهم دواب تقاد وغير ذلك؛ قال: فوثبت على فرس منها هجين ضخم، فركبته عريًا؛ وصرت إلى مدينة سارية، فدفعته إلى أبي، فلما أراد أحمد الخروج إلى خرماباذ ركب ذلك الفرس، فنظر إليه حيانن فأعجبه، فالتفت حيان إلى اللوزجان - وكان من أصحاب قارن - فقال له: رأيت هذا الشيخ على فرس نبيل قل ما رأيت مثله، فقال له اللوزجان: هذا الفرس كان لمازيار، فبعث حيان إلى أحمد يسأله البعثة بالفرس إليه؛ لينظر إليه؛ فبعث به إليه، فلما تأمل النظر وفتشه وجده مشطب اليدين، فزهد فيه، ودفعه إلى اللوزجان، وقال لرسول أحمد: هذا لمازيار، ومال مازيار لأمير المؤمنين؛ فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب على اللوزجان من ذلك؛ فبعث إليه أحمد بالشتيمة، فقال اللوزجان: مالي في هذا ذنب! ورد الفرس إلى أحمد، ومعه برذون وشهري " فاره "، فأمر رسوله فدفعهما إليه. وغضب أحمد من فعل حيان به، وقال: هذا لحائك يبعث إلى شيخ مثلي فيفعل به ما فعل! ثم كتب إلى قوهيار: ويحك! لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر، وتدخل في أمان هذا العبد الحائك، وتدفع أخاك، وتضع قدرك، وتحقد عليك الحسن بن الحسين بتركك إياه وميلك إلى عبد من عبيده! فكتب إليه قوهيار: قد غلطت في أول الأمر؛ وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد؛ ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويحاربني؛ ويستبيح منازلي وأموالي؛ وإن قاتلته فقتلت من أصحابه، وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء؛ ويبطل هذا الأمر الذي التمسته. فكتب إليه أحمد: إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلًا من أهل بيتك، واكتب إليه أنه قد عرضت لك علة منعتك من الحركة، وأنك تتعالج ثلاثة أيام؛ فإن عوفيت وإلا صرت إليه محمل، وسنحمله نحن على قبول ذلك منك، والمصير في الوقت. وإن أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى بن حفص كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميس ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستا وفتح طميس، فكتبا إليه أن اركب إلينا لندفع إليك مازيار والجبل؛ وإلا فاتك، فلا تقم. ووجها الكتاب مع شاذان بن الفضل الكاتب، وأمراه أن يعجل السير. فلما وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته، وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة؛ حتى انتهى إلى سارية، فلما أصبح سار إلى خرماباذ - وهو يوم موعد قوهيار - وسمع حيان وقع طبول الحسن، فركب فتلقاه على رأس فرسخ، فقال له الحسن: ما تصنع ها هنا! ولم توجه إلى هذا الموضع، وقد فتحت جبال شروين وتركتها، وصرت إلى ها هنا! فما يؤمنك أن يبدو للقوم، فيغدروا بك، فيتفض عليك جميع ما عملت. ارجع إلى الجبل، فصير مسالحك في النواحي والأطراف، وأشرف على القوم إشرافًا لا يمكنهم الغدر؛ إن هموا به. فقال له حيان: أنا على الرجوع، وأريد أن أحمل أثقالي، وأتقدم إلى رجالي بالرحلة، فقال له الحسن: امض أنت؛ فأنا باعث بأثقالك ورجالك خلفك، وبت الليلة بمدينة سارية حتى يوافوك، ثم تبكر من غد؛ فخرج حيان من فوره كما أمره الحسن إلى سارية، ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر أن يعسكر بلبورة - وهي من جبال وندا هرمز، وهي أحصن موضع من جباله، وكان أكثر مال مازيار بها - وأمره عبد الله ألا يمنع قارن مما يريد من تلك الجبال والأموال. فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال؛ والذي كان بأسباندرة من ذخائر مازيار، وما كان لسرخاستان يقدح السلتان، واحتوى على ذلك كله. فانتقض على حيان جميع ما كان سنح له سبب ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان بن جبلة. فوجه عبد الله مكانه على أصحابه محمد الحسين بن مصعب، وتقدم إليه عبد الله إلا يضرب على يدي قارن في شيء يريده، وصار الحسن بن الحسين إلى خرماباذ، فأتاه محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير، فتناظروا سرًا، فجزاهما خيرًا؛ وكتب هو إلى قوهيار، فوافى خرماباذ، وصار إلى الحسن، فبره وأكرمه وأجابه إلى كل ما سأل، واتعدا على يوم؛ ثم صرفه وصار قوهيار إلى مازيار، فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان، واستوثق له. وكان الحسين بن قارن وقد كاتب قوهيار من ناحية محمد بن إبراهيم بن مصعب، وضمن له الرغائب عن أمير المؤمنين، فأجابه قوهيار، وضمن له ما ضمن لغيره؛ كل ذلك ليردهم عن الحرب ومال إليه. فركب محمد بن إبراهيم من مدينة آمل، وبلغ الحسن بن الحسين الخبر. فذكر عن إبراهيم بن مهران أنه كان يتحدث عند أبي السعدي، فلما قرب وكان طريقه على باب مضرب الحسن. قال: فلما حاذيت مضربه؛ إذا بالحسن الزوال انصرف يريد منزله. راكب وحده، لم يتبعه إلا ثلاثة غلمان له أتراك، قال: فرميت بنفسي، وسلمت عليه، فقال: اركب؛ فلما ركبت قال: أين طريق آرم؟ قلت: هي على هذا الوادي، فقال لي: امض أمامي، قال: فمضيت حتى بلغت دربًا على ميلين من آرم، قال: ففزعت، وقلت: أصلح الأمير! هذا موضع مهول، ولا يسلكه إلا ألف فارس؛ فأرى لك أن تنصرف ولا تدخله. قال: فصاح بي: امض، فمضيت وأنا طائش العقل؛ ولم نر في طريقنا أحدًا حتى وافينا آرم؛ فقال لي: أين طريق هرمزداباذ؟ قلت: على هذا الجبل في هذا الشراك، قال: فقال لي: سر إليها، فقلت: أعز الله الأمير! الله الله في نفسك وفينا وفي هذا الخلق الذي معك! قال: فصاح بي: امض يابن اللخناء، قال: فقلت له: أعزك الله! اضرب أنت عنقي؛ فإنه أحب إلي من أن يقتلني مازيار، ويلزمني الأمير عبد الله بن طاهر الذنب. قال: فانتهرني حتى ظننت أنه سيبطش بي، ومضيت وأنا خليع الفؤاد، وقلت في نفسي: الساعة تؤخذ جميعًا، أو نوقف بين يدي مازيار فيوبخني، ويقول: جئت دليلًا علي! فبينا نحن كذلك إذ وافينا هرمزداباذ مع اصفرار الشمس، فقال لي: أين كان سجن المسلمين ها هنا؟ فقلت له: في هذا الموضع. قال: فنزل فجلس ونحن صيام، والخيل تلحقنا متقطعة؛ وذلك أنه ركب من غير علم الناس، فعلموا بعد ما مضى؛ فدعا الحسن بيعقوب بن منصور، فقال له: يا أبا طلحة، أحب أن تصير إلى الطالقانية، فتلطف بحيلك لجيش أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مصعب هنالك ساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر؛ ما أمكنك. وكان بينه وبين الطاالقانية فرسخان أو ثلاثة فراسخ؛ قال إبراهيم: فبينا نحن وقوف بين يدي الحسن؛ إذ دعا بقيس بن زنجويهن فقال له: امض إلى درب لبورة؛ وهو على أقل من فرسخ؛ فابرز بأصحابك على الدرب. قال: فلما صلينا المغرب وأقبل الليل؛ إذا أنا بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلًا مقبلين من طريق لبورة، فقال لي: يا إبراهيم؛ أين طريق لبورة؟ فقلت: أرى نيرانًا وفرسانًا قد أقبلوا من ذلك الطريق، قال: وأنا داهش لا أقف على ما نحن فيه، حتى قربت النيران منا؛ فأنظر فإذا المازيار مع القوهبار؛ فلم أشعر حتى نزلا، وتقدم المازيار، فسلم على الحسن بالإمرة، فلم يرد عليه، وقال لطاهر بن إبراهيم وأوس البلخي: خذاه إليكما. وذكر عن أخي وميدوار بن خواست جيلان، أنه في تلك الليلة صار مع نفر إلى قوهبار، وقال له: اتق الله، قد خلفت سرواتنا؛ فأذن لي أكشف هؤلاء العرب كلهم؛ فإن الجند حيارى جياع، وليس لهم طريق يهربون، فتذهب بشرفها ما بقي الدهر، ولا تثق بما يعطيك العرب؛ فليس لهم وفاء! فقال قوهيار: لا تفعلوا؛ وإذا قوهيار قد عبى علينا العرب، ودفع مازيار وأهل بيته إلى الحسن لينفرد بالملك؛ ولا يكون أحد ينازعه ويضاده. فلما كان في السحر، وجه الحسن بالمازيار مع طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي إلى خرماباذ، وأمرهما أن يمرا به إلى مدينة سارية؛ وركب الحسن، وأخذ على وادي بابك إلى الكانية مستقبلًا محمد بن إبراهيم بن مصعب، فالتقيا ومحمد يريد المصير إلى هرمزداباذ لأخذ المازيار، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله، أين تريد؟ قال: أريد المازيار، فقال: هو بسارة؛ وقد صار إلي، ووجهت به إلى هنالك؛ فبقي محمد بن إبراهيم متحيرًا. وكان القوهيار قد هم بالغدر بالحسن، ودفع المازيار إلى محمد بن إبراهيم، فسبق الحسن إلى ذلك، وتخوف القوهيار منه أن يحاربه حي رآه متوسطًا الجبل. إن أحمد بن الصقير كتب إلى القوهيار: لا أرى لك التخليط والمناصبة لعبد الله بن طاهر؛ وقد كتب إليه بخبرك وضمانك فلا تكن ذا قلبين؛ فعند ذلك حذره ودفعه إلى الحسن، وصار محمد بن إبراهيم والحسن بن الحسين إلى هرمزداباذ؛ فأحرقا قصر المازيار بها، وأنهبا ماله، ثم صارا إلى معسكر الحسن بخرماباذ، ووجها إلى إخوة المازيار، فحبسوا هناك في داره، ووكل بهم. ثم رحل الحسن إلى مدينة سارية؛ فأقام بها، وحبس المازيار بقرب خيمة الحسن، وبعث الحسن إلى محمد بن موسى بن حفص يسأله عن القيد الذي كان قيده به المازيار؛ فبعث به محمد إليه؛ فقيد المازيار بذلك القيد، ووافى محمد بن إبراهيم الحسن بمدينة سارية ليناظره في مال المازيار وأهل بيته، فكتبا بذلك إلى عبد الله بن طاهر، وانتظر أمره؛ فورد كتاب عبد الله إلى الحسن بتسليم المازيار وإخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم؛ ليحملهم إلى أمير المؤمنين المعتصم؛ ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمره أن يستصفي جميع ما للمازيار ويحرزه؛ فبعث الحسن إلى المازيار فأحضره، وسأله عن أمواله فذكر أن ماله عند قوم سماهم، من وجوه أهل سارية وصلحائهم عشرة نفر، وأحضر القوهيار، وكتب عليه كتابًا، وضمنه توفير هذه الأموال التي ذكرها المازيار؛ أنها عند خزانة وأصحاب كنوزه؛ فضمن القوهيار ذلك وأشهد على نفسه. ثم إن الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار؛ فيشهدوا عليه؛ فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما دخلنا على المازيار، تخوفت من أحمد بن الصقير أن يفزعه بالكلام، فقلنا له: أحب أن تمسك عنه، ولا تذكر ما كنت أشرب به؛ فسكت احمد عند ذلك، فقال لمازيار: اشهدوا أن جميع ما حملت من أموالي وصحبني ستة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت أحمر، وثمانية أوقار سلال مجلدة، فيها ألوان الثياب، وتاج وسيف من ذهب وجوهر، وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرًا؛ وقد وضعه بين أيدينا، وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح، وهو خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى القوهبار. قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين، فقال: أشهدتهم على الرجل؟ قال: قلنا: نعم، قال: هذا شيء كنت اخترته لي، فأحببت أن يعلم قلته وهوانه عندي. وذكر عن علي بن ربن النصراني الكاتب أن ذلك الحق كان شرى وجوه على المازيار وجده وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان المازيار حمل ذلك كله إلى الحسن بن الحسين؛ على أن يظهر أنه خرج إليه في الأمان، وأنه قد آمنه على نفسه وماله وولده؛ وجعل له جبال أبيه؛ فامتنع الحسن بن الحسين من هذا وعف عنه - وكان أعفّ الناس عن أخذ درهم أو دينار - فلما أصبح أنفذ المازيار مع طاهر بن إبراهيم وعلي بن إبراهيم الحربي، وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بالمازيار ثلاث مراحل؛ فبعث الحسن فردّه، وأنفذه مع يعقوب بن منصور. ثم أمر الحسن بن الحسين القوهيار أخا المازيار أن يحمل الأموال التي ضمنها، ودفع إليه بغالًا من العسكر، وأمر بإنفاذ جيش معه؛ فامتنع القوهيار، وقال: لا حاجة لي بهم؛ وخرج بالبغال هو وغلمانه؛ فلما ورد الجبل وفتح الخزائن، وأخرج الأموال وعبّاها ليحملها، وثب عليه مماليك المازيار من الديالمة - وكانوا ألفًا ومائتين - فقالوا له: غدرت بصاحبنا، وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله! فأخذوه وكبّلوه بالحديد؛ فلما جنّه الليل قتلوه؛ وانتهبوا تلك الأموال والبغال؛ فانتهى الخبر إلى الحسن، فوجّه جيشًا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجّه قارن جيشًا من قبله في أخذهم؛ فأخذ منهم صاحب قارن عدّة، منهم ابن عمّ للمازيار، يقال له شهريار بن المصمغان - وكان رأس العبيد ومحرّضهم - فوجّه به قارن إلى عبد الله بن طاهر، فلما صار بقومس مات، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم، فنذر ربهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجّه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم، وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا، فبعث بهم إلى مدينة سارية مع علي بن إبراهيم حين دخل من شلنبة على طريق الروذبار إلى الورّيان. وقيل: إن فساد أمر مازيار وهلاكه كان من قبل ابن عمّ له يقال له كان في يديه جبال طبرستان كلها، وكان في يد المازيار السهل؛ وكان ذلك كالقسمة بينهم يتوارثونه؛ فذكر عن محمد بن حفص الطبري أن الجبال بطبرستان ثلاثة: جبل ونداهرمز في وسط جبال طبرستان، والثاني أخيه ونداسيجان بن الأنداد بن قارن، والثالث جبل شروين بن سرخاب ابن باب؛ فلمّا قوى أمر المازيار بعث إلى ابن عمّه ذلك، وقيل هو أخوه القوهيار، فألزمه بابه، وولّى الجبل واليًا من قبله؛ يقال له درّى؛ فلما احتاج المازيار إلى الرجال لمحاربة عبد الله بن طاهر؛ دعا بابن عمه أوأخيه القوهيار؛ فقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين ومكاتبته له، وقال له: صر في ناحية الجبل، فاحفظ علي الجبل. وكتب المازيار إلى الدرّىّ يأمره بالقدوم عليه، فقدم عليه، فضمّ إليه العساكر، ووجهّه في وجه عبد الله بن طاهر؛ وظنّ أنه قد توثّق من الجبل بابن عمه أو أخيه القوهيار؛ وذلك أن الجبل لم يظنّ أنه يؤتى منه. لأنه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشّجر الذي فيه، وتوثّق من المواضع التي يتخوّف منها بالدرّى وأصحابه، وضمّ إليه المقاتلة وأهل عسكره، فوجّه عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف من خراسان إلى المازيار، ووجّه المعتصم محمد إبراهيم بن مصعب، ووجّه معه صاحب خبر يقال له يعقوب بن إبراهيم البوشنجي مولى الهادي، ويعرف بقوصرة؛ يكتب بخبر العسكر؛ فوافى محمد بن إبراهيم الحسن بن الحسن، وزحفت العساكر نحو المازيار حتى قربوا منه، والمازيار لا يشك أنه قد توثق من الموضع الذي تلقاه الجبل فيه. وكان المازيار في مدينته في نفر يسير، فدعا ابن عم المازيار الحقد الذي كان في قلبه على المازيار وصنيعه به وتنحيته إياه عن جبله، أن كاتب الحسن ابن الحسن وأعلمه جميع ما في عساكره، وأن الأفشين كاتب المازيار. فأنفذ الحسن كتاب ابن عم المازيار إلى عبد الله بن طاهر فوجه به عبد الله برجل إلى المعتصم، وكاتب عبد الله والحسن بن الحسين ابن عم المازيار - وقيل القوهيار - وضمنا له جميع ما يريد؛ وكان ابن عم المازيار أعلم عبد الله ابن طاهر أن الجبل الذي هو عليه كان له ولأبيه ولآبائه من قبل المازيار، وأن المازيار عند توليه الفضل بن سهل إياه طبرستان انتزع الجبل من يديه، وألزمه بابه، واستخف به، فشرط له عبد الله بن طاهر إن هو وثب بالمازيار، واحتال له أن يصير الجبل في يديه على حسب ما لم يزل، ولا يعرض له فيه؛ ولا يحارب. فرضى بذلك ابن عم المازيار، فكتب له عبد الله بن طاهر بذلك كتابًا، وتوثق له فيه، فوعد ابن عم المازيار الحسن بن الحسين ورجالهم أن يدخلهم الجبل؛ فلما كان وقت الميعاد، أمر عبد الله بن طاهر الحسن بن الحسين أن يزحف للقاء الدرى، ووجه عسكرًا ضخمًا عليه قائد من قواده في جوف الليل، فوافوا ابن عم المازيار في الجبل، فسلم الجبال إليهم وأدخلهم إليها، وصاف الدرى العسكر الذي بإزائه؛ فلم يشعر المازيار وهو في قصره حتى وقفت الرجالة والخيل على باب قصره، والدرى يحارب العسكر الآخر؛ فحصروا المازيار، وأنزلواه على حكم أمير المؤمنين المعتصم. وذكر عمر بن سعيد الطبري أن المازيار كان يتصيد؛ فوافته الخيل في الصيد؛ فأخذ أسيرًا، ودخل قصره عنوة، وأخذ جميع ما فيه، وتوجه الحسن بن الحسين بالمازيار، والدرى يقاتل العسكر الذي بإزائه لم يعلم بأخذ المازيار؛ فلم يشعر إلا وعسكر عبد الله بن طاهر من ورائه، فتقطعت عساكره، فانهزم ومضى يريد الدخول إلى بلاد الديلم، فقتل أصحابه، واتبعوه فلحقوه في نفر من أصحابه، فرجع يقاتلهم فقتل وأخذ برأسه، فبعث به إلى عبد الله بن طاهر وقد صار بالمازيار في يده، فوعده عبد الله ابن طاهر إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه وأعلمه عبد الله أنه قد علم أن الكتب عنده. فأقر المازيار بذلك، فطلبت الكتب فوجدت، وهي عدة كتب فأخذها عبد الله بن طاهرفوجه بها المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم، وأمره ألا يخرج الكتب من يده ولا المازيار إلا إلى يد أمير المؤمنين؛ لئلا يحتال للكتب والمازيار، ففعل إسحاق ذلك؛ فأوصلها من يده إلى يد المعتصم؛ فسأل المعتصم المازيار عن الكتب، فلم يقر بها؛ فأمر بضرب المازيار حتى مات؛ وصلب إلى جانب بابك. وكان المأمون يكتب إلى المازيار: من عبد الله المأمون إلى جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار جرشاه محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين. وقد ذكر أن بدء وهي أمر الدرىّ كان أنه لما بلغه بعدما ضمّ إليه المازيار الجيش نزول جيش محمد بن إبراهيم دنباوند، وجّه أخاه جشنس، وضمّ إليه محمدًا وجعفرًا ابني رستم الكلاري ورجالًا من أهل الثغر وأهل الرويان، وأمرهم أن يصيروا إلى حدّ الرويان والرّي لمنع الجيش؛ وكان الحسن بن قارن قد كاتب محمدًا وجعفرًا ابني رستم، ورغّبهما؛ وكانا من رؤساء أصحاب الدرّىّ، فلما التقى جيش الدرىّ وجيش محمد بن إبراهيم، انقلب ابنا رستم وأهل الثغري وأهل الرويان على بزرجشنس أخي الدرّىّ، فأخذوه أسيرًا، وصاروا مع محمد بن إبراهيم على مقدمته؛ وكان الدرىّ بموضع يقال له مزن في قصره مع أهله وجميع عسكره. فلما بلغه غدر محمد وجعفر ابني رستم ومتابعة أهل الثغرين والرّويان لهما وأسر أخيه بزرجشنس. اغتمّ لذلك غمًّا شديدًا، وأذعن أصحابه، وهمّتهم أنفسهم، وتفرّق عامتّهم يطلبون الأمان، ويحتالون لأنفسهم. فبعث الدرىّ إلى الديالمة فصار ببابه مقدار أربعة آلاف رجل منهم، فرغبهم ومنّاهم. ووصلهم. ثم ركب وحمل الأموال معه، ومضى كأنه يريد أن يستنقذ أخاه ويحارب محمد بن إبراهيم؛ وإما أراد الدخول إلى الديلم، والاستظهار بهم على محمد بن إبراهيم. فاستقبله محمد بن إبراهيم في جيشه؛ فكانت بينهم وقعة صعبة؛ فلما مضى الدرىّ هرب الموّكلون بالسجن، وكسر أهل السجن أقيادهم، وخرجوا هاربين، ولحق كلّ إنسان ببلده. واتّفق خروج أهل سارية الذين كانوا في حبس المازيار وخروج هؤلاء الذين كانوا في حبس الدرّىّ في يوم واحد، وذلك في شعبان لثلاث عشرة ليلة خلت منه سنة خمس وعشرين ومائتين في قول محمد بن حفص. وقال غيره: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين. وذكر عن داود بن قحذم أن محمد بن رستم، قال: لما التقى الدرّى ومحمد ابن إبراهيم بساحل البحر، بين الجبل والغيضة والبحر، والغيضة متّصلة بالديلم، وكان الدرّى شجاعًا بطلًا، فكان يحمل بنفسه على أصحاب محمد حتى يكشفهم؛ ثم يحمل معارضةً من غير هزيمة، يريد دخول الغيضة شدّ عليه رجل من أصحاب محمد بن إبراهيم يقال له فند بن حاجبة، فأخذه أسيرًا واسترجع، واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما كان معه من الأثاث والمال والدوابّ والسلاح، فأمر محمد بن إبراهيم بقتل بزرجشنس أخي الردّىّ، ودعى بالدرّىّ فمدّ يده فقطعت من مرفقه، ومدّت رجله فقطعت من الركبة؛ وكذا باليد الأخرى والرّجل الأخرى، فقعد الدرّى على استه؛ ولم يتكلم ولم يتزعزع، فأمر بضرب عنقه. وظفر محمد بن إبراهيم بأصحاب الدرّى فحملهم مكبّلين. وفي هذه السنة ولى جعفر بن دينار اليمن. وفيها تزوّج الحسن بن الأفشين أترنجة بنت أشناس، ودخل بها في العمري، قصر المعتصم في جمادى الآخرة، وأحضر عرسها عامة أهل سامرا فحدثت أنهم كانوا يغلّفون العامة فيها بالغالية في تغار من فضة، وأن المعتصم كان يباشر بنفسه تفقّد من حضرها. وفيها امتنع عبد الله الورثاني بورثان. ذكر الخبر عن خلاف منكجور الأشروسني وفيها خالف منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأذربيجان. ذكر الخبر عن سبب خلافه ذكر أن الأفشين عند فراغه من أمر بابك ومنصرفه من الجبال ولى أذربيجان - وكانت من عمله - واليه منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالًا عظيمًا، فاحتجنه لنفسه؛ ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم؛ وكا على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن؛ فكتب إلى المعتصم بخبر ذلك المال، وكتب منكجور يكذب ذلك؛ فوقعت المناظرة بين منكجور وعبد الله بن عبد الرحمن؛ حتى همّ منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، فاستغاث عبد الله بأهل أردبيل، فمنعوه مما أراد به منكجور؛ وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين أن يوجّه رجلًا من قبله بعزل منكجور، فوجّه رجلًا من قوّاده في عسكر ضخم؛ فلما بلغ منكجور ذلك خلع وجمع إليه الصعاليك، وخرج من أردبيل، فرآه القائد فواقعه، فاهزم منكجور، وصار إلى حصن من حصون أذربيجان - التي كان بابك أخرجها - حصين في جبل منيع، فبناه وأصلحه، وتحصنّ فيه؛ فلم يلبث إلا أقلّ من شهر حتى وثب به أصحابه الذين كانوا معه في الحصن، فأسلموه ودفعوه إلى القائد الذي كان يحاربه؛ فقدم به إلى سامرا، فأمر المعتصم بحبسه، فاتّهم الأفشي في أمره. وقيل: إن القائد الذي وجّه لحرب منكجور هذا كان بغًا كبيرًا. وفيها مات ياطس الرومي، وصلب بسامرا إلى جانب بابك. وفيها مات إبراهيم بن المهدي في شهر رمضان وصلّى عليه المعتصم. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك كان قدوم الورثاني على المعتصم في المحرّم بالأمان وفيها قدم بغا الكبير بمنكجور سامرا. وفيها خرج المعتصم إلى السنّ، واستخلف أشناس. وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسي، وتوّجه وشّحه في شهر ربيع الأول. وفيها أحرق غنّام المرتدّ. وفيها غضب المعتصم على جعفر بن دينار، وذلك من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرين، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يومًا، وعزله عن اليمن، وولّاها إيتاخ، ثم رضي عن جعفر. وفيها عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى بن معاذ. وفيها وجّه عبد الله بن طاهر بمازيار، فخرج إسحاق بن إبراهيم إلى الدسكرة؛ فأدخله سامرّا في الشوال، وأمر بحمله على الفيل، فقال محمد بن عبد الملك الزيات: قد خضب الفيل كعاداته ** يحمل جيلان خراسان والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلا لذي شأنٍ من الشأن فأبى مازيار أن يركب الفيل، فأدخل على بغل بإكاف، فجلس المعتصم في دار العامة، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأمر فجمع بينه وبين الأفشين؛ وقد كان الأفشين حبس قبل ذلك بيوم، فأقرّ المازيار أنّ الأفشين يكاتبه، ويصوّب له الخلاف والمعصية، فأمر بردّ الأفشين إلى محبسه، وأمر بضرب مازيار، فضرب أربعمائة سوط وخمسين سوطًا، وطلب ماء فسقى، فمات من ساعته. ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الأفشين وحبسه وفيها غضب المعتصم على الأفشين فحبسه. ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه ذكر أن الأفشين كان أيّام حربه بابك ومقامه بأرض الخرّمية؛ لا يأتيه هدية من أهل إرمينية إلا وجّه بها إلى أشروسنة، فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر، فيكتب عبد الله إلى المعتصم بخبره؛ فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمر بتعريف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أشروسنة؛ ففعل عبد الله بذلك؛ وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمّله أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين بقدر طاقتهم؛ كان الرجل يحمل من الألف فما فوقه من الدنانير في وسطه؛ فأخبر عبد الله بذلك؛ فبينا هو في يوم من الأيام، وقد نزل رسل الأفشين معهم الهدايا نيسابور وجّه إليهم عبد الله بن طاهر، وأخذهم ففتّشهم، فوجد في أوساطهم همايين، فأخذها منهم، وقال لهم: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: هذه هدايا الأفشين؛ وهذه أمواله. فقال: كذبتم؛ لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلىّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبذرقته؛ لأن هذا مال عظيم؛ وإنما أنتم لصوص. فأخذ عبد الله بن طاهر المال، وأعطاه الجند قبّله، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أشروسنة، ولم تكتب إلي تعلمني لأبذرقه؛ فإن كان هذا المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّهه إلىّ أمير المؤمين في كلّ سنة، وإن كا المال لك - كما زعم القوم. فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك؛ وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال؛ وإنما دفعته إلى الجند لأني أريد أن أو جههم إلى بلاد الترك فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد. ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أشروسنة؛ فأطلقهم عبد الله بن طاهر، فمضوا؛ فكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله بن طاهر وبين الأفشين. ثم جعل عبد الله يتتبع عليه، وكان الأفشين يسمع أحيانًا من المعتصم كلامًا يدل على أنه يريد أن يعزل آل طاهر عن خراسان، فطمع الأفشين في ولايتها فجعل يكاتب مازيار، ويبعثه على الخلاف، ويضمن له القيام بالدفع عنه عند السلطان؛ ظنًا منه أن مازيار إن خالف احتاج المعتصم إلى أن يوجهه لمحاربته، ويعزل عبد الله بن طاهر ويوليه خراسان؛ فكان من أمر مازيار ما قد مضى ذكره. وكان من أمر منكجور بأذربيجان ما قد وصفنا قبل. فتحقق عند المعتصم - بما كان من أمر الأفشين ومكاتبته مازيار بما كان يكاتبه به - ما كان اتهمه به من أمر منكجور؛ وأن ذلك كان عن رأي الأفشين وأمره إياه به؛ فتغير المعتصم للأفشين لذلك؛ وأحس الأفشين بذلك، وعلم تغير حاله عنده، فلم يدر ما يصنع، فعزم - فيما ذكر - على أن يهئ أطوافًا في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف؛ حتى يصير إلى بلاد أرمينية ثم إلى بلاد الخزر، فعسر ذلك عليه، فهيأ سمًا كثيرًا، وعزم على أن يعمل طعامًا ويدعو المعتصم وقواده فيسقيهم؛ فإن لم يحبه المعتصم استأذن في قواده الأتراك، مثل أشناس وإيتاخ وغيرهم في يوم تشاغل أمير المؤمنين، فإذا صاروا إليه أطعمهم وسقاهم وسمهم؛ فإذا انصرفوا من عنده خرج من أول الليل، وحمل تلك الأطواف والآلة التي يعبر بها على ظهور الدواب حتى يجئ إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطراف، ويعبر الدواب سباحة كما أمكنه، ثم يرسل الأطواف حتى يعبر في دجلة، ويدخل هو بلاد أرمينية؛ وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم يصير هو إلى بلاد الخرز مستأمنًا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أشروسنة، ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام؛ فكان في تهيئة ذلك، وطال به الأمر فلم يمكنه ذلك. وكان قواد الأفشين ينوبون في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد؛ فكان واجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث؛ فذكر له واجن أن هذا الأمر لا أراه يمكن ولا يتم؛ فذهب ذلك الرجل الذي سمع قول واجن فحكاه للأفشين. وسمع بعض من يميل إلى واجن من خدم الأفشين وخاصته ما قال الأفشين في واجن، فلما انصرف واجن من النوبة في بعض الليل أتاه فأخبره أن قد ألقي ذلك إلى الأفشين، فحذر واجن على نفسه، فركب من ساعته في جوف الليل حتى دار أمير المؤمنين؛ وقد نام المعتصم؛ فصار إلى إيتاخ، فقال: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة فقال له إيتاخ: ألي الساعة كنت ها هنا! قد نام أمير المؤمنين. فقال له واجن: ليس يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يعلم المعتصم بالذي قال واجن فقال المعتصم: قل له انصرف الليلة إلى منزله، ويبكر علىّ في غد. فقال واجن: إن انصرفت الليلة ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته الليلة عندك. فبيته إيتاخ عنده؛ فلما أصبح بكربه مع صلاة الغداة، فأوصله إلى المعتصم، فأخبره بجميع ما كان عنده؛ فدعا المعتصم محمد بن حماد بن دنقش الكاتب، فوجهه يدعو الأفشين، فجاء الأفشين في سواد، فأمر المعتصم بأخذ سواده، وحبسه، فحبس في الجوسق؛ ثم بنى له حبسًا مرتفعًا، وسماه لؤلؤة داخل الجوسق، وهو يعرف إلى الآن بالأفشين. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الإحتيال للحسن بن الأفشين - وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد - يعلمه تحامله على ضياعه وناحيته، فكتب عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد يعلمه ما كتب به أمير المؤمنين في أمره، ويأمره بجمع أصحابه والتأهب له؛ فإذا قدم عليه الحسن ابن الأفشين بكتاب ولايته استوثق منه، وحمله إليه. فكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين يعلمه أنه عزل نوح بن أسد، وأنه قد ولاه الناحية، ووجه إليه بكتاب عزل نوح بن أسد فخرج الحسن بن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه؛ حتى ورد على نوح بن أسد، وهو يظن أنه والي الناحية، فأخذه نوح بن أسد وشده وثاقًا. ووجه به إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم. وكان الحبس الذي بنى للأفشين شبيهًا بالمنارة، وجعل في وسطها مقدار مجلسه؛ وكان الرجال ينوبون تحتها كما تدور. وذكر عن هارون بن عيسى بن المنصور، أنه قال: شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي داود وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات فأتى بالأفشين ولم يكن بعد في الحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه ولم يترك في الدار أحدٌ من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور، وصرف الناس. وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيات، وكان الذين أحضروا المازيار صاحب طبرستان والموبذ والمرزبان بن تركش - وهو أحد ملوك السغد - ورجلان من أهل السغد؛ فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة فقال لهما محمد بن عبد الملك: ما شأنكما؟ فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم، فقال له محمد: تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذن وهذا إمام، بينا مسجدًا بأشروسنة، فضربت كل واحد منهما ألف سوط؛ وذلك أن بيني وبين ملوك السغد عهدًا وشرطًا، أن أترك كل قوم على دينهم وما هم عليه؛ فوثب هذان على كل بيت كان فيه أصنامهم - يعني أهل أشروسنة - فأخرجا الأصنام، واتخذاه مسجدًا فضربتهما على هذا ألفًا ألفًا لتعديهما، ومنعهما القوم من بيعتهم. فقال له محمد: ما كتاب عندك قد زينته بالذهب والجواهر والديباج، فيه الكفر بالله؟ قال: هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه أدب من آداب العجم؛ وما ذكرت من الكفر؛ فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه؛ فتركته على حاله؛ ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك؛ فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام. قال: ثم تقدم الموبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحمًا من الذبوحة؛ وكان يقتل شاو سوداء كلّ يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسّيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لي يومًا: إني قد دخلت لهؤلاء لبقوم في كلّ شيء أكرهه؛ حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل ولبست النعل؛ غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عي شعرة - لم يطّل ولم يختن. فقال الأفشين: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقةٌ هم في دينه؟ - وكان الموبذ مجوسيًا أسلم بعد على يد المتوكل ونادمه - قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلّونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوّة تطلع علي منها وتعرف أخباري منها؟ قال: لان أفليس كنت أدخلك إلي وأبثك سرى وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك؛ إذا أفشيت علي سرًّا أسررته إليك. ثم تنحىّ الموبذ، وتقدم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هل تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، يا ممخرق، كم تدافع وتموّه! قال له الأفشين: يا طويل اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبى وجدي. قال: فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية " إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان "، قالك بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمو يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقيّت لفرعو حين قال لقومه: " أنا ربّكم الأعلى "! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد على طاعتهم. فقال له إسحاق بن إبراهيم بم مصعب: ويحك يا خيذر! كيف تحلف باللذه لنا فنصدقك ونصدق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدعى ما ادّعى فرعون! قال: يا أبا الحسين؛ هذه سورة قرأها عحجيف على علي بن هشام، وأنت تقرؤها علي فانظر غدًا من يقرؤها عليك! قال: ثم قدّم مازيار صاحب طبرستان، فقالوا للأفغشين: تعرف هذا؟ قال: لا، قالوا للمازيار: تعرف هذا؟ قال: عم، هذا الأفشي، فقالوا له: هذا المازيار؟ قال: نعم، قد عرفته الآ، قالوا: هل كاتبته؟ قال: لا، قالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كاب أخوه خاش إلى أخي قوهيار؛ أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأليض غيري وغيرك وغير بابك؛ فأما بابك فإنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عه الموت فأبى حمقه إلا أن دلّاه فما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس؛ فإن وجّهت إليه لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك، والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبّوس؛ وهؤلاء الذباب - يعني المغاربة - إنما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين - يعيني الأتراك - فإنما هي ساعة حتى تنفذ سهامهم، ثم تجول الخيل جولة فتأتي على آخرهم؛ ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم. فقال الأفشين: هذا يدّعي على أخيه وأخي دعوى لا تجب علي، ولو كنت كتبت بهذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بناحيتي كان غير مستنكر؛ لأني إذا نصرت الخليفة بيدي، كنت بالحيلة أحرى أن أنصره لآخذ بقفاه، وآتي به الخليفة لأحظى به عنده، كما حظي به عبد الله بن طاهر عند الخليفة. ثم نحّى المازيار. ولما قال الأفشين للمرزيان التركشي ما قال، وقال لإسحاق بن إبراهيم ما قال، زجر ابن أبي داود الأفشين، فقال له الأفشين: أنت يا أبا عبد الله ترفع طيلسانك بيدك، فلا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة، فقال له ابن أبي داود: أمطهّر أنت؟ قال: لا، قال: فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة! قال: أو ليس في دين الإسلام استعمال التقيّة؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت قال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع قلفة! قال: تلك ضرورة تعنيني فأصبر عليها إذا وقعت؛ وهذا شيء أستجلبه فلا آمن معه خروج نفسي، ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام فقال ابن أبي داود: قد بان لكم أمره يابغًا - لبغا الكبير أبي موسى التركي - عليك به! قال: فضرب بيده بغا على منطقته فجذبها، فقال قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم، فقلب بغا ذيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء من عند عنقه، ثم أخرجه من باب الوزيري إلى محبسه. وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وأترنجة بنت أشناس إلى سامرا. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر وثوب علي بن إسحاق برجاء بن أبي الضحاك فمن ذلك ما كان فيها من ثوب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ - وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين - برجاء بن أبي الضحاك؛ وكان على الخراج، فقتله، وأظهر الوسواس، ثم تكلم أحمد بن أبي داود فيه، فأطلق من محبسه؛ فكان الحسن بن رجاء يلقاه في طريق سامرّا، فقال البحتري الطائي: عفا علي بن إسحاق بفتكته ** على غرائب تيهٍ كنّ في الحسن أنسته تنقيعه في اللفظ نازلة ** لم تبق فيه سوى التسليم للزمن فلم يكن كابن حجرٍ حين ثار ولا ** أخي كليبٍ ولا سيف بن ذي يزن ولم يقل لك في وترٍ طلبت به ** تلك المكارم لا قعبان من لبن وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، فصلّى عليه المعتصم في دار محمد. ذكر الخبر عن موت الأفشين وفيها مات الأفشين. ذكر الخبر عن موته وما فعل به عند موته وبعده ذكر عن حمدون بن إسماعيل، أنه قال: لما جاءت الفاكهة الحديثة، جمع المعتصم من الفواكه الحديثة في طبق، وقال لابنه هارون الواثق: اذهب بهذه الفاكهة بنفسك إلى الأفشين، فأدخلها إليه. فحملت مع هارون الواثق حتى صعد بها إليه في البناء الذي له يسمى لؤلؤة؛ فحبس فيه؛ فنظر إليه الأفشين، فافتقد بعض الفاكهة؛ إما الإجلاص وإما الشاهلوج؛ فقال للواثق: لا أله إلا الله، ما أحسنه من طبق ولكن ليس لي فيه إجاص ولا شاهلوج! فقال له الواثق، انصرف أوجه به إليك، ولم يمس من الفاكهة شيئًا؛ فلما أراد الوايق الإنصراف قال له الأفشين: اقرئ سيدي السلام وقل له: أسألك أن توجه إلى ثقة من قبلك يؤدي عني ما أقول، فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل - وكان حمدون في أيام المتوكل في حبس سليمان بن وهب في حبس الأفشين هذا؛ فحدث بهذا الحديث وهو فيه: قال حمدو: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين، فقال لي: إنه سيطول عليك فلا تحتبس. قال: فدخلت عليه، وطبق الفاكهة بين يديه لم يمس منة واحدة فما فوقها، فقال لي: اجلس، فجلست فاستمالني بالدهقنة، فقلت: لا تطول، فإ أمير المؤمنين قد تقدم إلي ألا أحتبس عندك، فأوجز فقال: قل لأمير المؤمنين؛ أحسنت إلي وشرفتني وأوطأت الرجال عقبي، ثم قبلت في كلامًا لم يتحقق عندك؛ ولم تتدبره بعقلك؛ كيف يكو هذا، وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك! تخبر بأني دسست إلي منكجور أن يخرج، وتقبله وتخبر أني قلت للقائد الذي وجهته إلى منكجور: لا تحاربه، واعذر، وإن أحسست بأحد منا فانهزم من بين يديه؛ أنت رجل قد عرفت الحرب، وحاربت الرجال وسست للعساكر؛ هذا يمكن رأس عسكر يقول لجند يلقون قومًا: افعلوا كذا وكذا؛ هذا ما لا يسوغ لأحد أن يفعله؛ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله عدو قد عرفت سببه؛ وأنت أولى بي وإنما أنا عبد من عبيدك، وصنيعك؛ ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربي عجلًا له حتى أسمنه وكبر، وحسنت حاله، كان أصحابه اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا له بذبح العجل فلم يحبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعًا على أن قالوا له ذات يوم: ويحك! لم تربى هذا الأسد؟ هذا سبع، وقد كبر، والسبع إذا كبر إلى جنسه! فقال لهم: ويحك هذا عجل بقر، ما هو سبع، فقالوا: هذا سبع؛ سل من شئت عنه؛ وقد تقدموا إلى جميع من يعرفونه، فقالوا له: إن سألكم عن العجل، فقولوا له: هذا سبع؛ فكلما سأل الرجل إنسانًا عنه وقال له: أما ترى هذا العجل ما أحسنه! قال الآخر: هذا سبع؛ هذا أسد، ويحك! فأمر بالعجل فذبح؛ ولكني أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدًا! الله الله في أمري؛ اصطنعتني وشرفتني وأنت سيدي ومولاي، أسأل الله يعطف بقلبك علي. قال حمدون: فقمت فانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمس منه شيئًا، ثم ما لبثنا إلا قليلًا حتى قيل: إنه يموت أو قد مات؛ فقال المعتصم: أروه ابنه، فأخرجوه فطرحوه بين يديه، فنتف لحيته وشعره، ثم أمر به فحمل إلى منزل إيتاخ. قال: وكان أحمد بن أبي داود دعا به في دار العامة من الحبس فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا خيدر، أقلف، قال: نعم، وإنما أراد ابن أبي داود أن يشهد عليه؛ فإن تكشف تسب إلى الخرع؛ وإن لم يتكشف صح عليه أنه أقلف، فقال: نعم، أنا أقلف؛ وحضر الدار ذلك اليوم جميع القواد والناس؛ وكان ابن أبي داود أخرجه إلى دار العامة قبل مصير الواثق إليه بالفاكهة، وقلب مصير حمدون بن إسماعيل إليه. قال حمدون: فقلت له: أنت أقلف كما زعمت؟ فقال الأفشين: أخرجي إلى مثل ذلك الموضع، وجميع القواد والناس قد اجتمعوا، فقال لي ما قال؛ وإنما أراد أن يفضحني؛ إن قلت له: نعم لم يقبل قولي، وقال لي: تكشّف، فيفضحني بي الناس؛ فالموت كا أحبّ إلي من أن أتكشّف بين أيدي الناس؛ ولكن يا حمدون إن أحببت أن أتكشّف بين يديك حتى تراني فعلت؛ قال حمدون: فقلت له: أنت عندي صدوق؛ وما أريد أن تكشّف. فلما انصرف حمدون فأبلغ المعتصم رسالته، أمر بمنع الطعام منه إلّا القليل؛ فكان يدفع إليه في كلّ يوم رغيف حتى مات؛ فلما ذهب به بعد موته إلى دار إيتاخ، أخرجوه فصلبوه على باب العامّة ليراه الناس، ثم طرح بباب العامة مع خشبته؛ فأحرق وحول الرماد، وطرح في دجلة. وكان المعتصم حين أمر بحبسه وجّه سليمان بن وهب الكاتب يحصي جميع ما في دار الأفشين ويكتبه في ليلة من الليالي، وقصر الأفشين بالمطيرة، فوجد في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب، عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران أبيضان مشتبكان؛ عليهما ذهب، فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين؛ وظنّ أنه جوهر له قيمة؛ وكان ذلك ليلًا؛ فلما أصبح ونزع عنه شباك الذهب، وجوده حجرًا شبيهًا بالصّدف الذي يسمى الحبرون، من جنس الصدف الذي يقال له البوق، من صدف أخرج من منزله صور السماجة وغيرها وأصنام وغير ذلك، والأطواف والخشب التي كان أعدّها؛ وكان له متاع بالوزيريّة، فوجد فيه أيضًا صنم آخر، ووجدوا في كتبه كتابًا من كتب المجوس يقال له زراوه وأشياء كثيرة من الكتب؛ فيها ديانته التي كان يدين بها ربه. وكان موت الأفشين في شعبان من سنة ست وعشرين ومائتين. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بأمر أشناس؛ وكان أشناس. حاجًّا في هذه السنة، فولّى كل بلدة يدخلها فدعى له جميع المنابر التي مر بها من سامرا إلى مكة والمدينة. وكان الذي دعا له على منبر الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، ودعا منبر فيد هارون بن محمد بن أبي خالد المروروذي، وعلى منبر المدينة محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان وعلى منبر مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى، وسلم عليه في هذه الكور كلها بالإمارة وكانت ولايتها إلى أن يرجع إلى سامرا. ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر خروج أبي حرب المبرقع فمن ذلك ما كان من خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخلافه على السلطان. ذكر الخبر عن سبب خروجه وما آل إليه أمره ذكر لي بعض أصحابي ممن ذكر أنه خبير بأمره، أن سبب خروجه على السلطان كان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك؛ فضربها بسوط كان معه؛ فاتقته بذراعها، فأصاب السوط ذراعها فأثر فيها؛ فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها، وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه؛ فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غار، فضربه به حتى قتله؛ ثم هرب وألبس وجهه برقعًا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن؛ فطلبه السلطان فلم يعرف له خبر؛ وكان أبو حرب يظهر بالنهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه متبرقعًا؛ فيراه الرائي فيأتيه، فيذكره ويحرضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان وما يأتي إلى الناس ويعيبه؛ فما زال ذلك دأبه حتى استجاب له قوم من حراثى أهل تلك الناحية وأهل القرى؛ وكان يزعم أنه أموى، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني؛ فلما كثرت غاشيته وتباعه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية؛ فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية؛ منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مطاعًا في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق، فاتصل الخبر بالمعتصم وهو عليل؛ علته التي مات فيها؛ فبعث إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء ألف من الجند؛ فلما صار رجاء إليه وجده في عالم من الناس. فذكر الذي أخبرني بقصته أنه كان في زهاء مائة ألف؛ فكره رجاء مواقعته وعسكر بحذائه، وطاوله؛ حتى كان أول عمارة الناس الأرضين وحراثهم، وانصرف من كان من الحراثين مع أبي حرب إلى الحراثة وأرباب الأرضين إلى أرضيهم، وبقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين؛ ناجزه رجاء الحرب فالتقى العسكران: عسكر رجاء وعسكر المبرقع؛ فلما التقوا تأمل رجاء عسكر المبرقع فقال لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلًا له فروسية غيره، وإنه سيظهر لأصحابه من نفسه بعض ما عده من الرجلة: فلا تعجلوا عليه. قال: وكان الأمر كما قال رجاء؛ فما لبث المبرقع أن حمل على عسكر رجاء، فقال رجاء لأصحابه: افرجوا له؛ فأفرجوا له؛ حتى جاوزهم ثم كر راجعًا فأمر رجاء أصحابه أن يفرجوا له، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ورجع إلى عسكر نفسه؛ ثم أمهل رجاء وقال لأصحابه: إنه سيحمل عليكم مرة أخرى فأفرجوا له؛ فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك، وخذوه. ففعل المبرقع ذلك، فحمل على أصحاب رجاء، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعًا فأحاطوا به؛ فأخذوه فأنزلوه عن دابته. قال: وقد كان قدم على رجاء حين ترك معاجلة المبرقع الحرب من قبل المعتصم مستحث، فأخذ الرسول فقيده إلى أن كان من أمره، وأمر أبي حرب ما كا مما ذكرا، ثم أطلقه. قال: فلما كان يوم قدوم رجاء بأبي حرب على المعتصم، عزله المعتصم على ما فعل برسوله، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين؛ جعلني الله فداك! وجهتني في ألف إلى مائة ألف؛ فكرهت أن أعاجله فأهلك ويهلك من معي ولا نغني شيئًا؛ فتمهلت حتى خف من معه، ووجدت فرصة ورأيت لحربه وجهًا وقيامًا؛ فناهضته وقد خف من معه وهو في ضعف؛ ونحن في قوة، وقد جئتك بالرجل أسيرًا قال أبو جعفر: وأما غير من ذكرت أنه حدثني حديث أبي حرب على ما وصفت؛ فإنه زعم أن خروجه إنما كان في سنة ست وعشرين ومائتين بالرملة، فقالوا: إنه سفياني، فصار في خمسين ألفًا من أهل اليمن وغيرهم، واعتقد ابن بيهس وآخران معه من أهل دمشق، فوجه إليهم، المعتصم رجاء الحضاري في جماعة كبيرة، فواقعهم بدمشق؛ فقتل من أصحاب ابن بيهس وصاحبيه حوًا من خمسة آلاف؛ وأخذ ابن بيهس أسيرًا، فتل صاحبيه، وواقع أبا حرب بالرملة، فقتل من أصحابه نحوًا من عشرين ألفًا وأسر أبا حرب، فحمل إلى سامرا، فجعل وابن بيهس في المطبق. وفي هذه السنة أظهر جعفر بن مهرجش الكردي الخلاف، فبعث إليه المعتصم في المحرم إيتاخ إلى جبال الموصل لحربه، فوثب بجعفر بعض أصحابه فقتله. وفيها كانت وفاة بشر بن الحارث الحافي في شهر ربيع الأول وأصله من مرو. ذكر الخبر عن وفاة المعتصم والعلة التي مات بها وفيها كات وفاة المعتصم وذلك - فيما ذكر - يوم الخميس، فقال بعضهم: لثماني عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول لساعتين مضتا من النهار. ذكر الخبر عن العلة التي كانت منها وفاته وقدر مدة عمره وصفته ذكر أن بدء علته أنه احتجم أول يوم من المحرم، واعتل عندها، فذكر عن محمد بن أحمد بن رشيد عن زنام الزامر، قال: قد وجد المعتصم في علته التي توفي فيها إفاقة؛ فقال: هيئوا إلى الزلال لأركب، فركب وركبت معه، فمر في دجلة بإزاء منازله فقال: يا زنام: ازمر لي: يا منزلًا لم تبل أطلاله ** حاشى لأطلالك أن تبلى لم أبك أطلالك لكنني ** بكيت عيشي فيك إذ ولى والعيش أولى ما بكاه الفتى ** لا بد للمحزون أن يسلى قال: فما زالت أزمر هذا الصوت حتى دعا برطلية، فشرب منها قدحًا وجعلت أزمره وأكرره وقد تناول بين يديه؛ فما زال يبكي وتمسح دموعه فيه وينتحب؛ حتى رجع إلى منزله ولم يتسم شرب الرطليّة. وذكر عن علي بن الجعدانة، قال: لما احتضر المعتصم جعل يقول: ذهبت الحيلة ليست حيلة، حتى أصمت وذكر عن غيره أنه جعل يقول: إني أخذت من بين هذا الخلق. وذكر عنه أنه قال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت ما فعلت. فلما مات دفن بسامرا؛ فكات خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين. فإن كا مولده سنة ثمانين ومائة فإن عمره كله كان ستًا وأرعي سنة وسبعة أشهر وثمانية عشر يومًا، وإن كان مولده سنة تسع وسبعين ومائة؛ فإن عمره كان سبعًا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا. وكان - فيما ذكر - أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعًا مشرب اللون حمرة، حسن العينين. وكان مولده بالخلد. وقال بعضهم: ولد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن. وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وعمره كان ثمانين وأربعين سنة. ومات عن ثمانية بنين وثمان بنات، وملك ثما سين وثمانية أشهر، فقال محمد بن عبد الملك الزيات. قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ** عليك أيدٍ بالترب والطبن اذهب فنعم الحفيظ كنت على الد ** نيا ونعم الظهير للدين لا جبر الله أمة فقدت ** مثلك إلا بمثل هارون وقال مروان بن أبي الجنوب وهو ابن أبي حفصة: أبو إسحاق مات ضحى فمتنا ** وأمسنا بهارون حيينا لئن جاء الخميس بما كرهنا ** لقد جاء الخميس بما هوينا ذكر الخبر عن بعض أخلاق المعتصم وسيره ذكر عن ابن أبي داود أنه ذكر المعتصم بالله، فأسهب في ذكره، وأكثر في وصفه، وأطنب في فضله، وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه وطيب مركبه ولين جانبه، وجميل عشرته؛ فقال: قال لي يومًا ونحن بعمورية: ما تقول في البسر يا أبا عبد الله؟ قلت: يا أمير المؤمنين؛ نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق؛ قال: صدقت قد وجهت إلى مدينة السلام، فجاءوا بكباستين، وعلمت أنك تشتهيه. ثم قال: يا إيتاخ هات إحدى الكباستين، فجاء بكباسة بسر، فمد ذراعه، وقبض عليها بيده، وقال: كل بحياتي عليك من يدي، فقلت: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! بل تضعها فأكل كما أريد، قال: لا والله إلا من يدي قال: فوالله ما زال حاسرًا عن ذراعه، ومادًا يده، وأنا أجتبي من الغدق، وآكل حتى رمى به خاليًا ما فيه بسرة. قال: وكنت كثيرًا ما أزامله في سفره ذلك؛ إلى أن قلت له يومًا: يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض مواليك وبطانتك فاسترحت مني إليهم مرّة ومنهم إلى مرة أخرى كان ذلك أنشط لقلبك، وأطيب لنفسك وأشدّ لراحتك؛ قال: فإنّ سيما الدمشقي يزاملني اليوم فمن يزاملك أنت؟ قلت: الحسن ابن يونس، فأنت وذاك. قال: فدعوت الحسن فزاملني. وتهيأ أن يركب المعتصم بغلًا، فاختار أن يكون منفردًا، قال: فجعل يسير بسير بعيري؛ فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه إلى، وإذا أردت أن أكلمه خفضت رأسي؛ قال: فانتهينا إلى واد ولم نعرف غوره؛ وقد خلقنا العسكر وراءنا، فقال لي: مكانك حتى أتقدم. فأعرف غور الماء وأطلب قلته، واتبع أنت موضع سيري، قال: فتقدم فدخل الوادي وجعل يطلب قلة الماء، فمرة ينحرف عن يمينه، ومرة ينحرف عن شماله، وتارة يمشي لسننه؛ وأنا خلفه متبع لأثره حتى قطعنا الوادي. قال: واستخرجت منه لأهل الشاش ألفى ألف درهم لكرى نهر لهم اندفن في صدر الإسلام؛ فأصر ذلك بهم، فقال لي: يا أبا عبد الله، مالي ومالك؛ تأخذ مالي لأهل الشاش وفرغانة! قلت: هم رعيتك يا أمير المؤمين: والأقصى والأدنى في حسن نظر الإمام سواء. وقال غيره: إنه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل. وذكر عن الفضل بن مروان أنه قال: لم يكن للمعتصم لذة في تزيين البناء؛ وكانت غايته فيه الإحكام. قال: لم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب. وذكر محمد بن راشد، قال: قال لي أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم: دعاني أمير المؤمينين المعتصم يومًا، فدخلت عليه وعليه صدرة ومشى ومنطقة ذهب وخف أحمر، فقال لي: يا إسحاق، أحببت أن أضرب معك بالصوالجة؛ فبحياتي عليك إلّا لبست مثل لباسي؛ فاستعفيته من ذلك فأبى، فلبست مثل لباسه، ثم قدّم إليه فرس محلّاة بحلية الذهب، ودخلنا الميدان، فلما ضرب ساعة، قال لي: أراك كسلان، وأحسبك تكره هذا الزي، فقلت: هو ذاك يا أمير المؤمنين، فنزل وأخذ بيدي، ومضى يمشي وأنا معه إلى أن صار إلى حجرة الحمام، فقال: خذ ثيابي يا إسحاق؛ فأخذت ثيابه حتى تجرد، ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت؛ ثم دخلنا أنا وهو الحمام؛ وليس معنا غلام؛ فقمت عليه ودلكته وتولى أمير المؤمنين المعتصم متى مثل ذلك، وأنا في كل ذلك أستعفيه، فيأبى على، ثم خرج من الحمام فأعطيته ثيابه، ولبست ثيابي، ثم أخذ بيدي ومضى يمشي؛ وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فقال: يا إسحاق؛ جئني بمصلي ومخدتين، فجئته بذلك، فوضع المخدتين، ونام على وجهه، ثم قال: هات مصلى ومخدتين، فجئت بهما، فقال: ألقه ونم عليه بحذائي، فحلفت ألا أفعل، فجلست عليه، ثم حضر إيتاخ التركي وأشناس، فقال لهما: امضيا إلى حيث إذا صحت سمعتما، ثم قال: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة؛ وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين؛ فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحدٌ منهم؛ قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين؛ فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله لا يعتاض السلطان منك أبدًا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل آيه وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيب على أمانٍ من غضبك. قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول؛ فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعًا لم تنجب إذ لا أصول لها، قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب. وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أنه قال: أتيت أمير المؤمنين المعتصم بالله يومًا وعنده قينة كان معجبًا بها، وهي تغنيه، فلما سلمت وأخذت مجلسي، قال لها: خذي فيما كنت فيه، فغنت فقال لي: كيف تراها يا إسحاق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق وتختله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور، فقال: سأل إسحاق، لصفتك لها أحسن منها ومن غنائها، وقال لابنه هارون: اسمع هذا الكلام. وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: قلت للمعتصم في شيء، فقال لي: يا إسحاق؛ إذا نصر الهوى بطل الرأي؛ فقلت له: كنت أحب يا أمير المؤمنين أن يكون معي شبابي؛ فأقوم من خدمتك بما أنويه، قال لي: أو لست كنت تبلغ إذ ذاك جهدك؟ قلت: بلى، قال: فأنت الآن تبلغ جهدك فسيان إذًا. وذكر عن أبي حسان أنه قال: كانت أم أبي إسحاق المعتصم من مولدات الكوفة يقال لها ماردة. وذكر عن الفضل بن مروان، أنه قال: كانت أم المعتصم ماردة سغدية، وكان أبوها نشأ بالسواد، قال: أحسبه بالبند نيجين. وكان للرشد من ماردة مع أبي إسحاق، أبو إسماعيل، وأم حبيب، وآخران لم يعرف اسماهما. وذكر عن أحمد بن أبي داود أنه قال: تصدق المعتصم ووهب على يدي وبسبي بقيمة مائل ألف ألف درهم. خلافة هارون الواثق أبي جعفر وبويع في يوم توفي المعتصم ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم، وذلك في يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس. وهلك هذه السنة توفيل ملك الروم وكان ملكه اثني عشرة سنة. وفيها ملكت بعده امرأته تذورة، وابنها ميخائيل بن توفيل صبي. وحج بالناس فيها جعفر بن المعتصم، وكانت أم الواثق خرجت معه تريد الحج فماتت بالحيرة لأربع خلون من ذي القعدة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى. ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من الواثق إلى أشناس أن توجه وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان. وفيها مات أبو الحسن المائني في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي. وفيها مات حبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر. وفيها حج سليمان بن عبد الله بن طاهر. وفيها غلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهمًا. وأصاب الناس في الموقف حر شديد ثم مطر شديد فيه برد، فأضر بهم شدة الحر، ثم شدة البرد في ساعة واحدة، ومطروا بمنىً في يوم النحر مطرًا شديدًا لم يروا مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة قتلت عدة من الحاج. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن حبس الواثق الكتاب وإلزامهم الأموال فمن ذلك ما كان من حبس الواثق بالله الكتّاب وإلزامهم أموالًا، فدفع أحمد بن إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، وأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط؛ فضربه - فيما يقل - نحوًا من ألف سوط، فأدى ثمانين ألف دينار. وأخذ من سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار. وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير صلحًا مائة ألف وأربعين ألف دينار؛ وذلك سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم. ونصب محمد بن عبد الملك لابن أبي داود وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم؛ فنظر في أمرهم وأقيموا للناس ولقوا كل جهد. ذكر الخبر عن السبب الذي بعث الواثق على فعله ما ذكرت بالكتاب في هذه السنة ذكر عن عزون بن عبد العزيز الأنصاري، أنه قال: كنا ليلةً في هذه السنة عند الواثق، فقال: لست أشتهي الليلة النبيذ؛ ولكن هلموا نتحدث الليلة؛ فجلس في روايه الأوسط الهاروني في البناء الأول الذي كان إبراهيم بن رباح بناه؛ وقد كان في أحد شقي ذلك الرواق قبةٌ مرتفعة في السماء بيضاء، كأنها بيضة إلا قدر ذراع - فيما ترى العين - حولها في وسطها ساج منقوش مغشي باللازورد والذهب، وكانت تسمى قبة المنطقة؛ وكان ذلك الرواق يسمى رواق قبة المنطقة. قال: فتحدثنا عامة الليل، فقال الواثق: من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدي الرشيد على البرامكة فأزال نعمتهم؟ قال عزون: فقلت: أنا والله أحدثك يا أمير المؤمنين، كان سبب ذلك أن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخياط، فأرسل إليها فاعترضها، فرضي جمالها وعقلها وحسن أدبها، فقال لعون: ما تقول في ثمنها؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمر ثمنها واضح مشهور؛ حلفت بعتقها وعتق رقيق جميعًا وصدقة مالي الأيمان المغلظة التي لا مخرج منها لي، وأشهدت علي بذلك العدول ألا أنقص ثمنها عن مائة ألف دينار، ولا أحتال في ذلك بشيء من الحيل، هذه قضيتها. فقال أمير المؤمنين: قد أخذتها منك بمائة ألف دينار ثم أرسل إلى يحيى بن خالد يخبره بخبر الجارية، ويأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار، فقال يحيى: هذا مفتاح سوء؛ إذا اجترأ في ثمن جارية واحدة على طلب مائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك؛ فأرسل يخبره أنه لا يقدر على ذلك، فغضب عليه الرشيد، وقال: ليس في بيت مالي مائة ألف دينار فأعاد عليه: لابد منها، فقال يحيى: اجعلوها دراهم، ليراها فيستكرثوها، فلعله يردها، فأرسل بها دراهم، وقال: هذه قيمة مائة ألف دينار، وأمر أن توضع في رواقه الذي يمر فيه إذا أراد المتوضأ لصلاة الظهر. قال: فخرج الرشيد في ذلك الوقت؛ فإذا جبل من بدر، فقال: ما هذا؟ قالوا: ثمن الجارية، لم تحضر دنانير، فأرسل قيمتها دراهم، فاستكثر ذلك ودعا خادمًا له، فقال: اضمم هذه إليك، واجعل لي بيت مال لأضم إليه ما أريده وسماه بيت مال العروس، وأمر برد الجارية إلى عون، وأخذ في التفتيش عن المال فوجد البرامكة قد استهلكوه، فأقبل يهم بهم ويمسك؛ فكان يرسل إلى الصحابة وإلى قوم من أهل الأدب من غيرهم فيسامرهم، ويتعشى معهم؛ فكان فيمن يحضر إنسان كان معروفًا بالأدب، وكان يعرف بكنيته يقال له أبو العود؛ فحضر ليلةً فيمن حضره، فأعجبه حديثه؛ فأمر خادمًا له أن يأتي يحيى بن خالد إذا أصبح، فيأمره أن يعطيه ثلاثي ألف درهم. ففعل، فقال يحيى لأبي العود: أفعل؛ وليس بحضرتنا اليوم مال، غدًا يجيء المال، ونعطيك إن شاء الله. ثم دافعه حتى طالت به الأيام، قال: فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتًا يحرضه فيه على البرامكة - وقد شاع في الناس ما كان يهم به الرشيد في أمرهم - فدخل عليه ليلةً، فتحدثوا، فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة. وعدت هندٌ وما كانت تعد ** ليت هندًا أنجزتنا ما تعد واستبدت مرة واحدةً ** إنما العاجز من لا يستبد فقال الرشيد: أجل والله؛ إنما العاجز من لا يستبد حتى انقضى المجلس، وكان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادمًا يأتيه بأخباره، وأصبح يحيى غاديًا على الرشيد، فلما رآه قال: قد أردت البارحة أن أرسل إليك بشعرٍ أنشدنيه بعض من كان عندي ثم كرهت أن أزعجك، فأنشده البيتين، فقال: ما أحسنهما يا أمير المؤمنين! وفطن لما أراد، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم، فسأله عن إنشاد ذلك الشعر؛ فقال: أبو العود أنشده، فدعا الوزير يحيى بأبي العود، فقال له: إنا كنا قد لويناك بمالك، وقد جاءنا مال ثم قال لبعض خدمه: اذهب فأعطه ثلاثين ألف درهم من بيت مال أمير المؤمنين، وأعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إياه، واذهب إلى الفضل وجعفر فقل لهما هذا رجل مستحق أن يبر، وكان أمير المؤمنين أمر له بمال فأطلت مطله، ثم حضر المال؛ فأمرت أن يعطى ووصلته من عندي صلة، وقد أحببت أن تصلاه، فسألا: بكم وصله قال: بعشرين ألف درهم؛ فوصله كل واحد منهما بعشرين ألف درهم؛ فانصرف بذلك المال كله إلى منزله. وجدّ الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم وأزال نعمتهم، وقتل جعفرًا فقال الواثق: صدق والله وجدي؛ إنما العاجز من لا يستبد! وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها. قال عزون: أحبسه: سيوقع بكتابه، فما مضى أسبوع حتى أوقع بكتابه، وأخذ إبراهيم بن رباح وسليمان بن وهب وأبا الوزير وأحمد بن الخصيب وجماعتهم. قال: وأمر الواثق بحبس سلما بن وهب كاتب إيتاخ، وأخذه بمائتي ألف درهم - وقيل دينار - فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم، وسأل أن يؤخذ بالباقي عشري شهرًا، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد. وفي هذه السنة ولي شارباميان لإيتاخ اليمن وشخص إليها في شهر ربيع الآخر. وفيها ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين ذكر خبر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر مسير بغا إلى الأعراب بالمدينة فمن ذلك ما كان من توجيه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين عاثوا بالمدينة وما حواليها. ذكر الخبر عن ذلك ذكر أن بدء ذلك كان أن بني سليم كانت تطاول على الناس حول المدينة بالشر وكانوا إذا وردوا سوقًا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا، ثم ترقى بهم الأمر إلى أن أوقعوا بالحجاز بناس من بني كنانة وبأهلة، فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وذلك في جمادى الآخرة في سنة ثلاثين ومائتين، وكان رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي. فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي؛ وهو يومئذ عامل المدينة؛ مدينة الرسول ﷺ حماد بن جرير الطبري - وكان الواثق وجه حمادًا مسلحةً للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب، في مائتي فارس من الشاكرية - فتوجه إليهم حماد في جماعة من الجند ومن تطوع للخروج من قريش والأنصار ومواليهم وغيرهم من أهل المدينة؛ فار إليهم فلقيته طلائعهم. وكانت بنو سليم كارهة للقتال، فأمر حماد بن جرير بقتالهم، وحمل عليهم بموضع يقال له الرويثة من المدينة على ثلاث مراحل؛ وكانت بنو سليم يومئذ وأمدادها جاءوا من البادية في ستمائة وخمسين، وعامة من لقيهم من بني عوف من بني سليم، ومعهم أشهب بن دويكل بن يحيى بن حمير العوفي وعمه سلمة بن يحيى وعزيزة بن قطاب اللبيدي من بني لبيد بن سليم؛ فكان هؤلاء قوادهم، وكانت خيلهم مائة وخمسين فرسًا فقاتلهم حماد وأصحابه؛ ثم أتت بني سليم أمدادها خمسمائة من موضع فيه بدوهم؛ وهو موضع يسمى أعلى الرويثة؛ بينها وبين موضع القتال أربعة أميال؛ فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزمت سودان المدينة بالناس؛ وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار، فصلوا بالقتال حتى قتل حماد وعامة أصحابه، وقتل ممن ثبت من قريش والأنصار عددٌ صالح، وحازت بنو سليم الكراع والسلاح والثياب؛ وغلظ أمر بني سليم، فاستباحت القرى والمناهل؛ فيما بينها وبين مكة والمدينة؛ حتى لم يمكن أحدًا أن يسلك ذلك الطريق؛ وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب. فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في الشاكرية والأتراك والمغاربة، فقدمها بغا في شعبان سنة ثلاثين ومائتين، وشخص إلى حرة بني سليم، لأيام بقين من شعبان؛ وعلى مقدمته طردوش التركي، فلقيهم ببعض مياه للحرة؛ وكانت الوقعة بشق الحرة من وراء السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا إليها - والسوارقية حصون - وكان جل من لقيه منهم من بني عوف فيهم عزيزة بن قطاب والأشهب - وهما رأسا القواد يومئذ - فقتل بغا منهم نحوًا من خمسين رجلًا، وأسر مثلهم؛ فانهزم الباقون، وانكشف بنو سليم لذلك؛ ودعاهم بغا بعد الوقعة إلى الأمان على حكم أمير المؤمنين الواثق، وأقام بالسوارقية فأتوه، واجتمعوا إليه، وجمعهم من عشرة واثنين وخمسة وواحد، وأخذ من جمعت السوارقية من غير بني سليم من أثناء الناس، وهربت خفاف بني سليم إلا أقلها؛ وهي التي كانت تؤذي الناس، وتطرق الطريق، وجلّ من صار في يده ممن ثبت من بني عوف، وكان آخر من أخذ منهم من بني حبشي من بني سليم، فاحتبس عنده من وصف بالشر والفساد؛ وهم زهاء ألف رجل، وخلى سبيل سائرهم؛ ثم رحل عن السوارقية بمن صار في يده من أسارى بني سليم ومستأمنيهم إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ومائتين، فحبسهم فيها في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة حاجًا في ذي الحجة؛ فلما انقضى الموسم انصرف إلى ذات عرق، ووجه إلى بني هلال من عرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا، فأخذ من ممردتهم وعتاتهم نحوًا من ثلثمائة رجل، وخلّى سائرهم، ورجع من ذات عرق وهي على مرحلة من البستان، بينها وبين مكة مرحلتان. ذكر الخبر عن وفاة عبد الله بن طاهر وفي هذه السنة مات أبو العباس عبد الله بن طاهر بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول بعد موت أشناس التركي بتسعة أيام. ومات عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان وخراج هذه الأعمال كان يوم مات ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق أعمال عبد الله بن طاهر كلها ابنه طاهرًا. وحجّ في هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فولى أحداث الموسم. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من أمر الفداء الذي جرى على يد خاقان الخادم بين المسلمين والروم في المحرم منها، فبلغت عدة المسلمين - فيما قبل - أربعة آلاف وثلثمائة واثنين وستين إنسانًا. ذكر الخبر عن أمر بني سليم وغيرهم من القبائل وفيها قتل من قتل من بني سليم بالمدينة في حبس بغا. ذكر الخبر عن سبب قتلهم وما كان من أمرهم ذكر أن بغا لما صار إليه بنو هلال بذات عرق، فأخذ منهم من ذكرت أنه أخذ منهم، شخص معتمرًا عمرة المحرم، ثم انصرف إلى المدينة، فجمع كل من أخذ من بني هلال واحتبسهم عنده مع الذين كان أخذ من بني سليم، وجمعهم جميعًا في دار يزيد بن معاوية في الأغلال والأقياد وكانت بنو سليم حبست قبل ذلك بأشهر. ثم سار بغا إلى بني مرة، وفي حبس المدينة نحو من ألف وثلثمائة رجل من بني سليم وهلال، فنقبوا الدار ليخرجوا، فرأت امرأة من أهل المدينة النقب، فاستصرخت أهل المدينة فجاءوا، فوجدوهم قد وثبوا على الموكلين بهم، فقتلوا منهم رجلًا أو رجلين وخرج بعضهم أو عامتهم؛ فأخذوا سلاح الموكلين بهم، واجتمع عليهم أهل المدينة؛ أحرارهم وعبيدهم - وعامل المدينة يومئذ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي - فمنعوهم الخروج، وباتوا محاصريهم حول الدار حتى أصبحوا؛ وكان وثوبهم عشية الجمعة؛ وذلك أن عزيزة بن قطاب قال لهم: إني أتشاءم بيوم السبت؛ ولم يزل أهل المدينة يعتقبون القتال، وقاتلتهم بنو سليم، فظهر أهل المدينة عليهم، فقتلوهم أجمعين، وكان عزيزة يرتجز، ويقول: لابد من زحم وإن ضاق الباب ** إني أنا عزيزة بن القطاب للموت خيرٌ للفتى من العاب ** هذا وربي عملٌ للبواب وقيده في يده قد فكه، فرمى به رجلًا، فخرّ صريعًا. وقتلوا جميعًا، وقتلت سودان المدينة من لقيت من الأعراب في أزقة المدينة ممن دخل يمتاز، حتى لقوا أعرابيًا خارجًا من قبر النبي ﷺ فقتلوه؛ وكان أحد بني أبي بكر بن كلاب من ولد عبد العزيز بن زرارة. وكان بغا غائبًا عنهم؛ فلما قدم فوجدهم قد قتلوا شق ذلك عليه، ووجد منه وجدًا شديدًا. وذكر أن البواب كان قد ارتشى منهم، ووعدهم أن يفتح لهم الباب، فعجلوا قبل ميعاده؛ فكانوا يرتجزون ويقولون وهم يقاتلون: الموت خيرٌ للفتى من العار ** قد أخذ البواب ألف دينار وجعلوا يقولون حين أخذهم بغا: يا بغية الخير وسيف المنتبه ** وجانب الجور البعيد المشتبه من كان منا جانيًا فلست به ** افعل هداك الله ما أمرت به فقال: أمرت أن أقتلكم. وكان عزيزة بن قطاب رأس بني سليم حين قتل أصحابه صار إلى بئر، فدخلها، فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقتله، وصفت القتلى على باب مروان بن الحكم؛ بعضها فوق بعض. وحدثني أحمد بن محمد أن مؤذن أهل المدينة أذن ليلة حراستهم بني سليم بليل ترهيبًا لهم بطلوع الفجر، وأنهم قد أصبحوا، فجعل الأعراب يضحكون، ويقولون: يا شربة السويق؛ تعلموا بالليل، ونحن أعلم به منكم! فقال رجل من بني سليم: متى كان ابن عباسٍ أميرًا ** يصل لصقل نابيه صريف يجور ولا يرد الجور منه ** ويسطو ما لوقعته ضعيف وقد كنا نرد الجور عنا ** إذا انتضيت بأيديا السيوف أمير المؤمنين سما إلينا ** سمو اليلث ثار من الغريف فإن يمنن فعفو الله نرجو ** وإن يقتل فقاتلنا شريف وكان سبب غيبة بغا عنهم أنه توجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان تغلب عليها من بني فزارة ومرة؛ فلما شارفهم وجه إليهم رجلًا من فزارة يعرض عليهم الأمان، ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته، وزين لهم الهرب فهربوا ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفرًا بقوا فيها منهم؛ وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها؛ فظفر ببعضهم، واستأمن بعضهم، وهرب الباقون مع رأس لهم يقال له الركاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق وأقام بغا بجفاء وهي قرية من حدّ عمل الشأم، مما يلي الحجاز نحوًا من أربعين ليلة، ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرّة وفزارة. وفي هذه السنة صار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع جماعة؛ وكان وجّه إليهم وإلى بني ثعلبة؛ فلمّا صاروا إليه - فيما ذكر - أمر محمد ابن يوسف الجعفري فاستحلفهم الأيمان الموكدة ألّا يتخلّفوا عنه متى دعاهم. ثم شخص إلى ضريّة لطلب بني كلاب ووجّه إليهم رسله فاجتمع إليه منهم - فيما قيل - نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاحتبس منهم من أهل الفساد نحوًا من ألف رجل وثلثمائة رجل وخلّى سائرهم ثم قدم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، فحبسهم في دار يزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة بغا، وأقام بها حتى شهد الموسم، فبقي بنو كلاب في الحبس لا يجري عليهم شيء مدّة غيبة بغا؛ حتى رجع إلى المدينة، فلما صار إلى المدينة أرسل إلى من كان استحلف من ثعلبة وأشجع وفراسة فلم يجيبوه، وتفرّقوا في البلاد، فوجّه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير أحد. ذكر مقتل أحمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق وفي هذه السنة تحرّك ببغداد قومٌ في ربض عمرو بن عطاء فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعي البيعة. ذكرالخبر عن سبب حركة هؤلاء القوم وما آل إليه أمرهم وأمر أحمد بن نصر وكان السبب في ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي - ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس وكان ابنه أحمد يغشاه أصحاب الحديث؛ كيحيى بن معين وابن الدورقي وابن خيثمة، وكات يظهر المباية لم يقول: القرآن مخلوق؛ مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني عباس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك، مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه، وغلبة أحمد بن أبي داود عليه - فحدثني بعض أشياخنا، عمّن ذكره، أنه دخل على أحمد بن نصر في بعض تلك الأيام وعنده جماعة من الناس، فذكر عنده الواثق، فجعل يقول: ألّا فعل هذا الخنزير، أو قال: هذا الكافر؛ وفشا ذلك من أمره، فخوّف بالسلطان، وقيل له: قد اتّصل أمرك به، فخافه. وكان فيمن يغشاه رجل - فيما ذكر - يعرف بأبي هارون السرّاج وآخر يقال له طالب، وآخر من أهل خرسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة ممّن ظهر له القول بمقالته، فحرّك المطيفون به - يعني أحمد بن نصر - من أصحاب الحديث، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد - أحمد، وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن وقصدوه بذلك دون غيره لما كانت لما لأبيه وجده في دولة بني العباس من الأثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنة إحدى ومائتي لماّ كثر الدعّار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان؛ وقد ذكرنا خبره فيما مضى. وأنه لم يزل أمره على ذلك ثابتًا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين فرجوا استجابة العامة له إذا هو تحرّك للأسباب التي ذكرت. فذكر أنه أجاب من سأله ذلك؛ وأنّ الذي كان يسعى به في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهم قبل. وإ أبا هارون السراج وطالبًا فرّقا في قوم مالا، فأعطيا كلّ رجل منهم دينارًا دينارًا، وواعدهم ليلةً يضربون فيها الطبل للإجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان؛ فكان طالب بالجانب الغربي من مدينة السلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقي فيمن عاقده عليه؛ وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرّقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذًا، واجتمع عدّة منهم على شربه، فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة؛ وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد. وكان إسحاق بن إبراهيم غائبًا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم غلامًا له يقال له رحش فأتاهم فسألهم عن قصّتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطبل، فدلّ على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له عيسى الأعور، فهدّده بالضرب، فأقرّ على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم؛ فأخذ بعضهم، وأخذ طالبًا ومنزله في الربض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السراج ومنزله في الجانب الشرقي، وتتبّع من سمّاه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيّروا في الحبس في الجانب الشرقي والغربي، كلّ قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيّد أبو هارون وطالب بسبعين رطلًا من الحديد كلّ واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولّى إخراجهما رجلٌ من أعوان محمد بن عياش - وهو عامل الجانب الغربي، وعامل الجانب الشرقي العباس بن محمد بن جبريل القائد الخرساني - ثم أخذ خصىّ لأحمد ابن نصر فتهدّد، فأقرّ بما أقرّ به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمّام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي؛ فإن أصبتم فيه علمًا أو عدّة أو سلاحًا لفتنة فأنتم في حلّ منه ومن دمي؛ ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيّين وابنين له ورجلًا ممن كان يغشاه يقال له إسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهلي، ومنزله بالجانب الشرقي، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرّا على بغال بأكفٍ ليس تحتهم وطاء، فقيّد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن أبي داود وأصحابه، وجلس لهم مجلسًا عامًّا ليمتحنوا امتحانًا مكشوفًا، فحضر القوم واجتمعوا عنده. وكان أحمد بن أبي داود - فيما ذكر - كارهًا قتله في الظاهر؛ فلما أتى بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله؟ وأحمد بن نصر مستقتل قد تنور وتطيب قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله قال: فما تقول في ربك أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المومنين جاءت الآثار عن رسول الله ﷺ أنه قال: " ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته " فنحن على الخبر قال: وحدثني سفيان ابن عتيبة بحديث يرفعه " أن قلب ابن آدم بين إصبعي من أصابع الله يقلّبه "؛ وكان النبي ﷺ يدعو: " يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك "؛ فقال له إسحاق بن إبراهيم: و؟ يلكن انظر ماذا تقولن قال: أنت أمرتني بذلك؛ فأشفق إسحاق من كلامه، وقال: أنا أمرتك بذلكن قال: نعم، أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين، ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله ﷺ. فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضيًا على الجانب الغربي فعزل؛ وكان حاضرًا وكان أحمد بن نصر ودًّا له -: يا أمير المؤمنين؛ هو حلال الدم، وقال أبو عبد الله الأرمّني صاحب ابن أبي داود: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال ابن أبي داود: يا أمير المؤمنين كافر يستتاب؛ لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل - كأنه كره أن يقتل بسببه - فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة - سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي وكان في الخزاة، كان أهدى إلى موسى الهادي فأمر سلمًا الخاسر الشاعر أن يصفه له، فوصفه فأجازه - فأخذ الواثق الصمصامة - وهي صفيحة موصولة من أسفلها مسمورة بثلاثة مسمير تجمع بين الصفيحة والصلة - فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم اتضى سيمًا الدمشقي سيفه، قضرب عنقه وخر رأسه. وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضًا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فصب في الجانب الشرقي أيامًا وفي الجانب الغربي أيامًا، ثم حول إلى الشرق؛ وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر؛ وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال؛ وهو أحمد بن نصر بن مالك؛ ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام؟ عليه الحجة في خلق القرآن وفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق؛ فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه. وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك؛ فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه. وأمر أن يتتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر؛ ممن ذكر أنه كان متشايعًا له؛ فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلًا وسموا في حبوس الظلمة؛ ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون، ومنعوا من الزوار، وثقلوا بالحديد. وحمل أبو هارون السراج وآخر معه إلى سامرا، ثم ردوا إلى بغداد فجعلوا في المجالس. وكان سبب أخذ الذين أخذوا بسبب أحمد بن نصر، أن رجلًا قصارًا كان في الربض جاء إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فقال: أنا أدلك على أصحاب أحمد بن نصر، فوجه معه من يتبعهم؛ فلما اجتمعوا وجدوا على القصار سببًا حبسوه معهم؛ وكان له في المهرزار نخل فقطع وانتهت منزله؛ وكان ممن حبس بسببه قوم من ولد عمرو بن اسفنديار، فماتوا في الحبس؛ فقال بعض الشعراء في أحمد بن أبي داود: ما إن تحولت من إياد ** صرت عذابًا على العباد أنت كما قلت من إياد ** فارفق بهذا الخلق يا إيادي وفي هذه السنة أراد الواثق الحج؛ فاستعد له، ووجه عمر بن فرج إلى الطريق لإصلاحه، فرجع فأخبره بقلة الماء فبدا له. وحج بالناس فيها محمد بن دواد بن عيسى. وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن فشخص إليها في شعبان. وحج هو وبغا الكبير، وعلى أحداث الموسم بغا الكبير؛ وكان شخوص جعفر إلى اليمن في أربعة آلاف فارس وألفى راجل وأعطى رزق ستة أشهر. وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى قشير من أهل أضاخ فيها على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار الخلافة؛ ولم يذكر أن أحدًا عقد لأحد في دار الخلافة إلا الخليفة غير محمد بن عبد الملك الزيات. وفي هذه السنة نقب قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر وأخذوا اثنين وأربعين ألفًا من الدراهم؛ وشيئًا من الدنانير يسيرًا. فأُخِذوا بعدُ وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشرطة خليفة إيتاخ. وفيها خرج محمد بن عمرو الخارجي من بني زيد بن تغلب في ثلاثة عشر رجلًا في ديار ربيعة فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن حميد الطوسي، وكان على حرب الموصل في مثل عدته، فقتل من الخوارج أربعة، وأخذ محمد ابن عمرو أسيرًا فبعث به إلى سامرا، فبعث به إلى مطبق بغداد؛ وصبت رءوس أصحابه وأعلامه عند خشبة بابك. وفي هذه السة قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس؛ وكان شخص في طلب الأكراد لأنهم قد كانوا تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه منهم بنحو من خمسمائة فس؛ فيهم غلمان صغار، جمعهم في قيود وأغلال؛ فأمر بحبسهم، وأجيز في وصيف بخمسة وسبعي ألف دينار، وقلد سيفًا وكسى. خبر الفداء بين المسلمين والروم وفي هذه السنة، تم الفداء بين المسلمين وصاحب الروم، واجتمع فيها المسلمون والروم على نهر يقال له اللمس على سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس. ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم - وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر - أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب؛ فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس؛ فيمكثون إلى وقت الظهر؛ وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعًا؛ إلا أربعة نفر؛ فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه؛ وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقا بعدهم قليلًا؛ فقدم على الواثق رسل صاحب الروم - وهو ميخائيل بن توفيل بن مخائيل ابن أليون بن جورجس - يسأله أن يفادى بمن في يده من أسارى المسلمين فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء؛ وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين. ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء؛ فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذي قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزًا ولا شيخًا كبيرًا ولا صبيًا، فلم يزل ذلك بينهم أيامًا حتى رضوا عن كل نفس بنفس. فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شرى من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن؛ حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي داود رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة وجعفر " بن أحمد " بن الحذاء؛ ووجه معهما كاتبًا من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودى به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم؛ وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم؛ وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق؛ ممن فودى به دينارًا لكل إنسان من ماله حمل معهم فمضى القوم. فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم - وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم. فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء - فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة؛ فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودى به؛ ومن لم يقل ذلك ترى في أيدي الروم؛ ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة. قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم؛ يقال لأحدهما أنفاس وللآخر لمسنوس؛ والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس؛ فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه أن من فودى به من المسلمين من كان معهم من أهل ذمتهم أربعة آلاف وستمائة إنسان؛ منهم صبيان ونساء ستمائة؛ ومنهم من أهل الذمة أقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الأفاق. وذكر أبو قحطبة - وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظر كم عدد الأسرى ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم - أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطينيية وغيرها؛ إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي - وكان عندهم - فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس؛ وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم. وذكر محمد هذا أنه كان أسيرًا في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودى به هذا الفداء، وقال: فودى بنا في يوم عاشوراء على هر يقال له اللامس، على سلوقية قريبًا من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسًا؛ النساء أزواجهن وصبيانهن ثمانمائة وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيرًا أو كبيرًا، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه. قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي - وهو مخاضة - فكان هؤلاء يرسلون من هنا رجلًا وهؤلاء من هنا رجلًا، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا؛ وإذا صار الرمي إلى الرم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيهًا بالتكبير. وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسرًا على النهر، وعقد الروم جسرًا؛ فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم؛ فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة. وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين امتحننا جعفر ويحيى، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين. قال: وكان البطريقان اللذان قدما الأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما. قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين؛ فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يومًا لا يغزون حتى وصلوا إلى بلادهم ومأمنهم؛ وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس؛ ليكون عليهم الفضل استظهارًا مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم. قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحوٌ من ثلاثين رجلًا فودي بهم. قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يومًا، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، فأصاب الناس الثلج والمطر فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدنون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين؛ فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان؛ وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكرًا فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه؛ فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم. فأخذ نحوًا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة. وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان. وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس. وفيها مات أبو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة. وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضي. وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو بن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي. ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير إلى حرب بني نمير فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم. ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم حدثني أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم؛ وذكر أنه كان مع بغا بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فأمر له بثلاثين ألف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها؛ فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم. فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلًا له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف؛ فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفًا وخمسين رجلًا، وأسر نحوًا من أربعين، ثم سار إلى حظيان ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة؛ وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه؛ حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين؛ أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحًا، فسار بغا إليهم من مرأة. وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة وأرسل إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود - وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة - فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم. ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه؛ وهم يومئذ نحو ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة؛ فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحوًا من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلًا، وعقروا من إبل عسكره نحوًا من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال. قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعة أمير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد بن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمة الرحم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول. فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه؛ فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا - وكانوا قد جعلوا رجّالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم - حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا، وأيقنّا بالهلكة. قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلًا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوًا من مائتي فارس إليهما. قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجّهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجّهت إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه فنفخوا في صفّاراتهم؛ فلما سمعوا نفخ الصفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر والله العبد، وولّوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجّالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم. قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجّالتهم كثير أحد؛ حتى قتلوا عن آخرهم؛ وأما الفرسان فطاروا هرّابًا على ظهور الخيل. وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار؛ وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنّهب وعقر الإبل والدوابّ حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع من كان تفرّق عنه، فكرّوا على بني نمير، فهومهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام. فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بي نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان؛ فأعطاهم الأمان؛ فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه. وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له هوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حص باهلة. قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسرة وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف - وهم بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل - وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب - فقال عمارة ابن عقيل لبغا: تركت الأعقفين وبطن قو ** وملأت السجون من القماش فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان من بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحدًا بعد واحد؛ فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر؛ فزعم أحمد أمه حضر ضربهم ولم يطق منهم ناطق يتوجع من الضرب؛ وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفًا، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف وقال لبغا: هذا أخبث ما كان - أصلحك الله - حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة أو خمسمائة، فلما توجع وما استغاث وذكر أن فارسًا من بني نمير لقى بغا في وقعتهم التي ذكرت أمرها يدعى المجنون، فطعن بعا ورمى المجنون ورجل من الأتراك. فأفلت، وعاش أيامًا ثلاثة ثم مات من رميته. قال: ثم قدم عليه واجن الأشروسي الصغدي في سبعمائة رجل مددًا له من الأشروسية الإشتيخنية فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم؛ فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه؛ فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سرايًا في محاربة من امتنع ممن قبل الأمان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم كلهم يطلب الأمان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم؛ ولم يزل مقيمًا إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائة رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي العقدة من سنة اثنتين ومائتين وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به؛ فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعًا في المحرم إلى سامرا سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب. وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها ألفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ. وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في أربعة منازل إلى الربذة، فبلغي عدة دنانير. ومات خلق كثير من العطش. وفيها ولى محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس. وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر. وفيها اشتد البرد في نيسان حتى تجمد الماء لخمس خلون منه. ذكر خبر موت الواثق وفيها مات الواثق. ذكر خبر عن العلة التي كانت بها وفاته ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفي منها كانت الاستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمى عليه، فأخرج منه، وصير في محفة؛ وحضره الفضل بن إسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم؛ ثم حضر ابن الزيات وابن أبي داود، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات. وقد قيل: إن أحمد بن أبي داود حضره وقد أغمى عليه، فقضى وهو عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه. وكانت وفاته لستٍّ بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهاروني. وكان الذي صلّى عليه وأدخله قبره وتولّى أمره أحمد بن أبي داود؛ وكان الواثق أمر أحمد بن أبي داود أن يصلّى بالناس يوم الأضحى في المصلّى، فصلى بهم العيد؛ لأن الواثق كان شديد العلّة فلم يقدر على الحضور إلى المصلّى، ومات من علّته تلك. ذكر الخبر عن صفة الواثق وسنه وقدر مدة خلافته ذكر من رآه وشاهده أنه كان أبيض مشربًا حمرة، جميلًا ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى؛ وفيها نكتة بياض. وتوفي - فيما زعم بعضهم - وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة؛ فقال الذين زعموا أنه كان ابن ست وثلاثين: كان مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام. وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة. وكان ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد روميّة؛ يقال لها قراطيس. واسمه هاروة وكنيته أبو جعفر. وذكر أنه لما اعتلّ علته التي مات فيها وسقى بطنه أمر بإحضار المنجمّين، فأحضروا؛ وكان ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشمي وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربّلي وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علّته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهرًا طويلًا، وقدّ روا له خمسين سنة مستقبلة؛ فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات. ذكر بعض أخباره ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام، وقد قعد مجلسًا كان أوّل مجلس قعده؛ فكان أوّل ما تغنّى به من الغناء في ذلك المجلس؛ أن تغنّت جارية إبراهيم بن المهدي: ما درى الحاملون يوم استقلوا ** نعشه للثواء أم للفناء فليقل فيك باكياتك ما شأ ** ن صباحًا ووقت كلّ مساء قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنّا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنّى: ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعًا أيها الرجل! قال: فازداد والله في البكاء؛ وقال: ما سمعت كاليوم قطّ تعزية بأب ونعىّ نفس؛ ثم ارفضّ ذلك المجلس. وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع أن علي بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولى الخلافة: قد فاز ذو الدنيا وذو الدين ** بدولة الواثق هارون أفاض من عدلٍ ومن نائلٍ ** ما أحسن الدنيا مع الدين قد عمّ بالإحسان في فضله ** فالناس في خفض وفي لين ما أكثر الداعي له بالبقا ** وأكثر التالي بآمين وقال علي بن الجهم أيضًا فيه: وثقت بالملك الوا ** ثق بالله النفوس ملكٌ يشقى به الما ** ل ولا يشقى الجليس أنس السيف به واست ** وحش العلق النفيس أسدٌ تضحك عن ** شدّاته الحرب العبوس يا بني العباس يأبى اللّ ** ه إلا أن تسوسوا فغنّت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، وغنّت في شعر محمد بن كناسة: في انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ** جالست أهل الوفاء والكرم أرسلت نفسي على سجيّتها ** وقلت ما شئت غير محتشم فغنّته الواثق؛ فاستحسنه؛ فبعث إلى ابن الزيات: ويحك من صالح ابن عبد الوهاب هذا! فابعث فأشخصه؛ وليحمل جاريته؛ فغدا بها صالح إلى الواثق، فأدخلت عليه، فلما تغنّت ارتضاها، فبعث إليه، فقال: قل، فقال: مائة ألف دينار يا أمير المؤمنين وولاية مصر، فردّها، ثم قال أحمد بن عبد الوهاب أخو صالح في الواثق: أبت دار الأحبّة أن تبينا ** أجدّك ما رأيت لها معينا تقطّع حسرةً من حبّ ليلى ** نفوسٌ ما أثبن ولا جزينا فصنعت فيه قلم جارية صالح، فغنّاه زرزر الكبير للواثق، فقال: لمن ذا؟ فقال: لقلم، فبعث إلى ابن الزيات، فأشخص صالحًا ومعه قلم؛ فلمّا دخلت عليه، قال: هذا لك؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: بارك الله عليك! وبعث إلى صالح: اسم وقل قولًا يتهيأ أن تعطاه؛ فبعث إليه: قد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فبارك الله لأمير المؤمنين فيها. قال: قد قبلتها، يا محمد، عوّضه خمسة آلاف دينار، وسمّاها " اغتباط " فمطله ابن الزيات، فأعادت الصوت وهو: أبت دار الأحبة أن تبينا ** أجدّك هل رأيت لها معينا فقال لها: بارك الله عليك وعلى من ربّاك؛ فقالت: يا سيّدي وما ينتفع من رباني، وقد أمرت له بشيء لم يصل إليه! فقال الواثق: يا سمّانة، الدواة؛ فكتب إلى ابن الزيات: ادفع إلى صالح بن عبد الوهاب ما عوّضناه من ثمن اغتباط خمسة آلاف دينار، وأضعفها. قال صالح: فصرت إلى ابن الزيات فقرّبني، وقال: هذه الخمسة الأولى؛ خذها، والخمسة آلاف الأخرى أدفعها إليك بعد جمعة؛ فإ سئلت، فقل: إني قبضت المال. قال: فكرهت أن أسأل فأقر بالقبض؛ فاختفيت في منزلي حتى دفع إلي المال، فقال لي سمانة: قبضت المال؟ قلت: نعم، وترك عمل السلطان، وتجربها، حتى توفي. خلافة جعفر المتوكل على الله وفي هذه السة بويع لحعفر المتوكل على الله بالخلافة؛ وهو جعفر بن محمد بن هارون بن عبد الله بن محمد ذي الثفنات بن علي السجاد ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. ذكر الخبر عن سبب خلافته ووقتها حدثني غير واحد؛ أن الواثق لما توفي حضر الدار أحمد بن أبي داود وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد بن خالد أبو الوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق؛ وهو غلام أمرد، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هو قصير، فقال لهم وصيف: أما تتقون الله! تولون مثل هذا الخلافة وهو لا يجوز معه الصلاة! قال: فتناظروا فيمن يولونها، فذكروا عدة، فذكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه فمررت بجعفر المتوكل؛ فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم؛ ثم دعوا به، فأخبره بغا الشرابي الخبر، وجاء به، فقال: أخاف أن يكون الواثق لم يمت، قال: فمر به، فنظر إليه مسجى، فجاء فجلس، فألبسه أحمد بن أبي داود الطويلة وعممه وقبله بين عينيه، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمني ورحمة الله وبركاته! ثم غسل الواثق وصلى عليه ودفن، ثم صاروا من فورهم إلى دار العامة؛ ولم يكن لقب المتوكل. وذكر أنه كان يوم بويع له ابن ست وعشرين سنة؛ ووضع العطاء للجند لثمانية أشهر؛ وكان الذي كتب البيعة له محمد بن عبد الملك الزيات؛ وهو إذ ذاك على ديوان الرسائل؛ واجتمعوا بعد ذلك على اختيار لقب له، فقال ابن الزيات: نسميه المنتصر بالله، وخاض الناس فيها حتى لم يشكوا فيها، فلما كان غداة يوم بكر أحمد بن أبي داود إلى المتوكل، فقال: قد رويت في لقب أرجوا أن يكون موافقًا حسنًا إن شاء الله، وهو المتوكل على الله؛ فأمر بإمضائه، وأحضر محمد بن عبد الملك، فأمر بالكتاب بذلك إلى الناس، ففذت إليهم الكتب. نسخة ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أمر - أبقاك الله - أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، أن يكون الرسم الذي يجري به ذكره على أعواد منابره، وفي كتبه إلى قضائه وكتابه وعماله وأصحاب دواوينه وغيرهم من سائر من تجري المكاتبة بينه وبينه: " من عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين "؛ فرأيك في العمل بذلك وإعلامي بوصول كتابي إليك موفقًا إن شاء الله. وذكر أنه لما أمر للأتراك برزق أربعة أشهر وللجند والشاكرية ومن يجري مجراهم من الهاشمين برزق ثمانية أشهر، أمر للمغاربة برزق ثلاثة أشهر، فأبوا أن يقبضوا، فأرسل إليهم: من كان منكم مملوكًا؛ فليمض إلى أحمد بن أبي داود حتى يبيعه؛ ومن كان حرًا صيرناه أسوة الجند؛ فرضوا بذلك؛ وتكلم وصيف فيهم حتى رضى عنهم؛ فأعطوا ثلاثة، ثم أجروا بعد ذلك مجرى الأتراك. وبويع للتوكل ساعة مات الواثق بيعة الخاصة وبايعته العامة حين زالت الشمس من ذلك اليوم. وذكر عن سعيد الصغير أن المتوكل قبل أن يستخلف ذكر له ولجماعة معه أنه رأى في المنام أن سكرًا سليمانًا يسقط عليه من السماء، مكتوبًا عليه " جعفر المتوكل على الله " فعبرها علينا، فقلنا: هي والله أيها الأمير أعزك الله الخلافة قال: وبلغ الواثق ذلك فحبسه، وحبس سعيدًا معه، وضيق على جعفر بسبب ذلك. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر حبس محمد بن عبد الملك الزيات ووفاته فمن ذلك ما كان من غضب المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات وحبسه إياه. ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل إليه الأمر فيه أما السبب في غضبه عليه؛ فإنه كان - فيما ذكر - أنّ الواثق كان استوزر محمد بن عبد الملك الزيات وفوّض إليه الأمور؛ وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور، فوكّل عليه عمر بن فرج الرخّجّي ومحمد بن علاء الخادم؛ فكاا يحفظانه ويكتبان بأخباره في كلّ! وقت؛ فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم عه أخاه الواثق ليرضّى عنه؛ فلمّا دخل عليه مكث واقفًا بين يديه مليًّا لا يكلمه، ثم أشار إليه أن يقعد فقعد؛ فلما فرغ من ظره في الكتب، التفت إليه كالمتهدّدله، فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل يا أمير المؤمنين الرضّا عني، فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا، يغضب أخاه، ويسألني أن استرضيه له! اذهب فإنك إغذا صلحت رضي عنك؛ فقالم جعفر كيئبًا حزينًا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به؛ فخرج من عنده؛ فأتى عمر بن فرج ليسألخه أن يختم له صكّة ليقبض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة؛ وأخذ الصكّ، فرمى به إلى صح المسجد. وكان عمر يجلس في مسجد؛ وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضرًا، فقالم لينصرف، فقالم معه جعفر، فقال: يا أبا الوزير؛ أرأيت ما صنع بي عمر ابن فرج؟ قال: جعلت فداك! أنا زمامٌ عليه؛ وليس يختم صكّي بأرزاقي إلا بالطلب والترنّق به؛ فابعث إلي بوكيلك؛ فبعث جعفر بوكيله؛ فدفع إليه عشرين ألفًا، وقال: أنفق هذا حتى يهيّىء الله أمرك؛ فأخذها ثم أعاد إلى أبي الوزير رسوله بعد شهر؛ يسأله إعانته، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم؛ ثم صار جعفر من فوره حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي داود، فدخل عليه، فقالم له أحمد، واستقبله على باب البيت، وقبّله ولتزمه، وقال: ما جاء بك، جعلت فداك! قال: قد جئت لتسترضي لي أمير المؤمنين، قال: أفعل ونعمة عين وكرامة، فكلّم أحمد بن أبي داود الواثق فيه، فوعده ولم يرض عنه؛ فلما كان يوم الحلبة كلّم أحمد بن أبي داود الواثق، وقال: معروف المعتصم عندي معروف، وجعفر ابنه؛ فقد كلمتك فيه، ووعدت الرضا؛ فبحقّ يا أمير المؤمنين إلّا رضيت عنه! فرضى عنه من ساعته وكساه، وانصرف الواثق وقد قلّد أحمد بن أبي داود جعفرًا بكلامه حتى رضى عنه أخوه شكرًا، فأحظاه ذلك عنده حين ملك. وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين، أتاني جفعفر بن المعتصم يسألي أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عه في زي المخنثين له شعر قفًا. فكتب إليه الواثق: ابعث إليه فأحضره، ومر من يجزّ شعر قفاه، ثم مر من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله. فذكر عن المتوكل أنه قال: لما أتاني رسوله، لبست سوادًا لي جديدًا، وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضا عنّي، فقال: يا غلام، ادع لي حجّامًا، فدعى به، فقال: خذ شعره واجمعه، فأخذه على السواد الجديد. ولم يأته بمنديل؛ فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه. قال المتوكل: فما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حين أخذني على السواد الجديد؛ وقد جئته فيه طامعًا في الرضا، فأخذ شعري عليه. ولما توفي الواثق أشار محمد بن عبد الملك بابن الواثق، وتكلم في ذلكوجعفر في حجرة غير الحجرة التي يتشاورن فيها، فيمن يعقدون حتى بعث إليه، فعقد له هناك؛ فكان سبب هلاك ابن الزيات. وكان بغا الشرابي الرسول إليه يدعوه، فسلم عليه بالخلافة في الطريق، فعقدوا له وبايعوا؛ فأمهل حتى إذا كان يوم الأرعاء لسبع خلون من صفر؛ وقد عزم المتوكل على مكروه أن يناله به، أمر إيتاخ بأخذه وعذابه؛ فبعث إليه إيتاخ، فظن أنه دعى به، فركب بعد غدائه مبادرًا يظن أن الخليفة دعا به، فلما حاذى منزل قيل له: اعدل إلى منزل أبي منصور، فعدل وأوجس في نفسه خيفةً؛ فلما جاء إلى الموضع الذي كان ينزل فيه إيتاخ عدل به يمنة، فأحس بالشر، ثم أدخل حجرة، وأخذ سيفه ومنطقته وقلنسوته ودراعته؛ فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم؛ انصرفوا؛ فانصرفوا لا يشكون أنه مقيم عند إيتاخ ليشرب النبيذ. قال: وقد كان إيتاخ أعد له رجلي من وجوه أصحابه، يقال لهما يزيد ابن عبد الملك الحلواني وهرثمة شارباميان؛ فلما حصل محمد بن عبد الملك خرجا يركضان في جندهما وشاكريتهما، حتى أتيا دار محمد بن عبد الملك، فقال لهم غلمان محمد: أين تريدون؟ قد ركب أبو جعفر؛ فهجما على داره، وأخذا جميع ما فيها. فذكر عن ابن الحلواني أنه قال: أتيت البيت الذي كان فيه محمد بن عبد الملك يجلس فيه، فرأيته رث الهيئة قليل المتاع، ورأيت فيه طنافس أربعة وقناني رطليات، فيها شراب؛ ورأيت بيتًا ينام فيه جواريه؛ فرأيت فيه بوريًا ومخاد منضدة في جانب البيت؛ على أن جواريه كن يمن فيه بلا فرش. وذكر أن المتوكل وجه في هذا اليوم من قبض ما في منزله من متاع ودواب وجوار وغلمان، فصير ذلك كله في الهاروني، ووجه راشدًا المغربي إلى بغداد في قبض ما هنالك من أمواله وخدمه وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأما ما كان بسامرا فحمل إلى خزائن مسرور سمانة، بعد أن اشترى للخليفة؛ وقيل لمحمد بن عبد الملك: وكل ببيع متاعك. وأتوه بالعباس بن أحمد بن رشيد كاتب عجيف، فوكله بالبيع عليه؛ فلم يزل أيامًا في حبسه مطلقًا، ثم أمر بتقيده فقيد، وامتنع من الطعام؛ وكان لا يذوق شيئًا، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أيامًا ثم سوهر، ومنع من النوم، يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يومًا وليلة، فنام وانتبه؛ واشتهى فاكهة وعنبًا؛ فأتى به؛ فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أمر بتنور من خشب فيه مسامير حديد " قيام " فذكر عن ابن أبي داود وأبي الوزير أنهما قالا: هو أول من أمر بعمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلى به فعذب به أيامًا فذكر عن الدنداي الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه؛ فيمد يديه إلى السماء جميعًا حتى يدق موضع كتفيه؛ ثم يدخل التنور فيجلس، والتور فيه مسامير حديد في وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب؛ إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة، ثم يجئ الموكل به؛ فإذا هو سمع صوت الباب يفنح قام قائمًا كما كان؛ ثم شدوا عليه. قال المعذب له: خاتلته يومًا، وأريته أني أقفلت الباب ولم أقفله؛ إنما أغلقته بالقفل، ثم مكثت قليلًا، ثم دفعت الباب غفلة؛ فإذا هو عاقد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل! فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه؛ فما مكث بعد ذلك إلا أيامًا حتى مات. واختلف في الذي قتل به، فقيل: بطيح، فضرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قلت فضرب على استه مثلها؛ فمات وهو يضرب؛ وهم لا يعلمون، فأصبح ميتًا قد التوت عنقه، ونتف لحيته. وقيل: مات بغير ضرب. وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه إلا رغيفًا واحدًا؛ وكان يأكل العنبة والعنبتين. قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد بن عبد الملك؛ لم يقعك النعمة والدواب الفرة والدار الظيفة والكسوة الفاخرة؛ وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة؛ ذق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على فسه؛ فلما كان قبل موته بيوم؛ ذهب عنه عتاب نفسه؛ فكا لا يزيد على التشهد وذكر الله؛ فلما مات أحضر ابناه سليمان وعبيد الله - كانا مجوسين - وقد طرح على باب من خشب في قميصه الذي حبس فيه؛ وقد اتسخ فقالا: الحمد لله الذي أراح من هذا الفاسق؛ فدفعت جثته إليهما، فعسلاه على الباب الخشب، ودفناه وحفرا له، فلم يعمقا؛ فذكر أن الكلاب نبشته؛ وأكلت لحمه. وكان إبراهيم بن العباس على الأهواز، وكان محمد بن عبد الملك له صديقًا، فوجه إليه محمد أحمد بن يوسف أبا الجهم، فأقامهللناس فصالحه عن نفسه بألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم، فقال إبراهيم: وكنت أخي بإخاء الزمان ** فلما نبا عدت حربًا عوانا وكنت أذم إليك الزمان ** فأصبحت منك أذم الزمانا وكنت أعدك للنائبات ** فها أنا أطلب منك الأمانا وقال: أصبحت من رأى أبى جعفر ** في هيئة تذر بالصليم من غير ما ذنب ولكنها ** عداوة الزندق للمسلم وأحدر بعد ما قبض عليه مع راشد المغربي إلى بغداد، لأخذ ماله بها، فوردها، فأخذ روحًا غلامه وكان قهرمانه في يده أمواله يتجر بها، وأخذ عدة من أهل بيته، وأخذ معهم حمل بغل، ووجدت له بيوت فيها أنواع التجارة من الحنطة والشعير والدقيق والحبوب والزيت والزبيب والتين وبيت مملوء ثومًا، فكان جميع ما قبض له مع قيمته تسعين ألف دينار، وكان حبس المتوكل إياه يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر ووفاته يوم الخميس لإحدى عشرة بقيت من شهر ربيع الأول. ذكر غضب المتوكل على عمر بن فرج وفيها غضب المتوكل على عمر بن فرج؛ وذلك في شهر رمضان، فدفع إلى أسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس عنده، وكتب في قبض ضياعه وأمواله، وصار نجاح بن سلمة إلى منزله؛ فلم يجد فيه إلا خمسة عشر ألف درهم، وحضر مسرور سمانة، فقبض جواريه، وقيد عمر ثلاثين رطلًا، وأحضر مولاه نصر من بغداد، فحمل ثلاثين ألف دينار، وحمل نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيرًا فرشًا، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار، وحمل من متاعه وفرشه على خمسين جملًا، كرت مرارًا، وألبس فرجية صوف وقيد فمكث بذلك سبعًا، ثم أطلق عنه وقبض قصره، وأخذ عياله، ففتشوا وكن مائة جارية؛ ثم صولح على عشرة آلاف درهم، على أن يرد عليه ما حيز عنه ضياع الأهواز فقط، ونزعت عنه الجبة الصوف والقيد؛ وذلك في شوال. وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يحرضه على عمر بن فرج: أبلغ نجاحًا فتى الكتاب مألكةً ** تمضى بها الريح إصدارًا وإيراد لا يخرج المال عفوًا من يدي عمر ** أو يغمد السيف في فوديه إغمادا الرخجيون لا يوفون ما وعدوا ** والرخجيات لا يخلفن معادا وقال أيضًا يهجوه: جمعت أمرين ضاع الحزم بيهما ** تيه الملوك وأفعال المماليك أردت شكرًا بلا بر ومرزئةٍ ** لقد سلكت سبيلًا غير مسلوك ظننت عرضك لم يقرع بقارعة ** وما أراك على حالٍ بمتروك وفي هذه السنة أمر المتوكل بإبراهيم بن الجنيد النصراني، أخى أيوب كاتب سماة فضرب له بالأعمدة حتى أقر بسبعين ألف دينار، فوجه معه مباركًا المغربي إلى بغداد حتى استخرجها من منزله، وجئ به فحبس. ذكر غضب المتوكل على أبي الوزير وغيره وفيها غضب المتوكل على أبي الوزير في ذي الحجة، وأمر بمحاسبته، فحمل نحوًا من ستين ألف دينار، وحمل بدور دراهم وحليًا، وأخذ له من متاع اثنين وستين سفطًا واثنين وثلاثين غلامًا وفرشًا كثيرًا، وحبس بخيانته محمد بن عبد الملك أخا موسى بن عبد الملك والهيثم بن خالد النصراني وابن أخيه سعدون بن علي، وصولح سعدون على أربعين ألف دينار؛ وأخذت ضياعهم ابنا أخيه عبد الله وأحمد على نيف وثلاثين ألف دينار؛ وأخذت ضياعهم بذلك. وفي هذه السنة استكتب المتوكل محمد بن الفضل الجرجرائي. وفي هذه السنة عزل المتوكل يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضا عن ديوان الخراج الفضل بن مروان، وولاه يحيى بن خاقان الخراساني ولى الأزد وولى إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول في هذا اليوم ديوان زمام النفقات وعزل عنه أبا الوزير. وفيها ولى المتوكل ابنه محمدًا المنتصر الحرمين واليمن والطائف، وعقد له يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. وفيها فلج أحمد بن أبي داود لست خلون من جمادى الآخرى وفيها قدم يحيى بن هرثمة مكة وهو الي طريق مكة بعلي بن محمد بن علي الرضي بن موسى بن جعفر من المدينة. وفيها وثب ميخائيل بن توفيل على أمة تذورة فشمسها وأدخلها الدير وقتل اللغثيط لأنه اتهمها به؛ وكان ملكها ست سنين. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن هرب محمد بن البعيث فمن ذلك ما كان من هرب محمد بن البعيث بن حلبس؛ جئ به أسيرًا من قبل أذربيجان فحبس. ذكر الخبر عن سبب هربه وما كان آل إليه أمره ذكر أن السبب في ذلك كان أن المتوكل كان اعتل في هذه السنة؛ وكان مع ابن البعيث رجلٌ يخدمه يسمى خليفة، فأخبره بأن المتوكل قد توفي، وأعد له دواب، فهرب هو وخليفة الذي أخبره الخبر إلى موضعه من أذربيجان، وموضعه منها مرند - وقيل: كانت له قلعتان تدعى إحداهما شاهي والأخرى يكدر - ويكدر خارج البحيرة، وشاهي في وسط البحيرة، والبحيرة قدر خمسين فرسخًا من حد أرمية، إلى رستاق داخرقان بلاد محمد بن الرواد، وشاهي قلعة ابن البعيث حصينة يحيط بها ماء قاتم ثم يركب الناس من أطراف المراغة إلى أرمية وهي بحيرة لا سمك فيها ولا خير. وذكر أن ابن البعيث كان في حبس إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فتكلم فيه بغا الشرابي، وأخذ منه الكفلاء نحوًا من ثلاثين كفيلًا، منهم محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني؛ فكان يتردد بسامرا؛ فهرب إلى مرند، فجمع بمرند الطعام، وفيها عيون ماء؛ فرم ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كل ناحية؛ من ربيعة وغيرهم؛ فصار في نحو من أفين ومائتي رجل. وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة، فقصر في طلبه، فولى المتوكل حمدويه بن علي بن الفضل السعدي أذربيجان، ووجهه من سامرا على البريد، فلما صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له، فصار في عشرة آلاف، فزحف إلى ابن البعيث، فألجأه إلى مدينة مرند - وهي مدينة استدارتها فرسخان وفي داخلها بساتين كثيرة، ومن خارجها كما تدور شجر إلا في موضع أبوابها - وقد جمع فيه ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء، فلما طالت مدته، وجه المتوكل زيرك التركي في مائتي ألف فارس من الأتراك؛ فلم يصنع شيئًا فوجه إليه المتوكل عمرو بن سيسل بن كال في تسعمائة من الشاكرية، فلم يغن شيئًا، فوجه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركي وشاكري ومغربي، وكان حمدويه بن علي وعمر بن سيسل وزيرك زحفوا إلى مدينة مرند، وقطعوا ما حولها من الشجر، فقطعوا نحوًا من مائة ألف شجرة وغير ذلك من شجر الغياض، ونصبوا عليها عشرين منجنيقًا، وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنون فيه؛ ونصب عليهم ابن البعيث من المجانيق مثل ذلك؛ وكان معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنو من سور المدينة، فقتل من أولياء السلطان في حربه في ثمانية أشهر نحو من مائة رجل، وجرح نحو من أربعمائة، وقتل وجرح من أصحابه مثل ذلك. وكان حمدويه وعمرو وزيرك يغادونه القتال ويراوحونه؛ وكان السور من قبل المدينة ذليلًا، ومن القرار نحوًا من عشرين ذراعًا، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلون بالحبال معهم الرماح فيقاتلون؛ فإذا حمل عليهم من أصحاب السلطان لجئوا إلى الحائط؛ وكانوا ربما فتحوا بابًا يقال له باب الماء؛ فيخرج منه العدة يقاتلون ثم يرجعون. ولما قرب بغا الشرابي من مرند بعث - فيما ذكر - عيسى بن الشيخ بن السليل الشيباني، ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث، ولابن البعيث أن ينزلوا وينزل على حكم أمير المؤمنين؛ وإلا قاتلهم، فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدًا، ومن نزل فله الأمان؛ وكان عامة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ؛ فنزل منهم قوم كثير بالحبال، ونزل ختن ابن البعيث على أخته أبو الأغر. وذكر عن أبي الأغر هذا أنه قال: ثم فتحوا باب المدينة، فدخل أصحاب حمدويه وزيرك، وخرج ابن البعيث من منزله هاربًا يريد أن يخرج من وجه آخر؛ فلحقه قوم من الجند، معهم منصور قهرمانه؛ وهو راكب دابةً، يريد أن يصير إلى نهر عليه رحًا ليستخفي في الرحا، وفي عنقه السيف، فأخذوه أسيرًا وانتهب الجند منزله ومنازل أصحابه وبعض منازل أهل المدينة، ثم نودي بعدما انتهب الناس: برئت الذمة ممن انتهب وأخذوا له أختين وثلاث بنات وخالته والبواقي سراري؛ فحصل في يد السلطان من حرمه ثلاث عشرة امرأة، وأخذ من وجوه أصحابه المذكورين نحوٌ من مائتي رجل، وهرب الباقون؛ فوافاهم بغا الشرابي من غد، فنادى مناديه بالمنع من النهب، فكتب بغا الشرابي بالفتح لنفسه. وخرج المتوكل فيها إلى المدائن في جمادى الأولى. ذكر الخبر عن حج إيتاخ وسببه وحجّ في هذه السنة إيتاخ، وكان والي مكة والمدينة والموسم، ودعي له على المنابر. ذكر الخبر عن سبب حجه في هذه السنة ذكر أن إيتاخ كان غلامًا خزريًا لسلام الأبرش طباخًا، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، وكان لإيتاخ رجلة وبأس، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق؛ حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالًا كثيرة، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم؛ وكان من قبله رجل، ومن قبل إسحاق رجل؛ وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله فعند إيتاخ يقتل، وبيده يحبس؛ منهم محمد بن عبد الملك الزيات، وأولاد المأمون من سندس، وصالح بن عجيف وغيرهم؛ فلما ولى المتوكل كان إيتاخ في مرتبته؛ إليه الجيش والمغاربة والأتراك والموالي والبريد والحجابة ودار الخلافة؛ فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزهًا إلى ناحية القاطول، فشرب ليلة، فعربد على إيتاخ، فهم إيتاخ بقتله؛ فلما أصبح المتوكل قيل له، فاعتذر إليه والتزمه، وقال له: أنت أبي وربيتني، فلما صار المتوكل إلى سامرا دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحج، ففعل وأذن له، وصيّره أمير كل بلدة يدخلها، وخلع عليه، وركب جميع القواد معه، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير؛ فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف، وذلك يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة. وقد قيل إن هذه القصة من أمر إيتاخ كانت في سة ثلاث وثلاثين ومائتين وإن المتوكل إنما صيّر إلى وصيف الحجابة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى. ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن مقتل إيتاخ فمن ذلك مقتل إيتاخ الخزري. ذكر الخبر عن صفة مقتله ذكر عن إيتاخ أنه لما اصرف من مكة راجعًا إلى العراق، وجه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة أو ببعض طريقه؛ وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه. فذكر عن إبراهيم بن المدبر، أنه قال: خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار، ثم يخرج إلى سامرا، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم: إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، قد أمر أن تدخل بغداد، وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم، فتأمر لهم بجوائز. قال: فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية، وخرج في خاصته، وطرح له بالياسرية صفة، فجلس عليها حتى قالوا: قد قرب منك. فركب فاستقبله؛ فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل، فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل. قال: وكان إيتاخ في ثلثمائة من أصحابه وغلمانه، عليه قباء أبيض، متقلدًا سيفًا بحمائل، فسارا جميعًا؛ حتى إذا صارا عند الجسر تقدمه إسحاق عند الجسر، وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم، وقال لإيتاخ: تدخل أصلح الله الأمير! وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه قدموه؛ حتى بقي في خاصة غلمانه، ودخل بين يديه قوم، وقد فرشت له دار خزيمة، وتأخر إسحاق، وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أو أربعة، وأخذت عليه الأبواب، وأمر بحراسته من ناحية الشط، وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم، فحين دخل أغلق الباب خلفه، فنظر فإذا ليس معه إلا ثلاثة غلمان، فقال: قد فعلوها! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه؛ ولو دخل إلى سامرا، فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك. قال: فأتي بطعام قرب الليل، فأكل فمكث يومين أو ثلاثة، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعد لإيتاخ أخرى، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة، وأمر بأخذ سيفه، فحدروه إلى الحراقة، وصيّر معه قوم في السلاح وصاعد إسحاق، حتى صار إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق، فأدخل ناحية منها، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدّم بابنيه منصور ومظفر، وبكاتبيه سلمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد. وكان سليمان على أعمال السلطان، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة، فحبسوا ببغداد؛ فأما سليمان وقدامة فضربا، فأسلم قدامة وحبس منصور ومظفر. وذكر عن ترك مولى إسحاق أنه قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس، فقال لي: يا ترك، قلت: ما تريد يا منصور؟ قال: أقرئ الأمير السلام، وقل له: قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك؛ فكنت أدفع عنك ما أمكنني؛ فلينفعني ذلك عندك؛ أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء؛ فما أبالي ما أكلت وما شربت، وأما هذان الغلامان؛ فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس، فصيّر لهما مرقة ولحمًا وشيئًا يأكلان منه. قال: ترك فوقفت على باب مجلس إسحاق، قال لي: مالك يا ترك؟ أتريد أن تتكلم بشيء؟ قلت: نعم، قال لي إيتاخ كذا، كذا، قال: وكانت وظيفة إيتاخ رغيفًا وكوزًا من ماء، ويأمر لابنيه بخوان فيه سبعة أرغفة وخمس غرف؛ فلم يزل ذلك قائمًا حياة إسحاق، ثم لا أدري ما صنع بهما؛ فأما إيتاخ فقيد وصيّر في عنقه ثمانون رطلًا، وقيدّ ثقيل، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد وصاحب بريد بغداد والقضاة، وأراهم إياه لا ضرب به ولا أثر. وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش، وأنه أطعم فاستسقى فمنع الماء، حتى مات عطشًا، وبقي ابناه في الحبس حياة المتوكل، فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما؛ فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات؛ وأما منصور فعاش بعده. ذكر خبر أسر ابن البعيث وموته وفي هذه السنة قدم بغا الشرابي بابن البعيث في شوال وبخليفته أبي الأغر وبأخوي ابن البعيث صقر وخالد - وكانا نزلا بأمان - وبابن لابن البعيث، يقال له العلاء؛ خرج بأمان، وقدم من الأسرى بنحو من مائة وثمانين رجلًا، ومات باقيهم قبل أن يصلوا؛ فلما قربوا من سامرا حملوا على الجمال يستشرفهم الناس، فأمر المتوكل بحبسه وحبسهم، وأثقله حديدًا. فذكر عن علي بن الجهم، أنه قال: أتى المتوكل بمحمد بن البعيث، فأمر بضرب عنقه، فطرح على نطع، وجاء السيافون فلوحوا له، فقال المتوكل، وغلظ عليه: ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ قال: الشقوة، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه؛ وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك؛ وهو العفو؛ ثم اندفع بلا فضل، فقال: أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ** إمام الهدى والصفح بالناس أجمل هل أنا إلا جبلةٌ من خطيةٍ ** وعفوك من نور النبوة يجبل فإنك خير السابقين إلا العلا ** ولا شك أن خير الفعالين تفعل قال علي: ثم التفت إلى المتوكل، فقال: إن معه لأدبًا، وبادرت فقلت: بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمن عليك؛ فقال: ارجع إلى منزلك. وحدثني** أنه أنشدني بالمراغة جماعة من أشياخها أشعارًا لابن البعيث بالفارسية، ويذكرون أدبه وشجاعته، وله أخبارًا وأحاديث. وحدثني بعض من ذكر أنه شهد المتوكل حين أتى بابن البعيث، وكلمه ابن البعيث بما كلمه به، فتكلم فيه المعتز؛ وهو جالس مع أبيه المتوكل، فاستوهبه فوهب له، وعفي عنه. وكان ابن البعيث حين هرب قال: كم قد قضيت أمورًا كان أهملها ** غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم لا تعذليني فيما ليس ينفعني ** إليك عني جرى المقدار بالقلم سأتلف المال في عسرٍ وفي يسرٍ ** إن الجواد الذي يعطي على العدم وكان ابن البعيث حين هرب خلّف في منزله ثلاثة بنين له، يقال لهم: البعيث وجعفر وحلبس، وجواري، فحبسوا ببغداد في قصر الذهب، فتكلم بغا الشرابي بعد موت ابن البعيث - ومات بعد دخوله سامرا بشهر - في أبي الأغر ختنه، فأطلق وأطلقت خالةٌ لابن البعيث، فخرجت من السجن، فماتت فرحًا من يومها، وبقي الباقون في الحبس. وذكر أن ابن البعيث صيّر في عنقه مائة رطل، فلم يزل مكبوبًا على وجهه حتى مات. ولما أخذ ابن البعيث أخرج من الحبس من كان محبوسًا بسبب كفالته به، وقد كان بعضهم مات في الحبس، فأخرج بعد باقي عياله وصيّر بنوه: حلبس والبعيث وجعفر في عداد الشاكرية مع عبيد الله بن خاقان، وأجريت عليهم الأنزال. أمر المتوكل مع النصارى وفي هذه السنة أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السروج، وبتصيير زرين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالفٌ لونهما لون الثوب الظاهر الذي عليه؛ وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره؛ وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع، ولونهما عسليًا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها العسلي، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي، وأمر بأخذ مماليكهم بلبس الزنانير وبمنعهم لبس المناطق، وأمر بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وإن كان الموضع واسعًا صيّر مسجدًا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدًا صيّر فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة؛ تفريقًا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبًا، وأن يشمعلوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، لئلا تشبه قبور المسلمين. وكتب إلى عماله في الآفاق: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أما بعد؛ فإن الله تبارك وتعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته على ما يريد؛ اصطفى الإسلام فرضيه لنفسه، وأكرم به ملائكته، وبعث به رسله، وأيد به أولياءه، وكنفه بالبر، وحاطه بالنصر، وحرسه من العاهة، وأظهره على الأديان، مبرءًا من الشبهات، معصومًا من الآفات، محبوًا بمناقب الخير، مخصوصًا من الشرائع بأطهرها وأفضلها، ومن الفرائض بأزكاها وأشرفها، ومن الأحكام بأعدلها وأقنعها، ومن الأعمال بأحسنها وأقصدها؛ وأكرم أهله بما أحل لهم من حلاله، وحرّم عليهم من حرامه؛ وبيّن لهم من شرائعه وأحكامه، وحدّ لهم من حدوده ومناهجه، وأعد لهم من سعة جزائه وثوابه، فقال في كتابه فيما أمر به ونهى عنه، وفيما حض عليه فيه ووعظ: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون "، وقال فيما حرم على أهله مما غمط فيه أهل الأديان من ردىء المطعم والمشرب والمنكح ليزههم عنه وليظهر به دينهم، ليفضلهم عليهم تفضيلًا: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة.. " إلى آخر الآية، ثم ختم ما حرّم عليهم من ذلك في هذه الآية بحراسة دينه؛ ممن عند عنه وبإتمام نعمته على أهله الذين اصطفاهم، فقال عز وجل: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم.. " الآية، وقال عز وجل: " حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم.. " وقال: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان.. " الآية، فحرّم على المسلمين من مآكل أهل الأديان أرجسها وأنجسها، ومن شرابهم أدعاه إلى العداوة والبغضاء، وأصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ومن مناكحهم أعظمها عنده وزرًا، وأولاها عند ذوي الحجمى والألباب تحريمًا، ثم حباهم محاسن الأخلاق وفضائل الكرامات؛ فحعلهم أهل الإيمان والأمانة، والفضل والتراحم واليقين والصدق؛ ولم يجعل في دينهم التقاطع والتدابر، ولا الحمية ولا التكبر، ولا الخيانة ولا الغدر، ولا التباغي ولا التظالم؛ بل أمر بالأولى ونهى عن الأخرى، ووعد وأوعد عليها جنته وناره، وثوابه وعقابه؛ فالمسلمون بما اختصهم الله من كرامته، وجعل لهم من الفضيلة بدينهم الذي اختاره لهم، بائنون على الأديان بشرائعهم الزاكية، وأحكامهم المرضية الطاهرة، وبراهينهم المنيرة، وبتطهير الله دينهم بما أحل وحرّم فيه لهم وعليهم، قضاء من الله عز وجل في إعزاز دينه؛ حتمًا ومشيئةً منه في إظهار حقه ماضية، وإرادةً منه في إتمام نعمته على أهله نافذة " ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة "، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين. وقد رأى أمير المؤمنين - وبالله توفيقه وإرشاده - أن يحمل أهل الذمة جميعًا بحضرته وفي نواحي أعماله؛ أقربها وأبعدها، وأخصهم وأخسهم على تصيير طيالستهم التي يلبسونها؛ من لبسها من تجارهم وكتابهم، وكبيرهم وصغيرهم، على ألوان الثياب العسلية، لا يتجاوز ذلك منهم متجاوز إلى غيره، ومن قصر عن هذه الطبقة من أتباعهم وأرذالهم، ومن يقعد به حاله عن لبس الطيالسة منهم أخذ بتركيب خرقتين صبغهما ذلك الصبغ يكون استدارة كل واحدة منهما شبرًا تامًا في مثله، على موضع أمام ثوبه الذي يلبسه، تلقاء صدره، ومن وراء ظهره، وأن يؤخذ الجميع منهم في قلانسهم بتركيب أزرة عليها تخالف ألوانها ألوان القلانس؛ ترتفع في أماكنها التي يقع بها، لئلا تلصق فتستسر ولا ما يركب منها على حباك فتخفى؛ وكذلك في سروجهم باتخاذ ركب خشب لها، ونصب أكرٍ على قرابيسها؛ تكون ناتئة عنها، وموفية عليها، لا يرخّص لهم في إزالتها عن قرابيسهم، وتأخيرها إلى جوانبها؛ بل يتفقد ذلك منهم؛ ليقع ما وقع من الذي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليه ظاهرًا يتبينه الناظر من غير تأمل، وتأخذه الأعين من غير طلب، وأن تؤخذ عبيدهم وإماؤهم، ومن يلبس المناطق من تلك الطبقة بشد الزنانير والكساتيج مكان المناطق التي كانت في أوساطهم، وأن توعز إلى عمالك فيما أمر به أمير المؤمين في ذلك إيعازًا تحدوهم به إلى استقصاء ما تقدم إليهم فيه، وتحذرهم إدهانًا وميلًا، وتتقدم إليهم في إنزال العقوبة بمن خالف ذلك من جميع أهل الذمة عن سبيل عناد وتهوين إلى غيره؛ ليقتصر الجميع منهم على طبقاتهم وأصنافهم على السبيل التي أمر أمير المؤمنين بحملهم عليها، وأخذهم بها إن شاء الله. فاعلم ذلك من رأى أمير المؤمنين وأمره، وأنفذ إلى عمالك في نواحي عملك ما ورد عليك من كتاب أمير المؤمنين بما تعمل به إن شاء الله؛ وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه أن يصلي على محمد عبده ورسوله ﷺ وملائكته، وأن يحفظه فيما استخلفه عليه من أمر دينه، ويتولى ما ولاه مما لا يبلغ حقه فيه إلا بعونه؛ حفظًا يحمل به ما حمله، وولاية يقضي بها حقه منه ويوجب بها له أكمل ثوابه، وأفضل مزيده؛ إنه كريم رحيم. وكتب إبراهيم بن العباس في شوال سنة خمس وثلاثين ومائتين. فقال علي بن الجهم: العسليات التي فرقت ** بين ذوي الرشدة والغي وما على العاقل إن تكثروا ** فإنه أكثر للفي ظهور محمود بن الفرج النيسابوري وفي هذه السنة ظهر بسامرا رجلٌ يقال له محمود بن الفرج النيسابوري فزعم أنه ذو القرنين، ومعه سبعة وعشرون رجلًا عند خشبة بابك، وخرج من أصحابه بباب العامة رجلان، وببغداد في مسجد مدينتها آخران، وزعما أنه نبي، وأنه ذو القرنين؛ فأتى به وبأصحابه المتوكل، فأمر بضربه بالسياط؛ فضرب ضربًا شديدًا، فمات من بعد من ضربه ذلك، وحبس أصحابه؛ وكانوا قدموا من نيسابور، ومعهم شيء يقرءونه، وكان معهم عيالاتهم، وفيهم شيخ يشهد له بالنبوة، ويزعم أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه بالوحي، فضرب محمود مائة سوط، فلم ينكر نبوته حين ضرب، وضرب الشيخ الذي كان يشهد له أربعين سوطًا، فأنكر نبوته حين ضرب. وحُمل محمود إلى باب العامة، فأكذب نفسه، وقال: الشيخ قد اختدعني، وأمر أصحاب محمود أن يصفعوه فصفعوه؛ كل واحد منهم عشر صفعات، وأخذ له مصحف فيه كلام قد جمعه ذكر أنه قرآنه، وأن جبريل عليه السلام كان يأتيه به، ثم مات يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة في هذه السنة ودفن في الجزيرة. ذكر عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة وفي هذه السنة عقد المتوكل لبنيه الثلاثة: لمحمد وسماه المنتصر، ولأبي عبد الله بن قبيحة - ويختلف في اسمه، فقيل إن اسمه محمد، وقيل: اسمه الزبير ولقبه المعتز - ولإبراهيم وسماه المؤيد بولاية العهد، وذلك - فيما قيل - يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة - وقيل لليلتين بقيتا منه - وعقد لكل واحد منهم لواءين؛ أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل، وضم إلى كل واحد من العمل ما أنا ذاكره. فكان ما ضم إلى ابنه محمد المنتصر من ذلك إفريقية والمغرب كله من عريش مصر إلى حيث بلغ سلطانه من المغرب وجند قنسرين والعواصم والثغور الشأمية والجزرية وديار مضر وديار ربيعة والموصل وهيت وعانات والخابور وقرقيسيا وكور باجرمى وتكريت وطساسيج السواد وكور دجلة والحرمين واليمن وعك وحضرموت واليمامة والبحرين والسند ومكران وقندابيل وفرج بيت الذهب وكور الأهواز والمستغلات بسامر وماه الكوفه وماه البصرة وماسبذان ومهرجان قذق وشهرزور ودراباذ والصامغان وأصبهان وقمّ وقاشان وقزوين وأمور الجبل والضياع المنسوبة إلى الجبال وصدقات العرب بالبصرة. وكان ما ضمّ إلى ابنه المعتز كور خراسان وما يضاف إليها، وطبرستان والري وإرمينية وأذربيجان وكور فارس. ضم إليه في سنة أربعين خزن بيوت الأموال في جميع الآفاق، ودور الضرب، وأمر بضرب اسمه على الدراهم. وكان ما ضم إلى ابنه الؤيد جند دمشق وجند حمص وجند الأردن وجند فلسطين، فقال أبو الغص الأعرابي: إن ولاه المسلمين الجله ** محمد ثم أبو عبد الله ثمت إبراهيم آبى الذله ** بورك في بني خليفة الله وكتب بينهم كتابًا نسخته: هذا كتاب كتبه عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين، وأشهد الله على نفسه بجميع ما فيه ومن حضر من أهل بيته وشيعته وقواده وقضاته وكفاته وفقهائه وغيرهم من المسلمين لمحمد المنتصر بالله، ولأبي عبيد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله؛ بني أميرالمؤمنين؛ في أصالة من رأيه، وعموم من عافية بدنه، واجتماع من فهمه؛ مختارًا لما شهد به، متوخيًا بذلك طاعة ربه، وسلامة رعيته واستقامتها وانقياد طاعتها، واتساع كلمتها؛ وصلاح ذات بينها؛ وذلك في ذي الحجة سنة خمسة وثلاثين ومائتين " أنه جعل "؛ إلى محمد المنتصر بالله بن جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ولاية عهد المسلمين في حياته والخلافة عليهم من بعده؛ وأمره بتقوى الله التي هي عصمة من اعتصم بها ونجاة من لجأ إليها، وعز من اقتصر عليها؛ فإن بطاعة الله تتم النعمة، وتجب من الله الرحمة، والله غفور رحيم. وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين الخلافة من بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين إلى أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، ثم من بعد أبي عبد الله المعتز ابن أمير المؤمنين الخلافة إلى إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين. وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين لمحمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين السمع والطاعة والنصيحة والمشايعة والموالاة لأوليائه والمعاداة لأعدائه، في السر والجهر، والغضب والرضا، والمنع والإعطاء، والتمسك ببيعته، والوفاء بعهده، لا يبغيانه غائلة، ولا يحاولانه مخاتلة، ولا يمالئان عليه عدوًا، ولا يستبدان دونه بأمر يكون فيه نقض لما جعل إليه أمير المؤمنين من ولاية العهد في حياته والخلافة من بعده. وجعل عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله وإبراهيم المؤيد بالله ابني أمير المؤمنين الوفاء بما عقده لهما، وعهد به إليهما من الخلافة بعد محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين، وإبراهيم المؤيد بالله أمير المؤمنين الخليفة من بعد أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، والإتمام على ذلك، وألا يخلعها ولا واحدًا منهما، ولا يعقد دونهما ولا دون واحد منهما بيعة لولد، ولا لأحد من جميع البرية، ولا يؤخر منهما مقدمًا، ولا يقدم منهما مؤخرًا، ولا ينقصهما ولا واحدًا منهما شيئًا من أعمالهما التي ولاهما عبد الله جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين وكل واحد منهما؛ من الصلاة والمعاون والقضاء والمظالم والخراج والضياع والغيمة والصدقات وغير ذلك من حقوق أعمالهما، وما في عمل كل واحد منهما؛ من البريد والطرر وخزن بيوت الأموال والمعاون ودور الضرب وجميع الأعمال التي جعلها أمير المؤمنين، ويجعلها إلى كل واحد منهما، ولا ينقل عن واحد منهما أحدًا من احيته من القواد والجند والشاكرية والموالي والغلمان وغيرهم، ولا يعترض عليه في شئ من ضياعه وإقطاعاته وسائر أمواله وذخائره وجميع ما في يده، وما حواه وملكت يده من تالد وطارف، وقديم ومستأنف؛ وجميع ما يستفيده ويستفاد له بنقص، ولا يحرم ولا يجنف، ولا يعرض لأحد من عماله وكتابه وقضاته وخدمه ووكلائه وأصحابه، وجميع أسبابه بمناظرة ولا محاسبة؛ ولا غير ذلك من الوجوه والأسباب كلها، ولا يفسخ فيما وكده أمير المؤمنين لهما في هذا العقد والعهد، بما يزيل ذلك عن جهته، أو يؤخره عن وقته، أو يكون ناقضًا لشئ منه. وجعل عبد الله جعفر المتوكل على الله أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إن أفضت إليه الخلافة بعد محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين مثل الشرائط التي اشترطها على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين بجميع ما سمى فيه ووصف في هذا الكتاب، وعلى ما بين وفسر، مع الوفاء من أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، بما جعله أمير المؤمنين لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين من الخلافة وتسليم ذلك راضيًا به ممضيًا له؛ مقدمًا ما فيه حق الله عليه وما أمره به أمير المؤمنين، غير ناكث ولا ناكب بذلك، ولا مبدل، فإن الله تعالى جده وعز ذكره يتوعد من خالف أمره، وعند عن سبيله في محكم كتابه: " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذي يبدلونه إن الله سميع عليم " على أن لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، الأمان، وهما مقيمان بحضرته أو أحدهما، أو كانا غائبين عنه؛ أو مجتمعين كانا أو متفرقين ويستمر أبو عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بخراسان وأعمالهما المتصلة بها والمضمومة إليها؛ ويستمر إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين في ولايته بالشأم وأجنادها؛ فعلى محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين، أن يمضي أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان وأعمالهما المتصلة بها والمضمومة إليها، وأن يسلم له ولايتها وأعمالها كلها وأجنادها والكور الداخلة فيما ولى جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين، فلا يعوقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شئ من البلدان دون خراسان والكور والأعمال المضمومة إليها، وأن يعجل إشخاصه إليها واليًا عليها وعلى جميع أعمالها، مفردًا بها مفوضًا إليه أعمالها كلها؛ لينزل حيث أحب من كور عمله، ولا ينقله عنها، وأن يشخص معه جميع من ضم إليه أمير المؤمنين، ويضم من مواليه وقواده وشاكريته وأصحابه وكتابه وعماله وخدمه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولادهم وعيالهم وأموالهم، ولا يحبس عنه أحدًا، ولا يشرك في شئ من أعماله أحدًا، ولا يوجه عليه أمينًا ولا كتابًا ولا بريدًا، ولا يضرب على يده في قليل ولا كثير. وأن يطلق محمد المنتصر بالله لإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين الخروج إلى الشأم وأجنادها فيمن ضم أمير المؤمنين ويضمه إليه من مواليه وقواده وخدمه وجنوده وشاكريته وصحابته وعماله وخدامه ومن اتبعه من صنوف الناس بأهاليهم وأولا دهم وأموالهم، ولا يحبس عنهم أحدًا، ويسلم إليه ولايتها دونها، وأن يعجل إشخاصه إلى الشأم وأجنادها واليًا عليها، ولا ينقله عنها؛ وأن عليه له فيمن ضم إليه من القواد والموالي والغلمان والجنود والشاكرية وأصناف الناس وفي جميع الأسباب والوجوه مثل الذي اشترط على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالهما على ما رسم من ذلك، وبين ولخص، وشرح في هذا الكتاب. ولإبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين على أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين - إذا أفضت الخلافة إليه، وإبراهيم المؤيد بالله مقيم الشام - أن يقره بها أو كان بحضرته، أو كا غائبًا عنه، أن يمضيه إلى عمله من الشأم، ويسلم إليه أجنادها وولايتها وأعمالها كلها، ولا يعوّقه عنها، ولا يحبسه قبله ولا في شيء من البلدان دونها، وأن يعجّل إشخاصه إليها واليًا عليها وعلى جميع أعمالها؛ على مثل الشرط الذي أخذ لأبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في خراسان وأعمالها؛ على ما رسم ووصف وشرط في شرط في هذا الكتاب؛ لم يجعل أمير المؤمنين لواحد ممن وقعت عليه وله هذه الشروط؛ من محمد المنتصر بالله، وأبى عبد الله المعتزّ بالله، وإبراهيم المؤيد بالله؛ بني أمير المؤمنين، أن يزيل شيئًا مما اشترطا في هذا الكتاب، ووكّدنا، وعليهم جميعًا الوفاء به؛ لا يقبل الله منهم إلّا ذلك، ولا التمسّك إلا بعهد الله فيه؛ وكان عهد الله مسؤلًا. أشهد الله ربّ العالمين جعفر الإمام المتوكل على الله أمير المؤمنين ومن حضره من المسلمين بجميع ما في الكتاب على إمضائه إياه؛ على محمد المنتصر بالله، وأبي عبد الله المعتز بالله، وإبراهيم المؤيد بالله، بني أمير المؤمنين بجميع ما سمّي ووصف فيه، وكفى بالله شهيدًا ومعينًا لمن أطاعه راجيًا، ووفىّ بعهده خائفًا وحسيبًاُ؛ ومعاقبًا من خالفه معاندًا، أو صدف عن أمره مجاهدًا. وقد كتب هذا الكتاب أربع نسخ، وقعت شهادة الشهود بحضرة أمير المؤمنين في كلّ نسخة منها؛ في خزانة أمير المؤمنين نسخة، وعند محمد المنتصر ابن أمير المؤمنين نسخة، وعند أبي عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين نسخة، ونسخة عند إبراهيم المؤيد بالله ابن أمير المؤمنين. وقد ولى جعفر الإمام المتوكل على الله أبا عبد الله المعتز بالله ابن أمير المؤمنين أعمال فارس وإرمينية وأذربيجان إلى مايلي أعمال خراسان وكورها والأعمال المتّصلة بها والمضمونة إليها، على أن يجعل له على محمد المنتصر بالله ابن أمير المؤمنين في ذلك الذي جعل له في الحياطة في نفسه، والوثاق في أعماله، والمضمومين إليه وسائر من يستعين به من الناس جميعًا في خراسان والكور المضمومة إليها والمتصلة بها على ما سمّي ووصف في هذا الكتاب. وقال إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول يمدح بني المتوكل الثلاثة: المنتصر، والمعتزّ، والمؤيد: أضحت عرى الإسلام وهي منوطةٌ ** بالنّصر والإعزاز والتأييد بخليفة من هاشمٍ وثلاثةٍ ** كنفوا الخلافة من ولاة عهود قمرٌ توالت حوله أقماره ** يكنفن مطلع سعده بسعود كنفتهم الآباء واكتنفت بهم ** فسعوا بأكرم أنفس وجدود وله في المعتزّ بالله: أشرق المشرق بالمع ** تزّ بالله ولاحا إنما المعتز طيبٌ ** بثّ في الناس ففاحا وله أيضًا: الله أظهر دينه ** وأعزّه بمحمد والله أكرم بالخلا ** فة جعفر بن محمد والله أيّد عهده ** بمحمدٍ ومحمد ومؤيّد لمؤيدين ** إلى النبي محمّد وفيها كانت وفاة إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر في يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة، وقيل كانت وفاته لسبع بقين منه. وصيّر ابنه مكانه، وكسى خمس خلع، وقلّد سيفًا، وبعث المتوكل حين انتهى إليه خبر مرضه بابنه المعتزّ لعيادته مع بغا الشرابي وجماعة من القواد والجند. وذكر أن ماء دجلة تغيّر في هذه السنة إلى الصفرة ثلاثة أيام، ففرح الناس لذلك، ثم صار في لون ماء المدود وذلك في ذي الحجة. وفيها أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن علي بن أبي طالب عليه السلام من بعض النواحي؛ وكان - فيما ذكر - قد جمع قومًا، فضربه عمر بن فرج ثمان عشرة مقرعة، وحبس ببغداد في المطبق. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود. ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث خبر مقتل محمد بن إبراهيم بن مصعب فمن ذلك ما كان من مقتل محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، أخي إسحاق بن إبراهيم بفارس. ذكر الخبر عن مقتله وكيف قتل حدثني غير حد، عن محمد بن إسحاق بن إبراهيم؛ أن أباه إسحاق بلغه عنه أنه أكول لا يملأ جوفه شيء، وأنه أمر باتخاذ الطعام والأكثار منه؛ ثم أرسل إليه فدعاه؛ ثم أمره أن يأكل، وقال له: إني أحب أن أرى أكلك فأكل وأكثر حتى عجب إسحاق منه ثم قدم إليه بعد ما ظنّ أنه شبع وامتلأ من الطعام حملٌ مشوي، فأكل منه حتى لم يبق منه إلا عظامه؛ فلما فرغ من أكله، قال: يا بني، مال أبيك لا يقوم بطعام بطنك؛ فالحق أمير المؤمنين؛ فإنّ ماله أحمل لك من مالي. فوجّهه إلى الباب وألزمه الخدمة، فكان في خدمة السلطان حياة أبيه، وخليفة أبيه ببابه، حتى مات أبوه إسحاق؛ فعقد له المعتز على فارس، وعقد له المنتصر على اليامة والبحرين وطريق مكة، في المحرم من هذه السنة، وضم إليه المتوكل أعمال أبيه كلها، وزاده المنتصر ولاية مصر؛ وذلك أنه كان - فيما ذكر - حمل إلى المتوكل وأولياءه عهده مما كان في خزائن أبيه من الجواهر والأشياء النفسية ما حظي به عندهم، فرفعوه ورفعوا مرتبته. فلما بلغ محمد بن إبراهيم ما فعل بابن أخيه محمد بن إسحاق تنكر للسلطان، وبلغ المتوكل عنه أمور أنكرها، فأخبرني بعضهم أن تنكر محمد بن إبراهيم إنما كان لابن أخيه محمد بن إسحاق، واعتلاله عليه بحمل خراج فارس إليه. وإن محمدًا شكا إلى المتوكل ما كان من تنكر عمه محمد بن إبراهيم في ذلك، فبسط يده عليه، وأطلق له العمل فيه بما أحب، فوفى محمد بن إسحاق الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب فارس، وعزل عمه، وتقدم محمد إلى الحسين بن إسماعيل في قتل عمه محمد بن إبراهيم؛ فذكر أنه لما صار إلى فارس أهدى إليه في يوم النيروز هدايا؛ فكان فيما أهدى إليه حلواء، فأكل محمد بن إبراهيم منها ثم دخل الحسين بن إسماعيل عليه، فأمر بإدخاله إلى موضع آخر وإعادة الخلواء عليه، فأكل أيضًا منها، فعطش فاستسقى، فمنع الماء، ورام الخروج من الموضع الذي أدخل إليه؛ فإذا هو محبوس لا سبيل له إلى الخروج؛ فعاش يومين وليلتين، ومات. فحمل ماله وعياله إلى سامرا على مائة جمل. ولما ورد نعى محمد بن إبراهيم على المتوكل أمر بالكتاب فيه إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر بالتعزية فكتب: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يوجب لك مع كل فائدة ونعمة تهنئتك بمواهب الله وتعزيتك عن ملمات أقداره؛ وقد مضى الله في محمد بن إبراهيم مولى أمير المؤمنين ما هو قضاؤه في عباده؛ حتى يكون الفناء لهم والبقاء له. وأمير المؤمنين يعزيك عن محمد بما أوجب الله لمن عمل بما أمره به في مصائبه؛ من جزيل ثوابه وأجره؛ فليكن الله وما قربك منه أولى بك في أحوالك كلها؛ فإن مع شكر الله مزيده، ومع التسليم لأمر الله رضاه؛ وبالله توفيق أمير المؤمنين. والسلام. ذكر خبر وفاة الحسن بن سهل وفي هذه السنة توفي الحسن بن سهل في قول بعضهم في أول ذي الحجة منها، وقال قائل هذه المقالة: مات محمد بن إسحاق بن إبراهيم في هذا الشهر لأربع بقين منه. وذكر عن القاسم بن أحمد الكوفي، أنه قال: كنت في خدمة الفتح بن خاقان في سنة خمس وثلاثين ومائتين، وكان الفتح يتولى للمتوكل أعمالًا، منها أخبار الخاصة والعامة بسامرا والهاروني وما يليها؛ فورد كتاب إبراهيم بن عطاء المتولي الأخبار بسامرا يذكر وفاة الحسن بن سهل، وأنه شرب شربة دواء في صبيحة يوم الخميس لخميس ليال بقين من ذي العقدة من سنة خمس وثلاثين ومائتين أفرطت عليه، وأنه توفي في هذا اليوم وقت الظهر، وأن المتوكل أمر بتجهيز جهازه من خزائنه. فلما وضع على سريره تعلق به جماعة من التجار من غرماء الحسن بن سهل، ومنعوه من دفنه، فتوسط أمرهم يحيى بن خاقان وإبراهيم بن عتاب ورجل يعرف ببرغوث؛ فقطعوا أمرهم، ودفن. فلما كان من الغد ورد كتاب صاحب البريد بمدينة السلام بوفاة محمد بن إسحاق بن إبراهيم بعد الظهر يوم الخميس لخمس خلون من ذي الحجة، فجزع عليه المتوكل جزعًا، وقال: تبارك الله وتعالى! كيف توافيت منية الحسن ومحمد بن إسحاق في وقت واحد! ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي وفيها أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه؛ فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق؛ فهرب الناس، وامتنعوا من المصير إليه؛ وحرث ذلك الموضع، وزرع ما حواليه. وفيها استكتب المتوكل عبيد الله بن يحيي بن خاقان، وصرف محمد بن الفضل الجرجرائي. وفيها حج محمد المنتصر، وحجت معه جدته شجاع أم المتوكل، فشيعها المتوكل إلى النجف. وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي الكبح فجاءة، ذكر أن فارس بن بغا الشرابي وهو خليفة أبيه، عقد لأبي سعيد هذا، وهو مولى طيء على أذربيجان وأرمينية، فعسكر بالكرخ؛ كرخ فيروز؛ فلما كان لسبع بقين من شوال وهو بالكرخ مات فجاءة، لبس أحد خفيه ومد الآخر ليلبسه فسقط ميتًا، فولى المتوكل ابنه يوسف ما كان أبوه وليه من الحرب، وولاه بعد ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الاحية فضبطها ووجه عماله في كل ناحية. وحج المتوكل بالناس في هذه السنة المنتصر محمد بن جعفر المتوكل. ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر وثوب أهل إرمينية بعاملهم يوسف بن محمد فمن ذلك ما كان من وثوب أهل إرمينية بيوسف بن محمد فيها. ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به قد ذكرنا فيما مضى قبل سبب استعمال المتوكل يوسف بن محمد هذا إياه على إرمينية؛ فأما سبب وثوب أهل إرمينية به؛ فإنه كان - فيما ذكر أنه لما صار إلى عمله من إرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط؛ وكان يقال له بطريق البطارقة، يطلب الإمارة؛ فأخذه يوسف بن محمد، وقيده وبعث به إلى باب الخليفة، فأسلم بقراط وابنه؛ فذكر أن يوسفلما حمل بقراط بن أشوط اجتمع عليه ابن بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة إرمينية، وكان الثلج قد وقع في المدينة التي فيها يوسف؛ وهي - فيما قيل - طرون؛ فلما سكن الثلج أناخوا عليها من كل ناحية، وحاصروا يوسف ومن معه في المدينة، فخرج يوسف إلى باب المدينة، فقاتلهم فقتلوه وكل من قاتل معه؛ فأما من لم يقاتل معه؛ فإنهم قالوا له: ضع ثيابك، وانج عريانًا فطرح قوم منهم كثير ثيابهم، ونجوا عراة حفاة، فمات أكثرهم من البرد، وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا؛ وكانت البطارقة لما حمل يوسف بقراط بن أشوط تحالفوا على قتله، وذروا ووافقهم على ذلك موسى بن زرارة، وهو على ابنه بقراط، فنهى سوادة بن عبد الحميد الحجافي يوسف بن أبي سعيد عن المقام بموضعه، وأعلمه بما أتاه من أخبار البطارقة، فأبى أن يفعل، فوافاه القوم في شهر رمضان، فأحدقوا بسور المدينة والثلج ما بين عشرين ذراعًا إلى أقل حول المدينة إلى خلاط إلى دبيل، والدنيا كلها ثلج وكان يوسف قبل ذلك قد فرق أصحابه في رساتيق عمله، فتوجه إلى كل ناحية منها قوم من أصحابه، فوجه إلى كل طائفة منهم من البطارقة، ممن معهم جماعة، فقتلوهم في يوم واحد، وكانوا قد حاصروه في المدينة أيامًا، فخرج إليهم فقاتل حتى قتل، فوجه المتوكل بغا الشرابي إلى إرمينية طالبًا بدم يوسف، فشخص إليها من ناحية الجزيرة، فبدأ بأرزون بموسى بن زرارة، وهو " أبو الحر " وله أخوة: إسماعيل وسليمان وأحمد وعيسى ومحمد وهارون، فحمل بغا موسى بن زرارة إلى باب الخليفة، ثم سار فأناخ بجبل الخويثية؛ وهم جمة أهل إرمينية، وقتلة يوسف بن محمد، فحاربهم فظفر بهم، فقتل زهاء ثلاثين ألفًا، وسبي منهم خلقًا كثيرًا، فباعهم بإرمينية، ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس وهو صاحب الباق - والباق من كور البسفرجان وبني النشوى، ثم سار إلى مدينة دبيل من إرمينية، فأقام بها شهرًا، ثم سار إلى تفليس. وفي هذه السنة ولى عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم بغداد ومعاون السواد. وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان، لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، فولى الشرطة والجزية وأعمال السواد وخلافة أمير المؤمنين بمدينة السلام، ثم صار إلى بغداد. وفيها عزل المتوكل محمد بن أحمد بن أبي داود عن المظالم، وولاها محمد ابن يعقوب المعروف بأبي الربيع. وفيها رضى عن ابن أكثم، وكان ببغداد فأشخص إلى سامرا، فولى القضاء على القضاة، ثم ولى أيضًا بالمظالم، وكان عزل المتوكل محمد بن أحمد ابن أبي داود عن مظالم سامرا لعشر بقين من صفر من هذه السنة. ذكر غضب المتوكل على ابن أبي دواد وفيها غضب المتوكل على ابن أبي دواد؛ وأمر بالتوكل على ضياع أحمد ابن أبي داود لخمس بقين من صفر، وحبس يوم لثلاث خلون من شهر ربيع الأول ابنه أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي دواد في ديوان الخراج، وحبس إخوته عند عبيد الله بن السري خليفة صاحب الشرطة، فلما كان يوم الاثنين حمل أبو الوليد مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وجواهر بقيمة عشرين ألف دينار، ثم صولح بعد ذلك على ستة عشر ألف درهم، وأشهد عليهم جميعًا ببيع كل ضيعة لهم؛ وكان أحمد بن أبي داود قد فلج، فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من شعبان، أمر المتوكل بولد أحمد بن أبي داود، فحدروا إلى بغداد، فقال أبو العتاهية: لو كنت في الرأي منسوبًا إلى رشد ** وكان عزمك عزمًا فيه توفيق لكان في الفقه شغلٌ لو قنعت به ** عن أن تقول: كلام الله مخلوق ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ** ما كان في الفرع لولا الجهل والموق وأقيم فيها الخلنجي للناس في جمادى الآخرة. وفيها ولى ابن أكثم قضاء الشرقية حيان بن بشر، وولى سوار بن عبد الله العنبري قضاء الجانب الغربي، وكلاهما أعور، فقال الجماز رأيت من الكبائر قاضيين ** هما أحدوثة في الخافقين هما اقتسما العمى نصفين قدًا ** كما اقتسما قضاء الجانبين وتحسب منهما من هز رأسًا ** لينظر في مواريث ودين كأنك قد وضعت عليه دنًا ** فتحت بزاله من فرد عين هما فأل الزمان بهلك يحيي ** إذ افتتح القضاء بأعورين خبر إنزال جثة ابن نصر ودفعه إلى أوليائه وفيها أمر المتوكل في يوم الفطر منها بإنزال جثة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، ودفعه إلى أوليائه. ذكر خبر عما فعل به وما كان من الأمر بسبب ذلك ذكر أن المتوكل لما أمر بدفع جتثه إلى أوليائه لدفنه، فعل ذلك، فدفع إليهم؛ وقد كان المتوكل لما أفضت إليه الخلافة، نهى عن الجدال في القرآن وغيره، وفذت كتبه بذلك إلى الآفاق وهم بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته، فاجتمع الغوغاء والرعاع إلى موضع تلك الخشبة، وكثروا وتكلموا، فبلغ ذلك المتوكل، فوجه إليهم نصر من الليث، فأخذ منهم نحوًا من عشرين رجلًا فضربهم وحبسهم وترك إنزال أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من أطلقوا؛ فلما دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الذي ذكرت حمله ابن أخيه موسى إلى بغداد، وغسل ودفن، وضم رأسه إلى بدنه، وأخذ عبد الرحمن بن حمزة جسده في منديل مصري، فمضى به إلى منزله، فكفنه وصلى عليه، وتولى إدخاله القبر مع بعض أهله رجلٌ من التجار، ويقال له الأبرازي فكتب صاحب البريد ببغداد - وكان يعرف بابن الكلبي، من موضع بناحية واسط، يقال له الكلبانية - إلى المتوكل بخبر العامة، وما كان من اجتماعها وتمسحها بالجنازة؛ جنازة أحمد بن نصر وبخشبة رأسه؛ فقال المتوكل ليحيى بن أكثم: كيف دخل ابن الأبرازي القبر على كبرة خزاعة! فقال: يا أمير المؤمنين، كان صديقًا له. فأمر المتوكل إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر بمنع العامة من الإجتماع والحركة في مثل هذا وشبهه؛ وكان بعضهم أوصى ابنه عند موته أن يرهب العامة؛ فكتب المتوكل ينهى عن الإجتماع. وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأزمتي. وحج بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور، وكان والي مكة. ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر ظفر بغا بإسحاق بن إسماعيل وإحراقه مدينة تفليس فمن ذلك ما كان من ظفر بغا بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس وإحراقه مدينة تفليس. ذكر الخبر عما كان من بغا في ذلك ذكر أن بغا لما صار إلى دبيل بسبب قتل القاتلين من أهل إرمينية يوسف ابن محمد، أقام بها شهرًا؛ فلما كان يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وجه بغا زيرك التركي، فجاوز الكر - وهو نهر عظيم مثل الصراة ببغداد وأكبر، وهو ما بين المدينة وتفليس في الجانب الغربي وصغدبيل في الجانب الشرقي - وكان معسكرًا بغا في الشرقي، فجاوز زيرك الكر إلى مدينة تفليس، ولتفليس خمسة أبواب: باب الميدان، وباب قريس، وباب الصغير، وباب الربض، وباب صغدبيل - والكر نهر ينحدر مع المدينة - ووجه أيضًا أبا العباس الواثي النصراني إلى أهل إرمينية عربها وعجمها، فأتاهم زيرك مما يلي الميدان وأبو العباس مما يلي باب الربض، فخرج إسحاق بن إسماعيل إلى زيرك، فناوشه القتال، ووقف بغا على تل مطل على المدينة مما يلي صغدبيل؛ لينظر ما يصنع زيرك وأبو العباس، فبعث بغا النفاطين فضربوا المدينة بالنار؛ وهي من خشب الصنوبر، فهاجت الريح في الصنوبر، فأقبل إسحاق بن إسماعيل إلى المدينة لينظر؛ فإذا النار قد أخذت في قصره وجواريه، وأحاطت به النار؛ ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرًا، وأخذوا ابنه عمرًا، فأتوا بهما بغا، فأمر بغا به، فرد إلى باب الحسك، فضربت عنقه هناك صبرًا، وحمل رأسه إلى بغا، وصلبت جيفته على الكر؛ وكان شيخًا محدودًا ضخم الرأس، يخضب بالوسمة، آدم أصلع أحول؛ فنصب رأسه على باب الحسك. وكان الذي تولى قتله غامش خليفة بغا، واحترق في المدينة نحو من خمسين ألف إنسان، وأطفئت النار في يوم وليلة؛ لأنها نار الصنوبر، لا بقاء لها، وصبحهم المغاربة، فأسروا من كان حيًا، وسلبوا الموتى. وكانت امرأة إسحاق نازلةً بصغدبيل، وهي حذاء تفليس في الجانب الشرقي، وهي مدينة بناها كسرى أنوشروان؛ وكان إسحاق قد حصنها وحفر خندقها، وجعل فيها مقاتلة من الخويثية وغيرهم. وأعطاهم بغا الأمان على أن يضعوا أسلحتهم، ويذهبوا حيث شاء. وكات امرأة إسحاق ابنة صاحب السرير. ثم وجه بغا - فيما ذكر - زيرك إلى قلعة الجردمان - وهي بين برذعة وتفليس - في جماعة من جنده، ففتح زيرك الجردما، وأخذ بطريقها القطريج أسيرًا، فحمله إلى العسكر. ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف بن أخت اصطفانوس؛ وهو في قلعة كثيش من كورة البيلقان، وبينها وبين البيلقان عشرة فراسخ، وبينها وبين برذعة خمسة عشر فرسخًا، فحاربه، ففتحها، وأخذه وحمله وحمل ابنه معه وأباه، وحمل أبا العباس الواثي - واسمه سنباط بن أشوط - وحمل معه معاوية بن سهل بن سنباط بطريق أران، وحمل آذر نرسى بن إسحاق الخاشني. ذكر مقدم الروم بمراكبهم إلى دمياط وفي هذه السنة جاءت للروم ثلثمائة مركب مع عرفا وابن قطوا وأمرداقه - وهم كانوا الرؤساء في البحر - مع كل واحد منهم مائة مركب، فأاخ ابن قطونا بدمياط، وبينها وبين الشط شبيه بالبحيرة يكون فيها الماء إلى صدر الرجل؛ فمن جازها إلى الأرض أمن من مراكب البحر؛ فجازها قوم فسلموا، وغرق قوم كثير من نساء وصبيان؛ واحتمل من كانت له قوة في السفن؛ فنجوا إلى ناحية الفسطاط، وبينها وبين الفسطاط مسيرة أربعة أيام. وكان والي معونة مصر عبسة بن إسحاق الضبي، فلما قرب العيد، أمر الجند الذي بدمياط أن يحضروا الفسطاط لتحمل لهم في العيد، وأخلى دمياط من الجند؛ فانتهى مراكب الروم من ناحية شطا التي يعمل فيها الشطوي، فأناخ بها مائة مركب من الشلندية؛ تحمل كل مركب ما بين الخمسين رجلًا إلى المائة؛ فخرجوا إليه وأحرقوا ما وصلوا إليه من دورها وأخصاصها، واحتملوا سلاحًا كان فيها أرادوا حمله إلى أبي حفص صاحب أقريطش نحوًا من ألف قناة وآلتها، وقتلوت من أمكنهم قتله من الرجال، وأخذوا من الأمتعة والقند والكتان ما كان عبئ ليحمل إلى العراق، وسبوا من المسلمات والقبطيات نحوًا من ستمائة امرأة؛ ويقال إن المسلمات منهن مائة وخمس وعشرون امرأة والباقي من نساء القبط. ويقال إن الروم الذين كانوا في الشلنديات التي أناخت بدمياط كانوا نحوًا من خمسة آلاف رجل، فأوقروا سفنهم من المتاع والأموال والنساء، وأحرقوا خزانة القلوع وهي شرع السفن، وأحرقوا مسجد الجامع بدمياط، وأحرقوا كنائس؛ وكان من حزر منهم ممن غرق في بحيرة دمياط من النساء والصبيان أكثر ممن سباه الروم. ثم رحل الروم عنها. وذكر أن ابن الأكشف كان محبوسًا في سجن دمياط، حبسه عنبسة، فكسر قيده وخرج؛ فقاتلهم، وأعانه قوم، فقتل من الروم جماعة، ثم صاروا إلى أشتوم تنيس، فلم يحمل الماء سفنهم إليها، فخشوا أن توحل؛ فلما لم يحملهم الماء صاروا إلى أشتومها - وهي مرسى بينه وبين تنيس أربعة فراسخ وأقل، وله سور وباب حديد كان المعتصم أمر بعمله - فخربوا عامته، وأحرقوا ما فيه من المجانيق والعرادات، وأخذوا بابيه الحديد؛ فحملوهما، ثم توجهوا إلى بلادهم، لم يعرض لهم أحد. وخرج المتوكل في هذه السنة يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الآخرة من سامرا يريد المدائن، فصار إلى الشماسية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، فأقام هنالك إلى يوم السبت، وعبر بالعشي إلى قطربل، ثم رجع ودخل بغداد يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت منه فمضى في سوقها وشارعها حتى نزل الزعفرانية، ثم صار إلى المدائن. وغزا الصائفة فيها علي بن يحيى الأرمني. وحجّ بالناس فيها علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر. ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فما كان فيها من ذلك أمر المتوكل بأخذ أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية والدراريع في المحرم منها، ثم أمره في صفر بالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين. وفيها في المتوكل علي بن الجهم بن بدر إلى خراسان. وفيها قتل صاحب الصناريه بباب العامة في جمادى الآخرة منها. وفيها أمر المتوكل بهدم البيع المحدثة في الإسلام. وفيها مات أبو الوليد محمد بن أحمد بن أبي داود ببغداد في ذي الحجة. وفيها غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني. وحج بالناس فيها عبد الله بن محمد بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد ابن علي، وكان والي مكة. وفيها حج جعفر بن دينار؛ وكان والي طريق مكة مما يلي الكوفة فولى أحداث الموسم. وفيها اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز؛ وذلك يوم الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي العقدة، فذكر أن النصارى زعمت أنهما لم يجتمعا في الإسلام قط. ثم دخلت سنة أربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن وثوب أهل حمص بعاملهم فما كان فيها من ذلك وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة. ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل إليه أمرهم ووثوبهم ذكر أن عاملهم على المعونة قتل رجلًا كان من رؤسائهم؛ وكان العامل يومئذ أبو المغيث الرافعي موسى بن إبراهيم، فوثب أهل حمص في جمادى الآخرة من هذه السنة، فقتلوا جماعة من أصحابه، ثم أخرجوه وأخرجوا صاحب الخراج من مدينتهم؛ فبلغ ذلك المتوكل؛ فوجه إليهم عتاب بن عتاب، ووجه معه محمد بن عبدويه كراديس الأنباري، وأمره أن يقول لهم: إن أمير المؤمنين قد أبد لكم رجلًا مكان رجل؛ فإن سمعوا وأطاعوا ورضوا؛ فول عليهم محمد بن عبدويه؛ وإن أبوا وثبتوا على الخلاف فأقم بمكانك، واكتب إلي أمير المؤمنين حتى يوجه إليك رجاء، أو محمد بن رجاء الحضاري أو غيره من الخيل لمحاربتهم؛ فخرج عتاب بن عتاب من سامرا يوم الاثنين لخمس بقين من شهر جمادى الآخرة، فرضوا بمحمد بن عبدويه، فولاه عليهم ففعل فيهم الأعاجيب. وفيها مات أحمد بن أبي داود ببغداد في المحرم بعد ابنه أبي الوليد محمد؛ وكان ابنه محمد توفي قبله بعشرين يومًا في ذي الحجة ببغداد. وفيها عزل يحيى بن أكثم عن القضاء في صفر، وقبض منه ما كان له ببغداد ومبلغه خمسة وسبعون ألف دينار، ومن أسطوانة في داره ألفًا دينار وأربعة آلاف جريب بالبصرة. وفيها ولى جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي القضاء على القضاة في صفر. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن محمد بن داود وحج بن دينار وهو والي الأحداث بالموسم. ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن وثوب أهل حمص بعاملهم مرة أخرى فمن ذلك ما كان من وثوب أهل حمص بعاملهم على المعونة؛ وهو محمد ابن عبدويه. ذكر الخبرعما كان من أمرهم فيها وما آل إليه الأمر بينهم ذكر أن أهل حمص وثبوا في جمادى الآخرى من هذه السنة بمحمد بن عبدويه عاملهم على المعونة، وأعانهم على ذلك قوم من نصارى حمص، فكتب بذلك إلى المتوكل، فكتب إليه يأمره بمناهضتهم، وأمده بجند من راتبة دمشق، مع صالح العباسي التركي؛ وهو عامل دمشق وجند من جند الرملة، فأمره أن يأخذ من رؤسائهم ثلاثة نفر فيضربهم بالسياط ضرب التلف؛ فإذا ماتوا صلبهم على أبوابهم، وأن يأخذ بعد ذلك من وجوههم عشرين إنسانًا فيضربهم ثلثمائة سوط، كل واحد منهم، ويحملهم في الحديد إلى باب أمير المؤمنين، وأن يخرب ما بها من الكنائس والبيع، وأن يدخل البيعة التي إلى جانب مسجدها في المسجد، وألا يترك في المدينة نصرانيًا إلا أخرجه منها، وينادي فيهم قبل ذلك، فمن وجده فيها بعد ثلاثة أحسن أدبه. وأمر لمحمد بن عبدويه بخمسين ألف درهم، وأمر لقواده ووجوه أصحابه بصلات، وأمر لخليفته علي بن الحسين بخمسة عشر ألف درهم، ولقواده بخمسة آلاف، وأمر بخلع؛ فأخذ محمد بن عبدويه عشرة منهم؛ فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم عشرة منهم؛ فكتب بأخذهم، وأنه قد حملهم إلى دار أمير المؤمنين ولم يضربهم؛ فوجه المتوكل رجلًا من أصحاب الفتح بن خاقان يقال له محمد بن رزق الله، ليرد من الذين وجه بهم ابن عبدويه محمد بن عبد الحميد الحميدي والقاسم بن موسى بن فوعوس إلى حمص، وأن يضربهما ضرب التلف، ويصلبهما على باب حمص، فردهما وضربهما بالسياط حتى ماتا، وصلبهما على باب حمص، وقدم بالآخرين سامرا وهم ثمانية؛ فلما صاروا بنصيبين مات واحد منهم، فأخذ المتوكل بهم رأسه، وقدم بسبعة منهم سامرا وبرأس الميت. ثم كتب محمد بن عبدويه أه أخذ عشرة نفر منهم بعد ذلك، وضرب منهم خمسة نفر بالسياط فماتوا، ثم ضرب خمسة فلم يموتوا. ثم كتب محمد ابن عبدويه بعد ذلك أنه ظفر برجل منهم من المخالفين يقال له عبد الملك بن إسحاق ابن عمارة - وكان فيما ذكر - رأسًا من رءوس الفتنة؛ فضربه بباب حمص بالسياط حتى مات، وصلبه على حصن يعرف بتل العباس. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة مطر الناس - فيما ذكر - بسامرا مطرًا جودًا في آب. وفيها ولى القضاء بالشرقية في المحرم أبو حسان الزيادي. ذكر الخبر عن ضرب عيسى بن جعفر وما آل إليه أمره وفيها ضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم ببغداد - فيما قيل - ألف سوط. ذكر الخبر عن سبب ضربه وما كان من أمره في ذلك وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، سبعة عشر رجلًا؛ شهاداتهم - فيما ذكر - مختلفة من هذا النحو؛ فكتب بذلك صاحب بريد بغداد إلى عبيد الله ابن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله. فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى: بسم الله الرحمن الرحيم؛ أبقاك الله وحفظك، وأتّم نعمته عليك؛ وصل كتابك في الرجل المسمّى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله ﷺ ولعنهم وإكفارهم، ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق؛ وغير ذلك مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله ﷺ، وتثبّتك في أمر أؤلئك الشهود وما شهدوا به، وما صحّ عندك من عدالة من عدل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك؛ فعرضت على أمير المؤمنين أعزّه الله ذلك؛ فأمر بالكتاب إلى أبي العباس محمد بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله بما قد نفذ إليه، مما يشبه ما عنده أبقاه الله، في نصرة دين الله، وإحياء سنّته، والانتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حدًا في مجمع الناس حد الشتم، وخمسمائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فإن مات ألقى في الماء من غير صلاة ليكون ذلك ناهيًا لكل ملحد في الدين، خارج من جماعة المسلمين؛ وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى - والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا - وقد قال بعضهم: إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم - لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمى به في دجلة. وفي هذه السنة انقضّت الكواكب ببغداد وتناثرت، وذلك ليلة الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة. وفيها وقع بها الصدام فنفقت الدوابّ والبقر. وفيها أغارت الروم على عين زربة، فأسرت من كان بها من الزط؛ مع نسائهم وذراريّهم وجواميسهم وبقرهم. خبر الفداء بين المسلمين والروم في هذه السنة وفيها كان الفداء بين المسلمين والروم. ذكر الخبر عن السبب الذي كان ذلك من أجله ذكر أن تذورة صاحبة الروم أمّ ميخائيل، وجّهت رجلًا يقال له جورجس بن قريافس يطلب الفداء لمن في أيدي الروم من المسلمين، وكان المسلمون قد قاربوا عشرين ألفًا، فوجه المتوكل رجلًا من الشيعة يقال له نصر بن الأزهر بن فرج؛ ليعرف صحة من في أيدي الروم من أسارى المسلمين، ليأمر بمفاداتهم؛ وذلك في شعبان من هذه السنة بعد أن أقام عندهم حينًا. فذكر أن تذورة أمرت بعد خروج نصر بعرض من في إسارها من المسلمين على النصرانية؛ فمن تنصرّ منهم كان أسوة من تنصر قبل ذلك، ومن أبى قتله؛ فذكر أنها قتلت من الأسرى اثني عشر ألفًا؛ ويقال إن قنقلة الخصي كان يقتلهم من غير أمرها. ونفذ كتاب المتوكل إلى عمال الثغور الشامية والجزرية أن شنيفًا الخادم قد جرى بينه وبين جورجس رسول عظيم الروم في أمر الفداء قول، وقد اتفق الأمر بينهما، وسأل جورجس هذا هدنة لخمس ليال تخلو من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين إلى سبع ليال بقين من شوال من هذه السنة، ليجمعوا الأسرى، ولتكون مدة لهم إلى انصرافهم إلى مأمنهم. فنفذ الكتاب بذلك يوم الأربعاء لخمس خلون من رجب؛ وكان الفداء يقع في يوم الفطر من هذه السنة. وخرج جورجس رسول ملكة الروم إلى ناحية الثغور يوم السبت لثمان بقين من رجب على سبعين بغلًا اكتريت له، وخرج معه أبو قحطبة المغربي الطرطوسي لينظروا وقت الفطر؛ وكان جورجس قدم معه جماعة من البطاركة وغلمانه بنحو من خمسين إنسانًا، وخرج شنيف الخادم للفداء في النصف من شعبان، معه مائة فارس: ثلاثون من الأتراك، وثلاثون من المغاربة، وأربعون من فرسان الشاكرية؛ فسأل جعفر بن عبد الواحد - وهو قاضي القضاة - أن يؤذن له في حضور الفداء، وأن يستخلف رجلًا يقوم مقامه - فأذن له، وأمر له بمائة وخمسين ألفًا معونة وأرزاق ستين ألفًا؛ فاستخلف ابن أبي الشوارب - وهو يومئذ فتىً حدث السن - وخرج فلحق شنيفًا، وخرج أهل بغداد من أوساط الناس، فذكر أن الفداء وقع من بلاد الروم على نهر اللامس، يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكان أسرى المسلمين سبعمائة وخمسة وثمانين إنسانًا، ومن النساء مائة وخمسًا وعشرين امرأة. وفي هذه السنة جعل المتوكل كورة شمشاط عشرًا، ونقلهم من الخراج إلى العشر، وأخرج لهم بذلك كتابًا. ذكر غارة البجة على مصر وفي هذه السنة غارت البجة على حرس من أرض مصر، فوجه المتوكل لحربهم محمد بن عبد الله القمّي. ذكر الخبر عن أمرهم وما آلت إليه حالهم ذكر أن البجة كانت لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة، قد ذكرناها فيما مضى قبل من كتابنا هذا؛ وهم جنس من أجناس الحبش بالمغرب، وبالمغرب من السودان - فيما ذكر - البجة وأهل غاتة الغافر وبينور ورعوين والفروية ويكسوم ومكاره أكرم والنوبة والحبش وفي بلاد البجة معادن من ذهب، فهم يقاسمون من يعمل فيها، ويؤدون إلى أعمال السلطان في مصر في كل سنة عن معادنهم أربعمائة مثقال تبر قبل أن يطبخ ويصفى. فلما كان أيام المتوكل امتنعت البجة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية فذكر أن المتوكل ولى بريد مصر رجلًا من خدمه يقال له يعقوب بن إبراهيم الباذغيسى مولى الهادي، وهو المعروف بقوصرة، وجعل إليه بريد مصر والإسكندرية وبرقة ونواحي المغرب، فكتب يعقوب إلى المتوكل أن البجة قد نقضت العهد الذي كان بينها وبين المسلمين وخرجت من بلادها إلى معادن الذهب والجوهر؛ وهي على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد البجة؛ فقتلوا عدة من المسلمين ممن يعمل في المعادن لهم في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها؛ وأن ذلك أوحش جميع من كان يعمل في المعادن من المسلمين؛ فانصرفوا عنها خوفًا على أنفسهم وذرايتهم فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس من الذهب والفضة والجوهر الذي يستخرج من المعادن؛ فاشتد إنكار المتوكل لذلك وأحفظه، وشاور في أمر البجة، فأنهى إليه أنهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأن الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن يسلك إليهم الجيوش؛ لأنها مفاوز وصحارى، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر؛ في أرض قفر وجبال وعر، لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل، ولا حصن؛ وأن من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزود لجميع المدة التي يتوهم أن يقيمها في بلادهم إلى أن يخرج إلى أرض الإسلام؛ فإن امتد به المقام حتى يتجاوز تلك المدة هلك وجميع من معه، وأخذتهم البجة بالأيدي دون المحاربة، وأن أرضهم لا ترد على السلطان شيئًا من خراج ولا غيره. فأمسك المتوكل عن التوجيه إليهم، وجعل أمرهم يتزيد، وجرأتهم على المسلمين تشتد حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريهم منهم؛ فولى المتوكل محمد بن عبد الله المعروف بالقمى محاربتهم، وولاه معاون تلك الكور - وهي فقط والأقصر وإسنا وأرمنت وأسوان - وتقدم إليه في محاربة البجة؛ وأن يكاتب عنبسة بن إسحاق الضبي العامل على حرب مصر. وكتب إلى عنبسة بإعطائه جميه ما يحتاج إليه من الجند والشاكرية المقيمين بمصر. فأزاح عنبسة علته في ذلك، وخرج إلى أرض البجة، وانضم إليه جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المتطوعة؛ فكانت عدة من معه نحوًا من عشرين ألف إنسان؛ بين فارس وراجل، ووجه إلى القلزم، فحمل في البحر سبعة مراكب موقرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قومًا من أصحابه أن يلجوا بها في البحر حتى يوافوه في ساحل البحر من أرض البجة؛ فلم يزل محمد بن عبد الله القمى يسير في أرض البجة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها الذهب، وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم - واسمه على بابا واسم ابنه لعيسى - في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمى من الناس؛ وكانت البجة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرةٌ تشبه بالمهارى في النجابة، فجعلوا يلتقون أيامًا متوالية، فيتناوشون ولا يصححون المحاربة، وجعل ملك البجة يتطارد للقمى لكي تطول الأيام طمعًا في نفاذ الزاد والعلوفة التي معهم؛ فلا يكون لهم قوة، ويموتون هزلًا، فيأخذهم البجة بالأيدي. فلما توهم عظيم البجة أن الأزواد قد نفدت، أقبلت السبع المراكب التي حملها القمى حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة، فوجه القمى إلى هنالك جماعة من أصحابه يحمون المراكب من البجة، وفرق ما كان فيها على أصحابه، فاتسعوا في الزاد والعلوفة؛ فلما رأى ذلك على بابا رئيس البجة قصد لمحاربتهم، وجمع لهم، والتقوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا؛ وكانت الإبل التي يحاربون عليها إبلًا زعرة، تكثر الفزع والرعب من كل شئ؛ فلما رأى ذلك القمى جمع أجراس الإبل والخيل التي كانت في عسكره كلها، فجعلها في أعناق الخيل، ثم حمل على البجة، ففرت إبلهم لأصوات الأجراس، واشتد رعبها فحملتهم على الجبال والأودية، فمزقتهم كل ممزق، واتبعهم القمى بأصحابه، فأخذهم قتلًا وأسرًا حتى أدركه الليل؛ وذلك في أول سنة إحدى وأربعين، ثم رجع إلى معسكره ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم؛ فلما أصبح القمى وجدهم قد جمعوا جمعًا من الرجالة، ثم صاروا إلى موضع أمنوا به فيه طلب القمى، فوافاهم القمى في الليل في خيله، فهرب ملكهم؛ فأخذ تاجه ومتاعه، ثم طلب على بابا الأمان على أن يرد إلى مملكته وبلاده، فأعطاه القمي ذلك، فأدى إليه الخراج للمدة التي كان منعها - وهي أربع سنين - لكل سنة أربعمائة مثقال، واستخلف على بابا على مملكته ابنه لعيس، وانصرف القمي بعلي بابا إلى باب المتوكل، فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين ومائتين، فكسا على بابا هذا دراعة ديباج وعمامة سوداء، وكسا جمله رحلا مدبجًا وجلال ديباج، ووقف بباب العامة مع قوم من البجة نحو من سبعين غلامًا على الإبل بالرحال، ومعهم الحراب في رءوس حرابهم رءوس القوم الذين قتلوا من عسكرهم؛ قتلهم القمي. فأمر المتوكل أن يقبضوا من القمى يوم الأضحى من سنة إحدى وأربعين ومائتين. وولى المتوكل البجة وطريق ما بين مصر ومكة سعدًا الخادم الإيتاخي، فولى سعد محمد بن عبد الله القمى، فخرج القمى بعلي بابا؛ وهو مقيم على دينه؛ فذكر بعضهم أنه رأى معه صنمًا من حجارة كهيئة الصبي يسجد له. ومات في هذه السنة يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة في جمادى الآخرة وحج بالناس في هذه السنة عبد الله محمد بن داود، وحج جعفربن دينار فيها، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم. ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر أحداث الزلازل بالبلاد فما كان فيها من ذلك الزلازل الهائلة التي كانت بقومس ورساتيقها في شعبان؛ فتهدمت فيها الدور، ومات من الناس بها مما سقط عليهم من الحيطان وغيرها بشرٌ كثير؛ ذكر أنه بلغت عدتهم خمسة وأربعين ألفًا وستة وتسعين نفسًا؛ وكان عظيم ذلك بالدامغان. وذكر أنه كان بفارس وخراسان والشأم في هذه السنة زلازل وأصوات منكرة، وكان باليمن أيضًا مثل ذلك مع خسف بها. ذكر خروج الروم من ناحية شمشاط وفيها خرجت الروم من ناحية شمشاط بعد خروج علي بن يحيى الأرمني من الصائفة حتى قاربوا آمد، ثم خرجوا من الثغور الجزرية، فانتهوا عدة قرى، وأسروا نحوًا من عشرة آلاف إنسان؛ وكان دخولهم من ناحية أبريق؛ قرية قربياس؛ ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، فخرج قربياس وعمر بن عبد الله الأقطع وقوم من المتطوعة في أثرهم، فلم يلحقوا منهم أحدًا، فكتب إلى علي بن يحيى أن يسير إلى بلادهم شاتيًا. وفيها قتل المتوكل عطاردًا - رجلًا كان نصرانيًا فأسلم - فمكث مسلمًا سنين كثيرة ثم ارتد فاستتيب، فأبى الرجوع إلى الإسلام، فضربت عنقه لليلتين خلتا من شوال، وأحرق بباب العامة. وفي هذه السنة مات أبو حسان الزيادي قاضي الشرقية في رجب. وفيها مات الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور. وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي؛ وهو والي مكة. وحج فيها جعفر بن دينار وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم. ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ففيها كان شخوص المتوكل إلى دمشق لعشر بقين من ذي العقدة، فضحى ببلد؛ فقال يزيد بن محمد المهلبي حين خرج: أظن الشام تشمت بالعراق ** إذا عزم الإمام على انطلاق فإن تدع العراق وساكنيها ** فقد تبلى المليحة بالطلاق وفيها مات إبراهيم بن العباس، فولى ديوان الضياع الحسن بن مخلد بن الجراح، خليفة إبراهيم في شعبان، ومات هاشم بن ينجور في ذي الحجة. وحج بالناس فيها عبد الصمد بن موسى وحج جعفر بن دينار، وهو والي طريق مكة وأحداث الموسم. ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك دخول المتوكل دمشق في صفر؛ وكان من لدن شخص من سامرا إلى أن دخلها سبعة وتسعون يومًا - وقيل سبعة وسبعون يومًا - وعزم على المقام بها، ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها فتحرك الأتراك في أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم به. ثم استوبأ البلد؛ وذلك أن الهواء بها بارد ندي والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر؛ فلا تزال تشتد حتى يمضي عامة الليل؛ وهي كثيرة البراغيث، وغلت فيها الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة. وفيها وجه المتوكل بغا من دمشق لغزو الروم في شهر ربيع الآخر، فغزا الصائفة، فافتتح صملة، وأقام المتوكل بدمشق شهرين وأيامًا، ثم رجع إلى سامرا، فأخذ في منصرفه على الفرات، ثم عدل إلى الأنبار، ثم عدل من الأنبار على طريق الحرف إليها، فدخلها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة. وفيها عقد المتوكل لأبي الساج على طريق مكة مكان جعفر بن دينار - فيما زعم بعضهم - والصواب عندي أنه عقد له على طريق مكة في سنة اثنتين وأربعين ومائتين. وفيها أتى المتوكل - فيما ذكر - بحربة كانت للنبي ﷺ تسمى العنزة؛ ذكر أنها كانت للنجاشي ملك الحبشة، فوهبها للزبير بن العوام، فأهداها الزبير لرسول الله ﷺ؛ فكانت عند المؤذنين، وكان يمشي بها بين يدي رسول الله ﷺ في العيدين؛ وكانت تركز بين يديه في الفناء فيصلى إليها فأمر المتوكل بحملها بين يديه؛ فكان يحملها بين يديه صاحب الشرطة، ويحمل حربته خليفة صاحب الشرطة. وفيها غضب المتوكل على بختيشوع، وقبض ماله، ونفاه إلى البحرين، فقال أعرابي: يا سخطةً جاءت على مقدار ** ثار له الليث على اقتدار منه وبختيشوع في اغترار ** لما سعى بالسادة الأقمار بالأمراء القادة الأبرار ** ولاة عهد السيد المختار وبالموالي وبني الأحرار ** رمى به في موحش القفار " بساحل البحرين للصغار " وفي هذه السنة اتفق عيد المسلمين الأضحى وشعانين النصارى وعيد الفطر لليهود. وحجّ بالناس فيها عبد الصمد بن موسى. ثم دخلت سنة خمسين وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر بناء الماحوزة ففيها أمر المتوكل ببناء الماحوزة، وسماها الجعفري، وأقطع القواد وأصحابه فيها، وجدّ في بنائها، وتحول إلى المحمدية ليتم أمر الماحوزة، وأمر بنقض القصر المختار والبديع، وحمل ساجهما إلى الجعفري، وأنفق عليها - فيما قيل - أكثر من ألفي ألف دينار، وجمع فيها القراء فقرءوا، وحضر أصحاب الملاهي فوهب لهم ألفي ألف درهم؛ وكان يسميها هو وأصحابه الخاصة المتوكلية، وبنى فيها قصرًا سماه لؤلؤة، لم ير مثله في علوه، وأمر بحفر نهر يأخذ رأسه خمسة فراسخ فوق الماحوزة من موضع يقال له كرمي يكون شربًا لما حولها من فوهة النهر إليها، وأمر بأخذ جبلتا والخصاصة العليا والسفلى وكرمى، وحمل أهلها على بيع منازلهم وأرضهم، فأجبروا على ذلك حتى تكون الأرض والمنازل في تلك القرى كلها له، ويخرجهم عنها، وقدّر للنهر من النفقة مائتي ألف دينار، وصيّر النفقة عليه إلى دليل بن يعقوب النصراني كاتب بغا في ذي الحجة من سنة خمس وأربعين ومائتين، وألقى في حفر النهر اثني عشر ألف رجل يعملون فيه؛ فلم يزل دليل يعتمل فيه، ويحمل المال بعد المال ويقسم عامته في الكتاب؛ حتى قتل المتوكل، فبطل النهر، وأخربت الجعفرية، ونقضت ولم يتم أمر النهر. وزلزلت في هذه السنة بلاد المغرب حتى تهدمت الحصون والمنازل والقناطر؛ فأمر المتوكل بتفرقة ثلاثة آلاف درهم في الذين أصيبوا بمنازلهم، وزلزل عسكر المهدي ببغداد فيها، وزلزلت المدائن. وبعث ملك الروم فيها بأسى من المسلمين؛ وبعث يسأل المفاداة بمن عنده؛ وكان الذي قدم من قبل صاحب الروم رسولًا إلى المتوكل شيخًا يدعى أطروبيليس معه سبعة وسبعون رجلًا من أسرى المسلمين، أهداهم ميخائيل بن توفيل ملك الروم إلى المتوكل، وكان قدومه عليه لخمس بقين من صفر من هذه السنة، فأنزل على شنيف الخادم. ثم وجه المتوكل نصر بن الأزهر الشيعي مع رسول صاحب الروم، فشخص في هذه السنة، ولم يقع الفداء إلا في سنة ست وأربعين. وذكر أنه كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال، قتلت خلفًا كثيرًا، وسقط منها ألف وخمسمائة دار، وسقط من سورها نيف وتسعون برجًا، وسمعوا أصواتًا هائلة لا يحسنون وصفها من كوى المنازل، وهرب ألها إلى الصحارى، وتقطع جبلها الأقرع، وسقط في البحر؛ فهاج البحر في ذلك اليوم؛ وارتفع منه دخان أسود مظلم منتن، وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب. وسمع فيها - فيما قيل - أهل تنيس في مصر ضجة دائمة هائلة، فمات منها خلق كثير. وفيها زلزلت بالس والرقة وحران ورأس عين وحمص ودمشق والرها وطرسوس والمصيصة وأذنة وسواحل الشأم. ورجفت اللاذقية، فما بقي منها منزل، ولا أفلت من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها. وفيها غارت مشاش - عين مكة - حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهمًا، فبعثت أم المتوكل فأنفقت عليها. وفيها مات إسحاق بن أبي إسرائيل وسوار بن عبد الله وهلال الرازي. ذكر الخبر عن هلاك نجاح بن سلمة وفيها هلك نجاح بن سلمة. ذكر الخبر عن سبب هلاكه حدثني الحارث بن أبي أسامة ببعض ما أنا ذاكره من أخباره وببعض ذلك غيره؛ أن نجاح بن سلمة كان على ديوان التوقيع والتتبع على العمال، وكان قبل ذلك كاتب إبراهيم بن رباح الجوهري؛ وكان على الضياع؛ فكان جميع العمال يتقونه ويقضون حوائجه؛ ولا يقدرون على منعه من شيء يريده؛ وكان المتوكل ربما نادمه، وكان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل؛ وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع، وموسى على ديوان الخراج؛ فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى يذكر أنهما قد خانا وقصرّا فيما هما بسبيله؛ وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم؛ فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية، وقال: يا نجاح؛ خذل الله من يخذلك، فبكر إلي غدًا حتى أدفعهما إليك؛ فغدا وقد رتب أصحابه، وقال: يا فلان خذ أنت الحسن، ويا فلان خذ أنت موسى؛ فغذا نجاح إلى المتوكل، فلقي عبيد الله، وقد أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل؛ فقال له: يا أبا الفضل، انصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر؛ وأنا أشير عليك بأمرٍ لك فيه صلاح؛ قال: وما هو؟ قال: أصلح بينك وبينهما؛ وتكتب رقعة تذكر فيها أنك شاربًا، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين؛ فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به، فأدخلها على المتوكل، وقال: يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قال البارحة؛ وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا؛ فتأخذ ما ضمنا عنه، ثم تعطف عليهما، فتأخذ منهما قريبًا مما ضمن لك عنهما. فسر المتوكل، وطمع فيما قال له عبيد الله، فقال: ادفعه إليهما؛ فانصرفا به؛ وأمرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزاّ، فوجد البرد، فقال: ويحك يا حسن! قد وجدت البرد؛ فأمر بوضع قلنسوته على رأسه، وصار به موسى إلى ديوان الخراج، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد، فأخذ أبو الفرج وهرب أبو محمد، ابن بنت حسن بن شنيف، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطربلي وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب - وكان انقطاعه إلى نجاح - فأقر لهما نجاح وابنه بنحو من مائة وأربعين ألف دينار سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما بسامرا وبغداد، وسوى ضياع لهما كثيرة، فأمر بفبض ذلك كله، وضرب مرارًا بالمقارع في غير موضع الضرب نحوًا من مائتي مقرعة، وغُمز وخُنق، خنقه موسى الفران والمعلوف. فأما الحارث فإنه قال: عصر خصيتيه حتى مات؛ فأصبح ميتًا يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فأمر بغسله ودفنه، فدفن ليلًا؛ وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد وإسحاق بن سعد نحوًا من خمسين خمسين، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار، وأقرّ عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار - وقيل عشرين ألف دينار. وكان ابنه أحمد ابن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح، فحبس في الديوان، وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما، وأخذ وكيله بناحية السواد؛ وهو ابن عياش، فأقر بعشرين ألف دينار. وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي وحسن بن يعقوب البغدادي، وأخذ بسببه قوم فحبسوا. وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه، ذكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان - وكان عبيد الله متمكنًا من المتوكل، وإليه الوزارة وعامة أعماله؛ وإلى نجاح توقيع العامة - فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري قال له نجاح - وكان في الندماء - يا أمير المؤمنين؛ أسمى لك قومًا تدفعهم إلي حتى أستخرج لك منهم أموالًا تبني بها مدينتك هذه؛ إنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره، ويجل ذكره. فقال له: سمّهم، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك وعيسى بن فرّخانشاه خليفة الحسن بن مخلد، والحسن بن مخلد وزيدان بن إبراهيم، خليفة موسى بن عبد الملك، وعبيد الله بن يحيى وأخويه: عبد الله بن يحيى وزكرياء، وميمون بن إبراهيم ومحمد بن موسى المنجم وأخاه أحمد بن موسى؛ وعلي بن يحيى بن أبي منصور وجعفرًا المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحوًا من عشرين رجلًا؛ فوقع ذلك من المتوكل موقعًا أعجبه، وقال له: اغد غدوةً، فلما أصبح لم يشك في ذلك. وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل، فقال له: يا أمير المؤمنين، أراد ألا يدع كاتبًا ولا قائدًا إلا أوقع بهم؛ فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين! وغدا نجاح؛ فأجلسه عبيد الله في مجلسه، ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إ دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما وأخذ ما تملكان؛ ولكن اكتبانّ إلى أمير المؤمنين رقعة تقبّلان به فيها بألفي دينار؛ فكتبا رقعة بخطوطهما، وأوصلها عبيد الله بن يحيى، وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ونجاح وموسى بن عبد الملك والسحن بن مخلد؛ فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن؛ ثم أدخلهما على المتوكل، فضمنا ذلك؛ وخرج معهما فدفعه إليهما جميعًا؛ والناس جميعًا الخواص والعوام؛ وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح؛ للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل، فأخذاه، وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا، وضربه دررًا وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد - وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الولد - أن يغرم واحدًا وخمسين ألف دينار، وحلّف على ذلك، وقال: إنه أخذ مني في أيام الواثق وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين دينارًا؛ حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفًا وزيادة ألف فضلًا كما أخذ فضلًا. فحبس ونجّم عليه في ثلاثة أنجم؛ ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد، فأغرم سبعة عشر ألف دينار. ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل - وكان أحد حجاب المتوكل - وعتاب ابن عتاب عن رسالة المتوكل أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤد ما وُصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك؛ فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت. وأمر موسى بن عبد الملك جعفرًا المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات. وأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتاه، فاحتالاه، فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج - وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد - وقبضا أمتعته كلها وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه؛ فكان المتوكل كثيرًا ما يقول لهما كلما شرب: ردّوا علي كاتبي؛ وإلا فهاتوا المال؛ وضمّ توقيع ديوان العامة إلى عبيد الله بن يحيى، فاستخلف عليه يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، ابن عمه، ومكث موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد على ذلك يطالبهما المتوكل بالأموال التي ضمناها من قبل نجاح؛ فما أتى على ذلك إلا يسيرًا حتى ركب موسى بن عبد الملك يشيع المنتصر من الجعفري. وهو يريد سامرا إلى منزله الذي ينزله بالجوسق؛ فبلغه معه ساعة، ثم انصرف راجعًا؛ فبينا هو يسير إذ صاح بمن معه: خذوني، فبدروه فسقط على أيديهم مفلوجًا، فحمل إلى منزله، فمكث يومه وليلته، ثم توفي، فصيّر على ديوان الخراج أيضًا عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فاستخلف عليه أحمد بن إسرائيل كاتب المعتز؛ وكان أيضًا خليفته على كتابة المعتز فقال القصافي: ما كان يخشى نجاحٌ صولة الزمن ** حتى أديل لموسى منه والحسن غدا على نعم الأحرار يسلبها ** فراح وهو سليب المال والبدن وفيها ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة، وأثقل بالحديد، وحبس في المطبق في رجب. غارة الروم على سميساط وفيها أغارت الروم على سميساط، فقتلوا وسبوا نحوًا من خمسمائة. وغزا علي بن يحيى الأرمني الصائفة ومنع أهل لؤلؤة رئيسهم من الصعود إليها ثلاثين يومًا، فبعث ملك الروم إليهم بطريقًا يضمن لكل رجل منهم ألف دينار، على أن يسلموا إليه لؤلؤة، فأصعدوه إليهم ثم أعطوا أرزاقهم الفائتة وما أرادوا، فسلموا لؤلوة والبطريق إلى بلكاجور في ذي الحجة؛ وكان البطريق الذي كان صاحب الروم وجهه إليهم يقال له لغثيط، فلما دفعه أهل لؤلؤة إلى بلكاجور. وقيل إن علي بن يحيى الأرمني حمله إلى المتوكل إلى الفتح بن خاقان، فعرض عليه الإسلام فأبى، فقالوا: نقتلك، فقال: أنتم أعلم؛ وكتب ملك الروم يبذل مكانه ألف رجل من المسلمين. وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام، وهو يعرف بالزيني؛ وهو والي مكة. وكان نيروز المتوكل الذي أرفق أهل الخراج بتأخيره إياه عنهم فيها يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، ولسبع عشرة ليلة خلت من حزيران ولثمان وعشرين من أرديوهشت ماه، فقال البحتري الطائي: إن يوم النيروز عاد إلى العه ** د الذي كان سنه أردشير ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فم ذلك غزو عمر بن عبد الله الأقطع الصائفة، فأخرج سبعة آلاف رأس. وغزوة قربياس، فأخرج خمسة آلاف رأس، وغزو الفضل بن قارن بحرًا في عشرين مركبًا؛ فافتتح حصن أنطاكية. وغزوة بلكاجور فغنم وسبى. وغزو علي بن يحيى الأرمني الصائفة، فأخرج خمسة آلاف رأس ومن الدواب والرمك والحمير نحوًا من عشرة آلاف. وفيها تحول المتوكل إلى المدينة التي بناها الماحوزة، فنزلها يوم عاشوراء من هذه السنة. ذكر خبر الفداء بين الروم والمسلمين في هذه السنة وفيها كان الفداء في صفر على يدي علي بن يحيى الأرمني، بألفين وثلثمائة وسبعة وستين نفسًا. وقال بعضهم: لم يتم الفداء في هذه السنة إلا في جمادى الأولى. وذكر عن نصر بن الأزهر الشيعي - وكان رسول المتوكل إلى ملك الروم في أمر الفداء - أنه قال: لما صرت إلى القسطنطينية حضرت دار ميخائيل الملك بسوادي وسيفي وخنجري وقلنسوتي، فجرت بيني وبين خال الملك بطرناس المناظرة - وهو القيّم بشأن الملك - وأبوا أن يدخلوني بسيفي وسوادي، فقلت: انصرف، فانصرفت فرددت من الطريق ومعي الهدايا نحو من ألف نافجة مسك وثيابٌ حريرٌ وزعفران كثير وطرائف؛ وقد كان أذن لوفود برجان وغيرهم ممن ورد عليه، وحّملت الهدايا التي معي، فدخلت عليه؛ فإذا هو على سرير فوق سرير، وإذا البطارقة حوله قيام، فسلمت ثم جلست على طرف السرير الكبير، وقد هيئ لي مجلس، ووضعت الهدايا بين يديه، وبين يديه ثلاثة تراجمة: غلام فراش كان لمسرور الخادم، وغلام لعباس بن سعيد الجوهري، وترجمان له قديم يقال له سرحون؛ فقالوا لي: ما نبلغه؟ قلت: لا تزيدون على ما أقول لكم شيئًا؛ فأقبلوا يترجمون ما أقول، فقبل الهدايا ولم يأمر لأحد منها بشيء، وقربني وأكرمني، وهيأ لي منزلًا بقربه؛ فخرجت فنزلت في منزلي، وأتاه أهل لؤلؤة برغبتهم في النصرانية، وأنهم معه، ووجهوا برجلين ممن فيها رهينة من المسلمين. قال: فتغافل عني نحوًا من أربعة أشهر؛ حتى أتاه كتاب مخالفة أهل لؤلؤة، وأخذهم رسله واستيلاء العرب عليها؛ فراجعوا مخاطبتي، وانقطع الأمر بيني وبينهم في الفداء؛ على أن يعطوا جميع من عندهم وأعطي جميع من عندي؛ وكانوا أكثر من ألف قليلًا؛ وكان جميع الأسرى الذين في أيديهم أكثر من ألفين؛ منهم عشرون امرأة؛ معهن عشرة من الصبيان، فأجابوني إلى المخالفة؛ فاستحلفت خاله، فحلف عن ميخائيل، فقلت: أيها الملك قد حلف لي خالك؛ فهذه اليمين لازمة لك؟ فقال برأسه: نعم، ولم أسمعه يتكلم بكلمة مذ دخلت بلاد الروم إلى أن خرجت منها، إنما يقول الترجمان وهو يسمع، فيقول برأسه: نعم أو لا، وليس يتكلم وخاله المدبر أمره، ثم خرجت من عنده بالأسرى بأحسن حال؛ حتى إذا جئنا موضع الفداء أطلقنا هؤلاء جملة وهؤلاء جملة؛ وكان عداد من صار في أيدينا من المسلمين أكثر من ألفين منهم عدة ممن كان تنصر وصار في أيديهم أكثر من ألف قليلًا؛ وكان قوم تنصروا؛ فقال لهم ملك الروم: لا أقبل منكم حتى تبلغوا موضع الفداء، فمن أراد أن أقبله في النصرانية فليرجع من موضع الفداء؛ وإلا فليضمن ويمض مع أصحابه؛ وأكثر من تنصر أهل المغرب، وأكثر من تنصر بالقسطنطينية؛ وكان هنالك صائغان قد تنصرا، فكانا يحسنان إلى الأسرى؛ فلم يبق في بلاد الروم من المسلمين ممن ظهر عليه الملك إلا سبعة نفر، خمسة أتى بهم من سلقية، أعطيت فداءهم على أن يوجه بهم سلقية، ورجلان كانا من رهائن لؤلؤة، فتركتهما، " و " قلت: اقتلوهما، فإنهما رغبا في النصرانية. ومطر أهل بغداد في هذه السنة واحدًا وعشرين يومًا في شعبان ورمضان؛ حتى نبت العشب فوق الأجاجير. وصلى المتوكل فيها صلاة الفطر بالجعفرية، وصلى عبد الصمد بن موسى في مسجد جامعها، ولم يصل بسامرا أحد. وورد فيها الخبر أن سكة بناحية بلخ تنسب إلى الدهاقين مطرت دمًا عبيطًا. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي. وحج فيها محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فولى أعمال الموسم. وضحى أهل سامرا فيها يوم الاثنين على الرؤية وأهل مكة يوم الثلاثاء. ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الخبر عن مقتل المتوكل فما كان فيها من ذلك مقتل المتوكل. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف قتل قال أبو جعفر: ذكر لي أن سبب ذلك كان أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعهما الفتح بن خاقان؛ فكتبت الكتب بذلك، وصارت إلى الخاتم على أن تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان فبلغ ذلك وصيفًا، واستقر عنده الذي أمر به في أمره؛ وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه؛ وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يصلي في آخر جمعة من الشهر بالناس، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا هو ركب. فلما كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس قد اجتمعوا وكثروا؛ من أهل بيتك وغيرهم؛ وبعض متظلم وبعض طالب حاجة؛ وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه جميعًا فليفعل. فقال: قد رأيت ما رأيتما؛ فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض المنتصر ليركب للصلاة قالا: يا أمير المؤمنين؛ قد رأينا رأيًا؛ وأمير المؤمنين أعلى عينًا، قال: وما هو؟ اعرضاه علي، قالا: يا أمير المؤمنين، مر أبا عبد الله المعتز بالله الصلاة لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف؛ فقد اجتمع أهل بيته؛ والناس جميعًا فقد بلغ الله به. قال: وقد كان ولد للمعتز قبل ذلك بيوم؛ فأمر المعتز، فركب وصلى بالناس، فأقام المنتصر في منزله - وكان بالجعفرية - وكان ذلك مما زاد في إغرائه؛ فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان، فقبلا يديه ورجليه، وفرغ المعتز من الصلاة، فانصرف وانصرفا معه؛ ومعهم الناس في موكب الخلافة، والعالم بين يديه؛ حتى دخل على أبيه وهما معه؛ ودخل معه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، فقال داود: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فأتكلم، قال: قل، والله يا أمير المؤمنين؛ لقد رأيت الأمين والمأمون ورأيت المعتصم صلوات الله عليهم، ورأيت الواثق بالله؛ فوالله ما رأيت رجلًا على منبر أحسن قوامًا، ولا أحسن بديهًا، ولا أجهر صوتًا، ولا أعذب لسانًا، ولا أخطب من المعتز بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيرًا، وأمتعنا بك؛ فلما كان يوم الأحد؛ وذلك يوم الفطر وجد المتوكل فترة، فقال: مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين؛ قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين؛ ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجف الناس بعلته، ويتكلموا في أمره؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل. فأمرهم بالتأهب والتهيؤ لركوبه؛ فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه. وذكر أنه ركب يوم الفطر؛ وقد ضربت له المصاف نحوًا من أربعة أميال، وترجل بين يديه، فصلى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حفنةً من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عز وجل؛ فلما كان من غد يوم الفطر لم يدع بأحد من ندمائه؛ فلما كان يوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال - أصبح نشيطًا فرحًا مسرورًا، فقال: كأني أجد مس الدم، فقال الطيفوري وابن الأبرش - وهما طبيباه: يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير؛ افعل، ففعل؛ واشتهى لحم جزور، فأمر به فأحضر بين يديه، فاتخذه بيده. وذكر عن ابن الحفصي المغني أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصي: وما كان أحدٌ ممن يأكل " بين يديه " حاضرًا غيري وغير عثعث وزنام وبنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ؛ فإنه جاء مع المتنصر. قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معًا، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم؛ لم يدع بأحد منهم بعد. قال ابن الحفصي: فالتفت إلي أمير المؤمنين، فقال: كل أنت وعثعث بين يدي. ويأكل معكما نصر بن سعيد الجهبذ؛ قال: فقلت: يا سيدي، نصر والله يأكلني، فكيف ما يوضع بين أيدينا! فقال: كلوا بحياتي؛ فأكلنا ثم علقنا أيدينا بحذائه. قال: فالتفت أمير المؤمنين التفاتةً، فنظر إلينا معلقي الأيدي، فقال: مالكم لا تأكلون؟ قلت: يا سيدي، قد نفذ ما بين أيدينا؛ فأمر أن يزاد، فغرف لنا من بين يديه. قال ابن الحفصي: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم. قال: وأخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين فحضروا، وأهدت إليه قبيحة أم المعتز مطرف خز أخضر؛ لم ير الناس مثله حسنًا، فنظر إليه فأطال النظر، فاستحسنه وكثر تعجبه منه، وأمر به فقطع نصفين، وأمر برده عليها، ثم قال لرسولها: أذكرتني به، ثم قال: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي، وإنما أمرت بشقه لئلا يلبسه أحد بعدي، فقلنا له: يا سيدنا، هذا يوم سرور يا أمير المؤمنين نعيذك بالله أن تقول هذا يا سيدنا، قال: وأخذ في الشراب واللهو، ولهج بأن يقول: أنا والله مفارفكم عن قليل، قال: فلم يزل في لهوه وسروره إلى الليل. وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يصيرا غداءهما عند عبد الله بن عمر البازيار يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال؛ على أن يفتك بالمنتصر؛ ويقتل وصيفًا وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم؛ فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم - فيما ذكر ابن الحفصي - بابنه المنتصر مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرةً يتهدده بالقتل. فذكر عن هارون بن محمد بن سليمان الهاشمي أنه قال: حدثني بعض من كان في الستارة من النساء، أنه التفت إلى الفتح، فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله ﷺ إن لم تلطمه - يعني المنتصر - فقام الفتح ولطمه مرتين؛ يمر يده على قفاه، ثم قال المتوكل لمن حضر: اشهدوا جميعًا أني قد خلعت المستعجل - المنتصر - ثم التفت إليه، فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس لحمقك المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي، فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وأمر بنانًا غلام أحمد بن يحيى أن يلحقه، فلما خرج وضعت المائدة بين يدي المتوكل، وجعل يأكلها ويلقم وهو سكران. وذكر عن ابن الحفصي أن المنتصر لما خرج إلى حجرته أخذ بيد زرافة، فقال له: امض معي، فقال: يا سيدي؛ إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال: إن أمير المؤمنين قد أخذه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء؛ وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إلي، فإن أوتامش سألني أن أزوج ابنه من ابنتك، وابنك من ابنته، فقال له زرافة، نحن عبيدك يا سيدي، فمرنا بأمرك. وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه. قال: وكان زرافة قد قال لي قبل ذلك: ارفق بنفسك، فإن أمير المؤمنين سكران والساعة يفيق، وقد دعاني تمرة، وسألني أن أسألك أن تصير إليه فنصير جميعًا إلى حجرته. قال: فقلت له: أنا أتقدمك إليه، قال ومضى زرافة مع المنتصر إلى حجرته. فذكر بنان غلام أحمد بن يحيى أن المنتصر قال له: قد أملكت ابن زرافة من ابنة أوتامش وابن أوتامش من ابنة زرافة؟ قال بنان: فقلت للمنتصر: يا سيدي، فأين النثار فهو يحسن الإملاك؟ فقال: غدًا إن شاء الله؛ فإن الليل قد مضى. قال: وانصرف زرافة إلى حجرة تمرة، فلما دخل دعا بالطعام فأتي يه، فما أكل إلا أيسر ذلك حتى سمعنا الضجة والصراخ؛ فقمنا، فقال بنان: فما هو إلا أن خرج زرافة من منزل تمرة؛ إذا بغا استقبل المنتصر، فقال المنتصر: ما هذه الضجة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول، ويلك! قال: أعظم الله أجرك في سيدنا أمير المؤمنين! كان عبدًا لله دعاه فأجابه، قال: فجلس المنتصر؛ وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل والمجلس، فأغلق وأغلقت الأبواب كلها، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل. وذكر عن عثعث أنّ المتوكل دعا بالمائدة بعد قيام المنتصر وخروجه ومعه زرافة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائمًا عند الستر؛ وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير في الدار؛ وكان خليفته في الدار ابنه مسعود - وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل، وبغا الكبير يومئذ بسميساط - فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع، فقال له بغا: إن أمير المؤمنين أمرني إذا جاوز السبعة ألا أترك في المجلس أحدًا، وقد شرب أربعة عشر رطلًا، فكره الفتح قيامهم، فقال له بغا: إن حرم أمير المؤمنين خلف الستارة، وقد سكر، فقوموا جميعًا، فلم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة؛ منهم شفيع وفرج الصغير ومؤنس وأبو عيسى مارد المحرزي. قال: ووضع الطباخ المائدة بيت يدي المتوكل، فجعل يأكل ويلفم، ويقول لمارد: كل معي حتى أكل بعض طعامه وهو سكران، ثم شرب أيضًا بعد ذلك. فذكر عثعث أن أبا أحمد بن المتوكل أخا المؤيد لأمه - كان معهم في المجلس فقال إلى الخلاء، وقد كان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها غير باب الشط، ومنه دخل القوم الذي عينوا لقتله، فبصر بهم أبو أحمد، فصاح بهم: ما هذا يا سفل! وإذا بسيوف مسللة، قال: وقد كان تقدم النفر الذين تولوا قتله بغلو التركي وباغر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي؛ فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه، فرأى القوم، فقال: يا بغا، ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة التي تبيت على باب سيدي أمير المؤمنين، فرجع القوم ورائهم عند كلام المتوكل لبغا؛ ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم بعد. قال عثعث: فسمعت بغا يقول لهم: يا سفل، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كرامًا؛ فرجع القوم إلى المجلس، فابتدره بغلون فضربه ضربةً على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلًا قطع الله يدك! ثم قام وأراد الوثوب به، فاستقبله بيده فأبانها، وشركه باغر، فقال الفتح: ويلكم، أمير المؤمنين! فقال بغا: يا تسكت! فرمى الفتح بنفسه على المتوكل، فبجعه هارون بسيفه، فصاح: الموت! واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما، فقتلاه وقطعاه، وأصابت عثعث ضربة في رأسه. وكان مع المتوكل خادم صغير، فدخل تحت الستارة، فنجا، وتهارب الباقون. قال: وقد كانوا قالوا لوصيف في وقت ما جاءوا إليه: كن معنا فإنا نتخوف ألا يتم ما نريد فنقتل، فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: فأرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحًا، وأحمد، وعبد الله، ونصرًا، وعبيد الله؛ حتى صاروا إلى ما أرادوا. وذكر عن زرقان خليفة زرافة على البوابين وغيرهم أن المنتصر لما أخذ بيد زرافة فأخرجه من الدار ودخل القوم، نظر إليهم عثعث، فقال المتوكل: قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب، وصرنا إلى السيوف؛ وذلك أنه كان ربما أشلى الحية والعقرب أو الأسد؛ فلما ذكر عثعث السيوف، قال له: ويلك! أي شئ تقول؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه، فقام الفتح في وجوههم، فقال لهم: يا كلاب؛ وراءكم وراءكم! فبدر إليه بغا الشرابي، فبعج بطنه بالسيف، وبدر الباقون إلى المتوكل، وهرب عثعث على وجهه. وكان أبو أحمد في حجرته، فلما سمع الضجة خرج فوقع على أبيه، فبادره بغلون فضربه ضربتين؛ فلما رأى السيوف تأخذه خرج وتركهم، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا على رأس زراقة بالسيوف، فقالوا له: بايع، فبايعه. وأرسل المنتصر إلى وصيف: إن الفتح قتل أبي، فقتله، فاحضر في وجوه أصحابك. فحضر وصيف وأصحابه فبايعوا. قال: وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم ينفذ الأمور. وقد ذكر أن امرأة من نساء الأتراك ألقت رقعة تخبر ما عزم عليه القوم. فوصلت الرقعة إلى عبيد الله، فشاور الفتح فيها؛ وكان ذلك وقع إلى أبي نوح عيسى بن إبراهيم كاتب الفتح بن خاقان، فأنهاه إلى الفتح، فاتفق رأيهم على كتمان المتوكل لما رأوا من سروره؛ فكرهوا أن ينغصوا عليه يومه؛ وهان عليهم أمر القوم، وثقوا بأن ذلك لا يجسر عليه أحد ولا يقدر. فذكر أن أبا نوح احتال في الهرب من ليلته، وعبيد الله جالس في عمله ينفذ الأمور، وبين يديه جعفر بن حامد، إذا طلع عليه بعض الخدم، فقال: يا سيدي، ما يجلسك؟ قال: وما ذاك! قال: الدار سيف واحد، فأمر جعفرًا بالخروج، فخرج وعاد؛ فأخبره أن أمير المؤمنين والفتح قد قتلا فخرج فيمن معه من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، فأخذ نحو الشط، فإذا أبوابه أيضًا مغلقة، فأمر بكسر ما كان مما يلي الشط، فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشط، فصار إلى زورق، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد، وغلام له، فصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يصادفه؛ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قتلني وقتل نفسه، وتلهف عليه، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأباء والعجم والأرمن والزواقيل والأعراب والصعاليك وغيرهم " وقد اختلف في عدتهم " فقال بعضهم: كانوا زهاء عشرين ألف فارس وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف رجل، وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف لجام، وقال المقللون: ما بين الخمسة آلاف إلى العشرة آلاف؛ فقالوا له إنما كنت تصطنعنا لهذا اليوم، فأمر بأمرك، وأذن لنا نمل على القوم ميلة؛ نقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم. فأبى ذلك وقال: ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم - يعني المعتز. وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتابًا من كتب الملاحم، فوقفت على موضع من الكتاب فيه: إن الخليفة العاشر يقتل في مجلسه، فتوقف عن قراءته وقطعته، فقال لي: ما لك قد وقفت! قلت: خير، قال: لا بد والله من أن تقرأه، فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء؛ فقال المتوكل: ليت شعري من هذا الشقي المقتول! وذكر عن سلمة بن سعيد النصراني أن المتوكل رأى أشوط بن حمزة الأرمني قبل قتله بأيام، فتأفف برؤيته، وأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين؛ أليس قد كنت تحب خدمته؟ قال: بلى، ولكن رأيت في المام منذ ليال كأني قد ركبته، فالتفت إلي وقد صار رأسه مثل رأس البغل، فقال لي: إلي كم تؤذينا! إنما بقى من أجلك تمام خمسة عشر سنة غير أيام. قال: فكان بعدد أيام خلافته. وذكر عن أبي ربعي أنه قال: رأيت في منامي كأن رجلًا دخل من باب الرستن على عجلة ووجهه إلى الصحراء وقفاه إلى المدينة وهو ينشد: يا عين ويلك فاهملي ** بالدمع سحا واسبلي دلت على قرب القيا ** مة قتلة المتوكل وذكر أن حبشي بن أبي ربعي مات قبل قتل المتوكل بسنتين. وذكر عن محمد بن سعيد، قال: قال أبو الوارث قاضي نصيبين: رأيت في النوم آتيًا أتاني، وهو يقول: يا نائم العين في جثمان يقظان ** ما بال عينك لا تبكي بتهتان! أما رأيت صروف الدهر ما فعلت ** بالهاشمي وبالفتح بن خاقان! وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا ** حتى يصيروا كأمس الذاهب الفاني فأتى البريد بعد أيام بقتلهما جميعًا. قال أبو جعفر: وقتل ليلة الأربعاء بعد العتمة بساعة لأربع خلون من شوال - وقيل: بل قتل ليلة الخميس - فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام. وقتل يوم قتل وهو - فيما قيل - ابن أربعين سنة؛ وكان ولد بفم الصلح في شوال من سنة ست ومائتين. وكان أسمر حسن العينين خفيف العارضين نحيفًا. ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته ذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعرًا، وذكرت الرافضة فيه، فقعد لي على البحرين واليمامة، وخلع على أربع خلع في دار العامة، وخلع على المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعدًا الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئًا؛ فجمعاها، فانصرفت بها. قال: والشعر الذي قال فيه: ملك الخليفة جعفر ** للدين والدنيا سلامة لكم تراث محمدٍ ** وبعدلكم تنفى الظلامه يرجو التراث بنو البنا ** ت وما لهم فيها قلامه والصهر ليس بوارث ** والبنت لا ترث الإمامة ما للذين تنحلوا ** ميراثكم إلا الندامه أخذ الوارثة أهلها ** فغلام لومكم علامه! لو كان حقكم لما ** قامت على الناس القيامة ليس التراث لغيركم ** لا والإله ولا كرامه أصبحت بين محبكم ** والمبغضين لكم علامه ثم نشر على رأسي - بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى - عشرة آلاف درهم وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة - مدحت فيها ابن أبي داود - إلى ابن أبي داود، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما: وقيل لي الزيات لاقى حمامه ** فقلت أتاني الله بالفتح والنصر لقد حفر الزيات بالغدر حفرة ** فألقى فيها بالخيانة والغدر قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن داود ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هما باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين. قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال: ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامرا، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها: رحل الشباب وليته لم يرحل ** والشيب حل وليته لم يحلل فلما صار إلى هذين البيتين من القصيدة: كانت خلافة جعفر كنبوة ** جاءت بلا طلبٍ ولا بتنحل وهب الإله له الخلافة مثل ما ** وهب النبوة للنبي المرسل أمر له بخمسين ألف درهم. وذكر عن أبي يحيى بن مروا بن محمد الشني الكلبي، قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب، قال: لما صرت إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله مدحت ولاه العهود، وأنشدته: سقى الله نجدًا والسلام على نجد ** ويا حبذا نجدٌ على النأي والبعدا نظرت إلى نجدٍ وبغداد دونها ** لعلي أرى نجدًا وهيهات من نجد! ونجدُ بها قومٌ هواهم زيارتي ** ولا شئ أحلى من زيارتهم عندي قال: فلما استتمت إنشادها، أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوبًا وثلاثة من الظهر: فرس وبغلة وحمار، فما برحت حتى قلت في شكره: تخير رب الناس جعفرًا ** فملكه أمر العباد تخيرا قال: فلما صرت إلى هذا البيت: فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ** فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا قال: لا والله، لا أمسك حتى أعرفك بجودي، ولا برحت حتى تسأل حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها باليمامة؛ ذكر ابن المدير أهذا وقف من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها. قال: فإني أقبّلكما في السنة مائة سنة قلت: لا يحسن يا أمير المؤمنين أن يؤدّي درهم في الديوان، قال: فقال ابن المدبر: ليس هذه حاجة، هذه قبالة، قلت: فضياعي التي كانت لي كان الواثق أمر بإقطاعي إياها، فنفاني ابن الزيات، وحال بيني وبينها، فتنفذها لي. فأمر بإنفاذها بمائة درهم في السنة وهي السيوح. وذكر عن أبي حشيشة أنه كان يقول: كان المأمون يقول: إن الخليفة بعدي في اسمه عين، فكان يظن أنه العباس ابنه فكان المعتصم، وكان يقول: وبعده هاء، فيظنّ أنه هارون، فكان الواثق؛ وكان يقول: وبعده أصفر الساقين؛ فكان يظن أنه أبو الحنائز العباس فكان المتوكل ذلك، فلقد رأيته إذا جلس على السرير يكشف ساقيه؛ فكانا أصفرين؛ كأنما صبغا بزعفران. وذكر عن يحيى بن أكثم، أنه قال: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون وكتبه إلى الحسن بن سهل، فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته ونباهته قولًا كثيرًا؛ لم يقع بموافقة بعض من حضر؛ فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ قلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع سنة الرسول ﷺ وحشة إلى فعل أحد؛ ولا مع البيان والإفهام حجّة لتعلّم، ولا بعد الجحود للبرهان والحقّ إلا السيف لظهور الحجة. فقال له المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه من هذا المعنى، قال له يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة، قال: فما كان يقول خلال حديثه؛ فإن المعتصم بالله يرحمه الله كان يقوله، وقد أنسيته؟ فقال: كان يقول: اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها أحدٌ غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك. قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئًا أوبشّر بشيء، فقد كان المعتصم بالله أمر علي بن يزداد أن يكتبه لنا؛ فكتبه فعلّمناه ثم أنسيناه؟ قال: كان يقول: إنّ ذكر آلاء الله ونشرها نعمه والحديث بها فرض من الله على أهلها، وطاعة لأمره فيها، وشكرٌ له عليها؛ فالحمد الله العظيم الآلاء، السابغ النعماء بما هو أهله، ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا، ولا يحيط به ذكرنا، من ترداف مننه، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه. فقال المتوكل: صدقت، هذا هو الكلام بعينه، وهذا كلّه حكم من ذي حنكة وعلم؛ وانقضى المجلس. وقدم في هذه السنة محمد بن عبد الله بن طاهر بغداد منصرفًا من مكة في صفر؛ فشكا ما ناله من الغمّ بما وقع من الخلاف في يوم النحر؛ فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأن يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم، وأمر أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشمع مكان الّزيت والنفط. وفيها ماتتّ أم المتوكل بالجعفرية لستّ خلون من شهر ربيع الآخر وصلّى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع. خلافة المنتصر محمد بن جعفر وفيها بويع المنتصر محمد بن جعفر بالخلافة في يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال - وقيل لثلاث خلون منه - وهو ابن خمس وعشرين سنة. وكنيته أبو جعفر بالجعفرية، فأقام بها بعد ما بويع له عشرة أيام، ثم تحّل منه بعياله وقوّاده وجنوده إلى سامرّا. وكان قد بايعه ليلة الأربعاء الذين ذكرناهم قبل، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لمّا كان صبيحة يوم الأربعاء، حضر الناس الجعفريّة من القواد والكتّاب والوجوه والشاكريّة والجند وغيرهم؛ فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابًا يخبر فيه عن أمير المؤمنين المنتصر؛ أن الفتح بن خاقان قتل أباه جعفرًا المتوكل، فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف. وذكر عن أبي عثمان سعيد الضغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدار مع المنتصر؛ فكان كلّما خرج الفتح خرج معه، وكلّما رجع قام لقيامه وجلس لجلوسه، وخرج في أثره؛ وكلّما ركب أخذ بركابه، وسوّى عليه ثيابه في سرج دابته؛ وكان اتّصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعدّ له قومًا في طريقه ليغتالوه عند انصرافه؛ وقد كان المتوكل أسمعه وأحفظه قبل إنصرافه، ووثب به؛ فانصرف على غضب، وانصرفنا معه، فلّما صار إلى داره أرسل إلى ندمائه وخاصّته - وقد كان واعد الأتراك على قتل المتوكل قبل انصرافه إذا ثمل من النبيذ - قال: فلم ألبث أن جاءني الرسول: أن احضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير؛ وهو على الركوبح فوقع في نفسي ما كان دار بيننا أنهم على اغتيال المنتصر؛ وأنه إنما يدعي لذلك؛ فركبت في سلاح وعدّة، وصرت إلى باب الأمير، فإذا هم يموجون؛ وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنه قد فرغ من أمره، فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب؛ فرأى ما بي، فقال: ليس عليك! إنّ أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه بعد انصرافنا، فمات رحمه الله. فأكبرت ذلك، وشقّ علي ومضينا وأحمد بن الخصيب وجماعة من القواد معنا حتى دخلنا الحير، وتتابعت الأخبار بقتل المتوكل، فأخذت الأبواب، ووكّل بها، وقلت: يا أمير المؤمنين، وسلّمت عليه بالخلافة، وقلت: لا ينبغي أن نفارقك لموضع الشفقة عليك من مواليك في هذا الوقت، قال: أجل؛ فكن أنت من ورائي وسليمان الرومي. وألقى منديلٌ، فجلس عليهن وأحطنا به، وحضر أحمد بن الخصيب وكاتبه سعيد بن حميد لأخذ البيعة. فذكر عن سعيد بن حميد أن أحمد بن الخصيب، قال له: ويلك يا سعيد! معك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة، قلت: نعم؛ وكلمات. وعملت كتاب البيعة، وأخذتها على من حضر وكلّ من جاء حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله إلى المؤيد، وقال لسعيد الصغير: امض أنت إلى المعتزّ حتى تحضره، قال سعيد الصغير: فقلت: أما ما دمت يا أمير المؤمنين في قلة ممن معك فلا أبرح والله من وراء ظهرك؛ حتى يجتمع الناس. قال أحمد بن الخطيب: ها هنا من يكفيك، فامض؛ فقلت: لا أمضي حتى يجتمع من يكفي؛ فإني الساعة أولى به منك! فلما كثر القواد، وبايعوا، ومضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان؛ فلما صرت إلى باب أبي نوح، والناس يموجون ويذهبون ويحيئون؛ وإذا على الباب جمع كبير في سلاح وعدة، فلما أحسوا بي لحقني فارس منهم؛ فسألني وهو لا يعرفني: من أنت؟ فعميت عليه خبري، وأخبرته أني من بعض أصحاب الفتح، ومضيت حتى صرت إلى باب المعتز، فلم أجد به أحدًا من الحرس والبوابين والمكبرين ولا خلقًا من خلق الله حتى صرت إلى الباب الكبير، فدققته دقًا عنيفًا مفرطًا، فأجبت بعد مدة طويلة، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: سعيد الصغير؛ رسول أمير المؤمنين المنتصر؛ فمضى الرسول، وأبطأ علي: وأحسست بالمنكر وضاقت علي الأرض. ثم فتح الباب فإذا ببيدون الخادم قد خرج؛ وقال لي: ادخل وأغلق الباب دوني، فقلت: ذهبت والله نفسي، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن أمير المؤمنين شرق بكأس شربها ومات من ساعته؛ وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر، وأنه أرسلني إلى الأمير أبي عبد الله المعتز بالله ليحضر البيعة. فدخل ثم خرج إلي؛ فقال: ادخل، فدخلت على المعتز؛ فقال لي: ويلك يا سعيد! ما الخبر؟ فأخبرته بمثل ما أخبرت به بيدون، وعزيته وبكيت، وقلت: تحضر يا سيدي، وتكون في أوائل من بايع، فتستدعي بذلك قلب أخيك، فقال لي: ويلك حتى نصبح! فما زلت أفتله في الحبل والغارب؛ ويعينني عليه بيدون الخادم حتى تهيأ للصلاة، ودعا بثيابه فلبسها، وأخرج له دابة، وركب وركبت معه، وأخذت طريقًا غير طريق الجادة، وجعلت أحدثه وأسهل الأمر عليه، وأذكره أشياء يعرفها من أخيه، حتى إذا صرنا إلى باب عبيد الله بن يحيى بن خاقان سألني عنه، فقلت هو يأخذ البيعة على الناس، والفتح قد بايع، فيئس حينئذ؛ وإذا بفارس قد لحق بنا؛ وصار إلى بيدون الخادم، فساره بشيء لا أعلمه؛ فصاح به بيدون؛ فمضى ثم رجع ثلاثًا؛ كل ذلك يرده بيدون ويصيح به: دعنا؛ حتى وافينا باب الخير فاستفتحه فقيل له؛ من أنت؟ قلت: سعيد الصغير والأمير المعتز، ففتح لي الباب، وصرنا إلى المنتصر؛ فلما رآه قربه وعانقه وعزاه، وأخذ البيعة عليه؛ ثم وافى المؤيد مع سعيد الكبير ففعل به مثل ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري. فأمر بدفن المتوكل والفتح وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار؛ حتى وهب لي عشرة آلاف درهم. به مثل ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري. فأمر بدفن المتوكل والفتح وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار؛ حتى وهب لي عشرة آلاف درهم. وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر خلعهما في القصر الجعفري المحدث. وكانت نسخة البيعة التي أخذت للمنتصر: بسم الله الرحمن الرحيم، تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم؛ لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرّي عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة الله وتقواه، وإعزاز دين الله وحقه، ومن عموم صلاح عباد الله، واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمنن العواقب، وعزّ الأولياء، وقمع الملحدين؛ على أن محمدًا الإمام المنتصر بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ومناصحته والوفاء بحقه وعقده، لا تشكوّن ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون؛ وعلى السمع له، والطاعة والمسالمة، والنّصرة والوفاء والاستقامة، والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كلّ كل ما يأمر به عبد الله الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين؛ وعلى أنّكم أولياء أوليائه، وأعداء أعدائه؛ من خاصٍ وعامً، وأبعد وأقرب، وتتمسكون ببيعته بوفاء العقد، وذمّة العهد؛ سرائركم في ذلك مثل علانيتكم، وضمائركم مثل ألسنتكم؛ راضين بما يرضاه لكم أمير المؤمنين في عاجلكم وآجلكم. وعلى إعطائكم أمير المؤمنين بعد تجديد بيعته هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم؛ صفقة أيمانكم، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم؛ وعلى ألّا تسعوا في نقض شيء مما أكد الله عليكم، وعلى ألّا يميل بكم مميل في ذلك عن نصرة وإخلاص، ونصح وموالاة، وعلى ألّا تبدذلوا، ولا يرجع منكم راجع عن نيّته، وانطوائه إلى غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتم بها ألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتنابها واعتقادها، وعلى الوفاء بذمتّه بها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم دغل ولا إدهان ولا احتيال ولا تأوّل؛ حتى تلقوا الله، موفين بعهده، ومؤدّين حقّه عليكم، غير مستشرفين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين إنما يبايعون الله؛ يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا. عليكم بذلك وبما أكّدت هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم؛ وبما اشترط عليكم بها من وفاء ونصر، وموالاة واجتهاد ونصح؛ وعليكم عهد الله؛ إنّ عهده كان مسئولًا؛ وذمّة رسوله. وأشدّ ما أخذ على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من متأكّد وثائقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة، ولا تبدلوا، وأن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تخلصوا ولا ترتابوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم عليه تمسّك أهل الطاعة بطاعتهم وذوي العهد والوفاء بوفائهم وحقهم؛ لا يلفتكم عن ذلك هوىً ولا مميل، ولا يزيغ بكم فيه ضلال عن هدىً؛ باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدّمين فيه حقّ الدين والطاعة بما جعلتم على أنفسكم؛ لا يقبل الله في هذه البيعة إلا الوفاء بها. فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين هذه البيعة عما أكدّ عليه مسرًّا أو معلنًا، أو مصرّحًا أو محتالًا؛ فادّهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذت به مواثيق أمير المؤمنين، وعهود الله عليه؛ مستعملًا في ذلك الهوينى دون الجدّ، والركون إلى الباطل دون نصرة الحق، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الوفاء منهم بعهودهم؛ فكلّ ما يملك كلّ واحد ممن خان في ذلك بشيء نقض عهده من مال أو عقار أو سائمة، أو زرع أو ضرع صدقةٌ على المساكين في وجوه سبيل الله، محرمٌ عليه أن يرجع شيء من ذلك إلى ماله عن حيلة يقدّمها لنفسه، أو يحتال بها. وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقلّ خطرها أو يجلّ قدرها، فتلك سبيله إلى أن توافيه منيّتهن، ويأتي عليه أجله؛ وكلّ مملوك يملكه اليوم إلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى أحرار لوجه الله؛ ونساؤه في يوم يلزمه الحنث، ومن يتزوجه بعدهنّ إلى ثلاثين سنة طوالق البتة طلاق الحرج والسنة؛ لا مثنويّة فيه ولا رجعة. وعليه المشي إلى بيت الله الحرام ورسوله منه بريئان؛ ولا قبل الله منه صرفًا ولا عدلًا؛ والله عليكم بذلك شهيد، وكفى بالله شهيدًا. وذكر أنه لمّا صبيحة اليوم الذي بويع فيه المنتصر شاع الخبر في الماحوزة - وهي المدينة التي كان جعفر بناها في أهل سامرًّا - بقتل جعفر، وتوافى الجند والشاكريّة بباب العامة بالجعفريذ وغيرهم من الغوغاء والعوامّ، وكثر الناس وتسامعوا، وركب بعضهم بعضًا، وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتّاب بن عتّاب - وقيل: إنّ الذي خرج إليهم زرافة - فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون فأسمعوه؛ فدخل إلى المنتصر فأخبره؛ فخرج وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم: يا كلاب! خذوهم؛ فحملوا على الناس فدفعوهم إلى الثلاثة الأبواب، فازدحم الناس ووقع بعضهم على بعض؛ ثم تفرّقوا عن عدّة ومنهم من قال: كانوا ما بين الثلاثة إلى الستة. وفيها ولّى المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد - مولى بن هاشم، بعد البيعة له بيوم - المظالم، فقال قائل: يا ضيعة الإسلام لمّا ولى ** مظالم الناس أبو عمره صيّر مأمونًا على أمةٍ ** وليس مأمونًا على بعره وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر علي بن المعتصم من سامرّا إلى بغداد ووكل به. وحجّ بالناس فيها محمد بن سليمان الزينبي. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر غزاة وصيف التركي الروم فمن ذلك ما كان من إغزاء المنتصر وصيفًا التركي صائفة أرض الروم. ذكر الخبر عن سبب ذلك وما كان في ذلك من وصيف ذكر أنّ السبب في ذلك أنه كان بين أحمد بن الخصيب ووصيف شحناء وتباغض؛ فلمّا استخلف المنتصر، وابن الخصيب وزيره، حرّض أحمد بن الخصيب المنتصر على وصيف، وأشار عليه بإخراجه من عسكره غازيًا إلى الثغر؛ فلم يزل به حتى أحضره المنتصر، فأمره بالغزو. وقد ذكر عن المنتصر أنه لمّا عزم على أن يغزي وصيفًا الثغر الشأمي، قال له أحمد بن الخصيب: ومن يجترئ على الموالي حتى تأمر وصيفًا بالشخوص! فقال المنتصر لبعض من الحجبة: ائذن لمن حضر الدار؛ فأذن لهم وفيهم وصيف، فأقبل عليه فقال له: يا وصيف، أتانا عن طاغية الروم أنه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن الإمساك عنه! فإما شخصت وإما شخصت؛ فقال وصيف: بل أشخص يا أمير المؤمنين، قال: يا أحمد؛ انظر ما يحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: ما تعم! قم الساعة لذلك؛ يا وصيف مركاتبك يوافقه على ما يحتاج إليه، ويلزمه حتى يزيح علتك فيه. فقام أحمد بن الخصيب، وقام وصيف، فلم يزل في جهازه حتى خرج، فما أفلح ولا أنجح. وذكر أن المنتصر لما أحضر وصيفًا وأمره بالغزو، قال له، إن الطاغية - يعني ملك الروم - قد تحرك، ولست آمنة أن يهلك كل ما يمر به من بلاد الإسلام، ويقتل ويسبى الذراري؛ فإذا غزوت وأردت الرجعة انصرفت إلى باب أمير المؤمنين من فورك. وأمر جماعة من القواد وغيرهم بالخروج معه وانتخب له الرجال؛ فكان معه من الشاكرية والجند والموالي زهاء عشرة آلاف رجل؛ فكان على مقدمته في بدأته مزاحم بن خاقان؛ أخو الفتح بن خاقان؛ وعلى الساقة محمد بن رجاء، وعلى الميمنة السندي بن بختاشة، وعلى الدراجة نصر بن سعيد المغربي؛ واستعمل على الناس والعسكر أبا عون خليفته؛ وكان على الشرطة بسامرا. وكتب المنتصر عند إغزائه وصيفًا مولاه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتابًا نسخته: بسم الرحمن الرحيم: من عبد الله محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين. سلام عليك؛ فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله. أما بعد: فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه، اختار الإسلام وفضله، وأتمه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلًا نهجيًا إلى رحمته، وسببًا إلى مذخور كرامته؛ فقهر له من خالفه، وأذل له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصه بأتم الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها؛ وبعث به خيرته من خلقه وصفوته من عباده محمدًا ﷺ، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه وأنجحها وسيلة إليه؛ لأن الله عز وجل أعز دينه، وأذل عتاة الشرك، قال عز وجل آمرًا بالجهاد، ومفترضًا له: " انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " وليست تمضى بالمجاهد في سبيل الله حال لا يكابد في الله نصبًا ولا أذى، ولا ينفق نفقة ولا يقارع عدوًا، ولا يقطع بلدًا، ولا يطأ أرضًا؛ إلا وله بذلك أمر مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: " ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلًا إلا كتب لهم به عمل صالحٌ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرةً ولا يقطعون واديًا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون " ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته، وما لهم من الزلفى عنده، فقال: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا " فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنته ثمنًا لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها؛ وعدًا منه حقًا لا ريب فيه وحكمًا عدلًا لا تبديل له، قال الله عز وجل: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " وحكم الله عز وجل لإحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون " وليس من شيء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به في حط أوزارهم، وفكاك رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز في العاجلة والآجلة؛ لأن أهله بذلوا لله أنفسهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا بجهادهم العدو. وقد رأى أمير المؤمنين - لما يحبه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزلفى له في إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنقمة بمن حاد عن دينه، وكذب رسله، وفارق طاعته - أن ينهض وصيفًا مولى أمير المؤمنين في هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة والروم، غازيًا لما عرّف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته ومحمود نقيبته وخلوص نيته، في كل ما قربة من الله ومن خليفته. وقد رأى أمير المؤمنين - والله ولي معونته وتوفيقه - أن تكون موافاة وصيف فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريته ثغر ملطية لاثنتي عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وذلك من شهور العجم للنصف من حزيران ودخوله بلاد أعداء الله في أول يوم من تموز؛ فاعلم ذلك واكتب إلى أعمالك على نواحي عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا؛ ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين وترغيبهم في الجهاد، وحثهم عليه واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيات والحسبة والرغبة في الجهاد على حسب ذلك في النهوض إلى عدوهم والحفوف إلى معاونة إخوانهم والذياد عن دينهم والرمي من وراء حوزتهم بموافاة عسكر وصيف مولى أمير المؤمنين ملطية في الوقت الذي حده أمير المؤمنين لهم إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكتب أحمد بن الخصيب لسبع ليال خلون من المحرم سنة ثمان وأربعين ومائتين؛ وصير على ما ذكرناه على نفقات عسكر وصيف والمغانم والمقاسم المعروف بأبي الوليد الجريري البجلي. وكتب معه المنتصر كتابًا إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين، يغزو في أوقات الغزو منها إلى أن يأيته رأى أمير المؤمنين. ذكر خبر خلع المعتز والمؤيد أنفسهما وفي هذه السنة خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وأظهر المنتصر خلعهما في القصر الجعفري المحدث. ذكر الخبر عن خلعهما أنفسهما ذكر أن محمدًا المنتصر بالله لما استقامت له الأمور، قال أحمد بن الخصيب لوصيف وبغا: إنا لا نأمن من الحدثان؛ وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتز، فلا يبقى منا باقية، ويبيد خضراءنا؛ والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا. فجد الأتراك في ذلك، وألحوا على المنتصر وقالوا: يا أمير المؤمنين؛ تخلعهما من الخلافة، وتبايع لابنك عبد الوهاب؛ فلم يزالوا حتى فعل، ولم يزل مكرمًا المعتز والمؤيد؛ على ميلٍ منه شديد إلى المؤيد؛ فلما كان بعد أربعين يومًا من ولايته؛ أمر بإحضار المعتز والمؤيد بعد انصرافهما من عنده، فأحضرا وجعلا في دار، فقال المعتز للمؤيد: يا أخي، لم ترانا أحضرنا؟ فقال: يا شقي، للخلع! فقال: لا أظنه يفعل بنا ذلك؛ فبيناهم كذلك؛ إذ جاءهم الرسل بالخلع، فقال المؤيد: السمع والطاعة، وقال المعتز: ما كنت لأفعل؛ فإن أردتم القتل فشأنكم، فرجعوا إليه، فأعلموه ثم عادوا بغلظة شديدة، فأخذوا المعتز بعنف، وأدخلوه إلى بيت، وأغلقوا الباب. فذكر عن يعقوب بن السكيت، أنه قال: حدثني المؤيد، قال: لما رأيت ذلك قلت لهم بجرأة واستطالة: ما هذا يا كلاب! فقد ضريتم على دمائنا، تثبون على مولاكم هذا الوثوب! اعزبوا قبحكم الله! دعوني أكلمه؛ فكاعوا عن جوابي بعد تسرع كان منهم، وأقاموا ساعة، ثم قالوا لي: القه إن أحببت؛ فظننت أنهم استأمروا، فقمت إليه، فإذا هو في البيت يبكي، فقلت: يا جاهل؛ تراهم قد نالوا من أبيك - وهو هو - ما نالوا، ثم تمتنع عليهم! اخلع ويلك لا تراجعهم!؛ قال: سبحان الله! أمرٌ قد مضيت عليه، وجرى في الآفاق أخلعه من عنقي! فقلت: هذا الأمر قتل أباك، فليته لا يقتلك! اخلعه ويلك! فوالله لئن كان في سابق علم الله أن تلي لتلين. قال: أفعل. قال: فخرجت فقلت: قد أجاب، فأعلموا أمير المؤمنين، فمضوا ثم عادوا فجزوني خيرًا، ودخل معهم كاتب قد سماه، ومعه دواة وقرطاس، فجلس، ثم أقبل على أبي عبد الله، فقال: اكتب بخطك خلعك، فتلكأ، فقلت للكاتب: هات قرطاسًا، أملل ما شئت، فأملي علي كتابًا إلى المنتصر، أعلمه فيه ضعفي عن هذا الأمر؛ وأني علمت أنه لا يحل أن أتقلده، وكرهت أن يأثم المتوكل بسببي إذا لم أكن موضعًا له، وأسأله الخلع، وأعلمه أني خلعت نفسي، وأحللت الناس من بيعتي. فكتبت كل ما أراد، ثم قلت: اكتب يا أبا عبد الله، فامتنع، فقلت: اكتب ويلك! فكتب وخرج الكاتب عنا، ثم دعانا فقلت: نجدد ثيابنا أو نأتي في هذه؟ فقال: بل جددا، فدعوت بثياب فلبستها، وفعل أبو عبد الله كذلك، وخرجنا فدخلنا؛ وهو في مجلسه، والناس على مراتبهم، فسلمنا فردوا، وأمر بالجلوس، ثم قال: هذا كتابكما؟ فسكت المعتز، فبدرت فقلت: نعم يا أمير المؤمنين! هذا كتابي بمسألتي ورغبتي، وقلت للمعتز: تكلم، فقال مثل ذلك، ثم أقبل علينا والأتراك وقوفٌ، وقال: أترياني خلعتكما طمعًا في أن أعيش حتى يكبر ولدي وأبايع له! والله ما طمعت في ذلك ساعة قط؛ وإذا لم يكن في ذلك طمع؛ فوالله لأن يليها بنو أبي أحب إلي من أن يليها بنو عمي؛ ولكن هؤلاء - وأما إلى سائر الموالي ممن هو قائم وقاعد - ألحوا علي في خلعكما، فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة، فيأتي عليكما، فما ترياني صانعًا! أقتله؟ فوالله ما تفى دماؤهم كلهم بدم بعضكم؛ فكانت إجابتهم إلى ما سألوا أسهل على. قال: فأكبا عليه، فقبلا يده، فضمها إليه، ثم انصرفا. وذكر أنه لما كان يوم السبت لسبع بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، وكتب كل واحد منها رقعة بخطه أنه خلع نفسه من البيعة التي بويع بها، وأن الناس في حل من حلها ونقضها؛ وأنهما يعجزان عن القيام بشيء منها، ثم قاما بذلك على رءوس الناس والأتراك والوجوه والصحابة والقضاة، وجعفر بن عبد الواحد قاضي القضاة، والقواد بني هاشم، وولاة الدواوين والشيعة ووجوه الحرس، ومحمد بن عبد الله بن طاهر، ووصيف وبغا الكبير وبغا الصغير، وجميع من حضر دار الخاصة والعامة، ثم انصرف الناس بعد ذلك. والنسخة التي كتباها: بسم الله الرحمن الرحيم: إن أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه قلدني هذا الأمر، وبايع لي وأنا صغير؛ من غير إرادتي ومحبتي؛ فلما فهمت أمري علمت أني لا أقوم بما قلدني، ولا أصلح لخلافة المسلمين، فمن كانت بيعتي في عنقه فهو من نقضها في حل، وقد أحللتكم منها، وأبرأتكم من أيمانكم؛ ولا عهد لي في رقابكم ولا عقد؛ وأنتم برآء من ذلك. وكان الذي قرأ الرقاع أحمد بن الخصيب. ثم قال كل واحد منهما قائمًا، فقال لمن حضر: هذه رقعتي وهذا قولي؛ فاشهدوا علي، وقد أبرأتكم من أيمانكم. وحللتكم منها. فقال لهما المنتصر عند ذلك: قد خار الله لكما وللمسلمين، وقام فدخل وكان قد قعد للناس، وأقعدهما بالقرب منه، فكتب كتابًا إلى العمال بخلعهما وذلك في صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين. نسخة كتاب المنتصر بالله إلى أبي العباس محمد بن عبد الله ابن طاهر مولى أمير المؤمنين في خلع أبي عبد الله المعتز وإبراهيم المؤيد من عبد الله محمد الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين؛ أما بعد؛ فإن الله وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه؛ وجعل ولاة الأمر من خلفائه القائمين بما بعث به رسول ﷺ والذابين عن دينه، والدا عين إلى حقه والممضين لأحكامه، وجعل ما اختصهم به من كرامته قوامًا لعباده. وصلاحًا لبلاده، ورحمة غمر بها خلقه، وافترض طاعتهم، ووصلها بطاعته وطاعة رسوله محمد ﷺ، وأوجبها في محكم تنزيله؛ لما جمع فيها من سكون الدهماء. واتساق الأهواء، ولم الشعث، وأمن السبل، ووقم العدو، وحفظ الحريم، وسد الثغور، وانتظام الأمور، فقال: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " فمن الحق على خلفاء الله الذين حباهم بعظيم نعمته، واختصهم بأعلى رتب كرامته، واستحفظهم فيما جعله وسيلة إلى رحمته، وسببًا لرضاه ومثوبته. لأن يؤثروا طاعته في كل حال تصرفت بهم، ويقيموا حقه في أنفسهم والأقرب فالأقرب منهم؛ وأن يكون محلهم من الاجتهاد في كل ما قرب من الله عز وجل حسب موقعهم من الدين وولاية أمر المسلمين. وأمير المؤمنين يسأل الله مسألة رغبة إليه؛ وتذللًا لعظمته، أن يتولاه فيما استرعاه ولاية يجمع له بها صلاح ما قلده، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعيه بتوفيقه على طاعته؛ إنه سميع قريب. وقد علمت ما حضرت من رفع أبي عبد الله وإبراهيم ابني أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رقعتين بخطوطهما؛ يذكران فيهما ما عرفهما الله من عطف أمير المؤمنين عليهما، ورأفته بهما، وجميل نظره لهما؛ وما كان أمير المؤمنين المتوكل على الله عقده لأبي عبد الله من ولاية عهد أمير المؤمنين ولإبراهيم من ولاية العهد بعد أبي عبد الله. وإن ذلك العقد كان وأبو عبد الله طفل لم يبلغ ثلاث سنين؛ ولم يفهم ما عقد له ولا وقف على ما قلده، وإبراهيم صغير لم يبلغ الحلم، ولم يجر أحكامها ولا جرت أحكام الإسلام عليهما، وإنه قد يجب عليهما إذ بلغا ووقفا على عجزهما عن القيام بما عقد لهما من العهد، وأسند إليهما من الأعمال أن ينصحا لله ولجماعة المسلمين، بأن يخرجا من هذا الأمر الذي عقد لهما أنفسهما، ويعتزلا الأعمال التي قلداها، ويجعلا كل من في عنقه لهما بيعة وعليه يمين في جل؛ إذ كانا لا يقومان بما رشحا له، ولا يصلحان لتقلده وأن يخرج من كان ضم إليهما ممن في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين ومواليه وغلمانه وجنده وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما، ويزال عنهم جميعًا ذكر الضم إليهما، وأن يكونا سوقة من سوق المسلمين وعامتهم، ويصفان ما لم يزالا يذكران لأمير المؤمنين من ذلك؛ ويسألانه فيه، منذ أفضى الله بخلافته إليه، وأنهما قد خلعا أنفسهما من ولاية العهد، وخرجا منها، وجعلا كل من ولهما عليه بيعة ويمين من قواد أمير المؤمنين وجميع أوليائه ورعيته؛ قريبهم وبعيدهم وحاضرهم وغائبهم في حل وسعة من بيعتهم وأيمانهم؛ ليخلعوهما كما خلعا أنفسهما. وجعلا لأمير المؤمنين على أنفسهما عهد الله؛ وأشد ما أخذ على ملائكته وأنبيائه وعباده من عهد وميثاق، وجميع ما أكده أمير المؤمنين عليهما من الأيمان، بإقامتهما على طاعته ومناصحته وموالاته في السر والعلانية، ويسألان أمير المؤمنين أن يظهر ما فعلاه، وينشره ويحضر جميع أوليائه؛ ليسمعوا ذلك منهما طالبين راغبين طائعين غير مكرهين ولا مجبرين؛ ويقرأ عليهم الرقعتان اللتان رفعاهما بخطوطهما، بما ذكر من وقوع الأمر لهما من ولاية العهد؛ وهما صبيان، وخلعهما أنفسهما بعد بلوغهما، وما سألا من صرفهما عن الأعمال التي يتوليانها وإخراج من كان بهما ممن ضم إليهما في نواحيهما من قواد أمير المؤمنين وجنده وغلمانه وشاكريته وجميع من مع أولئك القواد بالحضرة وخراسان وسائر النواحي عن رسومهما وإزالة ذكر الضم إليهما عنهم، وأن يكتب بالكتاب بذلك إلى جميع عمال النواحي. وإن أمير المؤمنين وقف على صدقهما فيما ذكرا ورفعا، وتقدم في إحضار جميع إخوته ومن بحضرته من أهل بيته وقواده ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم؛ وسائر أوليائه الذين كانت وقعت البيعة لهما بذلك عليهم. وحضر أبو عبد الله وإبراهيم ابنا أمير المؤمنين المتوكل على الله رضي الله عنه، وقرئت رقعتاهما بخطوطهما بحضرتهما؛ إلى مجلس أمير المؤمنين عليهما وعلى جميع من حضر، وأعادا من القول بعد قراءة الرقعتين مثل الذي كتبا به. ورأى أمير المؤمنين أن يجمع في إجابتهما إلى نشر ما فعلاه وإظهاره، وإمضائه ذلك؛ قضاء حقوق ثلاثة: منها حق الله عز وجل فيما استحفظه من خلافته، وأوجب عليه من النظر لأوليائه فيما يجمع لهم كلمتهم في يومهم وغدهم، ويؤلف بين قلوبهم. ومنها حق الرعية الذين هم ودائع الله عنده حتى يكون المتقلد لأمورهم ممن يراعيهم آناء الليل والنهار بعنايته ونظره وتفقده وعدله ورأفته، ومن يقوم بأحكام الله في خلقه، ومن يضطلع بثقل السياسة وصواب التدبير. ومنها حق أبي عبد الله وإبراهيم فيما يوجبه أمير المؤمنين لهما بإخوتهما وماس رحمهما؛ لأنهما لو أقاما على ما خرجا منه؛ لم يؤمن أن يؤدي ذلك إلى ما يعظم في الدين ضرره. ويعم المسلمين مكروهه؛ ويرجع عليهما عظيم الوزر فيه؛ فخلعهما أمير المؤمنين إذ خلفا أنفسهما من ولاية العهد، وخلعهما جميع إخوة أمير المؤمنين ومن بحضرته من أهل بيته، وخلعهما جميع من حضر من قواد أمير المؤمنين ومواليه وشيعته ورؤساء جنده وشاكريته وكتابه وقضاته والفقهاء وغيرهم من سائر أولياء أمير المؤمنين؛ الذين كانت أخذت لهما البيعة عليهم. وأمر أمير المؤمنين بإنشاء الكتب بذلك إلى جميع العمال، ليتقدموا في العمل بحسب ما فيها، ويخلعوا أبا عبد الله وإبراهيم من ولاية العهد؛ إذ كانا قد خلعا أنفسهما من ذلك، وحلالا الخاص والعام، والحاضر والغائب. والداني والقاصي منه؛ ويسقطوا ذكرهما بولاية العهد؛ وذكر ما نسب إليه من نسب ولاية العهد من المعتز بالله والمؤيد بالله من كتبهم وألفاظهم. والدعاء لهما على المنابر؛ ويسقطوا كل ما ثبت في دواوينهم من رسومهما القديمة والحديثة الواقعة على من كان مضمومًا إليهما، ويزيلوا ما على الأعلام والمطارد من ذكرهما؛ وما وسمت به دواب الشاكرية والرابطة من أسمائهما. ومحلك من أمير المؤمنين وحالك عنده على حسب ما أخلص لله لأمير المؤمنين من طاعتك ومناصحتك، وموالاتك ومشايعتك؛ ما أوجب الله لك بذلك بسلفك ونفسك، وما عرف الله أمير المؤمنين من طاعتك ويمن نقيبتك، واجتهادك في قضاء الحق. وقد أفردك أمير المؤمنين بقيادتك، وإزالة الضم إلى أبي عبد الله عنك وعمن في ناحيتك بالحضرة وسائر النواحي؛ ولم يجعل أمير المؤمنين بينك وبينه أحد يرؤسك، وخرج أمره بذلك إلى ولاة دوادينه. فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، وأوعز إليهم في العمل على حسبه. إن شاء الله، والسلام. وكتب أحمد بن الخصيب يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثمان وأربعين ومائتين. ذكر الخبر عن وفاة المنتصر وفي هذه السنة توفي المنتصر. ذكر الخبر عن العلة التي كانت فيها وفاته والوقت الذي توفي فيه وقدر المدة التي كانت فيها حياته فأما العلة التي كانت بها وفاته؛ فإنه اختلف فيها، فقال بعضهم: أصابته الذبحة في حلقه يوم الخميس لخمس بقين من شهر ربيع الآخر. وقيل: توفي يوم السبت وقت العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر؛ وإن علته كانت من ورم في معدته، ثم تصعد إلى فؤاده فمات؛ وإن علته كانت ثلاثة أيام أو نحوها. وحدثني بعض أصحابنا أنه كان وجد حرارة، فدعا بعض من كان يطبب له، وأمره بفضده، ففضده بمبضع مسموم، فكان فيه منيته، وإن الطبيب الذي فضده انصرف إلى منزله، وقد وجد حرارة، فدعا تلميذًا له؛ فأمره بفضده ووضع مباضعه بين يديه ليتخير أجودها؛ وفيها المبضع المسموم الذي فصد به المنتصر؛ وقد نسيه فلم يجد التلميذ في المباضع التي وضعت بين يديه مبضعًا أجود من المبضع المسموم؛ ففصد به أستاذه وهو لا يعلم أمره؛ فلما فصده به نظر إليه صاحبه فعلم أنه هالك؛ فأوصى من ساعته، وهلك من يومه. وقد ذكر أنه وجد في رأسه علة فقطر ابن الطيفوري في أذنه هنًا، فورم رأسه وعوجل فمات. وقد قيل: إن ابن الطيفوري إنما سمه في محاجمه. قال أبو جعفر: ولم أزل أسمع الناس حين أفضت إليه الخلافة من لدن ولى إلى أن مات يقولون: إنما مدة حياته ستة أشهر، مدة شيرويه ابن كسرى قاتل أبيه، مستفيضًا ذلك على ألسن العامة والخاصة. وذكر عن يسر الخادم - وكان - فيما ذكر - يتولى بيت المال للمنتصر في أيام إمارته، أنه قال: كان المنتصر يومًا من الأيام في خلافته نائمًا في إيوانه، فانتبه وهو يبكي وينتحب، قال: فهبته أن أسأله عن بكائه، ووقفت وراء الباب؛ فإذا عبد الله بن عمر البازيار قد وافى فسمع نحيبه وشهيقه، فقال لي: ما له؟ ويحك يا يسر! فأعلمته أنه كان نائمًا فانتبه باكيًا، فدنا منه، فقال له: ما لك يا أمير المؤمنين تبكي لا أبكى الله عينك؟! قال: ادن مني يا عبد الله؛ فدنا منه فقال له: كنت نائمًا، فرأيت فيما يرى النائم كأن المتوكل قد جاءني، فقال لي، ويلك يا محمد! قتلتني وظلمتني وغبنتي في خلافتي؛ والله لا تمتعت بها بعدي إلا أيامًا يسيرة، ثم مصيرك إلى النار. فانتبهت، وما أملك عيني ولا جزعي. فقال له عبد الله: هذه رؤيا؛ وهي تصدق وتكذب، بل يعمرك ويسرك الله؛ فادع الآن بالنبيذ، وخذ في اللهو، ولا تعبأ بالرؤيا. قال: ففعل ذلك؛ وما زال منكسرًا إلى أن توفي. وذكر أن المنتصر كان شاور في قتل أبيه جماعة من الفقهاء، وأعلمهم بمذاهبه، وحكى عنه أمورًا قبيحة كرهت ذكرها في الكتاب؛ فأشاروا عليه بقتله؛ فكان من أمره ما ذكرنا بعضه. وذكر عنه أنه لما اشتد به علته؛ خرجت إليه أمه فسألته عن حاله، فقال: ذهبت والله مني الدنيا والآخرة. قال إبراهيم بن جيش: حدثني موسى بن عيسى الكاتب، كاتب عمي يعقوب وابن عمي يزيد، أن المنتصر لما أفضت الخلافة إليه، كان ينكر إذا سكر قتل أبيه المتوكل، ويقول في الأتراك: هؤلاء قتلة الخلفاء، ويذكر من ذلك ما تخوفوه، فجعلوا لخادم له ثلاثين ألف دينار على أن يحتال في سمه، وجعلوا لعلي بن طيفور جملة، وكان المنتصر يكثر أكل الكمثري إذا قدمت إليه الفاكهة، فعمد ابن طيفور إلى كمثراة كبيرة نضيجة، فأدخل في رأسها خلالة، ثم سقاها سمًا، فجعلها الخادم في أعلى الكمثرى الذي قدمه إليه، فلما نظر إليها المنتصر أمره أن يقشرها ويطعمه إياها، فقشرها وقطعها، ثم أعطاه قطعة قطعة حتى أتى عليها، فلما أكلها وجد فترة، فقال لابن طيفور: أجد حرارة فقال: يا أمير المؤمنين؛ احتجم تبرأ من علة الدم، وقدر أنه إذا خرج الدم قوي عليه السم. فحجم فحم، وغلظت علته عليه. فتخوف هو والأتراك أن تطول علته، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الحجامة لم يكن فيها ما قدرنا في عافتيك، وتحتاج إلى الفصد؛ فإنه أنجح لما تريد، فقال: أفعل، ففصده بمبضع مسموم، ودهش، فألقاه في مباضعه - وكان أحدّها وأجودهاز ثم إن عليذ بن طيفور، وجد حرارة، فدعها تلميذًا له ليفصده، فنظر في المباضع فلم يجد أحدّ منه ولا أخير ففصده، فكانت منيته فيه. وذكر عن ابن دهقانة أنه قال: كنا في مجلس المنتصر يومًا بعد ما قتل المتوكل، فتحدث المسدود الطنبوري بحديث، فقال المنتصر: متى كان هذا؟ فقال: ليلة لااه ولا زاجر؛ فأحفظ ذلك المنتصر. وذكر عن سعيد بن سلمة النصراني أنه قال: خرج علينا أحمد بن الخصيب مسرورًا يذكر أن أمير المؤمنين رأى في ليلة في المنام؛ أنه صعد درجةً حتى انتهى إلى خمس وعشرين مرقاة منها؛ فقيل له: هذا ملكك؛ وبلغ الخبر ابن المنجّم، فدخل عليه محمد بن موسى وعلي بن يحيى المنجم مهنئين له بالرؤيا، فقال: لم يكن الأمر على ما ذكر لكم أحمد ابن الخصيب؛ ولكني حين بلغت آخر المراقي، قيل لي: قف فهذا آخر عمرك؛ واغتمّ لذلك غمًّا شديدًا، فعاش بعد ذلك أيامًا تتمذة سنة، ثمّ مات وهو ابن خمس وعشرين سنة. وقيل: توفي وهو ابن خمس وعشرين سنة وستة أشهر. وقيل: بل كان عمره أربعًا وعشرين سنة، وكانت مدة خلافته ستة أشهرفي قول بعضهم ويومين. وقيل: كانت ستة أشهر سواء. وقيل: كانت مائة يوم وتسعة وسبعين يومًا. وكان وفاته بسامرّا بالقصر المحدث بعد أن أظهر في إخوته ما أظهر بأربع وأربعين ليلة؛ وذكر أنه لما حضرته الوفاة قال: فما فرحت نفسي بدنيا أخذتها ** ولكن إلى الربّ الكريم أصير وصلّى عليه أحمد بم محمد بن المعتصم بسامرّا؛ وبها كان مولده. وكان أعين أفتى قصيرًا جيّد البضعة. وكان - فيما ذكر - مهيبًا. وهو أول خليفة من بني العباس - فيما بعد - عرف قبره؛ وذلك أن أمه طلبت إظهار قبره. وكانت كيته أبا جعفر واسم أمه حبشية وهي أمّ ولد روميّة. ذكر بعض سيره ذكر أن المنتصر لمّا ولي الخلافة كان أول شيء أحدث من الأمور عزل صالح عن المدينة وتولية علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد إياها؛ فذكر عن علي بن الحسين، أنه قال: دخلت عليه أودّعه، فقال لي: يا علي، إني أوجّهك إلى الحمى ودمي - ومدذ جلد ساعده - وقال: إلى هذا وجّهتك، فاظر كيف تكون للقوم، وكيف تعاملهم! يعني آل أبي طالب، فقلت: أرجو أن أمتثل رأي أمير المؤمنين أيدّه الله فيهم إن شاء الله؛ فقال: إذًا تسعد بذلك عندي. وذكر عن محمد بن هارون، كاتب محمد بن علي برد الخيار وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيد، أنه أصيب مقتولًا على فراشه، به عدّة ضربات بالسيف، فأحضر ولده خادمًا أسود كان له وصيفًا، ذكر أن الوصيف أقلرّ على الأسود. فأدخل على المنتصر، وأحضر جعفر بن عبد الواحد، فسئل عن قتله مولاه، فأقرّ به، ووصف فعله به وسسب قتله إياه فقال له المنتصر: ويلك! لم قتلته؟ فقال له الأسود: لما قتلت أنت أباك المتوكل! فسأل الفقهاء في أمره. فأشاروا بقتله، فضرب عقه وصلبه، عند خشبة بابك. وفي هذه السنة حكّم محمد بن عمرو الشاري، وخرج بناحية الموصل، فوجّه إليه المنتصر إسحاق بن ثابت الفرغاني، فأخذه أسيرًا مع عدة من أصحابه. فقتلوا وصلبوا. وفيها تحرّك يعقوب بن الليث الصفار من سجستان، فصار إلى هراة. وذكر عن أحمد بن عبد الله بن صالح صاحب المصلّى أنه قال: كان لأبي مؤذّن، فرآه بعض أهلنا في المام كأنه أذّن أذانًا لبعض الصلوات؛ ثم دنا من بيت فيه المنتصر، فنادى: يا محمد، يا منتصر. إنّ ربّك لبالمرصاد. وذكر عن بنان المغنّي - وكان فيما قيل أخصّ الناس بالمنتصر في حياة أبيه وبعد ما ولى الخلافة - أنه قال: سألت المنتصر أن يهب لي ثوب ديباج وهو خليفة؛ فقال: أو خير لك من الثوب الديباج؟ قلت: وما هو؟ قال: تتمارض حتى أعودك؛ فإنه سيهدي لك أكثر من الثوب الديباج؛ فمات في تلك الأيام، ولم يهب لي شيئًا. وفي هذه السنة بويع بالخلافة أحمد بم محمد بن المعتصم. خلافة أحمد بن محمد بن المعتصم وهو المستعين ويكنى أبا العباس. ذكر الخبر عن سبب ولايته والوقت الذي بويع له فيه ذكر أنّ المنتصر لما توفي؛ وذلك يوم السبت عند العصر لأربع خلون من شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وأربعين ومائتين، اجتمع الموالي إلى الهاروني يوم الأحد، وفيهم بغا الصغير وبغا الكبير أوتامش ومن معهم، فاستحلفوا قوّاد الأتراك والمغاربة والأشروسنيّة - وكان الذي يستحلفهم علي بن الحسين ابن عبد الأعلى الأسكافي كاتب بغا الكبير - على أن يرضوا بمن يرضى به بغا الصغير وبغا الكبيرأوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب، فحلف القوم وتشاوروا بينهم، وكرهوا أن يتولّى الخلافة أحدٌ من ولد المتوكل؛ لقتلهم أباه، وخوفهم أن يغتالهم من يتولى الخلافة منهم؛ فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم، فقالوا: لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم؛ وقد كانوا قبله دكروا جماعة من بني هاشم؛ فبايعوه وقت العشاء من ليلة الاثنين، لست خلون من شهر ربيع الآخر من السنة؛ وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ويكنى أبا العباس. فاستكتب أحمد بن الخصيب، واستوزر أوتامش. فلما كان يوم الاثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر صار إلى دار العامة من طريق العمري بين البساتين، وقد ألبسوه الطويلة وزي الخلافة؛ وحمل إبراهيم بن إسحاق بين يديه الحربة قبل طلوع الشمس، ووافى واجن الأشروسنيّباب العامة من طريق الشارع على بيت المال، فصفّ أصحابه صفين، وقام في الصفّ وهو عدّة من وجوه أصحابه، وحضر الدار أصحاب المراتب من ولد المتوكل والعباسيين والطالبييّن وغيرهم ممن لهم مرتبة؛ فبيناهم كذلك، وقد مضى من النهار ساعة ونصف؛ جاءت صيحة من ناحية الشارع والسوق؛ فإذا نحوٌ من خمسين فارسًا من الشاكرية؛ ذكروا أنهم من أصحاب أبي العباس محمد بن عبد الله، ومعهم قوم من فرسان طبريّة وأخلاط من الناس ومعهم من الغوغاء والسوقة نحو من ألف رجل؛ فشهروا السلاح، وصاحوا: يا معتزّ يا منصور، وشدّوا على صفذي الأشروسنيّة اللذين صفّهما واجن، فتضعضعوا، وانضم بعضهم إلى بعض، ونفر من على باب العامة من المبيضّة مع الشاكريّة، فكثروا، فشدّ عليهم المغاربة والأشروسنيّة، فهزموهم حتى أدخلوهم الدرب الكبير المعروف بزرافة وعزّون. وحمل قوم منهم على المعتزّية، فكشفوهم؛ حتى جاوزوا بهم دار أخي عزّون بن إسماعيل وهم في مضيق الطريق، فوقف المعتزّية هنالك، ورمى الأشروسنيّة عدّة منهم بالنّشاب، وضربوهم بالسيوف، ونشب الحرب بينهم؛ وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكبّرون؛ فوقعت بينهم قتلى كثيرة؛ إلى أن مضى من النهار ثلاث ساعات. ثم انصرف الأتراك وقد بايعوا أحمد بن محمد بن المعتصم؛ وانصرفوا مما يلي العمري والبساتين، وأخذ الموالي قبل انصرافهم البيعة على من حضر الدار من الهاشميين وغيرهم وأصحاب المراتب. وخرج المستعين من باب العامة منصرفًا إلى الهاروني، فبات هنالك. ومضى الأشروسنيّة إلى الهاروني، وقد قتل من الفريقين عددٌ كثير، ودخل قوم من الأشروسنيّة دورًا، فظفرت بهم الغوغاء، فأخذوا دروعهم وسلاحهم وجواشنهم ودوابهّم، ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامة منصرفين إلى الهاروني، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والجواشن واللجم المغربية وأكثروا منها؛ وربّما مرّ أحدهم بالجواشن والحراب فأكثر، وانتهبوا في دار أرمش ابن أبي أيوب بحضرة أصحاب الفقّاع تراس خيزران وقنًا بلا أسنّة؛ فكثرت الرماح والتراس في أيدي الغوغاء وأصحاب الحمامات وغلمان الباقلي، ثم جاءتهم جماعة من الأتراك منهم بغا الضغير من دري زرافة، فأحلّوهم من الخزانة، وقتلوا منهم عدة، وأمسكوا قليلًا. ثم انصرف الفريقان، وقد كثرت القتلى بينهم؛ وأقبل الغوغاء لا يمرّ أحد من الأتراك من أسافل سامرّا يريد باب العامة إلّا انتبهوا سلاحه، وقتلبوا جماعة منهم عند دار مبارك المغربي، وعند دار حبش أخي يعقوب قوصرّة في شوارع سامرّا، وعامة من انتهت فيما ذكر هذا السلاح أصحاب الفقّاع والناطف وأصحاب الحمّامات والسقاءون وغوغاء الأسواق؛ فلم يزل ذلك أمرهم إلى نصف النهار، وتحرّك أهل السجن بسامرّا في هذا اليوم فهرب منهم جماعة، ثم وضع العطاء على البيعة، وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر في اليوم الذي بويع له فيه، وكان وصوله إلى محمد في اليوم الثاني، ووافى به لأتامش ومحمد بن عبد الله في نزهة له، فوجه الحاجب إليه، وأعلمه مكانه، فرجع من ساعته، وبعث إلى الهاشميين والقواد والجند، ووضع لهم الأرزاق. وورد في هذه السنة على المستعين وفاة طاهر عبد الله بن طاهر بخرسان في رجب، فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، ولمحمد بن عبد الله على العراق، وجعل إليه الحرمين والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به، وعقد في الجوسق لمحمد بن طاهر بن عبد الله ابن طاهر على خراسان والأعمال المضمومة إليها خاصة يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة من شعبان. ومرض بغا الكبير في جمادى الآخرة، فعاده المستعين في النصف منها، ومات بغا من يومه، فعقد لموسى ابنه على أعماله وعلى أعمال أبيه كلها. وولى ديوان البريد. وفي هذه السنة وجه ألوجو التركي إلى أبي العمود الثعلبي فقتله يوم السبت بكفر توثي لخمس بقين من شهر ربيع الآخر. وفيها خرج عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى الحج؛ فوجه خلفه رسول من الشيعة اسمه شعيب بنفيه إلى برقة، ومنعه من الحج. وفيها ابتاع المستعين من المعتز والمؤيد في جمادى الأولى منها جميع ما كان لهما، خلا شيئًا استثني منه المعتز قيمته مائة ألف دينار، وأخذ له ولإبراهيم غلة بثمانين ألف دينار في السنة؛ فلما كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان ابتيع من المعتز والمؤيد جميع ما لهما من الدور والمنازل والضياع والقصور والفرش والآلة وغير ذلك بعشرين ألف دينار، وأشهدا عليهما بذلك الشهود والعدول والقضاة وغيرهم. وقيل: ابتيع ما لهما من الضياع وترك إلى أبي عبد الله ما يكون غلته من العين في السنة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم ما تبلغ قيمة غلته في السنة خمسة آلاف دينار؛ فكان ما اتبع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف درهم وثلاث حبات لؤلؤ؛ وأشهد عليهما بذلك الفقهاء والقضاة. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وخمسًا في حجرة الجوسق، ووكلّ بهما، وجعل أمرهما إلى بغا الصغير؛ وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الغوغاء والشاكرية قتلهما؛ فمنعهم من ذلك أحمد بن الخصيب، وقال: ليس لهما ذنب ولا المشغبة من أصحابهما؛ وإنما المشغبة من أصحاب ابن طاهر، ولكن احبسوهما فحبسا. وفيها غضب الموالى على أحمد بن الخصيب؛ وذلك في جمادى الأولى منها، واستصفى ماله ومال ولده، ونفى إلى إقريطش. وفيها صرف علي بن يحيى عن الثغور الشامية، وعقد له على إرمينية وأذربيجان في شهر رمضان من هذه السنة. وفيها شغب أهل حمص على كيدر بن عبيد الله عامل المستعين عليها فأخرجوه منها، فوجه إليهم الفضل بن قارن، فمكر بهم حتى أخذهم، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وحمل منهم مائة رجل من عيونهم إلى سامرا، وهدم سورهم. وفيها غزا الصائفة وصيف، وكان مقيمًا بالثغر الشأمي حتى ورد عليه موت المنتصر، ثم دخل بلاد الروم؛ فافتتح حصنًا يقال له فرورية، وعقد المستعين فيها لأوتامش على مصر والمغرب واتخذه وزيرًا. وفيها عقد لبغا الشرابي على حلوان وماسبذان ومهرجان قذق، وصير المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاص أموره وقدمه أوتامش على جميع الناس. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن سليمان الزينبي. ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فما كان فيها من ذلك غزو جعفر بن دينار الصائفة، فافتتح حصنًا ومطامير واستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من بلاد الروم؛ فأذن له، فسار ومعه خلق كثير من أهل ملطية، فلقيه الملك في جمع من الروم عظيم بموضع، يقال له أرز من مرج الأسقف فحاربه بمن معه محاربة شديدة، قتل فيها خلق كثير من الفريقين، ثم أحاطت به الروم وهم خمسون ألفًا، فقتل عمر وألفا رجل من المسلمين؛ وذلك في يوم الجمعة للنصف من رجب. خبر مقتل علي بن يحيى الأرمني وفيها قتل علي بن يحيى الأرمني ذكر الخبر عن سبب قتله ذكر أن الروم لما قتلت عمر بن عبيد الله خرجوا إلى الثغور الجزرية، وكلبوا عليها وعلى حرم المسلمين بها، فبلغ ذلك علي بن يحيى وهو قافل من إرمينية إلى ميافارقين، فنفر إليهم جماعة من أهل ميافارقين والسلسلة، فقتل في نحو من أربعمائة رجل، وذلك في شهر رمضان. شغب الجند والشاكرية ببغداد وشغب الجند والشاكرية ببغداد في هذه السنة في أول يوم من صفر. ذكر الخبر عن السبب في ذلك وكان السبب في ذلك أن الخبر لما اتصل بأهل مدينة السلام وسامرا وسائر ما قرب منهما من مدن الإسلام بمقتل عمر بن عبيد الله الأقطع وعلي بن يحيى الأرمني - وكانا نابين من أنياب المسلمين، شديدًا بأسهما، عظيمًا غناؤهما عنهم في الثغور التي هما بها - شق ذلك عليهم، وعظم مقتلهما في صدورهم مع قرب مقتل أحدهما من مقتل الآخر، ومع ما لحقهم من استفظاعهم من الأتراك قتل المتوكل واستيلائهم على أمور المسلمين، وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة، ولا نظر للمسلمين؛ فاجتمعت العامة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمت إليها الأبناء والشاكرية تظهر أنها تطلب الأرزاق؛ وذلك أول يوم من صفر، ففتحوا سجن نصر بن مالك، وأخرجوا من فيه وفي القنطرة بباب الجسر؛ وكان فيها جماعة - فيما ذكر - من رفوع خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانحدرت سفنه، وانتهب ديوان قصص المحبسين وقطعت الدفاتر، وألقيت في الماء، وانتبهوا دار بشر وإبراهيم ابني هارون النصرانين كاتبي محمد بن عبد الله؛ وذلك كله بالجانب الشرقي من بغداد. وكان والي الجانب الشرقي حينئذ أحمد بن محمد بن خالد بن هرثمة. ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسامرا أموالًا كثيرة من أموالهم، فقووا من خف للنهوض إلى الثغور لحرب الروم بذلك؛ وأقبلت العامة من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها لغزو الروم؛ فلم يبلغنا أنه كان للسلطان فيما كان من الروم إلى المسلمين من ذلك تغيير، ولا توجيه جيش إليهم لحربهم في تلك الأيام. ولتسع بقين من شهر ربيع الأول، وثب نفر من الناس لا يدري من هم يوم الجمعة بسامرا، ففتحوا السجن بها، وأخرجوا من فيه، فوجه في طلب النفر الذين فعلوا ذلك زراقة في جماعة من الموالي، فوثب بهم العامة فهزموهم، ثم ركب في ذلك أوتامش ووصيف وبغا وعامة الأتراك، فقتلوا من العامة جماعة، وألقي على وصيف - فيما ذكر لي - قدر مطبوخ، ويقال: بل رماه قوم من العامة عند السريجة بحجر؛ فأمر وصيف النفاطين، فقذفوا ما هنالك من حوانيت التجار ومنازل الناس بالنار؛ فأنا رأيت ذلك الموضع محتوقًا؛ وذلك بسامرا عند دار إسحاق. وذكر أن المغاربة انتهبت منازل جماعة من العامة في ذلك اليوم؛ ثم سكن الأمر في آخر ذلك اليوم، وعزل بسبب ما كان من العامة والنفر الذين ذكرت في ذلك اليوم من الحركة، أحمد بن جميل عما كان إليه من المعونة بسامرا، وولى مكانه بن سهل الدارج. ذكر خبر قتل أوتامش وكاتبه وفي هذه السن قتل أوتامش وكاتبه شجاع بن القاسم؛ وذلك يوم السبت لأربع عشرة خلون من شهر ربيع الآخر منها. ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر أن المستعين لما أفضت إليه الخلافة، أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال، وأباحهما فعل ما أراد فعله فيها؛ وفعل ذلك أيضًا بأم نفسه، فلم يمنعها من شئ تريده؛ وكان كاتبها سلمة بن سعيد النصراني، وكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنما يصير معظمها إلى هؤلاء الثلاثة الأنفس، فعمد أوتامش إلى ما في بيوت الأموال من الأموال فاكتسحه؛ وكان المستعين قد جعل ابنه العباس في حجر أوتامش؛ فكان ما فضل من الأموال عن هؤلاء الثلاثة الأنفس يؤخذ للعباس، فيصرف في نفقاته وأسبابه - وصاحب ديوان ضياعه يومئذ دليل - فاقتطع من ذلك أمولًا جليلة لنفسه؛ وجعلت الموالي تنظر إلى الأموال تستهلك؛ وهم في ضيقة، وجعل أوتامش وهو صاحب المستعين وصاحب أمره، والمستولي عليه ينفذ أمور الخلافة؛ ووصيف وبغا من ذلك بمعزل، فأغريا الموالي به، ولم يزالا يدبران الأمر عليه حتى أحكما التدبير، فتذمرت الأتراك والفراعنة على أوتامش، وخرج إليه منهم يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر من هذه السنة أهل الدور والكرخ، فعسكرا وزحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين. وبلغه الخبر، فأراد الهرب، فلم يمكنه، واستجار بالمستعين فلم يجره فأقاموا على ذلك من أمرهم يوم الخميس ويوم الجمعة؛ فلما كان يوم السبت دخلوا الجوسق، فاستخرجوا أوتامش من موضعه الذي توارى فيه، فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم، وانتهبت دار أوتامش، فأخذ منها - فيما بلغني - أموالٌ جليلة ومتاع وفرش وآلة. ولما قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج، ووليه عيسى بن فرخانشاه، وولى صيف الأهواز، وبغا الصغير فلسطين في شهر ربيع الآخر. ثم غضب بغا الصغير وحزبه على أبي صالح بن يزداد، فهرب أبو صالح إلى بغداد في شعبان، وصير المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي؛ فصير ديوان الرسائل إلى سعيد بن حميد رياسة، فقال في ذلك الحمدوني: لبس السيف سعيد بعدما ** عاش ذا طمرين لا نوبة له إن لله لآيات وذا ** آية لله فينا منزله مقتل علي بن الجهم وفيها قتل علي بن الجهم بن بدر؛ وكان سبب ذلك أنه توجه من بغداد إلى الثغر، فلما كان بقرب حلب بموضع يقال له خساف؛ لقيته خيل لكلب، فقتله، وأخذ الأعراب ما كان معه، فقال وهو في السياق: أزيد في الليل ليل ** أم سال بالصبح سيل ذكرت أهل دجيل ** وأين مني دجيل! وكان منزله في شارع الدجيل. وفيها عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء، ووليه جعفر بن محمد بن عمار البرجمي من أهل الكوفة؛ وقد قيل إن في ذلك في سنة خمسين ومائتين. وفيها أصاب أهل الري في ذي الحجة زلزلة شديدة ورجفة تهدّمت منها الدور، ومات خلق من أهلها وهرب الباقون من أهلها من المدينة؛ فنزلوا خرجها. ومطر أهل سامرّا يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى؛ وذلك يوم السادس عشر من تمّوز مطرٌ جود برعد وبرق، فأطبق الغيم ذلك اليوم؛ ولم يزل المطر جودًا سائلًا يومئذ إلى إصفرار الشمس ثم سكن. وتحرّكت المغاربة في هذه السنة يوم الخميس لثلاث خلون من جمادى الأولى، وكانوا يجتمعون قرب الجسر بسامرّا، ثم تفرّقوا يوم الجمعة. وحجّ بالناس في هذه السنة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمتام وهو والي مكة. ثم دخلت سنة خمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من أحداث ظهور يحبى بن عمر الطالبي ثم مقتله فمن ذلك ما كان من ظهور يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ المكنى بأبي الحسين بالكوفة، وفيها كان مقتله رضي الله عنه. ذكر الخبر عن سبب ظهوره وما آل إليه أمره ذكر أن أبا الحسين يحيى بن عمر - وأمّه أم الحسين فاطمة بنت الحسين ابن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب - نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعًا، فلقي عمر بن فرج - وهو يتولّى أمر الطالبين - عند مقدمه من خراسان أيام المتوكل، فكلّمه في صلته، فأغلظ عليه عمر القول؛ فقذفه يحيى بن عمر في مجلسه، فحبس، فلم يزل محبوسًا إلى أن كفل به أهله، فأطلق، فشخص إلى مدينة السلام، فأقام بها بحال سيّئة، ثم صار إلى سامرّا، فلقي وصيفًا في رزق يجري له، فأغلظ له وصيفٌ في القول، وقال: لأيذ شيء يجري على مثلك! فانصرف عنه. فذكر ابن أبي طاهر أن ابن الصوفي الطالبي حدثه، أنه أتاه في الليلة التي كان خروجه في صبيحتها، فبات عنده، ولم يعلمه بشيء مما عزم عليه؛ وأنه عرض عليه الطعام، وتبيّن فيه أنه جائع، فأبى أن يأكل وقال: إن عشنا أكلنا، قال: فتبيذنت أنه قد عزم على فتكة؛ وخرج من عندي؛ فجعل وجهه إلى الكوفة؛ وبها أيوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان عاملًا عليها من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فجمع يحيى بن عمر جمعًا كثيرًا من الأعراب، وضوى إليه جماعة من أهل الكوفة، فأتى الفلّوجة؛ فصار إلى قرية تعرف بالعمد؛ فكتب صاحب البريد بخبره؛ فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أيوب بن الحسن وعبد الله بن محمود السرخسي - وكان عامل محمد بن عبد الله على معاون السواد - يأمرهما بالاجتماع على محاربة يحيى ابن عمر - وكان على الخراج بالكوفة بدر بن الأصبغ - فمضى يحيى بن عمر في سبعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها، وصار إلى بيت مالها؛ فأخذ ما فيه؛ والذي وجد ألفا دينار وزيادة شيء، ومن الورق سبعون ألف درهم؛ وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجنين وأخرج جميع من كان فيها؛ وأخرج عمّالها عنها، فلقيه عبد الله بن محمود السرخسي - وكان في عداد الشاكريّة، فضربه يحيى بن عمر ضربةً على قصاص شعره في وجهه أثخنته فانهزم ابن محمود مع أصحابه، وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال. ثم خرج يحيى بن عمر من الكوفة إلى سوادها، فصار إلى موضع يقال له بستان - أو قريبًا منه - على ثلاثة فراسخ من جنبلاء؛ ولم يقم بالكوفة، وتبعته جماعة من الزيديّة، واجتمعت على نصرته جماعة من قرب تلك الناحية من الأعراب وأهل الطفوف والسيّب الأسفل، وإلى ظهر واسط. ثم أقام بالبستان، فكثر جمعه فوجّه محمد بن عبد الله لمحاربته الحسين بن إسماعيل ابن إبراهيم بن مصعب، وضمّ إليه من ذوي البأس والنجدة من قوّاده جماعة؛ مثل خالد بن عمران وعبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس، وأبي السناء الغنوي، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وسعد الضبابي، ومن الإسحاقية أحمد ابن محمد بن الفضل وجماعة من خاصة الخراسانية وغيرهم. وشخص الحسين بن إسماعيل، فنزل بإزاء هفندي في وجه يحيى بن عمر، لا يقدم عليه الحسين بن إسماعيل ومن معه؛ وقصد يحيى نحو البحرية - وهي قرية بينها وبين قسيّن خمسة فراسخ، ولو شاء الحسين أن يلحقه لحقه - ثم مضى يحيى بن عمر في شرقي السيّب والحسين في غربيّه، حتى صار إلى أحمد أباذ فعبر إلى ناحيى سورا، وجعل الجند لا يلحقون ضعيفًا عجز عن اللحاق بيحيى إلا أخذوه، وأوقعوا بمن صار إلى يحيى بن عمر من أهل تلك القرى. وكان أحمد بن الفرج المعروف بابن الفزاري يتولى معوة السيّب لمحمد ابن عبد الله، فحمل ما اجتمع عنده منحاصل السيب قبل دخول يحيى بن عمر أحمد أباذ، فلم يظفر به. ومضى يحيى بن عمر نحو الكوفة، فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس، فقاتله بقرب جسر الكوفة قتالًا شديدًا، فانهزم عبد الرحمن بن الخطاب، وانحاز إلى ناحية شاهى، ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها، ودخل يحيى بن عمر الكوفة، واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبوه، وتولاه العامة من أهل بغداد - ولا يعلم أهم تولوا من أهل بيته غيره - وبايعه بالكوفة جماعة لهم بصائر وتدبير في تشيّعهم؛ ودخل فيهم أخلاط لا ديانة لهم. وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهي، واستراح وأراح أصحابه دوابّهم، ورجعت إليهم أنفسهم، وشربوا العذب من ماء الفرات؛ واتّلت بهم الأمداد والميرة والأموال. وأقام يحيى بن عمر بالكوفة يعدّ العدد، ويطبع السيوف، ويعرض الرجال، ويجمع السلاح. وإن جماعة من الزيديّة ممّن لا علم له بالحرب، أشاروا على يحيى بمعالجة الحسين، وألحت عليه عوّام أصحابه بمثل ذلك، فزحفت إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ليلة الاثنين لثلاث عشرة خلت من رجب؛ ومعهم الهيضم العجلي؛ في فرسان من بني عجل وأناس من بني أسد ورجالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا تدبير ولا شجاعة، فأسروا ليلتهم؛ ثم صبحوا حسينًا وأصحابه - وأصحاب حسين مستريحون ومستعدون - فثاروا إليهم في الغلس فرموا ساعة، ثم حمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا، ووضع فيهم السيف؛ فكان أول أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلي، فانهزم رجالة أهل الكوفة، وأكثرهم عزل بغير سلاح، ضعفي القوى، خلقان الثياب؛ فداستهم الخيل، وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر، وعليه جوشن تبنى، وقد تقطر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود، فوقف عليه ابن لخالد بن عمران يقال له خير؛ فلم يعرفه، وظن أنه رجل من أهل خراسان، لما رأى عليه الجوشن. وقف عليه أيضًا أبو الغور بن خالد بن عمران، فقال لخير بن خالد: يا أخي، هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه؛ وهو نازل لا يعرف القصة لانفراج قلبه، فأمر خير رجلًا من أصحابه المواصلين من العرفاء يقال له محسن بن المنتاب، فنزل إليه فذبحه، وأخذ رأسه وجعله في قوصرة، ووجهه مع عمر بن الخطاب أخي عبد الرحمن بن الخطاب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر. وادعى قتله غير واحد، فذكر عن العرس بن عراهم أنهم وجدوه باركًا ووجدوا خاتمه مع رجل يعرف بالعسقلاني مع سيفه، وادعى أنه طعنه وسلبه، وادعى سعد الضباني أنه قتله. وذكر عن أبي الحسين خال أبي السناء أنه طعن في الغلس رجلًا في ظهره لا يعرفه، فأصابوا في ظهر أبي الحسين طعنة ولا يدري من قتله، لكثرة من ادعاه، وورد الرأس دار محمد بن عبد الله بن طاهر، وقد تغير، فطلبوا من يقور ذلك اللحم، ويخرج الحدقة والغلصمة، فلم يوجد وهرب الجزارون وطلب ممن في السجن من الخرمية الذباحين من يفعل له سهل بن الصغدي، فإنه تولى وإخراج دماغه وعينيه وقوره بيديه، وحشي بالصبر والمسك والكافور بعد أن غسل وصير في القطن. وذكر أنهم رأوا بجنبيه ضربة بالسيف منكرة ثم إن محمد بن عبد الله بن طاهر أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غد اليوم الذي وافاه فيه، وكتب إليه بالفتح بيده، ونصب رأسه بباب العامة بسامرا، واجتمع الناس لذلك، وكثروا وتذمروا وتولى إبراهيم الديرج نصبه؛ لأن إبراهيم بن إسحاق خليفة محمد بن عبد الله أمره فنصبه لحظة، ثم حط، ورد إلى بغداد لينصب بها بباب الجسر؛ فلم يتهيأ ذلك لمحمد بن عبد الله لكثرة من اجتمع من الناس. وذكر لمحمد بن عبد الله أنهم على أخذه اجتمعوا، فلم ينصبه، وجعله في صندوق في بيت السلاح في داره، ووجّه الحسين ابن إسماعيل بالأسرى ورءوس من قتل معه مع رجل يقال له أحمد بن عصمويه، ممّن كان مع إسحاق بن إبراهيم، فكدّهم وأجاعهم وأساءبهم؛ فأمر بهم فحبسوا في سجن الجديد، وكتب فيهم محمد بن عبد الله يسأل الصفح عنهم، فأمر بتخليتهم، وأن تدفن الرءوس ولا تنصب، فدفنت في قصر بباب الذهب. وذكر عن بعض الطاهرييّن أنه حضر مجلس محمد بن عبد الله وهو يهنأ بمقتل يحيى بن عمرو بالفتح وجماعة من الهاشميين والطالبييّن وغيرهم حضور؛ فدخل عليه داود بن القاسم أبو هاشم الجعفري فيمن دخل، فسمعهم يهنّئونه، فقال: أيها الأمير؛ إنك لتهنّئأ بقتل رجل لو كان رسول الله ﷺ حيًّا لعزّي به! فما ردّ عليه محمد بن عبد الله شيئًا، فخرج أبو هاشم الجعفري، وهو يقول: يا بني كلوه وبيًّا ** إن الحم النبي غير مريّ إنّ وترًا يكون طالبه الل ** ه لوترٍ نجاحه بالحريذ وكان المستعين قد وجّه كلباتكين مددًا للحسين ومستظهرًا به، فلحق حسينًا بعد ما هزم القوم وقتل يحيى بن عمر، فمضى ومعهم صاحب بريد الكوفة فلقي جماعة ممّن كان مع يحيى بن عمر، ومعهم أسوقة وأطعمة يريدون عسكر يحيى؛ فوضع فيهم السيّف فقتلهم، ودخل الكوفة؛ فأراد أن ينهبها ويضع السيف في أهلها، فمنعه الحسين، وآمن الأسود والأبيض بها؛ وأقام أيامًا ثم انصرف عنها. ذكر خبر خروج الحسن بن زيد العلوي وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب في شهر رمضان منها. ذكر الخبر عن سبب خروجه حدثني جماعة من أهل طبرستان وغيرهم؛ أنّ سبب ذلك كان أنّ محمد بن عبد الله بن طاهر لمّا جرى على يديه ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه وجيشه الكوفة بعد فراغهم من قتل يحيى، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع؛ وأن من تلك القطائع التي أقطعها قطيعة فيما قرب من ثغري طبرستان ممّا يلي الديلم؛ وهما كلار وسالوس، كان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق، منها محتطبهم ومراعي مواشيهم ومسرح سارحتهم؛ وليس لأحد عليها ملك؛ وإنما هي صحراء من موتان الأرض؛ غير أنها ذات غياض وأشجار وكلأ. فوجّه - فيما ذكر لي - محمد بن عبد الله بن طاهر أخًا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له جابر بن هارون، لحيازة ما أقطع هنالك من الأرض، وعامل طبرستان يومئذ سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، أخو محمد بن عبد الله بن طاهر، والمستولي على سليمان، والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي؛ وقد فرّق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان، وجعلهم ولاتها، وضمّ إلى كلّ واحد منهم مدينة منها؛ وهم أحدث سفهاء؛ قد تأذّى بهم وبسففهم من تحت أيديهم من الرعيّة واستنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله أثرهم فيهم؛ بقصص يطول الكتاب بشرح أكثرها. ووتر مع ذلك - فيما ذكر لي - محمد بن أوس الديلم بدخوله إلى ما قرب من بلادهم من حدود طبرستان؛ وهم أهل سلم وموادعة لأهل طبرستان على اغترار من الديلم بما يلتمس بدخوله إليهم بغارة، فسبى منهم وقتل، ثم انكفأ راجعًا إلى طبرستان، فكان ذلك مما زاد أهل طبرستان عليه حنقًا وغيظًا، فلما صار رسول محمد بن عبد الله - وهو جابر بن هارون النصراني - إلى طبرستان لحيازة ما أقطعه هنالك محمد، عمد - فيما قيل لي - جابر بن هارون إلى ما أقطع محمد بن عبد الله من صوا في السلطان فحازه، وحاز ما اتّصل به من موات الأرض التي يرتفق بها أهل تلك الناحية - فيما ذكر - فكان فيما رام حيازته من ذلك الموات الذي بقرب من الثغريين اللذين يسمى أحدهما كلار والآخر سالوس؛ وكان في تلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالبأس والشجاعة، وكانا مذكورين قديمًا بضبط تلك الناحية ممن رامها من الديلم، وبإطعام الناس بها وبالإفضال عن من ضوى إليهما؛ يقال لأحدهما محمد وللآخر جعفر؛ وهما ابنا رستم أخوان؛ فأنكرا ما فعل جابر بن هارون من حيازته الموات الذي وصفت أمره، ومانعاه ذلك. وكان ابنا رستم في تلك الناحية مطاعين فاستنهضا من أطاعهما ممّن في ناحيتهما لمنع جابر بن هارون من حيازة ما رام حيازته من الموات الذي هو مرفق لأهل تلك الناحية - فيما ذكر - وغير داخل فيما أقطعه صاحبه محمد بن عبد الله، فنهضوا معهما، وهرب جابر بن هارون خوفًا على نفسه منهما وممن قد نهض معهما، لإنكار ما رام جابر النصراني فعله. فلحق بسليمان بن عبد الله ابن طاهر، وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم ومن نهض معهما في منع جابر عما حاول من حيازة ما حاول حيازته من الموات الذي ذكرت بالشرّ، وذلك أن عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد الله؛ وهو أخو محمد بن عبد الله بن طاهر وعمّ محمد ابن طاهر بن عبد الله عامل المستعين على خراسان وطبرستان والرّي والمشرق كله يومئذ. فلما أيقن القوم بذلك، راسلوا جيرانهم من الديلم، وذكّروهم وفاءهم لهم بالعهد الذي بينهم وبينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي، وأنهم لا يأمنون من ركوبه إياهم بمثل الذي ركبهم به، ويسألونهم مظاهرتهم عليه وعلى من معه؛ فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي على أرضهم من جميع نواحيها من الأرضيين والبلاد؛ إنما عمّالها إمّا عمال لطاهر؛ وإمّا من يتّخذ آل طاهر إن احتاجوا إلى إنجادهم؛ وإن ما سألوا من معاونتهم لا سبيل لهم إليه إلا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب بين أيديهم من عمال سليمان بن عبد الله؛ فأعلمهم الذين سألوهم المظاهرة على حرب سليمان وعماله أنهم لا يغفلون عن كفايتهم ذلك؛ حتى يأمنوا مما خافوا منه، فأجابهم الديلم إلى ما سألوهم من ذلك، وتعاقدوا هم وأهل كلار وسالوس على معاونة بعضهم بعضًا على حرب سليمان ابن عبد الله وابن أوس وغيرهم ممن قصدهم بحرب. ثم أرسل ابنا رستم محمد وجعفر - فيما ذكر - إلى رجل من الطالبيين المقيمين كانوا يومئذ بطبرستان، يقال له محمد بن إبراهيم يدعونه إلى البيعة له، فأبى وامتنع عليهم، وقال لهم؛ لكني أدلكم على رجل منا هو أقوم بما دعوتموه إليه مني، فقالوا: من هو؟ فأخبرهم أنه الحسن بن زيد، ودلهم على منزله ومسكنه بالري. فوجه القوم إلى الري عن رسالة محمد بن إبراهيم العلوي إليه من يدعوه إلى الشخوص معه إلى طبرستان؛ فشخص معه إليها، فوافاهم الحسن بن زيد، وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وسالوس ورويان على بيعته وقتال سليمان بن عبد الله واحدةً؛ فلما وافاهم الحسن بن زيد بايع له ابنا رستم، وجماعة أهل الثغور ورؤساء الديلم: كجايا ولا شام ووهسودان بن جستان، ومن أهل رويان عبد الله بن ونداميد - وكان عندهم من أهل التأله والتعبد - ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمال ابن أوس فطردهم عنها؛ فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله؛ وهما بمدينة سارية، وانضم إلى الحسن ابن زيد مع من بايعه من أهل النواحي التي ذكرت؛ لما بلغهم ظهوره بها حوزية جبال طبرستان كما صمغان وفادسبان وليث بن قباذ، ومن أهل السفح خشكجستان بن إبراهيم بن الخليل بن ونداسفجان، خلا ما كان من سكان جبل فريم؛ فإن رئيسهم كان يومئذ والمتلك عليهم قارن بن شهريار؛ فإنه كان ممتنعًا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد ولا من معه حتى مات ميتة نفسه، مع موادعة كانت بينهما في بعض الأحوال، ومخاتنة ومصاهرة كفًا من قارن بذلك من فعله عادية الحسن بن ومن معه. ثم زحف الحسن بن زيد وقواده من أهل النواحي التي ذكرت نحو مدينة آمل، وهي أول مدن طبرسان مما يلي كلار وسالوس من السفج - وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها، فالتقى جيشاهما في بعض نواحي آمل، ونشبت الحرب بينهم. وخالف الحسن بن زيد وجماعة ممن معه من أصحابه موضع معركة القوم إلى ناحية أخرى، فدخلوها فاتصل الخبر بدخوله مدينة آمل بابن أوس؛ وهو مشتغل بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد؛ فلم يكن له هم إلا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان بسارية؛ فلما دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه، وغلظ أمره، وانقض إليه كل طالب نهب ومريد فتنة من الصعاليك والحوزية وغيرهم؛ فأقام - فيما حدثت - الحسن بن زيد بآمل أيامًا؛ حتى جبى الخراج من أهلها، واستعد. ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدًا سليمان بن عبد الله، فخرج سليمان وابن أوس بمن معهما من جيوشهما؛ فالتقى الفريقان خارج مدينة سارية، ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قواد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية، فدخلها برجاله وأصحابه، فانتهى الخبر إلى سليمان بن عبد الله ومن معه من الجند؛ فلم يكن لهم هم غير النجاة بأنفسهم. ولقد حدثني جماعة من أهل تلك الناحية وغيرها، أن سليمان بن عبد الله هرب وترك أهله وعياله وثقله وكل ما كان له بسارية من مال وأثاث وغير ذلك بغير مانع ولا دافع؛ فلم يكن له ناهية دون جرجان. وغلب على ما كان له ولغيره بها من جنده الحسن بن زيد وأصحابه. فأما عيال سليمان وأهله وأثاثه فإنه بلغني أن الحسن بن زيد أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان، وأما ما كان لأصحابه فإن من كان مع الحسن بن زيد من التبع انتهبه، فاجتمع للحسن بن زيد بلحاق سليمان بن عبد الله بجرجان إمرة طبرستان كلها. فلما اجتمعت للحسن بن زيد طبرستان، وأخرج عنها سليمان ابن عبد الله وأصحابه وجه إلى الري خيلًا مع رجل من أهل بيته، يقال له الحسن بن زيد، فصار إليها، فطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية، فلما دخل الموجه به من قبل الطالبيين الري هرب منها عاملها، فاستخلف بها رجلًا من الطالبيين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها، فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الري إلى حد همذان، وورد الخبر بذلك على المستعين ومدبر أمره يومئذ وصيف التركي، وكاتبه أحمد بن صالح بن شيرزاد، وإليه خاتم المستعين ووزارته. فوجه إسماعيل بن فراشة في جمع إلى همذان، وأمره بالمقام بها وضبطها إلى أن يتجاوز إليها خيل الحسن بن زيد؛ ذلك أن ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر، وبه عماله وعليه صلاحه. فلما استقر بمحمد بن جعفر الطالبي القرار بالري ظهرت منه - فيما ذكر - أمور كرهها أهل الري، فوجه محمد بن طاهر بن عبد الله قائدًا له من قبله، يقال له محمد بن مكيال - وهو أخو الشاه بن مكيال - في جمع من الخيل والرجالة إلى الري، فالتقى هو ومحمد بن جعفر الطالبي خارج الري؛ فذكر أن محمد بن مكيال أسر محمد بن جعفر الطالبي، وفض جيشه، ودخل الري، فأقام بها، ودعا بها للسلطان؛ فلم يتطاول بها مكثه حتى وجه الحسن بن زيد إليه خيلًا، عليها قائد له من أهل اللازر، يقال له واجن: فلما صار واجن إلى الري خرج إليه محمد بن مكيال، فاقتتلا، فهزم واجن وأصحابه محمد بن ميكال وجيشه، إلتجأ محمد بن مكيال إلى مدينة الري معتصمًا بها، فاتبعه واجن وأصحابه حتى قتلوه، وصارت الري إلى أصحاب الحسن بن زيد. فلما كان يوم عرفة من هذه السنة بعد مقتل محمد بن مكيال، ظهر بالري أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله ابن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب؛ فصلى أحمد بن عيسى بأهل الري صلاة العيد، ودعا للرضا من آل محمد؛ فحاربه محمد بن علي بن طاهر، فهزمه أحمد بن عيسى، فصار إلى قزوين. وفي هذه السنة غضب علي بن جعفر بن عبد الواحد، لأنه كان بعث إلى الشاكرية، فزعم وصيف أنه أفسدهم، فنفي إلى البصرة لسبع بقين من شهر ربيع الأول. وفيها أسقطت مرتبة من كانت له مرتبة في دار العامة من بني أمية، كابن أبي الشوارب والعثمانيين. وأخرج في هذه السنة من الحبس الحسن بن الأفشين. وأجلس فيها العباس بن أحمد بن محمد، فعقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف ببشاشات على مكة في جمادى الأولى. وفيها وثب أهل حمص وقومٌ من كلب - عليهم رجل يقال له عطيف بن نعمة الكلبي - بالفضل بن قارن أخي مازيار بن قارن؛ وهو يؤمئذ عامل السلطان على حمص، فقتلوه في رجب؛ فوجه المستعبن إليهم موسى بن بغا الكبير، فشخص موسى من سامرا يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فلما قرب تلقاه أهلها فيما بينها وبين الرستن، فحاربهم فهزمهم؛ وافتتح حمص من أهلها مقتلة عظيمة، وأحرقها وأسر جماعة من رؤساء أهلها، وكان عطيف قد لحق بالبدو. وفيها مات جعفر بن أحمد بن عمار القاضي يوم الأحد لسبع بقين من شهر رمضان. وفيها مات أحمد بن عبد الكريم الجواري والتيمي قاضي البصرة. وفيها ولي أحمد بن الوزير قضاء سامرا. وفيها وثبت الشاكرية والجند بفارس بعبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، فانتهبوا منزله، وقتلوا محمد بن الحسن بن قارن، وهرب عبد الله بن إسحاق. وفيها وجه محمد بن طاهر من خراسان بفيلين كان وجّه بهما إليه من كابل وأصنام وفوائح. وغزا الصائفة فيها بلكاجور. وحجّ بالناس في هذه السنة جعفر بن الفضل بشاشات وهو والي مكة. ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر قتل باغر التركي فمما كان فيها من ذلك قتل وصيف وبغا الضغير باغر التركي واضطراب أمر الموالي. ذكر الخبر عن سبب قتلهما باغر ذكر أن سبب ذلك كان أن باغر كان أحد قتلة المتوكل، فزيد لذلك في أرزاقه، وأقطع قطائع؛ فكان مما أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع التي أقطعها باغر هنالك من كاتب كان لباغر يهودي - رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك - بألفي دينار في السنة، فعدا رجل بتلك الناحية، يقال له ابن مارمة على وكيل لباغر هنالك، فتناوله أو دس إليه من تناوله، فحبس ابن مارمة، وقيّد، ثم عمل حتى تخلص من الحبس، فصار إلى سامرا؛ فلقي دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره، وإليه أمر العسكر، يركب إليه القواد والعمال؛ لمكانه من بغا. وكان ابن مارمة صديقًا لدليل، وكان باغر أحد قواد بغا، فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمة؛ وانتصف له منه، فأوغر ذلك من فعله بصدر باغر، وباين كل واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب، وباغر شجاع بطل معروف القدر في الأتراك، يتوقاه بغا وغيره، ويخافون شره. فذكر أن باغر جاء يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة خمسين ومائتين إلى بغا، وبغا في الحمام، وباغر سكران شديد السكر، وانتظره حتى خرج من الحمام، ثم دخل عليه، فقال له: والله ما من قتل دليل بدّ ثم سبه، فقال له بغا: لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك، فكيف دليل النصراني! ولكن أمري وأمر الخلافة في يديه فتنتظر حتى أصير مكانه إنسانًا، وشأنك به. ثم وجه بغا إلى دليل يأمره ألا يركب؛ وقيل: بل تلقاه طبيب لبغا، يقال له ابن سرجويه، فأخبره بالقصة، فرجع إلى منزله، فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قبل ذلك، فجعله مكان دليل، فيوهم باغر أنه قد عزل دليلًا؛ فسكن باغر، ثم أصلح بغا بين الدليل وباغر، وباغر يتهدد دليلًا بالقتل إذا خلا بأصحابه، ثم تلطف باغر للمستعين، ولزم الخدمة في الدار، وكره المستعين مكانه؛ فلما كان يوم نوبة بغا في منزله قال المستعين: أي شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ فأخبره وصيف، فقال: ينبغي أن تصيروا هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر، فقال وصيف: نعم، وبلغت القصة دليلًا، فركب إلى بغا فقال له: أنت في بيتك؛ وهم في تدبير عزلك عن كل أعمالك؛ فإذا عزلت فما بقاؤك إلا أن يقتلوك! فركب بغا إلى دار الخلافة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي، فقال لوصيف: أردت أن تزيلني عن مرتبتي، وتجيء بباغر فتصيره مكاني؛ وإنما باغر عبدٌ من عبيدي ورجل من أصحابي، فقال له وصيف: ما علمت ما أراد الخليفة من ذلك. فتعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار والاحتيال له، وأرجفوا له أنه يؤمر ويضم إليه جيش سوى جيشه؛ ويخلع عليه، ويُجلس في الدار مجلس بغا ووصيف - وهما يسميان الأميرين - ودافعوه بذلك. وإنما كان المستعين تقرب إليه بذلك ليأمن ناحيته، فأحس هو ومن في ناحيته بالشر، فجمع إليه الجماعة الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكل أو بعضها مع غيرهم؛ فلما جمعهم ناظرهم ووكد البيعة عليهم كما وكدها في قتل المتوكل، فقالوا: نحن على بيعتنا، فقال: الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفًا، ونجيء بعلي بن المعتصم أو بابن الواثق، فنقعده خليفة حتى يكون الأمر لنا، كما هو لهذين اللذين قد استوليا على أمر الدنيا، وبقينا نحن في غير شيء؛ فأجابوه إلى ذلك، وانتهى الخبر إلى المستعين. فبعث إلى بغا ووصيف؛ وذلك يوم الاثنين، فقال لهما: ما طلبت إليكما أن تجعلاني خليفة؛ وإنما جعلتماني وأصحابكما، ثم نريدان أن تقتلاني! فحلفا له أنهما ما علما بذلك، فأعلمهما الخبر. وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكّر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه؛ فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا. فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضرًا دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعُطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود؛ فامتنع عليهم؛ فحبسوه في الحمام؛ وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إسطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح؛ فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة؛ فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه؛ فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعًا، وتراكض الناس يومهم - وهو يوم الثلاثاء وليلته - بالسلاح جائين وذاهبين؛ فقال لهم وصيف: ترفقوا حتى تنظروا؛ فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه. فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى عملوا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد؛ وقد كان وصيف أعطى قومًا من المغاربة فرسانًا ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور؛ وقد كان عدةٌ من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا. فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد - وكان أحد خلفاء وصف من الأتراك - أنه كان المتولى مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين؛ فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك إلى دور دليل بن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه؛ فانتبهوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات؛ وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب؛ ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها؛ من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار؛ لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب. وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي: لعمري لئن قتلوا باغرًا ** لقد هاج باغر حربًا طحونا وفرّ الخليفة والقائدا ** ن بالليل يلتسمان السفينا وصاحوا بميسان ملاحهم ** فجاءهم يسبق الناظرينا فألزمهم بطن حراقةٍ ** وصرت مجاذيفهم سائرينا وما كان قدر ابن مارمةٍ ** فتسكب فيه الحروب الزبونا ولكن دليلٌ سعى سعيةً ** فأخزى الإله بها العالمينا فحل ببغداد قبل الشروق ** فحل بها منه ما يكرهونا فليت السفينة لم تأتنا ** وغرقها الله والراكبينا وأقبلت الترك والمغربون ** وجاء الفراغنة الدارعونا تسير كراديسهم في السلاح ** يروحون خيلًا ورجلًا ثبينا فقام بحربهم عالمٌ ** بأمر الحروب تولاه حينا فجدد سورًا على الجانب ** ين حتى أحاطهم أجمعينا وأحكم أبوابها المصمتات ** على السور بها المستعينا وهيا مجانيق خطارةً ** تفيت النفوس وتحمي العرينا وعبى فروضًا وجيشية ** ألوف ألوفٍ إذ تحسبونا وعبى المجانيق منظومةً ** على السور حتى أغار العيونا فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له، ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل: لئن عقرك القيد؛ لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة. ومات ابن مارمة في تلك الأيام؛ فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد: ما زال إلا لزوال ملكه ** وحتفه من بعده وهلكه ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحًا قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار إلا سرًا أو بمؤنة ثقيلة. وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين. ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين ونصبهم الحرب لمن أقام على الوفاء ببيعته قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد؛ وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام - وقيل لخمسة أيام - خلون من المحرم من هذه السنة؛ فلما وافاها، نزل المستعين على محمد ين بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام؛ فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعًا إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحية وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي؛ وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا. وكان - فيما ذكر - وجّه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولًا، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم، ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللًا وخضوعًا، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم؛ ألو ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم؛ وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها؛ كل ذلك إرادةً لصلاحكم ورضاكم؛ وأنتم تزدادون بغيًا وفسادًا وتهددًا وإبعادًا!. فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت؛ فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا؛ فإن الأرتاك ينتظرونك؛ فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكن في حلق بايكباك. وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين؛ قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك. وقال: هؤلاء قوم عجم؛ ليس لهم معرفة بحدود الكلام. وقال لهم المستعين، تصيرون إلى سامرا؛ فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في أمري ها هنا ومقامي. فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضًا لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له؛ وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه؛ موكلٌ بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة؛ وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم. وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشأم نحوًا من خمسمائة ألف دينار؛ وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس بن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار؛ فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت: بسم الله الرحمن الرحيم. تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيع طوع واعتقاد، ورضًا ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم؛ لا مكرهين ولا مجبرين؛ بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه؛ ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين؛ على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده؛ لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله وأبو عبد الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين؛ من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد؛ سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى يه أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقةً، راغبين طائعين؛ عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة؛ وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته؛ وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعةً يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها. وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها؛ لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول؛ حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين؛ إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: " إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا ". عليكم بذلك وبما أكدت عليكم به هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم من وفاء ونصرة، وموالاة واجتهاد. وعليكم عهد الله إن عهده كان مسئولا، وذمة الله عز وجل وذمة محمد ﷺ، وما أخذ الله على أبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من مواكيده ومواثيقه؛ أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا ولا تميلوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم الله عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم، وذوي الوفاء والعهد بوفائهم، ولا يلفتكم عن ذلك هوى ولا ميلٌ، ولا يزيغ قلوبكم فتنة أو ضلالة عن هدىً، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة والوفاء بما جعلتم على أنفسكم؛ لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلّا الوفاء بها. فمن نكث منكم ممّ بايع أمير المؤمنين وولّى عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين هذه البيعة على ما أخذ عليكم، مسرًّا أو معلنًا، مصرّحًا أو محتالًا أو متأوّلًا؛ وادّهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق الله وعهوده، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الرأي؛ فكلّ ما يملك كلّ واحد منكم ممن خير في ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع صدقةٌ على المساكين في وجوه سبيل الله، محبوس محرّم عليه أن يرجع شيئًا من ذلك إلى ماليه؛ عن حيلة يقدمها لنفسه، أو يحتال له بها؛ وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقلّ خطرها أو يجلّ؛ فذلك سبيلها، إلى أن توافيه منيّته، ويأتي عليه أجله. وكلّ مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة؛ ذكر أو أنثى، أحرار لوجه الله، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوّج بعدهنّ إلى ثلاثين سنة طوالق طلاق الحرج؛ لا يقبل الله منه إلا الوفغاء بها؛ وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان؛ ولا قبل الله منه صرفًا ولا عدلًا؛ والله عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأحضر - فيما ذكر - البيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه النقرس محمولًا في محفّة؛ فأمر بالبيعة فامتنع؛ وقال للمعتزّ: خرجت إلينا خروج طائع فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها؛ فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف. فقال أبو أحمد: ما علينا أنك أكرهت؛ وقد بايعنا هذا الرجل؛ فتريد أن نطلّق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون! إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس؛ وإلا فهذا السيف. فقال المعتزّ اتركوه، فردّ إلى منزله من غير بيعة. وكان مم بايع إبراهيم الديرج وعتذاب بن عتّاب، فهرب فصار إلى بغداد، وأما الديرج فخلع عليه، وأقرّ على الشرطة، وخلع على سليمان بن يسار الكاتب، وصيّر على ديوان الضياع، وأقام يومه يأملار وينهى وينفّذ الأعمال، ثم توارى في الليل، وصار إلى بغداد. ولما بايع الأتراك المعتزّ ولىّ عما له، فولّى سعيد بن صالح الشرطة، وجعفر ابن دينار الحرس، وجعفر بن محمود الوزارة، وأبا الحمار ديوان الخراج؛ ثم عزل وجعل مكانه محمد بن براهيم منقار، وولى ديوان جيش الأتراك المعروف بأبي عمر، كاتب سيما الشرابي، وولّى مقلّدًا كيد الكلب أخا أبي عمر بيوت الأموال وإعطاء الأتراك والمغاربة والشاكريّة، وولّى بريد الآفاق والخاتم سيما السارباني، واستكتب أبا عمر؛ فكان في حدّ الوزارة. ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتزّ وتوجيه العمال، أمر بقطع الميرة عن أهل سامرّا، وكتب إلى مالك بن طوق في المصير إلى بغداد هو وم معه من أهل بيته وجنده، وإلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع أهل بيته ومنع الشسفن أو شيء من الميرة أن ينحدر إلى سامرّا، ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد إلى سامرا، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط، فهرب الملاح منها وبقيت السفينة حتى غرقت، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد؛ فتقدم في ذلك؛ فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة وم دجلة من باب قطيعة أم جعفر، حتى أورده قصر جميد بن عبد الحميد، ورتب على كل باب قائدًا في جماعة من أصحابه وغيرهم وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعًا ومظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والأمطار؛ فبلغت النفقة - فيما ذكر - على السورين وحفر الخنادق والمظلات ثلثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار؛ وجعل على باب الشماسية خمس شداخات بعرض الطريق؛ فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاسي باب معلق بمقدار الباب ثخين، قد ألبس بصفائح الحديد، وشد بالحبال كي إن وافى أحدٌ ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلق، فقتل من تحته، وجعل على الباب الداخل عرادة، وعلى الباب الخارج خمسة مجانيق كبار؛ وفيها واحدٌ كبير سموة الغضبان، وست عرادات ترمى بها إلى ناحية رقة الشماسية؛ وصير على باب البردان ثماني عرادات، في كل ناحية أربع، وأربع شداخات وكذلك على كل باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقي والغربي، " وجعل على كل باب من أبوابها قوادًا برجالهم " وجعل لكل باب من أبوابها دهليزًا بسقائف تسع مائة فارس ومائة راجل؛ ولكل منجنيق وعرادة رجالًا مرتبين يمدون بحباله. وراميًا يرمي إذا كان القتال. وفرض فروضًا ببغداد ومر قوم من أهل خراسان قدموا حجاجًا، فسألوا المعونة على قتال الأتراك فأعينوا. وأمر محمد بن عبد الله بن طاهر أن يفرض من العيارين فرض، وأن يجعل عليهم عريف، ويعمل لهم تراس من البواري المقيرة، وأن يعمل لهم مخال تملأ حجارة. ففعل ذلك وتولى - فيما ذكر - عمل البواري المقيرة محمد بن أبي عون. وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها. عملت نسائجات، أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب البواري المثيرة من العيارين رجلًا يقال له ينتويه. وكان الفراغ من عمل السور يوم الخميس لسبع بقين من المحرم. وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان إلى بغداد، ولا يحملون إلى سامرا شيئًا؛ وإلى عماب المعاون في رد كتب الأتراك. وأمر بالكتاب إلى الأتراك والجند الذين بسامرا يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء ببيعتهم إياه، ويذكرهم أياديه عندهم، وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته؛ وكان كتابه بذلك إلى سيما الشرابي. ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله بن طاهر مكاتبات ومراسلات يدعو المعتز محمدًا إلى الدخول فيما دخل فيه من بايعه بالخلافة وخلع المستعين ويذكره ما كان أبوه المتوكل أخذ له عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة، ودعوة محمد بن عبد الله المعتز إلى ما عليه من الأوبة إلى طاعة المستعين، واحتجاج كل واحد منهما على صاحبه فيما يدعوه إليه من ذلك بما يراه حجة له؛ تركت ذكرها كراهة الإطالة بذكرها. وأمر محمد بن عبد الله بكسر القناطير وبثق المياه بطسوج الأنبار وما قرب منه من طسوج بادرويا، ليقطع طريق الأتراك حين تخوف من ورودهم الأنبار. وكان الذي تولى ذلك نجوبة بن قيس ومحمد بن حمد بن منصور السعدي. وبلغ محمد بن عبد الله توجيه الأتراك لاستقبال الشمسة التي كانت مع البينوق الفرغاني من يحميها من أصحابه. فوجه محمد ليلة الأربعاء لعشر بقين من المحرم خالد بن عمران وبندار الطبري إلى ناحية الأنبار. ثم وجه بعدها رشيد بن كاوس، فصادفوا البينوق ومن معه من الأتراك والمغاربة، وطالبهم خالد بن وبندار بالشمسة فصار البينوق وأصحابه مع خالد وبندار إلى بغداد إلى المستعين. وكان محمد بن الحسن بن جياويه الكردي يتولى معونة عكبراء؛ وكان على الراذان رجل من المغاربة قد اجتمع عنده مال، فتوجه إليه ابن جيلويه، ودعاه إلى حمل مال الناحية، فامتنع عليه، ونصب له الحرب؛ فأسر ابن جيلويه المغربي، وحمله إلى باب محمد بن عبد الله ومعه من مال الناحية اثنا عشر ألف دينار وثلاثون ألف درهم، فأمر محمد بن عبد الله لابن جيلويه بعشرة آلاف درهم. وكتب كل ولاحد من المستعين والمعتز إلى موسى بغا وهو مقيم بأطراف الشام قرب الجزيرة وكان خرج إلى حمص لحرب بأهلها - يدعوه إلى نفسه، وبعث كلّ واحد منهما إليه بعدة ألوية يعقدها لمن أحب ويأمره المستعين بالإنصراف إلى مدينة السلام، ويستخلف على عمله من رأى فانصرف إلى المعتز وصار معه. وقدم عبد الله بن بغا الصغير بغداد على أبيه؛ وكان قد تخلف بسامرا حين خرج أبوه منها مع المستعين، وصار إلى المستعين، فاعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك. وأقام ببغداد أيامًا، ثم استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له؛ فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت ليلته، فمضى في الجانب الغربي إلى سامرا مجانيًا لأبيه وممالئًا عليه؛ واعتذر إلى المعتز من مصره إلى بغداد، وأخبره أنه إنما صار إليها ليعرف أخبارهم، وليصير إليه فيعرفه صحتها. فقبل ذلك منه، ورده إلى خدمته. وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة، وزاد في أرزاقه ستة عشر ألف درهم في كل شهر. ولم يزل أسد بن داودسياه مقيمًا بسامرا، حتى هرب منها، فذكر أن الأتراك بعثوا في طلبه إلى ناحية الموصل والأننار والجانب الغربي في كل ناحية خمسين فارسًا، فوافى مدينة السلام؛ فدخل على محمد بن عبد الله فضم إليه من أصحاب إبراهيم الديرج مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبد الله بن موسى بن أبي خالد. وعقد المعتز لأخيه أبي حمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة - وهي سنة إحدى وخمسين ومائتين - على حرب المستعين وابن طاهر؛ وولاه ذلك، وضم إليه الجيش، وجعل إليه الأمر والنهي، وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي، فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراعنة وألفين من المغاربة، وضم المغاربة إلى محمد بن راشد المغربي، فوافوا عكبراء ليلة الجمعة لليلة بقيت من المحرم؛ فصلى أبو أحمد ودعا للمعتز بالخلافة؛ وكتب بذلك نسخًا إلى المعتز؛ فذكر جماعة من أهل عكبراء أنهم رأوا الأتراك والمغاربة وسائر أتباعهم؛ وهم على خوف شديد، يرون أن محمد بن عبد الله قد خرج إليهم فسبقهم إلى حربهم، وجعلوا ينتبهون القرى ما بين عكبراء، وبغداد وأوانا وسائر القرى من الجانب الغربي، تخوفًا على أنفسهم وخلوا عن الغلات والضياع؛ فخربت الضياع، وانتهبت الغلات والأمتعة وهدمت المنازل، وسلب الناس في الطريق. ولما وافى أبو أحمد عكبراء ومن معه خرج جماعة من الأتراك الذين كانوا مع بغا الشرابي بمدينة السلام من مواليه والمضمومين إليه، فهربوا ليلًا، فاجتازوا بباب الشماسية؛ وكان على الباب عبد الرحمن بن الخطاب، ولم يعلم بخبرهم؛ وبلغ محمد بن عبد الله ذلك، فأنكره عليه وعنقه، وتقدم في حفظ الأبواب وحراستها والنفقة على من يتولاها. ولما وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكل بباب الشماسية. ثم وافى أبو أحمد وعسكره الشماسيّة ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، ومعه كاتبه محمد بن عبد الله بن بشر بن سعد المرثدي، وصاحب خبر العسكر من قبل المعتزّ الحسن بن عمرو بن قماش ومن قبله، صاحب خبر له يقال له جعفر بن أحمد البناتي، يعرف بابن الخبازة، فقال رجل من البصريتيّن كان في عسكره ويعرف بباذنجانة: يا بني طاهر أتتكم جنود الل ** ه والموت بينها منثور وجيوشٌ أما مهنّ أبو أحم ** د نعم المولى ونعم النصير ولمّا صار أبو أحمد بباب الشماسيّة ولّى المستعين الحسين بن إسماعيل باب الشماسية، وصيّر من هناك من القواد تحت يده؛ فلم يزل مقيمًا هناك مدّة الحرب إلى أن شخص إلى الأنبار؛ فولّى مكانه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم؛ ولثلاث عشرة مضت من صفر؛ صار إلى محمد بن عبد الله جاسوس له؛ فأعلمه أن أبا أحمد قد عبّى قومًا يحرقون ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فكشطت في ذلك اليوم. وذكر أن محمد بن عبد الله وجّه محمد بن موسى المنجم والحسين بن إسماعيل، وأمرهما أن يخرجا من الجانب الغربي، وأن يرتفعا حتى يجاوزا عسكر أبي أحمد ويجزرا: كم في عسكره؟ فزعم محمد بن موسى أنه حزرهم ألفى إنسان، معهم ألف دابة؛ فلما كان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسيّة، فوقفوا بالقرب منه؛ فوجّه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبري فيمن معهم؛ وعزم على الركوب لمقاتلتهم، فانصرف إليه الشاه، فأعلمه أنه وافى بمن معه باب الشماسيّة. فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات وقد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم؛ فانصرف الشاه والحسين، وترك محمد الركوب يومئذ. فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم بن محمد بن عبد الله على توجيه الجيوش إلا القفص ليعرض جنده هنالك، ويرهب بذلك الأتراك؛ وركب معه وصيف وبغا في الدروع، وعلى محمد درع، وفوق الدرع صدرة من درع طاهر؛ وعليه ساعد حديد؛ ومضى معه بالفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى الرجوع عمّا هم عليه من التمادي في الطغيان واللجاج والعصيان، وبعث يبذل لهم الأمان على أن يكون أبو عبد الله ولىّ العهد بعد المستعين؛ فإن قبلوا الأمان وإلّا باكرهم بالقتال يوم الأربعاء لاإثنتي عشرة ليلة تخلو من صفر؛ فمضى نحو باب قطربل، فنزل على شاطىء دجلة هو ووصيف وبغا، ولم يمكنه التقدّم لكثرة الناس؛ وعارضهم من جانب دجلة الشرقي محمد بن راشد المغربي. ثم انصرف محمد؛ فلما كان من الغد وافته رسل عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس وعلك القائد ومن معهما من القواد، يعلمونه أنّ القوم قد دنوا منهم، وأنهم قد رجعوا إلى عسكرهم إلى رقة الشماسيّة، فنزلوا وضربوا مضاربهم فأرسل إليهم ألا تبدءوهم، وإن قاتلوكم فلا تقتلوهم؛ وادفعوهم اليوم. فوافى باب الشماسية اثنا عشر فارسًا من عسكر الأتراك - وكان على باب الشماسية باب وسرب، وعلى السرب باب فوقف الإثنا عشر الفارس بإزاء الباب، وشتموا من عليه، ورموا بالسهام، ومن بباب الشماسية سكوت عنهم، فلما أكثروا أمر علك صاحب المنجنيق أن يرميهم؛ فرماهم فأصاب منهم رجلًا فقتله؛ فنزل أصحابه إليه، فحملوه وانصرفوا إلى عسكرهم بباب الشماسية. وقدم عبد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي الموجه إلى طريق مكة لضبط الطريق مع أبي الساج في ثلثمائة رجل من الشاكرية، فدخل على محمد بن عبد الله، فخلع عليه خمس خلع، وعلى الآخر ممن معه أربع خلع. ودخل أيضًا في هذا اليوم رجل من الأعراب من أهل الثعلبية يطلب الفرض معه خمسون رجلًا، وورد الشاكرية القادمون من سامرا من قيادات شتى؛ وهم أربعون رجلًا، فأمر بإعطائهم وإنزالهم فأعطوا. ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية، فرموا بالسهام والمجنيق والعرادات؛ وكان بينهم قتلى وجرحى كثير؛ وكان الأمير الحسين بن إسماعيل لمحاربتهم، ثم أمدّ بأربعمائة رجلمن الملطيينّ مع رجل يعرف بأبي السنا الغنوي " وهو ابن أخت الهيثم الغوي " ثم أمدّ بقوم من الأعراب نحو من ثلثمائة رجل، وحمل في هذا اليوم من الصلاة لم أبلى في الحرب خمسة وعشرين ألف درهم، وأطوقة وأسورة من ذهب فصار ذلك إلى الحسين ابن إسماعيل وعبد الرحمن بن الخطاب وعلك ويحيى بن هرثمة والحسن بن الأفشين وصاحب الحرب الحسين بن إسماعيل؛ فكان الجرحى من أهل بغداد أكثر من مائتي إنسان، والقتلى عدة، وكذلك الجراحات في الأتراك والقتلى أكثرهم بالمجانيق؛ وانهزم أكثر عامة أهل بغداد، وثبت أصحاب البواري وانصرفوا جميعًا، وهم في القتلى والجرحى شبيه بالسواء؛ وجرح من هؤلاء - فيما ذكر - مائتان، ومن هؤلاء مائتان، وقتل جماعة من الفريقين. وجاء كردوس من الفراعنة والأتراك في هذا اليوم إلى باب خراسان من الجانب الشرقي ليدخلوا منه، وأتى الصريخ محمد بن عبد الله، وثبت لهم المبيضة والغوغاء فردوهم. وقد كان محمد أمر أن يمخر تلك الناحية؛ فلما أرادوا الإنصراف، وحلت عامة دوابهم، ونجا أكثرهم، أحضر الأتراك منجنيقًا، فغلبهم الغوغاء عليه والمبيضة، وكسروا قائمة من قوائمه، وقتل اثنان من الشاشية من الحجاج، وأمر بحمل الآجر من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية؛ وفتحوا باب الشماسية، وأخرجوا إلى الآجر من لقطه وردوه إلى هذا الجانب من السور. وكان محمد بن عبد الله اتصل به أن جماعة من الأتراك قد صاروا إلى ناحية النهروان، فوجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الله بن محمود السرخسي ويحيى بن حفص المعروف بحبوس في خمسمائة من الفرسان والرجالة إلى هذه الناحية، ثم أردفهم بسبعمائة رجل أيضًا، وأمرهم بالمقام هناك؛ ومنع من أراده من الأتراك؛ فتوجّه آخرهم إلا هذه الناحية يوم الجمعة لسبع خلون من صفر. فلما كان ليلة الاثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، صار قوم من الأتراك إلى النهّروان، فخرج جماعة ممن كان مع عبد الله بن محمود، فرجعوا هرابًا، وأخذت دوابّهم، وانصرف من نجا منهم ألى مدينة السلام مفلولين، وقتل زهاء خمسين رجلًا، وأخذوا ستين دابة، وعدّة من البغال قد كانت جاءت من ناحية حلوان عليها الثلج، فوجّهوا بها إلى سامرّا، ووجهوا برءوس من قتلوا من الجند، فكانت أول روءس وافت في تلك الحرب سامرّا. وانصرف عبد الله بن محمود مفلولًا في شرذمة، وصار طريق خراسان في أيدي الأتراك، وانقطع الطريق من بغداد إلى خراسان. وكان إسماعيل بن فراشة وجّه إلى همذان للمقام بها، فكتب إليه بلانصراف، فانصرف، فأعطى هو وأصحابه استحقاقاتهم. ووجّه المعتزّ عسكرًا من الأتراك والمغاربة والفراعنة ومن هو في عدادهم. وعلى الأتراك والفراعنة الدرغمان الفرعاني، وعلى المغاربة ربلة المغربي، فساروا إلى مدينة السلام من الجانب الغربي، فجاوزوا قطربّل إلى بغداد، وضربوا عسكرهم بين قطربل وقطيعة أم جعفر؛ وذلك عشيّة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر. فلما كان يوم الأربعاء من غدة هذه الليلة، وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارًا وخالد بن عمران فيمن معهم من أصحابهم من الفرسان والرجالة. فصافهم الشاه وأصحابه، فتراموا بالحجارة والسهام، وألجئوا الشاه إلى مضيق عند باب القطيعة، وكثر المبيضة من أهل بغداد، ثم حمل الشاه والمبيضة جملة واحدة أزالوا بها الأتراك والمغاربة وم معهم عن موضعهم، وحمل عليهم المبيضة، وأصحروا بهم، وحمل عليهم الطبرية فخالهطوهم؛ وخرج عليهم بندار وخالد بن عمران من الكمين؛ وكانوا كمنوا في ناحية قطربل، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد الأتراك منهم وغيرهم السيف، فقتلوهم أبرح قتل؛ فلم يفلت منهم إلا القليل، وانتهب المبيضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأهل والأثقال والمضارب والحرثى، فكل من أفلت منهم من السيف رمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد؛ فأخذه أصحاب الشبارات، وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة - فقتلوا وأسروا وجعل القتلى والرءوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسرين؛ وعلى باب محمد بن عبد الله؛ فأمر محمد بن عبد الله لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، فسور قوم كثير من الجند وغيرهم، فطلب المنهزمة فبلغ بعضهم أوأنا، وبلغ بعضهم ناحية عسكر أبي أحمد عبر دجلة، وبعضهم نفذ إلى سامرا. وذكر أن عسكر الأتراك يوم هزموا بباب القطيعة كانوا أربعة آلاف، فقتل منهم يوم الوقعة هنالك ألفان؛ وكان وضع فيهم بالسيف من باب القطيعة إلى القفص، فقتلوا من قتلوا، وغرّق من غرّق، وأسر منهم جماعة، فخلع محمد بن عبد الله على بندار أربع خلع ملحم، ووشى وسواد وخزّ، وطوّقه طوقًا من ذهب وخلع على أبي السنا أربع خلع، وعلى خالد بن عمران وجميع القوّاد، كلّ رجل أربع خلع. وكان انصرافهم من الوقعة مع المغرب، وسخّرت البغال، وأخذ لها الجواليق لتحمل فيها الروءس إلى بغداد. وكان كلّ من وافى دار محمد برأسٍ تركي أو مغربي أعطوه خمسين درهمًا، وكان أكثر ذلك العمل للمبيّضة والعيّارين؛ ثم وافى عيّارو بغداد قطربّل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع أهل قطربّل وأبواب دورهم؛ فوجّه محمد في آخر هذا اليوم أخاه أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله والمظفّر بن سيسل في أثر النهزمين حياطة لأهل بغداد؛ لأنه لم يأمن رجعتهم عليه فبلغا القفص، وانصرفا سالمين، وزعجا من أقام من الرجّالة والعيارين بناحية قطربل، وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة، ليوغل في آثارهم، فأبى ذلك ولم يتبع موليًّا، ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابًا يذكر فيه هذه الرقعة؛ فقرىء على أهل بغداد في مسجد جامعها، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في أمره، والحكم العدل فلا يردّ حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلّا للحق وأهله، والمالك لكلّ شيء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادي إلى الرحمة فلا يضلّ من انقاد لطاعته، والمقدّم إعذاره ليظاهر به حجته؛ الذي جعل دينه لعبادة رحمة، وخلافه لدينه عصمة، وطاعة خلافائه فرضًا واجبًا على كافة الأمة؛ فهم المستحفظون في أرضه على ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقه؛ لئلا يتشعّب بهم الطرق إلى المخالفة لسبيله، والهادي إلى صراطه؛ ليجمعهم على الجادّة التي ندب إليها عباده الذين بهم يحمى الدين من الغواة والمخالفين؛ محتجّين على الأمم بكتاب الله الذي استعملهم به، ودعا الأمة بحقّ الله الذي اختارهم له؛ إن جاهدوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن بغاهم عدوّ كانت كفاية الله حائلةً دونهم ومعقلًا لهم، وإن كادهم كائد فلله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه؛ فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذي أعزّه وحرسه بهم، ومن ناوأهم فإنما طعن على الحقّ الذي يكلؤه بحراستهم؛ جيوشهم بالنّصر والعزّ منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدّوهم محفوظة، وأيديهم عن دين الله دافعة، وأشياعهم بتناصرهم في الحقّ علية، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضة، ووسائلهم إلى النصر مردودة؛ تجمعهم مواطن التحاكم، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعاداتهم في الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية؛ ليكون أهل الحق على ثقة من إنجاز سابق الوعد، وأعداؤه محجوبون بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معد لهم العذاب عند ربهم، والخزي موصول بنواصيهم في دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم وما الله بظلام للعبيد. وصلى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامة نامية بركاتها، دائمة اتصالها، وسلم تسليمًا 0 والحمد لله تواضعًا لعظمته، والحمد لله إقرارًا بربوبيته، والحمد لله اعترافًا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته. والحمد لله الهادي إلى حمده والموجب له مزيده، والمحصي به عوائده إحسانه، حمدًا يرضاه ويتقلبه، ويوجب طوله وإفضاله. والحمد لله الذي حكم بالخذلان على من بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغى عليه من أنصار حقه وأنزل بذلك كتابه العزيز، موعظة للباغين؛ فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجة عند الله لمن قام بهم فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدم من وعده، وأبان من برهانه: " ثم بغى عليه لينصرنه الله " وعدًا من الله حقًا نهى به أعداءه عن معصيته، وثبت به أولياءه على سبيله؛ والله لا يخلف الميعاد. ولله عند أمير المؤمنين في رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامي عن سلطانه ومحل ثقته، والمتقدم في طاعته ونصيحته لأوليائه، والذاب عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه؛ محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، نعمة يرغب إلى الله في إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطول بمن أراد المزيد فيها؛ فإن الله قدر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية؛ حين حاول أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفوها؛ فقام بحق الله وحق خليفته، محاميًا عنها، مراميًا من ورائها، متناولًا للبعيد برأيه ونظره، مباشرًا للقريب بإشرافه وتفقده، باذلًا نفسه في كل ما قربه من الله، وأوجب له الزلفى عنده، وسيمتع الله أمير المؤمنين به وليًا، مكانفًا على الحق، وناصرًا موازرًا على الخير، وظهيرًا مجاهدًا لعدو الدين. وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة لنعم الله ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التي ألف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة الإسلام من أعناقها، الموالي الأتراك، وما صارت إليه من نصر الغلام المعروف بأبي عبد الله بن المتوكل لإقامتها عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محل سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه؛ وما قابل به أمير خيانتهم وآثره من الأناة في أمرهم. ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعًا من الأتراك والمغاربة، ومن ولج في سوادهم، ودخل في غمارهم، مواتيًا للفتنة من ألفاف الغي، ورأسوا عليهم المعروف بأبي أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام في الجانب الشرقي، معلنين للبغي والإقتدار، مظهرين للغي والإصرار؛ فتأناهم أمير المؤمنين، وفسح لهم في النظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدموا من البيعة، وإفهامهم ما لله عليهم وله في ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعًا، الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن في تمسكهم به سلامة أديانهم وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبين لهم ما سلف من بلائه عندهم؛ من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسني المراتب، والتقدم في المحافل؛ فأبوا إلا تماديًا ونفارًا، وتمسكًا بالغي وإصرارًا. فقلد أمير المؤمنين نصيحه المؤتمن ووليه محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين تدبير أمورهم ودعائهم إلى الحق ما كانت الإنابة أو محاربتهم إن جنح بهم غيهم، وتتابعوا في ضلالهم فلم يألهم نظرًا وإفهامًا، وتبيينًا وإرشادًا، وهم في ذلك رافعون أصواتهم بالتوعد لأهل لمدينة السلام؛ بسفك دمائهم وسبى نسائهم وتغنم أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا في مسيرهم على السبيل التي يستعملها أهل الشرك في غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النهزة لهم، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمى إلا أخذوه؛ حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخباره ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصنًا من معرتهم، لا يمرون بغني إلا خلعوا عنه لباس الغنى؛ ولا بمستور إلا هتكوا عن الذرية والنساء ستره، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يتوقفون عن مسلم بهتك ولا مثلة، ولا يرغبون عما حرم الله من دم ولا حرمة. ثم تلقوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار في الباطل؛ فذلفوا نحو باب الشماسية، وقد رتب محمد ابن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العدة الكاملة، والعدة المتظاهرة، معاقلهم التوكلّ على ربّهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهخليل أمام عدوهم. ومحمد بن عبد الله ولي أمير المؤمنين، يأمرهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم؛ فبادأهم الأولياء بالوعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وعادوهم أيامًا بجموعهم وعدادهم، مدلّين بعدّتهمومقدذرين ألا غالب لهم؛ ولا يعلمون بالله أنّ قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامكه عادلة ماضية لأهل الحقّ عليهم؛ حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفر وافوا باب الشماسيّة بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصّنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم دون سفك الدماء، وسبى النساء، واستباحة الأموال؛ فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرّع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم؛ فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم؛ فقتل الله من حماتهم وغرسانهم ورؤسائهم وقادة باطلهم جماعة كثيرًا عددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي على من نالته أكثر عامتهم. فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم؛ استنهضوا جيشًا من سامرّا من الأتراك والمغاربة في العتاد والعدّة والجلد والأسلحة في الجلنب الغربي، طالبين المعرّة ومؤملين أن ينالوا نيلاص من أهله باشتغال إخوانهم في الجانب الشرقي يأعدائهم. وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعًا بالرجال والعدة، وكل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكف عن الرغبة بواثق أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدًا في جمع ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفت الله في أعضادهم بها. فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي الباب المعروف بباب قطربل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقي من دجلة في عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دونهم من الأبواب معًا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقهم بباطلهم؛ أملًا كاذبًا كادهم الله فيه غير صادق، وظنًا خائبًا لله فيه قضاء نافذ. وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبندار بن موسى الطبري مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربل. وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرف مع كتابه، والتوقف عن الحرب حتى تسبق التذكرة الأسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمع يقابل جمعهم، مستبصرين في حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل فتلقاهم ومن معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنتهم، وأشرعوا لنحورهم أسنتهم، لا يشكون أنهم نهزة المختلس، وغنيمة المنتهب؛ فنادوهم بالموعظة نداء مسمعًا، فمجتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدقهم أولياء الله في لقائهم؛ بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم؛ فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرة بعد كرة عليهم، طعنًا بالرماح، وضربًا بالسيوف، ورشقًا بالسعام؛ فلما مسهم ألم جراحها، وكلمتهم الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى مائهم؛ ولوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية؛ فوقفوا بإزاء الأولاء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم؛ فأنهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخونها فتور، ونية لا يلحقها تقصير؛ ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين. فلما وافى الشاه فيمن معه أعداء الله، وكل بالمواضع التي يتخوف منها مدخل الكمناء، ثم حمل من توجه معه من القواد المسمين ماضين لا يغويهم الوعيد، ولا يشكون من الله في النصر والتأييد، فوضعوا أسيافهم فيهم، تمضى أحكام الله عليهم؛ حتى ألحقوا بالمعسكر الذي كانوا عسكروا فيه وجاوزوه، وسلبوهم كل ما كان من سلاح وكراع وعتاد الحرب؛ فمن قتيلٍ غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصرٍ فيه معتبرٌ لغيره، ومن لاجىء من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود يقاد إلى دار اولياء الله وحزبه، ومن هاربٍ بحشاشة نفسه، قد أسكن الله الخوف قلبه؛ فكانت النقمة بحمد الله واقعة بالفريقين ممن وافى الجانب الغربي قادمًا، ومن عبر إليهم من الجانب الشرقي منجدًا، لم ينج منهم ناجٍ، ولم يعتصم منهم بالتوبة معتصم، ولا أقبل إلى الله مقبل؛ فرقًا أربعًا يجمعها النار، ويشملها عاجل النكال، عظةً ومعتبرًا لأولي الأبصار؛ فكانوا كما قال الله عز وجل " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار ". ولم تزل الحرب بين الأولياء وبين الفرقة التي كانت في الجانب الشرقي والقتل محتفل في أعلامهم، والجراح فاشية فيهم؛ حتى إذا عاينوا ما أنزل الله بأشياعهم من البوار، وأحل بهم من النقمة والاستئصال؛ ما لهم من الله من عاصم، ولا من أوليائه ملجأ ولا موئل؛ ولوا منهزمين مفلولين منكوبين، قد أراهم الله العبر في إخوانهم الغاوية، وطوائفهم المضلة، وضل ما كان في أنفسهم لما رأوا من نصر الله لجنده، وإعزازه لأوليائه؛ والحمد لله رب العالمين، قامع الغواة الناكبين عن دينه، والبغاة الناقضين لعهده، والمراق الخارجين من جملة أهل حقه؛ حمدًا مبلغًا رضاه، وموجبًا أفضل مزيدة؛ وصلى الله أولًا وآخرًا على محمد عبده ورسوله، الهادي إلى سبيله، والداعي إليه بإذنه، وسلم تسليمًا. وكتب سعيد بن حميد يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين. وركب محمد بن عبد الله بن طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر إلى باب الشماسية، وأمر بهدم ما وراء سور بغداد من الدور والحوانيت والبساتين وقطع النخل والشجر من باب الشماسية إلى ثلاثة أبواب؛ لتتسع الناحية على من يحارب فيها؛ وكان وجه من ناحية فارس والأهواز نيفٌ وسبعون حمارًا بمال إلى بغداد، قدم به - فيما ذكر - منكجور بن قارن الأشروسني القائد، فوجه الأتراك وأبو أحمد بن بابك إلى طرارستان في ثلثمائة فارس وراجل؛ ليلتقي ذلك المال إذا صار إليها. فوجه محمد بن عبد الله قائدًا له يقال له يحيى بن حفص، يحمل ذلك المال، فعدل به عن طرارستان، خوفًا من ابن بابك؛ فلما علم ابن بابك أن المال قد فاته ثار بم معه إلى النهروان؛ فأوقع من كان معه من الجند بأهلها، وأخرج أكثرهم، وأحرق سفن الجسر؛ وهي أكثر من عشرين سفينة، وانصرف إلى سامرا. وقدم محمد بن خالد بن يزيد - وكان المستعين قلده الثغور الجزرية، وكان مقيمًا بمدينة بلد ينتظر من يصير إليه من الجند والمال - فلما كان اضطراب أمر الأتراك ودخول المستعين بغداد ما كان، لم يمكنه المصبر إلى بغداد إلا من طريق الرقة، فصار إليها بمن معه من خاصيته وأصحابه؛ وهم زهاء أربعمائة فارس وراجل؛ ثم انحدر منها إلى مدينة السلام، فدخلها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، فصار إلى دار محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فخلع عليه خمس خلع: دبيقي، وملحم وخز، ووشى، وسواد، ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد؛ فأخذ على ظهر الفرات فحاربه في نفر يسير، فهزم وصار إلى ضيعته بالسواد. فذكر عن سعيد بن حميد أنه قال: لما انتهى خبر هزيمة محمد بن عبد الله، قال: ليس يفلح أحدٌ من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره به. وفي هذا اليوم كانت للأتراك وقعة بباب الشماسية، كانوا صاروا إلى الباب، فقاتلوا عليه قتالًا شديدًا حتى كشفوا من عليه، ورموا المنجنيق المنصوب بسرة الباب بالنفط والنار، فلم يعمل فيه نارهم، وكثرهم من على الباب من الجند حتى أزالوهم عن موقفهم، ودفعوهم عن الباب بعد قتلهم عدة يسيرة من أهل بغداد، وجرحهم منهم جماعةً كثيرة بالسهام. فوجه محمد بن عبد الله إليهم عند ذلك العرادات التي كانت تحمل في السفن والزواريق، فرموهم بها رميًا شديدًا، فقتلوا منهم جماعة كثيرة نحوًا من مائة إنسان، فتنحوا عن الباب؛ وكان بعض المغاربة صاروا في هذا اليوم إلى سور الشماسية؛ فرمى كلاب إلى السور، وتعلق به وصعد، فأخذه الموكلون بالسور فقتلوه، ورموا برأسه في المنجشنيق إلى عسكر الأتراك؛ وانصرفوا عند ذلك إلى معسكرهم. وذكر أن بعض الموكلين بسور باب الشماسية من الأنباء هاله ما رأى من كثرة من ورد باب الشماسية في هذا اليوم من الأتراك والمغاربة؛ وكانوا قربوا من الباب بأعلامهم وطبولهم، ووضع بعض المغاربة كلابًا على السور؛ فأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح: يا مستعين، يا منصور، فغلظ؛ فصاح: يا معتز، يا منصور؛ فظنه بعض الموكلين بالباب من المغاربة، فقتلوه وبعثوا برأسه إلى دار محمد بن عبد الله؛ فأمر بنصبه، فجاءت أمه وأخوه في عشية هذا اليوم بجثته في محمل يصيحان ويطلبان رأسه؛ فلم يدفع إليهما؛ ولم يزل منصوبًا على الحسر إلى أن أنزل مع ما أنزل من الرءوس. ووافى ليلة الجمعة لسبع بقين من صفر جماعة من الأتراك باب البردان؛ وكان الموكل به محمد بن رجاء؛ وذلك قبل شخوصه إلى ناحية واسط؛ فقتل منهم ستة نفر، وأسر أربعة، وكان الدرغمان شجاعًا بطلًا، وصار في بعض الأيام مع الأتراك إلى باب الشماسية، فرمى بحجر منجنيق، فأصاب صدره؛ فانصرف به إلى سامرا، فمات بين بصرى وعكبراء؛ فحمل إلى سامرا؛ فذكر يحيى بن العكي القائد المغربي أنه كان إلى جنب الدرغمان في يوم من أيامهم؛ إذ وافاه ناوكي، فأصاب عينه، ثم أصابه بعد ذلك حجر فأطار رأسه، فحمل ميتًا. وذكر عن علي بن حسن الرامي، أنه قال: كنا قد جمعنا على السور على باب الشماسية من الرماة جماعة، وكان مغربي يجيء حتى يقرب من الباب، ثم يكشف استه ثم يضرط ويصيح؛ قال: فانتخبت له سهمًا فأنفذته في دبره حتى خرج من حلقه، وسقط ميتًا. وخرج من الباب جماعة فنصبوه كالمصلوب، وجاءت المغاربة بعد ذلك، فاحتملوه. وذكر أنّ الغوغاء اجتمعوا بسامرّا بعد هزيمة الأتراك يوم قطربّل، ورأوا ضعف أمر المعتزّ، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والسيوف والصيلرقة، وأخذوا جميع ما وجدوا فيها من متاع وغيره، فاجتمع التجار إلى إبراهيم المؤيد أخي المعتزّ، فشكوا ذلك إليه، وأعلموه أنهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم. قال: فقال لهم: كان ينبغي لكم أن تحوّلوا متاعكم إلى منازلكم؛ وكبر عنده ذلك. وقدم بحونة بن قيس بن أبي السعدي يوم السبت لثمان بقين من صفر بمن فرض من الأعراب وهم ستمائة ومائتا فارس. وقدم في هذا اليوم عشرة نفر من وجوه أهل طرطوس يشكون بلكاجور، ويزعمون أن بيعة المعتزّ وردت عليه، فخرج بعد ساعتين من وصول الكتاب، ودعا إلى بيعة المعتزّ، وأخذ القوّاد وأهل الثغر بذلك؛ فبايع أكثرهم، وامتنع بعض، فأقبل على من امتنع بالضرب والقيد والحبس. وذكر أنهم امتنعوا وهربوا لمّا أخذهم بالبيعة كرهًا، فقال وصيف: ما أظن الرجل إلّا " اغترّ وموّه عليه " وأن الوارد عليه بكتاب المعتزّ هو الليث بن بابك، وذكر له أنّ المستعين مات، وأقاموا المعتزّ مكانه؛ فتكلّم هؤلاء النفر يشكون بلكاجور، ونسبوه إلى أه فعل ذلك على عمد، ورفعوا عليه أنه كان يرى في بني الواثق، وقد ورد كتاب بلكاجور يوم الأربعاء لأربع بقين من صفر مع رجل يقال له علي الحسين المعروف بابن الصعّلوك؛ يذكر فيه أنه ورد عليه كتاب من أبي عبد الله بن المتوكل، أنه قد ولي الخلافة، وبايع له. فلما ورد عليه كتاب المستعين بصحة الأمر، جدّد أخذ البيعة على من قبله، وأنه على السمع والطاعة له. فأمر للرسول بألف درهم فقبضها، وقد كان أمر بالكتاب إلى محمد بن علي الأرمني المعروف بأبي نصر بولايته على الثغور الشأمية. فلما ورد كتاب بلكاجور بالطاعة أمسك عن إنفاذ كتاب محمد بن علي الأرمني بالولاية. وفي يوم الاثنين لست بقين من صفر من هذه السنة قدم إسماعيل بن فراشة من ناحية همذان في نحو ثلثمائة فارس، وكان جنده ألفًا وخمسمائة، فتقدّم بعضهم وتأخر بعض، وتفرّقوا، وقد معه برسول للمعتزّ، كان وجّه إليه لأخذ البيعة، فقيّد الرسول وصار به إلى مدينة السلام على بغل بلا إكاف، فخلع على إسماعيل خمس خلع. وورد برجل ذكر أنه علوي أخذ بناحية الري وطبرستان، متوجهًا إلى من هناك من العلوية؛ وكان معه دوابّ وغلمان؛ فأمر به فحبس في دار العامة أشهرًا، ثم أخذ منه كفيل وأطلق. وقرىء في هذا اليوم كتاب موسى بن بغا يذكر فيه أنه ورد كتاب المعتزّ، وأنه دعا أصحابه، وأخبلارهم بما حدث، وأمرهم بتلانصراف معه أللى مدينة السلام؛ فامتنعوا، وأجابه الشاكريّة والأبناء، واعتزله الأتراك ومن كانفهم، وحاربوه فقتل منهم جماعة وأسر أسرى؛ فهم قادمون معه. فكبّروا في دار ابن طاهر عند فراءتهم كتابه. ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة عشر سفائن بحريّة؛ تسمّى البوارج، في كل سفينة اشتيام وثلاثة نفاطين ونجاروخباز وتسعة وثلاثون رجلًا من الجذافين والمقاتلة فذلك في كل سفينة خمسة وأربعون رجلًا. فمدت إلى الجزيرة الشماسية في هذه الليلة، فرمى من فيها من الأتراك بالنيران، فعزموا على الانتقال من معسكرهم برقة الشماسية إلى بستان أبي جعفر بالخير، ثم بدا لهم فارتفعوا فوق عسكرهم في موضع لا ينالهم شي من النار. ولليلة بقيت من صفر صار الأتراك والمغاربة إلى أبواب مدينة السلام من الجانب الشرقي، فأغلقت الأبواب في وجوههم، ورموا بالسهام والمنجنيقات والعرادات، فقتل من الفريقين وجرح جماعة كثيرة، فلم يزالوا كذلك إلى العصر. وفي هذه السنة كر سليمان بن عبد الله راجعًا من جرجان إلى طبرستان وشخص من آمل، وخرج بجمع كثير وخيل وسلاح، فتنحى الحسن بن زيد ولحق بالديلم، فكتب إلى السلطان ابن إخيه محمد بن طاهر بدخوله طبرستان، فقرئ كتابه ببغداد، وكتب نسخة ذلك المستعين إلى بغا الصغير مولى أمير المؤمنين بفتح طبرستان على يدي محمد بن طاهر وهزيمة الحسن ابن زيد، وأن سليمان بن عبد الله دخل سارية على حال من السلامة، وأنه ورد عليه ابنان لقارن بن شهريار مولى أمير المؤمنين، يقال لهما مازيار ورستم، في خمسمائة رجل، إلى ما ذكر من غير ذلك في الفتح، وأن أهل آمل أتوه منيبين مظهرين إنابتهم، مستقلين عثراتهم؛ فلقيهم بما زاد في سكونهم وثقتهم، ونهض بعسكره على تعبيته، مستقرئًا للقرى والطرق، وتقدم بالنهي عن القتل، وترك العرض لأحد في سلب وغيره، وتوعد من جاوز ذلك؛ زأن كتاب أسد بن جندان وافاه بهزيمة علي بن عبد الله الطالبي المسمى بالمرعشي فيمن كان معه؛ وهم أكثر من ألفي رجل ورجلين من رؤساء الجبل، في جمع عظيم عند تأدي الخبر إليهم بانهزام الحسن بن زيد ودخوله بالأولياء إلى تلك الناحية، وأنه دخل مدينة آمل في أحسن هيئة، وأظهر عزة وسلامة شاملة، انقطعت عنه أسباب الفتنة. ولخمس بقين من المحرم من هذه السنة ورد كتاب العلاء بن أحمد عامل بغا الشرابي على الخراج والضياع بإرمينية، بما كان من خروج رجلين بتلك الناحية؛ سماهما وذكر إيقاعه بهما، وأنهما التجآ إلى قلعة، فوضع عليها المجانيق حتى جهدها، وأنهما خرجا من القلعة هاربين، وخفي أمرهما وصارت القلعة في أيدي الأولياء. وفيها أيضًا ورد كتاب مؤرخ لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم بانتقاض أهل أردبيل، وكتاب الطالبي إليهم، وأنه بعث أربعة عساكر على أربعة أبواب مدينتهم ليحاصرهم. وفيها ورد كتاب مخبر عن الحرب التي كانت بين عيسى بن الشيخ والموفق الخارجي وأسر عيسى الموفق، ومسألة عيسى المستعين توجيه ما يحتاج إليه من السلاح؛ ليكون عدة له في البلد، يقوى به الجند على الغزو، وأن يكتب إلى صاحب الصور في توجيه أربع مراكب إليه بجميع آلتها؛ تكون قبله مع ما قبله منها. وفيها أيضًا ورد كتاب محمد بن طاهر بخبر الطالبي الذي ظهر بالري ونواحيها وما أعد له من العساكر، ووجه إليه المقاتلة، وبهرب الحسن ابن زيد عند مصيره إلى المحمدية وإحاطة عسكره بها؛ وأنه عند دخوله المحمدية وكل بالمسالك والطرق، وبث أصحابه، وأن الله أظفره بمحمد بن جعفر أسيرًا على غيره عقد ولا عهد. والذي صار إلى الري من العلوية في المرة الثانية بعد ما أسر محمد بن جعفر أحمد بن عيسى بن علي بن حسين الصغير بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، وإدريس بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن علي بن أبي طالب، وهو الذي خرج في مصعد الحاج، والذي بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه. وفيها أيضًا ورد كتاب من محمد بن طاهر على المستعين، يذكر فيه انهزام الحسن بن زيد منه، وأنه لقيه في زهاء ثلاثين ألفًا، فجرت فيما بينه وبينه حرب، وأنه قتل من رءوس أصحابه ثلثمائة ونيفًا وأربعين رجلًا، وأمر المستعين أن يقرأ نسخة كتابه في الآفاق. وفيها خرج يوسف بن إسماعيل العلوي ابن أخت موسى بن عبد الله الحسيني. وفي شهر ربيع الأول منها أمر محمد بن عبد الله أن يتخذ لعيارى أهل بغداد كافر كوبات، وأن يصير فيها مسامير الحديد، ويجعل ذلك في دار المظفر بن سيسل؛ لأنهم كانوا يحضرون القتال بغير سلاح، وكانوا يرمون بالآجر، ثم أمر مناديًا فنادى: من أراد السلاح فليحضر دار المظفر، فوافاها العيارون من كل جانب فقسم ذلك فيهم، وأثبت أسماءهم، ورأس العيارون عليهم رجلًا يدعى ينتويه؛ يكنى أبا جعفر وعدة أخر؛ يدعى أحدهم دونل، والآخر دمحال، والآخر أبا ملة، والآخر أبا عصارة، فلم يثبت منهم إلا ينتويه؛ فإنه لم يزل رئيسًا على عيارى الجانب الغربي؛ حتى انقضى أمر هذه الفتنة. ولما أعطي العيارون الكافركوبات تفرقوا على أبواب بغداد، فقتلوا من الأتراك ومن أتباعهم نحوًا من خمسين نفسًا في ذلك اليوم، وقتل منهم عشرة أنفس وجرح منهم خمسمائة بالنشاب، وأخذوا من الأتراك علمين وسلمين. وفيها كانت لبحونة بن قيس وقعة مع جماعة من الأتراك بناحية بزوغى، لقيهم هو ومحمد بن أبي عون وغيرهما، فأسروا منهم سبعة، وقتلوا ثلاثة، ورمى بعضهم بنفسه في الماء، فغرق بعضهم ونجا بعضهم. وذكر عن أحمد بن صالح بن شيرزاد، أنه سأل رجلًا من الأسرى عن عدة القوم الذين لقيهم بحونة، قال: كنا أربعين رجلًا، فلقينا بحونة وأصحابه سحرًا، فقتل منا ثلاثة، وغرق ثلاثة، وأسر ثمانية، وأفلت الباقون وأخذ ثماني عشرة دابة وجواشن وراية لعامل أوانا؛ وهو أخو هارون بن شعيب. وكانت الوقعة بأوانا يوم الأربعاء، وأقام جند بحونة وعبد الله بن نصر بن حمزة بقطر بلّ مسلحة. وخرج - فيما ذكر - ينتويه وأصحابه من العيارينّ في بعض هذه الأيام من باب قطريلّ فمضوا يشتمون الأتراك حتى جاوزا قطربلّ، فعبر من عبر إليهم من الأتراك ناشبة في الزواريق، فقتلوا منهم رجلًا، وجرحوا منهم عشرة؛ وكاثرهم العيارون بالحجارة فأثخنوهم، فرجعوا إلى معسكرهم، فأحضر ينتويه دار ابن طاهر؛ فأمر ألا يخرج إلا في يوم قتال وسور وأمر له بخمسمائة درهم. ولأربع عشرة خلت من ربيع الأول منها، قدم من ناحية الرقة مزاحم بن خاقان، وأمر القواد وبني هاشم وأصحاب الدواوين بتلقيه؛ وقدم معه من كان من أصحابه من الخراسانية والأتراك والمغاربة، وكانوا زهاء ألف رجل؛ معهم عتاد الحرب من كل صنف، ودخل بغداد، ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله، وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن يسار بغا، وإبراهيم بن إسحاق خلفهم؛ وهو بوقار ظاهر؛ فلما وصل خلع عليه سبع خلع، وقلد سيقًا، وخلع على ابنيه على كل واحد منهما خمس خلع. ثم أمر أن يفرض له ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرجالة ووجهّ المعتز موسى بن أشناس ومعه حاتم بن داوود بن بنحور في ثلاثة آلاف رجل من الفرسان والرّجالة فعسكر بإزاء عسكر أبي أحمد من الجانب الغربي بباب قطرّبل لليلةٍ خلت من ربيع الآخر الأول. وخرج رجل من العيارّين يعرف بديكويه عل حمار وخليفته على حمار، ومعهم ترسة وسلاح؛ وخرج آخر في الجانب الشرقي يكنى أبا جعفر ويعرف بالمخرمي في خمسمائة رجل في سلاح ظاهر، معهم الترسة وبواري مقيرة وسيوف وسكاكين في مناطقهم، ومعهم كافر كوبات، وقرب العسكر الوارد من سامرا إلى الجانب الغربي من بغداد. فركب محمد بن عبد الله ومعه أربعة عشر قائدًا من قواده في عدة كاملة، وخرج من المبيضة والنظارة خلق كثير، فسار حتى حاذى عسكر أبي أحمد؛ وكانت بينهم في الماء جولة قتل من عسكر أبي أحمد أكثر من خمسين رجلًا، ومضى المبيضة حتى جازت العسكر بأكثر من نصف فرسخ، فعبرت إليهم شبارات من عسكر أبي أحمد؛ فكانت بينهم مناوشة، وأخذوا عدة من الشبارات بما فيها من المقاتلة والملاحين، فاستوثق منهم، وانصرف محمد بن عبد الله، وأمر ابن أبي عون أن يصرف الناس، فوجه ابن أبي عون إلى النظارة والعامة من صرفهم وأغلظ لهم القول، وشتمهم وشتموه، وضرب رجلًا منهم فقتله. وحملت عليه العامة؛ فانكشف من بين أيديهم؛ وقد كان أربع شبارات من شبارات أهل بغداد تخلفت؛ فلما انصرف ابن أبي عون منهزمًا من العامة نظر إليها أهل عسكر أبي أحمد فوجهوا في طلبها شبارات، فأخذوها وأحرقوا منفينة فيها عرادة لأهل بغداد وصار العامة من فورهم إلى دار ابن أبي عون لينهبوها، وقالوا: مايل الأتراك، وأعانهم وانهزم بأصحابه. وكلموا محمد بن عبد الله في صرفه وضجوا، فوجه المظفر بن سيسل في أصحابه، وأمره أن يصرف العامة ويمنعهم أن يأخذوا لابن أبي عون شيئًا من متاعه، وأعلمهم أنه قد عزله عن أمر الشبارات والبحريات والحرب، وصير ذلك إلى أخيه عبيد الله بن عبد الله، فمضى مظفر، فصرف الناس عن دار محمد بن أبي عون. وفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول وافى عسكر الأتراك الشاخص من سامرا إلى بغداد عكبراء، فأخرج ابن طاهر بندار الطبري وأخاه عبيد الله وأبا السنا ومزاحم بن خاقان وأسد بن داود سياه وخالد ابن عمران وغيرهم من قواده، فمضوا حتى بلغوا قطربل، وفيها كمين الأتراك فأوقع بهم، ونشبت الحرب بينهم؛ فدفعهم الأتراك حتى بلغوا الحائطين بطريق قطربل. وقاتل أبو السنا وأسد بن داود قتالًا شديدًا، وقتل كل واحد منهما عدة من الأتراك والمغاربة، ومال أبو السنا ميلةً، وتبعه الناس، فقتل قائدًا من قواد الأتراك يقال له سور، ورفع رأسه فصار من فوره إلى دار ابن طاهر، وأعلمه هزيمة الناس وسأله المدد، فأمر ابن طاهر به فطوق - وكان وزن الأطواق كل طوق ثلاثين دينارًا، وكل سوار سبعة مثاقيل ونصف - وانصرف أبو السنا راجعًا إلى الناس فيمن أخرج إليهم من المدد من جميع الأبواب، فذكر أن محمد بن عبد الله عنف أبا السنا بإخلاله بموضعه ومجيئه نفسه بالرأس، وقال له: أخللت بالناس، فقبح الله هذا الرأس ومجيئك به! ولما انصرف محمد بن عبدوس قاتل أسد بن داود أشد قتال بعد تفرق الناس عنه، فقتل. وثاب إلى موضعه قوم من أهل بغداد بعد ما أخذ الأتراك رأسه، فدافعوهم عن جثته، فحملوه إلى بغداد في زورق، وبلغ الأتراك باب قطربل، فخرج الناس إليهم فدفعوهم دفعًا شديدًا، واتبعوهم حتى نحوهم؛ فأتى دار ابن طاهر بعدة رءوس ممن قتل من الأتراك والمغاربة في هذا اليوم، فأمر بنصبها بباب الشماسية، فنصبت هنالك، ثم رجع الأتراك والمغاربة على أهل بغداد من ناحية قطربل، فقتل من أهل بغداد خلق كثير، وقتل من الأتراك جمع كثير؛ ولم يزل بندار ومن معه يقاتلونهم حتى أمسوا، وانصرف بندار بالناس، وغلقت الأبواب وأمر ابن طاهلار المظفر بن سيسل ورشيد ابن كاوس قائدًا معهم فتوجهوا في نحو من خمسمائة فارس من باب قطربل إلى ناحية عسكر ابن أشناس، فوافوهم على حال سكون وأمن فقتلوا منهم نحوا من ثلثمائة، وأسروا عدة وانصرفوا. وذكر أن الأتراك والمغاربة وافو في هذا اليوم باب القطيعة، فقتلوا نقبًا بقرب الحمام الذي يعرف بباب القطيعة، فقتل أول من خرج منهم من النقب، وكان القتل في هذا اليوم أكثر من الأتراك والمغاربة والجراح بالسهام في أهل بغداد. وسمعت جماعة يذكرون أنه حضر هذه الوقعة غلام لم يبلغ الحلم، ومعه مخلاة فيها حجارة ومقلاع في يده، يرمى عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابهم. وأن أربعة من فرسان الأتراك جعلوا يرمونه فيخطئونه، وجعل يرميهم فلا يخطئ، وتقطر بهم دوابهم؛ فمضوا حتى جاءوا معهم بأربعة من رجالة المغاربة بأيديهم الرماح والتراس، فجعلوا يحملون عليه، ثم داخله اثنان منهم، فرمى بنفسه في الماء، ودخلا خلفه فلم يلحقاه، وعبر إلى الجانب الشرقي، وصبح بهما، وكبر الناس؛ فرجعوا ولم يصلوا إليه. وذكر أن عبيد الله بن عبد الله دعا القوم في هذا اليوم وهم خمسة نفر، فأمر كل واحد منهم بناحية، ثم مضى الناس إلى الحرب، وانصرف هو إلى الباب؛ فقال لعبد الله بن جهم وهو موكل، بباب قطربل: إياك أن تدع منهم أحدًا يدخل منهزمًا من الباب. ونشبتالحرب، وتشتت الناس، ووقعت الهزيمة؛ وثبت أسد بن داود، حتى قتل وقتل بيده ثلاثة، ثم أتاه سهم غرب، فوقع في حلقه فولى، وجاء سهم آخر فوقع في كفل دابته فنشبت به فصرعته؛ ولم يثبت معه أحد إلا ابنه؛ فخرج وكان إغلاق الباب على المنهزمين أشد من عدوهم وحمل - فيما ذكر - سامرا من أهل بغداد سبعون أسيرًا، ومن الرءوس ثلثمائة رأس. وذكر أن الأسرى لماّ قربوا من سامرا أمر الذي وجهّ به معهم ألا يدخلهم سامرا إلّا مغطىّ الوجوه، وأنّ أهل سامرا لما رأروهم كثر ضجيجهم وبكاؤهم؛ وارتفعت أصواتهم وأصوات نسائهم بالصرّاخ والدعاء، فبلغ ذلك المعتزّ، فكره أن تغلط قلوب من بحضرته من الناس عليه، فأمر لكل أسير بدينارين، وتقدم إليهم بترك معاودة القتال، وأمر بالرءوس فدفنت. وكان في الأسرى ابن لمحمد بن نصر بن حمزة وأخ لقسطنطينة جارية أم حبيب وخمسة من وجوه بغداد ممن كان في النظارة؛ فأما ابن محمد بن نصر، فذكر أنه قتل وصلب بإزاء باب الشماسية لمكان أبيه وفي يوم الخميس لأربع بقين من شهر ربيع الأول، قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملًا فيها ستة وثلاثون أسيرًا من أسارى الأعراب في الأغلال، ودخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر، فصار إلى الدار فخلع عليه خمس خلع، وقلد سيفًا، وانصرف إلى منزله مع أصحابه؛ وقد خلع على أربع نفر من أصحابه. وفي يوم الاثنين لا نسلاخ شهر ربيع الأول، وافى باب الشماسيّة - فيما قيل - جماعة من الأتراك، معهم من المعتزّ كتاب إلى محمد بن عبد الله، وسألوا إيصاله إليه، فامتنع الحسينن بن إسماعيل من قبوله حتى استأمر؛ فأمر بقبوله؛ فوافى يوم الجمعة ثلاثة فوارس، فأخرج إليهم الحسين بن إسماعيل رجلًا معه سيف وترس، فأخذ الكتاب من خريطة، فأخرج، فأوصله إلى محمد؛ فإذا فيه تذكير محمد بما يجب عليه من حفظه لقديم العهد بينه وبين المعتزّ والحرمة؛ وأن الواجب كان عليه أن يكون أوّل من سعى في أمره وتوجيه خلافته؛ وذكر أنّ ذلك أوّل كتاب ورد عليه من المعتزّ بعد الحرب. وفي يوم السبت لخمس خلون من ربيع الآخر وافى بغداد حبشون ابن بغا الكبير ومعه يوسف بن يعقوب قوصرّة مولى الهادي فيمن كان مع موسى ابن بغا من الشاكريّة، وانضمّ إليهم عامة الشاكرية المقيمين بالرقة؛ وهم في نحو من ألف وثلثمائة، فخلع عليه خمس خلع، وعلى يوسف أربع خلع، وعلى نحو من عشرين من وجوه الشاكرية، وانصرفوا إلى منازلهم. وقد بغداد رجل ذكر أن عدة الأتراك والمغاربة وحشوهم، في الجانب الغربي اثنا عشر ألف رجل ورأسهم بايكباك القائد، وأن عدة من مع أبي أحمد في الجانب الشرقي سبعة آلاف رجل خليفته عليهم الدرغمان الفرغاني، وأنه ليس بسامرا من قواد الأتراك ولا من قواد المغاربة إلا ستة نفر، وكلوا بحفظ الأبواب، وكانت بين الفريقين وقعة يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الآخر، فقتل - فيما ذكر - فيها من أصحاب المعتز مع من غرق منهم أربعمائة رجل، وقتل من أصحاب ابن طاهر مع من غرق ثلثمائة رجل، لم يكن فيهم إلا جندي؛ وذلك أنه لم يخرج في ذلك اليوم من الغوغاء أحد. وقتل الحسن بن علي الحربي؛ وكان يوم صعبًا على الفريقين جميعًا. وذكر أن مزاحم بن خاقان رمى فيه موسى بن أشناس بسهم فأصابه، فانصرف مجروحًا؛ وافتقد من عسكر أبي أحمد نحو من عشرين قائدًا من الأتراك والمغاربة. ولما كان يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر خلع على أبي الساج خمس خلع وعلى ابن فراشة أربع خلع، وعلى يحيى بن حفص حبوس ثلاث خلع، وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء، وأعطى الجند بغالًا من بغال السلطان يحمل عليها الرجالة، وحمل مزاحم بن خاقان من باب حرب إلى باب السلامة، وصار مكان مزاحم خالد بن عمران الطائي الموصلي. وذكر أن أبا الساج لما أمره ابن طاهر بالشخوص قال له: أيها الأمير، عندي مشورة أشير بها، قال: قل يا أبا جعفر؛ فإنك غير متهم، قال: إن كنت تريد أن تجاد هؤلاء القوم فالرأي لك ألا تفارق قوادك ولا تفرقهم، وأجمعهم حتى تفض هذا العسكر المقيم بإزائك؛ فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من ورائك! فقال: إن لي تدبيرًا، ويكفي إن شاء. فقال: أبو الساج: السمع والطاعة، ومضى لما أمر به: وذكر أن المعتز كتب إلى أبي أحمد يلومه للتقصير في قتال أهل بغداد، فكتب إليه: لأمر المنايا علينا طريق ** وللدهر فيه اتساع وضيق فأيامنا عبرٌ للأنام ** فمنها البكور ومنها الطروق ومنها هنات تشيب الوليد ** ويخذل فيها الصديق الصديق وسورٌ عريضٌ له ذروةٌ ** تفوت العيون وبحرٌ عميق قتالٌ مبيدٌ وسيفٌ عتيدٌ ** وخوف شديد وحصن وثيق وطول صياحٍ لداعي الصباح ال ** سلاح السلاح فما يستفيق فهذا قتيلٌ وهذا جريحٌ ** وهذا حريقٌ وهذا غريق وهذا قتيل وهذا تليل ** وآخر يشدخه المنجنيق هنالك اغتصاب وثم انتهاب ** ودورٌ خرابٌ وكانت تروق إذا ما سمونا إلى مسلكٍ ** وجدناه قد سد عنا الطريق فبالله نبلغ ما نرتجيه ** وبالله ندفع مالا نطيق فأجابه محمد بن عبد الله - أو قيل على لسانه: ألا كل من زاغ عن أمره ** وجار به عن هداه الطريق ملاقٍ من الأمر ما قد وصفت ** وهذا بأمثال هذا خليق ولا سيما ناكثٌ بيعةً ** وتوكيدها فيه عهد وثيق يسد عليه طريق الهدى ** ويلقى من الأمر ما لا يطيق وليس ببالغ ما يرتجيه ** من كان عن غيه لا يفيق أتانا به خبرٌ سائرٌ ** رواه لنا عن خلوقٍ خلوق وهذا الكتاب لنا شاهدٌ ** يصدقه ذا النبي الصدوق أما الشعر الأول: فإنه ينشد لعلي بن أمية في فتنة المخلوع والمأمون، والجواب لا يعرف قائله. وفي ربيع الآخر من هذه السنة ذكر أن مائتي نفس من بين فارس وراجل مضوا من قبل المعتز إلى ناحية البندنيجين ورئيسهم تركى يدعى أبلج، فقصدوا الحسن بن علي، فانتهبوا داره، وأغاروا على قريته، ثم صاروا إلى قرية قريبة منها، فأكلوا وشربوا، فلما اطمأنوا استصرخ عليهم الحسن بن علي أكرادًا من أخواله وقومًا من قرى حوله، فصاروا إليهم وهم غارون، فأوقع بهم وقتل أكثرهم، وأسر سبعة عشر رجلًا منهم، وقتل أبلج، وهرب من بقي منهم ليلًا، ثم بعث الحسن بن علي الأسرى ورأس أبلج ورءوس من قتل معه إلى بغداد. والحسن بن علي هذا رجل من شيبان كان يخلف - فيما ذكر - يحيى بن حفص في عمله، وأمه من الأكراد. ذكر خبر المدائن في هذه الفتنة ذكر أن أبا الساج وإسماعيل بن فراشة ويحيى بن حفص، لما خلع عليهم للشخوص نحو المدائن، وعسكروا بسوق الثلاثاء؛ فلما كان يوم الأحد لعشر بقين من شعر ربيع الأول، حمل رجالته على البغال، وصار إلى المدائن ثم إلى الصيادة؛ وابتدأ في حفر خندق المدائن - وهو خندق كسرى - وكتب يستمد؛ فوجه إليه خمسمائة رجل من رجالة الجيشية؛ وكتان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل، ثم استمده فأمده، فحصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل، ثم أمد بمائتي راجل من الشاكرية القدماء، وحملوا في السفن، وانحدروا إليه يوم الأحد لأربع خلون من جمادى الآخرة. ذكر الخبر عن أمر الأنبار وما كان فيها من هذه الفتنة فمما كان بها أن محمد بن عبد الله وجه بحونة بن قيس في الأعراب إلى الأنبار، وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، ففرض قومًا منهم ومن المشبهة بهم نحوًا من ألفي رجل؛ فأقام بالأنبار وضبطها؛ فبلغه أن قومًا من الأتراك قد قصدوه، فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار، فامتلأ الخدق لزيادة الماء، وفاض على ما يليه من الصحارى؛ فصار الماء إلى السالحين فصار ما يلي الأنبار بطيحة واحدةً، وقطع القناطر التي توصل إلى الأنبار؛ وكتب يستمد. فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين، وضم إليه ممن كان معه من رجاله تتمة ألف رجل، خمسمائة فارس وخمسمائة راجل، فشخص وعسكر في قصر عبدويه، وأمده ابن طاهر بثلثمائة راجل من الملطيين القادمين من الثغور، وانتخبوا، ودفع إليهم استحقاقهم، ونفذوا إليه يوم الثلاثاء. ورحل من قصر عبدويه يوم الاثنين سلخ ربيع الآخر في نحو من ألف وخمسمائة رجل، وأخرج المعتز أبا نصر بن بغا من سامرا على طريق الإسحاقي يوم الثلاثاء، فسار يومه وليلته، فصبح الأنبار ساعة نزلها رشيه بن كاوس. وكان بخونة نازلًا في المدينة ورشيد خارجها فلما وافى أبو نصر عاجل رشيدًا وأصحابه وهم غارون على غير تعبية، فوضع أصحابه فيهم السيف، ورموهم بالنشاب فقتلوه عدة، وثار بعض أصحاب رشيد إلى أسلحتهم، فقاتلوا الأتراك والمغاربة قتالًا شديدًا وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا به منصرفين إلى بغداد. ولما بلغ بحونة ما لقيه أصحاب الرشيد، وأن الأتراك قد مالوا عند انهزام رشيد إلى الأنبار عبر إلى الجانب الغربي، وقطع جسر الأنبار وعبر معه جماعة من أصحابه، وصار الرشيد إلى المحول في ليلته، وسار بحونة في الجانب الغربي حتى وافى بغداد يوم الخميس بالعشى، ثم دخل رشيد في هذه العشية إلى دار ابن طاهر، فأعلم بحونة محمد بن عبد الله أنه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجه إلى رشيد يسأله أن يوجه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتبهم قدام أصحابه، فامتنع من ذلك، وسأله أن يضم إليه ناشبة من الفرسان والرجالة ليصير إلى بني عمه، وذكر أنهم مقيمون هنالك في الجانب الغربي على الطاعة وانتظار أمير المؤمنين، وضمن أن يتلافى ما كان منه، فضم إليه ثلثمائة رجل من فرسان الشاكرية الناشبة ورجالتهم وخلع عليه خمس خلع، ومضى إلى قصر ابن هبيرة يستعد هنالك. ثم اختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار، ووجه محمد بن رجاء الحضاري معه وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس ومحمد بن يحيى وجماعة من الناس، وأمر بإخراج المال لم يخرج مع الحسين ومع هؤلاء القوم؛ فامتنع من كان قدم من ملطية من الشاكرية وهم عظم الناس من قبض رزق أربعة أشهر؛ لأن أكثرهم كان بغير دواب، وقالوا: نحتاج إلى أن نقوى في أنفسنا، ونشتري الدواب. وكان الذي أطلق لهم أربعة آلاف دينار، ثم رضوا بقبض أربعة أشهر؛ فجلس الحسين في مجلس على باب محمد بن عبد الله، وتقدم في تصحيح الجرائد، ليكون عرضه الناس وأصحابه في مدينة أبي جعفر، فأعطى في ذلك اليوم جماعة من خاصته ثم صار الحسين وأصحاب الدواوين بعد ذلك إلى مدينة أبي جعفر، ووضع العطاء لمن يخرج معه من الجند في ثلاثة مجالس؛ واستم إعطاؤهم يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى. فلما كان يوم الاثنين أحضر الحسين بن إسماعيل الدار ومعه القواد الخارجون معه: رشيد بن كاوس، ومحمد بن رجاء، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وأرمش الفرغاني، ومحمد بن يعقوب أخو حزام، ويوسف بن منصور بن يوسف البرم، والحسين بن علي بن يحيى الأرمني، والفضل بن محمد بن الفضل، ومحمد بن هرثمة بن النصر، وخلع على الحسين؛ وقدمت مرتبته إلى الفوج الثاني - وكان في الفوج الرابع - وخلع على هؤلاء القواد، وصير رشيد بن كاوس على المقدمة، ومحمد بن رجاء على الساقة، ومضى الحسين ومن ضم إليه من عشيرته وقواده إلى معسكرهم، وأمر وصيف وبغا أن يسبقا الحسين إلى معسكره، وشيعته عبيد الله وجميع قواد ابن طاهر وكتابه وبنو هاشم والوجوه إلى الياسرية، وأخرج لأهل العسكر من المال ستة وثلاثون ألف دينار، تمام استحقاقهم. فلما كان يوم الخميس سارت مقدمة الحسين والمقلد لها عبد الله بن نصر ومحمد بن يعقوب في ألف فارس، فنزلوا البثق المعروف بالقاطونة؛ وكان الأتراك قد وجهوا إلى المنصورية على خمسة فراسخ من بغداد جماعة منهم ومن المغاربة والغوغاء زهاء مائة إنسان، فظفر بسبعة من المغاربة، فوجه بهم إلى الحسين، فأنفذهم إلى الباب، وسار الحسين يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى. وقد كان أهل الأنبار حين تنحى بحونة ورشيد، وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا الأمان؛ فأعطوه وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوق فيها والانتشار في أمورهم، واطمأنوا إلى ذلك منهم وسكنوا، وطمعوا فيهم أن بفوالهم؛ فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا، وكان في وقت غلبتهم عليها وافتهم سفن من الرقة فيها دقيق وأطواف فيها زيت وغير ذلك؛ فأخذوه وجمعوا ما وجدوا فيها من إبل ودواب وبغال وحمير، ووجهوا بذلك مع من يؤديه إلى منازلهم بسامرا، وانتهبوا ما وجدوا، ووجهوا برءوس من قتل من أصحاب رشيد وبحونة وأهل بغداد وبمن أسروا وكانوا مائة وعشرين رجلًا. والرءوس سبعون رأسًا، وجعلوا في الجوالقات، قد أخرجوا منها رءوسهم حتى صاروا إلى سامرا، وصار الأتراك إلى فم الأستانة، وحاولوا سدها ليقطعوا ماء الفرات عن بغداد؛ فوجهوا رجلًا، ودفعوا إليه مالًا لآلة السكر وسده مع القلوس والصواري، ففطن به ويبتاع ذلك، فحمل إلى دار ابن طاهر بعد أن نالته العامة بالضرب والشتم؛ حتى أشفى على الموت، فسئل عن أمره فصدق، فوجه به إلى الحبس. وكان ابن طاهر قد وجه الحارث خليفة أبي الساج؛ فكان على طريق مكة إلى قصر ابن هبيرة، وضم إليه خمسمائة رجل من فرسان الشاكرية القادمين معه؛ فنفذ ومن معه لسبع خلون من جمادى الأولى، ووجه ابن أبي دلف هشام بن القاسم في مائتي راجل وفارس إلى السيبين، ليقيم هناك؛ فلما توجه الحسين إلى الأنبار كُتب إليه باللحاق بعسكر الحسين ليصير معه إلى الأنبار، ونودي ببغداد في أصحاب الحسين ومزاحم بن خاقان أن يلحقوا بقوادهم. فسار الحسين، وتقدم خالد بن عمران حتى نزل دمما؛ فأراد أن يعقد على نهر أنق جسرًا ليعبر عليه أصحابه، فمانعه الأتراك، فهبر إليهم جماعة من الرجالة فكشفوهم، وعقد خالد الجسر، فعبر هو وأصحابه، وصار الحسين إلى دمما، فعسكر خارجها، وأقام في معسكره يومًا، ووافته طلائع الأتراك مما يلي نهر أنق ونهر رفيل فوق قرية دمما، فصف الحسين أصحابه من جانب النهر والأتراك من الجانب الآخر، وهم زهاء ألف رجل، وتراشقوا بالسهام؛ فجرح بينهم عداد، وانصرف الأتراك إلى الأنبار. وكان بحونة مقيمًا بقصر ابن هبيرة، فانضم إلى الحسين في جميع من كان معه من الأعراب وغيرهم، وكتب بحونة يسأل مالًا لإعطاء أصحابه؛ فأمر أن يحمل إلى معسكر الحسين لإعطاء أصحاب بحون ثلاثة آلاف دينار، وحمل إلى الحسين مال وأطواق وأسورة وجوائز لمن أبلى في الحرب، وكان الحسين وُعد أن يمد بالرجال حتى يكمل عسكره عشرة آلاف رجل، فكتب ينتجز ذلك؛ فأمر بتوجيه أبي السنا محمد بن عبدوس الغنوي والجحاف بن سواد في ألف فارس وراجل من المكليين وجند انتخبوا من قيادات شتى، فقبضوا أنزالهم لليلتين بقيتا من جمادى. وساروا مع أبي السناء والجحاف على نهر كرخايا إلى المحول، ثم إلى دمما، ونزل الحسين بعسكره في موضع يعرف بالقطيعة واسع يحتمل العسكر. فأقام فيه يومه، ثم عزم على الراحلة منه إلى قرب الأنبار، فأشار عليه رشيد والقواد أن ينزل عسكره بهذا الموضع لسعته وحصانته، ويسير هو وقواده في خيلٍ جريدةً، فإن كان الأمر كان قادرًا أن ينقل عسكره؛ وإن كان عليه انحاز إلى عسكره واجع عدوه؛ فلم يقبل الرأي، وحملهم على المسير من موضعهم، فساروا وبين الموضعين فرسخان أو نحوهما. فلما بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه، أمر الناس بالنزول؛ وكان جواسيس الأتراك في عسكر الحسين، فساروا إليهم، وأعلموهم رحلة الحسين، وضيق العسكر بالموضع الذي نزل فيه، فوافوهم والناس يحطون أثقالهم، فسار أهل العسكر، ونادوا السلاح، فصافوهم؛ فكانت بينهم قتلى من الفريقين، وحمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفًا قبيحًا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير في الفرات. وكان الأتراك قد كمنوا قومًا، فخرج الكمين عند ذلك على بقية العسكر؛ فلم يكن لهم ملجأ إلا الفرات. وغرق من أصحاب الحسين خلق كثير، وقُتل جماعة وأسر من الرجالة جماعة؛ وأما الفرسان فضربوا دوابهم هربًا لا يلوون على شيء، والقواد ينادونهم يسألونهم الرجعة، فلم يرجع منهم أحد، وأبلى محمد بن رجاء ورشيد يومئذ بلاء حسنًا، ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد، فلم يملك القواد أمور أصحابهم، فأشفقوا حينئذ على أنفسهم، فانثنوا راجعين وراءهم، يحمونهم من أدبارهم أن يُتبعوا، وحوى الأتراك جميع عسكر الحسين بما فيه من المضارب وأثاث الجند وتجارات أهل السوق؛ وكان معه في السفن سلاح سليم؛ لأن الملاحين حرزوا سفنهم، فسلم ما كان معهم من السلاح ومن تجارات التجار. وذكر عن ابن زنبور كاتب الحسين أنه أخذ للحسين اثنا عشر صندوقًا فيها كسوة ومال من مال السلطان مبلغه ثمانية آلاف دينار، ونحو من أربعة آلاف دينار لنفسه، ونحو من مائة بغل؛ وانتهب فروض الحسين مضارب الحسين وأصحابه، وطاروا مع من طار، فوافوا الياسرية؛ وكان أكثر النهب مع أصحاب أبي السنا. ووافى الحسين والفل الياسرية يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة. ولقي الحسين رجل من التجار في جماعة ممن هبت أموالهم في عسكره، فقال: الحمد لله الذي بيض وجهك! أصعدت في اثني عشر يومًا، وانصرفت في يوم واحد! فتغافل عنه. قال أبو جعفر: ومما انتهى إلينا من خبر الحسين بن إسماعيل ومن كان معه من القواد والجند الذين كان محمد بن عبد الله بن طاهر استنهضهم من بغداد في هذه السنة لحرب من كان قصد الأنبار وما اتصل بها من البلاد من الأتراك والمغاربة، أنه لما صار إلى الياسرية منصرفه مهزومًا من دمما، أقام بها في بستان ابن الحروري، وأقام من وافى الياسرية من المنهزمة في الجانب الغربي من الياسرية، ومُنعوا من العبور، ونُودي ببغداد فيمن دخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في معسكره، وأجلوا ثلاثة أيام؛ فمن وجد منهم ببغداد بعد ثلاثة ضُرب ثلثمائة سوط، ومُحي اسمه من الديوان. فخرج الناس، وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر في أصحابه بالمحول، وأعطى أصحابه أرزاقهم في تلك الليلة في الشرج، ونودي في أصحابه بالمحول باللحاق به. ونودي في الفرض القدماء الذين كانوا فرضوا بسبب أبي الحسين يحيى بن عمر بالكوفة خمسمائة رجل، وأصحاب خالد وهم نحو من ألف رجل، فعسكروا بالمحول يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد. فلقيه في الطريق، فرده إلى بستان ابن الحروري، وأقاموا يومهم؛ فلما كان الليل صاروا إلى دار ابن طاهر، فوبخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية لينفذ إلى الأنبار مع من ينفذ إليها من الجند؛ فصار من ليلته إلى الياسرية. ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لآل هذا العسكر فحمل تسعة آلاف دينار، وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسرية لعرض الجند وإعطائهم. فلما كان يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الآخرة وتوجه خالد بن عمران مصعدًا إلى قنطرة بهلايا - وهي موضع السكر - وخرجت معه نحو من عشرين سفينة، وركب عبيد الله بن عبد الله وأحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد إلى عسكر الحسين بن إسماعيل بالياسرية، فقرءوا على الحسين والقواد كتابًا كُتب به عن المستعين، يخبرهم فيه بسوء طاعتهم وما ركبوا من العصيان والتخاذل؛ فقرئ عليهم والعسكر مقيم، والعراض يعرضونهم ليتعرفوا من قُتل ومن غرق من كل قيادة، ونودي باللحاق بعسكرهم؛ فخرجوا وأتاهم كتاب بعض عيونهم بالأنبار يخبر أن القتلى كانت من الأتراك أكثر من مائتين، والجرحى نحوًا من أربعمائة؛ وأن جميع من أسره الأتراك من أهل بغداد الجيشية والفروض من الرجالة مائتان وعشرون إنسانًا، وأنه عدّ رءوس من قتل فوجدها سبعين رأسًا؛ وكانوا أخذوا جماعة من أهل الأسواق. فصاحوا لأبي نصر: نحن أهل السوق، فقال: ما بالكم معهم! فقالوا: أكرهنا فخرجنا، شئنا " أو أبينا " فأطلق من كان منهم يشبه السوقة. وأمر بحبس الأسرى في القطيفة. وذُكر عن صاحب بغال السلطان: أن جميع ما ذهب من بغال السلطان مائة وعشرون بغلًا. ورحل الحسين يوم الاثنين لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة. وكتب إلى خالد بن عمران وهو مقيم على السكر، أن يرحل متقدمًا أمامه، فامتنع خالد من ذلك؛ وذكر أنه لا يبرح من موضعه إلا أن يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه، لأنه يتخوف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم بناحية قطربل. وأمر ابن طاهر بمال، فحمل إلى الحسين بن إسماعيل لإعطاء جميع من في عسكره رزق شهر واحد؛ ليفرق فيهم بدمما. وأمر أن يخرج معه الكتاب والعراض لأصحابه هنالك، وقلد أمر نفقات عسكره وإعطاء الجند من قبل ديوان الخراج الفضل بن مظفر السبعي، وحمل المال مع السبعي إلى معسكر الحسين، لينفذ معه إذا نفذ. وقد قيل: إن الحسين ارتحل إلى الأنبار في النصف من ليلة الأربعاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، فسار وتبعه من في عسكره يوم الأربعاء؟، ونودي في أصحابه باللحاق به، فسار حتى نزل دمما، وأراد أن يعقد على نهر أنق جسرًا ليعبر عليه، فمانعه الأتراك، فعبر إليهم جماعة من أصحابه من الرجالة، فحاربوهم حتى كشفوهم. وعقد خالد الجسر، فعبر أصحابه ووجه محمد بن عبد الله بكاتبه محمد بن عيسى بشيء تافهه به، فيقال: إنه حمل معه أطواقًا وأسورة، وانصرف إلى منزله، وصار إلى الحسين يوم السبت لثمان خلون من رجب رجل، فأخبره أن الأتراك قد دلوا على عدة مواضع في الفرات، تُخاض إلى عسكره، فأمر بضرب الرجل مائتي سوط، ووكل بالمخاوض رجلًا من قواده، يقال له الحسين بن علي بن يحيى الأرمني في مائة راجل ومائة فارس؛ فطلع أول القوم، فخرج عليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علمًا، فقاتل أحصابه ساعةً، ووكل بالقنطرة أبا السنا، وأمره أن يمنع من انهزم من العبور، فأتى الأتراك المخاضة، فرأوا الموكل بها، فتركوه واقفًا، وصاروا إلى مخاضة أخرى خلف الموكل فقاتلوهم، فصبر الحسين بن علي وقاتل، فقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه، ولم يصل إليه حتى انهزم، وانهزم خالد بن عمران معه ومن معه، ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات، فغرق من لم يحسن السباحة، وعبر من كان يحسن السباحة، فنجا عريانًا، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشط، لما على الشط من الأتراك، فذكر عن بعض جند الحسين، أنه قال: بعض الحسين بن علي الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل أن الأتراك قد وافوا المخاضة، فأتاه الرسول، فقيل: الأمير نائم، فرجع الرسول فأعلمه، فرد آخر، فقال له الحاجب: الأمير في المخرج، فرجع فأخبره. فرد رسولًا ثالثًا، فقال: قد خرج من المخرج ونام؛ فعلت الصيحة فعبر الأتراك، فقعد الحسين في زورق أو شبارة، وانحرد. واستأثر قوم من الخراسانية، ورموا ثيابهم وسلاحهم، وقعدوا على الشط عراةً، وشد أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين بن إسماعيل، واقتطعوا السوق، وانحدرت عامة السفن، فسلمت إلا ما كان موكلًا به منها، ولحق الأتراك أصحاب الحسين، فوضعوا فيهم السيف؛ فقتلوا وأسروا نحوًا من مائتين، وغرق خلقٌ كثير؛ ووافى الحسين والمنهزمة بغداد نصف الليل. ووافى فلهم وبقيتهم في النهار؛ وفيهم جرحى كثيرة؛ فلم يزالوا إلى نصف النهار يتتابعون عراة مجرحين، وفقد من قواد الحسين بن يوسف البرم وغيره. ثم جاء كتابه أنه أسير في أيدي الأتراك عند مفلح؛ وأن عدة الأسرى من وقعة الحسين الثانية مائة ونيف وسبعون إنسانًا، والقتلى مائة، والدواب نحو من ألفي دابة ومائتي بغل وأكثر، وقيمة السلاح والثياب وغير ذلك أكثر من مائة ألف دينار؛ فقال الهندواني في الحسين بن إسماعيل. يا أحزم الناس رأيًا في تخلفه ** عن القتال خلطت لصفو بالكدر لما رأيت سيوف الترك مصلتةً ** علمت ما في سيوف الترك من قدر فصرت منحجزًا ذلًا ومنقصةً ** والنجح يذهب بين العجز والضجر ولحق بالمعتز في جمادى الآخرة منها من بغداد جماعة من الكتاب وبني هاشم، ومن القواد مزاحم بن خاقان أرطوج، ومن الكتاب عيسى بن إبراهيم بن نوح ويعقوب بن إسحاق ونمارى ويعقوب بن صالح بن مرشد ومقلة وابنٌ لأبي مزاحم بن يحيى بن خاقان ومن بني هاشم علي ومحمد ابنا الواثق، ومحمد بن هارون بن عيسى بن جعفر، ومحمد بن سليمان من ولد عبد الصمد بن علي، وفيها كانت وقعة بين محمد بن خالد بن يزيد وأحمد المولد وأيوب بن أحمد بالسكير من أرض بني تغلب، وقتل بين الفريقين جماعة كثيرة، وانهزم محمد بن خالد، وانتهب الآخرون متاعه، وهدم أيوب دور آل هارون بن معمر، وقتل من ظفر به من رجالهم. وفيها كانت لبلكاجور غزوة فتح - فيما ذكر - فيها مطمورة أصاب فيها غنيمة كثيرة، وأسر جماعة من الأعلاج، وورد بذلك على المستعين كتاب تاريخه يوم الأربعاء لثلاث ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين ومائتين. وفي يوم السبت لثمان بقين من رجب من هذه السنة كانت وقعة بين محمد بن رجاء وإسماعيل بن فرشاة وبين جعلان التركي بناحية بادرايا وباكسايا، فهزم ابن رجاء وابن فراشة جعلان، وقتلا من أصحابه جماعة وأسرا جماعة. وفي رجب منها كان - فيما ذكر - وقعة بين ديوداود أبي الساج وبين بايكباك بناحية جرجرايا، قتل فيها أبو الساج بايكباك، وقتل من رجاله جماعة، وأسر منهم جماعة، وغرق منهم في النهروان جماعة. وفي النصف من رجب منها اجتمع من كان ببغداد من بني هاشم من العباسيين، فصاروا إلى الجزيرة التي بإزاء دار محمد بن عبد الله، فصاحوا بالمستعين وتناولوا محمد بن عبد الله بالشم القبيح، وقالوا: منعنا أرزاقنا، وتدفع الأموال إلى غيرنا ممن لا يستحقها، ونحن نموت هزلًا وجوعًا! فإن دفعت إلينا أرزاقنا وإلا قصدنا إلى الأبواب ففتحناها، وأدخلنا الأتراك؛ فليس يخالفنا أحد من أهل بغداد. فعبر إليهم الشاه بن ميكال، فكلمهم ورفق بهم، وسألهم أن يعبر معه منهم ثلاثة أنفس ليدخلهم على ابن طاهر؛ فامتنعوا من ذلك، وأبوا إلا الصياح وشتم محمد بن عبد الله؛ فانصرف عنهم الشاه؛ فلم يزالوا على حالهم إلى قرب الليل، ثم انصرفوا واجتمعوا من غد ذلك اليوم، فوجه إليهم محمد بن عبد الله، فأمرهم بحضور الدار يوم الاثنين ليأمر من يناظرهم، فصاروا إلى الدار، فأمر محمد بن داود الطوسي بمناظرتهم؛ وبذل لهم رزق شهر واحد؛ وأمرهم أن يقبضوا ذلك، ولا يكلفوا الخليفة أكثر من هذا؛ فأبوا أن يقبضوا رزق شهر، وانصرفوا. خروج الحسين بن محمد الطالبي وما آل إليه أمره وفيها خرج بالكوفة رجلٌ من الطالبيين يقال له الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين بن علي بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، فاستخلف بها رجلًا منهم يقال له محمد بن جعفر بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن حسن، ويكنى أبا أحمد، فوجه إليه المستعين مزاحم بن خاقان أرطوج؛ وكان العلوي بسواد الكوفة في ثلثمائة رجل من بني أسد وثلثمائة رجل من الجارودية والزيدية وعامتهم صوافية؛ وكان العامل يومئذ بالكوفة أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، فقتل العلوي من أصحاب ابن نصر أحد عشر رجلًا، منهم من جند الكوفة أربعة، وهرب أحمد بن نصر إلى قصر ابن هبيرة؛ فاجتمع هو وهشام بن أبي دلف؛ وكان يلي بعض سواد الكوفة - فلما صار مزاحم إلى قرية شاهى كتب إليه في المقام حتى يوجه إلى العلوي من يرده إلى الفيئة والرجوع. فوجه إليه داود بن القاسم الجعفري، وأمر له بمالٍ، فتوجه إليه وأبطأ داود وخبره على مزاحم، فزحف مزاحم إلى الكوفة من قرية شاهى، فدخلها وقصد العلوى فهرب، فوجه في طلبه قائدًا، وكتب بفتحه الكوفة في خريطة مريشة. وقد ذكر أن أهل الكوفة عند ورود مزاحم حملوا العلوي على قتاله، ووعدوه النصر، فخرج في غربي الفرات؛ فوجه مزاحم قائدًا من قواده في الشرقي من الفرات، وأمره أن يمضي حتى يعبر قنطرة الكوفة ثم يرجع، فمضى القائد لذلك، وأمر مزاحم بعض أصاحبه الذين بقوا معه أن يعبروا مخاضة الفرات في قرية شاهى، وأن يتقدموا حتى يحاربوا أهل الكوفة ويصافوهم من أمامهم فساروا ومعهم مزاحم، وعبر الفرات، وخلف أثقاله ومن بقي معه من أصحابه؛ فلما رآهم أهل الكوفة ناوشوهم الحرب، ووافاهم قائد مزاحم، فقاتلهم من ورائهم ومزاحم من أمامهم؛ فأطبقوا عليهم جميعًا فلم يفلت منهم أحد. وذكر عن ابن الكردية أن مزاحمًا قتل من أصحابه قبل دخوله الكوفة ثلاثة عشر رجلًا، وقتل من الزيدية أصحاب الصوف سبعة عشر رجلًا، ومن الأعراب ثلثمائة رجل؛ وأنه لما دخل الكوفة رمي بالحجارة فضرب ناحيتي الكوفة بالنار، وأحرق سبعة أسواق؛ حتى خرجت النار إلى السبيع، وهجم على الدار التي فيها العلوى فهرب؛ ثم أتى به وقتل في المعركة من العلوية رجل وذكر أنه حبس جميع من بالكوفة من العلوية، وحبس أبناء هاشم، وكان العلوي فيهم. وذكر عن أبي إسماعيل العلوي أن مزاحمًا أحرق بالكوفة ألف دار، وأنه أخذ ابنة الرجل منهم فعنفها. وذكر أنه أخذ للعلوي جوارٍ، فيهم امرأة حرة مضمومة، فأقامها على باب المسجد ونادى عليها. وفي النصف من رجب من هذه السنة، ورد على مزاحم كتاب من المعتز يأمره بالمصير إليه، ويعده وأصحابه ما يحب ويحبون. فقرأ الكتاب مزاحم على أصحابه؛ فأجابه الأتراك والفراغنة والمغاربة، وأبي الشاكرية ذلك، فمضى فيمن أطاعه منهم وهم زهاء أربعمائة إنسان. وقد كان أبو نوح تقدمه إلى سامرا، فأشار بالكتاب إليه، وكان مزاحم ينتظر أمر الحسين بن إسماعيل؛ فلما انهزم الحسين مضى إلى سامرا؛ وقد كان المستعين وجه إلى مزاحم عند فتح الكوفة عشرة آلاف دينار وخمس خلع وسيفًا، ونفذ الرسول إليه، وألفى الجند الذين كانوا معه في الطريق؛ فردوا جميع ذلك معهم، وصاروا إلى باب محمد بن عبد الله، وأعلموه ما فعل مزاحم. وكان في الجند والشاكرية خليفة الحسين بن يزيد الحراني وهشام بن أبي دلف والحارث خليفة أبي الساج، فأمر ابن طاهر أن يخلع على كل واحد منهم ثلاث خلع. وذكر أن هذا العلوي كان قد ظهر بنينوى في آخر جمادى الآخرة من هذه السنة؛ فاجتمع إليه جماعة من الأعراب، وفيهم قومٌ ممن كان خرج مع يحيى بن عمر في سنة خمسين ومائتين، وقد كان قدم إلى تلك الناحية هشام بن أبي دلف، فواقعهم العلوي في جماعة نحو من خمسين رجلًا، فهزمه وقتل عدة من أصحابه، وأسر عشرين رجلًا وغلامًا، وهرب العلوي إلى الكوفة؛ فاختفى بها، ثم ظهر بعد ذلك. وحمل الأسرى والرءوس إلى بغداد، فعرف خمسة نفر ممن كان مع أصحاب أبي الحسين يحيى بن عمر، فأطلقوا، وأمر محمد بن عبد الله أن يضرب كل واحد ممن أطلق وعاد خمسمائة سوط، فضربوا في آخر يوم من جمادى الآخرة. وذكر أن كتب أبي الساج لما وردت بما كان من إيقاعه ببايكباك؛ وذلك لاثنتي عشرة بقيت من رجب من هذه السنة، وجه إليه بعشرة آلاف دينار معونة له، وبخلعة فيها خمسة أثواب وسيف. وفيها كانت وقعة - فيما ذكر - بين منكجور بن خيدر وبين جماعة من الأتراك بباب المدائن هزمهم فيها منكجور، وقتل منهم جماعة. وفيها كانت لبلكاجور صائفة، فتح فيها فتوحًا فيما ذكر. وفيها كانت وقعة بين يحيى بن هرثمة وأبي الحسين بن قريش، قُتل من الفريقين جماعة، ثم انهزم أبو الحسين بن قريش. وفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان كانت بباب بغواريا وقعة بين الأتراك وأصحاب ابن طاهر؛ وكان السبب في ذلك أن الموكل كان بباب بغواريا إبراهيم بن محمد بن حاتم والقائد المعروف بالنساوي في نحو من ثلثمائة فارس وراجل، فجاءت الأتراك والمغاربة في جمع كبير. فنقبوا السور في موضعين، فدخلوا منهما، فقاتلهم النساوي فهزموه، ووافوا باب الأنبار، وعليه إبراهيم بن مصعب وابن أبي خالد وابن أسد بن داودسياه، وهم لا يعلمون بدخولهم باب بغواريا، فقاتلهم قتالًا شديدًا، فقتل من الفريقين جماعة. ثم إن من كان على باب الأنبار من أهل بغداد انهزموا لا يلوون على شيء، فضرب الأتراك والمغاربة باب الأنبار بالنار فاحترق، وأحرقوا ما كان على باب الأنبار من المجانيق والعرادات، ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد ومقابر الرهينة ومن ناحية الشارع إلى موضع أصحاب الدواليب، فأحرقوا ما هنالك وأحرقوا كل ما قرب من ذلك من أمامهم وورائهم، ونصبوا أعلامهم على الحوانيت التي تقرب من ذلك الموضع، واهزم الناس؛ حتى لم يقف بين أيديهم أحد؛ وكان ذلك مع صلاة الغداة، فوجه ابن طاهر إلى القواد، ثم ركب في السلاح فوقف على باب درب صالح المسكين، ووافاه القواد، فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي، وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف، فتوجه بغا في أصحابه وولده إلى باب بغواريا، وصار الشاه بن ميكال والعباس بن قارن والحسين بن إسماعيل إلى باب الأنبار والغوغاء، فالتقوا والأتراك في داخل الباب، فبادرهم العباس بن قارن، فقتل - فيما ذكر - في مقام واحد جماعة من الأتراك، ووجه برءوسهم إلى باب ابن طاهر، وكاثرهم الناس على هذه الأبواب، فدفعوهم حتى أخرجوهم بعد أن قتل منهم جماعة؛ وكان بغا الشرابي خرج إلى باب بغواريا في جمع كثير، فوافاهم وهم غارون، فقتل منهم جماعة كثيرة، وهرب الباقون، فخرجوا من الباب؛ فلم يزل بغا يحاربهم إلى العصر؛ ثم انهزموا وانصرفوا، ووكل بالباب من يحفظه، وانصرف إلى باب الأنبار، ووجه في حمل الجص والآجر، وأمر بسده. وفي هذا اليوم أيضًا كانت حرب شديدة بباب الشماسية، قتل من الفريقين - فيما ذكر - جماعة كثيرة، وجرح آخرون؛ وكان الذي قاتل الأتراك في هذا اليوم - فيما ذكر - يوسف بن يعقوب قوصرة. وفيها أمر محمد بن عبد الله المظفر بن سيسل أن يعسكر بالياسرية، ففعل ذلك، ثم انتقل إلى الكناسة إلى أن وافاه بالفردل بن إيزنكجيك الأشروسني؛ فأمر له بفرض، وضم إليه رجالًا من الشاكرية وغيرهم، وأمر أن يضام المظفر ويعسكر بالكناسة، ويكون أمرهما واحدًا، ويضبط تلك الناحية؛ فأقاما هنالك حينًا، ثم أمر بالفردل المظفر بالمضي، ليعرف خبر الأتراك ليدبر في أمرهم بما يراه؛ فامتنع من ذلك المظفر، وزعم أن الأمير لم يأمره بشيء مما سأله، وكتب كل واحد منهما يشكو صاحبه، وكتب المظفر يستعفى من المقام بالكناسة، ويزعم أنه ليس بصاحب حرب، فأعفي، وأمر بالانصراف ولزوم البيت؛ وقلد أمر ذلك العسكر ومن فيه من الجند النائبة والأثبات بالفردل، وضم إليه أثبات المظفر وأفرد بالناحية. وفي شهر رمضان من هذه السنة التقى هشام بن أبي دلف والعلوي الخارج بنينوى، ومعه رجل من بني أسد، فاقتتلوا فقتل من أصحاب العلوي - فيما ذكر - نحو من أربعين رجلًا، ثم افترقا، فدخل العلوي الكوفة فبايع أهلها المعتز، ودخل هشام بن أبي دلف بغداد. وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت بين أبي الساج والأتراك وقعة بناحية جرجرايا، وهزمهم فيها أبو الساج، وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر منهم جماعة آخر. ذكر خبر قتل بالفردل ولليلة بقيت من شهر رمضان منها قتل بالفردل؛ وكان سبب قتله أن أبا نصر بن بغا لما غلب على الأنبار وما قرب منها، وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية وأجلاهم عنها، بث خيله ورجاله في أطراف بغداد من الجانب الغربي، وصار إلى قصر ابن هبيرة، وبها بحونة بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال جرى بينه وبينه، ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر، واتصل بابن طاهر خبره وخبر الوقعة التي كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه من الفروض إياه عند احمرار البأس. فندب بالفردل إلى اللحاق بأبي الساج والمسير بمن معه إليه، فسار بالفردل فيمن معه غداة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فسار يومه وصبح المدائن، فوافاها مع موافاة الأتراك ومن هو مضموم إليهم من غيرهم، وبالمدائن رجال ابن طاهر وقواده، فقاتلهم الأتراك، فانهزموا. ولحق من فيها من القواد بأبي الساج، وقاتل قتالًا شديدًا؛ ولما رأى انهزام من هنالك من أصحاب ابن طاهر مضى متوجهًا نحو أبي الساج بمن معه فأدرك فقتل. وذكر عن ابن القواريري - وكان أحد القوّاد - قال: كنت وأبو الحسن ابن هشام موكّلين بباب بغداد ومنكجور منفرد بباب ساباط، وكان بقرب بابه ثلمة في سور المدائن، فسألت منكجور أن يسدّها فأبى. فدخل الأتراك منها، وتفرّق أصحابه. قال: وبقيت في نحو من عشرة أنفس، ووافى بالفردل هو وأصحابه، فقال: أنا الأمير، أنا فارس ومعي فرسان، نمضي على الشطّ، وتكون الرجالة على السفن، فدافع ساعة ثم مضى لوجهه وعسكره في السفن على حالهم يريد أبا الساج، أو تلك الناحية، وأقمت بعده ساعة تامة. وتحتى أشقر عليه حلية، فصرت إلى نهر فعثر بي، فسقطت عنه؛ وقصدوني يقولون: صاحب الأشقر! فخرجت من تانهر راجلًا قد طرحت عني السلاح. فنجوت. وغضب ابن طاهر على ابن القواريري وأصحابه، وأمرهم بلزوم منازلهم، وغرق بالفردل. ولأربع خلون من شوّال من هذه السنة، جمع - فيما ذكر - محمد بن عبد الله بن طاهر جميع قوّاده الموكلين بأبواب بغداد وغيرهم؛ فشاورهم جميعًا في الأمور، وأعلمهم ما ورد عليهم من الهزائم؛ فكلٌ أجاب بما أحبّ من بذل النفس والدم والأموال، فجازهم خيرًا وأدخلهم إلى المستعين، وأعلمه ما ناظرهم فيه وما ردّوا عليه من الجواب، فقال لهم المستعين: والله يا معشر القواد، لئن قاتلت عن نفسي وسلطاني ما أقاتل إلّا عن دولتكم وعامتكم، وأن يردّ الله إليكم أموركم قبل مجيء الأتراك وأشباههم؛ فقد يجب عليكم المناصحة والجهد في قتال هؤلاء الفسقة؛ فردوا أحسن مردّ، وجزاهم الخير، وأمرهم بالانصراف إلى مراكزهم فانصرفوا. ذكر خبر هزيمة الأتراك ببغداد وفي يوم الاثنين لأيام خلت من ذي العقدة من هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد، هزموا فيها الأتراك، وانتهبوا عسكرهم؛ وكان سبب ذلك أن الأبوابكلّها من الجانبين فتحت ونصبت المجانيق والعرّادات في الأبواب كلها والشيّرات في دجلة، وخرج منها الجند كلّهم، وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف حين تزاحف الفريقان، واشتدّت الحرب إلى باب لبقطيعة، ثم عبروا إلى باب الشماسيّة، وقعد ابن طاهر في قبّة ضربت له، وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكيّة في الزواريق؛ ربما انتظم السهم الواحد عدّة منهم فقتلهم، فهزمت الأتراك، وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، وانتهبوا سوقهم هنالك، وضربوا زورقًا لهم كان يقال له الحديدي، كان آفةً على أهل بغداد بالنار، وغرق من فيه، وأخذوا لهم شبّارتين؛ وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء، وجعل وصيف وبغا يقولان كلما جيء برأس: ذهب والله الموالي. واتّبعهم أهل بغداد إلى الروذبار، ووقف أبو أحمد بن المتكل يردّ الموالي، ويخبرهم أنهم إن لم يكرّوا لم يبق لهم بقيّة؛ وأن القوم يتبعونهم إلى سامرّا. فتراجعوا، وثاب بعضهم، وأقبلت العامة تحزّ رءوس من قتل؛ وجعل محمد بن عبد الله يطوّق كلّ من جاء برأس ويصله، حتى كثر ذلك، وبدت الكراهة في وجوه من مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي؛ ثم ارتفعت غبرة من ريح جنوب، وارتفع الدخان مما احترق، وأقبلت أعلام الحسن بن الأفشين مع أعلام الأتراك يقدمها علمٌ أحمر، قد استلبه غلام لشاهك، فنسى أن ينكّسه؛ فلما رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه "، توهموا أن الأتراك قد رجعوا عليهم وانهزموا؛ وأراد بعض منوقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه، فنكس العلم، والناس قد ازدحموا منهزمين؛ وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فتحمّلوا عليهم؛ فانصرف الفريقان بعضهم عن بعض. خبر وقعة أبي السلاسل مع المغاربة وفيها كانت وقعة لأبي السلاسل وكيل وصيف بناحية الجبل مع المغاربة، وكان سب ذلك - فيما ذكر - أنّ رجلا من المغاربة يقال له نصر سلهب، صار بجماعة من المغاربة إلى عمل بعض ما إلى أبي الساج من الأرض، وانتهب هو وأصحابه ما هنالك من القوى؛ فكتب أبو السلاسل إلى أبي الساج يعلمه ذلك، فوجّه أبو الساج إليه - فيما ذكر - بنحو من مائة نفس بين فارس وراجل؛ فلمّا صاروا إليه كبس أولئك المغاربة، فقتل منهم ى تسعة، وأسر عشرين. وأفلت نصر سهلب ساريًا. ذكر خبر وقوع الصلح بين الموالي وابن طاهر ووضعت الحرب أوزارها بعد هذه الوقعة بين الموالي وابن طاهر؛ فلم يعودوا لها، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أنّ ابن طاهر قد كان كاتب المعتزّ قبل ذلك في الصلح؛ فلما كانت هذه الوقعة أنكرت عليه؛ فكتب إليه؛ فذكر أنه لا يعود بعدها لشيء يكرهه؛ ثم أغلقت بعد ذلك على أهل بغداد أبوابها؛ فاشتّد عليهم الحصار، فصاحوا في أوّل ذي العقدة من هذه السنة في يوم الجمعة: الجوع! ومضوا إلى الجزيرة التي هي تلقاء دار ابن طاهر؛ فأرسل إليهم ابن طاهر: وجّهوا إلي منكم خمسة مشايخ، فوجّهوا بهم، فأدخلوا عليه؛ فقال لهم: إنّ من الأمور أمورًا لا يعلم بها العامّة؛ وأنا عليل، ولعلي أعطي الجند أرزاقهم ثم أخرج بهم إلى عدوّكم. فطابت أنفسهم، وخرجوا عن غير شيء، وعادت العامة والتّجار بعد إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر؛ فصاحوا وشكوا ما هم فيه من غلاء السعر، فبعث إليهم فسكّنهم؛ ووعدهم ومنّاهم. وأرسل ابن طاهر إلى المعتزّ في الصلح. واضطرب أمر أهل بغداد، فوافى بغداد للنصف من ذي العقدة من هذه السنة حماد بن إسحاق ابن حماد بن زيد، ووجّه مكانه أبو سعيد الأنصاري إلى عسكر أبي أحمد رهينة، فلقي حماد بن إسحاق ابن طاهر، فخلا به فلم يذكر ما جرى بينهما. ثم انصرف حماد ألى عسكر أبي أحمد، ورجع أبو سعيد الأنصاري، ثم رجع حماد إلى ابن طاهر، فجرت بين ابن طاهر وبين أبي أحمد رسائل مع حمّاد. ولتسع بقين من ذي العقدة خرج أحمد بن إسرائيل إلى عسكر أبي أحمد مع حماد وأحمد بن إسحاق وكيل عبيد الله بن يحيى بإذن ابن طاهر لمناظرة أبي أحمد في الصلح. ولسبع بقين من ذي العقدة أمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إياه عليه فأطلقه. ومن غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجالة الجند وكثير من العامة، فطلب الجند أرزاقهم، وشكت العامة سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدة الحصار، وقالوا: إما خرجت فقاتلت؛ وإما تركتنا؛ فوعدهم أيضًا الخروج أو فتح الباب للصلح، ومناهم. فانصرفوا. فلما كان بعد ذلك، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة شحن السجون والجسر وباب داره والجزيرة بالجند والرجال، فحضر الجزيرة بشر كثير، فطردوا من كان ابن طاهر صيرهم فيها، ثم صاروا إلى الجسر من الجانب الشرقي، ففتحوا سجن النساء، وأخرجوا من فيه، ومنعهم علي بن جهشيار ومن معه من الطبرية من سجن الرجال، ومانعهم أبو مالك الموكل بالجسر الشرقي، فشجوه وجرحوا دابتين لأصحابه؛ فدخل داره وخلاهم، فانتهبوا ما في مجلسه، وشد عليهم الطبرية فنحوهم حتى أخرجوهم من الأبواب، وأغلقوها دونهم، وخرج منهم جماعة، ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون، فضمن للجند رزق أربعة أشهر؛ فانصرفوا على ذلك، وأمر ابن طاهر بإعطاء أصحاب ابن جهشيار أرزاقهم لشهرين من يومهم فأعطوا. ذكر بدء عزم ابن طاهر على خلع المستعين والبيعة للمعتز ووجه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقت وتبن إلى ابن طاهر في هذه الأيام، فوصلت إليه. ولما كان يوم الخميس لأربع خلون من ذي الحجة علم الناس ما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتز، ووجه ابن طاهر قواده إلى ابن أبي أحمد حتى بايعوه للمعتز، فخلع على كل واحد منهم أربع خلع، وظنت العامة أن الصلح جرى بإذن الخليفة المستعين، وأن المعتز ولى عهده. خروج العامة ونصرة المستعين على ابن طاهر ولما كان يوم الأربعاء خرج رشيد بن كاوس - وكان موكلًا بباب السلامة - مع قائد يقال له نهشل بن صخر بن خزيمة بن خازم وعبد الله بن محمود، ووجه إلى الأتراك بإنه على المصير إليهم ليكون معهم، فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس؛ فخرج إليهم على سبيل التسليم عليهم؛ على أن الصلح قد وقع، فسلم عليهم، وعانق من عرف منهم، وأخذوا بلجام دابته، ومضوا به وبابنه في أثره؛ فلما كان يوم الاثنين صار رشيد إلى باب الشماسية فكلم الناس، وقال: إن أمير المؤمنين وأبا جعفر يقرئان عليكم السلام، ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قربناه ووصلناه، ومن آثر غير ذلك فهو أعلم؛ فشتمه العامة. ثم طاف على جميع أبواب الشرقية بمثل ذلك، وهو يشتم في كل باب، ويشتم المعتز. فلما فعل رشيد ذلك علمت العامة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر؛ فصاحوا به وشتموه أقبح شتم؛ ثم صاروا إلى بابه، ففعلوا مثل ذلك؛ فخرج إليهم راغب الخادم، فحضهم على ما فعلوا، وسألهم الزيادة فيما هم فيه من نصرة المستعين، ثم مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش، فمضى بهم وجماعة أخر غيرهم وهم زهاء ثلثمائة في السلاح، فصاروا إلى باب ابن طاهر، فكشفوامن عليه وردهم، فلم يبرحوا يقاتلونهم، حتى صاروا إلى دهليز الدار، وأرادوا إحراق الباب الداخل فلم يجدوا نارًا، وقد كانوا باتوا بالجزيرة الليل كله يشتمونه ويتناولونه بالقبيح. وذكر عن ابن شجاع البلخي أنه قال: كنت عند الأمير وهو يحدثني ويسمع ما يقذف به من كل إنسان؛ حتى ذكروا اسم أمه، فضحك وقال: يا أبا عبد الله، ما أدري كيف عرفوا اسم أمي! ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها، فقلت له: أيها الأمير، ما رأيت أوسع من حلمك، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما رأيت أوفق من الصبر عليهم؛ ولا بد من ذلك. فلما أصبحوا وافوا الباب، فصاحوا؛ فصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطلع إليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه لهم! فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة، وابن طاهر إلى جانبه؛ فحلف لهم بالله ما أتهمه؛ وإني لفي عافية ما على منه بأس وإنه لم يخلع، ووعدهم أنه يخرج في غد يوم الجمعة ليصلي بهم، ويظهر لهم فانصرف عامتهم بعد قتلى وقعت. ولما كان يوم الجمعة بكر الناس بالصياح يطلبون المستعين، وانتهبوا دوابعلى بن جهشيار - وكانت في الخراب، على باب الجسر الشرقي - وانتهب جميع ما كان في منزله وهرب؛ وما زال الناس وقوفًا على ما هم عليه إلى ارتفاع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما ومواليهما وقوادهما وأخوال المستعين؛ فصار الناس جميعًا إلى الباب، فدخل وصيف وبغا في خاصتهما، ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز، ووقفوا على دوابهم، وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال؛ فأذن لهم بالنزول فأبوا، وقالوا: ليس هذا يوم نزولنا عن ظهور دوابنا حتى نعلم نحن والعامة ما نحن عليه؛ ولم تزل الرسل تختلف إليهم، وهم يأبون، فخرج إليهم محمد بن عبد الله نفسه، فسألهم النزول والدخول إلى المستعين، فأعلموه أن العامة قد ضجت مما بلغها وصح عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتز، وتوجيهك القواد بعد القواد للبيعة للمعتز، وإرادتك التهويل ليصير الأمر إليه وإدخاله الأتراك والمغاربة بغداد. فيحكموا فيهم بحكمهم فيمن ظهروا عليه من أهل المدائن والقرى، واستراب بك من أهل بغداد، واتهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم؛ وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذبوا ما بلغهم عنه، فلما تبين محمد بن عبد الله صحة قولهم، ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجيجهم سأل المستعين الخروج إليهم: فخرج إلى دار العامة التي كان يدخلها جميع الناس، فنصب له فيها كرسي، وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه، ثم خرجوا إلى من وراءهم؛ فأعلموهم صحة أمره، فلم يقنعوا بذلك، فلما تبين له أنهم لا يسكنون دون أن يخرج إليهم - وقد كان عرف كثرة الناس - أمر بإغلاق الباب الحديد الخارج فأغلق، وصار المستعين وأخواله ومحمد بن موسى المنجم ومحمد بن عبد الله إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامة وخزائن السلاح، ثم نصب لهم سلاليم على سطح المجلس الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله والفتح بن سهل، فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد، وفوق السواد بردة النبي صلى الله، ومعه القضيب؛ فكلم الناس وناشدهم، وسألهم بحق صاحب البردة إلا انصرفوا؛ فإنه في أمن وسلامة، وإنه لا بأس عليه من محمد بن عبد الله، فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله لأنهم لا يأمنونه عليه، فأعلمهم أنه على النقلة منها إلى دار عمته أم حبيب ابنة الرشيد؛ بعد أن يصلح له ما ينبغي أن يسكن فيه، وبعد أن يحول أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له في دار محمد بن عبد الله؛ فانصرف أكثر الناس. وسكن أهل بغداد ولما فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرة بعد مرة وإسماعهم إياه المكروه، تقدم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنها، وذكروا أنه أراد أن يقصد المدائن، واجتمع على بابه جماعة من مشايخ الحربية والأرباض جميعًا؛ يعتذرون إليه ويسألونه الصفح عما كان منهم؛ ويذكرون أن الذي فعل ذلك الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا بها والفاقة التي نالتهم، فرد عليهم - فيما ذكر - مردًا جميلًا، وقال لهم قولًا حسنًا وأثنى عليهم وصفح عما كان منهم، وتقدم إليهم بالتقدم إلى شبابهم وسفهائهم في الأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة، وكتب إلى أصحاب المعاون بترك السخرة. ذكر خبر انتقال المستعين إلى دار رزق الخادم بالرصافة ولأيام خلون من ذي الحجة انتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله وركب منها، فصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة، ومن بدار علي بن المعتصم، فخرج إليه علي، فسأله النزول عنده؛ فأمر بالركوب، فلما صار إلى دار رزق الخادم نزلها، فوصل إليها - فيما ذكر - مساء، فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكل فارس منهم، وبخمسة دنانير لكل راجل. وركب بركوب المستعين ابن طاهر، وبيده الحربة يسير بها بين يديه، والقواد خلفه، وأقام - فيما ذكر - مع المستعين ليلة انتقل إلى ديار رزق محمد بن عبد الله إلى ثلث الليل ثم انصرف وبات عنده وصيف وببغا حتى السحر ثم انصرفا إلى منازلهما. ولما كانت صبيحة اللليلة التي انتقل المستعين فيها من دلر ابن طاهر اجتمع الناس في الرصافة وأمر القوادّ وبنوها هاشم بالمصير إلى ابن طاهر والسلام عليه وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة فصاروا إليه فلما كان الضحى الأكبر من ذلم اليوم، ركب ابن طاهر وجميع قواده في تعبئة وحوله ناشبة رجالة؛ فلما خرج من داره وقف للناس، فعاتبهم وحلف أنه ما أضمر لأمير المؤمنين - أعزه الله - ولا لولى ولأحد من الناس سوءًا، وأنه لما يريد إلا إصلاح أحوالهم، وما تدوم به النعمة عليهم، وأنهم قد توهموا عليه ما لا يعرفه، حتى أبكى الناس، فدعا له من حضر، وعبر الجسر، وصار إلى المستعين، وبعث فأحضر جيرانه ووجوه أهل الأرباض من الجانب الغربي، فخاطبهم بكلام عاتبهم فيه، واعتذر إليهم مما بلغهم، ووجه وصيف وبغا من طاف على أبواب بغداد، ووكلا صالح بن وصيف بباب الشماسية. وذكر أن المستعين كان كارهًا لنقله عن دار محمد؛ ولكنه انتقل عنها من أجل الناس ركبوا الزواريق بالنفاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لمّا صعد بابه فتح بابه يوم الجمعة. وذكر أنّ قومًا منهم كنجور، وقفوا بباب الشماسيّة من قبل أبي أحمد، فطلبوا ابن طاهر ليكلموه، فكتب إلى وصيف يعلمه خبر القوم، ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى؛ فردّ المستعين الأمر في ذلك إليه؛ وأنّ التدبير في جميع ذلك مردود إليه، فيتقدّم في ذلك بما رأى. وذكر أنّ علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم كلّم محمد بن عبد الله في ذلك الكلام غليظ، فوثب عليه محمد بن أبي عون فأسمعه وتناوله. وذكر عن سعيد بن حميد أنّ أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبيد الله بن يحيى خلوا بابن طاهر؛ فما زالوا يفتلونه في الذرّوة والغارب، ويشيرون عليه بالصلح، وأنه ربما كان عنده قوم فأجروا الكلام في خلاف الصلح، فيكشر في وجوههم، ويعرض عنهم؛ فإذا حضر هؤلاء الثلاثة أقبل عليهم وحادثهم وشاورهم. وذكر عن بعضهم أنه قال: قلت لسعيد بن حميد يومًا: ما ينبغي إلّا أن يكون قد كان انطوى على المداهنة في أوّل أمره؛ قال: وددت أنه كان كذلك؛ لا والله ما هو إلّا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى كاتب القوم، وأجابهم بعد أن كان قد جادّهم. وحدثني أحمد بن يحيى النحوي - وكان يؤّدب ولد ابن طاهر - أنّ محمد بن عبد الله لم يزل جادًّا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبيد الله بن يحيى ابن خاقان، فقال له: أطال الله بقائك! إنّ هذا الذي تنصره وتجدّ في أمره من أشدّ الناس نفاقًا، وأخبثهم دينًا؛ والله لقد أمر وصيفًا وبغا بقتلك، فاستعظما ذلك ولم يفعلاه، وإن كنت شاكًّا فيما وصفت من أمره، فسل تخبره؛ وإن من ظاهر نفاقه أنه كان وهو بسامرّا لا يجهر في صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم؛ فلما صار إلى ما قبلك، جهر بها مراءاةً لك؛ وتترك نصرة وليك وصهرك وتربيتك؛ ونحو ذلك من كلام كلّمه به؛ فقال محمد بن عبد الله: أخزى الله هذا، لا يصلح لدين ولا دنيا، قال: وكان أوّل من تقدّم على صرف محمد بن عبد الله عن الحدّ في أمر المستعين عبيد الله بن يحيى في هذا المجلس، ثم ظاهر عبيد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد؛ فلم يزالوا به حتى صرفوه عمّا كان عليه من الرأي في نصرة المستعين. وفي يوم الأضحى من هذه السنة صلّى بالناس صلاة الأضحى في الجزيرة التي بحذاء دار ابن طاهر، وركب وبين يديه عبيد الله بن عبد الله، معه الحربة التي لسليمان، وبيد الحسين بن إسماعيل حربة السلطان، وبغا ووصيف يكنفانه؛ ولم يركب محمد بن عبد الله بنطاهر، وصلى عبد الله ابن إسحاق في الرصافة. ذكر بدء المفاوضة في أمر خلع المستعين وفي يوم الخميس ركب محمد بن عبد الله إلى المستعين، وحضره عدّة من الفقهاء والقضاة، فذكر أنه قال للمستعين: قد كنت فارقتني على أن تنفذ في كل ما أعزم عليه؛ ولك عندي بخطك رقعة بذلك، فقال للمستعين: أحضر الرقعة. فأحضرها؛ فإذا فيها ذكر الصلح؛ وليس فيها ذكر الخلع، فقال: نعم، أنفذ الصلح، فقام الخلنجي فقال: ياأمير المؤمنين؛ إنه يسألك أن تخلع قميصًا قمصك به الله، وتكلم علي بن يحيى المنجم فأغلظ لمحمد ابن عبد الله. ثم ركب بعد ذلك محمد بن عبد الله - وذلك للنصف من ذي الحجة - إلى المستعين بالرصافة، ثم انصرف ومعه وصيف وبغا، فمضوا جميعًا حتى صاروا إلى باب الشماسية، فوقف محمد بن عبد الله على دابته، ومضى وصيف وبغا إلى دار الحسن بن الأفشين، وانحدرت المبيضة والغوغاء من السور، ولم يطلق لأحد فتح الأبواب، وقد كان خرج قبل ذلك جماعة كثيرة إلى عسكر أبي أحمد، فاشتروا ما أرادوا؛ فلما خرج من ذكرنا إلى باب الشماسية نودي في أصحاب أبي أحمد ألا يباع من أحد من أهل بغداد شئ؛ فمنعوا من الشراء، وكان قد ضرب لمحمد بن عبد الله الشماسية مضرب كبير أحمر؛ وكان مع ابن طاهر بندار الطبري وأبو السنا ونحو من مائتي فارس ومائتي راجل، وجاء أبو أحمد في زلال حتى قرب من المضرب، ثم خرج ودخل المضرب مع محمد بن عبد الله، ووقف الذين مع كل واحد منهما من الجند ناحية، فتناظر ابن طاهر وأبو أحمد طويلًا، ثم خرجا من المضرب، وانصرف ابن طاهر من مضربه إلى داره في زلال؛ فلما صار إليها خرج من الزلال، فركب ومضى إلى المستعين ليخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، وأقام عنده إلى العصر، ثم انصرف؛ فذكر أنه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار ويقطع غلة ثلاثين ألف دينار في السنة، وأن يكون مقامه بغداد حتى يجتمع لهم مال يعطون الجند؛ وعلى أن يولى بغا مكة والمدينة والحجاز، ووصيف الجبل وما ولاه، ويكون ثلث ما يجئ من المال لمحمد بن عبد الله، وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك. وذكر أن أحمد بن إسرائيل لما صار إلى المعتز ولاه ديوان البريد، وفارقه على أن يكون هو الوزير وعيسى بن فرخانشاه على ديوان الخراج وأبو نوح على الخاتم والتوقيع؛ فاقتسموا الأعمال، فوردت خريطة الموسم إلى بغداد بالسلامة، فبعث بها إلى أبي أحمد، ثم ركب ابن طاهر - فيما قيل - لأربع عشرة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة إلى المستعين، لمناظرته في الخلع، فناظره فامتنع عليه المستعين، وظن المستعين أن بغا ووصيفًا معه، فكاشفاه فقال المستعين: هذا عنقي والسيف والنطع؛ فلما رأى امتناعه انصرف عنه؛ فبعث المستعين إلى ابن طاهر بعلي بن يحيى المنجم وقوم من ثقاته، وقال: قولوا له: اتق الله؛ فإنما جئتك لتدفع عني؛ فإن لن تدفع عني فكف عني. فرد عليه، أما أنا فأقعد في بيتي؛ ولكن لا بد لك من خلعها طائعًا أو مكرهًا وذكر عن علي بن يحيى أنه قال له: قل له: إن خلعتها فلا بأس؛ فوالله لقد تمزقت تمزقًا لا يرقع؛ وما تركت فيها فضلًا. فلما رأى المستعين ضعف أمره وخذلان ناصريه أجاب إلى الخلع فلما كان يوم الخميس لاثني عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، وجه ابن طاهر ابن الكردية وهو محمد بن إبراهيم بن جعفر الأصغر بن المنصور والخلنجي وموسى بن صالح بن شيخ وأبا سعيد الأنصاري وأحمد بن اسرائيل ومحمد بن موسى المنجم إلى عسكر أبي أحمد ليواصلوا كتاب محمد إليه بأشياء سألها المستعين من حين ندب إلى أن يخلع نفسه. فأوصلوا الكتاب، فأجاب إلى ما سأل، وكتب الجواب بأن يقطع وينزل مدينة الرسول ﷺ، وأن يكون مضطر به من مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة. فأجابه إلى ذلك؛ فلم يقنع المستعين إلا بخروج ابن الكردية بما سأل إلى المعتز، حتى يكتب بإجابته بذلك بخطه بعد مشافهة ابن الكردية المعتز بذلك، فتوجه ابن الكردية بها، وكان سبب إجابة المستعين إلى الخلع - فيما ذكر - أن وصيفًا وبغا وابن طاهر ناظروه في ذلك وأشاروا عليه؛ فأغلظ لهم، فقال له وصيف: أنت أمرتنا بقتل باغر، فصرنا إلى ما نحن فيه؛ وأنت عرضتنا لقتل أوتامش، وقلت: إن محمدًا ليس بناصح؛ وما زالوا بفزعونه ويحتاجون له، فقال محمد ابن عبد الله: وقد قلت لي إن أمرنا لا يصطلح إلا باستراحتنا من هذين؛ فلما اجتمعت كلمتهم أذعن لهم بالخلع، وكتب بما اشترط لنفسه عليهم؛ وذلك لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة. ولما كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، وأدخلهم على المستعين فوجًا فوجًا، وأشهدهم عليه أنه قد صير أمره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر؛ ثم أدخل عليه البوابين والخدم، وأخذ منه جوهر الخلافة، وأقام عنده حتى مضى هوى من الليل، وأصبح الناس يرجفون بألوان الأراجيف، وبعث ابن طاهر إلى قواده في موافاته؛ مع كل قائد منهم عشرة نفر من وجوه أصحابه، فوافوه، فأدخلهم ومناهم، وقال لهم: إنما أردت بما فعلت صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء. وأعد للخروج إلى المعتز في الشروط التي اشترطها للمستعين ولنفسه ولقواده قومًا ليوقع المعتز في ذلك بخطه. ثم أخرجهم إلى المعتز، فمضوا إليه حتى وقع في ذلك بخطه إمضاء كل ما سأل المستعين وابن طاهر لأنفسهما من الشروط، وشهدوا عليه بإقراره بذلك كله، وخلع المعتز على الرسل، وقلدهم سيوفًا، وانصرفوا بعد جائزة ولا نظر في حاجة لهم، ووجه معهم لأخذ البيعة له على المستعين جماعة من عنده، ولم يأمر للجند بشئ، وحمل إلى المستعين أمه وابنته وعياله بعد ما فتش عياله، وأخذ منهم بعض ما كان معهم مع سعيد بن صالح؛ فكان دخول الرسل بغداد منصرفهم من عند المعتز يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم سنة اثنتين وخمسين ومائتين. وذكر أن رسل المعتز لما صاروا بالشماسية، قال ابن سجادة: أنا أخاف من أهل بغداد؛ فإما أن يحمل المستعين إلى الشماسية أو ألى دار محمد بن عبد الله ليبايع المعتز، ويخلع نفسه ويؤخذ منه القضيب والبردة. وفي شهر ربيع الأول من هذه السنة كان ظهور المعروف بالكوكبي بقزوين وزنجان وغلبته عليها وطرده عنها آل طاهر؛ واسم الكوكبي الحسين بن أحمد ابن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأرقط بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وفيها قطعت بنو عقيل طريق جدة، فحاربهم جعفر بشاشات، فقتل من أهل مكة نحو من ثلثمائة رجل، وبعض بني عقيل القائل: عليك ثوبان وأمي عارية ** فألق لي ثوبك يا بن الزانية فلما فعل بنو عقيل ما فعلوا غلت بمكة الأسعار، وأغارت الأعراب على القرى. ذكر خبر خروج إسماعيل بن يوسف بمكة وفيها ظهر إسماعيل بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب بمكة، فهرب جعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى العامل على مكة، فانتهب إسماعيل بن يوسف منزل جعفر ومنزل أصحاب السلطان، وقتل الجند وجماعة من أهل مكة، وأخذ ما كان حمل لإصلاح العين من المال وما كان في الكعبة من الذهب، وما في خزائنها من الذهب والفضة والطيب وكسوة الكعبة، وأخذ من الناس نحوًا من مائتي ألف دينار، وأنهب مكة، وأحرق بعضها في شهر ربيع الأول منها، ثم أخرج منها بعد خمسين يومًا، ثم صار إلى المدينة، فتوارى علي بن الحسين بن إسماعيل العامل عليها، ثم رجع إسماعيل إلى مكة في رجب، فحصرهم حتى تماوت أهلها جوعًا وعطشًا؛ وبلغ الخبز ثلاث أواق بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة ماء ثلاثة دراهم؛ ولقى أهل مكة منه كل بلاء ثم رحل بعد مقام سبعة وخمسين يومًا إلى جدة، فحبس عن الناس الطعام، وأخذ أموال التجار وأصحاب المراكب، فحمل إلى مكة الحنظة والذرة من اليمن، ثم وافت المراكب من القلزم، ثم وافى إسماعيل بن يوسف الموقف؛ وذلك يوم عرفة، وبه محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور الملقب كعب البقر، وعيسى بن محمد المخزومي صاحب جيش مكة - وكان المعتز وجهها إليها - فقاتلهم، فقتل نحو من ألف ومائة من الحاج، وسلب الناس، وهربوا إلى مكة، ولم يقفوا بعرفة ليلًا ولا نهارًا، ووقف إسماعيل وأصحابه، ثم رجع إلى جدة فأفنى أموالها. ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر خلع المستعين وبيعة المعتز فمن ذلك ما كان من خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه الخلافة، وبيعة للمعتز محمد بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم، والدعاء للمعتز على منبري بغداد ومسجدي جانبيها الشرقي منها والغربي، يوم الجمعة لأربع خلون من المحرم من هذه السنة، وأخذ البيعة له بها على كل من كان يومئذ بها من الجند. وذكر أن ابن طاهر دخل على المستعين ومعه سعيد بن حميد حين كتب له بشروط الأمان، فقال له: يا أمير المؤمنين؛ قد كتب سعيد كتب الشروط وأكد غاية التأكيد، فنقرؤه عليك فتسمعه؟ فقال له المستعين: لا عليك! ألا تركها يا أبا العباس، فما القوم بأعلم بالله منك؛ قد أكدت على نفسك قبلهم فكان ما قد علمت؛ فما رد عليه محمد شيئًا. ولما بايع المستعين المعتز، وأخذ عليه البيعة ببغداد، وأشهد عليه الشهود من بني هاشم والقضاة والفقهاء والقواد نقل من الموضع الذي كان به من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل بالمحرم هو وعياله وولده وجواريه، فأنزلوهم فيه جميعًا، ووكل بهم سعيد بن رجاء الحضاري في أصحابه وأخذ المستعين البردة والقضيب والخاتم، ووجّ مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه: أما بعد: فالحمد لله متممّ النعم برحمته، والهادي إلى شكره بفضله وصلّى الله على محمد عبده ورسوله؛ الذي جمع له ما قرّق من الفضل في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعًا إلى من خصّه بخلافته، وسلّم تسليمًا. كتابي إلى أمير المؤمنين وقد تممّ الله له أمره، وتسلّمت تراث رسول الله ﷺ ممن كان عنده، وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده. ومنع المستعين الخروج إلى مكة، واختار أن ينزل البصرة. فذكر عن سعيد ابن حميد أن محمد بن موسى بن شاكر قال: البصرة وبيّة، فكيف اخترت أن تنزلها! فقال المستعين: هي أوبى، أو ترك الخلافة! وذكر أنّ قرب جارية قبيحة جاءت برسالة إلى المستعين من المعتزّ يسأله أن ينزل عن ثلاث جوارٍ كان المستعين تزوجهّن من جواري المتوكل، فنزل عنهنّ، وجعل أمرهنّ إليهنّ؛ وكان احتبس عنده من الجوهر خاتمين يقال لأحدهما البرج وللآخر الجبل، فوجّه إليه محمد بن عبد الله بقرب خاصيّة المعتزّ وجماعة، فدفعهما إليهم، وانصرفوا بذلك إلى محمد بن عبد الله، فوجّه به إلى المعتزّ. ولست خلون من المحرّم دخل - فيما قيل - بغداد أكثر من مائتي سفينة، فيها من صنوف التجارات وغنم كثير، وأشخص المستعين مع محمد بن مظفّر ابن سيسل وابن أبي حفصة إلى واسط في نحو من أربعمائة فرسان ورجّالة. وقدم بعد ذلك على ابن طاهر عيسى بن فرّخانشاه وقرب، فأخبراه أن ياقوتة من جوهر الخلافة قد حبسها أحمد بن محمد عنده؛ فوجّه ابن طاهر الحسين ابن إسماعيل فأخرجها، فإذا ياقوتة بهيّة، أربع أصابع طولًا في عرض مثل ذلك، وإذا هو قد كتب عليها اسمه، فدفعت إلى قرب، فبعثت بها إلى المعتزّ. واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل، وخلع عليه، ووضع تاجًا على رأسه، وشخص أبو أحمد إلى سامرّا يوم السبت لاثنتي عشرة خلت من المحرّم منها، وشيّعه محمد بن عبد الله والحسن بن مخلد، فخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفًا، ورجع من الروذباز. وقال بعض الشعراء في خلع المستعين: خلع الخلافة أحمد بن محمدٍ ** وسيقتل التالي له أو يخلع ويزول ملك بني أبيه ولا يرى ** أحدٌ تملك منهم يستمتع إيهًا بني العباس إنّ سبيلكم ** في قتل أعبدكم طريقٌ مهيع رقعتم دنياكم فتمزّقت ** بكم الحياة تمزّقا لا يرقع وقال بعض البغداديين: إني أراك من الفراق جزوعًا ** أضحى الإمام مسيرًا مخلوعا كانت به الآفاق تضحك بهجةً ** وهو الربيع لمن أراد ربيعا لا تنكري حدث الزمان وريبه إن الزمان يفرق المجموعا لبس الخلافة واستجد محبةً ** يقضي أمور المسلمين جمعيا فجنت عليه يد الزمان بصرفه ** حربًا وكان عن الحروب شسوعا وتجانف الأتراك عنه تمردًا ** أضحى وكان ولا يراع مروعا فنز بهم فنزوا به وتعاورت ** أيدي الكماة من الرءوس نجيعا فأزاله المقدار عن رتب العلا ** فثوى بواسط لا يحس رجوعا غدروا به، مكروا به، خانوا به ** لزم الفراش، وحالف التضجيعا وتكنفوا بغداد من أقطارها ** قد ذللوا ما كان قبل منيعا ولو أنه سعر الحروب بنفسه ** متلببًا للقائهن دروعا حتى يصادم بالكماة كماته ** فيكون من قصد الحروب صريعا لغدا على ريب الزمان محرمًا ** ولكان إذ غدر اللئام منيعا لكن عصى رأى الشفيق وعذله ** وغدا لأمر الناكثين مطيعا والملك ليس بمالك سلطانه ** من كان للرأي السديد مضيعا ما زال يخدع نفسه عن نفسه ** حتى غدا عن ملكه مخدوعا باع ابن طاهر دينه عن بيعةٍ ** أمسى بها ملك الإمام منيعا خلع الخلافة والرعية فاغتدى ** من دين رب محمد مخلوعا فليجرعن بذاك كأسًا مرةً ** وليلفين لتابعيه تبيعا وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان حين خلع المستعين، وصار إلى واسط: إن الأمور إلى المعتز قد رجعت ** والمستعان إلى حالاته رجعا وكان يعلم أن الملك ليس له ** وأنه لك لكن نفسه خدعا ومالك الملك مؤتيه ونازعه ** آتاك ملكًا ومنه الملك قد نزعا إن الخلافة كانت لا تلائمه ** كانت كذات حليل زوجت متعا ما كان أقبح عند الناس بيعته ** وكان أحسن قول الناس قد خلعا ليت السفين إلى قافٍ دفعن به ** نفسي الفداء لملاحٍ به دفعا كم ساس قبلك أمر الناس من ملك ** لو كان حمل ما حملته ظلعا أمسى بك الناس بعد الضيق في سعة ** والله يجعل بعد الضيق متسعا والله يدفع عنك السوء من ملك ** فإنه بك عنا السوء قد دفعا ما ضاع مدحي ولا ضاع اصطناعك لي ** وقد وجدت بحمد الله مصطنعًا فاردد علي بنجدٍ ضيعة قبضت ** فإن مثلك مثلي يقطع الضيعا فإن رددت إمام العدل غلتها ** فالله آنف حسادي به جدعا وقال يمدح المعتز بعد خلع المستعين: قد عادت الدنيا إلى حالها ** وسرنا الله بإقبالها دنيا بك الله كفى أهلها ** ما كان من شدة أهوالها وكان قد ملكها جاهل ** لا تصلح الدنيا لجهالها قد كانت الدنيا به قفلت ** فكنت مفتاحًا لأقفالها إن التي فزت بها دونه ** عادت إلى أحسن أحوالها خلافةٌ كنت حقيقيًا بها ** فضلك الله بسربالها فرده الله إلى حاله ** وردها الله إلى حالها ولم تكن أول عاريةٍ ** ردت على رغم إلى آلها والله لو كان على قريةٍ ** ما كان يجزى بعض أعمالها أدخل في الملك يدًا رعدةً ** أخرجها من بعد إدخالها بدلنا الله به سيدًا ** أسكن دنيا بعد زلزالها بدلت الأمة هذا بذا ** كأنها في وقت دجالها وقام بالملك وأثقاله ** وقام بالحرب وأثقالها أبطل ما كان العدا أملوا ** رميك بالخيل وأبطالها تعمل خيلًا طالما نجحت ** ما عملت خيلٌ كأعمالها وقال الوليد بن عبيد البحتري في خلع المستعين ومدح المعتز: ألا هل أتاها أن مظلمة الدجى ** تجلت وأن العيش سهل جانبه وأنا رددنا المستعار مذممًا ** على أهله واستأنف الحق صاحبه عجبت لهذا الدهر أعيت صروفه ** وما الدهر إلا صرفه وعجائبه متى أمل الدياك أن يصطفى له ** عرى التاج أو يثنى عليه عصائبه وكيف ادعى حقّ الخلافة غاصبٌ ** حوى دونه إرث النبي أقاربه بكى المنبر الشرقي إذ خار فوقه ** على الناس ثور قد تدلت غباغبه ثقيل على جنب الثريد مراقبٌ ** لشخص الخوان يبتدي فيواثبه إذا ما احتشى من حاضر الزاد لم يبل ** أضاء شهاب الملك أم كلّ ثاقبه إذا بكر الفراش ينثو حديثه ** تضاءل مطريه وأطنب عائبه تخطى إلى الأمر الذي ليس أهله ** فطورًا يناغيه وطورًا يشاغبه فكيف رأيت الحق قر قراره ** وكيف رأيت الظلم زالت عواقبه ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ** ليعجز والمعتزّ بالله طالبه رمى بالقضيب عنوةً وهو صاغرٌ ** وعرى من برد النبي مناكبه وقد سرني أن قيل وجه مسرعًا ** إلى الشرق تحدى سفنه وركائبه إلى كسكرٍ خلف الدجاج ولم يكن ** لتنشب إلا في الدجاج مخالبه وما لحية القصار حيث تنفشت ** بجالبة خيرًا على من يناسبه يحوز ابن خلادٍ على الشعر عنده ** ويضحى شجاعٌ وهو للجهل كاتبه فأقسمت بالوادي الحرام وما حوت ** أباطحه من محرمٍ وأخاشبه لقد حمل المعتز أمة أحمدٍ ** على سننٍ يسرى إلى الحق لا حبه تدارك دين الله من بعد ما عفت ** معالمه فينا وغارت كواكبه وضمّ شعاع الملك حتى تجمعت ** مشارقه موفورةً ومغاربه وانصرف أبو الساج ديوداد بن ديودست إلى بغداد لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، فقلده محمد بن عبد الله معاون ما سقى الفرات من السواد، فوجه أبو الساج خليفةً له يقال له كربه إلى الأنبار، ووجه قومًا من أصحابه إلى قصر ابن هبيرة مع خليفة له، ووجه الحارث بن أسد في خمسمائة فارس وراجل، يستقرىء أعماله، ويطرد الأتراك والمغاربة عنها، وقد كانوا عاثوا في النواحي وتلصصوا. ففرق أصحابه في طساسيج الفرات، ونزل قصر ابن هبيرة؛ ثم صار إلى الكوفة، ووافى أبو أحمد سامرا منصرفًا من معسكره إليها لإحدى عشرة بقيت من المحرم، فخلع المعتز عليه ستة أثواب وسيفًا، وتوج تاج ذهب بقلنسوة مجوهرة، ووشح وشاحي ذهب بجوهر، ولد سيفًا آخر مرصعًا بالجوهر، وأجلس على كرسي، وخلع على الوجوه من القواد. ذكرخبر قتل شريح الحبشي وفيها قتل شريح الحبشي، وكان سبب ذلك أنه حين وقع الصلح، هرب في عدة من الحبشة، فقطع الطريق فيما بين واسط وناحية الجبل والأهواز، ونزل قريةً من قرى أم المتوكل يقال لها ديري، فنزل في خانها في خمسة عشر رجلًا، فشربوا وسكروا، فوثب عليهم أهل القرية فكتفوهم، وحملوهم إلى واسط، إلى منصور بن نصر، فحملهم منصور إلى بغداد، فأنقذهم محمد ابن عبد الله إلى العسكر، فلما وصلوا قام بايكباك إلى شريح فوسطه بالسيف وصلب على خشبة بابك، وضرب أصحابه بالسياط ما بين الخمسمائة إلى الألف. وفي شهر ربيع الآخر منها توفي عبيد الله بن يحيى بن خاقان في مدينة أبي جعفر. ذكر حال بغا ووصيف وفيها كتب المعتز إلى محمد بن عبد الله في إسقاط اسم بغا ووصيف ومن كان في رسمها من الدواوين. وذكر أن محمد بن أبي عون أحد قواد محمد بن عبد الله ناظره لما صار أبو أحمد إلى سامرا في قتل بغا ووصيف، فوعده أن يقتلهما، فبعث المعتز إلى محمد ابن عبد الله بلواء، وعقد لمحمد بن أبي عون لواء على البصرة واليمامة والبحرين، فكتب قوم من أصحاب بغا ووصيف إليهما بذلك، وحذروهما محمد بن عبد الله؛ فركب وصيف وبغا إليه يوم الثلاثاء لخمس بقين من ربيع الأول، فقال له بغا، بلغنا أيها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا؛ والقوم قد غدروا وخالفونا ما فارقونا عليه؛ والله لو أرادوا أن يقتلونا ما قدروا عليه، فحلف لهما أنه ما علم بشئ من ذلك؛ وتكلم بغا بكلام شديد، ووصيف يكفه، وقال وصيف: أيها الأمير، قد غدر القوم ونحن نمسك ونقعد في منازلنا حتى يجئ من يقتلنا! وكانا دخلا مع جماعة، ثم رجعا إلى منازلهما، فجمعا جندهما ومواليهما، وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفريق الأموال في جيرانهما إلى سلخ ربيع. وكان وصيف وبغا قدوم قرب، وجه إليهما محمد ابن عبد الله كاتبه محمد بن عيسى، فأقبلا معه حتى صارا عند دار محمد بن عبد الله بقرب الجسر، فلقيهما جعفر الكردي وابن خالد البرمكي؛ فتعلق كل واحد منهما بلجام واحد منهما، وقال لهما: إنما دعيتما لتحملا إلى العسكر؛ وقد أعد لكما لذلك قومٌ أو لتقتلا، فرجعا وجمعا جمعًا، وأجريا على كل رجل كل يوم درهمين؛ فأقاما في منازلهما. وكان وصيف وجه أخته سعاد إلى المؤيد، وكان المؤيد في حجرها، فأخرجت من قصر وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه؛ فدفعتها إلى المؤيد؛ فكلم المؤيد المعتز في الرضا عن وصيف؛ فكتب إليه بالرضا عنه؛ فضرب مضاربه بباب الشماسية على أن يخرج، وتكلم أبو أحمد ابن المتوكل في الرضا عن بغا، فكتب إليه بالرضا. واضطرب أمرهما وهما مقيمان ببغداد. ثم اجتمع على المعتز الأتراك فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا: هما كبيرانا ورئيسانا؛ فكتب إليهما بذلك، فجاء بالكتاب بايكباك في نحو من ثلثمائة رجل؛ فأقام بالبردان، ووجه إليهما الكتاب لسبع بقين من شهر رمضان من هذه السنة؛ فكتب إلى محمد بن عبد الله بمنعهما؛ فوجها بكاتبيهما أحمد ابن صالح ودليل بن يعقوب إلى محمد بن عبد الله ليستأذناه؛ فأتاهما جيش من الأتراك، فنزلوا بالمصلى، وخرج وصيف وبغا وأولادهما وفرسانهما في نحو من أربعمائة إنسان، وخلفا في دورهما الثقل والعيال، ودعا أهل بغداد لهما ودعوا لهم. وقد كان ابن طاهر وجه محمد بن يحيى الواثقي وبندار الطبري إلى باب الشماسية وباب البردان ليمنعوهما، ومضيا من باب خراسان، ونفذا ولم يعلم كاتباهما حتى قال محمد بن عبد الله لأحمد ودليل: ما صنع صاحباكما؟ فقال أحمد ابن صالح: خلفت وصيفًا في منزله. قال: فإنه قد شخص الساعة، قال: ما علمت؛ فلما صار إلى سامرا بكر أحمد بن إسرائيل يوم الأحد لتسع بقين من شوال من هذه السنة في السحر إلى وصيف، وأقام عنده مليًا، ثم انصرف إلى بغا، فأقام عنده مليًا، ثم صار إلى الدار، فاجتمع الموالي وسألوا ردهما إلى مراتبهما، فأجيبوا إلى ذلك، وبعث إليهما، فحضرا ورتبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد، وأمر برد ضياعهما، وخلع عليهما خلع المرتبة. ثم ركب المعتز إلى دار العامة، وعقد لبغا ووصيف على أعمالهما ورد ديوان البريد كما كان قبل إلى موسى بن بغا الكبير، فقبل موسى ذلك. ذكر الفتنة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر وفي شهر رمضان من هذه السنة كانت وقعة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ورئيس الجند يومئذ ابن الخليل. وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن المعتز كتب إلى محمد بن عبد الله في بيع غلة طساسيج ضياع بادوريا وقطربل ومسكين وغيرها، كل كرين بالمعدل بخمسة وثلاثين دينارًا من غلة سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكان المعتز ولى بريد بغداد رجلًا يقال له صالح بن الهيثم، وكان أخوه منقطعًا إلى أتامش أيام المتوكل، فارتفع أمر صالح هذا أيام المستعين؛ وكان ممن أقام بسامرا؛ وهو من أهل المخرم، وكان أبوه حائكًا ثم صار يبيع الغزل؛ ثم انتقل أخوه إليه لما ارتفع. فلما أقام ببغداد كتب إليه يؤمر أن يقرأ الكتاب على قواد أهل بغداد كعتاب بن عتاب ومحمد بن يحيى الواثقي ومحمد بن هرثمة ومحمد بن رجاء وشعيب ابن عجيف ونظرائهم، فقرأه عليهم، فصاروا إلى محمد بن عبد الله، فأخبروه؛ فأمر محمد بن عبد الله فأحضر صالح بن الهيثم، وقال: ما حملك على هذا بغير علمي! وتهدده وأسمعه. وقال للقواد: انتظروا حتى أرى رأي، وآمركم بما أعزم عليه، فانصرفوا من عنده على ذلك، وشخص بعد ذلك، واجتمع الفروض والشاكرية والنائبة إلى باب محمد بن عبد الله يطلبون أرزاقهم لعشر خلون من شهر رمضان؛ فأخبرهم أن كتاب الخليفة ورد عليه، جواب كتاب له كان كتب بمسألة أرزاق جند بغداد، إن كنت فرضت الفروض لنفسك فأعطهم أرزاقهم؛ وإن كنت فرضت لنا فلا حاجة لنا فيهم. فلما ورد الكتاب عليه أخرج لهم بعد شغبهم بيوم ألفي دينار، فوضعت لهم ثم سكنوا ثم اجتمعوا لإحدى عشرة خلت من شهر رمضان؛ ومعهم الأعلام والطبول، وضربوا المضارب والخيم على باب حرب وباب الشماسية وغيرهما، وبنوا بيوتًا من بواري وقصب، وباتوا ليلتهم. فلما أصبحوا كثر جمعهم، وبيت ابن طاهر قومًا من خاصته في داره، وأعطاهم درهمًا درهمًا؛ فلما أصبحوا مضوا من داره إلى المشغبة، فصاروا معهم فجمع ابن طاهر جنده القادمين معه من خراسان، وأعطاهم لشهرين، وأعطى جند بغداد القدماء؛ الفارس دينارين والراجل دينارًا، وشحن داره بالرجال، فلما كان يوم الجمعة اجتمع من المشغبة خلق كثير بباب حرب بالسلاح والأعلام والطبول، ورئيسهم رجل يقال له عبدان بن الموفق، ويكنى أبا القاسم؛ وكان من أثبات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان ديوان عبدان في ديوان وصيف، فقدم بغداد فباع دارًا له بمائة ألف دينار، فشخص إلى سامرا، فلما وثبت الشاكرية بباب العامة كان معهم، فضربه سعيد الحاجب خمسمائة سوط، وحبسه حبسًا طويلًا، ثم أطلق. فلما كان فتنة المستعين صار إلى بغداد، وانضم إليه هؤلاء المشغبة فحضهم على الطلب بأرزاقهم وفائتهم، وضمن لهم أن يكون لهم رأسًا يدبر أمرهم. فأجابوه إلى ذلك؛ فأنفق عليهم يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة نحوًا من ثلاثين دينارًا فيما أقام لهم من الطعام، ومن كانت لهم كفاية لم يحتج إلى نفقته؛ فكان ينصرف إلى منزله، فلما كان يوم الجمعة اجتمعت منهم جماعة كثيرة، وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى الأمام فيمنعوه من الصلاة والدعاء للمعتز، فساروا على تعبية في شارع باب حرب؛ حتى انتهوا إلى باب المدينة في شارع باب الشأم، وجعل أبو القاسم هذا على كل درب يمر به قومًا من المشغبة، من بين رامح وصاحب سيف ليحفظوا الدروب؛ كيلا يخرج منها أحد لقتالهم. ولما انتهى إلى باب المدينة دخل معهم المدينة جماعة كثيرة، فصاروا بين البابين وبين الطلقات، فأقاموا هناك ساعة، ثم وجهوا جماعة منهم يكونون نحوًا من ثلثمائة رجل بالسلاح إلى رحبة الجامع بالمدينة؛ ودخل معهم من العامة خلق كثير، فأقاموا في الرحبة، وصاروا إلى جعفر بن العباس الإمام، فأعلموه أنهم لا يمنعونه من الصلاة، وأنهم يمنعونه من الدعاء للمعتز. فأعلمهم جعفر أنه مريض لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه، وصاروا إلى درب أسد بن مرزبان، فشحنوا الشارع النافذ إلى درب الرقيق، ووكلوا بباب درب سليمان بن أبي جعفر جماعة، ثم مضوا يريدون الجسر في شارع الحدادين، فوجه إليهم ابن طاهر عدة من قواده فيهم الحسين بن إسماعيل والعباس ابن قارن وعلي بن جهشيار وعبد الله بن الأفشين في جماعة من الفرسان، فناظروهم ودفعوهم دفعًا رقيقًا، وحمل عليهم الجند والشاكرية حملة جرحوا فيها جماعة من قواد ابن طاهر، وأخذوا دابة ابن قارن وابن جهشيار ورجل من فرض عبيد الله بن يحيى من الشأمين يقال له سعيد الضبابي، وجرحوا المعروف بأبي السنا، ودفعوهم عن الجسر حتى صيروهم إلى باب عمرو بن مسعدة. فلما رأى الذين بالجانب الشرقي منهم أن أصحابهم قد أزالوا أصحاب ابن طاهر عن الجسر كبروا، وحملوا يريدون العبور إلى أصحابهم وكان ابن طاهر قد أعد سفينة فيها شوك وقصب ليضرم فيها النار، ويرسلها على الجسر الأعلى؛ ففعل ذلك، فأحرقت عامة سفنه وقطعته، وصارت إلى الآخر، فأدركها أهل الجانب الغربي، ففرقوها وأطفئوا النار التي تعلقت بسفن الجسر، وعبر من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي خلق كثير، ودفعوا أصحاب ابن طاهر عن ساباط عمرو بن مسعدة، وصاروا إلى باب ابن طاهر، وصار الشاكرية والجند إلى ساباط عمرو بن مسعدة، وقتل من الفريقين إلى الظهر نحو من عشرة نفر، وصار جماعة من الغوغاء والعامة إلى المجلس الذي يعرف بمجلس الشرطة في الجسر من الجانب الغربي إلى بيت يقال له بيت الرفوع، فكسروا الباب، وانتهبوا ما فيه؛ وكان فيه أصناف من المتاع، فاقتتلوا عليه فلم يتركوا فيه شيئًا، وكان كثيرًا جليلًا. وأحرق ابن طاهر الجسرين لما رأى الجند قد ظهروا على أصحابه، وأمر بالحوانيت التي على باب الجسر التي تتصل بدرب سليمان أن تحرق يمنة ويسرة، ففعل فاحترق فيها للتجار متاع كثير، وتهدم حيطان مجلس صاحب الشرطة؛ فلما ضربت الحوانيت بالنار بين الفريقين، وكبرت الجند عند ذلك تكبيرة شديدة؛ ثم انصرفوا إلى معسكرهم بباب حرب، وصار الحسين بن إسماعيل مع جماعة من القواد والشاكرية إلى باب الشأم، فوقف على التجار والعامة فوبخهم علة معونتهم الجند، وقال: هؤلاء قاتلوا على خبزهم معذورون، وأنتم جيران الأمير ومن يجب عليه نصرته، فلم فعلتم ما فعلتم، وأعنتم الشاكرية عليه ورميتم بالحجارة، والأمير متحول عنكم! ثم صار محمد بن أبي عون إليهم، فقال لهم مثل ذلك؛ وانصرف إلى ابن طاهر، فمكث الجند المشتغبون في مواضعهم ومعسكرهم، وانضم إلى ابن طاهر جماعة من الأثبات وجمع جميع أصحابه، فجعل بعضهم في داره، وبعضهم في الشارع النافذ من الجسر إلى داره، قد عبأهم تعبية الحرب، حذارًا من كرة الجند عليه أيامًا؛ فلم يكن لهم عودة؛ فصار في بعض الأيام التي كان من عودتهم ابن طاهر على وجد - فيما ذكر - رجلان من المشغبة استأمنا إليه، فأخبراه بعورة أصحابهما فأمر لهما بمائتي دينار، ثم أمر الشاه بن مكيال والحسين بن إسماعيل بعد العشاء والآخرة بالمصير في جماعة من أصحابهما إلى باب حرب، فتلطفا لأبي القاسم رئيس القوم وابن الخليل - وكان من أصحاب محمد بن أبي عون - فصاروا إلى ما هناك؛ وكان أبو القاسم وابن الخليل قد صار كل واحد منهم عند مفارقة الرجلين اللذين صاروا إلى ابن طاهر ورجل آخر يقال له القمى؛ وتفرق الشاكرية عنهما إلى ناحية خوفًا على أنفسهم، فمضى الشاه والحسين في طلبهما حتى خرجا من باب الأنبار، وتوجها نحو جسر بطاطيا، فذكر أن ابن الخليل استقبلهما قبل أن يصيرا إلى جسر بطاطيا، فصاح بهما ابن الخليل وبمن معهما من هؤلاء، وصاحوا به، فلما عرفهم حمل عليهم، فخرج منهم عدة، فأحدقوا به، وصار في وسط القوم، فطعنه رجل من أصحاب الشاه، فرمى به إلى الأرض، فبعجه علي بن جهشيار بالسيف وهو في الأرض، ثم حمل على بغل وبه رمق، فلم يصلوا به إلى ابن طاهر حتى قضي، وأمر الشاه بطرحه في كنيف في دهليز الدار إلى أن حمل إلى الجانب الشرقي؛ وأما عبدان بن الموفق فإنه كان قد صار إلى منزله وإلى موضع اختفى فيه، فدل عليه، وأخذ وحمل إلى ابن طاهر، وتفرق الشاكرية الذين كانوا بباب حرب، وصاروا إلى منازلهم، وقيد عبدان بن الموفق بقيدين فيهما ثلاثون رطلًا. ثم صار الحسين بن إسماعيل إلى الحبس الذي هو فيه في دار العامة، وقعد على كرسي، ودعا به، فسأله: هل هو دسيس لأحد، أو فعل ما فعل من قبل نفسه؟ فأخبره أنه لم يدسه أحد، وإنما هو رجل من الشاكرية طلب بخبزه. فرجع الحسين إلى ابن طاهر فأعلمه ذلك، فخرج طاهر بن محمد وأخوه إلى دار العامة الداخلة، فقعدا وأحضرا من بات في الدار من القواد والحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال، وأحضرا عبدان، فحمله رجلان، فكان المخاطب له الحسين، فقال أنت رئيس القوم، فقال: لا؛ إنما أنا رجل منهم؛ طلبت ما طلبوا فشتمه الحسين، وقال حرب بن محمد بن عبد الله بن حرب: كذبت، بل أنت رئيس القوم، وقد رأيناك تعبيهم بباب حرب وفي المدينة وباب الشأم، فقال: ما كنت لهم برأس؛ وإنما أنا رجل منهم، طلبت ما طلبوا. فأعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل؛ ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها. وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطًا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم؛ ولا يحل لك أن تصنع به هذا؛ فأمر به فصلب حيًا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذًا؛ فسقوه، فترك مصلوبًا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر؛ وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل إلى أوليائه فدفن، أعاد عليه الحسين الشتم، وأمر بصفعه فصفع، وأمر بسحبه فسحب بقيوده إلى أن أخرج من الدار، وشتمه كل من لحقه، ودخل طاهر بن محمد إلى أبيه فأخبره خبره، وحمل عبدان على بغل؛ ومضى به إلى الحبس، وحمل ابن الخليل في زورق عبر به إلى الجانب الشرقي، وصلب، وأمر بعبدان فجرد وضرب مائة سوط بثمارها. وأراد الحسين قتله، فقال لمحمد بن نصر: ما ترى في ضربه خمسين سوطًا على خاصرته؟ فقال له محمد: هذا شهر عظيم؛ ولا يحل لك أن تصنع به هذا؛ فأمر به فصلب حيًا، وحمل على سلم حتى صلب على الجسر، وربط بالحبال، فاستسقى بعد ما صلب، فمنعه الحسين فقيل له: إن شرب الماء مات، قال: فاسقوه إذًا؛ فسقوه، فترك مصلوبًا إلى وقت العصر، ثم حبس، فلم يزل في الحبس يومين ثم مات اليوم الثالث مع الظهر؛ وأمر بصلبه على الخشبة التي كان صلب عليها ابن الخليل، ودفع ابن الخليل إلى أوليائه فدفن، ذكر الخبر عن خلع المؤيد ثم موته وفي رجب من هذه السنة خلع المعتز المؤيد أخاه من ولاية العهد بعده. ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه كان السبب في ذلك - فيما بلغنا - أن العلاء بن أحمد عامل إرمينية بعث إلى إبراهيم المؤيد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره، فبعث ابن فرخانشاه إليه، فأخذها، فأغرى المؤيد الأتراك بعيسى بن فرخانشاه، وخالفهم المغاربة، فبعث المعتز إلى أخويه: المؤيد وأبي أحمد؛ فحبسهما في الجوسق، وقيد المؤيد وصيره في حجرة ضيقة، وأدر العطاء للأتراك والمغاربة، وحبس كنجور حاجب المؤيد، وضربه خمسين مقرعة، وضرب خليفته أبا الهول خمسمائة سوط وطوف به على جمل، ثم رضى عنه وعن كنجور، فصرف إلى منزله. وقد ذكر أنه ضرب أهاه المؤيد أربعين مقرعة، ثم خلع بسامرا يوم الجمعة لسبع خلون من رجب، وخلع ببغداد يوم الأحد عشرة خلت من رجب، وأخذت رقعة بخطه بخلع نفسه. ولست بقين من رجب من هذه السنة - وقيل لثمان بقين منه - كانت وفاة إبراهيم بن جعفر المعروف بالمؤيد. ذكر الخبر عن سبب وفاته ذكر أن امرأة من نساء الأتراك جاءت محمد بن راشد المغربي، فأخبرته أن الأتراك يريدون إخراج إبراهيم المؤيد من الحبس؛ وركب محمد بن راشد إلى المعتز، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا، فسأله فأنكر، وقال: يا أمير المؤمنين؛ إنما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكل لأنسهم به كان في الحرب التي كانت، وأما المؤيد فلا. فلما كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب دعا بالقضاة والفقهاء والشهود والوجوه، فأخرج إليهم إبراهيم المؤيد ميتًا لا أثر به ولا جرح، وحمل إلى أمه إسحاق - وهي أم أبي أحمد - على حمار، وحمل معه كفن وحنوط وأمر بدفنه، وحول أبو أحمد إلى الحجرة التي كان فيها المؤيد. وذكر أن المؤيد أدرج في لحاف سمور، ثم أمسك طرفاه حتى مات. وقيل: إنه أقعد في حجر من ثلج، ونضدت عليه حجارة الثلج فمات بردًا. ذكر الخبر عن مقتل المستعين وفي شوال منها قتل أحمد بن محمد المستعين ذكر الخبر عن قتله ذكر أن المعتز لما هم بقتل المستعين، ورد كتابه على محمد بن عبد الله ابن طاهر بنكبته، وأمره بتوجيه أصحاب معاونه في الطساسيج، ثم ورد عليه منه بعد ذلك كتاب مع خادم يدعى سيما، يؤمر فيه بالكتاب إلى منصور ابن نصر بن حمزة - وهو على واسط - بتسليم المستعين إليه؛ وكان المستعين بها مقيمًا، وكان الموكل ابن أبي خميصة وابن المظفر بن سيسل ومنصور ابن نصر بن حمزة وصاحب البريد؛ فكتب محمد في تسليم المستعين إليه، ثم وجه - فيما قيل - أحمد بن طولون التركي في جيش، فأخرج المستعين لست بقين من شهر رمضان، فوافى به القاطول لثلاث خلون من شوال. وقيل إن أحمد بن طولون كان موكلًا بالمستعين، فوجه سعيد بن صالح إلى المستعين في حمله، فصار إليه سعيد فحمله. وقيل إن سعيدًا إنما تسلم المستعين من ابن طولون في القاطول بع ما صار به ابن طولون إليها، ثم اختلف في أمرهما، فقال بعضهم: قتله سعيد بالقاطول؛ فلما كان غد اليوم الذي قتله فيه أحضر جواريه وقال: انظرن إلى مولاكن قد مات، وقد قال بعضهم: بل أدخبه سعيد وابن طولون سامرا، ثم صار به سعيد إلى منزل له فعذبه حتى مات. وقيل: بل ركب معه في زورق ومعه عدة حتى حاذى به فم دجيل، وشد في رجله حجرًا، وألقاه في الماء. وذكر عن متطبب كان مع المستعين نصراني يقال له فضلان، أنه قال: كنت معه حين حمل، وأنه أخذ به على طريق سامرا، فلما انتهى إلى نهرٍ نظر إلى موكب وأعلام وجماعة، فقال لفضلان: تقدم فانظر من هذا؛ فإن كان سعيدًا فقد ذهبت نفسي؛ فتقدمت إلى أول الجيش، فسألتهم فقالوا: سعيد والحاجب، فوجعت إليه فأعلمته - وكان في قبة تعادله امرأة - فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهبت نفسي والله! وتأخرت عنه قليلًا. قال: فليقه أول الجيش، فأقاموا عليه وأنزلوه ودابته، فضربوه ضربةً بالسيف، فصاح وصاحت دايته، ثم قتل؛ فلما قتل انصرف الجيش. قال: فصرت إلى الموضع؛ فإذا هومقتول في سراويل بلا رأس؛ وإذا المرأة مقتولة، وبها عدة شربات، فطرحنا عليهما نحن تراب النهر حتر واريناهما، ثم انصرفنا. قال: وأتي المعتز برأسه وهو يلعب بالشطرنج؛ فقيل: هذا رأس المخلوع فقال: ضعوه هنالك، ثم فرغ من لعبه، ودعا به فنظر إليه، ثم أمر بدفنه، وأمر لسعيد بخمسين ألف درهم وولى معونة البصرة. وذكر عن بعض غلمان المستعين أن سعيدًا لما استقبله أنزله، ووكل به رجلًا من الأتراك يقتله، فسأله، أن يمهله حتى يصلي ركعتين؛ وكانت عليه جبة، فسأل سعيد التركي الموكل بقتله أن يطلبها منه قبل قتله، ففعل ذلك، فلما سجد في الركعة الثانية قتله واحتز رأسه، وأمر بدفنه، وخفى مكانه. وقال محمد بن مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة في أمر المؤيد، ويمدح المعتز: أنت الذي يمسك الدنيا إذا اضطربت ** يا ممسك الدين والدنيا إذا اضطربا إن الرعية أبقاك الإله لها ترجو بعدلك أن تبقى لها حقبا لقد عنيت بحربٍ غير هينةٍ ** وكان عودك نبعًا لم يكن غربا ما كنت أول رأس خانه ذنبٌ ** والرأس كنت وكان الناكث الذنبا لو كان تم له ما كان دبره ** لأصبح الملك والإسلام قد ذهبا أراد يهلك دنيانا ويعطبها ** وقد أراد هلاك الدين والعطبا لما أراد وثوبًا من سفاهته ** أمسى عليه إمام العدل قد وثبا لقد رماك بسهم لم يصبك به ** ومن رماك عليه سهمه انقلبا لقد رعيت له ما كان من سببٍ ** فما رعى لك إحسانًا ولا سببا كحسن فعلك لم يفعل أخ بأخ ** كنا لذاك شهودًا لم نكن غيبا قد كنت مشتغلًا بالحرب ذا تعب ** وكان يلعب ما كلفته تعبا قد كان يا ذا الندى يعطى بلا طلبٍ ** وكنت يا ذا الندى تعطيه ما طلبا وكنت أكثر برا من أبيه به ** ولم تكن بأخٍ في البر كنت أبا وكان قرب سرير الملك مجلسه ** فقد تباعد منه بعد ما اقتربا وكان في نعم زالت وكان له ** بابٌ يزار فأمسى اليوم محتجبا أمسى وحيدًا وقد كانت مواكبه ** عشرين ألفًا تراهم خلفه عصبا أين الصفوف التي كانت تقوم له ** كما يقوم إذا ما جاء أو ذهبا وذل بعد تماديه ونخوته ** كالحوت أصبح عنه الماء قد نصبا وقد فسخت عن الأعناق بيعته ** فلا خطيب له يدعو إذا اختطبا لقبته لقبًا من بعد إمرته ** والله بدله بالإمرة اللقبا كسوته ثوب عز فاستهان به ** ولم يصنه فأمسى عنه مغتصبا كم نعمة لك فيها كنت تشركه ** والله أخرجه منها بما اكتسبا شبهته بسراجٍ كان ذا لهبٍ ** فما تركت له نورًا ولا لهبا أمست قطيعة إبراهيم قد قطعت ** حبل الصفاء وحبل الود فانقضبا وما تؤاخذ يا حلف الندى أحدًا ** حتى تبين فيه النكث والريبا إني بمدح بني العباس ذو حسبٍ ** وكان مدح بني العباس لي حسبا إن التقى يا بني العباس أدبكم ** حتى استفادت قريش منكم الأدبا من كان مقتضبًا في حول مدحكم ** فلست فيه بحمد الله مقتضبا أمر المعتز مع أهل بغداد ذكر عن أبي عبد الرحمن الفاني أن فتىً من أهل بسامرا أملى عليه مما عمله بعض أهلها عن ألسن الأتراك أن المعتز لما أفضت إليه الخلافة، وقلده الله لقيام بأمر عباده في المشارق والمغارب، والبر والبحر، والبدو والحضر، والسهل والجبل؛ تألم بسوء اختيار أهل بغداد وفتنتهم؛ فأمر المعتز بالله بإحضار جماعة ممن صفت أذهانهم، ورقت طبائعهم، ولطف ظنهم، وصحت نحائزهم، وجادت غرائزهم، وكملت عقولهم بالمشورة، فقال أمير المؤمنين: أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقهم، وغار شأوهم: الهمج الطعام، والأوغاد الذين لا مسكة بهم، ولا اختيار لهم، ولا تمييز معهم؛ قد زين لهم تقحم الخطأ سوء أعمالهم، فهم الأقلون وإن كثروا. والمذمومون إن ذكروا؛ وقد علمت أنه لا يصلح لقود الجيوش وسد الثغور وإبرام الأمور، وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خلال أربع، حزمٌ يقيف به عند موارد الأمور حقائق مصادرها، وعلم يحجزه عن التهور والتعزيز في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها، وشجاعة لا ينقصها الملمات مع تواتر حوائجها، وجودٌ يهون به تبذير جلائل الأموال عند سؤالها. وأما الثلاث: فسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان، والاستعداد للحوادث؛ إذ لا تؤمن من نوائب الزمان. وأما الاثنتان؛ فإسقاط الحاجب عن الرعية، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية، وأما الواحدة فالتيقظ في الأمور مع عدم تأخير عمل اليوم لغد، فما ترون: وقد اخترت رجالًا لهم من موالي، أحدهم شديد الشكيمة، ماضي العزيمة؛ لا تبطره السراء، ولا تدهشه الضراء، لا يهاب ما وراءه، ولا يهوله ما تلقاه، وهو كالحريش في أصل السلام؛ إن حرك حمل، وإن نهش قتل؛ عدته عتيدة، ونقمته شديدة، يلقى الجيش في النقر القليل العدد بقلب أشد من الحديد طالب الثأر، لا يفله العساكر، با سل البأس، مقتضب الأنفاس لا يعوزه ما طلب، ولا يفوته من هرب؛ وارى الزناد، مطلع العماد، لا تشرهه الرغائب، لا تعجزه النوائب؛ إن ولى كفى، وإن وعد وفى، وإن نازل فبطل، وإن قال فعل، ظله لوليه، ظليل، وبأسه في الهياج عليه دليل، يفوق من ساماه، ويعجز من ناواه، ويتعب من جاراه، وينعش من والاه. فقام إليه رجل من القوم، قد جمع الله لك يا أمير المؤمنين فضائل الأدب، وخصك بإرث النبوة، وألقى إليك أزمة الحكمة، ووفر نصيبك من حباء الكرامة؛ وفسح لك في الفهم، ونور قلبك بأنفس العلوم وصفاء الذهن، فأفصح عن القلب البيان، وأدرك فهمك يا أمير المؤمنين ما والله خبئ على من لم يحب بما حبيت من المنن العظام، والأيادي الجسام، والفضائل المحمودة، وشرف الطباع. فنطقت الحكمة على لسانك، فما ظننته فهو صواب، وما فهمته فهو الحق الذي لا يعاب، وأنت والله يا أمير المؤمنين نسيج وحده، وقريع دهره، لا يبلغ كلية فضله الوصف، ولا يحصر أجزاء شرف فضله النعت. ثم أمر أمير المؤمنين يالعقد لأنصاره على النواحي، وأطلقهم في أشعار أعدائهم وأبشارهم ودمائهم. فلما بلغ محمد بن عبد الله ما أمر به في النواحي أنشأ كتابًا نسخته: أما بعد فإن زيغ الهوى صدف بكم عن حزم الرأي، فأقحمكم حبائل الخطأ ولو ملكتم الحق عليكم، وحكمتم به فيكم لأوردكم البصيرة، ونفى عيشكم ويصفح أمير المؤمنين عن جريرة جارمكم؛ وأخلى لكم ذروة سبوغ النعمة عليكم، وإن مضيتم على غلوائكم، وسول لكم الأمل أسوأ أعمالكم، فأذنوا بحرب من الله ورسوله، بعد نبذ المعذرة إليكم، وإقامة الحجة عليكم، ولئن شنت الغارات، وشب ضرام الحرب، ودرات رحاها على قطبها، وحسمت الصوارم أوصال حماتها، واستجرت العوالي من نهمها، ودعيت نزال، والتحم الأبطال، وكلحت الحرب عن أنيابها أشداقها، وألقت للتجرد عنها قناعها، واختلفت أعناق الخيل، وزحف أهل النجدة إلى أهل البغى، لتعلمن أي الفريقين أسمح بالموت نفسًا، وأشد عند اللقاء بطشًا، ولات حين معذرة، ولا قبول فدية! وقد أعذر من أنذر؛ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون! فبلغ كتاب محمد بن عبد الله الأتراك، فكتبوا جواب كتابه: إن شخص الباطل تصور لك في صورة الحق، فتخيل لك، الغي رشدًا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ولو راجعت عزوب عقلك أنار لك برهان البصيرة، وحسم عنك مواد الشبهة، لكن حصت عن سنة الحقيقة، ونكصت على عقبيك لما ملك طباعك من دواعي الحيرة، فكنت في الإصغاء لهتافه والتجرد إلى وروده كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران، ولعمرك يا محمد؛ لقد ورد وعدك لنا ووعيدك إيانا، فلم يدننا منك، ولم ينبئنا عنك، إذ كان فحص اليقين قد كشف عن مكنون ضميرك، وألفاك كالمكتفى بالبرق نهجًا؛ إذا أضاء له مشى فيه، وإذا أظلم عليه قام. ولعمرك لئن اشتد في البغى شأوك، ومتعت بصبابة من الأمل ليكونن أمرك عليك غمة؛ ولنأتينك بجنود لا قبل لك بها ولنخرجنك منها ذليلًا، وأنت من الصاغرين، ولولا انتظارنا كتاب أمير المؤمنين بإعلامنا ما نعمل في شاكلته، بلغنا بالسياط النياط، وغمدنا السيوف وهي كالة، وجعلنا عاليها سافلها، وجعلناها مأوى الظلمان والحيات والبوم؛ وقد ناديناك من كثب، وأسمعناك إن كنت حيًا؛ فإن لم تجب تفلح، وإن لم تأب إلا غيًا نخزك به، وعمل قليل لتصبحن نادمين. وقوع الفتنة بين الأتراك والمغاربة وفي أول يوم من رجب من هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة؛ وذلك أن المغاربة اجتمعت فيه مع محمد بن راشد ونصر بن سعيد، فغلبوا الأتراك على الجوسق، وأخرجوهم منه، وقالوا لهم: في كل يوم تقتلون خليفة، وتخلعون آخر، وتقتلون وزيرًا؛ وكانوا قد وثبوا على عيسى بن فرخانشاه؛ فتناولوه بالضرب، وأخذوا دوابه، ولما أخرجت المغاربة الأتراك من الجوسق، وغلبوهم على بيت المال، أخذوا خمسين دابة مما كان من الأتراك يركبونها، فاجتمع الأتراك، وأرسوا إلى من بالكرخ والدور منهم، فتلاقوا هم والمغاربة، فقتل من المغاربة رجلٌ، فأخذت المغاربة قاتله، وأعانت المغاربة الغوغاء والشاكرية، فضعف الأتراك، وانقادوا للمغاربة. فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين، فاصطلحوا على ألا يحدثوا شيئًا، ويكون في كل موضع يكون فيه رجل من قبل أحد الفريقين يكون فيه آخر من الفريق الآخر فمكثوا على ذلك مديدة. وبلغ الأتراك اجتماع المغاربة إلى محمد بن راشد ونصر بن سعيد، واجتمع الأتراك إلى بايكباك، فقالوا: نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فلا أحد ينطق، وكان محمد بن راشد ونصر بن سعيد قد اجتمعا في صدر اليوم الذي عزم الأتراك فيه على الوثوب بهما، ثم انصرفا إلى منازلهما، فبلغهما أن بايكباك قد صار إلى منزل ابن راشد، فعدل محمد بن راشد ونصر بن سعيد إلى منزل محمد بن عزون ليكونا عنده حتى يسكن الأتراك، ثم يرجعا إلى جمعهما، فغمز إلى بايكباك رجل، ودله عليهما، وقيل إن ابن عزون هو الذي دس من دل بايكباك والأتراك عليهما؛ فأخذهما الأتراك فقتلوهما؛ فبلغ ذلك المعتز، فأراد قتل ابن عزون فكلم فيه فنفاه إلى بغداد. ذكر خبر حمل الطالبين من بغداد إلى سامرا وفيها حمل محمد بن علي بن خلف العطار وجماعة من الطالبين من بغداد إلى سامرا فيهم أبو أحمد بن محمد بن جعفر بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، وحمل معهم أبو هاشم داود بن القاسم الحعفري وذلك لثمان خلون من شعبان منها. ذكر السبب في حملهم وكان السبب فيما ذكر أن رجلًا من الطالبين شخص من بغداد في جماعة من الجيشية والشاكرية إلى ناحية الكوفة، وكانت الكوفة وسوادها من عمل أبي الساج في تلك الأيام، وكان مقيمًا ببغداد لمناظرة ابن طاهر إياه في الخروج إلى الري، فلما بلغ ابن طاهر خبر الطالبي الشاخص من بغداد إلى ناحية الكوفة، أمر الساج بالشخوص إلى عمله بالكوفة، فقدم أبو الساج خليفته عبد الرحمن إلى الكوفة، فلقى أبا الساج أبو هاشم الجعفري مع جماعة معه من الطالبين ببغداد، فكلموه في أمر الطالبي الشاخص إلى الكوفة، فقال لهم أبو الساج: قولوا له يتنحى عني، ولا أراه، فلما صار عبد الرحمن خليفة أبي الساج إلى الكوفة ودخلها رمى بالحجارة حتى صار إلى المسجد، فظنوا أنه جاء لحرب العلوي، فقال لهم: إني لست بعامل؛ إنما أنا رجل وجهت لحرب الأعراب، فكفوا عنه، وأقام بالكوفة وكان أبو أحمد محمد بن جعفر الطالبي الذي ذكرت أنه حمل من الطالبين إلى سامرا كان المعتز ولاه الكوفة بعد ما هزم مزاحم بن خاقان العلوي الذي كان وجه لقتاله بها الذي قد مضى ذكره قبل في موضعه فعاث، - فيما ذكر - أبو أحمد هذا في نواحي الكوفة وآذى الناس، وأخذ أموالهم وضياعهم، فلما أقام خليفة أبي الساج بالكوفة لطف لأبي أحمد العلوي هذا وآنسه حتى خالطه في المؤاكلة والمشاربة، وداخله ثم خرج متنزهًا معه إلى بستان من بساتين الكوفة، فأمسى وقد عبى له عبد الرحمن أصحابه، فقيده وحمله مقيدًا بالليل على بغال الدخول، حتى ورد به بغداد في أول شهر ربيع الآخر، فلما أتى به محمد بن عبد الله حبسه عنده، ثم أخذ منه كفيلًا وأطلقه، ووجدت مع ابن أخ لمحمد بن علي بن خلف العطار كتب من الحسن بن زيد، فكتب بخبره إلى المعتز، فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب، وحمل هؤلاء الطالبين، فحملوا جميعًا خمسين فارسًا، وحمل أبو أحمد هذا وأبو هاشم الجعفري وعلي بن عبيد الله ابن عبد الله بن حسن بن جعفر بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب. وتحدث الناس في علي بن عبيد الله أنه إنما استأذن في المصير إلى منزله بسامرا، فأذن له ووصله - فيما قيل - محمد بن عبد الله بألف درهم، لأنه شكا إليه ضيقه، وودع أبو هاشم أهله. وقيل إن سبب حمل أبي هاشم، إنما كان ابن الكردية وعبد الله بن داود بن عيسى بن موسى قالا للمعتز: إنك إن كتبت إلى محمد بن عبد الله في حمل داود بن القاسم لم يحمله، فاكتب إليه، وأعلمه أنك تريد توجيهه إلى طبرستان لإصلاح أمرها، فإذا صار إليك رأيت فيه رأيك؛ فحمل على هذا السبيل ولم يعرض له بمكروه. وفيها ولى الحسن بن أبي الشوارب قضاء القضاة، وكان محمد بن عمران الضبي مؤدب المعتز قد سمى رجالًا للمعتز للقضاء نحو ثمانية رجال؛ فيهم الخلنجي والخصاف، وكتب كتبهم، فوقع فيه شفيع الخادم ومحمد بن إبراهيم بن الكردية وعبد السميع بن هارون بن سليمان بن أبي جعفر، وقالوا إنهم من أصحاب ابن أبي داود، وهم رافضة وقدرية وزيدية وجهمية. فأمر المعتز بطردهم وإخراجهم إلى بغداد ووثب العامة بالخصاف، وخرج الآخرون إلى بغداد، وعزل الضبي إلا عن المظالم. وذكر أن أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في هذه السنة مائتي ألف ألف دينار، وذلك خراج المملكة كلها لسنتين. وفيها توجه أبو الساج إلى طريق مكة، وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن وصيفًا لما صلح أمره، ودفع المعتز إليه خاتمه كتب إلى أبي الساج يأمره بالخروج إلى طريق مكة ليصلحه، ووجه إليه من المال ما يحتاج إليه؛ فأخذ في الجهاز، فكتب محمد بن عبد الله يسأل أن يصير طريق مكة إليه؛ فأجيب إلى ذلك، فوجه أبا الساج من قبله. وفي أول ذي الحجة عقد لعيسى بن الشيخ بن السليل على الرملة، فأنفذ خليفته أبا المغراء إليها، فقيل: إنه أعطى بغا أربعين ألف دينار على ذلك، أو ضمنها إليه. وفيها كتب وصيف إلى عبد العزيز بن أبي دلف بتوليه الجبل، وبعث إليه بخلع، فتولى ذلك من قبله. وفيه قتل محمد بن عمرو الشاري بديار ربيعة؛ قتلة خليفة لأيوب بن أحمد في ذي العقدة. وفيها سخط على كنجور، وأمر بجبسه في الجوسق، ثم حمل إلى بغداد مقيدًا، ثم وجه به إلى اليمامة فحبس هنالك. وفيها أغار ابن جستان صاحب الديلم مع أحمد بن عيسى العلوي والحسين ابن أحمد الكوكبي على الري فقتلوا وسبوا، وكان ما بها حين قصدوها عبد الله ابن عزيز، فهرب منها؛ فصالحهم أهل الري على ألفي درهم، فأدّوها، وارتحل عنها ابن جستان، وعاد إليها ابن عزيز، فأسر أحمد بن عيسى وبعث به إلى نيسابور. وفيها مات إسماعيل بن يوسف الطالبي الذي كان فعل بمكة ما فعل. وحجّ فيها بالناس محمد بن أحمد بن عيسى بن المنصور من قبل المعتزّ. ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من عقد المعتزّ في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل، ومعه من الجيش يومئذ من الأتراك ومن يجري مجراهم ألفان وأربعمائة وثلاثة وأربعون رجلًا، منهم مع مفلح ألف ومائة وثلاثون رجلًا. ذكر خبر أخذ الكرج من ابن أبي دلف وفيها أوقع مفلح وهو على مقدّمة موسى بن بغا بعبد العزيز بن أبي دلف لثمان ليل بقين من رجب من هذه السنة وعبد العزيز في زهاء عشرين ألفًا من الصعاليك وغيرهم؛ وكانت ابلوقعة بينهما - فيما قيل - خارج همذان على نحو من ميل فهزمه مفلح ثلاثة فراسخ يقتلون ويأسرون، ثم رجع مفلح ومن معه سالمين؛ وكتب بالفتح في ذلك اليوم. فلما كان في شهر رمضان عبأ مفلح خيله نحو الكرج، وجعل لهم كمنين، ووجّه عبد العزيز عسكرًا فيه أربعة آلاف فقاتلهم مفلح، وخرج كمين مفلح على أصحاب عبد العزيز فانهزموا، ووضع أصحاب مفلح فيهم السيف، فقتلوا وأسروا، وأقبل عبد العزيز معينًا لأصحابه؛ فانهزم بانهزام أصحابه، وترك الكرج، ومضى إلى قلعة له في الكرج يقال له زز، متحصنًا بها، ودخل مفلح الكرج، فأخذ جماعة من آل أبي دلف أرًا، وأخذ نساءً من نسائهم؛ يقال إنه كان فيهم أمّ عبد العزيز؛ فأوثقتهم. وذكر أنه وجّه سبعين حملًا من الروءس إلى سامرّا وأعلامًا كثيرة. وشخص فيها موسى بن بغا من سامرّا إلى همذان فنزلها. وفيها خلع المعتزّ على بغا الشرابي في شهر رمضان، وألبسه التاج والوشاحين، فخرج فيهما إلى منزله. ذكر الخبر عن قتل وصيف وفيها قتل وصيف التركي؛ وذلك لثلاث بقين من شوّال منها؛ وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أنّ الأتراك والفراعنة والشروسنيّة شغبّوا وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر؛ فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشرابي في نحو من مائة إنسان من أصحابهم؛ فكلّمهم وصيف، وقال: ما تريدون؟ قالوا: أرزاقنا، فقال: خذوا ترابًا؛ وهل عندنا مال! وقال بغا: نعم، نسأل أمير المؤمنين في ذلك؛ ونتناظر في دار أشناس، وينصرف عنكم من ليس منكم، فدخلوا دار أشناس، ومضى سيما الشرابي منصرفًا إلى سامرّا، ثم تبعه بغا لاستثمار الخليفة في إعطائهم؛ وكان وصيف في أيديهم؛ فوثب عليه بعضهم، فضربه بالسيف ضربتين، ووجأه آخر بسكين فاحتمله نوشري بن طاجبك - وهو أحد قواده - إلى منزله؛ فلما أبطأ عليهم بغا ظنوا أنهم في التعبية عليهم؛ فاستخرجوه من منزل نوشرى؛ فضربوه بالطبرزينات حتى كسروا عضديه، ثم ضربوا عنقه، ونصبوا رأسه على محراك تنور، وقصدت العامة بسامرا الانتهاب لمنازل وصيف وولده، فرجع بنو وصيف، فمنعوا منازلهم، ثم جعل المعتز ما كان إلى وصيف من الأمور إلى بغا الشرابي. ذكر الخبر عن قتل بندار الطبري وفي يوم الفطر من هذه السنة قتل بندار الطبري ذكر سبب قتله فكان سبب ذلك أنه حكم بالبواريخ محكم يدعى مسارو بن عبد الحميد، في رجب من هذه السنة، فوجه المعتز إليه في شهر رمضان ساكتين، فمال إلى ناحية طريق خراسان، فوجه محمد بن عبد الله إليه؛ وذلك أن طريق خراسان كان إليه بندار ومظفر بن سيسل مسلحة، فلما صارا بدسكرة الملك أقاما؛ فذكر أن بندار خرج في آخر يوم من شهر رمضان متصيدًا، فبعد في طلب الصيد حتى جاوز دور الدسكرة بنحو فرسخ، فبينا هو كذلك؛ إذ نظر إلى علمين مقبلين معهما جماعة مقبلة نحو الدسكرة، فوجه بعض أصحابه لينظر ما الأعلام؛ فأخبره صاحب الجماعة أنه عامل كرخ جدان، وأنه انتهى إليه رجلًا يقال له مساور بن عبد الحميد من الدهاقين من أهل البواريخ شرى، وأنه بلغه أنه يصير إلى كرخ جدان؛ فلما بلغه ذلك خرج هارًا إلى الدسكرة ليأنس بقرب بندار ومظفر؛ فانصرف بندار من ساعته إلى المظفر فقال له، إن الشاري يقصد كرخ جدان، ويريدنا؛ فامض بنا نتلقاه، فقال له المظفر: قد أمسينا ونريد أن نصلي الجمعة وغدًا العيد، فإذا انقضى العيد قصدناه. فأبى بندار ومضى من ساعته طمعًا بالمظفر الشاري وحده دون مظفر، فأقام مظفر ولم يبرح من الدسكرة - وبين الدسكرة وتل عكبراء ثمانية فراسخ، وبين تل عكبراء وموضع الوقعة أربعة فراسخ - فصار بندار إلى تل عكبراء، فوافاها عند العتمة ليلة الفطر، فعلف دوابه شيئًا، ثم ركب، فسار حتى أشرف على عسكر الشاري ليلًا وهم يصلون ويقرءون القرآن، فأشار عليه بعض أصحابه وخاصته أن يبيتهم وهم غارون، فأبى وقال: لا؛ حتى أنظر إليهم وينظروا إلي. فوجه فارسين أو ثلاثة ليأتوه بخبرهم؛ فلما قربوا من عسكرهم نذروا بهم، فصاحوا: السلاح! وركبوا فتوافقوا إلى أن أصبحوا، ثم اقتتلوا، فلم يمكن أصحاب بندار أن يرموا بسهم واحد، وكان زهاء ثلثمائة فارس وراجل فعباهم ميمنة وميسرة وساقة، وأقام هو في القلب، فحمل عليهم مساور وأصحابه، فثبت لهم بندار وأصحابه؛ ثم انحدر لهم الشراة عن موضع عسكرهم ومبيتهم؛ ليطمع بندار وأصحابه في النهب، فلم يعرض بندار وأصحابه لعسكرهم. ثم كر الشراة عليهم بالسيوف والرماح، وهم زهاء سبعمائة؛ فصير الفريقان، فصار الشراة إلى السيوف دون الرماح، فقتل من الشراة نحو من خمسين رجلًا، ومن أصحاب بندار مثلهم، ثم حمل الشراة حملةً، قاقتطعوا من أصحاب بندار نحوًا من مائة رجل، فصبر لهم المائة ساعة، ثم قتلوا جميعًا، وانهزم بندار وأصحابه، فجعلوا يقتطعونهم قطعة بعد قطعة فيقتلونهم. وأمعن بندار في الهرب، فطلبوه فلحقوه بقرب تلّ عكبراء على قدر أربعة فراسخ من موضع الوقعة؛ فقتلوه ونصبوا رأسه، ونجا من أصحاب بندار نحو من خمسين رجلًا - وقيل مائة رجل - انحازوا عن الوقعة عند اشتغال الخوارج بمن كانوا يقتطعون منهم، وانتهى خبره إلى مظفّر وهو مقيم بالدسّكرة، فتنّحى من الدسكرة إلى ما قرب من بغداد، ووصل خبر مقتله إلى محمد بن عبد الله بغد الفطر، فذكر أنه لم يشرب ولم يله كما كان يفعل؛ غمًّا بما ورد عليه من مقتله. ثم مضى مساور من فوره إلى حلوان؛ فخرج إليه أهلها فقاتلوه، فقتل منهم أربعمائة إنسان، وقتلوا جماعة من أصحاب الشاري، وقتل عدّة من حجّاج خراسان كانوا بحلوان، فأعانوا هل حلوان، ثم انصرفوا عنهم. ذكر خبر موت محمد بن عبد الله بن طاهر وليلة أربع عشرة من ذي القعدة منها، انخسف القمر؛ فغرق كله أو غاب أكثره؛ ومات محمد بن عبد الله بن طاهر مع انتهاء خسوفه - فيما ذكر - وكانت علّته التي مات فيها قروحًا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته. وذكلار أن القروح التي كانت في حلقه ورأسه كانت تدخل فيها التائل، فلما مات تنازع الصلاة عليه أخوه عبيد الله وابنه طاهر؛ فصلّى عليه ابنه. وكان أوصى بذلك - فيما قيل. ثم وقع بين عبيد الله تنازعٌ حتى سلوا السيوف عليه، ورمي بالحجارة، ومالت الغوغاء والعامة وموالي إسحاق بن إبراهيم مع طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر، ى ثم صاحوا: طاهر يا منصور؛ فعبر عبيد الله إلى ناحية الشرقية إلى داره، ومال معه القواد لاستخلاف محمد بن عبد الله كان إياه على أعماله ووصيّته بذلك وكتابه بذلك إلى عمّاله ثم وجّه المعتزّ الخلع ولاية غداد إلى عبيد الله، وأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع من قبل المعتزّ فيما قيل بخمسين ألف درهم. نسخة الكتاب الذي كتبه محمد بن عبد الله إلى عماله باستخلافه أخاه عبيد الله بعده أما بعد فإنّ الله عز وجل جعل الموت حتمًا مقتضيًا جاريًا على الباقين من خلقه، حسبما جرى على الماضيين؛ وحقيق على من أعطى حظًّا من توفيق الله، أن يكون على استعداد لحلول ما لا بدّ منه ولا محيص عنه في كلّ الأحوال. وكتابي هذا وأنا في علّة قد اشتد الإشفاق منها، وكاد الإياس يغلب على الرجاء فيها؛ فإن يبل الله ويدفع فبقدرته وكريم عادته؛ وإن يحدث بي الحدث الذي هو سبيل الأولين والآخرين؛ فقد استخلفت عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين أخي الموثق باقتفائه أثري، وأخذه بسدّ ما أنا بسيله من سلطان أمير المؤمنين إلى أن يأتيه من أمره ما يعمل بحسبه؛ فاعلم ذلك وائتمر فيما تتولاه بما يرد كتب عبيد الله وأمره إن شاء الله. وكتب يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي العقدة سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وفيها نفي المعتز أبا أحمد بن المتوكل إلى واسط، ثم إلى البصرة، ثم رد إلى بغداد، وأنزل إلى الجانب الشرقي في قصر دينار بن عبد الله. وفيها نفي أيضًا علي بن المعتصم إلى واسط ثم رد إلى بغداد فيها. وفيها مات مزاحم بن خاقان بمصر في ذي الحجة. وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن محمد بن سليمان الزينبي. وفيها غزا محمد بن معاذ بالمسلمين في ذي العقدة من ناحية ملطية، فهزموا وأسر محمد بن معاذ. وفيها التقى موسى بن بغا والكوكبي الطالبي على فرسخ من قزوين يوم الاثنين سلخ ذي القعد منها، فهزم موسى الكوكبي، فلحق بالديلم، ودخل موسى بن بغا قزوين. وذكر لي بعض من شهد الوقعة، أن أصحاب الكوكبي من الديلم لما التقوا بموسى وأصحابه صفوا صفوفًا، وأقاموا ترستهم في وجوههم يتقون بذلك سهام أصحاب موسى؛ فلما رأى موسى أن سهام أصحابه لا تصل إليهم مع ما قد فعلوا، أمر بما معه من النفط أن يصيب في الأرض التي التقى هو وهم فيها؛ ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم، وإظهار هزيمة منهم؛ ففعل ذلك أصحابه؛ فلما فعلوا ذلك ظن الكوكبي وأصحابه أنهم انهزموا؛ فتبعوهم، فلما علم موسى أن أصحاب الكوكبي قد توسطوا النفط أمر بالنار فأشعلت فيه، فأخذت فيه النار، وخرجت من تحت أصحاب الكوكبي، فجعلت تحرقهم؛ وهرب الآخرون. وكان هزيمة القوم عند ذلك ودخول موسى قزوين. وفيها لقى خطارمش مساور الشاري بناحية جلولاء في ذي الحجة، فهزمه مساور. ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من مقتل بغا الشرابي. ذكر خبر مقتل بغا الشرابي ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر أن السبب في ذلك كان أنه كان يحض المعتز على المصير إلى بغداد، والمعتز يأبى ذلك عليه. ثم إن بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصته بعرس جمعة بنت بغا؛ كان صالح بن وصيف تزوجها للنصف من ذي القعدة؛ فركب المعتز ليلًا، ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سامرا يريد بايكباك ومن كان معه على مثل ما هو عليه من انحرافه عن بغا. وكان سبب انحرافه عنه - فيما ذكر - أنهما كانا في شراب لهما يشربانه، فعربد أحدهما على صاحبه؛ فتهاجرا لذلك؛ وكان بايكباك بسبب ذلك هاربًا من بغا مستخفيًا منه؛ فلما وافى المعتز بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ وأهل الدور، ثم أقبلوا مع المعتز إلى الجوسق بسامرا؛ وبلغ ذلك بغا، فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقواده، وصار إلى نهر نيزك، ثم انتقل إلى مواضع، ثم صار إلى السن، ومعه من العين تسع عشرة بدرة دنانير بدرة بدراهم؛ أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان؛ فأنفق منها شيئًا يسيرًا حتى قتل. وذكر أنه لما بلغه أن المعتز قد صار إلى موضع الكرخ مع أحمد بن إسرائيل خرج في خاصة قواده حتى صار إلى تل عكبراء، ثم مضى فصار إلى السن؛ فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف وأنهم لم يخرجوا معهم بمضارب، ولا ما يتدفئون به من البرد، وأنهم في شتاء. وكان بغا في مضرب له ضغير على دجلة، كان يكون فيه، فأتاه ساتكين، فقال: أصلح الله الأمير! قد تكلم أهل العسكر، وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك، فقال: كلهم يقول مثل قولك؟ قال: نعم؛ وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي، قال: دعني الليلة حتى أنظر، ويخرج إليكم أمري بالغداة، فلما جن عليه الليل دعا بزورق، فركبه مع خادمين معه، وحمل معه شيئًا من المال، ولم يحمل معه سلاحًا ولا سكينًا ولا عمودًا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتز في غيبة بغا لا ينام إلا في ثيابه، وعليه السلاح، ولا يشرب نبيذًا، وجميع جواريه على رجل. فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأول من الليل؛ فلما قارب الزورق الجسر بعث الموكلون به من في الزورق، فصاح بالغلام، فرجع إليهم، وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدة منهم؛ فوقف لهم وقال: أنا بغا. ولحقه وليد المغربي، فقال له: مالك جعلت فداك! فقال: إما أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف، وإما أن تصيروا معي إلى منزلي؛ حتى أحسن إليكم. فوكل به وليد المغربي، ومر يركض إلى الجوسق، فاستأذن على المعتز فأذن له، فقال: يا سيدي هذا بغا قد أخذته ووكلت به، قال: ويلك! جئني برأسه؛ فرجع وليد، فقال للموكلين به، تنحوا عنه حتى أبلغه الرسالة، فتنحوا عنه، فضربه ضربة على جبهته ورأسه؛ ثم تناهى على يديه فقطعهما، ثم ضربه حتى صرعه وذبحه، وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتلاى به المعتز؛ فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه خلعة، ونصب رأسه بسامرا؛ ثم ببغداد، ووثبت المغاربة على جثته، فأحرقوه بالنار؛ وبعث من ساعته إلى أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبي نوح، فأحضرهم وأخبرهم، وتتبع عبيد الله بن طاهر بنيه ببغداد؛ وكانوا صاروا إليها هرابًا مع قوم يثقون بهم؛ فاستتروا عندهم فذكر أنه حبس في قصر الذهب من ولده وأصحابه؛ خمسة عشر إنسانًا، وفي المطبق عشرة. وقيل: إن بغا لما انحدر إلى سامرا ليلة أخذ شاور أصحابه في الانحدار إليها مكتمًا، فيصير إلى منزل صالح بن وصيف، وإذا قرب العيد دخل أهل العسكر، وخرج هو وصالح بن وصيف وأصحابه، فوثبوا بالمغاربة، فوثبوا بالمعتز. وفيها عقد صالح لديوداد على ديار مضر وقنسرين والعواصم فوثبوا بالمعتز في ربيع الأول منها. وفيها عقد بايبكاك لأحمد بن طولون على مصر. وفيها أوقع مفلح وباجور بأهل قم، فقتلا منهم مقتلة عظيمة؛ وذلك في شهر ربيع الأول منها. وفيها مات علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الآخرة، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل في الشارع المنسوب إلى أبي أحمد، ودفن في داره. وفيها في جمادى الآخرة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بتوجيه والده عبد العزيز إياه إليها وجندى سابور وتستر، فجباها مائتي ألف دينار ثن انصرف. وفي شهر رمضان منها شخص نوشرى إلى مساور الشاري فلقيه وهزمه، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة. وحج بالناس في هذه السنة علي بن الحسين بن إسماعيل بن العباس بن محمد. ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من دخول مفلح طبرستان ووقعة كانت بينه وبين الحسن بن زيد الطالبي، هزم فيها مفلح الحسن بن زيد، فلحق بالديلم، ثم دخل مفلح آمل، وأحرق منازل الحسن بن زيد، ثم توجه نحو الديلم في طلب الحسن بن زيد. ذكر خبر استيلاء يعقوب بن الليث على كرمان وفيها كانت وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقًا؛ وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن علي بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان - وكان قبل من عمال آل طاهر - وكتب يذكر ضعف آل طاهر وقلة ضبطهم، بما إليهم من البلاد، وأن يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس، فكتب السلطان إليه بولاية كرمان، وكتب إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كل واحد منهما بصاحبه ليسقط مؤنة الهالك منهما عنه ويتفرد بمؤنة الآخر؛ إذ كان كل واحد منهما عنده حربًا له وفي غير طاعته، فلما فعل ذلك بهما زحف يعقوب بن الليث من سجستان يريد كرمان، ووجه علي بن الحسين طوق بن المغلس وقد بلغه خبر يعقوب وقصده كرمان في جيش عظيم من فارس، فصار طوق بكرمان، وسبق يعقوب إليها فدخلها، وأقبل يعقوب من سجستان، فصار من كرمان على مرحلة. فحدثني من ذكر أنه كان شاهدًا أمرهما، أن يعقوب بقي مقيمًا في الموضع الذي أقام به كرمان على مرحلة لا يرتحل عنه شهرًا أو شهرين، يتجسس أخبار طوق؛ ويسأل عن أمره كل من مر به خارجًا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدًا يجوز عسكره من ناحيته إلى كرمان، ولا يزحف طوقٌ إليه ولا هو إلى طوق، فلما طال ذلك من أمرهما كذلك أظهر يعقوب الارتحال عن معسكره إلى ناحية سجستان، فارتحل عنه مرحلة. وبلغ طوقًا ارتحاله، فظن أنه قد بدا له في حربه، وترك عليه كرمان وعلى علي بن الحسين؛ فوضع آلة الحرب، وقعد للشرب، ودعا بالملاهي، ويعقوب في كل ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره. فاتصل به ووضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشراب واللهو بارتحاله؛ فكر راجعًا، فطوى المرحلتين إليه في يوم واحد، فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر نهاره إلا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان، فقال لأهل القرية: ما هذه الغبرة؟ فقيل له: غبرة مواشي أهل القرية منصرفة إلى أهلها، ثم لم يكن إلا وكلا ولا؛ حتى وفاه يعقوب في أصحابه، فأحاط به وبأصحابه؛ فذهب أصحاب طوق لما أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم، فقال يعقوب لأصحابه: أفرجوا للقوم، فأفرجوا لهم، فمروا هاربين على وجوههم، وخلوا كل شيء لهم مما كان معهم في معسكرهم، وأسر يعقوب طوقًا. فحدثني ابن حماد البربري أن علي بن الحسين لما وجه طوقًا حمله صناديق في بعضها أطواقه وأسورة ليطوق ويسور من أبلى معه من أصحابه، وفي بعضها أموال ليجيز من استحق الجائزة منهم، وفي بعضها قيود وأغلال ليقيد بها من أخذ من أصحاب يعقوب؛ فلما أسر يعقوب طوقًا ورؤساء الجيش الذين كانوا معه أمر بحيازة كل ما كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كله، وجُمع إليه؛ فلما أتي بالصناديق أتي بها مقفلة، فأمر ببعضها أن يفتح، فإذا فيه القيوم والأغلال، فقال لطوق: يا طوق؛ ما هذه القيود والأغلال؟ قال: حملنيها علي بن الحسين لأقيد بها الأسرى وأغلهم بها، فقال: يا فلان، انظر أكبرها وأثقلها فاجعله في رجلي طوق وغله بغل. ثم جعل يفعل مثل ذلك بمن أسر من أصحاب طوق. قال: ثم أمر بصناديق أخر ففتحت؛ فإذا فيها أطوقة وأسورة، فقال: يا طوق: ما هذه؟ قال: حملنيها علي لأطوق بها وأسور أهل البلاء من أصحابي، قال: يا فلان؛ خذ من ذلك طوق كذا وسوار كذا، فطوق فلانًا وسوره، ثم جعل يفعل ذلك بأصحاب نفسه حتى طوقهم وسورهم، ثم جعل يفعل كذلك بالصناديق. قال: ولما أمر يعقوب بمد يد طوق ليضعها في الغل، إذا على ذراعه عصابة، فقال له: ففصدتها، فدعا بعض من معه فأمر بمد خفه من رجله ففعل ذلك، فلما نزعه من رجله تناثر من خفه كسر خبز يابسة. فقال: يا طوق هذا خفي لم أنزعه من رجلي منذ شهرين، وخبزي في خفي منه آكل لا أطأ فراشًا، وأنت جالس في الشرب والملاهي! بهذا التدبير حربي وقتالي! فلما فرغ يعقوب بن الليث من أمر طوق دخل كرمان وحازها وصارت منه سجستان من عمله. ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث فارس وفيها دخل يعقوب بن الليث فارس وأسر علي بن الحسين بن قريش. ذكر الخبر عن سبب أسره إياه وكيف وصل إليه حدثني ابن حماد البربري، قال: كنت يومئذ بفارس عند علي بن الحسين بن قريش، فورد عليه خبر وقعة يعقوب بن الليث بصاحبه طوق بن المغلس ودخول يعقوب كرمان واستيلائه عليها، ورجع إليه الفل، فأيقن بإقبال يعقوب إلى فارس؛ وعلي يومئذ بشيراز من أرض فارس، فضم إليه جيشه ورجالة الفل من عند طوق وغيرهم، وأعطاهم السلاح، ثم برز من شيراز، فصار إلى كر خارج شيراز بين آخر طرفه عرضًا مما يلي أرض شيراز، وبين عرض جبل بها من الفضاء قدر ممر رجل أو دابة، لا يمكن من ضيقه أن يمر فيه أكثر من رجل واحد. فأقام في ذلك الموضع، وضرب عسكره على شط ذلك الكز مما يلي شيراز، وأخرج معه المتسوقة والتجار من مدينة شيراز إلى معسكره، وقال: إن جاء يعقوب لم يجد موضعًا يجوز الفلاة إلينا؛ لأنه لا طريق له إلا الفضاء الذي بين الجبل والكر؛ وإنما هو قدر ممر رجل؛ إذا أقام عليه رجل واحد منع من يريد أن يجوزه، وإن لم يقدر أن يجوز إلينا بقي في البر بحيث لا طعام له ولا لأصحابه ولا علف لدوابهم. قال ابن حماد: فأقبل يعقوب حتى قرب من الكر، فأمر أصحابه بالنزول أول يوم على نحو من ميل من الكر مما يلي كرمان، ثم أقبل هو وحده وبيده رمح عشاري؛ يقول ابن حماد: كأني إليه حين أقبل وحده على دابته، ما معه إلا رجل واحد، فنظر إلى الكر والجبل والطريق، وقرب من الكر، وتأمل عسكر علي بن الحسين، فجعل أصحاب على يشتمونه، ويقولون: لنردنك إلى شعب المراجل والقماقم، يا صفار - وهو ساكت لا يرد عليهم شيئًا - قال: فلما تأمل ما أراد من ذلك ورآه، انصرف راجعًا إلى أصحابه. قال: فلما كان من الغد عند الظهر أقبل بأصحابه ورجاله حتى صار على الشط كر مما يلي بر كرمان، فأمر أصحابه فنزلوا عن دوابهم، وحطوا أثقالهم. قال: ثم فتح صندوقًا كان معه. قال ابن حماد: كأني أنظر إليهم وقد أخرجوا كلبًا ذئبيًا، ثم ركبوا دوابهم أعراء، وأخذوا رماحهم بأيديهم. قال: وقبل ذلك قد عبأ علي بن الحسين أصحابه، فأقامهم صفوفًا على الممر الذي بين الجبل والكر؛ وهم يرون أنه لا سبيل ليعقوب، ولا طريق له يمكنه أن يجوزه غيره. قال: ثم جاءوا بالكلب، فرموا به في الكر، ونحن وأصحاب علي ينظرون إليهم يضحكون منهم ومنه، قال: فلما رموا بالكلب فيه، جعل الكلب يسبح في الماء إلى جانب عسكر علي بن الحسين، وأقحم أصحاب يعقوب دوابهم خلف الكلب، وبأيديهم رماحهم، يسيرون في أثر الكلب. فلما رأى علي بن الحسين أن يعقوب قد قطع عامة الكر إليه وإلى أصحابه، انتفض عليه تدبيره، وتحير في أمره؛ ولم يلبث أصحاب يعقوب إلا أيسر ذلك حتى خرجوا من الكر من وراء أصحاب علي بن الحسين؛ فلم يكن بأسرع من أن خرج أوائلهم منه حتى هرب أصحاب علي يطلبون مدينة شيراز، لأنهم كانوا يصيرون إذا خرج أصحاب يعقوب من الكر بين جيش يعقوب وبين الكر، ولا يجدوا ملجأ إن هزموا. وانهزم علي بن الحسين بانهزام أصحابه؛ وقد خرج أصحاب يعقوب من الكر، فكبت به دابته، فسقط إلى الأرض ولحقه بعض السجزية فهمّ عليه بسيفه ليضربه؛ فبلغ إليه خادم له، فقال: الأمير فنزل إليه السجزي، فوضع في عنقه عمامته، ثم جره إلى يعقوب، فلما أتى به أمر بتقييده، وأمر بما كان في عسكره من آلة الحرب من السلاح والكراع وغير ذلك، فجمع إليه، ثم أقام بموضعه حتى أمسى، وهجم عليه الليل، ثم رحل من موضعه. ودخل مدينة شيراز ليلًا وأصحابه يضربون بالطبول، فلم يتحرك في المدينة أحد، فلما أصبح أنهب أصحابه دار علي بن الحسين ودور أصحابه؛ ثم نظر إلى ما اجتمع في بيت المال من مال الخراج والضياع، فاحتمله ووضع الخراج، فجباه، ثم شخص منها متوجهًا إلى سجستان، وحمل معه ابن قريش ومن أسر معه. وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى المعتز بدواب وبزاة ومسك هديةً. وفيها ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر شرطة بغداد والسواد، وذلك لست خلون من شهر ربيع الآخر، وكانت موافاته سامرا من خراسان - فيما ذكر - يوم الخميس لثمان خلون من شهر ربيع الأول، وصار إلى الإيتاخية، ثم دخل على المعتز يوم السبت، فخلع عليه وانصرف. وفيها كانت وقعة بين مساور الشاري ويارجوخ، فهزمه الشاري وانصرف إلى سامرا مفلولًا. ومات المعلى بن أيوب في شهر ربيع الآخر منها. ذكر فعل صالح بن وصيف مع أحمد بن إسرائيل ورفيقيه وفيها أخذ صالح بن وصيف أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وأبا نوح عيسى بن إبراهيم فقيدهم، وطالبهم بأموال؛ وكان سبب ذلك - فيما ذكر - أن هؤلاء الكتاب الذين ذكرت كانوا اجتمعوا يوم الأربعاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة من هذه السنة على شراب لهم يشربونه، فلما كان يوم الخميس غد ذلك اليوم، ركب ابن إسرائيل في جمع عظيم إلى دار السلطان التي يقعد فيها، وركب ابن مخلد إلى دار قبيحة أم المعتز - وهو كاتبها - وحضر أبو نوح الدار، والمعتز نائم؛ فانتبه قريبًا من انتصاف النهار، فأذن لهم، فحمل صالح بن وصيف على أحمد بن إسرائيل، وقال للمعتز: يا أمير المؤمنين؛ ليس للأتراك عطاء ولا في بيت المال مالٌ؛ وقد ذهب ابن إسرائيل وأصحابه بأموال الدنيا، فقال له أحمد: يا عاصي يا بن العاصي! ثم لم يزالا يتراجعان الكلام حتى سقط صالح مغشيًا عليه، فرش على وجهه الماء. وبلغ ذلك أصحابه وهم على الباب، فصاحوا صيحةً واحدة، واخترطوا سيوفهم، ودخلوا على المعتز مصلتين؛ فلما رأى المعتز دخل وتركهم، وأخذ صالح بن وصيف ابن إسرائيل وابن مخلد وعيسى بن إبراهيم فقيدهم، وأثقلهم بالحديد، وحملهم إلى داره، فقال المعتز لصالح قبل أن يحملهم: هب لي أحمد؛ فإنه كاتبي؛ وقد رباني؛ فلم يفعل ذلك صالح، ثم ضرب ابن إسرائيل؛ حتى كسرت أسنانه، وبطح ابن مخلد فضرب مائة سوط؛ وكان عيسى بن إبراهيم محتجمًا فلم يزل يصفع حتى جرت الدماء من محاجمه؛ ثم لم يتركوا حتى أخذت رقاعهم بمالٍ جليل قسط عليهم. وتوجه قوم من الأتراك إلى إسكاف ليأتوا بجعفر بن محمود، فقال المعتز: أما جعفر فلا أرب لي فيه ولا يعمل لي. فمضوا، فبعث المعتز إلى أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد المرزوي، فحمل ليصيره وزيرًا، وبعث إلى إسحاق من منصور، فأشخص. وبعثت قبيحة إلى صالح بن وصيف في ابن إسرائيل: إما حملته إلى المعتز وإما ركبت إليك فيه. وقد ذكر أن السبب في ذلك أن الأتراك طلبوا أرزاقهم، وأنهم جعلوا ذلك سببًا لما كان من أمرهم، وأن الرسل لم تزل تختلف بينهم وبين هؤلاء الكتاب؛ إلى أن قال أبو نوح لصالح بن وصيف: هذا تدبيرك على الخليفة، فغشي على صالح حينئذ مما داخله من الحرد والغيظ حتى رشوا على وجهه الماء، فلما أفاق جرى بين يدي المعتز كلام كثير، ثم خرجوا إلى الصلاة، وخلا صالح بالمعتز، ثم دعي بالقوم فلم يلبثوا إلا قليلًا، حتى أخرجوا إلى قبة في الصحن؛ ثم دعي بأبي نوح وابن مخلد سيوفهما وقلانسهما ومزقت ثيابهما، ولحقهما ابن إسرائيل فألقى نفسه عليهما؛ فثلت به؛ ثم أخرجوا إلى الدهليز وحملوا على الدواب والبغال، وارتدف خلف كل واحد منهم تركي، وبعث بهم إلى دار صالح على طريق الحير، وانصرف صالح بعد ساعة، وتفرق الأتراك، فانصرفوا. فلما كان بعد ذلك بأيام جعل في رجل كل واحد منهم ثلاثون رطلًا، وفي عنق كل واحد منهم عشرون رطلًا من حديد، وطولبوا بالأموال، فلم يجب واحد منهم إلى شيء؛ ولم ينقطع أمرهم إلى أن دخل رجب؛ فوجهوا في قبض ضياعهم ودورهم وضياع أسبابهم وأموالهم، وسموا الكتاب الخونة، فقدم جعفر بن محمود يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرى فولي الأمر والنهي. ولليلتين خلتا من رجب ظهر بالكوفة عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان، فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى. ذكر الخبر عن خلع المعتز ثم موته ولثلاث بقين من رجب منها خلع المعتز. ولليلتين خلتا من شعبان أظهر موته؛ وكان سبب خلعه - فيما ذكر - أن الكتاب الذي ذكرنا أمرهم، لما فعل بهم الأتراك ما فعلوا، ولم يقروا لهم بشيء، وصاروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم، وقالوا له: أعطنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف، فأرسل المعتز إلى أمه يسألها أن تعطيه مالًا ليعطيهم، فأرسلت إليه: ما عندي شيء، فلما رأى الأتراك ومن بسامرا من الجند أن قد امتنع الكتاب من أن يعطوهم شيئًا، ولم يجدوا في بيت المال شيئًا، والمعتز وأمه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء؛ صارت كلمة الأتراك والفراغنة والمغاربة واحدةً، فاجتمعوا على خلع المعتز، فصاروا إليه لثلاثٍ بقين من رجب؛ فذكر بعض أسباب السلطان أنه كان في اليوم الذي صاروا إليه عند نحرير الخادم في دار المعتز، فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر، قد خلوا في اسللاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتز، ثم بعثوا إليه: اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء وأمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة؛ ولا أقدر على الكلام من الضعف؛ فإن كان أمرًا لابد منه، فليدخل إلى بعضكم فليعلمني. وهو يرى أن أمره واقف على حاله. فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة؛ قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع، وآثار الدم على منكبه، فأقاموا في الشمس في الدار في وقت شديد الحر. قال: فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. قال: فرأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده، وجعلوا يقولون: اخلعها، فأدخلوه حجرة على باب حجرة المعتز كان موسى بن بغا يسكنها حين كان حاضرًا، ثم بعثوا إلى ابن أبي الشوارب، فأحضروه مع جماعة من أصحابه؛ فقال له صالح وأصحابه: اكتب عليه كتاب خلع، فقال: لا أحسنه؛ وكان معه رجل أصبهاني، فقال: أنا أكتب، فكتب وشهدوا عليه وخرجوا. فقال: أبي الشوارب لصالح: قد شهدوا أن له ولأخته وابنه وأمه الأمان، فقال صالح بكفه: أي نعم؛ ووكلوا بذلك المجلس وبأمه نساء يحفظها. فذكر أن قبيحة كانت اتخذت في الدار التي كانت فيها سربًا، وأنها احتالت وهي قرب وأخت المعتز، فخرجوا من السرب، وكانوا أخذوا عليها الطرق، ومنعوا الناس أن يجوزوا من يوم فعلوا بالمعتز ما فعلوا؛ وذلك يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب. فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه ومع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوةً من ماء البئر، فمنعوه ثم جصصوا سردابًا بالجص الثخين، ثم أدخلوه فيه، وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميتًا. وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة. فلما مات أشهد على موته بنو هاشم والقراد؛ وأنه صحيح لا أثر فيه، فدفن مع المنتصر في ناحية قصر الصوامع؛ فكانت خلافته من يوم بويع له بسامرا إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا. وكان عمره كله أربعًا وعشرين سنة. وكان أبيض أسود الشعر كثيفه، حسن العينين والوجه، ضيق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم، طويلًا وكان مولده بسامرا. خلافة ابن الواثق المهتدي بالله وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من هذه السنة، بويع محمد بن الواثق؛ فسمي المهتدي بالله؛ وكان يكنى أبا عبد الله؛ وأمه رومية؛ وكانت تسمى قرب. وذكر عن بعض من كان شاعدًا أمرهم، أن محمد بن الواثق لم يقبل بيعة أحد؛ حتى أتي بالمعتز فخلع نفسه؛ وأخبر عن عجزه عن القيام بما أسند إليه، ورغبته في تسليمها إلى محمد بن الواثق؛ وأن المعتز مد يده فبايع الواثق؛ فسموه بالمتدي، ثم تنحى وبايع خاصة الموالي. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتز نفسه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أشهد عليه الشهود المسمون في هذا الكتاب؛ شهدوا أن أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكل على الله أقر عندهم، وأشهدهم على نفسه في صحةٍ من عقله، وجوازٍ من أمره؛ طائعًا غير مكره، أنه فيما نظر كان تقلده من أمر الخلافة والقيام بأمور المسلمين؛ فرأى أنه لا يصلح لذلك، ولا يكمل له؛ وأنه عاجز عن القيام بما يجب عليه منها، ضعيف عن ذلك؛ فأخرج نفسه، وتبرأ منها، وخلعها من رقبته، وخلع نفسه منها، وبرأ كل من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس مما كان له في رقابهم من البيعة والعهود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة والحج وسائر الأيمان، وحللهم من جميع ذلك وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة، بعد أن تبين له أن الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرؤ منه، وأشهد على نفسه بجميع ما سمى، ووصف في هذا الكتاب جميع الشهود المسين فيه، وجميع من حضر؛ بعد أن قرئ عليه حرفًا حرفًا، فأقر بفهمه ومعرفته جميع ما فيه طائعًا غير مكره؛ وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. فوقع المعتز من ذلك: " أقر أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب، وكتب بخطه ". وكتب الشهود شهاداتهم: شهد الحسن بن محمد ومحمد بن يحيى وأحمد بن جناب ويحيى بن زكرياء بن أبي يعقوب الأصبهاني وعبد الله بن محمد العامري وأحمد بن الفضل بن يحيى وحماد بن إسحاق وعبد الله بن محمد وإبراهيم بن محمد؛ وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. قيام الشغب ببغداد ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله وفي سلخ رجب من هذه السنة، كان ببغداد شغب ووثوب العامة بسليمان بن عبد الله بن طاهر. ذكر الخبر عن سبب ذلك وإلى ما آل الأمر إليه وكان السبب في ذلك، أن الكتاب من محمد بن الواثق ورد يوم الخميس سلخ رجب على سليمان ببغداد ببيعة الناس له، وبها أبو أحمد بن المتوكل؛ وكان أخوه المعتز سيّره إلى البصرة حين سخط على أخيه من أمه المؤيد؛ فلما وقعت العصبية بالبصرة نقله إلى بغداد؛ فكان مقيمًا بها، فبعث سليمان بن عبد الله بن طاهر وإليه الشرطة يومئذ ببغداد، فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بأمر المعتز وابن الواثق، فاجتمعوا إلى باب سليمان، وضجوا هنالك، ثم انصرفوا على أنه قيل لهم: لم يرد علينا من الخبر ما نعلم به ما عمل به القوم، فغدوا يوم الجمعة على ذلك من الصياح والقول الذي كان قيل لهم يوم الخميس، وصلى الناس في المسجدين، ودعي فيهما للمعتز، فلما كان يوم السبت غدا القوم، فهجموا على دار سليمان، وهتفوا باسم أبي أحمد، ودعوا إلى بيعته، خلصوا إلى سليمان في داره، وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكل، فأظهره لهم، ووعدهم المصير إلى محبتهم إن تأخر عنهم ما يحبون، فانصرفوا عنه بعد أن أكدوا عليه في حفظه. وقدم يارجوخ فنزل البردان ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند ممن بمدينة السلام، ثم صار إلى الشماسية، ثم غدا ليدخل بغداد؛ فبلغ الناس الخبر، فضجوا وتبادروا بالخروج إليه، وبلغ يارجوخ الخبر، فرجع إلى البردان، فأقام بها، وكتب إلى السلطان، واختلف الكتب حتى وجه إلى أهل بغداد بمالٍ رضوا به، ووقت بيعة الخاصة ببغداد للمهتدي يوم الخميس لسبع ليالٍ خلون من شعبان، ودعى له يوم الجمعة لثمانٍ خلون من شعبان بعد أن كانت ببغداد فتنة، وقتل فيها وغرق في دجلة قوم، وجرح آخرون لأن سليمان كان يحفظ داره قوم من الطبرية بالسلاح، فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر؛ ثم استقام الأمر بعد ذلك وسكنوا. ذكر خبر ظهور قبيحة أم المعتز وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة للأتراك، ودلتهم على الأموال التي عندها والذخائر والجوهر؛ وذلك أنها - فيما ذكر - قد قدرت الفتك بصالح، وواطأت على ذلك النفر من الكتاب الذين أوقع بهم صالح؛ فلما أوقع بهم صالح، علمت أنهم لم يطووا عن صالح شيئًا من الخبر بسبب ما نالهم من العذاب؛ أيقنت بالهلاك؛ فعملت في التخلص، فأخرجت ما في الخزائن داخل الجوسق من الأموال والجواهر وفاخر المتاع، فأودعت ذلك كله مع ما كانت أودعت قبل ذلك مما هو في هذا المعنى، ثم لم تأمن المعالجة إلى ما نزل بها وبابنها، فاحتالت للهرب وجهًا، فحفرت سربًا من داخل القصر من حجرة لها خاصة ينفذ إلى موضع يفوت التفتيش، فلما علمت بالحادثة بادرت من غير تلبث ولا تلوم؛ حتى صادرت في ذلك السرب، ثم خرجت من القصر؛ فلما فرغ الذين شغبوا في أمر ابنها مما أرادوا إحكامه؛ فصاروا إلى طلبها غير شاكين في القدرة عليها، وجدوا القصر منها خاليًا، وأمرها عنهم مستترًا؛ لا يقفون منه على شيء؛ ولا ما يؤديهم إلى معرفته؛ حتى وقفوا على السرب، فعلموا حينئذ أنهم منه أوتوا فسلكوه؛ وانتهوا إلى موضع لا يوقف منه على خبر ولا أثر، فأيقنوا بالفوت، ثم رجعوا الظنون؛ فلم يجدوا لها معقلًا أعز ولا أمنع إن هي لجأت إليه من حبيب حرة موسى بن بغا التي تزوجها من جواري المتوكل، فأحالوا على تلك الناحية، وكرهوا التعرض لشيء من أسبابها، ووضعوا العيون والأرصاد عليها، وأظهروا التوعد لمن وقفوا على معرفته بأمرها؛ ثم لم يظهرهم عليها؛ فلم يزل الأمر منطويًا عنهم؛ حتى ظهرت في شهر رمضان؛ وصارت إلى صالح بن وصيف، ووسطت بينها وبين صالح العطارة؛ وكانت تثق بها؛ وكانت لها أموال ببغداد، فكتبت في حملها؛ فاستخرج وحمل منها إلى سامرا. فذكر أنه وافى سامرا يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من هذه السنة قدر خمسمائة ألف دينار، ووقعوا لها على خزائن ببغداد. فوجه في حملها، فاستخرج وحمل منها، فحمل إلى السلطان من ذلك متاعٌ كثير، وأحيل من ببغداد من الجند والشاكرية المرتزقة بمال عظيم عليه ولم تزل تباع تلك الخزائن متصلًا ببغداد وسامرا عدة شهور؛ حتى نفدت. ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن شخص الناس إلى مكة في هذه السنة، فسيرت إليها مع رجاء الربابي ووحش مولى المهتدي؛ فذكر عمن سمعها في طريقها وهي تدعو الله على صالح بن وصيف بصوت عالٍ تقول: اللهم أخز صالح بن وصيف؛ كما هتك ستري، وقتل ولدي، وبدد شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي، وركب الفاحشة مني! فانصرف الناس عن الموسم واحتبست بمكة. وذكر أن الأتراك لما تحركوا، وثاروا بالمعتز أرسلوا إليه يطلبون منه خميسن ألف دينار؛ على أن يقتلوا صالحًا؛ ويستوي لهم الأمر. فأرسل إلى أمه يعلمها اضطرابهم عليه، وأنه خائف على نفسه منهم، فقالت، ما عندي مال، وقد وردت لنا سفاتج؛ فلينتظروا حتى نقبض ونعطيهم؛ فلما قتل المعتز، أرسل صالح إلى رجل جوهري. قال الرجل: فدخلت إليه وعنده أحمد بن خاقان؛ فقال: ويحك! هوذا ترى ما أنه فيه! وكان صالح قد أخافوه وطالبوه بالمال؛ ولم يكن عنده شيء، فقال لي: قد بلغني أن لقبيحة حزانةً في موضع يرشدك إليه هذا الرجل - وإذا رجلٌ بين يديه - فامض ومعك أحمد بن خاقان؛ فإن أصبتم شيئًا فأثبته عندك، وسلمه إلى أحمد بن خاقان، وصر إلي معه. قال: فمضيت إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع؛ فجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة؛ فدخلنا ففتنشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئًا، ودعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان، وهو يتهدد الرجل ويتوعده، ويغلظ له، وأخذ الرجل فأسًا ينقر به الحيطان يطلب موضعًا قد ستر فيه المال؛ فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على مكان في الحائط استدل بصوته على أن فيه شيئًا، فهدمه وإذا من ورائه باب، ففتحناه ودخلنا إليه؛ فأدانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار زهاء ألف ألف دينار، فأخذ أحمد منها ومن كان معه قدر ثلثمائة ألف دينار، ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطًا فيه مقدار مكوك زمرد إلا أنه من الزمرد الذي لم أر للمتوكل مثله ولا لغيره، وسفطًا دونه فيه نصف مكوك حب كبار، لم أر والله للمتوكل ولا لغيره مثله، وسفطًا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوت أحمر لم أر مثله، ولا ظننت أن مثله يكون في الدنيا؛ فقوّمت الجميع على البيع؛ فكانت قيمته ألفي ألف دينار، فحملناه كله إلى صالح؛ فلما رآه جعل لا يصدق ولا يوقن حتى أحضر بحضرته ووقف عليه، فقال عند ذلك: فعل الله بها وفعل؛ عرّضت ابنها في مقدار خمسين ألف دينار، وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها! وكانت أم محمد بن الواثقتوفيّت قبل أن يبايع؛ وكانت تحت المستعين؛ فلما قتل المستعين صيرها المعتزّ في قصر الرصافة الذي فيه الحرم، فلما واى الخلافة المهتدي قال يومًا لجماعة من الموالي: أمّا أنا فليس لي أمّ أحتاج لها إلى غلّة عشرة آلاف ألف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها؛ وما أريد لنفسي وولدي إلا القوت، وما أريد فضلًا إلّا لإخوتي فإن الضيّقة قد مسّتهم. ذكر الخبر عن قتل أحمد بن إسرائيل وأبي نوح ولثلاث بقين من رمضان من هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح. ذكر الخبر عن صفة القتلة التي قتلا بها فأما السبب الذي أدّاهما إلى القتل؛ فقد ذكرناه قبل، وأما القتلة التي قتلًا بها، فإنه ذكر أن صالح بن وصيف لما استصفى أموالهما ومال الحسن ابن مخلد، وعذّبهم بالضرب والقيد وقرّب كوانين الفحم في شدّة الحرّ منهم، ومنعهم كلّ راحة، وهم في يده على حالهم، ونسبهم إلى أمور عظام من الخيانة والقصد لذّل السلطان والحرص على الدوام الفتن والسعي في شقّ عصا المسلمين، فلم يعارضه المهتدي في شيء من أمورهم، ولم يوافقه على شيء أنكره من فعله بهم. ثمّ وجّه إليهم الحسن بن سايمان الدوشابي في شهر رمضان، ليتولّى استخراج شيء إن كان زوى عنه من أموالهم. قال: فأخرج إلي أحمد بن إسرائيل، فقلت له: يا فاجر، تظنّ أنّ الله يمهلك، وأنّ أمير المؤمنين لا يستحل قتلك؛ وأنت السبب في الفتن، والشريك في الدماء، مع عظيم الخيانة وفساد النية والطويّة! إنّ في أقل من هذا ما تستوجب به المثلة كما استوجب من كان قبلك، والقتل في العاجلة والعذاب والخزي في الآجلة، إن لم تسعد من الله بعفو وإمهال، ومن إمامك بصفح واحتمال؛ فاستر نفسك من نزول ما تستحقّ بالصدق عما عندك من المال؛ فإنك إن تفعل ويوقف على صدقك تسلم بنفسك. قال: فذكر أنه لا شيء عنده، ولا ترك له إلى هذا الوقت مال ولا عقدة. قال: فدعوت بالمقارع وأمرت أن يقام في الشمس، وأرعدت وأبرقت، وإن كان ليفوتني الظفر منه شيء من صرامة ورجلة حتى أومى إلى قدر تسعة عشر ألف دينار؛ فأخذت رقعته بها. قال: ثمّ أحضرت أبا نوح عيسى بن إبراهيم فقلت له مثل الذي قلت لأحمد أو نحوه، وزدت في ذلك بأن قلت: وأنت مع هذا مقيم على دينك النصرانية، مرتكب فروج المسلمات تشفيًّا من الإسلام وأهله! ولا دلالة أدلّ على ذلك ممن لم يزول في منزلك على حال النصرانية من أهل وولد، ومن كان ذا عقده فقد أباح الله دمه. قال: فلم يجب إلى شيء، وأظهر ضعفًا وفقرًا. قال: وأما الحسن بن مخلد فأخرجته؛ فلما خاطبته خاطبت رجلًا موضّعًا رخوًا، قال: فبكّتّه بما ظهر منه، وقلت: من كان له الراضة بين يديه إذا سار على الشهاري وقدّر ما قدّرت، وأراد ما أردت، لم يكن موضّعًا رطبًا ولا مخنّثًا رخوًا. قال: ولم أزل به حتى كتب رقعة بجوهر قيمته نيّف وثلاثون ألف دينار؛ قال: وردّوا جميعًا إلى موضعهم؛ وانصرفت. فكانت مناظرة الحسن بن سليمان الدوشابي لهم آخر مناظرة كانت معهم؛ ولم يناظروا أيام المهتدي فيما بلغني مناظرة غيرها. فلما كان يوم الخميس لثلاث بقين من شهر رمضان أخرج أحمد بن إسرائيل وأبو نوح عيسى بن إبراهيم إلى باب العامة، فقعد صالح بن وصيف في الدار، ووكلّ بضربهما حمّاد بن محمد بن حماد بن دنقش، فأقام أحمد بن إسرائيل وابن دنقش يقول: أوجع، وكان كلّ جلّاد يضربه سوطين، ويتنحّى حتى وفّوه خمسمائة سوط. ثم أقاموا أبا نوح أيضًا فضرب خمسمائة سوطضرب التلفن ثم حملا على بغلين من بغال السقائين على بطونهما، منكّسةً رءوسهما، ظاهرة ظهورها للناس. فأما أحمد فحين بلغ خشبة بابك مات، وحين وصلوا بأبي نوح مات؛ فدفن أحمد بين الحائطين. ويقال إن أبا نوح مات من يومه في حبس السرخسي خليفة طلمجور على شرط الخاصة، وبقي الحسن بن مخلد في الحبس. وذكر عن بعض من حضر أنه قال: لقد رأيت حمّاد بن محمد بن حماد دنقش وهو يقول للجلادين: أنفسكم يا بني الفاعلة - لا يكني - ويقول: أوجعوا وغيّروا السياط، وبدّلوا الرجال، وأحمد بن إسرائيل وعيسى يستغيثان؛ فذكر أن الهمتدي لمّا بلغه ذلك قال: أما عقوبة إلا السوط أو القتل! أما يقوم مقام هذا الشيء! أمتا يكفي! إنا لله وأنا إليه راجعون، يقول ذلك ويسترجع مرارًا. وذكر عن الحسن بن مخلد أنه قال: لم يكن الأمر فينا عند صالح إذا لم يحضره عبد الله بم محمد بن يزداد على ما كان يكون عليه من الغلظة إذا حضرقال: وكلن يقول لصالح: اضرب وعذّب فإنّ الأصلح من وراء ذلك القتل؛ فأنهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب؛ فضلًا عن الواترين؛ ويذكره قبيح ما بلغه عنهم. وكان يسرّ بذلك. قال: وكان داود بن " أبي " العباس الطوسي يحضرنا عند صالح فيقول: وما هؤلاء أعزّك الله، فبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ! فظنه يرققّهعلينا حتى يقول: على إني والله أعلم أنهم إم تخلصوا انتشر منهم شرٌ كبير وفساد في الإسلام عظيم؛ فينصرف وقد أفتاه بقتلنا، وأشار عليه بإهلاكنا؛ فيزداد برأيه وما قال له علينا غيظًا، وإلى الإساءة بنا نسًا، فسئل بعض من كان بخير أمرهم: كيف نجا الحسن بن مخلد مما صلى به صاحباه؟ فقال: بخصلتين إحداهما أنه صدقة عن الخبر في أول وهلة وأوجد الدلائل على ما قاله له إنه حق؛ وقد كان وعده العفو إن صدقه، وحلف له على ذلك والأخرى أن أمير المؤمنين كلمه فيه وأعلمه حرمة أهله به، وأومأ إلى محبته لإصلاح شأنه، فرده عن عظيم المكروه فيه؛ وقد كنت أرى أنه لو طالت لصالح مدة وهو في يده، أطلقه واصطنعه، ولم يك صالح بن وصيف اقتصر في أمر الكتاب على أخ1ذ أموالهم وأموال أولادهم؛ حتى أخاف أسبابهم وقراباتهم بأخذ أموالهم، وتخطى إلى المتصلين بهم. شغب الجند والعامة ببغداد وولاية سليمان بن عبد الله بن طاهر عليهما ولثلاث عشرة خلت من شهر رمضان منها فتح السجن ببغداد، ووثبت الشاكرية والنائبة ببغداد من جندهما بمحمد بن أوس البلخي. ذكر الخبر عن سبب ذلك وما آل الأمر إليه فيه ذكر أن السبب في ذلك كان أن محمد بن أوس قدم بغداد مع سليمان ابن عبد الله بن طاهر وهو على الجيش القادمين من خراسان مع سليمان والصعاليك الذين تألفهم سليمان بالري، ولم تكن أسماؤهم في ديوان السلطان بالعراق، ولا أمر سليمان فيهم بشئ؛ وكانت السنة فيهم أن يقام لم قدم معه من خراسان بالعراق حسب ما يقام بخراسان لنظرائهم من مال ضياع ورثة ذي اليمينين ويكتب بذلك إلى خراسان ليعارض الورثة هنالك من مال العامة، بدل ما كان دفع من مالهم بالعراق، فلما قدم سليمان بن عبد الله العراق، وجد بيت مال الورثة فارغًا وعبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد تقدم عندما صح عنده من الخبر بتصيير الأمر فيما كان يتولاه إلى أخيه سليمان بن عبد الله، فأخذ ما كام حاصلًا لورثة أبيه وجده في بيت مالهم، واستسلف على ما لم يرتفع، وتعجل من المتقبلين أموال نجوم لم تحل حتى استنظف ذلك أجمع؛ وشخص. فأقام بالجويث في شرقي دجلة، ثم عبر حتى صار في غريبها، فضاقت بسليمان الدنيا، وتحرك الشاكرية والجند في طلب الأرزاق، وكتب سليمان إلى أبي عبد الله المعتز بذلك وقدر أموالهم، وأدخل في المال تقدير القادمين معه؛ ووجه محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب الخراساي كاتبه في ذلك؛ فأجيب بعد مناظرات إلى أن سبب له على عمال السواد مال صودر عليه لطمع من بمدينة السلام وشحن السواد لا يقوم بما يجب للنائبة فضلًا عن القادمين مع النائبة؛ فلم يتهيأ لسلمان الوصول إلى شئ من المال، وقدم ابن أوس والصعاليك وأصحابه، فقصر المال عنه وعمن كان يقدر وصوله إليه من النائبة، فوقفوا على ذلك وعلى السبب المضر بهم فيه. وكان القادمون مع سليمان من الصعاليك وغيرهم لما قدموا بغداد أساءوا المجاورة لأهلها، وجاهروا بالفاحشة وتعرضوا للحرم والعبيد والغلمان، وعادوهم لمكانهم من السلطان؛ حتى امتلئوا عليهم غيظًا وحنقًا. وقد كان سليمان بن عبد الله وحر على الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب بنر زريق، لمكانه كان من عبيد الله بن عبد الله " بن طاهر " ونصرته له وكفايته، وانصرافه عن سليمان وأسبابه. فلما انصرف الحسين ابن إسماعيل إلى بغداد بعقب ما كان يتولاه لعبيد الله من أمر الجند والشاكرية، فحبس كاتبه في المطبق وحاجبه في سجن باب الشأم، ووكل بباب الحسين ابن إسماعيل جندًا من قبل إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم؛ لأن سليمان ولى إبراهيم ما كان الحسين بن إسماعيل يتولاه لعبيد الله من أمر جسري بغداد وطساسيج قطربل ومسكن والأنبار؛ فلما حدث ما حدث من بيعة المهتدي وشغب الجند والشاكرية بمدينة السلام، ووقعت الحرب في تلك الأيام، شد محمد ابن أوس على رجل من المراوزة، كان من الشيعة، فضربه في دار سليمان ثلثمائة سوط ضربًا مبرحًا، وحبسه بباب الشأم؛ وكان هذا الرجل من خاصة الحسين بن إسماعيل؛ فلما حدث هذا الحادث احتيج إلى الحسين بن إسماعيل؛ لفضل جلده وإقدامه فنحى من كان ببابه موكلًا فظهر، فتراجع أصحابه من غير أمر؛ وقد كانوا فرقوا على القواد، وضم منهم جمع كبير إلى محمد بن أبي عون القائد؛ فذكر أن المضمومين إلى ابن أبي عون لما صاروا إلى بابه، فرق فيهم من ماله؛ للراجل عشرة دراهم، وللفارس دينارًا؛ فلما رجعوا إلى الحسين رفع ابن أبي عون بذكر ذلك؛ فلم يخرج في ذلك تعيين ولا أمر؛ فلم يزل الحال على هذا والجند والشاكرية يصيحون في طلب مال البعة وما بقي لهم من مال الطمع المتقدم؛ وقد رد أمرهم في تقسيط مالهم؛ وقبضهم إلى الحسين على ما كان الأمر عليه أيام عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. وكان الحسين لا يزال يلقى إليهم ما عليه محمد بن أوس ومن قدم مع سليمان من القصد لأخذ أموالهم والفوز بها دونهم؛ حتى امتلأت قلوبهم فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، اجتمع جماعة من الجند والشاكرية، ومعهم جماعة من العامة حتى صاروا إلى سجن باب الشأم ليلًا، فكسروا بابه، وأطلقوا في تلك الليلة أكثر من كان فيه، ولم يبق فيه من أصحاب الجرائم أحدٌ إلا الضعيف والمريض والمثقل؛ فكان ممن خرج في تلك الليلة نفرٌ من أهل بيت مساور بن عبد الحميد الشاري، وخرج معهم المروزي مضروب محمد بن أوس وجماعة ممن قدم لزم السطان إلى أن صاروا إلى قبضته زهاء خمسين ألفًا، وأصبح الناس في يوم الجمعة وباب الحبس مفتوح؛ فمن قدر أن يمشي مشى، ومن لم يقدر اكترى له ما يركبه؛ وما يمنع من ذلك مانع، ولا يدفع دافع؛ فكان ذلك من أقوى الأمور التي بعثت الخاصة والعامة على دفع الهيبة بينهم وبين سليمان بن عبد الله وسد باب السجن بباب الشأم بآجر وطين؛ ولم يعلم أنه كان لإبراهيم ابن إسحاق في هذه الليلة ولا أحد من أصحابه حركة أصلًا؛ فتحدث الناس أن الذي جنى على سجن باب الشأم بمكان المروزي الذي ضربه ابن أوس فيه حتى يخلص. ثم لم يمض بعد ذلك خمسة أيام، حتى نافر ابن أوس الحسين ابن إسماعيل في أمر مال النائبة أراده محمد بن أوس لأصحابه ومنعه الحسين وتجاريا في ذلك كلامًا غلظ بينهما، فخرج محمد متنكرًا؛ فلما كان الغد من ذلك اليوم غدا محمد بن أوس إلى دار سليمان، وغدا الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال مولى طاهر، وحضر الناس باب سليمان؛ وكان بين من حضر من أصحاب ابن أوس وبين النائبة محادثة، علت فيها الأصوات؛ فتبادر أصحاب ابن أوس والقادمون إلى الجزيرة، وعبر إليهم ابن أوس وولده، وتصايح الناس بالسلاح، وخرج الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال والمظفر ابن سيسل في أصحابهم، وصاح الناس بالعامة: من أراد النهب فليلحق بنا؛ فقيل: إنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت مائة ألف إنسان في الزواريق، وتوافى الجند والشاكرية بالسلاح؛ فوافى أوائل الناس الجزيرة؛ فلم يكن إلا قدر اللحظة حتى حمل رجل من أهل سرخس على الكبير من ولد محمد بن أوس، وطعنه، فأراده عن شهري كان تحته؛ ثم أخذته السيوف فانهزم عنه أصحابه، فلم يعمل أحد منهم شيئًا، وسلب الجريح وحمل في زورق، حتى عبر به إلى دار سليمان بن عبد الله بن طاهر، فألقى هناك. له ما يركبه؛ وما يمنع من ذلك مانع، ولا يدفع دافع؛ فكان ذلك من أقوى الأمور التي بعثت الخاصة والعامة على دفع الهيبة بينهم وبين سليمان بن عبد الله وسد باب السجن بباب الشأم بآجر وطين؛ ولم يعلم أنه كان لإبراهيم ابن إسحاق في هذه الليلة ولا أحد من أصحابه حركة أصلًا؛ فتحدث الناس أن الذي جنى على سجن باب الشأم بمكان المروزي الذي ضربه ابن أوس فيه حتى يخلص. ثم لم يمض بعد ذلك خمسة أيام، حتى نافر ابن أوس الحسين ابن إسماعيل في أمر مال النائبة أراده محمد بن أوس لأصحابه ومنعه الحسين وتجاريا في ذلك كلامًا غلظ بينهما، فخرج محمد متنكرًا؛ فلما كان الغد من ذلك اليوم غدا محمد بن أوس إلى دار سليمان، وغدا الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال مولى طاهر، وحضر الناس باب سليمان؛ وكان بين من حضر من أصحاب ابن أوس وبين النائبة محادثة، علت فيها الأصوات؛ فتبادر أصحاب ابن أوس والقادمون إلى الجزيرة، وعبر إليهم ابن أوس وولده، وتصايح الناس بالسلاح، وخرج الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال والمظفر ابن سيسل في أصحابهم، وصاح الناس بالعامة: من أراد النهب فليلحق بنا؛ فقيل: إنه عبر الجسرين من العامة في ذلك الوقت مائة ألف إنسان في الزواريق، وتوافى الجند والشاكرية بالسلاح؛ فوافى أوائل الناس الجزيرة؛ فلم يكن إلا قدر اللحظة حتى حمل رجل من أهل سرخس على الكبير من ولد محمد بن أوس، وطعنه، فأراده عن شهري كان تحته؛ ثم أخذته السيوف فانهزم عنه أصحابه، فلم يعمل أحد منهم شيئًا، وسلب الجريح وحمل في زورق، حتى عبر به إلى دار سليمان بن عبد الله بن طاهر، فألقى هناك. فذكر بعض من حضر سليمان، أنه لما رآه اغرورقت عيناه من الدمع، ومهد له، وأحضر له الأطباء، ومضى ابن أوس من وجهه إلى منزله؛ وكان ينزل في دار لآل أحمد بن شيرزاد بالدور، ممايلي قصر جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك. وجد أهل بغداد في آثارهم والقواد معهم حتى تلقوهم، فكانت بينهم وقعة بالدور؛ أولها في آخر الساعة الثانية وآخرها في أول الساعة السابعة؛ فلم يزالوا يتراشقون بالنشاب ويتطاعنون بالرماح، ويتخابطون بالسيوف. وأعان ابن أوس جيرانه من أهل سويقة قطوطا وأصحاب الزواريق من ملاحي الدور. واشتدت الحرب، ووجه أهل بغداد يطلبون نفاطين من دار سليمان. فذكروا أن حاجبه دخل، فأعلمه ذلك؛ فأمر بمنعهم منه؛ وقاتل ابن أوس قتالًا شديدًا، فناله جراحٌ من سهام وطعن، فانهزم وأصحابه؛ وقد كان أخرج حرمه من داره؛ فلم يزل أهل بغداد يتبعونهم حتى أخرجوهم من باب الشماسية، ووصل الناس إلى منزل ابن أوس؛ فانتهبوا جميع ما كان فيه؛ فذكر أنه انتهب له بقيمة ألفي درهم؛ والمقلل يقول: ألف ألف وخمسين ألفًا؛ وأنه انتهب له زهاء مائة سراويل مبطن بسمور؛ سوى ما كان مبطنًا بغيره من الوبر مما يشاكل ذلك؛ وانتهب له من الفرش الطبري الخام والمقصور والمدرج والمقطوع ما يكون قيمته ألف ألف درهم؛ وانصرف الناس فجعل الجند يدخلون دار سليمان، وهم يكثرون، ومعهم النهب وهم يصيحون، وما لهم مانع ولا زاجر. وأقام ابن أوس ليلته تلك بالشماسية مع من لحق به من أصحابه. وقد كان أهل بغداد وثبوا بمنازل الصعاليك التي كانوا فيها سكانًا فنهبوها، وتعرضوا لمن كان تخلف منهم، فتلاح القوم هرابًا، ولم يبق منهم في اليوم الثاني ببغداد أحد ظاهرًا. فذكر أن سليمان وجه تلك الليلة إلى ابن أوس ثيابًا وفرشًا وطعامًا؛ فيقال: إن محمدًا قبله، وقيل: إنه رده. وأصبح الناس في اليوم الثاني وغدا الحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل إلى دار الشاه بن ميكال، ولحق به وجوه الشاكرية والنائبة وغيرهم؛ فأقاموا هناك مراغمين سليمان بن عبد الله بن طاهر. وخلت دار سليمان فلم يحضرها إلا جميعة. فبعث إليهم سليمان مع محمد بن نصر بن حمزة بن مالك الخزاعي، وهو لا يعلم ما عليه عقد القوم، يعلمهم قبح ما ركبوا من مكحمد بن أوس، وما يجب لمحمد بحرمته وقديمه، وأنهم لو أنهوا إليه ما أنكروا منه لتقدم في ذلك بما يكفيهم معه الحال التي ركبوها، فضج الشاكرية الذين حضروا دار الشاه جميعًا وقالوا: لا نرضى بمجاورة ابن أوس ولا بمجاورة أحد من أصحابه ولا من الصعاليك المنضمين إليه؛ وإنهم إن أكرهوا على ذلك تعاقدوا مباينته، وخلع من يسومهم إياه، وأحال الشاه بن ميكال والحسين بن إسماعيل والمظفر بن سيسل على كراهة القوم، فرجع الرسول بذلك إلى سليمان، فرده إليهم بكلام دون ذلك، ووعدهم وقال: أنا أثق بقولكم وضمانكم دون أيمانكم وعهودكم. ثم استوى جالسًا. وذكر أنه لم يزل مستثقلًا محمد بن أوس ومن لحقه به من الصعاليك وغيرهم، عارفًا بسوء رغبتهم ورداءة مذاهبهم، وبسوم محمد بن أوس في نفسه خاصة ومحبته وشروعه في كل ما دعا إلى خلاف وفرقة، وأسبغ هذا المعنى، وكثر فيه حتى خرج به إلى الإغراق فيه؛ إلى أن قال: لقد كنت أدخل في قنوتي في الصلاة طلب الراحة من ابن أوس. ثم التفت إلى محمد بن علي بن طاهر، فأمره بالمصير إلى ابن أوس، والتقدم إليه في العزم على الإنصراف إلى خراسان، وأن يعلمه أنه لا سبيل له إلى الرجوع إلى مدينة السلام، ولا إلى تولي شئ من الأمور التي يتولاها لسيلمان. فلما تناهى الخبر إلى ابن أوس رحل من الشماسية، فصار في رقة البردان على دجلة، فأقام بها أيامًا حتى اجتمع إليه من تفرق من أصحابه، ثم رحل فنزل النهروان، فلم يزل بها مقيمًا. وقد كان كتب إلى بايكباك وصالح ابن وصيف يعرض عليهما نفسه، ويشكو إليهما ما نزل به؛ فلم يجد عندهما شيئًا مما قصد؛ وقد كان محمد بن عيسى بن عبد الرحمن مقيمًا بسامرا لينجز أمور سليمان، وكان كارهًا لابن أوس، منحرفًا عنه، وكان ابن أوس مضطرب الأمر لسوء محضر محمد بن عيسى الكاتب؛ فلما انقطعت عن ابن أوس وأصحابه المادة، تعبثوا بأهل القرى والسابلة، وأكثروا الغارات والنهب، ورحل حتى نزل النهروان. فذكر عن بعض من قصدوه لينتهبوه، فذكرهم المعاد، وخوفهم الله أنهم ردوا عليه أن قالوا له: إن كان النهب والقتل جائزًا في مدينة السلام؛ وهي قبة الإسلام، ودار عز السلطان؛ فما استنكار ذلك في الصحارى والبراري! ثم رحل ابن أوس عن النهروان بعد أن أثر في تلك الناحية آثارًا قبيحة، وأخذ أهل البلاد بأداء الأموال، وحمل منها الطعام في السفن في بطن النهروان إلى إسكاف بني جنيد لبيعه هناك. وكان محمد بن المظفر بن سيسل بالمدائن، فلما بلغه مصير ابن أوس إلى النهروان صير إقامته بالنعمانية من عمل الزوابي خوفًا على نفسه منه لحضور أبيه كان في يوم الوقعة. فذكر عن محمد بن نصر بن منصور بن بسام - وعبرتا ضيعته - أن وكيله انصرف عنها هاربًا بعد أن أدى إلى ابن تحت العذاب وخوف الموت قريبًا من ألف وخمسمائة دينار؛ ولم يزل ابن أوس مقيمًا هنالك، يقرب ويباعد، ويقبض ويبسط، ويشتد ويلين، ويرهب؛ حتى أتاه كتاب بايكباك بولاية طريق خراسان من قبله، فكان من وقت خروجه من مدينة السلام إلى وقت ورود الكتاب عليه بالولاية شهران وخمسة عشر يومًا. وذكر عن بعض ولد عاصم بن يونس العجلي أن أباه كان يتولى ضياعًا للنوشرى بناحية طريق خراسان، وأنه كتب إلى النوشرى يذكر ما عاين من قوة عسكر ابن أوس وظاهر عدتهم، ويشير بأن يذكر ذلك لبايكباك، ويصف خلاء طريق خراسان من سلطان يتولاه ويحوط أهله، وأن هذا عسكر مشحن بالرجال والعدة والعتاد، مقيم في العمل، وأن النوشرى ذكر ذلك لبايكباك، وأشار عليه بتوليته طريق خراسان، وتخفيف المؤنة عن السلطان، فقبل ما أشار به عليه، وأمر بكتبه فكتب، وولى طريق خراسان في ذي العقدة من هذه السنة - وهي سنة خمس وخمسين ومائتين - وكان موسى خليفة مساور ابن عبد الحميد الشاري مقيمًا بالدسكرة ونواحيها في زهاء ثلثمائة رجل، قد ولاه مساور ما بين حلوان إلى السوس على طريق خراسان وبطن جوخى وما قرب ذلك من طساسيج السواد. وفيها أمر المهتدي بإخراج القيان والمغنين والمغنيات من سامرا ونفيهم منها إلى بغداد؛ بعد أمرٍ كان قد تقدّم من قبيحة في ذلك قبل أن ينزل بابنها ما نزل، وأمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان وطرد الكلاب وإبطال الملاهي وردّ المظالم، وجلس لذلك للعامة، وكانت ولايته والدنيّا كلها من أرض الإسلام مفتونة. ذكر خبر استيلاء مفلح على طبرستان ثم انصرافه عنها وفيها شخص موسى بن بغا ومن معه من الموالي وجند السلطان من الري وانصرف مفلح عن طبرستان بعد أن دخلها، وهزم الحسن بن زيد، وأخرجه عنها إلى أرض الديلم. ذكر الخبر عن شخوصه عنها ذكر أنّ السبب في ذلك أنّ قبيحة أمّ المعتز لمّا رأت من الأتراك اضطرابًا، وأنكرت أمرهم، كتبت إلى موسى بن بغا تسأله القدوم إلى ما قبلها، وأمّلت وروده عليها قبل حدوث ما حدث عليها وعلى ابنها المعتزّ، فعزم موسى على الإنصراف إليها، وكان ورود كتابها عليه ومفلح بطبرستان. فكتب موسى إلى مفلح يأمره بالإنصراف إليها وهو بالرّي، فحدثني بعض أصحابنا من أهل طبرستان، أنّ كتاب موسى ورد على مفلح بذلك، وقد توجّه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد الطالبي. فلما ورد عليه الكتاب انصف راجعًا إلى حيث توجه منه، فعظم ذلك على قوم كانوا معه من رؤساء أهل طبرستان ممن كان هاربًا قبل مقدم مفلح عليهم من الحسن ابن زيد، لما كانوا قد رجوا من مدمه عليهم وكفايتهم أمر الحسن بن زيد والرجوع إلى منازلهم وأوطانهم؛ وذلك أنّ مفلحًا كان يعدهم اتّباع الحسن ابن زيد حيث توجّه حتى يظفربه أو يخترم دونه ويول لهم - فيما ذكر لي - لو رميت قلنسوتي في أرض الديلم ما إجترأ أحد منهم أن يدنو منها. فلما رأى القوم انصرافه عن الوجه الذي توجّهله من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم صدّه، سألوه - فيما ذكر لي - عن السبب الذي صرفه عما كان يعدهم به من اتّباع ابن زيد، وجعلوا يكلمونه - فيما أخبرت - وهو كالمسبوت لا يجيبهم بشيء؛ فلما أكثروا عليه قال لهم: ورد علي كتاب الأمير موسى بعزمةٍ منه ألّا أضع كتابه من يدي بعد ما يصل إلي حتى أقبل عليه. وأنا مغموم بأمركم؛ ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير. فلم يتهيأ لموسى الشخوص من الري إلى سامرّا حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدي بعده بالأمر، ففثأه ذلك عمّا كان عزم عليه من الشخوص، لفوته ما قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. ولمّا وردت عليه بيعة المهتدي، امتنع أصحابه عليه من بيعته، ثم بايعوا. فورد خبر بيعتهم سامرّا لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان من هذه السنة. ثم إنّ الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتاب وأسباب المعتزّ والمتوكل، فشحّوا بذلك على المقيمين بسامرّا؛ فدعوا موسى إلى الإنصراف بهم إلى سامرّا. وقدم مفلح على موسى بالرّي تاركًا طبرستان على الحسن بن زيد، فذكر عن القاشاني أنه قال: كتب إلي ابن أخي من الري يذكر أنه لقى مفلحًا بالري، فسأله عن سبب انصرافه فذكر أن الموالى قد أبوا أن يقيموا، وأنهم إذا انصرفوا لم يغن مقامه شيئًا. ثم إن موسى افتتح خراج سنة ست وخمسين ومائتين يوم الأحد مستهل شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، فاجتني - فيما ذكر - في يوم الأحد قدر خمسمائة ألف درهم، فاجتمع أهل الري، فقالوا، أعز الله الأمير! إنك تزعم أن الموالى يرجعون إلى سامرا لما يقدرونه من كثرة العطاء هناك، وأنت وأصحابك في أكثر وأوسع مما القوم هناك فيه؛ فإن رأيت أن تسد هذا الثغر، وتحتسب في أهله الأجر والثواب، وتلزمنا من خراجنا في خاص أموالنا لمن معك ما ترى أن نحتمله فلت. فلم يجبهم إلى ما سألوا، فقالوا: أصلح اللله الأمير! فإذا كان الأمير عزم على تركنا، والأنصراف عنا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبتدىء بعمارتها؛ وأكثر غلة سنة خمس وخمسين ومائتين، التي قد أخذ الأمير خراجها في الصحارى لا يمكننا الوصول إليها إن رحل الأمير عنا! فلم يلتفت إلى شيء ما وصفوه له، وسألوه إياه. واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبًا كثيرة، لم تؤثر أثرًا. فلما انتهى إليه قفول موسى من الري، ولم تغن الكتب شيئًا وجه رجلين من بني هاشم، يقال لأحدهما عبد الصمد بن موسى، ويعرف الآخر بأبي عيسى يحيى بن إسحاق بن موسى بن عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس، وحملا رسالة إلى موسى وإلى من ضم عسكره من الموالى، يصدقهم فيها عن الحال بالحضرة وضيق الأموال بها، وما يحاذر من ذهاب ما يخلفونه مراء ظهورهم، وغلبة الطالبين عليه واتساع آثارهم إلى ناحية الجبل. فشخص بذلك الهاشميان في جماعة من الموالي " وأتباعهم من الديلم "، وأبل موسى ومن معه وصالح بن وصيف في ذلك يعظم على المهتدي انصرافه، وينسبه إلى المعصية والخلاف، ويبتهل عليه في أكثر ذلك، ويبرأ إلى الله من فعله. ذكر أن كتاب صاحب البريد بهمذان لما ورد على المهتدي بفصول موسى نها، رفع المهتدي يديه إلى السماء، ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدو؛ فإني قد أعذرت إليه فيما بيني وبيه اللهم تول كيد من كايد المسلمين، اللهم انصر جيوش المسلمين حيث كانوا اللهم إني شاخص بنيتي واختياري إلى حيث نكب المسلمون فيه، ناصرًا لهم ودافعًا عنهم. اللهم فآجرني بنيتي إذ عدمت صالح الأعوان! ثم انحدرت دموعه يبكي. وذكر عن بعض من حضر المهتدي في بعض مجالسه التي يقول فيها هذا القول، وحضرة سليمان بن وهب، فقال أيأمرني أمير المؤمنين أن أكتب إلى موسى بما أسمع منه؟ فقال له: نعم، اكتب بما تسمع مني؛ وإن أمكنك أن تنفشه في الصخر فافعل فلقيه الهاشميان في الطريق ولم يغنيا شيئًا، وضج الموالي، وكادوا يثبون بالرسل، ورد موسى في جواب الرسالة يعتذر بتخلف من معه عن الرجوع إلى قوله دون ورود باب أمير المؤمنين، وأنه إن رام التخلف عنهم لم يأمنهم على نفسه، ويحتج بما عاين الرسل الموجهون إليه. فورد الرسل بذلك. وأوفد مع الرسل موسى وفدًا من عسكره، فوافو سامرا لأربع خلون من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين. ذكر الخبر عن مفارقة كنجور علي بن الحسين بن قريش وفي هذه السنة فارق كنجور علي بن الحسين بن قريش، وكان قد نفي أيالم المعتز إلى فارس، فوكل به علي بن الحسين، وحبسه؛ فلما أراد علي ابن الحسين محاربة يعقوب بن الليث أخرجه من الحبس، وضم إليه خيلًا ورجالًا، فلما انهزم الناس عن علي بن الحسين لحق كنجور بناحية الأهواز، فأثر في ناحية رامهرمز أثرًا، ثم لحق بابن دلف، فوافاه بهمذان، وأساء السيرة في أسباب وصيف وضياعه ووكلائه في تلك الناحية، ثم لح بعد ذلك بعسكر موسى، فلما أقبل موسى فيمن ضمه العسكر، بلغ ذلك صالحًا، فكتب عن المهتدي في حمل كنجور إلى الباب ميدًا، فأبى ذلك الموالي، ثم لم نزل الكتب تختلف فيه إلى أن أنزل العسكر القاطول. ثم ظهر أن صالحًا قعد لمراغمته، وأن موسى ترحل إلى سامرا على المباينة لصالح ومن مال إليه، ولحق بايكباك بعسكر موسى، وأقام موسى هناك يومين، ووجه المهتدي إليه أخاه إبراهيم لأمه في أمر كنجور يعلمه أن الموالي بسامرا قد أبوا أن يقاروا على دخول كنجور، ويأمره بتقييده وحمله إلى مدينة السلام؛ فلم يتهيأ في ذلك ما قدره صالح، وكان جوابهم أن قالوا: إذا دخلنا سامرا امتثلنا ما أمر به أمير المؤمنين في كنجور وغيره. خروج أول علوي بالبصرة وللنصف من شوال من هذه السنة، ظهر في فرات البصرة رجل زعم أنه علي بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، وجمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، ثم عبر دجلة، فنزل الديناري. ذكر الخبر عن أمره والسبب الذي بعثه على الخروج هنالك وكان اسمه ونسبه - فيما ذكر - علي بن محمد بن عبد الرحيم، ونسبه في عبد اليس، وأمه رة ابنة علي بن رحيب بن محمد بن حكيم، من بني أسد ابن خزيمة، من ساكني قرية من رى الري، يال لها ورزنين، بها مولده ومنشؤه؛ فذكر عنه أنه كان يول: جدي محمد بن حكيم من أهل الكوفة أحد الخارجين على هشام بن عبد الملك مع زيد بن علي بن الحسين. فلما قتل زيد هرب فلحق بالري، فلجأ إلى ورزنين، فأقام بها. وأن أبا أبيه عبد الرحيم رجل من عبد القيس، كان مولده بالطالقان، وأنه قدم العراق فأقام بها، واشترى جارية سندية، فأولدها محمدًا أباه، فهو علي بن محمد هذا، وأنه كان متصلًا قبل بجماعة من آل المنتصر؛ منهم غانم الشطرنجي وسعيد الصغير ويسر الخادم؛ وكان منهم معاشه ومن قوم من أصحاب السلطان وكتابه يمدحهم ويستميحهم بشعره. ثم إنه شخص - فيما ذكر - من سامرا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل بن حسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، واتبعه جماعة كثيرة من أهلها، وأبته جماعة أخر، فكانت بسببه بين الذين اتبعوه والذين أبوه عصبية قتلت بينهم جماعة، فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء وضوى إلى حي من بني تميم ثم من بني سعد، يال لهم بنو الشماس؛ فكان بينهم مقامه. وقد كان من أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي - فيما ذكر حتى جبى له الخراج هنالك ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه ووتر منهم جماعة كثيرة، فتنكروا له فتحول عنهم إلى البادية. ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين، منهم رجل كيال من أهل الأحساء يقال له يحيى بن محمد الأزرق المعروف بالبحراني، مولى لبني دارم ويحيى بن أبي ثعلب، وكان تاجرًا من أهل هجر، وبعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع؛ وهو قائد جيشه، ثم كان ينتقل في البادية من حي إلى حي، ذكر عنه أنه كان يقول: أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي ظاهرة للناس منها - فيما ذكر عنه - أنه قال: إني لقيت سورًا من القرآن لا أحفظها، فجرى بها لساني في ساعة واحدة، منها سبحان والكهف وص. قال: ومن ذلك أني لقيت نفسي على فراشي، فجعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له، وأجعل مقامي به؛ إذنبت بي البادية، وضقت بسوء طاعة أهلها، فأظلتني سحابة، فبرقت ورعدت، واتصل صوت الرعد منها بسمعي، فخوطبت فيه، فقيل: اصد البصرة، فقلت لأصحابي وهم يكنفونني: إني أمرت بصوت هذا الرعد بالمصير إلى البصرة. وذكر أنه عند مصيره إلى البادية أو هم أهلها أنه يحيى بن عمرو أبو الحسين المقتول بناحية الكوفة، فاختدع بذلك قومًا منهم، حتى اجتمع بها منهم جماعة كثيرة فزحف بهم إلى موضع بالبحرين يال له الردم، فكانت بينهم وقعة عظيمة، كانت الدائرة فيها عليه وعلى أصحابه، قتلوا فيها تلًا ذريعًا، فنفرت عنه العرب وكرهته، وتجنبت صحبته، فلما تفرت عنه العرب، ونبت به البادية، شخص عنها إلى البصرة، فنزل بها في بني ضبيعة، فاتبعه بها جماعة؛ منهم علي بن أبان المعروف، بالمهلبي وأخواه محمد والخليل وغيرهم. وكان دومه البصرة في سنة أربع وخمسين ومائتين، ومحمد بن رجاء الحضاري عامل السلطان بها، وواف ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية والسعدية، فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه، فأمر بأربعة نفر من أصحابه، فخرجوا بمسجد عباد، أحدهم يسمى محمد بن سلم القصاب الهجري، والآخر بريش القريعي والثالث على الضراب، والرابع الحسين الصيدناني، وهم الذين كانوا صحبوه بالبحرين، فدعوا إليه، فلم يجبه من أهل البلد أحد، وثاب إليهم الجند فتفرقوا ولم يظفر بأحد منهم، فخرج من البصرة هاربًا، فطلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه، وأخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه، فأخذهم فحبسهم؛ فكان فيمن حبس يحيى بن أبي ثعلب ومحمد بن الحسن الأيادي وابن صاحب الزنج علي بن محمد الأكبر وزوجته أم ابنه ومعها ابنة له وجارية حامل، فحسبهم ومضى هو لوجهه يريد بغداد، ومعه من أصحابه محمد بن سلم ويحيى بن محمد وسليمان بن جامع وبريش القريعي، فلما صاروا بالبطيحة نذر بهم بعض موالي الباهليين، كان يلي أمر البطيحة، يال له عمير بن عمار، فأخذهم وحملهم إلى محمد بن أبي عون، وهو عامل السلطان بواسط، فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو وأصحابه من يده، ثم صار إلى مدينة السلام، فأقام بها حولًا، وانتسب فيها إلى أحمد بن عيسى بن زيد، وكان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه بها آيات، وعرف ما في ضمائر أصحابه، وما يفعله كل واحد منهم؛ وأنه سأل ربه بها آية أن يعلم حقيقة أمره، فرأى كتابًا يكتب له، وهو ينظر إليه على حائط، ولا يرى شخص كاتبه. وذكر عن بعض تباعه أنه بمقامه بمدينة السلام استمال جماعة، منهم جعفر بن محمد الصوحاني - كان ينتسب إلى زيد بن صوحان - ومحمد بن القاسم وغلامًا يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان: مشر ورفيق، فسمى مشرقًا حمزة وكناه أبا أحمد، وسمى رفيقًا جعفرًا وكناه أبا الفضل. ثم لم يزل عامه ذلك بمدينة السلام حتى عزل محمد بن رجاء عن البصرة، فخرج عنها، فوثب رؤساء الفتنة من البلالية والسعدية، ففتحوا المجالس، وأطلقوا من كان فيها؛ فتخلصوا فيمن تخلص. فلما بلغه خلاص أهله، شخص إلى البصرة، فكان رجوه إليها في شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، ومعه علي بن أبان - وقد كان لحق به وهو بمدينة السلام - ويحيى بن محمد، ومحمد بن سلم، وسليمان بن جامع، وغلامًا يحيى بن عبد الرحمن: مشرق ورفيق؛ وكان يحضر هؤلاء الستة رجلٌ من الجند يكنى أبا يعوب، ولب نفسه بعد ذلك بجربان، فساروا جميعًا حتى وافوا برنخل، فنزلوا صرًا هنالك يعرف بصر القرشي، على نهر يعرف بعمود ابن المنجم؛ كان بنو موسى بن المنجم احتفروه؛ وأظهر أنه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ وأمر أصحابه أن ينحلوه ذلك، فأقام هنالك. فذكر عن ريحان بن الح أحد غلمان الشورجيين - وهو أول من صحبه منهم - أنه قال: كنت موكلًا بغلمان مولاي، أنل الدي إليهم من البصرة، وأفره فيهم، فحملت ذلك إليهم كما كنت أفعل، فممرت به وهو مقيم ببرنخل في قصر القرشي، فأخذني أصحابه، فصاروا بي إليه، وأمروني بالتسليم عليه بالإمرة، ففعلت ذلك، فسألني عن الموضع الذي جئت منه، فأخبرته أني أقبلت من البصرة فال: هل سمعت لنا بالبصرة خبرًا؟ قلت: لا قال: فما خبر الزينبي؟ قلت: لا علم لي به، قال: فخبر البلالية والسعديةّ؟ قلت: ولا أعرف أخبارهم أيضًا، فسألني عن أخبار غلمان الشورجيين وما يجري لكل غلام منهم من الدقيق والسويق والتمر وعمن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك، فدعاني إلى ما هو عليه، فأجبته، فقال لي: احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان، فأقبل بهم إلي. ووعدني أن يودني على من آتيه به منهم، وأن يحسن إلي؛ واستخلفني ألا أعلم أحدًا بموضعه، وأن أرجع إليه. فخلى سبيلي، فأتيت بالديق الذي معي الموضع الذي كنت قصدته به، وأمت عنده يومي، ثم رجعت إليه من غد، فوافيته وقد قدم عليه رفيق غلام يحيى بن عبد الرحمن، وكان وجه إلى البصرة في حوائج من حوائجه، ووافاه بشبل بن سالم - وكان من غلمان الدباسين - وبحريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء؛ فكتب فيها بحمزة وحضرة: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله " إلى آخر الآية، وكتب اسمه واسم أبيه، وعلقها في رأس مردى، وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان. فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه، لقيه غلمان رجل من الشورجيين يعرف بالعطار، متوجهين إلى أعمالهم، فأمر بأخذهم فأخذوا، وكتف وكيلهم، وأخذ معهم، وكانوا خمسين غلامًا، ثم صار إلى الموضع الذي يعمل فيه السنائي، فأخذ منه خمسمائة غلام، فيهم المعروف بأبي حديد، وأمر بوكيلهم فأخذ معم مكتوفًا، وكانوا في نهر يعرف بنهر المكاثر، ثم مضى إلى موضع السيرافي، فأخذ منه خمسين ومائة غلام، فيهم زريق وأبو الخنجر ثم صار إلى موضع ابن عطاء، وأخذ معهم ثمانين غلامًا. ثم أتى موضع إسماعيل المعروف بغلام سهل الطحان، ثم لم يزل يفعل ذلك كذلك في يومه، حتى اجتمع إليه بشر كثير من غلمان الشورخيين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيبًا، فمناهم ووعدهم أن يقودهم ويرأسهم، ويملكهم الأموال، وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدر بهم، ولا يخذلهم، ولا يدع شيئًا من الإحسان إلا أتى إليهم. ثم دعا مواليهم، فقال: قد أردت ضرب أعناقكم لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم، وفعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم، وجعلتم عليهم ما لا يطيقون فكلمني، أصحابي فيكم، فرأيت إطلاقكم، فقالوا: إن هؤلاء الغلمان أباق، وهم يهربون منك فلا يبقون عليك ولا علينا، فخذ منا مالًا وأطلقهم لنا. فأمر غلمانهم فأحضروا شطبًا ثم بطح كل قوم مولاهم ووكيلهم، فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدًا بموضعه، ولا بعدد أصحابه، وأطلقهم. فمضوا نحو البصرة. ومضى رجل منهم يقال له عبد الله، ويعرف بكريخا، حتى عبر دجيلًا، فأنذر الشورجيين ليحرزوا غلمانهم، وكان هناك خمسة عشر ألف غلام. ثم سار بعدما صلى العصر حتى وافى دجيلًا، فوجد سفن سماد تدخل في المد، فقدمها، فركب فيها، وركب أصحابه حتى عبروا دجيلًا، وصاروا إلى نهر ميمون، فنزل المسجد الذي في وسط السوق الشارع على نهر ميمون، وأقام هناك. ولم يزل ذلك دأبه، يجتمع إليه السودان إلى يوم الفطر. فلما أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا، وركز المردي الذي عليه لؤلؤة، وصلى بهم وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عله من سوء الحال، وأن اللد قد استنقذهم به من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أدارهم، وبملكهم العبيد والأموال والمنازل، ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك. فلما فرغ من صلاته وخطبته، أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم، لتطبب بذلك أنفسهم، ففعلوا ذلك، ودخل القصر. فلما كان بعد يوم قصد نهر بور، فوافى جماعة من أصحابه هناك الحميري في جماعة، فدفعوهم حتى حتى أخرجوهم إلى الصحراء، فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه، فأوقع بالحميري وأصحابه، فانهزموا حتى صاروا إلى بطن دجلة. واستأمن إليه رجل من رؤساء يكنى بأبي صالح، يعرف بالقصير، في ثلثمائة من الزنج، فمناهم ووعدهم. فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده، وقال لهم: كل من أتى منكم برجل فهو مضموم إليه. وقيل إنه لم يقود قواده إلا بعد مواقعة الخول ببيان ومصيره إلى سبخة القندل. وكان ابن أبي عون نقل عن ولاية واسط إلى ولاية الأبلة وكور دجلة، فذكر أنه انتهى إليه في اليوم الذي قود فيه أقواده أن الحميري وعقيلًا مع خليفة ابن أبي عون المقيم كان بالأبلة، قد أقبلوا نحوه، ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الزريقية وهي في مؤخر الباذاورد، فصار إليها في وقت صلاة الظهر، فصلوا بها، واستعدوا للقتال، وليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف: سيفه، وسيف علي بن أبان، وسيف محمد بن سلم، ونهض بأصحابه فيما بين الظهر والعصر راجعًا نحو المحمدية، وجعل علي بن أبان في آخر أصحابه، وأمره أن يعرف خبر من يأتيه من ورائه، وتقدم في أوائل الناس حتى وافى المحمدية، فقعد على النهر، وأمر الناس فشربوا منه، وتوافى إليه أصحابه، فقال له علي بن أبان: قد كنا نرى من ورائنا بارقةً ونسمع حس قوم يتبعوننا، فلسنا ندري: أرجعوا عنا أم هم قاصدون إلينا؟ فلم يستم كلامه حتى لحق القوم، وتنادى الزنج السلاح، فبدر مفرج النوبي المكنى بأبي صالح، وريحان ابن صالح، وفتح الحجام - وكان فتح يأكل - فلما نهض تناول طبقًا كان بين يديه، وتقدم أصحابه، فليقه رجل من الشورجيين، يقال له بلبل، فلما رآه فتح حمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، فرمى بلبل بسلاحه، وولى هاربًا، وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف رجل، فذهبوا على وجوههم، وقتل من قتل منهم، ومات بعضهم عطشًا، وأسر منهم قوم، فأتى بهم صاحب الزنج، فأمر بضرب أعناقهم فضربت، وحملت الرءوس على بغال كان أخذها من الشورجيين، كانت تنقل الشورج؛ ومضى حتى وافى القادسية؛ وذلك وقت المغرب، فخرج من القرية رجل من موالي بعض الهاشميين على أصحابه، فقتل رجلًا من السودان، فأتاه الخبر، فقال له أصحابه: ائذن لنا في انتهاب الرية وطلب قاتل صاحبنا، فقال: لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلا ساغ لنا قتالهم. وأعجلهم المسير، فصاروا إلى نهر ميمون راجعين، فأقام في المسجد الذي كان أقام فيه في بدأته وأمر بالرءوس المحمولة معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبي فأذن، وسلم عليه بالإمرة، فقام فصلى بأصحابه العشاء الآخرة، وبات ليلته بها، ثم مضى من الغد حتى مر بالكرخ فطراها، وأتى قرية تعرف بحبى في وقت صلاة الظهر، فعبر دجيلًا من مخاضة دل عليها، ولم يدخل القرية، وأقام خارجًا منها، وأرسل إلى من فيها، فأتاه كبراؤهم وكبراء أهل الكرخ، فأمرهم بإقامة الأنزال له ولأصحابه فأقيم له ما أراد، وبات عندهم ليلته تلك، فلما أصبح أهدى له رجل من أهل جبى فرسًا كميتًا، فلم يجد سرجًا ولا لجامًا، فركبه بحبل وسنفه بليف، وسار حتى انتهى إلى المعروف بالعباسي العتيق، فأخذ منه دليلًا إلى السيب، وهو نهر القرية المعروفة بالجعفرية، ونذر به أهل القرية، فهربوا عنها، ودخلها فنزل برجل وجدوه، فسأله عن وكلاء الهاشميين، فأخبره أنهم في الأجمة، فوجه الملقب بجربان، فأتاه برئيسهم وهو يحيى بن يحيى المعروف بالزبيري أحد موالي الزياديين، فسأله عن المال، فقال: لا مال عندي، فأمر بضرب عنقه، فلما خاف القتل أقر بشيء قد كان أخفاه، فوجه معه، فأتاه بمائتي دينار وخمسين دينارًا وألف درهم، فكان هذا أول ما صار إليه، ثم سأله عن دواب وكلاء الهاشميين فدله على ثلاثة براذين: كميت، وأشقر، وأشهب؛ فدفع أحدهما إلى ابن سلم، والآخر إلى يحيى بن محمد، وأعطى مشرقًا غلام يحيى بن عبد الرحمن الثالث. وكان رفيق يركب بغلًا كان يحمل عليه الثقل، ووجد بعض السودان دارًا لبعض بني هاشم فيها سلاح، فانتهبوه، فجاء النوبي الصغير بسيف، فأخذه صاحب الزنج، فدفعه إلى يحيى بن محمد، فصار في أيدي الزنج سيوفٌ وبالات وزقايات وتراس، وبات ليلته تلك بالسيب؛ فلما أصبح أتاه الخبر أن رميسًا والحميري وعقيلًا الأبلي قد وافوا السيب، فوجه يحيى بن محمد في خمسمائة رجل، فيهم سليمان وريحان بن صالح وأبو صالح النوبي الصغير، فلقوا القوم فهزموهم، وأخذوا سميرية وسلاحًا، وهرب من كان هنالك، ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر، فأقام يومه، وسار من غد يريد المذار، بعد أن اتخذ على أهل الجعفرية ألا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه أحدًا، ولا يستروا عنه. فلما عبر السيب صار إلى قرية تعرف بقرية اليهود شارعة على دجلة، فوافق هنالك رميسًا في جمع، فلم يزل يقاتلهم يومه ذلك، وأسر من أصحابه عدة، وعقر منهم جماعة بالنشاب. وقتل غلام لمحمد بن أبي عون كان مع رمسيس، وغرقت سميرية كان فيها ملاحها، فأخذ وضربت عنقه، وسار من ذلك الموضع يريد المذار. فلما صار إلى النهر المعروف بباب مداد جاوزه حتى أصحر، فرأى بستانًا، وتلا يعرف بجبل الشياطين، فقصد للتل فقعد عليه، وأثبت أصحابه في الصحراء، وجعل لنفسه طليعة. فذكر عن شبل أنه قال: أنا كنت طليعته على دجلة، فأرسلت إليه أخبره أن رميسًا بشاطئ دجلة يطلب رجلًا يؤدي عنه رسالة، فوجه إليه علي بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلما أتوه قال لهم: اقرءوا على صاحبكم السلام، وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض؛ لا يعرض لك أحدٌ، واردد هؤلاء العبيد على مواليهم، وآخذ لك عن كل رأس خمسة دنانير. فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس، فغضب من ذلك وآلى ليرجعن فليبقرن بطن امرأة رمسيس، وليحرقن داره، وليخوضن الدماء هنالك. فانصرفوا إليه، فأجابوه بما أمروا به، فانصرف إلى مقابل الموضع الذي هو به من دجلة، فأقام به، فوافاه في ذلك اليوم إبراهيم بن جعفر المعروف بالهمذاني؛ ولم يكن لحق به إلا في ذلك الوقت، وأتاه بكتب فقرأها، فلما صلى العشاء الآخرة، أتاه إبراهيم، فقال له: ليس الرأي لك إتيان المذار، قال: فما الرأي؟ قال: ترجع، فقد بايع لك أهل عبادان وميان ورذان وسليمانان، وحلفت جمعًا من البلالية بفوهة القندل وأبرسان ينتظرونك. فلما سمع السودان ذلك من قول إبراهيم مع ما كان رمسيس عرض عليه في ذلك اليوم خافوا أن يكون احتال عليهم ليردهم إلى مواليهم، فهرب بعضهم، واضطرب الباقون. فجاءه محمد بن سلم فأعلمه اضطرابهم، وهرب منهم، فأمر بجمعهم في ليلته تلك، ودعا مصلحًا، وميز الزنج من الفراتية. ثم أمر مصلحًا أن يعلمهم أنه لا يردهم ولا أحدًا منهم إلى مواليهم، وحلف لهم على ذلك بالأيمان الغلاظ، وقال: ليحط بي منكم جماعة، فإن أحسوا مني غدرًا فتكوا بي. ثم جمع الباقين؛ وهم الفراتية والقرماطيون والنوبة وغيرهم ممن يفصح بلسان العرب، فحلف لهم على مثل ذلك، وضمن ووثق من نفسه، وأعلمهم أنه لم يخرج لعرض من أعراض الدنيا، وما خرج إلا غضبًا لله، ولما رأى ما عليه الناس من الفساد في الدين، وقال: ها أنا ذا معكم في كل حرب، أشرككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي. فرضوا ودعوا له بخير. فلما أسحر أمر غلامًا من الشورجيين يكنى أبا منارة، فنفخ في بوق لهم كانوا يجتمعون بصوته، وسار حتى أتى السيب راجعًا، فألقى هناك الحميري ورميسًا وصاحب ابن أبي عون، فوجه إليهم مشرقًا برسالة أخفاها، فرجع إليه بجوابها، فصار صاحب الزنج إلى النهر، فتقدم صاحب محمد بن أبي عون، فسلم عليه، وقال له: لم يكن جزاء صاحبنا منك أن تفسد عليه عمله، وقد كان منه إليك ما قد علمت بواسط، فقال: لم آت لقتالكم، فقل لأصحابك يوسعون لي في الطريق، حتى أجاوزكم. فخرج من النهر إلى دجلة، ولم يثبت أن جاء الجند معهم أهل الجعفرية في السلاح الشاك؛ فتقدم المكنى بأبي يعقوب المعروف بجربان، فقال لهم: يا أهل الجعفرية، أما علمتم ما أعطيتمونا من الأيمان المغلظة ألا تقاتلونا، ولا تعينوا علينا أحدًا، وأن تعينونا متى اجتاز بكم أحد منا! فارتفعت أصواتهم بالنعير والضجيج، ورموه الحجارة والنشاب. وكان هناك موضع فيه زهاء ثلثمائة زرنوق، فأمر بأخذها فأخذت، وقرن بعضها ببعض حتى صارت كالشاشات، وطرحت إلى الماء، وركبها المقاتلة فلحقوا القوم، فقال بعضهم: عبر علي بن أبان يومئذ قبل أخذ الزرانيق سباحة، ثم جمعت الزرانيق، وعبر الزنج وقد زالوا عن شاطئ النهر فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وأتى منهم بأسرى، فوبخهم وخلى سبيلهم، ووجه غلامًا من غلمان الشورجيين يقال له سالم يعرف بالزغاوي، إلى من كان دخل الجعفرية من أصحابه، فردهم، ونادى: ألا برئت الذمة ممن انتهب شيئًا من هذه القرية، أو سبى منها أحدًا، فمن فعل ذلك فقد حلت به العقوبة الموجعة. ثم عبر من غربي السيب إلى شرقيه، واجتمع أصحابه الرؤساء حتى إذا جاوز القرية بمقدار غلوة سمع النعير من ورائه في بطن النهر، فتراجع الزنج، فإذا رمسيس والحميري وصاحب ابن أبي عون قد وافوه لما بلغهم حال أهل الجعفرية. فألقى السودان أنفسهم عليهم، فأخذوا منهم أربع سميريات بملاحيها مقاتليها، فأخرجوا السميريات بمن فيها، ودعا بالمقاتلة فسألهم، فأخبروه أن رميسًا وصاحب ابن أبي عون لم يدعاهم حتى حملاهم على المصير إليه، وأن أهل القرى حرضوا رميسًا وضمنوا له ولصاحب ابن أبي عون مالًا جليلًا، وضمن له الشورجييون على رد غلمانهم؛ لكل غلام خمسة دنانير، فسألهم عن الغلام المعروف بالنميري المأسور والمعروف بالحجام، فقالوا: أما النميري فأسير في أيديهم، وأما الحجام فإن أهل الناحية ذكروا أنه كان يتلصلص في ناحيتهم، ويسفك الداء، فضربت عنقه، وصلب على نهر أبي الأسد. فلما عرف خبرهم أمر بضرب أعناقهم، فضربت إلا رجلًا يقال له محمد بن الحسن البغدادي، فإنه حلف له أنه جاء في الأمان، لم يشهر عليه سيفًا، ولا نصب له حربًا، فأطلقه. وحمل الرءوس والأعلام على البغال، وأمر بإحراق سفنهم فأحرقت. وسار حتى أتى نهر فريد، فانتهى إلى نهر يعرف بالحسن بن محمد القاضي وعليه مسناة تعترض بين الجعفرية ورستاق القفص، فجاءه قوم من أهل القرية من بني عجل، فعرضوا عليه أنفسهم، وبذلوا له ما لديهم، فجزاهم خيرًا، وأمر بترك العرض لهم. وسار حتى أتى نهرًا يعرف بباقثا، فنزل خارجًا من القرية التي على النهر وهي قرية تشرع على دجيل فأتاه أهل الكرخ، فسلموا عليه ودعوا له بخير، وأمدوه من الأنزال بما أراد. وجاء رجل يهودي خيبري يقال له ماندويه فقبل يده، وسجد له - زعم - شكرًا لرؤيته إياه، ثم سأله عن مسائل كثيرة، فأجابه عنها، فزعم أنه يجد صفته في التوراة، وأنه يرى القتال معه، وسأله عن علامات في بدنه ذكر أنه عرفها فيه، فأقأم معه ليلته تلك يحادثه. وكان إذا نزل اعتزل عسكره بأصحابه الستة، ولم يكن يومئذ ينكر النبيذ على أحد من أصحابه، وكان يتقدم إلى محمد بن سلم في حفظ عسكره؛ فلما كان في تلك الليلة أتاه في آخر الليل رجلٌ من أهل الكرخ، فأعلمه أن رميسًا وأهل المفتح والقرى التي تتصل بها وعقيلًا وأهل الأبلة قد أتوه ومعهم الدبيلا بالسلاح الشاك، وأن الحميري في جمع من أهل الفرات وقد صاروا في تلك الليلة إلى قنطرة نهر ميمون، فقطعوها ليمنعوه العبور. فلما أصبح أمر، فصيح بالزنج، فعبروا دجيلا، وأخذ في مؤخر الكرخ حتى وافى نهر ميمون، فوجد القنطرة مقطوعة، والناس في شرقي النهر والسميريات في بطنه، والدبيلا في السميريات، وأهل القرى في الجريبيات والمجونحات؛ فأمر أصحابه بالإمساك عنهم، وأن يرحلوا عن النهر توقيًا للنشاب، ورجع فقعد على مائة ذراع من القرية؛ فلما لم يروا أحدًا يقاتلهم خرج منهم قوم ليعرفوا الخبر، وقد كان أمر جماعة من أصحابه، فأتوا القرية، فكمنوا فيها مخفين لأشخاصهم؛ فلما أحسوا خروج من خرج منهم، شدوا عليهم، اثنين وعشرين رجلا، وسعوانحو الباقين، فقتلوا منها جماعة على شاطىءالنهر، ورجعوا إليه بالرؤس والأسرى، فأمر بضرب أعناقهم بعد مناظرة جرت بينه وبينهم، وأمر بالاحتفاظ بالرؤس، وأقام إلى نصف النهار، وهو يسمع أصواتهم، فأتاه رجل من أهل البادية مستامنا، فسأله عن غوور النهر؛ فأعلمه أنه يعرف موضعا منه يخاض، وأعلمه أن القوم على معاودته بجمعهم يقاتلونه؛ فنهض مع الرجل حتى أتى به موضعا على مقدارميل من المحمدية فخاض النهر بين يديه، وخاض الناس خلفه، وحمله ناصح المعروف بالرملى، وعبر بالدواب؛ فلما صار في شرقي النهر كر راجعا نحو نهر ميمون؛ حتى أتى المسجد فنزل فيه، وأمر بالرؤس فنصبت، وأقام يومه، وانحدر جيش رميس بجمعه في بطن دجيل، فأقاموا بموضع يعرف بأقشى بإزاء النهر المعروف ببرد الخيار، ووجه طليعة فرجع إليه، فأخبره بمقام القوم هناك، فوجه من ساعته ألف رجل، فأقاموا بسبخة هناك على فوهة هذا النهر، وقال لهم: إن أتوكم إلى المغرب؛ وإلا فأعلموني. وكتب كتابًا إلى قيل، يذكره فيه أنه قد بايعه في جماعة من أهل الأبلة، وكتب إلى رمسيس يذكره حلفه له بالسيب أنه لا يقاتله؛ وأنه ينهى أخبار السلطان إليه، ووجه بالكتابين إليهما مع بعض الأكرة بعد أن أحلفه أن يوصلهما. وسار من نهر ميمون يريد السبخة التي كان هيأ فيها طليعةً؛ فلما صار إلى القادسية والشيفيا، سمع هنالك نعيرًا، ورأى رميًا وكان إذا سار يتنكب القرى فلم يدخلها، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى الشيفيا في جماعة؛ فيسأل أهلها أن يسلموا إليه قاتل الرجل من أصحابه في ممرة كان بهم، فرجع إليه، فأخبره أنهم زعموا أنه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميين ومنعهم له؛ فصاح بالغلمان، وأمرهم بانتهاب القريتين، فانتهب منهما مالًا عظيمًا؛ عينًا وورقًا وجوهرًا وحليًا وأواني ذهب وفضة، وسبي منهما يومئذ غلمانًا ونسوة، وذلك أول سبى سبى، ووقفوا على دار فيها أربعة عشر غلامًا من غلمان الشورج، قد سد عليهم باب؛ فأخذهم وأتى بمولى الهاشميين القاتل صاحبه فأمر محمد بن سلم بضرب عنقه، ففعل ذلك، وخرج من القريتين في وقت العصر، فنزل السبخة المعروفة ببرد الخيار. فلما كان في وقت المغرب أتاه أحد أصحابه الستة، فأعلمه أن أصحابه، قد شغلوا بخمور وأنبذة وجدوها في القادسية، فصار ومعه محمد بن سلم ويحيى ابن محمد إليهم، فأعلمهم أن ذلك مما لا يجوز لهم، وحرم النبيذ في ذلك، اليوم عليهم، وقال لهم: إنكم تلاقون جيوشًا تقاتلونهم، فدعوا شرب النبيذ والتشاغل به، فأجابوه إلى ذلك؛ فلما أصبح جاءه غلام من السودان، يقال له قاقويه، فأخبره أن أصحاب رميس قد صاروا إلى شرقي دجيل، وخرجوا إلى الشط، فدعا علي بن أبان، فتقدم إليه أن يمضي بالزنج، فيوقع بهم؛ ودعا مشرقًا، فأخد منه اصطرلابًا، فقاس الشمس، ونظر في الوقت، ثم عبر وعبر الناس خلفه القنطرة التي على النهر المعروف ببرد الخيار؛ فلما صاروا في شريه، تلاحق الناس بعلي بن أبان، فوجدوا أصحاب رميس وأصحاب عيل على الشط، والدبيلا في السفن يرمون بالنشاب، فحملوا عليهم فقتلوا منهم متلة عظيمة، وهبت ريح من غربي دجيل، فحملت السفن، فأذنتها من الشط، فنزل السودان إليها، فقتلوا من وجدوا فيها، وانحاز رميس ومن كان معه إلى نهر الدير على طري أقشى، وترك سفنه لم يحركها ليظن أنه ميم، وخرج عقيل وصاحب ابن أبي عون إلى دجلة مباديرين، لا يلويان على شئ. وأمر صاحب الزنج بإخراج ما في السفن التي فيها الدبيلا؛ وكانت مقرونًا بعضها ببعض، فنزل فيها قاقويه ليفتشها، فوجد رجلًا من الدبيلا، فحاول إخراجه فامتنع، وأهوى إليه بسرتى كان معه؛ فضربه ضربة على ساعده، فقطع بعا عرقًا من عروقه، وضربه ضربة على رجله، فقطعت عصبة من عصبه، وأهوى له قاقويه، فضربه ضربة على هامته فسط، فأخذ بشعره، واحتز رأسه؛ فأتى به صاحب الزنج، فأمر له بدينار خفيف، وأمر يحيى بن محمد أن يقوده على مائة من السودان. ثم سار صاحب الزنج إلى قرية تعرف بالمهلبي تقابل قياران، ورجع السودان الذين كانوا اتبعوا عقيلًا وخليفة ابن أبي عون، وقد أخذ سميرية فيها ملاحان، فسألهم عن الخبر، فقالوا: اتبعناهم فطرحوا أنفسهم ألى الشط، وتركوا هد السميرية، فجئنا بها، فسأل الملاحين، فأخبراه أن عيلًا حملهما على اتباعه قهرًا، وحبس نساءهما حتى اتبعاه، فقالا: إن عقيلًا وعدهم مالًا، فتبعوه؛ فسألهما عن السفن الواقعة، فقالا: هذه سفن رميس ود تركها، وهرب في أول النهار، فرجع حتى إذا حاذاها أمر السودان فعبرا، فأتوه بها، فأنهبهم ما كان فيها، وأمر بها فأحرقت، ثم صار إلى القرية المعروفة بالمهلبية واسمها تنغت، فنزل قريبًا منها، وأمر بانتهابها وإحراقها؛ فانتهبت وأحرقت، وسار على نهر الماديان، فوجد فيها تمورًا، فأمر بإحراقها. وكان لصاحب الزنج بعد ذلك أمور من عيشه هو وأصحابه في تلك الناحية تركنا ذكرها، إذ لم تكن عظيمة، وإن كان كل أموره كانت عظيمة. ثم كان من عظيم ما كان له من الوقائع مع أصحاب السطان وقعة كانت مع رجل من الأتراك يكنى أبا هلال في سوق الريان، ذكر عن قائد من قواده يقال له ريحان، أن هذا التركي وافاهم في هذا السوق، ومعه زهاء أربعة آلاف رجل أو يزيدون؛ وفي مقدمته عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول، وأن السودان حملوا عليه حملة صادقة، وأن بعض السودان ألقى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا معه في يده فصرعه، وانهزم القوم، وتلاحق السودان، فقتلوا من أصحاب أبي هلال زهاء ألف وخمسمائة. وإن بعضهم اتبع أبا هلال ففاته بنفسه على دابة عرى، وحال بينهم وبين من أفلت ظلمة الليل، وأنه لما أصبح أمر بتتبعهم، ففعلوا ذلك فجاءوا بأسرى ورءوس فقتل الأسرى كلهم، ثم كانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة مع أصحاب السلطان، هزمهم فيها وظفر بهم، وكان مبتدأ الأمر في ذلك - فيما ذكر عن قائد لصاحب الزنج من السودان يقال له ريحان - أنه قال: لما كان في بعض الليل من ليالي هذه السنة التي ذكرنا أنه ظهر فيها، سمع نباح كلب في أبواب تعرف بعمرو بن مسعدة، فأمر بتعرف الموضع الذي يأتي منه النباح، فوجه لذلك رجلًا من أصحابه، ثم رجع فأخبره أنه لم ير شيئًا؛ وعاد النباح. قال: ريحان: فدعاني، فقال لي: صر إلى موضع هذا الكلب النابح، فإنه إنما نبح شخصًا يراه، فصرت فإذا أنا بالكلب على المسناة، ولم أر شيئًا، فأشرفت فإذا برجل قاعد في درجات هنالك، فكلمته فلما سمعني أفصح بالعربية كلمني، فقال: أنا سيران بن عفو الله، أتيت صاحبكم بكتب من شيعته بالبصرة، وكان سيران هذا أحد من صحب صاحب الزنج أيام مقامه بالبصرة، فأخذته فأتيته به، فرأ الكتب التي كانت معه، وسأله عن الزينبي وعن عدة من كان معه، فقال: إن الزينبي قد أعد لك الخول والمطوعة والبلالية والسعدية، وهم خل كثير، وهو علة لقائك بهم ببيان، فقال له: اخفض صوتك، لئلا يرتاع الغلمان بخبرك، وسأله عن الذي يقود هذا الجيش، فقال: قد ندب لذلك المعروف بأبي منصور؛ وهو أحد موالي الهاشميين: قال له: أفرأيت جمعهم؟ قال: نعم؛ وقد أعدّوا الشرط لكتف من ظفروا به من السودان، فأمره بالانصراف إلى الموضع الذي يكون فيه مامه، فانصرف سيران إلى علي بن أبان ومحمد بن سلم ويحيى بن محمد، فجعل يحدثهم إلى أن أسفر الصبح، ثم سار صاحب الزنّج إلى أن أشرف عليهم. فلما انتهى إلى مؤخّر ترسي وبرسونا وسندادان بيان، عرض له قوم يريدون قتله، فأمر علي بن أبان فأتاهم فهزمه، وكان معهم مائة أسود، فظفر بهم. قال ريحان: فسمعته يقول لأصحابه: من أمارات تمام أمركم ما ترون من إتيان هؤلاء القوم بعبيدهم فيسّلمونهم إليكم؛ فيزيد الله في عددكم. ثم سار حتى صار إلى بيان. قال ريحان: فوجّهني وجماعة من أصحابه إلى الحجر لطلب الكاروان وعسكرهم في طرف النخل في الجانب الغربي من بيان، فوجّهنا إلى الموضع الذي أمرنا بالمصير إليه، فألفينا هناك ألفًا وتسعمائة سفينة، ومعها قوم من المطوّعة قد احتبسوها، فلما رأونا خلّوا عن السفن، وعبروا سلبان عرايا ماضين نحو جوبك. وسقنا السفن حتى وافيناه بها، فلما أتيناه بها أمر فبسط له على نشز من الأرض وقعد، وكان في السفن قوم حجّاج أرادوا سلوك طريق البصرة؛ فناظرهم بقيّة يومه إلى وقت غروب الشمس، فجعلوا يصدقونه في جميع قوله، وقالوا: لو كان معنا فضل نفقة لأقمنا معك، فردّهم إلى سفنهم؛ فلما أصبحوا أخرجهم، فأحلفهم ألّا يخبروا أحدًا بعدّة أصحابه، وأن يقللوا أمره عند من سألهم عنه وعرضوا عليه بساطًا كان معهم، فأبدله ببساط كان معه، واستحلفهم أنه لا مال للسلطان معهم ولا تجارة، فلوا: معنا رجل من أصحاب السلطان، فأمر بإحضاره، فأحضر، فحلف الرجل أنه ليس من أصحاب السلطان، وأنه رجل معه نقل أراد به البصرة، فأحضر صاحب السفينة التي وجد فيها، فحلف له أنه إنما اتّجر فيه، فحمله فخلي سبيله، وأطلق الحجاج فذهبوا، وشرع أهل سليمانان على بيان بإزائه في شرقي النهر؛ فكلمهم أصحابه وكان فيهم حسين الصيدناني الذي كان صحبه بالبصرة؛ وهو أحد الأربعة الذين ظهروا بمسجد عبّاد، فلحق به يومئذ؛ فقال له: لم أبطأت عني إلى هذه الغاية؟ قال: كنت مختفيًا، فلما خرج هذا الجيش دخلت في سواده. قال: فأخبرني عن هذا الجيش، ما هم؟ وما عدّة أصحابه؟ قال: خرج من الخول بحضرتي ألف ومائتا مقاتل، ومن أصحاب الزينبي ألف، ومن البلاليّة والسعديّة زهاء ألفين، والفرسان مائتا فارس. ولما صاروا بالأبلّة وقع بينهم وبين أهلها اختلاف؛ حتى تلاعنوا، وشتم الحول محمد بن أبي عون، وخلفتهم بشاطىء عثمان وأحسبهم مصبّحتك في غد. قال: فكيف يريدون أن يفلوا إذا أتونا؟ قال: هم على إدخال الخيل من سندادان بيان، ويأتيك رجالتهم من جنبّي النهر. فلما أصبح وجّه طليعةً ليعرف الخبر، واختاره شيخًا ضعيفًا زمنًا لئلا يعرض له؛ فلم يرجع إليه طليعته. فلمّا أبطًا عنه وجّه فتحًا الحجام ومعه ثلثمائة رجل، ووجّه يحيى بن محمد إلى سندادان، وأمره أن يخرحج في سوق بيان، فجاءه فتح فأخبره أن القوم مقبلون إليه في جمع كثير، وأنهم قد أخذوا جنتي النهر، فسأل عن المد، فقيل: لم يأت بعد، فقال: لم تدخل خيلهم بعد، وأمر محمد بن سلم وعلي بن ابن أن يقعدا لهم في النخل، وقعد هو على جبل مشرف عليهم، فلم يلبث أن طلعت الأعلام والرجال حتى صاروا إلى الأرض المعروفة بأبي العلاء البلخي، وهي عطفة على دبيران، فأمر الزنج فكبروا ثم حملوا عليهم فوافوا بهم دبيران، ثم حمل الخول يقدمهم أبو العباس بن أيمن المعروف بأبي الكباش وبشير القيسي، فتراجع الزنج حتى بلغوا الجبل الذي هو عليه، ثم رجعوا عليهم، فثبتوا لهم، وحمل أبو الكباش على فتح الحجام فقتله، وأدرك غلامًا يال له دينار من السودان فضربه، ضربات، ثم حمل السوادن عليهم، فوافوا بهم شاطئ بيان، وأخذتهم السيوف. قال ريحان: فعهدي بمحمد بن سلم وقد ضرب أبا الكباش، فألى نفسيه في الطين، فلحقه بعض الزنج، فاحتز رأسه. وأما علي بن أبان؛ فإنه كان ينتحل قتل أبي الكباش وبشير القيسي، وكان يتحدث عن ذلك اليوم فيول: كان أول من لقبني بشير القيسي، فضربني وضربته، فوقعت ضربته في ترسي، ووقعت ضربتي في صدره وبطنه؛ فانتظمت جوانح صدره، وفريت بطنه، وسقط فأتيته، فاحترزت رأسه. ولقيني أبو الكباش، فشغل بي، وأتاه بعض السودان من ورائه فضربه بعصا كانت في يده على ساقيه؛ فكسرهما فسقط، فأتيته ولا امتناع به، فقتله واحترزت رأسه، فأتيت بالرأسين صاحب الزنج. قال محمد بن الحسن بن سهل: سمعت صاحب الزنج يخبر أن عليًا أتاه برأس أبي الكباش ورأس بشير القيسي - قال: ولا أعرفهما - فال: كان هذان يقدمان القوم، فقتلهما فانهزم أصحابهما لما رأوا مصرعهما. قال ريحان - فيما ذكر عنه: وانهزم الناس فذهبوا كل مذهب، واتبعهم السودان إلى نهر بيان، وقد جزر النهر، فلما وافوه انغمسوا في الوحل، فقتل أكثرهم. قال: وجعل السودان يمرون بصاحبهم دينار الأسود الذي كان أبو الكباش ضربه، وهو جريح ملقى، فيحسبونه من الخول فيضربونه بالمناجل حتى أثخن، ومر به من عرفه، فحمل إلى صاحب الزنج، فأمر بمداواة كلومه. قال ريحان: فلما صار القوم إلى فوهة نهر بيان، وغرق من غرق وأخذت السفن التي كانت فيها الدواب، إذا ملوح يلوح من سفينة، فأتيناه فقال: ادخلوا النهر المعروف بشريكان، فإن لهم كمينًا هناك، فدخل يحيى ابن محمد وعلي بن أبان، فأخذ يحيى في غربي النهر، وسلك علي بن أبان في شرقية؛ فإذا كمين في زهاء ألف من المغاربة، ومعهم حسين الصيداني أسيرًاُ قال: فلما رأونا شدوا على الحسين، فقطعوه قطعًا، ثم أقبلوا إلينا، ومدوا رماحهم، فقاتلوا إلى صلاة الظهر، ثم أكب السودان عليهم فقتلوهم أجمعين، وحووا سلاحهم؛ ورجع السودان إلى عسكرههم؛ فوجدوا صاحبهم قاعدًا على شاطئ بيان، وقد أتى بنيف وثلاثين علمًا وزهاء ألف رأس، فيها رءوس أنجاد الخول وأبطالهم، ولم يلبث أن أتوه بزهير يومئذ. قال ريحان: فلم أرفه، فأتى بيحيى وهو بين يديه، فعرفه فقال لي: هذا زهير الخول؛ فما استبقاؤك إياه، فأمر به فضربت عنقه. وأقام صاحب الزنج يومه وليلته، فلما أصبح وجه طليعة إلى شاطئ دجلة، فأتاه طلية، فأعلمه أن بدجلة شذاتين لاصقتين بالجزيرة، والجزيرة يومئذ على فوهة القندل، فرد الطليعة بعد العصر إلى دجلة ليعرف الخبر؛ فلما كان وقت المغرب أتاه المعروف بأبي العباس خال ابنه الأكبر، ومعه رجل من الجند يقال له عمران، وهو زوج أم أبي العباس هذا، فصف لهما أصحابه، ودعا بهما؛ فأدى إليه عمران رسالة ابن أبي عون، وسأله أنيعبر بيانا ليفارق عمله، أنه قد نحى الشذا عن طريقه، فأمر بأخذ السفن التي تخترق بيانا من جبى، فصار أصحابه إلى الحجر، فوجدوا في سلبان مائتي سفينة، فيها أعدل دقيق، فأخذت، ووجد فيها أكسية بركانات، وفيها عشرة من الزنج، وأمر الناس بركوب السفن، فلما جاء المد - وذلك فيوقت المغرب - عبر وعبرأصحابه حيال فوهة الندل، واشتدت الريح، فانقطع عنه من أصحابه المكنى بأبي دلف، وكان معه السفن التي فيها الدقيق، فلما أصبح وافاه أبو دلف أخبره أن الريح حملته إلى حسكك عمران، وأن اهل القرية هموا به، وبما كان معه، فدفعهم عن ذلك0 وأتاه من السودان خمسون رجلا، فسار عند موافاة السفن والسودان إياه حتى دخل القندل، فصار إلى قرية للمعلى بن أيوب، فنزلها، وانبث أصحابه إلى دبا، فوجدوا هناك ثلثمائة رجل من الزنج، فأتوه بهم، ووجدوا وكيلًا للمعلى بنأيوب، فطالبه بمال، فقال: اعبر إلى برسان، فآتيك بالمال، فأطلقه، فذهب ولم يعد إليه؛ فلما أبطأ عليه أمر بانتهاب القرية فانتهبت. قال ريحان - فيما ذكر عنه: فلقد رأيت صاحب الزنج يومئذ ينتهب معنا، ولقد وفعت يدي ويده على جبة صوف مضربة، فصار بعضها في يده وبعضها في يدي، وحعل يجاذبني عليها حتى تركتها له، ثم سار حتى صار إلى مسلخة الزينبي على شاطئ القندل في غربي النهر، فثبت له القوم الذين كانوا في المسلحة؛ وهم يرون أنهم يطيقونه، فعجزوا عنه، فقتلوا أجمعين؛ وكانوا زهاء مائتين، وبات لياته في القصر، ثم غدا في وقت المد قاصدًا إلى سبخة القندل، واكتف أصحابه حافتي النهر حتى وافوا منذران، فدخل أصحابه القرية فانتهبوها، ووجدوا فيها جمعًا من الزنج، فأتوا بهم، ففرقهم على قواده، ثم صار إلى مؤخر القندل، فأدخل السفن النهر المعروف بالحسنى النافذ إلى النهر المعروف بالصالحي؛ وهو نهر يؤدي إلى دبا، فأقام بسبخة هناك. فذكر عن بعض أصحابه أنه قال: ها هنا قود القواد؛ وأنكر أن يكون قود قبل ذلك. وتفرق أصحابه في الأنهار حتى صاروا إلى مربعة دبا، فوجدوا رجلا من التمارين من اهل البصرة، يقال له محمد بن جعفر المريدي، فأتوه به، فسلم عليه وعرفه، وسأله عن البلالية، فقال: إنما أتيتك برسالتهم، فلقيني السودان، فأتوك بي، وهم يسألونك شروطًا إذا أعطيتهم إياها سمعوا لك وأطاعوا، فأعطأه ماسأل لهم، وضمن القيام له بأمرهم؛ حتى يصيروا في حيزه، ثم خلى سبيله، ووجه معه من صيره إلى الفياض، ورجع عنه، فأقام أربعة أيام ينتظره؛ فلم يأته، فسار في اليوم الخامس وقد سرح السفن التي كانت معه في النهر، وأخذ هو على الظهر فيما بين نهر يقال له الداورداني والنهر المعروف بالحسنى والنهر المعروف بالصالحى، فلم يتعد حتى رأى خيلا مقبلة من نحو الأمير زهاء ستمأئة فارس، فأسرع أصحابه إلى النهر الداورداني، وكان الخيل في غريبه، فكلموهم طويلًا، وإذا هم قوم من الأعراب فيهم عنترة بن حجنا وثمال، فوجه إليهم محمد بن سلم، فكلم ثمالًا وعنترة، وسأل عن صاحب الزنج، فقال: ها هو ذا، فقال: نريد كلامه، فأتاه فأخبره بقولهما، وقال له: لو كلمتهما! فزجره، وقال: إن هذا مكيدة، وأمر السودان بقتالهم، فعبروا النهر، فعدلت الخيل عن السودان، ورفعوا علمًا أسود، وظهر سليمان أخر الزينبي - وكان معهم - ورجع أصحاب صاحب الزنج، وانصرف القوم، فقال لمحمد بن سلم: ألم أعلمك أنهم إنما أرادوا كيدًا! وسار حتى صار إلى ذبا، وانبث أصحابه في النخل، فجاءوا بالغنم والبقر، فجعلوا يذبحون ويأكلون، وأقام ليلته هناك؛ فلما أصبح سار حتى دخل الأرخنج المعروف بالمطري، وهو أرخنج ينفذ إلى نهر الأمير المقابل للفياض من جانبيه، فوجدوا هناك شهاب بن العلاء العنبري، ومعه قوم من الخول، فأوقعوا به، وأفلت شهاب في نفير ممن كان معه، وقتل من أصحابه جماعة، ولحق شهاب بالمنصف من الفياض، ووجد أصحاب صاحب الزنج ستمائة غلام من غلمان الشورجيين هناك، فأخذوهم، وقتلوا وكلاءهم وأتوه بهم، ومضى حتى انتهى إلى قصر يعرف بالجوهري على السبخة المعروفة بالبرامكة فأقام فيها ليلته تلك، ثم سار حيث أصبح وافى السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالديناري، ومؤخرها يفضي إلى النهر المعروف بالمحدث، فأقام بها، وجمع أصحابه، وأمرهم ألا يعجلوا بالذهاب إلى البصرة حتى يأمرهم وتفرق أصحابه في انتهاب كل ما وجدوا، وبات هناك ليلته تلك ذكر الخبر عن مسير صاحب الزنج بزنوجه وجيوشه فيها إلى البصرة ذكر أنه سار من السبخة التي تشرع على النهر المعروف بالديناري، ومؤخرها يفضي إلى النهر المعروف بالحدث، بعد ما جمع بها أصحابه يريد البصرة؛ حتى إذا قابل النهر المعروف بالرياحي أتاه قوم من السودان، فأعلموه أنهم رأوا في الرياحي بارقةً، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى تنادى الزنج السلاح، فأمر علي بن أبان بالعبور إليهم، وكان القوم في شري النهر المعروف بالديناري، فعبر في زهاء ثلاثة آلاف، وحبس صاحب الزنج عنده أصحابه، وقال لعلي: إن احتجت إلى مزيد في الرجال فاستمدني. فلما مضى صاح الزنج السلاح! لحركة رأوها من غير الجهة التي صار إليها على، فسأل عن الخبر، فأخبر أنه قد أتاه قوم من ناحية القرية الشارعة على نهر حرب المعروفة بالجعفرية، فوجه محمد بن سلم إلى تلك الناحية. فذكر عن صاحبه المعروف بريحان، أنه قال: كنت فيمن توجه مع محمد، وذلك في وقت صلاة الظهر، فوافينا القوم بالجعفرية، فنشب التال بيننا وبينهم إلى آخر وقت العصر، ثم حمل السودان عليهم حملة صادقة، فولوا منهزمين وقتل من الجند والأعراب وأهل البصرة البلالية والسعدية خمسمائة رجل، وكان فتح المعروف بغلام أبي شيث معهم يومئذ، فولى هاربًا، فاتبعه فيروز الكبير، فلما رآه جادًا في طلبه رماه ببيضة كانت على رأسه، فلم يرجع عنه؛ فرماه بترسه فلم يرجع عنه، فرماه بتنور حديد كان عليه فلم يرجع عنه؛ ووافى به نهر حرب، فألقى فتح نفسه فيه، فأفلت ورجع فيروز، معه ما كان فتح ألقاه من سلاحه؛ حتى أتى به صاحب الزنج. قال محمد بن الحسن: قال شبل: حكي لنا أن فتحًا طفر يومئذ نهر حرب، قال: فحدثت هذا الحديث الفضل بن عدي الدرامي، فقال: أنا يومئذ مع السعدية، ولم يكن على فتح تنور حديد، وما كان عليه إلا صدره حرير صفراء، ولقد قاتل يومئذ حتى لم يبق أحد يقاتل، وأتى نهر، حرب فوثبه حتى صار إلى الجانب الغربي منه؛ ولم يعرف ما حكى ريحان من خبر فيروز. قال: وقال ريحان: لقيت فيروز قبل انتهائه إلى صاحب الزنج، فاقتص علي قصته وقصة فتح، وأراني السلاح. وأقبل الزنج على أخذ الأسلاب، وأخذت على النهر المعروف بالديناري؛ فإذا أنا برجل تحت نخلة عليه قلنسوة خز، وخف أحمر ودراعة، فأخذته فأراني كتبًا معه، وقال لي: هذه كتبٌ لقوم من أهل البصرة، وجهوني بها، فألقيت في عنقه عمامة، وقدته إليه، وأعلمته خبره، فسأله عن اسمه فقال: أنا محمد بن عبد الله، وأكنى بأبي الليث، من أهل أصبهان؛ وإنما أتيتك راغبًا في صحبتك، فقبله ولم يلبث أن سمع تكبيرًا؛ فإذا علي بن أبان قد وافاه ومعه رأس البلالي المعروف بأبي الليث القواريري. قال: وقال شبل الذي قتل أبا الليث القواريري وصيف المعروف بالزهري وهو من مذكوري البلالية، ورأس المعروف بعبدان الكبسي، وكان له في البلالية صوت في رءوس جماعة منهم، فسأله عن الخبر فأخبره أنه لم يكن فيمن قاتله أشد قتالًا من هذين - يعني أبا الليث وعبدان - وأنه هزمهم حتى ألقاهم في نهر نافذ؛ وكانت معهم شذاة فغرقها، ثم جاءه محمد بن سلم ومعه رجل من البلالية أسيرًا، أسره شبل يقال له محمد الأزرق القواريري، ومعه رءوس كثيرة، فدعا الأسير فسأله عن أصحاب هذين الجيشين، فقال له، أما الذين كانوا في الرياحي فإن قائدهم كان أبا منصور الزينبي، وأما الذين كانوا مما يلي نهر حرب، فإن قائدهم كان سليمان أخا الزينبيمن ورائهم مصحرًا، فسأله عن عددهم فقال له: لاأحصيهم، إلا أنى أعلم أنهم كثير عددهم. فأطلق محمد القواريري، وضمه إلى شبل، وسار حتى وافى سبخة الجعفرية، فأقام ليلته بين القتلى؛ فلما أصبح جمع أصحابه فحذرهم أن يدخل أحد منهم البصرة، وسار فتسرع منهم أنكلويه وزريق وأبوالحنجر - ولم يكن قود يومئذ - وسليم ووصيف الكوفي. فوافوا النهر المعروف بالشاذاني، وأتاهم أهل البصرة، وكثروا عليهم؛ وانتهى الخبر إليه، فوجه محمد بن سلم وعلي بن أبان ومشرًا غلام يحيى في خلق كثير، وجاء هو يسايرهم؛ ومعه السفن التي فيعا الدواب المحمولة ونساء الغلمان حتى أقام بقنطرة نهر كثير. قال ريحان: فأتيته وقد رميت بحجر، فأصاب ساقي، فسألني عن الخبر فأخبرته أن الحرب قائمة، فأمرني بالرجوع، وأقبل معي حتى أشرف على نهر السيايجة. ثم قال لي: امض إلى أصحابنا، فقل لهم يستأخروا عنهما، فقلت له: ابعد عن هذا الموضع فإني لست آمن عليك الخول. فتنحى، ومضيت فأخبرت القواد بما أمر به، فتراجعوا، وأكب أهل البصرة عليهم، وكانت هزيمة وذلك عند العصر، ووقع الناس في النهرين: نهر كثير ونهر شيطان، فجعل يهتف بهم ويردهم فلا يرجعون، وغرق جماعة من أصحابه في نهر كثير، وقتل منهم جماعة على شط النهر وفي الشاذاني؛ فكان ممن غرق يومئذ من قواده أبو الجون ومبارك البحراني وعطاء البربري وسلام الشأمي، ولحقه غلام أبي شيث وحارث القيسي وسحيل، فعلوا القنطرة، فرجع إليهم وانهزموا عنه حتى صاروا إلى الأرض، وهو يومئذ في دراعة وعمامة ونعل وسيف، وترسه في يده؛ ونزل عن القنطرة وصعدها البصريون يطلبونهن فرجع فقتل منهم بيده رجلًا على خمس مراق من القنطرة، وجعل يهتف بأصحابه ويعرفهم مكانه، ولم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه إلا أبو الشوك ومصلح ورفيق غلام يحيى. قال ريحان: فكنت معه فرجع؛ حتى صار إلى المعلى، فنزل في غربي نهر شيطان. قال محمد بن الحسن: فسمعت صاحب الزنج يحدث، قال: لقد رأيتني في بعض نهار هذا اليوم؛ وقد ضللت عن أصحابي، وضلوا عني فلم يبق معي إلا مصلح ورفيق، وفي رجلي نعل سندي، وعلي عمامة قد انحل كور منها فأنا أسحبها من ورائي، ويعجلني المشي عن رفعها، ومعي سيفي وترسي. وأسرع مصلح ورفيق في المشي وقصرت، فغابا عني، ورأيت في أثري رجلين من أهل البصرة؛ في يد أحدهما سيف، وفي يد الآخر حجارة، فلما رأياني عرفاني، فجدا في طلبي، فرجعت إليهما، فانصرفا عني، ومضيت حتى خرجت إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابي؛ وكانوا قد تحيروا لفقدي، فلما رأوني سكنوا إلى رؤيتي. قال ريحان: فرجع بأصحابه إلى موضع يعرفغ بالمعلي في غربه نهور شيطان، فنزل به، وسأل عغن الرجل؛ فإذا قد هرب كثير منه ونظر فإذا هو من جمي أصحابه في مقدار خمسمائة رجل، فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون فلم يرجع إليه أحد وبات ليلته فلم كان في بعض الليل جاء الملقب بجربان وقد كان هرب فيمن هرب، ومعه ثلاثون غلامًا فسأله: أين كانت غيبته؟ فقال: ذهبت إلى الزواقة طليعةً. قال ريحان: ووجهي لأتعرف له من في قنطرة نهر حرب، فلم أجد هناك أحدًا، وقد كان أهل البصرة انتهبوا السفن التي كانت معه، وأخذوا الدواب التي كانت فيها هذا اليوم، وظفروا بمتاع من متاعه، وكتب من كتبه، واصطرلابات كانت معه؛ فلما أصبح من غد هذا اليوم نظر في عدة أصحابه، فإذا هم ألف رجل قد كانوا ثابوا إليه في ليلتهم تلك. قال ريحان: فكان فيمن هرب شبل، وكان ناصح الرملي ينكر هرب شبل. قال ريحان: فرجع شبل من غد، ومعه عشرة غلمان، فلامه وعنفه، وسأل عن غلام كان يقال له نادر يكنى بأبي نعجة، وعن عنبر البربري؛ فأخبر أنهما هربا فيمن هرب، فأام في موضعه، وأمر محمد بن سلم أن يصير إلى قنطرة نهر كثير، فيعظ الناس ويعلمهم ما الذي دعاه إلى الخروج، فصار محمد بن سلم وسليمان بن جامع ويحيى بن محمد، فوقف سليمان ويحيى، وعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة، وجعل يكلمهم، ورأو منه غرة فانطووا عليه؛ فقتلوه. قال الفضل بن عدي: عبر محمد بن سلم إلى أهل البصرة ليعظهم وهم مجتمعون في أرض تعرف بالفضل بن ميمون؛ فكان أول من بدر إليه وضربه بالسيف فتحٌ غلام أبي شيث، وأتاه ابن التومني السعدي، فاحتز رأسه، فرجع سليمان ويحيى إليه، فأخبراه الخبر، فأمرهما بطي ذلك عن الناس حتى يكون هو الذي يقوله لهم، فلما صلى العصر نعى محمد بن سلم لأصحابه، وعرف خبره من لم يكن عرفه، فقال لهم: أنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة. ووجه زريقًا وغلامًا له يقال له سقلبتويا، وأمرهما بمنع الناس من العبور؛ وذلك في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وخمسين ومائتين. قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن سمعان الكاتب، قال: لما كان في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة جمع له أهل البصرة، وحشدوا له لما رأوا من ظهورهم عليه في يوم الأحد، وانتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي - وكان من غزاة البحر - في الشذا، وله علم بركوبها والحرب فيها، فجمع المطوعة ورماة الأهداف وأهل المسجد الجامع ومن خف معه من حزبى البلالية والسعدية، ومن أحب النظر من غير هذه الأصناف من الهاشميين والقرشيين وسائر أصناف الناس، فشحن ثلاثة مراكب من الشذا من الرماة، وجعلوا يزدحمون في الشذا حرصًا على حضور ذلك المشهد، ومضى جمهور الناس رجالة، منهم من معه السلاح، ومنهم نظارة لا سلاح معهم، فدخلت الشذا والسفن النهر المعروف بأم حبيب بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد. ومرت الرجالة والنظارة على شاطئ النهر، قد سدوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفًا وكثرة، وكان صاحب الزنج مقيمًا بموضعه من النهر المعروف بشيطان. قال محمد بن الحسن: فأخبرنا صاحب الزنج أنه لما أحس بمصير الجمع إليه، وأتته طلائعه بذلك وجه زريقًا وأبا الليث الأصبهاني في جماعة معهما في الجانب الشرقي من النهر كمينًا وشبلًا وحسينًا الحمامي في جماعة من أصحابه في الجانب الغربي بمثل ذلك، وأمر علي بن أبان ومن بقي معه من جمعه بتلقى القوم، وأن يجثوا لهم فيمن معه، ويستتروا بتراسهم فلا يثور إليهم منهم ثائر حتى يوافيهم القوم ويوموا إليهم بأسيافهم؛ فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم. وتقدم إلى الكمينين: إذا جاوزهما الجمع وأحسا بثورة أصحابهم إليهم أن يخرجا من جنبى النهر، ويصيحا بالناس. وأمر نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به. قال: وكان يقول لأصحابه بعد ذلك: لما أقبل إلي الجمع يومئذ وعاينته رأيت أمرًا هائلًا راعني، وملأ صدري رهبة وجزعًا، وفزعت إلى الدعاء، وليس معي من أصحابي إلا نفر يسير؛ منهم مصلح؛ وليس منا أحد إلا وقد خيل له مصرعه في ذلك. فجعل مصلح يعجبني من كثرة ذلك الجمع، وجعلت أومى إليه أن يمسك فلما قرب القوم مني قلت: اللهم إن هذه ساعة العسرة، فأعني، فرأيت طيورًا بيضًا تلقت ذلك الجمع، فلم أستتم كلامي حتى بصرت بسميرية قد انقلبت بمن فيها، فغرقوا ثم تلتها الشذا، وثار أصحابي إلى القوم الذين قصدوا لهم فصاحوا بهم. وخرج الكمينان عن جنبتي النهر من وراء السفن والرجالة، وخبطوا من ولي من الرجالة والنظارة الذين كانوا على شاطئ النهر المعروف، فغرقت طائفة، وقتلت طائفة، وهربت طائفة نحو الشط طمعًا في النجاة، فأدركها السيف؛ فمن ثبت قتل، ومن رجع إلى الماء غرق، ولجأ من كان على شاطئ النهر من الرجالة إلى النهر فغرقوا وقتلوا، حتى أبير أكثر ذلك الجمع، ولك ينج منهم إلا الشريد، وكثر المفقودون بالبصرة، وعلا العويل من نسائهم وهذا يوم الشذا الذي ذكره الناس، وأعظموا ما كان فيه من القتل. وكان فيمن قتل من بني هاشم جماعة من ولد جعفر بن سليمان وأربعون رجلًا من الرماة الشمهورين؛ في خلق كثير لا يحصى عددهم وانصرف الخبيث وجمعت له الرءوس، فذهب إليه جماعة من أولياء القتلى، فعرضها عليهم، فأخذوا ما عرفوا منها، وعبأ ما بقي عنده من الرءوس التي لم يأت لها طالب في جريبية ملأها منها، وأخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر، وأطلقها. فوافت البصرة، فوقفت في مشرعة القيار، فجعل الناس يأتون تلك الروءس، فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه، وقوى عدو الله بعد هذا اليوم، وتمكن الرعب في قلوب أهل البصرة منه، وأمسكوا عن حربه. وكتب إلى السلطان بخبر ما كان منه، فوجه جعلان التركي مددًا لأهل البصرة، وأمر أبا الأحوص الباهلي بالمصير إلى الأبلة واليًا، وأمده برجل من الأتراك يقال له جريح. فزعم الخبيث أن أصحابه قالوا له بعقب هذه الوقعة: إنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة، ولم يبق فيها إلا ضعفاؤهم ومن لا حراك به، فأذن لنا في تقحمها. فزبرهم وهجن آراءهم، وقال لهم: لا بل ابعدوا عنها؛ فقد أرعبناهم وأخفناهم وأمنتم جانبهم؛ فالرأي الآن أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم. ثم انصرف بأصحابه إلى سبخة بمآخير أنهارهم، إردب يقارب النهر المعروف بالحاجر. قالشبل: هي سبخة أبي قرة وقعها بين النهرين: نهر أبي قرة والنهر المعروف بالحاجر. فأقام هناك، وأمر أصحابه باتخاذ الأكواخ، وهذه السيخة متوسطة النخل والقرى والعمارات، وبث أصحابه يمينًا وشمالًا يغير بهم على القرى، ويقتل بهم الأكرة وينهب أموالهم، ويسوق مواشيهم. فهذا ما كان من خبره وخبر الناس الذين قربوا من موضع مخرجه في هذه السنة. ولليلتين بقيتا من ذي القعدة منها حبس الحسن الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وولي عبد الرحمن بن نائل البصري قضاء سامرا في ذي الحجة منها. وحج بالناس فيها علي بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد علي. ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة ذكر الخبرعن وصول موسى بن بغا إلى سامرا واختفاء صالح فمن ذلك ما كان من موافاة موسى بن بغا سامرا واختفاء صالح بن وصيف لمقدمه، وحمل من كان مع موسى من قواد المهتدى من الجوسق إلى دار ياجور. ذكر أن دخول موسى بن بغا سامرا بمن معه كان يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من هذة السنة؛ فلما دخلها أخذ في الحير، وعبأ أصحابه ميمنة وميسرة وقلبًا في السلاح، حتى صار إلى باب الحيرمما يلي الجوسق والقصر الأحمر؛ وكان ذلك يومًا جلس فيه المهتدى للناس للمظالم؛ فكان ممن أحضره في ذلك اليوم بسبب المظالم أحمد بن المتوكل بن فتيان؛ فكان في الدار إلى أن دخل الموالي، فحملوا المهتدى إلى دار ياجور، واتبعه أحمد بن المتوكل إلى ما هنالك، فلم يزل موكلًا به في مضرب مفلح إلى أن انقطع الأمر، ورد المهتدى إلى الجوسق، ثم أطلق. وكان القيم بأمر دارالخلافة بايكباك، فصيرها إلى ساتكين قبل ذلك بأيام، فظن الناس أنه إنما فعل ذلك لثقيه بساتكين، وأنه على أن يغلب على الدار والخليفة وقت قدوم موسى، فلما كان في ذلك اليوم لزم منزله، وترك الدار خالية، وصار موسى في جيشه إلى الدار، والمهتدى جالس للمظالم، فأعلم بمكأنه، فأمسك ساعة عن الإذن، ثم أذن لهم، فدخلوا فجرى من الكلام نحو ماجرى يوم قدم الوفد والرسل، فلما طال الكلام تراطنوا فيما بينهم بالتركية، وأقاموه من مجلسه، وحملوه على دابة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان في الجوسق من دواب الخاصة، ومضوا يريدون الكرخ، فلما صاروا عند باب الحير في القطائع عند دار ياجور أدخلوه دار ياجور فذكر عن بعض الموالي ممن حضرهم ذلك اليوم، أن سبب أخذهم المهتدى ذلك اليوم كان أن بضهم قال لبعض: إ هذه المطاولة إما هي حيلة عليكم حتى يكبسكم صالح بن وصيف بجيشه. فخافوا ذلك، فحملوه وذهبوا به إلى الموضع الآخر؛ فذكر عمن سمع المهتدي يقول لموسى: ما تريد ويحك! اتق الله وخفه؛ فإنك تركب أمرًا عظيمًا. قال: فرد عليه موسى: إنا ما نريد إلا خيرًا، ولا وتربة المتوكل لا ناتلك منا شر البتة. قال الذي ذكر ذلك: فقلت في نفسي: لو أراد خيرًا لحلف بتربا المتصم أو الواثق. ولما صاروا به إلى دار ياجور أخذوا عليه العهود والمواثيق إلا يمايل صالحًا عليهم، ولا يضمر لهم إلا مثل ما يظهر؛ ففعل ذلك، فجددوا له البيعة ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وأصبحوا يوم الثلاثاء، فوجهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة، فوعدهم أن يصير إليهم. فذكر عن بعض رؤساء الفراعنة، أنه يل له، ما الذي تطالبون به صالح ابن وصيف؟ فقال: دماء الكتاب وأموالهم ودم المعتز وأمواله وأسبابه. ثم أقبل القوم على إبرام الأمور وعسكرهم خارج باب الحير عند باب ياجور؛ فلما كانت ليلة الأربعاء استتر صالح؛ فذكر عن طلمجور أنه قال: لما كانت ليلة الأربعاء اجتمعنا عند صالح، وقد مر أن يفرق أرزاق أصحاب النوبة عليهم، فقال لبعض من حضره: اخرج فأعرض من حضر من الناس، فكانوا بالغداة زهاء خمسة آلاف، قال: فعاد إليه، وقال: يكونون ثمانمائة رجل، أكثرهم غلمانك ومواليك، فأطرق مليًا، ثم قام وتركنا، ولم يأمر بشئ وكان آخر العهد. وذكر عمن سمع بختيشوع يقول وهو يعرض بصالح قبل قدوم موسى. حركنا هذا الجيش الخشن، وأرغمناه، حتى إذا أقبل إلينا تشاغلنا بالنرد والشرب، كأنا بنا وقد اختفينا إذا ورد القاطول! فكان الأمر كذلك. وغدا طغتا إلى باب ياجور سحر يوم الأربعاء فلقيه مفلح، فضربه بطبرزين، فشجه في جانب جنبيه الأيمن، فكان الذين أقاموا مع صالح الليلة التي استتر فيها من القواد الكبار طغتا بن الصيغون وطلمجور صاحب المؤيد ومحمد بن تركش وخموش والنوشري، ومن الكتاب الكبار أبو صالح عبد الله ابن محمد بن يزداد وعبد الله بن منصور وأبو الفرج. وأصبح الناس يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من المحرم وقد استتر صالح، وغدا أبو صالح إلى دار ياجور، وجاء عبد الله بن منصور، فدخل الدار مع سليمان بن وهب، وتنصح إليهم أن عنده سفاتج بخمسة آلاف دينار. وذكر أن صالحًا أراد على حملها، فأبى أن يقر الأمر قراره. وخلع في هذا اليوم على كنجور ليتولى أمر دار صالح وتفتيشها، ومضى ياجور صاحب موسى فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسًا من دار صالح. وفي هذا اليوم من هذا الشهر ولى سليمان بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام والسواد، ووجه إليه بخل، وزيد على ما كان يخلع على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر. وفيه رد المهتدي إلى الجوسق، ودفع عبد الله بن محمد بن يزداد إلى الحسن ابن مخلد. وفيه أظهر النداء على صالح. ذكر الخبر عن قتل صالح بن وصيف ولثمان من صفر من هذه السنة قتل صالح بن وصيف. ذكر الخبر عن سبب قتله وسبب الوصول إليه بعد اختفائه ذكر أن سبب ذلك كان أن المهتدي لما كان يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين أظهر كتابًا، ذكر أن سيما الشرابي زعم أن امرأة جاءت به مما يلي القصر الأحمر، ودفعته إلى كافور الخادم الموكل بالحرم، وقالت له: إن فيه نصيحة، وإن منزلي في موضع كذا فإن أردتموني فاطلبوني هناك، فأوصل الكتاب إلى المهتدي، فلما طلبت في الموضع الذي وصفت حين احتيج إلى بحثها عن الكتاب لم توجد، ولم يعرف لها خبر. وقد ذكر أن المهتدي أصاب ذلك الكتاب، ولم يدر من رمى به، فذكر أن المهتدي دعا سليمان بن وهب بحضرة جماعة من الموالي فيهم موسى ابن بغا ومفلح وبايكباك وياجور وبكالبا وغيرهم؛ فدفع الكتاب إلى سليمان، وقال له: تعرفهذا الخط؟ قال: نعم، هذا خط صالح بن وصيف فأمره أن يقرأه عليهم، فإذا صالح يذكر فيه أنه مستخلف بسامرا، وأنه إنما استتر متخيرًا للسلامة وإبقاء على الموالي، وخوفًا من إيصال الفتن بحرب إن حدثت بينهم، وقصدًا لأن يبيت القوم، ويكون ما يأتونه بعد بصيرة مما ذكر في هذا الباب. ثم ذكر ما صار إليه من أموال الكتاب، وقال: إن علمتم ذلك عند الحسن ابن مخلد، وهو أحدهم، وهو في أيديكم. ثم ذكر من وصل إليه ذلك المال وتولى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أمر قبيحة، وأشار إلى أن علم ذلك عند أبي صالح بن يزداد وصالح العطار، ثم ذكر أشياء في هذا المعنى، بعضها يتذر به وبعضها يحتج به، ومخرج القول في ذلك يدل على قوة في نفسه. فلما فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول منه يحث على الصلح والهدنة والألفة والاتفاق، ويكره إليهم الفرقة والتفاني والتباغض، فدعا ذلك القوم إلى تهمته، وأنه يعلم بمكان صالح، وأنه يتقدمهم عنده، فكان بينهم في ذلك، كلام كثير ومناظرات طويلة، ثم أصبحوا يوم الخميس لليلتين بقيتا من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين، فصاروا جميعًا إلى دار موسى بن بغا في داخل الجوسق يتراطنون ويتكلمون. واتصل الخبر بالمهتدي. فذكر عن أحمد بن خاقان الواثقي أنه قال: من ناحيتي انتهى الخبر إلى المهتدي؛ وذلك أنى سمهت بعض من كان حاضر المجلس وهو يقول: أجمع القوم على خلع الرجل. قال: فصرت إليه أخيه إبراهيم، فأعلمته بذلك، فدخل عليه فأعلمه ذلك، وحكاه عني؛ فلم أزل خائفًا أن يعجل أمير المؤمنين فيخبرهم عني بالخبر، فرزق الله السلامة. وذكر أن أخا بايكباك قال لهم في هذا المجلس لما أطلعوه على ما كانوا عزموا عليه: إنكم قتلتم ابن المتوكل، وهو حسن الوجه، سخى الكف، فاضل النفس، وتريدون أن تقتلوا هذا وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بحراسان، ولأشيعن أمركم هناك. فلما اتصل الخبر بالمهتدي خرج إلى مجلسه متقلدًا سيفًا، وقد لبس ثيابًا نظافًا، وتطيب، ثم أمر بإدخالهم إليه، فأبوا ذلك مليًا، ثم دخلوا عليه، فقال لهم: إنه قد بلغني ما أنتم عليه من أمري؛ ولست كمن تقدمني مثل أحمد بن محمد المستعين، ولا مثل ابن قبيحة؛ والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي؛ والله لأضربن به ما استمسك قائمة بيدي؛ والله لئن سقط من شعري من شعرة ليهلكن أو ليذهبن بها أكثركم. أما دين! أما حياء! أما رعة! كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بإرطال الشراب فشربها مسرورًا بمكروهكم وحبًا لبواركم! خبروني عنكم؛ هل تعلمون أنه وصل إلي من دينايكم هذه شيء! أما إنك تعلم يا بايكباك أن بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتي وولدي؛ وإن أحببت أن تعرف ذلك فانظر: هل ترى في منازلهم فرشًا أو وصائف أو خدمًا أو جواري! أو لهم غلات! سوءة لكم! ثم تقولون: إني أعلم علم صالح، وهل صالحٌ إلا رجل من الموالى، وكواحد منكم! فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه! فإن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجمعكم، وإن أبيتم إلا الإامة على ما أنتم عليه فشأنكم؛ فاطلبوا صالحًا، ثم ابلغوا شفاء أنفسكم؛ وأما أنا فما أعلم علمه. قالوا: فاحلف لنا على ذلك. قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم؛ ولكني أؤخرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غدًا إذا صليت الجمعة. فكأنهم لانوا قليلًا، ووجه في إحضار الهاشميين فحضروا في عيشتهم، فأذن لهم، فسلموا ولم يذكر لهم شيئًا، وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة، فانصرفوا، وغدا الناس يوم الجمعة ولم يحدثوا شيئًا، وصلى المهتدي وسكن الناس وانصرفوا هادنين. وذكر عن بعض من سم الكلام في يوم الأربعاء يقول: إن المهتدي لما خون صالح قال: إن بايكباك قد كان حاضرًا ما عمل به صالح في أمر الكتاب ومال ابن قبيحة، فإن كان صالح قد أخذ من ذلك شيئًا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك؛ فكان ذلك الذي أحفظ بايكباك. وقال آخر: إنه سمع هذا القول، وإنه ذكر محمد بن بغا، وقال: قد كان حاضرًا والمًا بما أجروا عليه الأمر، والشريك في ذلك أجمع. فأحفظ ذلك أبا نصر. وقد قيل: إن القوم من لدن قدم موسى كانوا مضمرين هذا المعنى، منطوين على الغل؛ وإنما كان يمنعهم منه خوف الاضطراب ولة الأموال؛ فلما ورد عليهم مال فارس والأهواز تحركوا، وكان ورود ذلك عليهم يوم الأربعاء لثلاث بين من المحرم، ومبلغه سبعة عشر ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. ذكر الخبر عن خروج العامة على المهتدي فلما كان يوم السبت انتشر الخبر في العامة أن القوم على أن يخلعوا المهتدي ويفتكوا به، وأنهم أرادوه على ذلك، وأرهقوه، وكتبوا الرقاع وألقوها في المسجد والطرقات فذكر بعض من زعم أنه قرأ رقعة منها فيه: بسم الله الرحم الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضى المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره على عدوه، ويكفيه مؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه؛ فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك أحمد بن محمد ثوابة والحسن بن مخلد، رحم الله من أحدخلص النية ودعا وصلى على محمد ﷺ! فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر من هذه السنة، تحرك الموالي بالكرخ والدور، ووجهوا إلى المهتدى على لسان رجل منهم يقال له عيسى: إنانحتاج أن نلقى إلى أمير المؤمنين شيئًا، وسألوا أن يوجه أمير المؤمنين إليهم أحد إخوته، فوجه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم، وهو أكبر إخوته، ووجه معه محمد بن مباشر المعرف بالكرخي، فمضياإليهم، فسألاهم عن شأنهم، فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وأنه بلغهم أنموسى ان بغا وبايكباك وجماعة من قوادهم يريدونه على الخلم، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنهم قد قرءوا بذلك رقاعًا ألقيت في المسجد والطرقات، وشكوا مع ذلك سوء حالهم، وتأخر أرزاقهم، وما صار الإقطاعات إلى قوادهم التي قد أجحفت بالضياع والخراج، وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات من الرسوم القديمة مع أرزاق النساء والدخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج. وكثر كلامهم في ذلك، فقال لهم أبو القاسم عبد الله ابن الواثق: اكتبوا هذا في كتاب إلى أمير المؤمنين، أتولى إيصاله لكم! فكتبوا ذلك، وكاتبهم في الذي يكتبون محمد بن ثقيف الأسود؛ وكان يكتب لعيسى صاحب الكرخ أحيانًا. وانصرف أبو القاسم ومحمد بن مباشر، فأوصلا الكتاب إلى المهتدي، فكتب جوابه بخطه، وختمه بخاتمه، وغدا أبو القاسم الكرخ، فوافاهم فصاروا به إلى دار أشناس وقد صيروها مسجدًا جامعًا لهم، فوقف ووقفوا له في الرحبة، واجتمع منهم زهاء مائة وخمسين فارسًا ونحو من خمسمائة راجل، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقال: يقول لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطي وخاتمي، فاسمعوه وتدبروه، ثم دفع الكتاب إلى كاتبهم فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم وليًا وحافظًا، فهمت كتابكم، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه؛ فأحسن الله جزاءكم، وتولى حياطتكم؛ فأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم؛ فعزيز على ذلك فيكم، ولوددت والله أن صلاحكم يهيًا بألا آكل ولاطعم ولدي وأهلي إلا القوت الذي لا شب دونه، ولا ألبس أحدًا من ولدي إلا ما ستر العورة، ولا والله - حاطكم الله ما صار إلى منذ تقلدت أمركم لنفسي وأهلي وولدي ومتقدمي غلماني وحشمي إلا خمسة عشر ألف دينار وأنتم تقفون على ما ورد ويرد كل ذلك مصروف إليكم، غير مدخر عنكم. وأما ما ذكرتم مما بلغكم، وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق، وما بذلتم من أنفسكم؛ فأنتم أهل ذلك. وأين تعتذرون مما ذكرتم ونحن وأنتم نفس واحدة! فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأمانتكم خيرًا. وليس الأمر كما بلغكم، فعلي ذلك فليكن عملكم إن شاء الله. وأما ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبتكم إن شاء الله والسلام عليكم. أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم حافظًا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليمًا كثيرًا. فلما بلغ القارئ من الكتاب إلى الموضع الذي قال: " ولم يصل إلي إلا قدر خمسة عشر ألف دينار " أشار أبو القاسم إلى القارئ، فسكت ثم قال: وهذا ما قدر، هذا قد كان أمير المؤمنين في أيام إمارته يستحق في أقل من من هذه المدة ما هو أكثر منه بأرزاقه ومعونته، وقد تعلمون ما كان من تقدمه يصرفه في صلات المخنثين والمغنين وأصحاب الملاهي وبناء القصور وغير ذلك، فادعوا الله لأمير المؤمنين. ثم قرأ الكتاب حتى أتى على الكتاب. فلما فرغ كثر الكلام وقالوا قولًا، فقال لهم أبو القاسم: اكتبوا بذلك كتابًا صدروه على مجاري الكتب إلى الخلفاء، واكتبوه عن القواد وخلفائهم والرفاء بالكرخ والدور بسامرا فكتبوا - بعد أن دعوا الله فيه لأمير المؤمنين: إن الذي يسألون، أن ترد الأمور إلى أمير المؤمنين في الخاص والعام، ولا يعترض عليه معترض، وأن ترد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين بالله؛ وهو أن يكون على كل تسعة منهم عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون، ولا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها، وأن يوضع لهم العطاء في كل شهرين على ما لم يزل، وأن تبطل الإقطاعات، وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من شاء ويرفع من شاء. وذكروا أنهم صائرون في أثر كتابهم إلى باب أمير المؤمنين، ومقيمون هناك إلى أن تقضى حوائجهم. وأنه إن بلغهم أن أحدًا اعترض أمير المؤمنين في شئ من الأمور أخذوا رأسه، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا به موسى بن بغا وبايكباك ومفلحًا وياجور وبكالبا وغيرهم. ودعوا الله لأمير المؤمنين ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم، فانصرف به حتى أوصله، وتحرك الموالي بسامرا، واى ضطرب القواد جدًا، وكان المهتدي قعد للمظالم وأدخل الفقهاء والضاة، وأخذوا مجالسهم، وقام القواد في مراتبهم، وسبق دخول أبي القاسم دخول المتظلمين. فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة، وخلا بموسى بن بغا، ثم أمر سليمان بن وهب أن يوقع في رقعتهم بإجابتهم إلى ما سألوا، فلما فعل ذلك في فصل من الكتاب أو فصلين، قال أبو القاسم: يا أمير المؤمنين، لا يقنعهم إلا خط أمير المؤمنين وتوقيعه، فأخذ المهتدي كتابهم فضرب على ما كان سليمان وقع في ذلك، ووقع في كل باب بإجابتهم إلى ما سألوا وبأن يفعل ذلك. ثم كتب كتابًا مفردًا بخطه وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أبي القاسم فقال أبو القاسم لموسى وبايكباك ومحمد بن بغا: وجهوا إليهم معي رسلًا يعتذرون إليهم مما بلغهم عنكم. فوجه كل واحد منهم رجلًا. وصار أبو القاسم إليهم وهم في مواضعهم، وقد صاروا زهاء ألف فارس وثلاثة آلاف راجل؛ وذلك في وقت الظهر من يوم الخميس لخمس ليال خلون من صفر من هذه السنة، فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام، وقال لهم: إن أمير المؤمنين، قد أجابكم إلى كل ما سألتم، فادعوا الله لأمير المؤمنين. ثم دفع كتابهم إلى كاتبهم، فقرأه عليهم بما فيه من التوقيات؛ ثم قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم؛ أرشدكم الله وحاطكم، وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم؛ وعلى أيديكم. فهمت كتابكم، وقرأته على رؤسائكم، فذكروا مثل الذي ذكرتم، وسألوا مثل الذي سألتم، وقد أجبتكم إلى جميع ما سألتم محبة لصلاحكم وألفتكم واجتماع كلمتكم، وقد أمرت بتقرير أرزاقكم، وأن تصير دارة عليكم، فليست لكم حاجة إلى حركة، فطيبوا نفسًا، والسلام أرشدكم الله وحاطكم وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم! فلما فرغ القارئ من الكتاب، قال لهم أبو القاسم: وهؤلاء رسل رؤسائكم يعتذرون إليكم من شئ إن كان بلغكم عنهم، وهو يقولون: إنما أنتم إخوة وأنتم منا وإلينا. وتكلم الرسل بمثل ذلك، فتكلموا أيضًا كلامًا كثيرًا ثم كتبوا كتابًا يعتذرون فيه بمثل العذر الأول إلى أمير المؤمنين، وذكروا فيه خصالًا مما ذكروه في الكتاب الذي قبله، ووصفوا أنه لا يقنعهم إلا أن ينفذ إليهم خمس توقيعات، توقيعًا بحط الزيادات، وتوقيعًا برد الإقطاعات، وتوقيعًا بإخراج الموالي البوابين من الخاصة إلى عداد البرانيين، وتوقيعًا برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين، وتوقيعًا برد التلاجئ حتى يدفعوها إلى رجل يضمون إليه خمسين رجلًا من أهل الدور، وخمسين رجلًا من أهل سامرا يتنجزون من الدواوين، ثم يصير أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته أو غيرهم ممن يرى ليسفر بينه وبينهم بأمورهم، ولا يكون رجلًا من الموالي، وأن يؤمر صالح بن وصيف فيحاسب هو وموسى بن بغا على ما عندهم من الأموال، وأنه لا يرضيهم دون ما سألوا في كتبهم كلها مع تعجيل العطاء، وإدرار أرزاقهم عليهم في كل شهرين، وأنهم قد كتبوا إلى أهل سامرا والمغاربة في موافاتهم، وأنهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين لينجز ذلك لهم، ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم أخي أمير المؤمنين، وكتبوا كتابًا آخر إلى موسى بن بغا وبايكباك ومحمد بن بغا ومفلح وياجور وبكالبا وغيرهم من القواد الذين ذكروا أنهم كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا، وأن أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إلا أن يعترضوا عليه، وأنهم إن فعلوا ذلك وخالفوهم لم يوافقهم على شئ، وأن أمير المؤمنين إن شاكته شوكة أو أخذ من رأسه شعرة، أخذوا رءوسهم جميعًا، وأنه ليس يقنعهم إلا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى ابن بغا، حتى ينظر أين موضع الأموال؛ فإن صالحًا قد كان وعدهم قبل استتاره أن يعطيهم أرزاق ستة أشهر. ثم دفعوا هذا الكتاب إلى رسول موسى، ووجهوا مع أبي القاسم عدة نفر منهم؛ ليوصلوا إلى أميرالمؤمنين كتابهم، وليستمعوا كلامه. فلما رجع أبو القاسم وجه موسى زهاء خمسمائة فارس، فوافقوا على باب الحيربين الجوسق والكرخ، فمال إليهم أبو القاسم ورسل القوم ورسل أنفسهم، فدفع رسول موسى إلى موسى كتاب القوم إليه وإلى أصحابه - وفي الجماعة سليمان بن وهب وولده وأحمد بن محمد بن ثوابة وغيرهم من الكتاب - فلما قرأ الكتاب عليهم أعلمهم أبو القاسم أن معه كتابًا من القوم إلى أمير المؤمنين، ولم يدفعه إليهم. فركبوا جميعًا وانصرفوا إلى المهتدي، فوجدوه في الشمس قاعدًا على لبد، قد صلى المكتوبة؛ وكسر جميع ما كان في القصر من الملاهي وآلاتها وآلات اللعب والهزل، فدخلوا فأوصلوا إليه الكتب، وخلوا مليًا، ثم أمر المهتدي سليمان بن وهب بإنشاء الكتب على ما سألوا في خمس رقاع، فأنفذها المهتدي في درج كتاب منه بخطه، ودفه إلى أخيه، وكتب القواد إليهم جواب كتابهم، ودفعوه إلى صاحب موسى، فصار إليهم أبو القاسم في وقت المغرب، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقرأ عليهم كتابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه، فهمت كتابكم. حاطكم الله، وقد أنفذت إليكم التوقيعات الخمس على ما سألتم، فوكلوا من يتنجزها من الدواوين إن شاء الله، وأما ما سألتم من تصير أمركم إلى أحد إخوتي ليوصل إلى أخباركم، ويؤدي إلى حوائجكم؛ فوالله إني لأحب أن أتفقد ذلك بنفسي، وأن أطلع على كل أمركم وما فيه مصلحتكم، وأنا مختار لكم الرجل الذي سألتم، من إخوتي أو غيرهم إن شاء الله؛ فاكتبوا إلي بحوائجكم وما تعلمون أن فيه صلاحكم؛ فإني صائر من ذلك إلى ما تحبون إن شاء الله، وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه. وأوصل إليهم رسول موسى كتاب موسى وأصحابه؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم، فهمنا كتابكم؛ وإنما أنتم إخواننا وبنو عمنا، ونحن صائرون إلى ما تحبون، وقد أمر أمير المؤمنين أعزه الله في كل ما سألتم بما تحبون وأنفذ التوقيعات به إليكم. وأما ذكرتم من أمر صالح مولى أمير المؤمنين وتغيرنا له فهو الأخ وابن العم، وما أردنا من ذلك ما تكرهون؛ فإن وعدكم أن يعطيكم أرزاق ستة أشهر فقد رفعنا إلى أمير المؤمنين رقاعًا، نسأله مثل الذي سألتم. وأما ما قلتم من ترك الاعتراض على أمير المؤمنين وتفريض الأمر إليه، فنحن سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، والأمور مفوضة إلى الله وهو مولانا ونحن عبيده وما نعترض عليه في شىء من الأمور أصلًا وأما ما ذكرتم أنا نريد بأمير المؤمنين سوءًا، فمن أراد ذلك فجعل الله دائرة السوء عليه، وأخزاه في دنياه وآخرته. أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم! فلما قرأ الكتابات عليهم، قالوا لأبي القاسم: هذا المساء قد أقبل، ننظر في أمرنا الليلة، ونعود بالغداة لنعرفك رأينا، فافترقوا، وانصرف أبو القاسم إلى أمير المؤمنين. ثم أصبح القوم من غداة يوم الجمعة، فلما كان في آخر الساعة الأولى، ركب موسى بن بغا من دار أمير المؤمنين، وركب الناس معه وهم قدر ألف وخمسمائة رجل؛ حتى خرج من باب الحير الذي يلي القطائع من الجوسق والكرخ، فعسكر هناك، وخرج أبو القاسم أخوالمهتدي، ومعه الكرخي، حتى صار إلى القوم، وهم زهاء خمسمائة فارس وثلاثة آلاف راجل؛ وقد كان أبو القاسم انصرف في الليل ومعه التوقيعات؛ فلما صار بينهم أخرج كتابًا من المهتدي نسخته شبيه بالكتاب الذي في درجة التوقيعات. فلما قرأ الكتاب ضجوا، واختلفت أقاويلهم، وكثر من يلحق بهم من رجالة الموالي من ناحية سامرا في الحير فلم يزل أبو القاسم ينتظر أن ينصرف من عندهم بجواب يحصله يؤديه إلى أميرالمؤمنين، فلم يتهيأ ذلك إلى الساعة الرابعة وانصرفوا، فطائفة يقولون: نريد أن يعز الله أمير المؤمنين، وزيوفر علينا أرزاقنا؛ فإنا قد هلكنا بتأخيرها عنا. وطائفة يقولون: لا نرضى حتى يولى علينا أمير المؤمنين إخوانه، فيكون واحدٌ بالكرخ، وآخر بالدور، وآخر بسامرا، ولا نريد أحدًا من الموالي يكون علينا رأسًا. وطائفة تقول: نريد أن يظهر صالح بن وصيف - وهي الأقل. فلما طال الكلام بهذا منهم، انصرف أبو القاسم إلى المهتدى بجملة من الخبر، وبدأ بموسى في الموضع الذي هو معسكر فيه؛ فانصرف بانصرافه، فلما صلى المهتدي الجمعة صيّر الجيش إلى محمد بن بغا، وأمره بالمصير إلى القوم مع أخيه أبي القاسم، فركب معه محمد بن بغا في زهاء خمسمائة فارس، ورجع موسى إلى الموضع الذي كان فيه بالغداة، ومضى أبو القاسم ومحمد بن بغا حتى خالطا الجميع به، فقال أبو القاسم لهم: إن أمير المؤمنين يقول: قد أخرجت التوقعات لكم بجميع ما سألتم، ولم يبق لكم مما تحبون شيء إلا وأمير المؤمنين يبلغ في الغاية؛ وهذا أمان لصالح بن وصيف بالظهور. وقرأ عليهم أمانًا لصالح، بأن موسى وبابكباك سألا أمير المؤمنين أعزه ذلك، فأجابهما إليه، وأكده بغاية التأكيد، ثم قال: فعلام: اجتماعكم! فأكثروا الكلام؛ فكان الذي حصله عند انصرافه أن قالوا: نريد أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير، وصالح في مرتبة وصيف أيام بغا، وبايكباك في مرتبته الأولى، ويكون الجيش في يد من هو في يده؛ إلى أن يظهر صالح بن وصيف، فيوضع لهم العطاء، وتنتجز لهم الأرزاق بما في التوقعات، فقال: نعم. فانصرف القوم، فلما صاروا على قدر خمسمائة ذراع اختلفوا، فقال قوم: قد رضينا، وقال قوم: لم نرض، وانصرف رسل المهتدي إليه: إن القوم قد تفرقوا؛ وهم على أن ينصرفوا، فانصرف موسى عند ذلك، وتفرق الناس إلى مواضعهم من الكرخ والدور وسامرا. فلما كان غداة يوم السبت، ركب ولد وصيف وجماعة من مواليهم وغلمانهم، وتنادى الناس: السلاح! وانتهب دواب العامة الرجالة؛ رجالة أصحاب صالح بن وصيف. ومضوا فعسكروا بسامرا في طرف وادي إسحاق بن إبراهيم، عند مسجد لجين أن ولد المتوكل وركب أبو القاسم عند ذلك يريد دار المهتدي، فمر بهم في طريقه، فتعلقوا به وبمن كان معه من حشمه وغلمانه، فقالوا له: تؤدي إلى أمير المؤمنين عنا رسالة؟ فقال لهم: قولوا، فخلطوا ولم يتحصل من قولهم شيئًا إلا: إنا نريد صالحًا، فمضى حتى أدى إلى أمير المؤمنين ذلك وإلى موسى، وجماعة القواد حضور. فذكر عمن حضر المجلس أن موسى بن بغا، قال: يطلبون صالحًا مني؛ كأني أنا أخفيته وهو عندي! فإن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه. وتأكد عندهم الخبر باجتماع القوم، وتجلب الناس إليهم، وتهايجوا من دار أمير المؤمنين؛ فركبوا في السلاح، وأخذوا في الحير حتى اجتمعوا ما بين الدكة وظهر المسجد الجامع؛ فاتصل الخبر بالأتراك ومن كان ضوى إليهم، فانصرفوا ركضًا وعدوًا لا يلوى فارس على راجل، ولا كبير على صغير حتى دخلوا الدروب والأزقة، ولحقوا بمنازلهم، وزحف موسى وأصحابه جميعًا، فلم يبق بسامرا قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلا ركب معه، ولزموا الحير حتى خرجوا مما يلي الحائطين. ثم خرجوا؛ فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم، ثم عطفوا إلى شارع أبي أحمد، حتى لحقوا بجيش موسى. وأما موسى وجماعة القواد الذين كانوا معه مثل ياجور وساتكين ويارجوخ وعيسى الكرخي، فإنهم سلكوا على سمت شارع أبي أحمد، حتى صاروا إلى الوادي، وانصرفوا إلى الجوسق؛ فكان تقدير الجيش الذين كانوا مع موسى في هذا اليوم - وهو يوم السبت - أربعة آلاف فارس في السلاح والقسي الموترة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات. وكان أكثر القواد الذين كانوا بالكرخ يطلبون صالحًا مع موسى في هذا الجيش يريدون محاربة من يطلب صالحًا. وقد ذكر عن بعض من تخير أمرهم؛ أن أكثر من كان راكبًا مع موسى كان هواه مع صالح، ولم يكن للكرخيين والدوريين في هذا اليوم حركة؛ فلما وصل القوم إلى الجوسق كان أول ما ظهر منهم النداء بأن من لم يحضر دار أمير المؤمنين في غداة يوم الأحد من قواد صالح وأهله وغلمانه وأصحابه أسقط اسمه، وخرب منزله، وضرب وقيد وحذر إلى المطبق؛ ومن وجد بعد ثالثة من هذه الطبقة ظاهرًا بعد استتار، فقد حل به مثل ذلك، ومن أخذ دابة لعامي أو تعرض له في طريق؛ فقد حلت به العقوبة الموجعة. وبات الناس ليلة الأحد لثمان خلون من صفر على ذلك؛ فلما كان غداة يوم الاثنين انتهى إلى المهتدي أن مساورا الشاري صار إلى بلد، فقتل بها وحرق، فنادى في مجلسه بالنفير، وأمر موسى ومفلحًا وبايكباك بالخروج، وأخرج موسى مضاربه؛ فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر بطل أمر موسى ومحمد بن بغا ومفلح في الخروج، وقالوا: لا يبرح أحدٌ منا حتى ينقطع أمرنا وأمر صالح؛ وهم مجمعون على ذلك، يخافون من صالح أن يخلفهم بمكروه. وذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت بعض بني وصيف - وهو الذي كان جمع تلك الجموع - يلعب مع موسى وبايكباك بالصوالجة في ميدان بغا الصغير يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر. ثم جد هؤلاء في طلب صالح بن وصيف، فهجم بسببه على جماعة ممن كان متصلًا به قبل ذلك. وممن اتهموه أنه آواه، منهم إبراهيم بن سعدان النحوي وإبراهيم الطالبي وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر الشيعي وأبو الأحوص بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة وأبو يكر ختن أبي حرملة الحجام وشارية المغنية والسرخسي صاحب شرطة الخاصة وجماعة غيرهم. فذكر عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، قال: حدثني صاحب ربع القبة - وهو ربع تلقاء دار صالح بن وصيف - قال: بينا نحن قعود يوم الأحد، إذا غلام قد خرج من زقاق، وأراه مذعورًا، فأنكرناه، فأردنا مسألته عن شأنه؛ ففاتنا؛ فلم يلبث أن أقبل عيار من موالي صالح بن وصيف يعرف بروزبه، ومعه ثلاثة نفر أو أربعة، فدخلوا الزقاق، فأنكرناهم، فلم يلبثوا أن خرجوا صالح بن وصيف، فسألنا عن الخبر، فإذا الغلام قد دخل دارًا في الزقاق يطلب ماءً ليشربه. فسمع الخبر قائلًا يقول بالفارسية: أيها الأمير تنح، فإن غلامًا قد جاء يطلب ماء؛ فسمع الغلام ذلك، وكان بينه وبين هذا العبار معرفة، فجاء فأخبره، فجمع العيار ثلاثة أناسي، وهم عليه فأخرجه. وذكر عن العيار الذي هجم عليه، أنه قال: قال لي الغلام ما قال، فأقبلت ومعي ثلاثة نفر، فإذا بصالح بن وصيف بيده مرآة ومشط، وهو يسرح لحيته، فلما رآني بادر فدخل بيتًا، فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح، فتلومت ثم نظرت إليه؛ فإذا هو لجأ إلى زاوية، فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على المتضرع شيئًا. قال: فلما تضرع إلي قلت: ليس إلى تركك سبيل؛ ولكني أمر بك على أبواب إخوتك وأصحابك وقوادك وصنائعك؛ فإن اعترض لي منهم اثنان أطلقتك في أيديهم. قال: فأخرجته فما لقيت إلا من هو عوني على مكروهه. فذكر أنه لما أخذ مضى به نحو ميلين، ليس معه إلا أقل من خمسة نفر من أصحاب السلطان. وذكر أنه أخذ حين أخذ، وعليه قميص ومبطنة ملحم وسراويل، وليس على رأسه شيء وهو حاف. وقيل إنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه؛ حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا؛ فلما صاروا به إلى دار موسى بن بغا أتاه بايكباك ومفلح وياجور وساتكين وغيرهم من القواد، ثم أخرجوه من باب الحير الذي يلي قبلة المسجد الجامع؛ ليذهبوا به إلى الجوسق، وهو على بغل بإكاف، فلما صاروا به إلى حد المنارة، ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كان يقذه منها، ثم احتزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى المهتدي؛ فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دمًا، فوصلوا به إليه، وقد قام لصلاة المغرب، فلم يره، فأخرجوه ليصلح، فلما قضى المهتدي صلاته، وخبروه أنهم قتلوا صالحًا، وجاءوا برأسه لم يزدهم على أن قال: واروه؛ وأخذ في تسبيحه. ووصل الخبر إلى منزله، فارتفعت الواعية وباتوا ليلتهم. فلما كان يوم الاثنين لسبع بقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة، وطيف به، ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ونصب بباب العامة ساعة ثم نحي، وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعًا، وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح يوم الاثنين، فدفع إلى أهله ليدفنوه. فذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت مفلحًا وقد نظر إلى رأس بغا، فبكى وقال: قتلني الله إن لم أقتل قاتلك؛ فلما كان يوم الخميس لأربع بقين من صفر، وجه موسى بالرأس إلى أم الفضل ابنة وصيف، وهي امرأة النوشري، وكانت قبله عند سلمة بن خاقان. فذكر عن بعض بني هاشم أنه قال: هنأت موسى بن بغا بقتل صالح فقال: كان عدو أمير المؤمنين استحق القتل. قال: وهنأت بايكباك بذلك؛ فقال: مالي أنا وهذا! إنما كان صالح أخي، فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف. ونلت وترك من فرعون حين طغى ** وجئت إذ جئت يا موسى على قدر ثلاثةٌ باغٍ أخو حسد ** يرميك بالظلم والعدوان عن وتر وصيف بالكرخ ممثول به وبغا ** بالجسر محترقٌ بالجمر والشرر وصالح بن وصيف بعد منعفرٌ ** في الحير جيفته، والروح في سقر وفي مستهل جمادى الأولى من هذه السنة رحل موسى بن بغا وبايكباك إلى مساور، وشيعهم محمد بن الواثق. وفي جمادى الأولى أيضًا منها التقى مساور بن عبد الحميد وعبيدة العمروسي الشاري بالكحيل، وكانا مختلفي الآراء، فظفر مساور بعبيدة فقتله. وفي هذا الشهر من هذه السنة التقى مساور الشاري ومفلح، فحدثت عن مساور، أنه انصرف من الكحيل بعد قتله العمروسي، وقد كلم كثير من أصحابه فلم تندمل كلومهم، ولغبوا من الحرب التي كانت جرت بين الفريقين إلى عسكر موسى ومن ضمه ذلك العسكر وهم حامون، فأوقع بهم؛ فلما يصل إلى ما أراد منهم من الظفر بهم، وكان التقاهم بجبل زيني تعلق هو وأصحابه بالجبل فصاروا إلى ذروته، ثم أوقدوا النيران، وركزوا رماحهم، وعسكر موسى بسفح الجبل ثم هبط مساور وأصحابه من الجبل، من غير الوجه الذي عسكر به موسى، فمضى وموسى وأصحابه يحسبون أنهم فوق الجبل ففاتوهم. ذكر الخبر عن خلع المهتدي ثم موته وفي رجب من هذه السنة لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب. ذكر الخبر عن سبب خلعه ووفاته ذكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة، يطلبون أرزاقهم فوجه إليهم المهتدي طبايغو الرئيس ليهم وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا: نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين مشافهة. وخرج أبو نصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه، وهو بالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم؛ وذلك يوم الأربعاء، فكلمهم المهتدي بكلام كثير وقطع العطاء عن الناس يوم الأربعاء والخميس والناس متوقفون حتى يعرفوا ما يصنع موسى بن بغا، وكان موسى وضع العطاء في عسكره لشهر، وكان على مناجزة الشاري إذا استوى أصحابه، فوقع الاختلاف، ومضى موسى يريد طريق خراسان. واختلف في سبب الاختلاف الذي جرى، فصار من أجله موسى إلى طريق خراسان، والسبب الذي من أجله خرج المهتدي لحرب من حاربه من الأتراك، فقال بعضهم: كان السبب الذي من أجله تنحى عن وجه الشاري وترك حربه وصار إلى طريق خراسان، أن المهتدي استمال بايكباك، وهو مع موسى مقيم في وجه الشاري مساور، وكتب إليه يأمره أن يضم العسكر الذي مع موسى إلى نفسه، وأن يكون هو الأمير عليهم، وأن يقتل موسى بن بغا ومفلحًا، أو يحملهما إليه مقيدين. فلما وصل الكتاب إلى بايكباك، أخذه ومضى به إلى موسى بن بغا، فقال: إني لست أفرح بهذا؛ وإنما هذا تدبير علينا جميعًا، وإذا فعل بك اليوم شئ فعل بي غدًا مثله، فما ترى؟ قال: أرى أن تصير إلى سامرا، فتخبره أنك في طاعته، وناصره لى موسى ومفلح؛ فإنه يطمئن إليك، ثم ندبر في قتله. فقدم بايكباك فدخل على المهتدي، وقد مضوا إلى منازلهم كما قدموا من عند الشاري؛ فأظهر له المهتدي الغضب، وقال: تركت العسكر، وقد أمرتك أن تقتل موسى ومفلحًا، وداهنت في أمرهما! قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لي بهما؟ وكيف يتهيأ لي قتلهما؟ وهما أعظم جيشًا مني، وأعز مني! ولقد جرى بيني وبين مفلح شئ في بعض الأمر؛ فما انتصفت منه؛ ولكني قد قدمت بجيشي وأصحابي ومن أطاعني لأنصرك عليهما، وأقوى أمرك؛ وقد بقى موسى في أقل العدد. قال: ضع سلاحك، وأمر بإدخاله دارًا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا سبيل مثلي إذا قدم من مثل هذا الوجه؛ حتى أصير إلى منزلي، وآمر أصحابي وأهلي بأمري. قال: ليس إلى ذلك سبيل، أحتاج، أحتاج إلى مناظرتك. فأخذ سلاحه، فلما أبطأ خبره على أصحابه سعى فيهم أحمد بن خاقان حاجب بايكباك، فقال: اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث؛ فجاشت الترك، وأحاطوا بالجوسق. فلما رأى ذلك المهتدي وعنده صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور شاوره، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه لم يبلغ أحد من آبائك ما بلغته من الشجاعة والإقدام، وقد كان أبو مسلم أعظم شأنًا عند أهل خراسان من هذا التركي عند أصحابه؛ فما كان إلّا أن طرح رأسه إليهم حتى سكنوا، وقد كان فيهم من يعبده ويتخّذه ربًّا، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا؛ فأنت أشدّ من المنصور إقدامًا، وأشجع قلبًا. فأمر المهتدي الكرخي - واسمه محمد ابن المباشر، وكان حدّادًا بالكرخ يطرق المسامير، فانقطع إلى المهدي ببغداد فوثق به ولزمه - فأمره بضرب عنق بايكباك، فضرب عنقه، والأتراك مصطفون في الجوسق في السلاح، يطلبون بايكباك؛ فأمر المهتدي عتّاب القائد أن يرميهم برأسه فأخذ عتّاب الرأس؛ فرمى به إليهم، فتأخروا وجاشوا، ثم شدّ رجل منهم على عتّاب، فقتله، فوجّه المهتدي إلى الفراعنة والمغاربة والأوكشيّة والأشروسنيّة والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين والسويق، فجاءوا، فكانت بينهم قتلى كثيرة، كثر فيها الناس، فقيل: قتل من الأتراك الذين قتلوا نحو من أربعة آلاف، وقيل ألفان وقيل ألف؛ وذلك يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب من هذه السنة. ثمّ تتامّ القوم يوم الأحد، فاجتمع جميع الأتراك، فصار أمرهم واحدًا، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغيتا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمسمائة؛ مع من جاء مع طوغيتا من الأتراك والعجم، وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي والمصحف في عنقه، يدعوا الناس إلى أن ينصروا خليفتهم. فلما التحم الشرّ مال الأتراك الذين مع الهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفرانة والمغاربة ومن خفّ معه من العامة، فحمل عليهم طوغيتا أخو بايكباك حملة ثائر حرّان موتور، فنقض تعبيتهم، وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولّوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزمًا، والسيف في يده مشهور، وهو ينادي: يا معشر الناس، انصروا خليفتكم؛ حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهي بعد خشبة بابك؛ وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه، ولبس البياض ليعلو دارًا وينزل أخرى ويهرب. فطلب فلم يوجد، وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارسًا يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد، فرمى بسهم وبعج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائسًا حتى صار عليه، فجعلوا يصفونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثي، فأقرّ لهم بستمائة ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خسف الواضحة مغنية، فأخذوا رقعته بستمائة ألف دينار؛ ودفعوه إلى رجل، فوظئ لى خصييه حتى قتله. وقال بعضهم: كان السبب وأوال الخلاف، أن اللاحقين من أولاد الأتراك اجتمعوا، وقالوا: لا نرضى أن يكون علينا رئيس غير أمير المؤمنين، وكتبوا إلى موسى بن بغا وبايكباك؛ وهما في وجه الشاري، فوافى موسى في رجاله حتى صاروا إلى قنطرة في ناحية الوزريرية يوم الجمعة، وعسكر المهتدي في الحير، وقرب منهم، ثم خرج إلى الجوسق، وعليه السلاح؛ فلما كان يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب، دخل بايكباك طائعًا، ومضى موسى إلى ناحية طريق خراسان في نحو من ألفي رجل، وجاء المهتدي في رجل من الموالي، فقال له: إن بايكباك قد وعد موسى أن يفتك بك في الجوسق، فأخذ المهتدي بايكباك، وأمر بنزع سلاحه وحبسه، فحبس يوم السبت إلى وقت العصر، ثم خرج أهل الكرخ وأهل الدور يطلبونه، وانصرفوا وبكروا يوم الأحد، فلم يتخلف منهم أحد إلا حضر راكبًا وراجلًا في السلاح، فلما صاروا إلى الجوسق، صلى المهتدي الظهر، وخرج إليهم في الفراعنة والمغاربة، فتطارد لهم الأتراك، فحملوا عليهم، فلما تبعوهم خرج كمين لهم، فقتل الفراعنة والمغاربة جماعة كبيرة، وهرب المهتدي، ومر على باب أبي الوزير وغلام له يصيح: يا معشر الناس، هذا خليفتكم، وتراكض الأتراك خلفه، فدخل دار أحمد بن جميل، وتسلق المهتدي من دار إلى دار، وأحدق الأتراك بتلك الناحية كلها، فأخرجوه من دار غلام لعبد الله بن عمر البازيار، وحملوه وبه طعنة في خاصرته على برذون أعجف، في قميص وسراويل، وانتهبوا دار الكرخي ودور بني ثوابة وجماعة من الناس؛ فلما كان يوم الاثنين حمل أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان إلى دار يارجوج، والأتراك يدورون في الشوارع، ويحمدون العامة إذ لم يتعرضوا لهم. وقال آخرون: بل كان السبب في ذلك: أن أهل دور سامرا والكرخ تحركوا في يوم الاثنين خلت من رجب من هذه السنة، واجتمعوا بالكرخ وفوقها، فوجه المهتدي إليهم كيغلغ وطبايغو بن صول أرتكين وعبد الله أخا نفسه، فلم يزالوا بهم حتى سكنوا ورجعوا إلى الدار، وبلغ أنا نصر محمد بن بغا الكبير أن المهتدي قد تكلم فيه وفي أخيه موسى، وقال للمواي: إن الأموال عندهم، فتخوفه وإياهم، فهرب في ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب، فكتب إليه المهتدي أربعة كتب يعطيه فهيا الأمان على نفسه ومن معه، ووصل كتابان إليه وهو بالمحمدية مع أبرتكين بن برنماتكين، ووصل الآخرونإليه مع فرج الصغير، فرثق بذلك، فرجع حتى دخل الدار هو وأخوه حبشون وبكالبا، فحبسوا وحبس معهم كيغلغ، فأفرد أبو نصر عنهم؛ فطلب منه المال، فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب، ورمى به في بئر من آبار القناة، وأخرج من البئر يوم الاثنين للنصف من رجب ومضى به إلى منزله وقد أراح، فأشترى له ثلثمائة مثقال مسك وستمائة مثقال كافور، وصيرّ عليه فلم تنقطع الرائحة، وصلى عليه الحسن بن المأمون، وكتب المهتدي إلى موسى بن بغا عند حبسه أبا نصر يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والإقبال إلى سامرا في مواليه، وكتب إلى بايكباك في تسلم العسكر والقيام بقتال الشاري، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه، فاجتمعوا على الانصراف إلى سامرا، وبلغ المهتدي ذلك، وأنهم على خلافه، فجمع الموالي، فحضهم على الطاعة، وأمرهم بلزومه في الدار وترك الإخلال به، وأجرى على كل رجل من الأتراك ومن يجري مجراهم في كل يوم درهمين، وعلى كل رجل من المغاربة درهمًا. فاجتمع له من الفريقين وأخذانهم زهاء خمسة عشر ألف إنسان، منهم من الأتراك بالكاملي في الجوسق وغيره من المقاصير. وكان القيم بأمر الدار بعد حبس كيغلغ مسرور البلخي والرئيس من القواد طبايغو، والقيم بحبس من هؤلاء عبد الله بن تكين. وبلغ موسى ومفلحًا وبايكباك حبس أبي نصر وحبشون ومن حبس، فأخذوا حذرهم. وجرت الرسل والكتب بينهم وبين المهتدي يوم الخميس، وخرج المهتدي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب بجمعه متوقعًا ورود القوم عليه؛ فلم يأت أحد، فلما كان يوم الجمعة لاثني عشرة خلت من رجب صح الخبر بأن موسى قد عرج عن طريق سامرا إلى ناحية الجبل مع مفلح، ودخل يوم السبت بايكباك ويارجوج وأسكاتين وعلى بن بارس وسيما الطويل وخطارمش إلى الدار، فحبس بايكباك وأحمد بن خاقان خليفته، وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيره من الأتراك، وقالوا: لم يحبس قائدنا؟ ولم قتل أبو نصر؟ فخرج إليهم المهتدي يوم السبت - ولم يكن بينهم حرب - فرجع وخرج يوم الأحد وقد اجتمعوا له، وجمع هو المغاربة والأتراك البرانيين والفراعنة فصير على الميمنة مسرورًا البلخي، وعلى الميسرة يارجوج، والمهتدي في القلب مع أسكاتين وطبايغوا وغيرهما من القواد. فلما اجتمعت الشمس، قرب القوم بضهم من بعض، وهاجت الحرب، وطلبوا بايكباك، فرمى إليهم المهتدي برأسه - وكان عتاب بن عتاب أخرجه من بركة قبائه - فلما رأوه شد أخوه طغوتيا في جماعة من خاصته على جمع المهتدي، وعطف الميمنة والميسرة من عسكر المهتدي، فصاروا معهم، وانهزم الباقون عن المهتدي، وقتل جماعة من الفريقين. فذكر عن حبشون بن بغا، أنه قال: قتل سبعمائة وثمانون إنسانًا، وتفرق الناس، ودخل المهتدي الدار، فأغلق الباب الذي دخل منه، وخرج من باب المصاف حتى خرج من الباب المعروف بإيتاخ، ثم إلى سويقة مسرور، ثم درب الواث؛ حتى خرج إلى باب العامة، وهو ينادي: يا مشر الناس، أنا أمير المؤمنين؛ قاتلوا عن خليفتكم. فلم تجبه العامة إلى ذلك، وهو يمر في الشار وينادي، فلم يرهم وينصرونه، فصار إلى باب السجن، فأطلق من فيه، وهو يظن أنهم يعينونه، فلم يكن منهم إلا الهرب، ولم يجبه أحد، فلما لم يجيبوه، صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وفيه أحمد بن جميل صاحب الشرطة نازل فدخل عليه، فأخرج من ناحية ديوان الضياع، ثم صير به إلى الجوسق، فحبس فيه عند أحمد بن خاقان، وانتهب دار أحمد ابن جميل. وكان ممن قتل في المعركة من قواد المغاربة نصر بن أحمد الزبيري، ومن قواد الشاكرية عتاب بن عتاب حين جاء برأس بايكباك إليهم، وقتل المهتدي - فيما قيل - في الوقة عدة كثيرة بيده، ثم جرى بينهم وبينه بعد أن حبس كلام شديد، وأراده على الخل فأبى، واستسلم للقتل، فقالوا: إنه كان كتب رقعة بيده لموسى بن بغا وبايكباك وجماعة من القواد؛ أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم، ولا يفتك بهم بذلك، وأنه متى فعل ذلك بهم أو بأحد منهم ووقفوا عليه فهم في حل من بيعته، والأمر إليهم يقعدون من شاءوا. فاستحلوا بذلك نقض أمره. وقد كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة، فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من رجب، وسمي المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدي محمد بن الواثق، وأنه سليم ليس به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة؛ إحداهما من سهم والأخرى من ضربة، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد وعدة من إخوة أمير المؤمنين، ودفن في مقبرة المنتصر، ودخل موسى بن بغا ومفلح سامرا يوم السبت لشر بقين من رجب، فسلم لى المعتمد فخلع عليه، وصار إلى منزله وسكن الناس. وقال بضهم - وذكر أنه كان شاهدًا أمرهم: لما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من رجب ثار أهل الكرخ والدور جميعًا، فاجتمعوا، وكان المهتدي يوجه إليهم إذا تحركوا أخاه عبد الله، فوجه إليهم في هذا اليوم عبد الله أخاه كما كان يوجهه، فصار إليهم؛ فوجدهم قد أقبلوا يريدون الجوسق، فكلمهم، وضمن لهم القيام بحوائجهم، فأبوا وقالوا: لا نرج حتى نصير إلى أمير المؤمنين ونشكو إليه قصتنا. فانصرف منهم عبد الله، وفي الدار في هذا الوقت أبو نصر محمد بن بغا وحبشون وكيغلغ ومسرور البلخي وجماعة، فلما أدى عبد الله إلى المهتدي ما دار بينه وبينهم، أمره بالرجوع إليهم، وأن يأتي بجماعة منهم فيوصلهم إليه، فخرج فتلقاهم قريبًا من الجوسق، فأدارهم على أن يقفوا بموضعهم، ويوجهوا معه جماعة منهم فأبوا، فلما تناهى الخبر إلى أبي نصر ومن كان معه في الدار بأن جمعهم قد أقبل، خرجوا جميعًا من الدار مما يلي النزالة، فلم يبق في الدار إلا مسرور البلخي وألطون خليفة كيغلغ، ومن الكتاب عيسى بن فرخانشاه، ودخل الموالي مما يلي القصر الأحمر، فمثلوا الدار زهاء أربة آلاف، فصاروا إلى المهتدي، فشكوا إليه حالهم. وكان اعتمادهم في مسألتهم أن يعزل عنهم أمراءهم، ويصم أمورهم إلى إخوة أمير المؤمنين، وأن يؤخذ الأمراء والكتاب بالخروج مما اختانوه من أموال السلطان؛ وذكروا أن قدره خمسون ومائة ألف ألف. فوعدهم النظر في أمرهم وإجابتهم إلى ما سألوا، فأقاموا يومهم ذلك في الدار، فوجه المهتدي محمد ابن مباشر الكرخي، فاشترى لهم الأسوقة، ومضى أبو نصر بن بغا من فوره ذلك؛ حتى عسكر في الحير بالقرب من موضع الحلبة، فلحق به زهاء خمسمائة رجل، ثم تفرقوا عنه في ليلتهم، فلم يبق إلا في أقل من مائة، ومضى فصار إلى المحمدية، وأصبح الموالي في غداة يوم الأربعاء يطالبون بما كانوا يطالبون به أولًا، فقيل لهم: إن هذا الأمر الذي تريدونه أمر صعب، وإخراج الأمر عن أيدي هؤلاء الأمراء ليس بسهل عليكم؛ فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذهم بالأموال! فانظروا في أموركم؛ فإن كنتم تصبرون على هذا الأمر حتى يبلغ منه غايته أجابكم إليه أمير المؤمنين، وإن تكن الأخرى فإن أمير المؤمنين يحسن لكم النظر، فأبوا إلا ما سألوه أولًا فدعوا إلى أيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول، ولا يرجعوا عنه، وأن يقاتلوا من قاتلهم فيه، وينصحوا لأمير المؤمنين ويوالوه، فأجابوه إلى ذلك، فأخذت عليهم أيمان البيعة، فبايع في ذلك اليوم زهاء ألف رجل وعيسى بن فرخانشاه الذي تجري على يده الأمور، ومقامه مام الوزير، ثم كتبوا إلى أبي نصر كتابًا عن أنفسهم؛ كتبه لهم عيسى بن فرخانشاه، يذكرون فيه إنكارهم خروجه من الدار عن غير سبب، وأنهم إنما قصدوا أمير المؤمنين ليشكوا إليه حاجتهم، وأنهم لما وجدوا الدار فارغة أقاموا فيها، وأنهم إذا عاد ردوه إلى حاله، ولم يهيجوه. وكتب عيسى عن الخليفة بمثل ذلك إليه، فأقبل من المحمدية بين العصر والعشاء، فدخل الدار، ومعه أخوه حبشون وكيغلغ وبكالبا وجماعة منهم؛ فقام الموالي في وجوههم معهم السلاح، وقد المهتدي، فوصل إليه أبو نصر ومن معه، فسلم عليه، ودنا فقبل يد المهتدي ورجله والبساط، وتأخر فخاطبه المهتدي بأن قال له: يا محمد: ما عندك فيما يقول الموالي؟ وما يولون؟ قال: يذكرون أنكم احتجنتم الأموال، واستبددتم بالأعمال، فما تنظرون في شيء من أمورهم، ولا فيما عاد لمصلحتهم، فقال محمد: يا أمير المؤمننين؛ وما أنا والأموال! ما كنت كاتب ديوان، ولا جرت على يدي أعمال. فقال له: فأين هي الأموال؟ وهل هي إلا عندك وعند أخيك، وكتابكم وأصحابكم! ودنا الموالي، فتقدم عبد الله بن تكين وجماة من هم، فأخذوا بيد أبي نصر وقالوا: هذا عدو أمير المؤمنين، يقوم بين يديه بسيفٍ، فأخذوا سيفه، ودخل غلام لأبي نصر كان حاضرًا يقال له ثيتل، فسل سيفه، وخطا ليمنعهم من أبي نصر، وكانت حظوته تلي الخليفة، فسبقه عبد الله بن تكين، فضرب رأسه بالسيف، فما بقي في الدار أحدٌ إلا سل سيفه، وقام المهتدي، فدخل بيتًا كان بقربه، وأخذ محمد بن بغا، فأدخل حجرة في الدار، وحبس أصحابه الباقون، وأراد القوم قتل الغلام، فمنعهم المهتدي، وقال: إن لي في ذها نظرًا. ثم أمر فأعطي قميصًا من الخزانة، وأمر بغسل رأسه من الدم، وحبس. فأصبح الناس يوم الأربعاء وقد كثروا، والبيعة تؤخذ، ثم أمر عبد الله بن الواثق بالخروج إلى الرفيف في ألف رجل من الشاكرية والفراغنة وغيرهم؛ وكان ممن أمر بالخروج من قواد خراسان محمد بن يحيى الواثقي وعتاب بن عتاب وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر وإبراهيم أخو أبي عون ويحيى بن محمد داود ولد نصر بن شيث وعبد الرحمن بن دينار وأحمد بن فريدون وغيرهم. ثم إن عبد الله بن الواثق بلغه عن هؤلاء القواد أنهم يقولون: إنه ليس بصواب شخوصهم إلى تلك الناحية، فترك الخروج إليها. ثم إنهم أراوا أن يكتبوا إلى موسى ومفلح بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القواد، فأجمعوا على أن يكتبوا إليهما بذلك كتابًا، وكتبا إلى بعض القواد في تسليم العسكر منهما، وكتبا إلى الصغار بما سأل أصحابهم بسامرا، وما أجيبوا إليه، وأمر بنسخ الكتب التي كتبت إلى القواد، وأن ينظروا؛ فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمرا بتسليمه إليه. وإلا شدوهما وثاقًا، وحملوهما إلى الباب، ووجهوا هذه الكتب مع ثلاثين رجلًا منهم، فشخصوا عن سامرا ليلة الجمعة لخمس خلون من رجب من هذه السنة، وأجري على من أخذت عليه البيعة في الدار على كل رجل منهم في اليوم درهمان، فكان المتولى لفرقة ذلك عليهم عبد الله بن تكين، وهو خال ولد كنجور. ولما تناهى الخبر إلى موسى وأصحابه اتهم كنجور، وأمر بحبسه بعد أن ناله بالضرب، وموسى حينئذ بالسن، ولما انتهى الخبر إلى بايكباك وهو بالحديثة أقبل إلى السن، فاستخرج كنجور من الحبس، واجتمع العسكر بالسن، ووصل إليهم الرسل، وأوصلوا الكتب، وقرءوا بعضها على أهل العسكر، وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم، فارتحلوا حتى نزلوا قنطرة الرفيف يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب؛ وخرج المهتدي في هذا اليوم إلى الحير، وعرض الناس، وسار قليلًا، ثم عاد وأمر أن تخرج الخيام والمضارب فتضرب في الحير، وأصبح الناس يوم الجمعة، وقد انصرف من عسكر موسى زهاء ألف رجل؛ منهم كوتكين وحشنج. ثم خرج المهتدي إلى الحير، ثم صير ميمنته عليها كوتكين، وميسرته عليها حشنج، وصار هو في القلب، ثم رجع الرسل تختلف بين العسكرين. والذي يريد موسى بن بغا أن يولى ناحية ينصرف إليها، والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم؛ فلم يتهيأ بينهم في ذلك اليوم شيء. فلما كان ليلة السبت، انصرف من أراد الانصراف عن موسى، ورجع موسى ومفلح يريدان طريق خراسان في زهاء ألف رجل، ومضى بايكباك وجماعة من قواده في ليلتهم مع عيسى الكرخي، فباتوا معه، ثم أصبحوا يوم السبت، وأقبل بايكباك ومن معه حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم بايكباك ويارجوخ وأساتكين وأحمد بن خاقان وخطارمش وغيرهم. فوصلوا جميعًا إلى المهتدي، فسلموا، فأمروا بالانصراف إلا بايكباك؛ فإن المهتدي أمر أن يوقف بين يديه، ثم أقبل يعدد عليه ذنوبه، وما ركب من أمر المسلمين والإسلام. ثم إن الموالى اعترضوه، فأدخلوا حجرة في الدار، وأغلقوا ليه الباب، ثم لم يلبث إلا قدر خمس ساعات حتى قتل يوم السبت من الزوال. واستوى الأمر، فلم تكن حركة، ولا تكلم أحد إلا نفر يسير أنكروا أمر بايكباك، ولم يظهروا كل الجزع. فلما كان يوم الأحد، أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار ودخولهم معهم، ووضح عندهم أن التدبير إنما جرى في قتل رؤسائهم حتى يقدم عليهم الفراغنة والمغاربة، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة والمغاربة، وأنكر الأتراك بناحية الكرخ ذلك، وأضافوا إليه طلب بايكباك لاجتماع أصحاب بايكباك معهم، فأدخل المهتدي إليه جماعة من الفراعنة وأخبرهم بما أنكره الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تعلمون أنكم تقومون بهم؛ فما يكره أمير المؤمنين قربكم؛ وإن كنتم بأنفسكم تظنون عجزًا عنهم أرضيناهم بالمصير إلى محبتهم من قبل تفاقم الأمر. فذكر الفراعنة أنهم يقومون بهم ويقهرونهم، إذا اجتمعت كلمتهم وكلمة المغاربة، وعددوا أشياء كثيرة من تقديمهم عليهم، وأرادوا المهتدي لى الخروج إليهم، فلم يزل كذلك إلى الظهر، ثم ركب وأكثر الفرسان الفراعنة وأكثر الرجالة المغاربة، ووجه إليهم وهم بين الكرخ والقطائع والأتراك زهاء عشرة آلاف، وهم في ستة آلاف لم يكن معهم من الأتراك إلا أقل من ألف، وهم أصحاب صالح ابن وصيف وجماعة مع يارجوخ. فلما التقى الزحفان، انحاز يارجوخ بمن معه من الأتراك، وانهزم أصحاب صالح بن وصيف، فرجوا إلى منازلهم وخرج طاشتمر من خلف الدكة، وكانوا جعلوا كمينًا، وتصادم القوم، فكانت الحرب بينهم ساعة من النهار، ضربًا وطعنًا ورميًا. ثم وقت الهزيمة على أصحاب المهتدي، فثبت وأقبل يدعوهم إلى نفسه، ويقاتل حتى يئس من رجوعهم، ثم انهزم وبيده سيف مشطب، وعليه درع وقباء، ظاهر به حرير أبيض معين، فمضى حتى صار إلى موضع خشبة بابك، وهو يحث الناس على مجاهدة القوم ونصرته؛ فلم يتبعه أحد إلا جماعة من العيارين؛ فلما صاروا إلى باب السجن تعلقوا بلجامه، وسألوه إطلاق من في السجن، فانصرف بوجهه عنهم؛ فلم يتركوه حتى أمر بإطلاقهم، فانصرفوا عنه، واشتغلوا بباب السجن، وبقي وحده، فمر حتى صار إلى موضع دار أبي صالح بن يزداد، وفيهما أحمد بن جميل، فدخل الدار وأغلقت الأبواب، فنزع ثيابه وسلاحه، وكانت به طنة في وركه، فطلب قميصًا وسراويل، فأعطاه محمد بن جميل، وغسل الدم عن نفسه، وشرب ماء وصلى، فأقبل جماعة من الأتراك مع يارجوخ نحو من ثلاثين رجلًا؛ حتى صاروا إلى دار أبي صالح، فضربوا الباب حتى دخلوها، فلما أحس بهم أخذ السيف وسعى؛ فصد على درجة في الدار، ودخل القوم؛ وقد علا السطح، فأراد بعضهم الصعود لأخذه، فضربه بالسيف فأخطأه، وسقط الرجل عن الدراجة، فرموه بالنشاب، فوقعت نشابة في صدره، فجرحته جراحة خفيفة، وعلم أنه الموت؛ فأعطى بيده، ونزل فرمى بسيفه فأخذوه، فجعلوه على دابة بين يدي أحدهم، وسلكوا الطريق الذي جاء منه، حتى صيروه إلى دار يارجوخ في القطائع، وأنهبوا الجوسق، فلم يبق شئ، وأخرجوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان - وكان محبوسًا في الجوسق - وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم، فأقام المهتدي عندهم لم يحدثوا في أمره شيئًا، فلما كان يوم الثلاثاء بايعوا أحمد بن المتوكل في القطائع، وصاروا به يوم الأربعاء إلى الجوسق فبايعه الهاشميون والخاصة، وأرادوا المهتدي على الخلع في هذه الأيام، فأبى ولم يحبهم، ومات يوم الأربعاء، وأظهروه يوم الخميس لجماعة الهاشميين والخاصة، فكشفوا عن وجهه وغسلوه، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين. وقدم موسى بن بغا يوم السبت لعشر بقين من رجب وركب أحمد بن فتيان إلى دار العامة يوم الاثنين لثمان بقين من رجب، فبايعوه بيعة العامة. فذكر عن محمد بن عيسى القرشي أنه قال: لما صار المهتدي في أيديهم أبى أن يخل نفسه، فخلعوا أصابع يديه ورجليه من كفيه وقدميه، حتى ورمت كفاه وقدماه، وفعلوا به غير شيء حتى مات. وقد ذكر في سبب قتل أبي نصر محمد بن بغا أنه كان خرج من سامرا يريد أخاه موسى، فوجه إليه المهتدي أخاه عبد الله في جماعة من المغاربة والفراغنة، فلحقوه بالرفيف، فجىء به فحبس، وكان قد دخل على المهتدي مسلمًا قبل خلافهم، فقال له: يا محمد؛ إنما قدم أخوك موسى في جيشه وعبيده حتى يقتل صالح بن وصيف ويتصرف، قال: يا أمير المؤمنين؛ أيذك بالله! موسى عبدك وفي طاتك؛ وهو مع هذا في وجه عدو كلب، قال: قد كان صالح أنفع لنا منه؛ وأحسن سياسة للملك، وهذا العلوي قد رجع إلى الري، قال: وما حيلته يا أمير المؤمنين؟ قد هزمه وقتل أصحابه وشرد به كل مشرد، فلما انصرف عاد، وهذا فعله أبدًا؛ اللهم إلا أن تأمره بالمقام بالري دهره. قال: دع هذا علتك، فإن أخاك ما صنع شيئًا أكثر من أخذ الأموال واحتجانها لنفسه. فأغلظ له أبو نصر، وقال: ينظر فيما صار إليه وإلى أهل بيته وليت الخلافة فيرد، وينظر ما صار إليك وإلى إخوتك فيرد، فأمر به فأخذ وضرب وحبس، وانتهبت داره ودار ابن ثوابة، ثم أباح دم الحسن بن مخلد وابن ثوابة وسليمان بن وهب القطان كاتب مفلح، فهربوا فانتهبت دورهم. ثم جاء المهتدي بالفراعنة والأشروسنية والطبرية والديالمة والإشتاخنية ومن بقي من أتراك الكرخ وولد وصيف، فسألهم النصرة على موسى ومفلح، وضرب بينهم، وقال: قد أخذوا الأموال واستأثروا بالفئ، وأنا أخاف أن يقتلوني، وإن نصرتموني أعطيتكم جميع ما فاتكم، وزدتكم في أرزاقكم. فأجابوه إلى نصره والخلاف على موسى وأصحابه، ولزموا الجوسق، وبايعوه بيعة جديدة وأمر بالسويق والسكر فاشترى لهم، وأجرى على كل رجل منهم كل يوم درهمين، وأطعموا في بض أيامهم الخبز واللحم. وتولى أمر جيشه أحمد بن وصيف وعبد الله بن بغا الشرابي والتفت، معهم بنو هاشم، وجعل يركب في بني هاشم، ويدور في الأسواق، ويسأل الناس النصرة، ويقول: هؤلاء الفساق يقتلون الخلفاء، ويثبون على مواليهم، وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه. وتكلم صالح بن يعقوب بن المنصور وغيره من بني هاشم، ثم كتب بعد إلى بايكباك يأمره أن يضم الجيش كله إليه، وأنه الأمير على الجيش أجمع، ويأمره بأخذ موسى ومفلح. ولما هلك المهتدي طلبوا أبا نصر بن بغا، وهم يظنون أنه حي، فدلوا على موضعه، فنبش فوجدوه مذبوحًا، فحمل إلى أهله، وحملت جثة بايكباك فدفنت. وكسرت الأتراك على قبر محمد بن بغا ألف سيف، وكذلك يفعلون بالسيد منهم إذا مات. وقيل إن المهتدي لما أبى أن يخلعها، أمروا من عصر خصيته حتى مات؛ وقيل: إن المهتدي لما احتضر قال: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ** وقد حيل بين العير والنزوان وقيل إن محمد بن بغا لم يحدثوا في أمره يوم حبس شيئًا، وطالبوه بالأموال، فدفع إليهم نيفًا وعشرين ألف دينار، ثم قتلوه بعد؛ يعجبوا بطنه، وعصروا حلقه، وألقي في بئر من القناة، فلم يزل هنالك حتى أخرجه الموالي بعد أسرهم المهتدي بيوم، فدفن. وكانت خلافة المهتدي كلها إلى أن انقضى أمره أحد عشر شهرًا وخمسة وعشرين يومًا، وعمره ثمان وثلاثون سنة. وكان رحب الجبهة، أجلح، جهم الوجه، أشهل، عظيم البطن، عريض المنكبين، قصيرًا، طويل اللحية. وكان ولد بالقاطول. ذكر أخبار صاحب الزنج مع جعلان وفي هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج. ذكر الخبر عما كان في أمرهما هنالك ذكر أن جعلان لما صار إلى البصرة زحف بعسكره منها، حتى صار بينه وبين عسكر صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه ومن معه، فأقام ستة أشهر في خندقه، فوجه الزيني وبريه وبنو هاشم ومن خف لحرب الخبيث من أهل البصرة في اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه، فلما التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولم يجد جعلان إلى لقائه سبيلًا لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل عن مجال الخيل، وأصحابه أكثرهم فرسان. فذكر عن محمد بن الحسن أن صاحب الزنج قال: لما طال مقام جعلان في خندقه، رأيت أن أخفي له من أصحابي جماعة يأخذون عليه مسالك الخندق، ويبيتونه فيه، ففعل ذلك، وبيته في خندقه، فقتل جماة من رجاله، وريع الباقون روعًا شديدًا. فترك جعلان عشكره ذلك، وانصرف إلى البصرة؛ وقد كان الزيني قبل بيات الخبيث جعلان جمع مقاتلة البلالية والسعدية، ثم وجه لهم من ناحية نهر نافذ وناحية هزاردر، فواقعوه من وجهين، ولقيهم الزنج، فلم يثبتوا لهم، وقهرهم الزنج، فقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، وانصرفوا مفلولين، وانحاز جعلان إلى البصرة، فأقام بها وظهر عجزه للسلطان. وفيها صرف جعلان عن حرب الخبيث، وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إليها لحربه. وفيها تحول صاحب الزنج من السبخة التي كان ينزلها إلى الجانب الغربي من النهر المعروف بأبي الخصيب. وفيها أخذ صاحب الزنج - فيما ذكر - أربعة وعشرين مركبًا من مراكب البحر، كانت اجتمعت تريد البصرة، فلما انتهى إلى أصحابها خبره وخبر من معه من الزنج وقطعهم السبيل، اجتمعت آراؤهم على أن يشدوا مراكبهم بعضها إلى بعض؛ حتى تصير كالجزيرة، يتصل أولها بآخرها، ثم يسيروا بها في دجلة. فاتصل به خبرها، فندب إليها أصحابه، وحرضهم عليها، وقال لهم: هذه الغنيمة الباردة. قال أبو الحسن: فسمعت صاحب الزنج يقول: لما بلغني قرب المراكب مني نهضت للصلاة، وأخذت في الدعاء والتضرع، فخوطبت بأن قيل لي: قد أطلك فتح عظيم، والتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب، فنهض أصحابي إليها في الجريبيات؛ فلم يلبثوا أن حووها وقتلوا مقاتلتها، وسبوا ما فيها من الرقيق، وغنموا منها أموالًا ظامًا لا تحصى ولا يعرف قدرها، فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيام، ثم أمر بما بقي فحيز له. ذكر الخبر عن دخول الزنج الأبلة ولخمس بقين من رجب من هذه السنة، دخل الزنج الأبُلّة، فقتلوا بها خلقًا كثيرًا وأحرقوها. ذكر الخبر عنها وعن سبب الوصول إليها ذكر أن صاحب الزنج لما تنحى جعلان عن خندقه بشاطئ عثمان الذي كان فيه، وانحاز إلى البصرة ألح بالسرايا على أهل الأبله، فجعل يحاربهم من ناحية شاطئ عثمان بالرجالة، وبما خف له من السفن من ناحية دجلة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل. فذكر عن صاحب الزنج، أنه قال: ميلت بين عبادان والأبلة، فملت إلى التوجه إلى عبادان، وندبت الرجالة لذلك، فقيل لي: إن أقرب العدو دارًا، وأولاه بألا تتشاغل بغيره عنه أهل الأبلة، فرددت الجيش الذي كنت سيرت نحو عبادان إلى الأبلة. فلم يزالوا يحاربون أهل الأبلة إلى ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب سنة وست وخمسين ومائتين. فلما كان في هذه الليلة اقتحمها الزنج مما يلي دجلة ونهر الأبلة، فقتل بها أبو الأحوص وابنه، وأضرمت نارًا، وكانت مبنية بالساج محفوفة بناء متكاثفًا. فأسرعت فيها النار، ونشأت ريحٌ عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق حتى وصلت بشاطئ عثمان، فاحترق. وقتل بالأبلة خلقٌ كثير، وغرق خلق كثير، وحويت الأسلاب، فكان ما احترق من الأمتعة أكثر مما انتهب. وقتل في هذه الليلة عبد الله بن حميد الطوسي وابنٌ له؛ كانا في شذاة بنهر معقل مع نصير المعروف بأبي حمزة. ذكر خبر استيلاء صاحب الزنج على عبادان وفيها استسلم أهل عبادان لصاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم. ذكر الخبر عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك ذكر أن السبب في ذلك أن الخبيث لما فل أصحابه من الزنج بأهل الأبلة ما فعلوا، ضعفت قلوبهم وخافوهم على أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم، فدخلها أصحابه، فأخذوا من كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح إليه؛ ففرقه عليهم. ذكر خبر دخول أصحاب صاحب الزنج الأهواز وفيها دخل أصحابه الأهواز وأسروا إبراهيم بن المدير. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكان الخبيث لما أوقع أصحابه بالأبلة، وفعلوا بها ما فعلوا، واستسلم له أهل عبادان، فأخذ مماليكهم، فضمهم إلى أصحابه من الزنج، وفرق بينهم ما أخذ من السلاح الذي كان بها، طمع في الأهواز، فاستنهض أصحابه نحو جبى، فلم يلبث لهم أهلها، وهربوا منهم، فدخلوا فقتلوا وأحرقوا، ونهبوا وأخربوا ما وراءها؛ حتى وافوا الأهواز، وبها يومئذ سعيد بن يكسين والٍ وإليه حربها، وإبراهيم بن محمد بن المدبر وإليه الخراج والضياع؛ فهرب الناس منهم أيضًا فلم يقاتلهم كثير أحد، وانحاز سعيد ابن تكسين فيمن كان معه من الجند، وثبت إبراهيم بن المدبر فيمن كان معه من غلمانه وخدمه فدخلوا المدينة، فاحتووها، وأسروا إبراهيم بن محمد بعد أن ضرب ضربة على وجهه، وحووا كل ما كان يملك من مال وأثاث ورقيق؛ وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشلاة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين. ولما كان من أمره ما كان بالأهواز بعد الذي كان منه بالأبلة، رعب أهل البصرة رعبًا شديدًا، فانتقل كثير من أهلها عنها، وتفرقوا في بلدان شتى، وكثرت الأراجيف من عوامها. وفي ذي الحجة من هذه السنة وجه صاحب الزنج إلى شاهين بن بسطام جيشًا عليهم يحيى بن محمد البحراني لحربه؛ فلم ينل يحيى من شاهين ما أمل وانصرف عنه. وفي رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح المعروف بالحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج. وفيها كانت بين موسى بن بغا الذين كان توجهوا معه إلى ناحية الجبل مخالفين لمحمد بن الواثق وبين مساور بن عبد الحميد الشاري وقعة بناحية خانقين ومساور في جمع كثير وموسى وأصحابه في مائتين، فهزموا مساورًا وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة. خلافة المعتمد على الله وفيها بويع أحمد بن أبي جعفر المعروف بابن فتيان، وسمى المعتمد على الله، وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب. وفيها بعث إلى موسى بن بغا وهو بخانقين بموت محمد بن الواثق وبيعة المعتمد، فوافى سامرا لعشر بقين من رجب. وفيها بعث إلى موسى بن بغا وهو بخانقين بموت محمد بن الواثق وبيعة المعتمد، فوافى سامرا لعشر بقين من رجب. ولليلتين خلتا من شعبان، ولي الوزارة عبيد الله بن يحيى بن خاقان. وفيها ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فوجه إليه الشاه بن ميكال في عسكر كثيف، فلقيه علي بن زيد في أصحابه، فهزمه وقتل جماعة كثيرة من أصحابه، ونجا الشاه. وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي؛ وهو من أهل فارس، ورجلٌ من أكرادها يقال له أحمد بن الليث بالحرث بن سيما الشرابي عامل فارس، فحارباه، فقتل الحارث، وغلب محمد بن واصل على فارس. وفيها وجه مفلح لحرب مساور الشاري وكنجور لحرب علي بن زيد الطالبي بالكوفة. وفيها غلب جيش الحسن بن زيد الطالبي على الري، في شهر رمضان منها. وفيها شخص موسى بن بغا - لإحدى عشرة ليلةً خلت من شوال منها - من سامرا إلى الري، وشيعه المعتمد. وفيها كانت بين أماجور وابن لعيسى بن الشيخ على باب دمشق وقعة، فسمعت من ذكر أنه حضر أماجور، وقد خرج في اليوم الذي كانت فيه هذه الوقعة من مدينة دمشق مرتادًا لنفسه عسكرًا وابن عسكر عيسى بن الشيخ وقائد لعيسى يقال له أبو الصهباء في عسكر لعما بالقرب من مدينة دمشق، فاتصل بهما خبر خروج أماجور، وأنه خرج في نفر من أصحابه يسير، فطمعا فيه، فزحفا بمن معهما إليه، ولا يعلم أماجور بزحوفهما إليه حتى لقياه، والتحمت الحرب بين الفريقين، فقتل أبو الصهباء، وهزم الجمع الذي كان معه ومع ابن عيسى؛ ولقد سمعت من يذكر أن عيسى وأبا الصهباء كانا يومئذ في زهاء عشرين ألفًا من رجالهما، وأن أماجور في مقدار مائتين إلى أربعمائة. وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة منها قدم أبو أحمد بن المتوكل من مكة إلى سامرا. وفيها وجه إلى عيسى بن الشيخ إسماعيل بن عبد الله المرزوي المعروف بأبي النصر ومحمد بن عبيد الله الكريزي القاضي والحسين الخادم المعروف بعرق الموت، بولاية أرمينية، على أن ينصرف عن الشأم آمنًا؛ فقبل ذلك وشخص عن الشأم إليها. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن أحمد بن عيسى بن أبي جعفر المنصور. ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة ذكر خبر مسير يعقوب بن الليث إلى فارس وانصرافه عنها فمن ذلك ما كان من مصير يعقوب بن الليث إلى فارس، وبعثة المعتمد إليه ظغتا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصاري في شعبان منها، وكتاب أبي أحمد بن المتوكل إليه بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها، وما جعل له من المال في كل سنة، وقبوله ذلك وانصرافه. وفي ربيع الآخر منها قدم رسول يعقوب بن الليث بأصنام ذكر أنه أخذها من كابل. ولاثنتي عشرة خلت من صفر عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، ثم عقد له أيضًا بعد ذلك لسبع خلون من شهر رمضان على بغداد والسواد وواسط وكرر دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأمر أن يولي صاحب بغداد أعماله، وأن يعقد ليارجوخ على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين مكان سعيد بن صالح، فولي يارجوخ منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة إلى ما يلي الأهواز. ذكر خبر انهزام الزنج أمام سعيد بن الحاجب وفيها أمر بغراج باستحثاث سعيد الحاجب في المصير إلى دجلة والإناخة بإزاء عسكر صاحب الزنج، ففعل ذلك بغراج - فيما قيل - ومضى سعيد الحاجب لما أمر به من ذلك في رجب من هذه السنة. فذكر أن سعيدًا لما صار إلى نهر معقل وجد هنالك جيشًا لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب - وهو أحد الأنهار المعترضة في نهر معقل - فأوقع بهم فهزمهم، واستنفذ ما في أيديهم من النساء والنهب، وأصابت سعيدًا في تلك الوقعة جراحات، منها جراحة في فيه. ثم سار سعيد حتى صار إلى الموضع المعروف بعسكر أبي جعفر المنصور، فأقام به ليلة، ثم سار حتى أناخ بموضع يقال له هطمة من أرض الفرات، فأام هنالك أيامًا يعبي أصحابه، ويستعد للقاء صاحب الزنج. وبلغه في أيام مقامه هنالك، أن جيشًا لصاحب الزنج بالفرات، فقصد لهم بجماعة من أصحابه، فهزمهم، وكان فيهم عمران زوج جدة ابن صاحب الزنج المعروف بأنكلاي، فاستأمن عمران هذا إلى بغراج، وتفرق ذلك الجمع. قال محمد بن الحسن: فلقد رأيت المرأة من سكان الفرات تجد الزنجي مستترًا بتلك الأدغال، فتقبض عليه حتى تأتي به عسكر سعيد ما به منهما امتناع. ثم قصد سيد حرب الخبيث فعبر إلى غربي دجلة، فأوقع به وقعات في أيام متوالية، ثم انصرف سعيد إلى معسكره بهطمة، فأقام به يحربه باقي رجب وعامة شعبان. خلاص ابن المدبر من صاحب الزنج وفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الخبيث، وكان سبب تخلصه منه - فيما ذكر - أنه كان محبوسًا في غرفة في منزل يحيى بن محمد البحراني، فضاق مكانه على البحراني، فأنزله إلى بيت من أبيات داره، فحبسه فيه، وكان موكلًا به رجلان، ملاصق مسكنهما المنزل الذي فيه إبراهيم، فبذل لهما، ورغبهما، فسربا له سربًا إلى الموضع الذي فيه إبراهيم من ناحيتهما، فخرج هو وابن أخ له يعرف بأبي غالب ورجل من بني هاشم كان محبوسًا معهما. ذكر خبر إيقاع صاحب الزنج بسعيد وأصحابه وفيها أصحاب الخبيث بسعيد وأصحابه فقتلوه ومن معه. ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر أن الخبيث وجه إلى يحيى بن محمد البحراني وهو مقيم بنهر معقل في جيش كثيف يأمره بالتوجه بألف رجل من أصحابه، يرئس عليهم سليمان ابن جامع وأبا الليث، يأمرهما بالقصد لعسكر سعيد ليلًا حتى يوقعا به في وقت طلوع الفجر. ففعل ذلك، فصارا إلى عسكر سعيد، فصادفا منهم غرةً وغفلة، فأوقعا بهم وقعةً، فقتلا منهم مقتلة عظيمة، وأحرق الزنج يومئذ عسكر سعيد، فضعف سعيد ومن معه، ودخل أمرهم خلل للبيات الذي تهيأ عليهم، ولاحتباس الأرزاق عنهم، وكانت سببت لهم من مال الأهواز؛ فأبطأ بها عليهم منصور بن جعفر الخياط، وكان إليه يومئذ حرب الأهواز، وله من ذلك يد في الخراج. ولما كان من أمر سعيد صالح ما كان، أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش الذي معه وما إليه من العمل هنالك إلى منصور بن جعفر؛ وذلك أن سعيدًا ترك بعد ما كان من بيات الزنج أصحابه وإحراقهم عسكره؛ فلم يكن له حركة إلى أن صرف عما كان إليه من العمل هنالك. خبر الوقعة بين منصور بن جعفر وصاحب الزنج وفيها كانت وقعة بين منصور بن جعفر الخياط وبين صاحب الزنج، قتل فيها من أصحاب منصور جماعة كثيرة. ذكر الخبر عن صفة هذه الوقعة ذكر أن سعيدًا الحاجب لما صرف عن البصرة، أقام بغراخ يحمى أهلها، وجعل منصور يجمع السفن التي تأتي بالميرة، ثم يبذرقها في الشذا إلى البصرة، فضاق بالزنج الميرة، ثم عبأ منصور أصحابه، وجمع إلى الشذا التي كانت معه الشذا الجنابيات والسفن، وقصد صاحب الزنج في عسكره، فصعد قصرًا على دجلة، فأحرقه وما حوله، ودخل عسكر الخبيث من ذلك الوجه ووافاه الزنج، وكمنوا له كمينًا، فقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة؛ وألجئ الباقون إلى الماء، فغرق منهم خلق كثير؛ وحمل من الرءوس يومئذ - فيما ذكر - زهاء خمسمائة رأس إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل، وأمر بنصبها هنالك. وفيها ظهر من بغداد بموضع يقال له بركة زلزل، على خناق، وقد قتل خلقًا كثيرًا من النساء ودفنهن في دار كان فيها ساكنًا، فحمل إلى المعتمد؛ فبلغني أنه أمر بضربه، ألفي سوط وأربعمائة أرزن فلم يمت حتى ضرب الجلادون أنثييه بخشب العقابين، فمات، فرد إلى بغداد فصلب بها ثم أحرقت جثته. خبر مقتل شاهين بن بسطام وهزيمة إبراهيم بن سيما وفيها قتل شاهين بن بسطام وهزم إبراهيم بن سيما. ذكر الخبر عن سبب مقتل شاهين وانهزام إبراهيم ذكر أن البحراني كان كتب إلى الخبيث يشير ليه بتوجيه جيش إلى الأهواز للمقام بها، ويرغبه في ذلك، وأن يبدأ بقطع قنطرة أربك؛ لئلا يصل الخيل إلى الجيش. وإن الخبيث وجه علي بن أبان لقطع القنطرة، فليقه إبراهيم بن سيما منصرفًا من فارس؛ وكان بها مع الحارث بن سيما في الصحراء المعروفة بدست أربك، وهي صحراء بين الأهواز والقتطرة. فلما انتهى علي بن أبان إلى القنطرة، أقام مخفيًا نفسه ومن معه، فلما أصحرت الخيل، خرجت عليه من جهات، فقتلت من الزنج خلقًا كثيرًا وانهزم علي، وتبعته الخيل إلى الفندم، وأصابته طعنة في أخمصه، فأسمك عن التوجه إلى الأهواز، وانصرف على وجهه إلى جبي؛ وصرف سعيد بن بكسين وولي إبراهيم بن سيما، وكاتبه شاهين، فأقبلا جميعًا، إبراهيم بن سيما على طريق الفرات قاصدًا لذنابة نهر جبي، وعلي بن أبان بالخيزرانية؛ فأقبل شاهين بن بسطام على طريق نهر موسى، يقدر لقاء إبراهيم في الموضع الذي قصد إليه، وقد اتعدا لمواقعة علي بن أبان، فسبق شاهين. وأتى علي بن أبان رجلٌ من نهر موسى فأخبره بإقبال شاهين إليه؛ فوجه علي نحوه، فالتقيا في وقت العصر على نهر يعرف بأبي العباس - وهو نهر بين نهر موسى ونهر جبي - ونشبت الحرب بينهما، وثبت أصحاب شاهين، وقاتلوا قتالًا شديدًا، ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة، فولوا منهزمين؛ فكان أول من قتل يومئذ شاهين وابن عم له يقال حيان، وذلك أنه كان في مقدمة القوم، وقتل معه من أصحابه بشر كثير. وأتى علي بن أبان مخبر فأخبره بورود إبراهيم بن سيما؛ وذلك بعد فراغه من أمر شاهين، فسار من فوره إلى نهر جبي، وإبراهيم بن سيما معسكر هنالك لا يعلم خبر شاهين، فوافاه علي في وقت العشاء الآخرة، فأوقع بهم وقعة غليظة قتل فيها جمعًا كثيرًا؛ وكان قتل شاهين والإيقاع بإبراهيم فيما بين العصر والعشاء والآخرة. قال محمد بن الحسن: فسمت علي بن أبان يحدث عن ذلك، قال: لقد رأيتني يومئذ، وقد ركبني حمى نافض كانت تعتادني، وقد كان أصحابي حين نالوا ما نالوا من شاهين تفرقوا عني، فلم يصر إلى عسكر إبراهيم بن سيما معي إلا نحو من خمسين رجلًا، فوصلت إلى العسكر، فألقيت نفسي قريبًا منه، وجعلت أسمع ضجيج أهل العسكر وكلامهم؛ فلما سكنت حركتهم، نهضت فأوقعت بهم. ثم انصرف علي ابن أبان عن جبسي لما قتل شاهين، وهزم إبراهيم بن سيما، لورود كتاب عليه بالمصير إلى البصرة لحرب أهلها. ذكر خبر دخول الزنج البصرة هذا العام وفيها دخل أصحاب الخبيث البصرة. ذكر الخبر عن سبب وصولهم إلى ذلك وما عملوا بها حين دخلوها ذكر أن سيد بن صالح لما شخص من البصرة ضم السلطان عمله إلى منصور بن جعفر الخياط؛ وكان من أمر منصور وأمر أصحاب الخبيث ما قد ذكرناه قبل، وضعف أمر المنصور، ولم يعد لقتال الخبيث في عسكره، واقتصر على بذرقة القيروانات، واتسع أهل البصرة لوصول المير إليهم؛ وكان انقطاع ذلك عنهم قد أضر بهم، وانتهى إلى الخبيث الخبر بذلك، واتساع أهل البصرة. فعظم ذلك على الخبيث، فوجه علي بن أبان إلى نواحي جبسي، فعسكر بالخيزرانية، وشغل منصور بن جعفر عن بذرقة القيروانات إلى البصرة، فعاد حال أهل البصرة إلى ما كانت عليه من الضيق. وألح أصحاب الخبيث على أهل البصرة بالحرب صباحًا ومساء. فلما كان في شوال من هذه السنة أزمع الخبيث على جمع أصحابه للهجوم على أهل البصرة، والجد في خرابها، وذلك لعلمه بضعف أهلها وتفرقهم، وإضرار الحصار بهم، وخراب ما حولها من القرى؛ وكان قد نظر في حساب النجوم، ووقف على انكساف القمر ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة تخلو من الشهر. فذكر عن محمد بن الحسن بن سهل أنه قال: سمعته يقول: اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة، وابتهلت إلى الله في تعجيل خرابها، فخوطبت، فقيل لي: إنما البصرة خبزةٌ لك تأكلها من جوانبها؛ فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة؛ فأولت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقع في هذه الأيام، وما أخلق أمر البصرة أن يكون بعده. قال: فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه، وكثر تردده في أسماعهم وإحالته إياه بينم. ثم ندب محمد بن يزيد الدرامي؛ وهو أحد من كان صحبه بالبحرين للخروج إلى الأعراب، وأنفذه فأتاه منهم خلق كثير، فأناخو بالقندل، ووجه إليهم الخبيث سليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بتطرق البصرة، والإيقاع بها، وتقدم إلى سليمان بن موسى في تمرين الأعراب على ذلك؛ فلما وقع الكسوف أنهض علي بن أبان، وضم إليه طائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة ممايلي بني سعد، وكتب إلى يحيى بن محمد البحراني - وهو يومئذ محاصر أهل البصرة - في إيتانها ممايلي نهر عدي، وضم سائر الأعراب إليه. قال محمد بن الحسن: قال شبل: فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان، وبغراج يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين، ومال الناس نحوه. وأقبل يحيى بمن معه مما يلي قصر أنس قاصدًا نحو الجسر، فدخل على ابن أبان المهلبي وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت، وعادى يحيى البصرة يوم الأحد، فتلقاه بغراج وبرية في جمع فرداه، فرجع فأقام يومه ذلك، ثم غاداهم يوم الاثنين، فدخل وقد تفرق الجند، وهرب بريه، وانحاز بغراج بمن معه، فلم يكن في وجهه أحدٌ يدافعه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم، ونادى منادي إبراهيم بن يحيى: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبةً حتى ملئوا الرحاب. فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة في ذلك منهم، فأمر بأخذ السكك والطرق والدروب لئلا يتفرقوا، وغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فقتل كل من شهد ذلك المشهد إلا الشاذ، ثن انصرف يومه ذلك، فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخريبة. قال محمد: وحدثني الفضل بن عدي الدارمي، قال: أنا حين وجه الخائن لحرب أهل البصرة في حيز أهل البصرة مقيم في بني سعد، قال: فأتانا آت في الليل؛ فذكر أنه رأى خيلًا مجتازة تؤم قصر عيسى بالخربية، فقال لي أصحابي: اخرج فتعرف لنا خبر هذه الخيل؛ فخرجت فإذا جماعة من بني تميم وبني أسد، فسألتهم عن حالهم، فزموا أنهم أصحاب العلوي المضمومون إلى علي بن أبان، وأن عليًا يوافى البصرة في غد تلك الليلة، وأن قصده لناحية بني سعد، وأن يحيى بن محمد بجمعه قاصد لناحية آل المهلب. فقالوا: قل لأصحابك من بني سعد، إن كنتم تريدون تحصين حرمكم، فبادروا إخراجهم قبل إحاطة الجيش بكم. قال الفضل: فرجعت إلى أصحابي، فأعلمتهم خبر الأعراب فاستعدوا، فوجهوا إلى بريه يعلمونه الخبر، فوافاهم فيمن كان بقي من الخول وجماعة من الجند وقت طلوع الفجر، فساروا حتى انتهوا إلى خندق يعرف ببني حمان، ووافاهم بنو تميم ومقاتلة السعدية، فلم يلبثوا أن طل عليهم، على ابن أبان في جماعة الزنج والأعراب على متون الخيل، فذهل بريه قبل لقاءهالقوم، فرجع إلى منزله، فكانت هزيمة، وتفرق من كان اجتمع من بني تميم، ووافى علي فلم يدفعه أحدٌ، ومر قاصدًا إلى المربد، ووجه بريه إلى بني تميم يستصرخهم، فنهض إليه منهم جماعة، فكان القتال بالمربد بحضرة دار بريه، ثم انهزم بريه عن داره، وتفرق الناس لانهزامه، فأحرقت الزنج داره، وانتهبوا ما كان فيها، فأقام الناس يقتلون هناك، وقد ضعف أهل البصرة، وقوى عليهم الزنج، واتصلت الحرب بينهم إلى آخر ذلك اليوم، ودخل على المسجد الجامع فأحرقه، وأدركه فتح غلام أبي شيث في جماعة من البصرتين، فانكشف علي وأصحابه عنهم، وقتل من الزنج قوم، ورجع علي فعسكر في الموضع المعروف بمقبرة بني شيبان، فطلب الناس سلطانًا يقاتلون معه فلم يجدوه، وطلبوا بريهًا، فوجدوه قد هرب، وأصبح أهل البصرة يوم السبت، فلم يأتهم علي بن أبان، وغاداهم يوم الأحد فلم يقف له أحد، وظفر بالبصرة. قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن سمعان، قال: كنت مقيمًا بالبصرة في الوقت الذي دخلها الزنج، وكنت أحضر مجلس إبراهيم بن محمد ابن إسماعيل المعروف ببريه، فحضرته وحضر يوم الجمعة لعشر ليال خلون من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين وعنده شهاب بن العلاء العنبري، فسمعت شهابًا يحدثه أن الخائن قد وجه بالأموال إلى البادية ليعرض بها رجال العرب، وأنه قد جمع جمعًا كثيرًا من الخيل، وهو يريد تورد البصرة بهم وبرجالته من الزنج، وليس بالبصرة يومئذ من جند السلطان إلا نيف وخمسون فارسًا مع بغراج، فقال بريه لشهاب، إن العرب لا تقدم علي بمساءة؛ وكان بريه مطاعًا في العرب، محببًا إليهم. قال ابن سمعان: فانصرفت من مجلس بريه، فلقيت أحمد بن أيوب الكاتب، فسمعته يحكى عن هارون بن عبد الرحيم الشيعي، وهو يومئذ يلي البصرة، أنه صح عنده أن الخائن جمع لثلاث خلون من شوال في تسعة أنفس؛ فكان وجوه أهل البصرة وسلطانها المقيم بها، من الغبا عن حقيقة خبرالخائن على ما وصفت. وقد كان الحصار عض أهل البصرة، وكثر الوباء بها، واستعرت الحرب فيها بين الحزبين المعروفين بالبلالية والسعدية. فلما كان يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال من هذه السنة، أغارت خيل الخائن على البصرة صبحًا في هذا اليوم، من ثلاثة أوجه من ناحية بني سعد والمربد والحربية؛ فكان يقود الجيش الذي سار إلى المربد علي بن أبان، وقد جعل أصحابه فرقتين، فرقة ولى عليها رفيقًا غلام يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، وأمرهم بالمصير إلى بني سعد، والفرقة الأخرى سار هو فيها إلى المربد، وكان يقود الجبل التي أتت من ناحية الخربية يحيى بن محمد الأزرق البحراني، وقد جمع أصحابه من جهة واحدة، وهو فيهم؛ فخرج إلى كل فرقة من هؤلاء من خف من ضعفاء أهل البصرة، وقد جهدهم الجوع والحصار، وتفرقت الخيل التي كانت مع بغراج فرقتين: فرقة صارت إلى ناحية المربد، وفرقة صارت إلى ناحية الخربية، وقاتل من ورد ناحية بني سعد جماعة من مقاتلة السعدية فتح غلام أبي شيث وصحبه، فلم يغن قليل من أهل البصرة إلى جموع الخبيث شيئًا، وهجم القوم بخيلهم ورجلهم. قال ابن سمعان: فإني يومئذ لفي المسجد الجامع، إذا ارتفعت نيران ثلاث من ثلاثة أوجه: زهران والمربد وبني حمدان في وقت واحد، كأن موقد بها كانوا لى ميعاد؛ وذلك صدر يوم الجمعة، وجل الخطب، وأيقن أهل البصرة بالهلاك، وسعى من كان في المسجد الجامع إلى منازلهم، ومضيت مبادرًا إلى منزلي؛ وهو يومئذ في سكة المربد، فلقيني منهزموا أهل البصرة في السكة راجعين نحو المسجد الجامع، وفي أخراهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي، وهو علي بن بغل متقلد سيفًا يصيح بالناس، ويحكم! أتسلمون بلدكم وحرمكم! هذا عدوكم قد دخل البلد، فلم يلووا عليه: ولم يسمعوا منه، فمضى وانكشف سكة المربد؛ فصار بين المهزمين والزنج فيها فضاء يسافر فيه البصر. قال محمد: فلما رأيت ذلك دخلت منزلي، وأغلقت بابي، وأشرفت فإذا خيل من الأعراب ورجالة الزنج، تقدمهم رجل على حصان كميت، بيده رمح، عليه عذبة صفراء؛ فسألت بعد أن صير بي إلى مدينة الخائن عن ذلك الرجل، فادعى علي بن أبان أنه ذلك الرجل، وأن الراية الصفراء رايته، ودخل القوم، فغابوا في سكة المربد إلى أن بلغوا باب عثمان، وذلك بعد الزوال ثم انصرفوا، فظن الناس من رعاع أهل البصرة وجهالهم أن القوم قد مضوا لصلاة الجمعة، وكان الذي صرفهم أنهم خشوا أن يخرج عليهم جمع السعدية والبلالية من المربعة، وخافوا الكناء هناك، فانصرفوا وانصرف من كان بناحية زهران وبني حصن؛ وذلك بعد أن أحرقوا وأنهبوا واقتدروا على البلد، وعلموا أنه لا مانع لهم منه، فأغبوا السبت والأحد، ثم عادوا البصرة يوم الاثنين، فلم يجدوا عنها مدافعًا، وجمع الناس إلى باب إبراهيم بن يحيى المهلبي وأعطوا الأمان. قال محمد بن سمعان: فحدثني الحسن بن عثمان المهلبي الملقب بمندلقة - وكان من أصحاب يحيى بن محمد - قال: أمرني يحيى في تلك الليلة الغداة بالمصير إلى مقبرة بني يشكر، وحمل ما كان هناك من التنانير، فصرت إليها، فحملت نيفًا وعشرين تنورًا على رءوس الرجال، حتى أتيت بها دار إبراهيم ابن يحيى، والناس يطنّون أنها تعدّ لاتخاذ طعام لهم؛ وهم من الجوع وشدة الحصار والجهد على أمر عظيم، وكثر الجمع بباب إبراهيم بن يحيى، وجعلوا ينوبون ويزدادون؛ حتى أصبحوا وارتفعت الشمس. قال ابن سمعان: وأنا يومئذ قد انتقلت من سكة المربد من منزلي إلى دار جدّ أمي هشام المعروف بالدافّ، وكانت فير بني تميم، وذلك للذي استفاض في الناس من دخول بني تميم في سلم الخائن؛ فإني لهناك إذ أتى المخبرون بخير الوقعة بحضرة دار إبراهيم بن يحيى، فذكروا أن يحيى بن محمد البخراني أمر الزنج، فأحاطوا بذلك الجمع، ثم قال: من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى، فدخلت جماة قليلة، وأغلقوا الباب دونهم. ثم قيل للزّنج: دونكم الناس فاقتلوهم، ولا تبقوا منهم أحدًا. فخرج إليهم محمد بن عبد الله المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فقال للزّنج: كيلوا - وهي العلامة التي كانوا يعرفونها فيمن يؤمرون بقتله - فأخذ الناس السيف. قال الحسن بن عثمان: فإني لأسمع تشهّدهم وضجيجهم، وهم يقتلون، ولقد ارتفعت أصواتهم بالتشهّد؛ حتى لقد سمعت بالطفّارة، وهم لى بعد من الموضع الذي كانوا به. قال: ولما أتى لى الجمع الذي ذكرنا أبل الزنج على قتل من أصابوا، ودخل علي بن أبان يومئذ، فأحرق المسجد الجامع، وراح إلى الكلاء، فأحرقه من الجبل إلى الجسر، والنار في كلّ ذلك تأخذ في كلّ شيء مرّت به من إنسان وبهيمة وأثاث ومتاع، ثم ألحّوا بالغدوّ والرّواح على من وجدوا يسوقونهم إلى يحيى بن محمد؛ وهو يومئذ نازلٌ بسيحان؛ فمن كان ذا مال قررّه حتى يستخرج ماله، ويقتله، ومن كان مملقًا قتله. وذكر عن شبل أنه قال: باكر يحيى البصرة يوم الثلاثاء بعد قتل من قتل بباب إبراهيم بن يحيى، فجعل ينادي بالأمان في الناس ليظهروا، فلم يظهر له أحدٌ، وانتهى الخبر إلى الخبيث، فصرف علي بن أبان عن البصرة، وأفرد يحيى بها الموافقة ما كان أتى يحيى من القتل إياه ووقوعه لمحبّته، وأنه استقصر ما كان من علي بن أبان المهلبي من الإمساك عن العيث بناحية بني سعد. وقد كان علي بن أبان أوفد إلى الخبيث من بني سعد وفدًا، فصاروا إليه، فلم يجدوا عنده خيرًا، فخرجوا إلى عبّادان، وأقام يحيى بالبصرة، فكتب إليه الخبيث يأمره بإظهار استخلاف شبل على البصرة ليسكن الناس، ويظهر المستخفي ومن قد عرف بكثرة المال، فإذا ظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم. ففعل ذلك يحيى؛ فكان لا يخلو في يوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم، فمن عرف منهم باليسار استنظف ما عنده وقتله، ومن ظهرت له خلته عاجله بالقتل؛ حتى لم يدع أحدًا ظهر له إلا أتى عليه، وهرب الناس على وجوههم، وصرف الخبيث جيشه عن البصرة. قال محمد بن الحسن: ولما أخرب الخائن البصرة، وانتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه فيها، سمعته يقول: دعوت على أهل البصرة في غداة اليوم الذي دخلها أصحابي، واجتهدت في الدعر، وسجدت، وجعلت أدعو في سجودي، فرفعت إلى البصرة، فرأيتها أصحابي يقاتلون فيها، ورأيت بين السماء والأرض رجلًا واقفًا في الهواء في صورة جعفر المعلوف المتولي كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامرا، وهو قائم قد خفض يده اليسرى، ورفع يده اليمنى، يريد قلب البصرة بأهلها، فعلمت أن الملائكة تولت إخراجها دون أصحابي، ولو كان أصحابي تولوا ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها، وإن الملائكة لتنصرني وتؤيدني في حربي، وتثبت من ضعف قلبه من أصحابي. قال محمد بن الحسن: وانتسب الخبيث إلى يحيى بن زيد بن علي بعد إخراجه بالبصرة، وذلك لمصير جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة إليه، وأنه كان فيمن أتاه منهم علي بن أحمد بن عيسى بن زيد، وعبد الله بن علي في جماعة من نسائهم وحرمهم، فلما جاءوه ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى وانتسب إلى يحبى بن زيد. قال محمد بن الحسن: سمعت الخبيث وقد حضره جماعة من النوفليين، فقال القاسم بن الحسن النوفلي: إنه قد كان انتهى إلينا أنك من ولد أحمد بن عيسى بن زيد، فقال: لست من ولد عيسى، أنا من ولد يحيى بن زيد. وهو في ذلك كاذب، لأن الإجماع في يحيى أنه لم يعقب إلا بنتًا ماتت وهي ترضع. ذكر الخبر عن الحرب بين محمد المولد والزنج وفيها أشخص السلطان محمدًا المولد إلى البصرة لحرب صاحب الزنج، فشخص من سامرا يوم الجمعة لليلة خلت من ذي القعدة. ذكر الخبر عما كان من أمر المولد هناك ذكر أن محمدًا المعروف بالمولد لما صار إلى هنالك نزل الأبلة، وجاء بريه، فنزل البصرة، واجتمع إلى بريه من أهل البصرة خلق كثير ممن كان هرب؛ وكان يحيى حين انصرف عن البصرة أقام بالنهر المعروف بالغوثي. قال محمد: قال شبل: فلما قدم محمد المولد كتب الخبيث إلى يحيى يأمره بالمصير إلى نهر أوا، فصار إليه بالجيش، وأقام يحارب المولد عشرة أيام، ثم أوطن المولد المقام، واستقر وفتر عن الحرب، فكتب الخبيث إلى يحيى يأمره بتبييته، ووجه إليه الشذا مع المعروف بأبي الليث الأصبهاني، فبيته ونهض المولد بأصحابه، فقاتلهم بقية ليلته ومن غدٍ إلى العصر، ثم ولى منصرفًا، ودخل الزنج عسكره، فغنموا ما فيه، فكتب يحيى إلى الخبيث بخبره، فكتب إليه يأمره باتباعه، فاتبعه إلى الحوانيت، وانصرف، فمر بالجامدة فأوقع بأهلها، وانتهب كل ما كان في تلك الرى، وسفك ما در على سفكه من الدماء، ثم سكر بالجالة، فأقام هناك مدة، ثم عاد إلى نهر معقل. وفيها أخذ محمد المولد سعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي، وكان قد تغلب على البطائح، هو وأصحابه من باهلة وأفسدوا الطريق. وفها خالف محمد بن واصل السلطان بفارس، وغلب عليها. وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلي - وقيل له الصقلي وهو من أهل بيت المملكة، لأن صقلبية - على ميخائيل بن توفيل ملك الروم فقتله، وكان ميخائيل منفردًا بالمملكة أربعًا وعشرين سنة، وتملك الصقلي بعده على الروم. ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأمور الجليلة فمن ذلك ما كان من الموافاة بسعيد بن أحمد بن سعيد بن سلم الباهلي باب السلطان، وأمر السلطان بضربه بالسياط، فضرب سبعمائة سوط - فيما قيل - في شهر ربيع الآخر منها، فمات فصلب. وفيها ضرب عنق قاض لصاحب الزنج، كان يقضي له بعبادان، وأعناق أربعة عشر رجلًا من الزنج بباب العامة بسامرا، كانوا أسروا من ناحية البصرة. وفيها أوق مفلح بأعراب بتكريت، ذكر أنهم كانوا مايلوا الشاري مساورًا. وفيها أوقع مسرور البلخي بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأصاب فيهم. وفيها دخل محمد بن واصل في طاعة السلطان، وسلم الخراج والضياع بفارس إلى محمد بن الحسين بن الفياض. وعقد المعتمد يوم الاثنين لعشر بقين من شهر ربيع الأول لأبي أحمد أخيه على ديار مضر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس مستهل شهر ربيع الآخر، فخلع عليه وعلى مفلح، فشخصا نحو البصرة وركب وكوبًا، وشيع أبا أحمد إلى بركوار، وانصرف. ذكر الخبر عن قتل منصور بن جعفر الخياط وفيها قتل منصور بن جعفر بن دينار الخياط. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان أمره ذكر أن الخبيث لما فرغ أصحابه من أمر البصرة، أمر علي بن أبان المهلبي بالمصير إلى جبى لحرب منصور بن جعفر، وهو يومئذ بالأهواز، فخرج إليه، فأقام بإزائه شهرًا، وجعل منصور يأتي عسكر علي وهو مقيم بالخيزرانية، ومنصور إذ ذاك في خف من الرجال، فوجه الخبيث إلى علي ابن أبان باثنتي شرة شذاة مشحونة بجلد أصحابه، وولى أمرها المعروف بأبي الليث الأصبهاني، وأمره بالسمع والطاعة لعلي بن أبان، فصار المعروف بأبي الليث إلى علي، فأقام مخالفًا له، مستبدًا بالرأي عليه، وجاء منصور كما كان يجئ للحرب، ومعه شذوات، فبدر إليه أبو الليث عن غير مؤامرة منه لعلي بن أبان، فظفر منصور بالشذوات التي كانت معه، وقتل فيها من البيضان والزنج خلقًا كثيرًا، وأفلت أبو الليث، فانصرف إلى الخبيث، فانصرف علي بن أبان وجميع من كان معه، فأقاموا شهرًا، ثم رجع على لمحاربة منصور في رجاله، فلما استقر على وجه طلائع يأتونه بأخبار منصور وعساكره، وكان لمنصور وال مقيم بكرنا، فبيت علي بن أبان ذلك القائد، فقتله وقتل عامة من كان معه، وغنم ما كان في عسكره، وأصاب أفراسًا، وأحرق العسكر، وانصرف من ليلته حتى صار في دنانة نهر جبى. وبلغ الخبر منصورًا، فسار حتى انتهى إلى الخيزرانية، فخرج إليه علي في نفير من أصحابه، وكانت الحرب بينهما منذ ضحى ذلك اليوم إلى وقت الظهر، ثم انهزم منصور، وتفرق عنه أصحابه، وانقطع عنهم، وأدركته طائفة من الزنج اتبعوا أثره إلى نهر يعرف بعمر بن مهران، فلم يزل يكر عليهم حتى تقصفت رماحه، ونفدت سهامه، ولم يبق معه سلاح، ثم حمل نفسه على النهر ليعبر، فصاح بحصان كان تحته، فوثب وقصرت رجلاه، فانغمس في الماء. قال شبل: كان سبب تقصير الفرس عن عبور النهر بمنصور، أن رجلًا من الزنج كان ألقى نفسه لما رأى منصورًاقاصدًا نحو النهر يريد عبوره فسبقه سباحة، فلما وثب الفرس تلقاه الأسود، فنكص به، فغاصا مًا ثم أطلع منصور رأيه، فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح يقال له أبرون، فاحتز رأسه، وأخذ سلبه، وقتل ممن كان معه جماعة كثيرة، وقتل مع منصور أخوه خلف بن جعفر، فولى يارجوخ ما كان إلى منصور من العمل أصغجون. ذكر الخبر عن قتل مفلح ولاثنتي شرة بقيت من جمادى الأولى منها، قتل مفلح بسهم أصابه بغير نصل في صدغه يوم الثلاثاء، فأصبح ميتًا يوم الأربعاء في غد ذلك اليوم، وحملت جثته إلى سامرا، فدفن بها. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف كان الوصول إليه قد مضى ذكري شخوص أبي أحمد بن المتوكل من سامرا إلى البصرة لحرب اللين لما تناهى إليه وإلى المعتمد ما كان من فظيع ما ركب من المسلمين بالبصرة، وما قرب منها من سائر أرض الإسلام، فعاينت أنا الجيش الذي شخص فيه أبو أحمد ومفلح ببغداد، وقد اجتازوا بباب الطاق، وأنا يومئذ نازل هنالك، فسمعت جماة من مشايخ أهل بغداد يقولون: قد رأينا جيوشًا كثيرة من الخلفاء، فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة، وأكمل سلاحًا وعتادًا، وأكثر عددًا وجمعًا، وأتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير. وذكر عن محمد بن الحسن أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيمًا بنهر معقل قبل موافاة أبي أحمد موضع الخبيث، فاستأذنه في المصير إلى نهر العباس؛ فكره ذلك، وخاف أن يوافيه جيش السلطان، وأصحابه متفرقون، فألح عليه يحيى حتى أذن له، فخرج واتبعه أكثر أهل عسكر الخبيث. وكان علي بن أبان مقيمًا بجبى في جمع كثير من الزنج، والبصرة قد صارت مغنمًا لأهل عسكر الخبيث، فهم يغادونها ويراوحونها لنقل ما نالته أيديهم منها، فليس بعسكر الخبيث يومئذ من أصحابه إلا القليل؛ فهو على ذلك من حاله حتى وافى أبو أحمد في الجيش الذي كان معه فيه مفلح، فوافى جيش عظيم هائل لم يرد على الخبيث مثله؛ فلما انتهى إلى نهر معقل هرب من كان هناك من جيش الخبيث، فلحقوا به مرعوبين، فراغ ذلك الخبيث، فدعا برئيس من رؤساء جيشه الذي كان هناك، فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما؛ فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد، وكثرة عدد أهله وإحكام عدتهم، وأن الذي عاينا من ذلك لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها؛ فسألهما: هل علما من يقود الجيش؟ فقالا: لا قد اجتهدنا في علم ذلك، فلم نجد من يصدقنا عنه. فوجه الخبيث طلائعه في سميريات لترف الخبر، فرجعت رسله إليه بتعظيم أمر الجيش وتفخيمه؛ ولم يقف أحدٌ منهم على من يقوده ويرأسه، فزاد ذلك في جزعه وارتياعه، فبادر بالإرسال إلى علي بن أبان، يعلمه خبر الجيش الوارد، ويأمره بالمصير إليه فيمن معه، ووافى الجيش، فأناخ بإزائه؛ فلما كان اليوم الذي كانت فيه الوقعة وهو يوم الأربعاء، خرج الخبيث ليطوف في عسكره، ماشيًا، ويتأمل الحال فيمن هو مقيم معه من حزبه ومن هو مقيم بإزائه من أهل حربه، وقد كانت السماء مطرت في ذلك اليوم مطرًا خفيفًا والأرض ثرية عنها الأقدام، فطوف ساعة من أول النهار، ثم رجع فدعا بدواة وقرطاس لينفذ كتابًا إلى علي بن أبان، يعلمه ما قد أطله من الجيش ويأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال؛ فإنه لفي ذلك إذ أتاه المكنى أبا دلف - وهو أحد قواد السودان - فقال له: إن القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج، وليس في وجوههم من يردهم حتى انتهوا إلى الجبل الرابع. فصاح به وانتهزه، وقال: اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت؛ وإنما ذلك جزع دخلك لكثرة ما رأيت من الجمع، فانخلع قلبك، ولست تدري ما تقول. فخرج أبو دلف من بين يديه، وأقبل على كاتبه، وقد كان أمر جعفر بن إبراهيم السجان بالنداء في الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب؛ فأتاه السجان، فأخبره أنه قد ندب الزنج، فخرجوا، وإن أصحابه قد ظفروا بسميريتين، فأمره بالرجوع لنحريك الرجالة، فرجع ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا، حتى أصيب مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي به، ووقعت الهزيمة، وقوى الزنج على أهل حربهم، فنالوهم بما نالوهم به من القتل. ووافى الرءوس يومئذ حتى ملأت كل شئ، وجعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى ويتهادونها بينهم. وأتى الخائن بأسير من أبناء الفراغنة، فسأله عن رأس الجيش، فأعلمه بمكان أبي أحمد ومفلح، فارتاع لذكر أبي أحمد - وكان إذا راعه أمر كذب به - فقال: ليس في الجيش غير مفلح! لأني لست أسمع الذكر إلا له؛ ولو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد، ولما كان مفلح إلا تابعًا له، ومضافًا إلى صحبته. وقد كان أهل عسكر الخبيث لما خرج عليهم أصحاب أبي أحمد، جزعوا جزعًا شديدًا، وهربوا من منازلهم، ولجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب ولا جسر يومئذ عليه، فغرق فيه يومئذ خلق كثير من النساء والصبيان، ولم يلبث الخبيث بعد الوقعة إلا يسيرًا، حتى وافاه علي بن أبان في جمع من أصحابه، فوافاه وقد استغنى عنه، ولم يلبث مفلح أن مات، وتحيز أبو أحمد إلى الأبلة، ليجمع ما فرقت الهزيمة منه، ويجدد الاستعداد، ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به. قال محمد بن الحسن: فكان الخبيث لا يدري كيف قتل مفلح، فلما بلغه أنه أصيب بسهم، ولم ير أحدًا ينتحل رميه ادعى أنه كان الرامي له. قال: فسمعته يقول: سقط بين يدي سهم، فأتاني به واح خادمي، فدفعه إلي، فرميت به فأصبت مفلحًا. قال محمد: وكذب في ذلك، لأني كنت حاضرًا ذلك المشهد، وما زال عن فرسه حتى أتاه المخبر بخبر الهزيمة، وأتى بالرءوس وانقضت الحرب. وفي هذه السنة وقع الوباء في الناس في كور دجلة، فهلك فيها خلق كثير في مدينة السلام وسامرا وواسط وغيرها. وفيها قتل خرسخارس ببلاد الروم في جماعة من أصحابه. ذكر خبر أسر يحيى بن محمد البحراني ثم قتله وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني صاحب قائد الزنج، وفيها قتل. ذكر الخبر عن أسره وقتله وكيف كان ذكر عن محمد بن سمعان الكاتب أنه قال: لما وافى يحيى بن محمد نهر العباس، لقيه بفوهة النهر ثلثمائة فارسًا من أصحاب أصغجون العامل - كان عامل الأهواز في ذلك الوقت، كانوا مرتبين في تلك الناحية - فلما بصر بهم يحيى استقلهم، ورأى كثرة من معه من الجمع مما لا خوف عليه معهم، فلقيهم أصحابه غير مستجنين بشئ يرد عنهم عاديتهم، ورشقتهم أصحاب أصغجون بالسهام، فأكثروا الجراح فيهم. فلما رأى ذلك يحيى عبر إليهم شرين ومائة فارس كانت معه، وضم إليهم من الرجال جمعًا كثيرًا، وانحاز أصحاب أصغجون عنهم، وولج البحراني ومن معه نهر العباس؛ وذلك وقت قلة الماء في النهر، وسفن القيروانات جانحة على الطين. فلما أبصر أصحاب تلك السفن بالزنج تركواسفنهم، وحازها الزنج، وغنموا ما كان فيها غنائم عظيمة جليلة، ومضوا بها متوجهين نحو البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة، وتركوا الطريق النهج، وذلك للتحاسد الذي كان بين البحراني وعلي بن أبان المهلبي. وإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق الذي يمر فيها بعسكر علي، فأصغى إلى مشورتهم، وشرعوا له الطريق المؤدي إلى البطيحة التي ذكرنا، فسلكها حتى ولج البطيحة، وسرح الخيل التي كانت معه، وجعل معها أبا الليث الأصبهاني، وأمره بالمصير بها إلى عسكر الذي ورد عليه، وكان الخبيث وجه إلى يحيى البحراني يعلمه ورود الجيش الذي ورد عليه، ويأمره بالتحرز في منصرفه من أن يلقاه أحد منهم، فوجه البحراني الطلائع إلى دجلة فانصرفت طلائعه وجيش أبي أحمد منصرف من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، وكان السبب في رجوع الجيش إلى نهر أبي الأسد، أن رافع بن بسطام وغيره من مجاوري نهر العباس وبطيحة الصحناة كتبوا إلى أبي أحمد يعرفونه خبر البحراني وكثرة جمعه، وأنه يقدر أن يخرج من نهر العباس إلى دجلة، فيسبق إلى نهر أبي الأسد ويعسكر به، ويمنعه الميرة، ويحول بينه وبين من يأتيه أو يصدر عنه؛ فرجعت إليه طلائه بخبره، وعظم أمر الجيش عنده، وهيبته منه؛ فرجع في الطريق الذي كان سلكه بمثقة شديدة نالته ونالت أصحابه، وأصابهم وباء من ترددهم في تلك البطيحة، فكثر المرض فيهم، فلما قربوا من نهر العباس جعل يحيى بن محمد سليمان بن جامع على مقدمته، فمضى يقود أوائل الزنج، وهم يجرون سفنهم، يريدون الخروج من نهر العباس، وفي النهر للسلطان شذوات وسميريات تحمى فوهته من قبل أصغجون، ومعها جمع من الفرسان والرجالة، فراعه وأصحابه ذلك، فخلوا سفنهم، وألقوا أنفسهم في غربي نهر العباس، وأخذوا على طريق الزيدان ماضين نحو عسكر الخبيث، ويحيى غار بما أصابهم، لم يأته علم شئ من خبرهم، وهو متوسط عسكره، قد وقف على قنطرة قورج العباس في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء، فهو مشرف على أصحابه الزنج، وهم في جر تلك السفن التي كانت معهم، فمنها ما يغرق، ومنها ما يسلم. قال محمد بن سمعان: وأنا في تلك الحال معه واقف، فأقبل علي متعجبًا من شدة جرية الماء وشدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن، فقال لي: أرأيت لو هجم لينا عدونا في هذه الحال، من كان أسوأ حالًا منا! فما انقضى كلامه حتى وافى طاشتمر التركي في الجيش الذي أنفذه إليهم أبو أحمد عند رجوعه من الأبلة إلى نهر أبي الأسد، ووقعت الضجة في عسكره. قال محمد: فنهضت مشتوفًا للنظر، فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي من نهر العباس ويحيى به؛ فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم في الماء جملة فعبروا إلى الجانب الشرقي وعرى الموضع الذي كان فيه يحيى فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلًا فنهض يحيى عند ذلك، فأخذ درقته وسبفه، واحتزم بمنديل، وتلقى القوم الذين أتوه في النفر الذين معه فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام، وأسرع فيهم الجراح، وجرح البحراني بأسهم ثلاثة في عضدته وساقه اليسرى، فلما رآه أصحابه جريحًا تفروا عنه، فلم يعرف فيقصد له، فرجع حتى دخل بعض تلك السفن، وعبر به إلى الجانب الشرقي من النهر؛ وذلك وقت الضحى من ذلك اليوم، وأثقلت يحيى الجراحات التي أصابته، فلما رأى الزنج ما نزل به اشتد جزهم، وضعفت قلوبهم، فتركوا القتال، وكانت همتهم النجاة بأنفسهم، وحاز السلطان الغنائم التي كانت في السفن بالجانب الغربي من النهر؛ فلما حووها أقعدوا في بعض تلك السفن النفاطين، وعبروهم إلى شرقي النهر، فأحرقوها ما كان هناك من السفن التي كانت في أيدي الزنج، وانفض الزنج عن يحيى، فجعلوا يتسللون بقية نهارهم بعد قتل فيهم ذريع، وأسر كثير؛ فلما أمسوا وأسدف الليل طاروا على وجوههم، فلما رأى يحيى تفرق أصحابه، ركب سميرية كانت لرجل من المقاتلة البيضان، وأقعد معه فيها متطببًا يقال له عباد يعرف بأبي جيش؛ وذلك لما كان به من الجراح، وطمع في التخلص إلى عسكر الخبيث، فسار حتى قرب من فوهة النهر، فبصر ملاحو السميرية بالشذا والسميريات واعتراضها في النهر، فجزعوا من المرور بهم، وأيقنوا أنهم مدركون، فعبروا إلى الجانب الغربي، فألقوه ومن معه على الأرض في زرع كان هناك، فخرج يمشي وهو مثقل؛ حتى ألقى نفسه؛ فأقام بموضعه ليلته تلك، فلما أصبح بموضعه ذلك نهض عباد المتطبب الذي كان معه، فجعل يمشي متشوقًا لأن يرى إنسانًا، فرأى بعض أصحاب السلطان، فأشار إليهم فأخبرهم بمكان يحيى، وأتاه بهم حتى سلمه إليهم. وقد زعم قوم أن قومًا مروا به، فرأوه فدلوا عليه، فأخذ. فانتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج، فاشتد لذلك جزعه، وعظم عليه توجعه. ثم حمل يحيى بن محمد الأزرق البحراني إلى أبي محمد، فحمله أبو أحمد إلى المعتمد بسامرا، فأمر ببناء دكة بالحير، بحضرة مجرى الحلبة فبنيت، ثم رفع للناس حتى أبصروه، فضرب بالسياط. وذكر أنه دخل سامرا يوم الأربعاء لتسع خلون من رجب على جمل، وجلس المعتمد من غد ذلك اليوم - وذلك يوم الخميس - فضرب بين يديه مائتي سوط بثمارها، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم خبط بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق. قال محمد بن الحسن: لما قتل يحيى البحراني وانتهى خبره إلى صاحب الزنج، قال: عظم علي قتله، واشتد اهتمامي به، فخوطبت فقيل لي: قتله خير لك، إنه كان شرهًا. ثم أقبل على جماعة كنت أنا فيهم، قال: ومن شرهه أنا غنمنا غنيمة من بعض ما كنا نصيبه؛ فكان فيه عقدان، فوقعا في يدي يحيى، فأخفى عني خطرًا، وعرض علي أخسها، واستوهبنيه فوهبته له، فرفع لي العقد الذي أخفاه، فدعوته فقلت: أحضرني العقد الذي أخفيته، فأتاني بالعقد الذي وهبته له، وجحد أن يكون أخذه غيره، فرفع لي العقد، فجعلت أصفه وأنا أراه، فبهت، وذهب فأتاني به، واستهوهبنيه فوهبته له، وأمرته بالاستغفار. وذكر عن محمد بن الحسن أن محمد بن سمعان حدثه أن قائد الزنج قال لي في بعض أيامه: لقد عرضت لي النبوة فأبيتها، فقلت: ولم ذاك؟ قال: لأن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها!. ذكر خبر انحياز أبي أحمد بن المتوكل إلى واسط وفي هذه السنة انحاز أبو أحمد بن المتوكل من الموضع الذي كان به من قرب موضع قائد الزنج إلى واسط. ذكر الخبر عن سبب انحيازه ذلك إليها ذكر أن السبب في ذلك كان أن أبا أحمد لما صار إلى نهر أبي الأسد، فأقام به، كثر العلل فيمن معه من جنده وغيرهم، وفشا فيهم الموت؛ فلم يزل مقيمًا هنالك حتى أبل من نجا منهم من الموت من علته، ثم انصرف راجعًا إلى باذاورد، فعسكر به، وأمر بتجديد الآلات وإطاء من معه من الجند أرزاقهم وإصلاح الشذوات والسميريات والمعابر، وشحنها بالقواد من مواليه وغلمانه، ونهض نحو عسكر الخبيث، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم من نهر أبي الخصيب وغيره، وأمر جماعة منهم بلزومه والمحاربة معه في الموضع الذي يكون فيه، فمال أكثر القوم حين وقعت الحرب، والتقى الفريقان إلى نهر أبي الخصيب، وبقي أبو أحمد في قلة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه إشفاقًا من أن يطمع فيه الزنج، وفيمن بإزائهم من أصحابه وهم بسبخة نهر منكي، وتأمل الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه، وعرفوا موضعه، فكثروا عليه، واستعرت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وأحرق أصحاب أبي أحمد قصورًا ومنازل من منازل الزنج، واستنقذوا من النساء جمعًا كثيرًا، وصرف الزنج جمعهم إلى الموضع الذي كان به أبو أحمد فظهر الموفق على الشذا، وتوسط الحرب محرضًا أصحابه حتى أتاه من جمع الزنج ما علم أنه لا يقاوم بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها، فرأى أن الحزم في محاجزتهم، فأمر أصحابه عند ذلك بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة ومهل، فصار أبو أحمد إلى الشذا التي كان فيها بعد أن استقر أكثر الناس في سفنهم، وبقيت طائفة من الناس، ولجئوا إلى تلك الأدغال والمضايق، فانقطعوا عن أصحابهم، فخرج عليهم كمناء الزنج، فاقتطعوهم ووقعوا بهم، فحاموا عن أنفسهم، وقاتلوا قتالًا شديدًا، وقتلوا عددًا كثير منالزنج، وأدركتهم المنايا فقتلوا، وحملوا إلى قائد الزنج مائة رأس وعشرة أرؤس، فزاد ذلك في عتوه. ثم انصرف أبو أحمد إلى الباذاورد في الجيش، وأقام يعبي أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره؛ وذلك في أيام عصوف الريح، فاحترق السكر، ورحل أبو أحمد منصرفًا، وذلك في شعبان متن هذه السنة إلى واسط، فلما صار إلى واسط تفرق عنه عامة من كان معه من أصحابه. ولعشر خلون من شبان كانت هذه صعبة هائلة بالصيمرة. ثم سم من غد ذلك اليوم وذلك يوم الأحد، هدة هي أعظم من التي كانت في اليوم الأول، فتهدم من ذلك أكثر المدينة، وتساقطت الحيطان وهلك من أهلها - فيما قيل - زهاء عشرين ألفًا. وضرب بباب الامة بسامرا رجل يعرف بأبي فقعس، قامت عليه البنة - فيما قيل - بشتم السلف ألف سوط وعشرين سوطًا، فمات وذلك اليوم يوم الخميس لسبع خلون من شهر رمضان. ومات يارجوخ يوم الجمعة لثمان خلون من شهر رمضان، فصلى عليه أبو عيسى بن المتوكل وحضر جعفر بن المعتمد. وفيها كانت وقعة بي موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد، فهزم موسى أصحاب الحسن. وفيها انصرف مسرور البلخي عن مساور الشاري إلى سامرا، ومعه أسراء من الشراة، واستخلف على عسكره بالحديثة جعلان. ثم شخص أيضًا مسرور البلخي إلى ناحية البواريخ، فلقى مساورًا بها، فكانت بينهما وقعة بها أسر مسرور من أصحابه جماعة، ثم انصرف لليال بقيت من ذي الحجة. وفي هذه السنة حدث في الناس ببغداد داء كان أهلها يسمونه القفاع. وفيها رجع أكثر الحاج من الرعاء خوف العطش، وسلم من سار منهم إلى مكة. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن. ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك منصرف أبي أحمد بن المتوكل من واسط، وقدومه سامرا يوم الجمعة لأربع بقين من شهر ربيع الأول، واستخلافه على واسط وحرب الخبيث بتلك الناحية محمدًا المولد. ذكر الخبر عن مقتل كنجور ومن ذلك مقتل كنجور. ذكر الخبر عن سبب مقتله وكان سبب ذلك أنه كان والى الكوفة، فانصرف عنها يريد سامرا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى، فحمل إليه - فيما ذكر - مال ليفرق في أصحابه أرزاقهم منه، فلم يقنع بذلك، ومضى حتى ورد عكبراء في ربيع الأول، فتوجه إليه من سامرا عدة من القواد، فيهم: ساتكين وتكين وعبد الرحمن ابن مفلح وموسى بن أتامش وغيرهم؛ فذبحوه ذبحًا، وحمل رأسه إلى سامرا، لليلة بقيت من شهر ربيع الأول، وأصيب معه نيف وأربعون ألف دينار، وألزم كاتب له نصراني مالًا، ثم ضرب هذا الكاتب في شهر ربيع الآخر بباب العامة ألف سوط، فمات. وفيها غلب شركب الجمال على مرو وناحيتها وأنهبا. وفيها انصرف يعقوب بن الليث عن بلخ، فأقام بقهستان، وولى عماله هراة وبوشنج وباذ غيس، وانصرف إلى سجستان. وفيها فارق عبد الله السجزى يعقوب بن الليث مخالفًا له، وحاضر نيسابور، فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء، فاختلفوا بينهما، ثم ولاه الطبسين وقهستان. ذكر خبر دخول المهلبي ويحيى بن خلف سوق الأهواز ولست خلون من رجب منها، دخل المهلبي ويحيى بن خلف النهر بطي سوق الأهواز، فقتلوا بها خلقًا كثيرًا، وقتلوا صاحب المعونة بها. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة وكيف كان هلاك صاحب الحرب من قبل السلطان فيها ذكر أن قائد الزنج خفي عليه أمر الحريق الذي كان في عسكر أبي أحمد بالباذاورد، فلم يعلم خبره إلا بعد ثلاثة أيام ورد به عليه رجلان من أهل عبادان فأخبره، فعاد للعيث، وانقطعت عنه الميرة، فأنهض على ابن أبان المهلبي، وضم إليه أكثر الجيش، وسار معه سليمان بن جامع، وقد ضم إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني وسليمان بن موسى الشعراني، وقد ضمت إليه الخيل وسائر الناس مع علي بن أبان المهلبي والمتولي للأهواز يومئذ رجل يقال له أصغجون، ومعه نيزك في جماعة من القواد، فسار إليهم علي بن أبان في جمعه من الزنج، ونذر به أصغجون، فنهض نحوه في أصحابه، فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدرسماران، فكانت الدبرة يومئذ على أصغجون، فقتل يزك في جمع كثير من أصحابه، وغرق أصغجون، وأسر الحسن بن هرثمة المعروف بالشار يومئذ، والحسن بن جعفر المعروف براوشار. قال محمد بن الحسن: فحدثني الحسن بن الشار، قال: خرجنا يومئذ من أصغجون للقاء الزنج؛ فلم يلبث أصحابنا، وانهزموا، وقتل نيزك، وفقد أصغجون، فلما رأيت ذلك نزلت عن فرس محذوف، كان تحتي، وقدرت أن أتناول بذنب جنيبة كانت معي، وأقمحها النهر، فأنجو بها. فسبقني إلى ذلك غلامي، فنجا وتركني، فأتيت موسى بن جعفر لأتخلص معه، فركب سفينة، ومضى فيها، ولم يقم علي، وبصرت بزورق فأتيته فركبته، فكثر الناس علي وجعلوا يطلبون الركوب معي فيتعلقون بالزورق حتى غروقوه، فانقلب، وعلوت ظهره، وذهب الناس عني، وأدركني الزنج، فجعلوا يرمونني بالنشاب، فلما خفت التلف قلت: أمسكوا عن رميي، وألقوا إلي شيئًا أتعلق به، وأصير إليكم، فمدوا إلي رمحًا، فتناولته بيدي وصرت إليهم. وأما الحسن بن جعفر، فإن أخاه حمله لى فرس، وأعده ليسفر بينه بين أمير الجيش، فلما وقعت الهزيمة بادر في طلب النجاة، فعثر به فرسه فأخذ. فكتب لي بن أبان إلى الخبيث بأمر الوقعة، وحمل إليه رءوسًا وأعلامًا كثيرة، ووجه الحسن بن الشار والحسن بن جعفر وأحمد بن روح، فأمر بالأسرى إلى السجن، ودخل علي بن أبان الأهواز، فأقام يعيث بها إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث. شخوص موسى بن بغا لحرب صاحب الزنج وفيها شخص موسى بن بغا عن سامرا لحره، وذلك لثلاث عشر بقيت من ذي القعدة، وشيعه المعتمد إلى خلف الحائطين، وخلع عليه هناك. وفيها وافى عبد الرحمن بن مفلح الأهواز وإسحاق بن كنداج البصرة وإبراهيم بن سيما باذورد لحرب قائد الزنج من قبل موسى بن بغا. ذكر الخبر عما كان من أمر هؤلاء في النواحي التي ضمت إليهم مع أصحاب قائد الزنج في هذه السنة ذكر أن ابن مفلح لما وافى الأهواز، أقام بقنطرة أربك عشرة أيام، ثم مضى إلى المهلبي، فواقعه، فهزمه المهلبي وانصرف، واستعد ثم عاد لمحاربته، فأوقع به وقعة غليظة، وقتل من الزنج قتلًا ذريعًا، وأسر أسرى كثيرة، وانهزم علي بن أبان، وأفلت ومن معه من الزنج، حتى وافوا بيانًا، فأراد الخبيث ردهم، فلم يرجعوا للذعر الذي خالط قلوبهم. فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره، فدخلوا جميعًا، فأقاموا بمدينته. ووافى عبد الرحمن حصن المهدي ليعسكر به، فوجه إليه الخبيث علي بن أبان، فواقعه فلم يقدر عليه، ومضى علي يريد الموضع المعروف بالدكر، وإبراهيم بن سيما يومئذ بالباذاورد، فواقعه إبراهيم، فهزم علي بن أبان، وعاوده فهزمه أيضًا إبراهيم، فمضى في الليل، وأخذ معه أدلاء؛ فسلكوا به الآجام والأدغال؛ حتى وافى نهر يحيى، وانتهى خبره إلى عبد الرحمن، فوجه إليه طاشتمر في جمع من الموالي، فلم يصل إلى علي ومن منه لوعورة الموضع الذي كانوا فيه، وامتناعه بالقصب والحلافي، فأضرمه عليهم نارًا، فخرجوه منه هاربين، فأسر منهم أسرى، وانصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى والظفر، ومضى علي ابن أبان حتى وافى نسوخًا، فأام هناك فيمن معه من أصحابه، وانتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح، فصرف وجهه نحو العمود، فوافاه وأقام به. وصار علي بن أبان إلى نهر السدرة، وكتب إلى الخبيث يستمده ويسأله التوجيه إليه بالشذاءات، فوجه إليه ثث عشرة شذاة، فيها جمع كثير من أصحابه، فسار علي ومعه الشذا حتى وافى عبد الرحمن، وخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فلم يكن بينهما قتال، وتواف الجيشان يومهما ذلك؛ فلما كان الليل، انتخب علي بن أبان من أصحابه جماعة يثق بجلدهم وصبرهم، ومضى فيهم ومعه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني، وترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره، فصار من وراء عبد الرحمن، ثم بيته في عسكره، فنال منه ومن أصحابه نيلًا، وانحاز عبد الرحمن عنه، وخلى عن أربع شذوات من شذواته فأخذها لي وانصرف، ومضى عبد الرحمن لوجهه حتى وافى الدولاب فأام به، وأعد رجالًا من رجاله، وولى عليهم طاشتمر، وأنفذهم إلى علي ابن أبن. فوافوه بنواحي بياب آزور، فأوقعوا به وقعة، انهزم منها إلى نهر السدرة، وكتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزام علي عنه، فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود، فأقام به، واستعد أصحابه للحرب، وهيأ شذواته، وولى عليها طاشتمر، فسار إلى فوهة نهر السدرة، فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة، انهزم منها علي، وأخذ منه عشرات شذوات، ورجع علي إلى الخبيث مفلولًا مهزومًا، وسار عبد الرحمن من فوره، فعسكر ببيان، فكان عبد الرحمن ابن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى عسكر الخبيث، فيوقعان به، ويخيفان من فيه، وإسحاق بن كنداج يومئذ مقيم بالبصرة، قد قطع الميرة عن عسكر الخبيث؛ فكان الخبيث يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه موافاة عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما حتى ينقضى الحرب، ثم يصرف فريقًا منهم إلى ناحية البصرة، فيواقع بهم إسحاق بن كنداج، فأقاموا في ذلك بضعة عشر شهرًا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث، ووليها البلخي، وانتهى الخبر بذلك إلى الخبيث. وفيها غلب الحسن بن زيد لى قومس، ودخلها أصحابه. وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن سنان القزويني ووهسوذان بن جستان الديلمي، فهزم محمد بن الفضل وهسوذان. وفيها ولي موسى بن بغا الصلابي الري حين وثب كيغلغ على تكين، فقتله فسار إليها. وفيها غلب صاحب الروم على سميساط، ثم نزل على ملطية، وحاصر أهلها، فحاربه أهل ملطية فهزموه، وقتل أحمد بن محمد القابوس نصرًا الإقريطشي بطريق البطارقة. وفيها وجه من الأهواز جماعة من الزنج أسروا إلى سامرا، فوثبت العامة بهم سامرا، فقتلوا أكثرهم وسلبوهم. ذكر الخبر عن دخول يعقوب بن الليث نيسابور وفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور. ذكر الخبر عن الكائن الذي كان منه هناك ذكر أن يعقوب بن الليث صار إلى هراة، ثم قصد نيسابور، فلما قرب منها وأراد دخولها، وجه محمد بن طاهر يشتأذنه في تلقيه، فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته، فتلقوه، ثم دخل نيسابور لأربع خلون من شوال بالعشى، فنزل طرفًا من أطرافها يعرف بداودباذ، فركل إليه محمد بن طاهر، فدخل عليه في مضربه، فساءله، ثم أقبل على تأنيبه وتوبيخه على تفريطه في عمله، ثم انصرف وأمر عزير بن السري بالتوكيل به، وصرف محمد بن طاهر وولي عزيزًا نيسابور، ثم حبس محمد بن طاهر وأهل بيته. وورد الخبر بذلك على السلطان، فوجه إليه حاتم بن زيرك بن سلام، ووردت كتب يقوب على السلطان لعشر بقين من ذي القعدة، فقعد - فيما ذكر - جعفر بن المعتمد وأبو أحمد بن المتوكل في إيوان الجوسق، وحضر القواد، وأذن لرسل يعقوب. فذكر رسله ما تناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان، وأن الشراة والمخالفين قد غلبوا عليها، وضعف محمد بن طاهر، وذكوا مكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إياه قدومه عليهم واستانتهم، وأنه صار إليها، فلما كان على عشرة فراسخ من نيسابور، سار إليه أهلها، فدفعوها إليه فدخلها. فتكلم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى، وقالا للرسل: إن أمير المؤمنين لا يقار يعقوب على ما فعل، وأنه يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولاه إياه، وأنه لم يكن له أن يفعل ذلك بغير أمره فليرجع، فإنه إن فعل كان من الأولياء، وإلا لم يكن له إلا ما للمخالفين. وصرف إليه رسله بذلك ووصلوا، وخلع على كل واحد منهم خلعة فيها ثلاثة أثواب؛ وكانوا أحضروا رأسًا على قناة فيه رقعة فيها: هذا رأس عدو الله عبد الرحمن الخارجي بهراة، ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، قتله يعقوب بن الليث. وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف ببريه. ثم دخلت سنة ستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان فيها من ذلك قتل رجل من أكراد مساور الشاري محمد بن هارون بن المعمر، وجده في زورق يريد سامرا، فقتله وحمل رأسه إلى مساور، فطلبت ربيعة بدمه في جمادى الآخرة، فندب مسرور البلخي وجماعة من القواد إلى أخذ الطريق على مساور. وفيها قتل قائد الزنج علي بن زيد العلوي صاحب الكوفة. خبر الوقعة بين يعقوب بن الليث والحسن بن زيد الطائي وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد الطالبي، فهزمه ودخل طبرستان. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وعن سبب مصير يعقوب إلى طبرستان أخبرني جماعة من أهل الخبرة بيعقوب أن عبد الله السجزي كان يتنافس الرياسة بسجستان، فقهره يعقوب، فتخلص منه عبد الله، فلحق بمحمد بن طاهر بنيسابور، فلما صار يعقوب إلى نيسابور وهرب عبد الله، فلحق بالحسن بن زيد، فشخص يعقوب في أثره بعد ما كان من أمره وأمر محمد بن طاهر ما قد ذكرت قبل، فمر في طريق إلى طبرستان بأسفرائيم وواحيها، وبها رجل كنت أعرفه يطلب الحديث، يقال له بديل الكشي، يظهر التطوع والأمر المعروف، وقد استجاب له عامة أهل تلك الناحية، فلما نزلها يعقوب راسله، وأخبره أنه مثله في التطوع وأنه معه، فلم يزل يرفق به حتى صار إليه بديل، فلما تمكن منه قيده، ومضى به معه إلى طبرستان، فلما صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد. فقيل لي: إن يعقوب بعث إلى الحسن بن زيد يسأله أن يبعث إليه بعبد الله السجزي حتى ينصرف عنه؛ فإنما قصد طبرستان من أجله لا لحربه، فأبى الحسن بن زيد تسليمه إليه، فآذنه يعقوب بالحرب، فالتقى عسكرهما، فلم تكن إلا كلا ولا، حتى هزم الحسن بن زيد، ومضى نحو الشرز وأرض الديلم، ودخل يعقوب سارية، ثم تقدم منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثم شخص من آمل نحو الشرز في طلب الحسن بن زيد حتى صار إلى بعض جبال طبرستان، فأدركته فيه الأمطار، وتتابعت عليه - فيما ذكر لي - نحوًا من أربعين يومًا، فلم يتخلص من موضعه ذلك إلا بمشقة شديدة. وكان - فيما قيل لي - قد صعد جبلًا، لما رام النزول عنه لم يمكنه ذلك إلا محمولًا على ظهور الرجال، وهلك عامة ما كان معه من الظهر. ثم رام الدخول خلف الحسن بن زيد إلى الشرز، فحدثني بعض أهل تلك الناحية أنه انتهى إلى الطريق الذي أراد سلوكه إليه، فوقف عليه، وأمر أصحابه بالوقوف، ثم تقدم أمامهم يتأمل الطريق، ثم رجع إلى أصحابه، فأمرهم بالانصراف، وقال لهم: إن لم يكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه. فأخبرني الذي ذكر لي ذلك، أن نساء أهل تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل هذا الطريق؛ فإنه إن دخل كفينا كم أمره، وعلينا أخذه وأسره لكم. فلما انصرف راجعًا، وشخص عن حدود طبرستان، عرض رجاله، ففقد منهم - فيما قيل لي - أربعين ألفًا، وانصرف عنها، وقد ذهب عظم ما كان معه من الخيل والإبل والأثقال. وذكر أنه كتب إلى السلطان كتابًا يذكر فيه مسيره إلى الحسن بن زيد، وأنه سار من جرجان إلى طميس. فافتتحها. ثم سار إلى سارية، وقد أخرب الحسن بن زيد القناطر، ورفع المعابر، وعور الطريق، وعسكر الحسن بن زيد على باب سارية متحصنًا بأودية عظام، ود مالأه خرشاد بن جيلاو، صاحب الديلم، فزحف باقتدار فيم جمع إليه من الطبرية والديالمة والخراسانية والقمية والجبلية والشأمية والجزرية، فهزمته وقتلت عدة لم يبلغها بعهدي عدة، وأسرت سبعين من الطالبيين؛ وذلك في رجب، وسار الحسن بن زيد إلى الشرز ومعه الديلم. وفي هذه السنة اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى - فيما ذكر - عن مكة من شدة الغلاء من كان بها مجاورًا إلى المدينة وغيرها من البلدان، ورحل عنها العامل الذي كان بها مقيمًا وهو بريه، وارتفع السعر ببغداد، فبلغ الكر الشعير عشرين ومائة دينار، والحنطة خمسين ومائة، ودام ذلك شهورًا. وفيها قتلت الأعراب منجور والي حمص، فاستعمل عليها بكتمر. وفيها صار يعقوب بن الليث حين انصرف عن طبرستان إلى ناحية الري، وكان السبب في مصيره إليها - فيما ذكر لي - مصير عبد الله السجزي إلى الصلابي مستجيرًا به من يعقوب، لما هزم يعقوب الحسن بن زيد، فلما صار يعقوب إلى خوار الري كتب إلى الصلابي يخيره بين تسليم عبد الله السجزي إليه حتى ينصرف عنه، ويرتحل عن عمله، وبين أن يأذن بحربه. فاختار الصلابي - فيما قيل لي - تسليم عبد الله، فسلمه إليه، فقتله يعقوب، وانصرف عن عمل الصلابي. ذكر خبر مقتل العلاء بن أحمد الأزدي وفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي. ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر أن العلاء بن أحمد فلج وتعطل، فكتب السلطان إلى أبي الرديني عمر بن علي بن مر بولاية أذربيجان، وكانت قبل إلى العلاء، فصار أبو الرديني إليها ليتسلمها من العلاء، فخرج العلاء في قبة في شهر رمضان لحرب أبي الرديني، ومع أبي الرديني جماعة من الشراة وغيرهم، فقتل العلاء. فذكر أنه وجه عدة من الرجال في حمل ما خلف العلاء، فحمل من قلعته ما بلغت قيمته ألفي وسبعمائة ألف درهم. وفيها أخذت الروم لؤلؤة من المسلمين. وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي المعروف ببريه. ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من انصراف الحسن بن زيد من أرض الديلم إلى طبرستان وإحراقه شالوس لما كان من ممالأتهم يعقوب وإقطاعه ضياعهم الديالمة. ومن ذلك ما كان من أمر السلطان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بجمع من كان ببغداد من حاج خراسان والري وطبرستان وجرجان، فجمعهم في صفر منها، ثم قرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أن السلطان لم يول يعقوب بن الليث خراسان، ويأمرهم بالبراءة منه لإنكاره دخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر. وفي هذه السنة توفي عبد الله بن الواثق في عسكر الصفار يعقوب. وفيها قتل مساور الشاري يحيى بن حفص الذي كان يلي خراسان بكرخ جدان في جمادى الآخرة، فشخص مسرور البلخي في طلبه، ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل، وتنحى مساور فلم يلحق. وفي جمادى الأولى منها هلك أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري. ذكر خبر وقعة كانت برامهرمز في هذا العام وفيها كانت بين محمد بن واصل وعبد الله بن مفلح وطاشتمر وقعة برامهرمز، فقتل ابن واصل طاشتمر، وأسر ابن مفلح. ذكر الخبر عن هذه الوقعة والسبب فيها كان السبب في ذلك - فيما ذكر لي - أن ابن واصل قتل الحارث بن سيما وهو عامل السلطان بفارس وتغلب عليها، فضمت إلى موسى بن بغا فارس والأهواز والبصرة والبحرين واليمامة؛ مع ما كان إليه من عمل المشرق؛ فوجه موسى بن بغا عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز، وولاه إياها وفارس، وضم إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل ذلك من فعل موسى، وأن ابن مفلح قد توجه إلى فارس يريده، وكان قبل مقيمًا بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة. فزحف إليه ابن واصل، فالتقيا برامهرمز، وانضم أبو داود الصعلوك إلى ابن واصل معينًا له على ابن مفلح، فظفر ابن واصل بابن مفلح، فأسره وقتل طاشتمر، واصطلم عسكر ابن مفلح، ثم لم يزل ابن مفلح في يده حتى قتله، وقد كان السلطان وجه إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل في إطلاق ابن مفلح، فلم يجبه إلى ذلك ابن واصل. ولما فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهرًا أنه يريد واسطًا لحرب موسى بن بغا حتى انتهى إلى الأهواز، وبها إبراهيم بن سيما في جمع كثير. فلما رأى موسى بن بغا شدة الأمر وكثرة المتغلبين على نواحي المشرق، وأنه لا قوام له بهم، سأل أن يعفى من أعمال المشرق، فأعفي منها، وضم ذلك إلى ابن أبي أحمد، ووليه أبو أحمد بن المتوكل، فانصرف موسى بن بغا من واسط إلى باب السلطان مع عماله عن أعمال المشرق. وفيها ولي أبو الساج الأهواز وحرب قائد الزنج، فصار إليها أبو الساج بعد شخوص عبد الرحمن بن مفلح إلى ناحية فارس. وفيها كانت بين عبد الرحمن صهر أبي الساج وعلي بن أبان المهلبي وقعة بناحية الدولاب، قتل فيها عبد الرحمن، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلها، وسبوا وانتهبوا، وأحرقوا دورها. ثم صرف أبو الساج عما كان إليه من عمل الأهواز وحرب الزنج، وولي ذلك إبراهيم بن سيما، فلم يزل مقيمًا في عمله ذلك حتى انصرف عنه بانصراف موسى بن بغا، عما كان إليه من عمل المشرق. وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان. ولما ضم عمل المشرق إلى أبي أحمد ولي مسرورًا البلخي الأهواز والبصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين في شعبان من هذه السنة، وحرب قائد الزنج. وفيها ولي نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ، وذلك في شهر رمضان منها، وكتب إليه بولايته ذلك. وفي شوال منها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس، وابن واصل مقيم بالأهواز، فانصرف منها إلى فارس، فالتقى هو ويعقوب بن الليث في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وفل عسكره، وبعث إلى خرمة إلى قلعة ابن واصل، فأخذ ما كان فيها، فذكر أنه بلغت قيمة ما أخذ يعقوب منها أربعيمن ألف ألف درهم، وأسر مرداسًا خال ابن واصل. وفيها أوقع أصحاب يعقوب بن الليث بأهل زم موسى بن مهران الكردي، لما كان من ممالأتهم محمد بن واصل، فقتلوهم، وانهزم موسى بن مهران. وفيها لاثنتي عشرة مضت من شوال منها، جلس المعتمد في دار العامة، فولي ابنه جعفرًا العهد، وسماه المفوض إلى الله، وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا، وولاه إفريقية ومصر والشأم والجزيرة والموصل وإرمينية وطريق خراسان ومهرجا نقذق وحلوان، وولي أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر، وولاه المشرق، وضم إليه مسرورًا البلخي، وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وأصبهان وقم والكرج والدينور والري وزنجان وقزوين وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والسند، وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض، وشرط إن حدث به حدث الموت وجعفر لم يكمل للأمر، أن يكون الأمر لأبي أحمد ثم لجعفر. وأخذت البيعة على الناس بذلك، وفرقت نسخ الكتاب، وبعث بنسخة مع الحسن بن محمد بن أبي الشوارب ليعلقها في الكعبة، فعقد جعفر المفوض لموسى بن بغا على المغرب في شوال وبعث إليه بالعقد مع محمد المولد. وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث، فاعتزل عسكره في آلاف من أصحابه، فصار إلى أبي الساج فقبله، وأقام معه بالأهواز، وبعث إليه من سامرا بخلعة، ثم سأل ابن زيدويه السلطان توجيه الحسين بن طاهر بن عبد الله معه إلى خراسان. وسار مسرور البلخي مقدمة لأبي أحمد من سامرا، لسبع خلون من ذي الحجة، وخلع عليه وعلى أربعة وثلاثين من قواده - فيما ذكر - وشيعه وليا العهد، واتبعه الموفق شاخصًا من سامرا لتسع بقين من ذي الحجة. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. ومات الحسن بن محمد بن أبي الشوارب فيها بمكة بعدما حج. ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر دخول يعقوب بن الليث رامهرمز فمما كان فيها من ذلك موافاة يعقوب بن الليث رامهرمز في المحرم وتوجيه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج، وإخراج السلطان من كان محبوسًا من أسباب يعقوب بن الليث من السجن؛ لأنه لما كان من أمره ما كان في أمر محمد بن طاهر، حبس السلطان غلامه وصيفًا ومن كان قبله من أسبابه، فأطلق عنهم بعدما وافى يعقوب رامهرمز؛ وذلك لخمس خلون من شهر ربيع الأول. ثم قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب، وخرج إلى سامرا برسالة من عنده، فجلس أبو أحمد ببغداد، ودعا بجمعة من التجار، وأعلمهم أن أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والري وفارس والشرطة بمدينة السلام؛ وذلك بمحضر من درهم بن نصر صاحب يعقوب وكان المعتمد قد صرف درهمًا هذا من سامرا إلى يعقوب بجواب ما كان يعقوب أرسله، يسأله لنفسه، فأرسل معه إليه عمر بن سيما ومحمد بن تركشه، ووافى فيها رسل ابن زيدويه بغداد في شهر ربيع الأول منها برسالة من عنده، فخلع عليه أبو أحمد، ثم انصرف في هذه السنة الذين توجهوا إلى يعقوب بن الليث إلى السلطان، فأعلموه أنه يقول: إنه لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى باب السلطان، وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار أبو الساج إليه، فقبله وأكرمه ووصله. ولما رجعت الرسل بما كان من جواب يعقوب عسكر المعتمد يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة بالقائم بسامرا، واستخلف على سامرا ابنه جعفرًا، وضم إليه محمدًا المولد، ثم سار منها يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الآخرة، ووافى بغداد يوم الأربعاء لأربع عشرة خلت من جمادى الآخرة، فاشتقها حتى جازها، وصار إلى الزعفرانية فنزلها، وقدم أخاه أبا أحمد من الزعفرانية. فسار يعقوب بجيشه من عسكر مكرم؛ حتى صار من واسط على فرسخ، فصادف هنالك بثقًا قد بثقه مسرور البلخي من دجلة لئلا يقدر على جوازه، فأقام عليه حتى سده وعبره؛ وذلك لست بقين من جمادى الآخرة، وصار إلى باذبين، ثم وافى محمد بن كثير من قبل يعقوب عسكر مسرور البلخي، فصار بإزائه، فصار مسرور بعسكره إلى النعمانية، ووافى يعقوب واسطًا، فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة. وارتحل المعتمد من الزعفرانية يوم الخميس لليلة بقيت من جمادى الآخرة؛ حتى صار إلى سيب بني كوما، فوافاه هنالك مسرور البلخي، وكان مسير مسرور البلخي إليه في الجانب الغربي من دجلة، فعبر إلى الجانب الذي فيه العسكر، فأقام المعتمد بسيب بني كوما أيامًا، حتى اجتمعت إليه عساكره، وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول، ثم زحف من دير العاقول نحو عسكر السلطان، فأقام المعتمد بالسيب، ومعه عبيد الله بن يحيى، وأنهض أخاه أبا أحمد لحرب يعقوب، فجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته، ومسرورًا البلخي على ميسرته، وصار هو في خاصته، ونخبة رجاله في القلب. والتقى العسكران يوم الأحد لليال خلون من رجب بموضع يقال له اضطربد بين سيب بني كوما ودير العاقول. فشدت ميسرة يعقوب على ميمنة أبي أحمد فهزمتها، وقتلت منها جماعة كثيرة منهم من قوادهم إبراهيم بن سيما التركي وطباغوا التركي ومحمد طغتا التركي والمعرف بالمبرقع المغربي وغيرهم ثم ثاب المنهزمون وسائر عسكر أبي أحمد ثابت، فحملوا على يعقوب وأصحابه، فثبتوا وحاربوا حربًا شديدًا، وقتل من أصحاب يعقوب جماعة من أهل البأس؛ منهم الحسن الدرهمي ومحمد بن كثير. وكان على مقدمة يعقوب - والمعروف بلبادة - فأصابت يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه، ولم تزل الحرب بين الفريقين - فيما قيل - إلى آخر وقت صلاة العصر. ثم وافى أبا أحمد الديراني ومحمد بن أوس، واجتمع جميع من في عسكر أبي أحمد، وزد ظهر من كثير ممن مع يعقوب كراهة القتال معه إذ رأوا السلطان قد حضر لقتاله، فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت يعقوب في خاصة أصحابه؛ حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب. فذكر أنه أخذ من عسكره من الدواب والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس، ومن الدنانير والدراهم ما يكل عن حمله، ومن جرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر بن عبد الله، وكان مثقلًا بالحديد؛ خلصه الذي كان موكلًا به. ثم أحضر محمد بن طاهر، فخلع عليه عى مرتبته، وقرئ على الناس كتاب فيه: ولم يزل الملعون المارق المسمى يعقوب بن الليث الصفار ينتحل الطاعة، حتى أحدث الأحداث المنكرة؛ ومن مصيره إلى صاحب خراسان، وغلبته إياه عليها، وتقلده الصلاة والإحداث بها، ومصيره إلى فارس مرة بعد نرة، واستيلائه على أموالها، وإقباله إلى باب أمير المؤمنين مظهر المسألة في أمور أجابه أمير المؤمنين منها ما لم يكن يستحقه، استصلاحًا له، ودفعًا بالتي هي أحسن؛ فولاه خراسان والري وفارس وقزوين وزنجان والشرطة بمدينة السلام، وأمر بتكنيته في كتبه، وأقطعه الضياع النفسية، فما زاده ذلك إلا طغيانًا وبغيًا، فأمره بالرجوع فأبى، فنهض أمير المؤمنين لدفع الملعون حين توسط الطريق بين مدينة السلام وواسط، وأظهر يعقوب أعلامًا على بعضها الصلبان، فقدم أمير المؤمنين أخاه أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين في القلب، ومعه أبو عمران موسى بن بغا في الميمنة وفي جناح الميمنة إبراهيم ابن سيما، وفي الميسرة أبو هاشم مسرور البلخي، وفي جناح الميسرة الديراني، فتسرع وأشياعه في المحاربة، فحاربه حتى أثخن بالجراح، وحتى انتزع أبو عبد الله بن طاهر سالمًا من أيديهم، وولوا منهزمين مجروحين مسلوبين، وسلم الملعون كل ما حواه ملكه " كتابًا مؤرخًا بيوم الثلاثاء لإحدى عشرة خلت من رجب. ثم رجع المعتمد إلى معسكره وكتب إلى ابن واصل بتولية فارس، وقد كان صار إليها وجمع جماعة. ثم رجع المعتمد إلى المدائن ومضى أبو أحمد ومعه مسرور وساتكين وجماعة من القواد، وبض على ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وأقطعها مسرورًا البلخي، وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد يوم الاثنين لأربع عشرة بيت من رجب وقد رد إليه العمل، فخلع عليه في الرصافة، فنزل دار عبد الله بن طاهر، فلم يعزل حدًا، ولم يول وأمر له بخمسمائة ألف درهم. وكانت الوقعة التي كانت بين السلطان والصفار يوم الشعانين. وقال محمد بن علي بن فيد الطائي يمدح أبا أحمد ويذكر أمر الصفار: نعب الغراب عدمته من ناعب ** وصبا فؤادي لادكار حبائبي نادى بينهم فجادت مقلتي ** لزيال أرحلهم بدمعٍ ساكب بانوا بأتراب أوانس كالدمى ** مثل المهاقب البطون كواعب فأولئكن غرائر تيمنني ** بسوالف وقوائم وحواجب لولى عهد المسلمين مناسب ** شرفت وأشرق نورها بمناصب ومراتب في ذروةٍ لا ترتقى ** أكرم بها من ذروة مراتب ولقد أتى الصفار في عددٍ لها ** حسنٌ فوافتهن نكبة ناكب جلب القضاء إليه حتفًا عاجلًا ** سقيًا ورعيًا للقضاء الجالب أغواه إبليس اللعين بكيده ** واغتره منه بوعدٍ كاذب حتى اذا اختلفوا وظنّ بأنه ** قد عز بين عساكرٍ وكتائب دلفت إليه عساكر ميمونةٌ ** يلقون زحفًا باللواء الغالب في جحفل لجبٍ ترى أبطاله ** من دراعٍ أو رامحٍ أو ناشب وبدا الإمام برايةٍ منصورة ** لمحمد سيف الإله القاضب وولى عهد المسلمين موفقٌ ** وبالله أمضى من شهابٍ ثاقب وكأنه في الناس بدرٌ طالع ** متهلل بالنور بين كواكب لما التقوا بالمشرفية والقنا ** ضربًا وطعن محاربٍ لمحارب ثار العجاج وفوق ذاك غمامةٌ ** غراء تسكب وبل صوبٍ صائب فل الجموع بحزم رأي ثاقب ** منه وأفرد صاحبًا عن صاحب لله در موفق ذي بهجةٍ ** ثبت المقام لدي الهياج مواثب يا فارس العرب الذي ما مثله ** في الناس يعرف آخرٌ لنوائب من فادح الزمن العضوض ومن لقا ** جيشٍ لذي غدر خئون غاصب ذكر خبر توجه رجال الزنج إلى البطيحة ودست ميسان وفيها وجه قائد الزنج جيوشه إلى ناحية البطيحة ودست ميسات. ذكر الخبر عن سبب توجيهه إياهم إليها ذكر أن سبب ذلك كان أن المعتمد لما صرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وما كان متصلًا بها، وضمها إلى أخيه أبي أحمد، وضم أبو أحمد عمل كور دجلة إلى مسرور البلخي، وأقبل يعقوب بن الليث مريدًا أبا أحمد، وصار إلى واسط، خلت كور دجلة من أسباب السلطان، خلا المدائن وما فوق ذلك. وكان مسرور قد وجه قبل ذلك إلى الباذاوارد مكان موسى بن أتامش جعلان التركي، وكان بإزاء موسى بن أتامش، من قبل قائد الزنج سليمان بن جامع، وقد كان سليمان قبل أن يصرف ابن أتامش عن الباذاورد، قد نال من عسكره؛ فلما صرف ابن تامش وجعل موضعه جعلان، وجه سليمان من قبله رجلًا من البحرانيين يقال له ثعلب بن حفص، فأوقع به، وأخذ منه خيلًا ورجلًا، ووجه قائد الزنج من قبله رجلًا من أهل جبي يقال له أحمد بن مهدي في سميريات، وفيها رماة من أصحابه، فأنفذه إلى نهر المرأة، فجعل الجبائي يوقع بالقرى التي بنواحي المذار - فيما ذكر - فيعيث فيها، ويعود إلى نهر المرأة فيقيم به. فكتب هذا الجبائي إلى قائد الزنج يخبر بأن البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وعساكره عند ورود يعقوب بن الليث واسطًا. فأمر قائد الزنج سليمان بن جامع وجماعة من قواده بالمصير إلى الحوانيت، فأمر رجلًا من الباهليين يقال له عمير بن عمار، كان عالمًا بطرق البطيحة ومسالكها، أن يسير مع الجبائي حتى يستقر بالحوانيت. فذكر محمد بن الحسن أن محمد بن عثمان العباداني قال: لما عزم صاحب الزنج على توجيه الجيوش إلى ناحية البطيحة ودستميسان أمر سليمان بن جامع أن يعسكر بالمطوعة وسلمان بن موسى أن يعسكر على فوهة النهر المعروف باليهودي، ففعلا ذلك، وأقاما إلى أن أتاهما إذنه، فنهضا، فكان مسير سليمان بن موسى إلى القرية المعروفة بالقادسية، ومسير سليمان بن جامع إلى الحوانيت والجبائي في السميريات أمام جيش سليمان بن جامع، ووافى أبا التركي دجلة في ثلاثين شذاة، فانحدر يريد عسكر قائد الزنج، فمر بالقرية التي كانت داخلة في سلم الخبيث فنال منها، وأحرق؛ فكتب الخبيث إلى سليمان بن موسى في منعه الرجوع، وأخذ عليه سليمان الطريق، فأقام شهرًا يقاتل حتى تخلص فصار إلى البطيحة. وذكر محمد بن عثمان أن جباشًا الخادم زعم أن أبا التركي لم يكن صار إلى دجلة في هذا الوقت، وأن المقيم كان هناك نصير المعروف بأبي حمزة. وذكر أن سليمان بن جامع لما فصل متوجهًا إلى الحوانيت، انتهى إلى موضع يعرف بنهر العتيق. وقد كان الجبائي سار في طريق الماديان، فتلقاه رميس، فواقعه الجبائي، فهزمه، وأخذ منه أربعًا وعشرين سميرية ونيفًا وثلاثين صلغة، وأفلت رميس، فاعتصم بأجمة لجأ إليها، فأتاه قوم من الجوخانيين، فأخرجوه منها فنجا. ووافق المنهزمين من أصحاب رميس خروج سليمان من النهر العتيق، فتلقاهم فأوقع بهم، ونال منهم نيلًا، ومضى رميس حتى لحق بالموضع المعروف ببر مساور، وانحاز إلى سليمان جماعة من مذكوري البلاليين وأنجادهم في خمسين ومائة سميرية، فاستخبرهم عما أمامه، فقالوا: ليس بينك وبين واسط أحدٌ من عمال السلطان وولاته. فاغتر سليمان بذلك، وركن إليه، فسار حتى انتهى إلى الموضع الذي يعرف بالجازرة، فتلقاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه، فانهزم سليمان عنه، وقتل أبو معاذ جماعة من أصحابه، وأسر قائدًا من قواد الزنج، يقال له القندلي. فانصرف سليمان إلى الموضع الذي كان معسكرًا به، فأتاه رجلان من البلالية، فقالا له: ليس بواسط أحد يدفع عنها غير أبي معاذ في الشذوات الخمس التي لقيك بها. فاستعد سليمان وجمع أصحابه وكتب إلى الخبيث كتابًا مع البلالية الذين كانوا استأمنوا إليه وأنقذهم إلا جميعة يسيرة في عشرة سميريات، انتخبهم للمقام معه، واحتبس الاثنين معه اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه به، وصار قاصدًا لنهر أبان، فاعترض له أبو معاذ في طريقه، وشبت الحرب بينهما، وعصفت الريح، فاضطربت شذا أبي معاذ، وقوى عليه سليمان وأصحابه، فأدبر عنهم معردًا، ومضى سليمان حتى انتهى إلى نهر أبان، فاقتحمه، وأحرق وأنهب، وسبى النساء والصبيان، فانتهى الخبر بذلك إلى وكلاء كانوا لأبي أحمد في ضياع من ضياعه مقيمين بنهر سنداد، فساروا إلى سليمان في جماعة، فأوقعوا به وقعةً، قتلوا فيها جمعًا كثيرًا من الزنج، وانهزم سليمان وأحمد بن مهدي ومن معهما إلى معسكرهما. قال محمد بن الحسن: قال محمد بن عثمان: لما استقر سليمان بن جامع بالحوانيت، ونزل بنهر يعرف بيعقوب بن النضر، وجه رجلًا ليعرف خبر واسط ومن فيها من أصحاب السلطان؛ وذلك بعد خروج مسرور البلخي وأصحابه عنها، لورود يعقوب إياها. فرجع إليه، فأخبره بمسير يعقوب نحو السلطان، وقد كان مسرور قبل شخوصه عن واسط إلى السيب وجه إلى سلميمان رجلًا يقال له وصيف الرحال في شذوات؛ فواقعه سليمان فقتله، وأخذ منه سبع شذوات، وقتل من ظفر به، وألقى القتلى بالحوانيت ليدخل الرهبة في قلوب المجتازين بهم من أصحاب السلطان. فلما ورد على سليمان خبر مسير مسرور عن واسط، دعا سليمان عمير بن عمار خليفته ورجلًا من رؤساء الباهليين يقال له أحمد بن شريك، فشاورهما في التنحي عن الموضع الذي تصل إليه الخيل والشذوات، وأن يلتمس موضعًا يتصل بطريق مني أراد الهرب منه إلى عسكر الخبيث سلكه، فأشارا عليه بالمصير إلى عقر ماور، والتحصن بطهيثا والأدغال التي فيها. وكره الباهليون خروج سليمان بن جامع من بين أظهرهم لغمسهم أيديهم معه، وما خافوا من تعقب السلطان إياهم، فحمل سليمان بأصحابه ماضيًا في نهر البرور إلى طهيثا، وأنفذ الجبائي إلى النهر المعروف بالعتيق في السميريات، وأمره بالبدار إليه بما يعرف من خبر الشذا، ومن يأتي فيها ومن أصحاب السلطان، وخلف جماعة من السودان لإشخاص من تخلف من أصحابه، وسار حتى وافى عقر ماور، فنزل الرية المعروفة بقرية مروان بالجانب الشرقي من نهر طهيثا في جزيرة هناك. وجمع إليه رؤساء الباهليين وأهل الطفوف، وكتب إلى الخبيث يعلمه ما صنع، فكتب إليه يصوب رأيه، ويأمره بإنفاذ ما قبله من ميرة ونعم وغنم، فأنفذ ذلك إليه، وسار مسرور إلى موضع معسكر سليمان الأول، فلم يجد هناك كثير شيء، ووجد القوم قد سبقوه إلى نقل ما كان في معسكرهم، وانحدر أبا التركي إلى البطائح في طلب سليمان؛ وهو يظن أنه قد ترك الناحية، وتوجه نحو مدينة الخيث فمضى. فلم يقف لسليمان على أثر، وكر راجعًا، فوجد سليمان قد أنفذ جيشًا إلى الحوانيت ليطرق من شذ من عسكر مسرور، فخالف الطريق الذي خاف أن يؤديه إليهم، ومضى في طريق آخر؛ حتى انتهى إلى مسرور، فأخبره أنه لم يعرف لسليمان خبرًا. وانصرف جيش سليمان إليه بما امتاروا، وأقام سليمان، فوجه الجبائي في الشميريات للوقوف على مواضع الطعام والمير والاحتيال في حملها. فكان الجبائي لا ينتهي إلى ناحية فيجد فيها شيئًا من الميرة إلا أحرقه، فساء ذلك سليمان، فنهاه عنه فلم ينته، وكان يقول: إن هذه الميرة مادة لعدونا، فليس الرأي ترك شيء منها. فكتب سليمان إلى الخبيث يشكو ما كان من الجبائي في ذلك، فورد كتاب الخبيث على الجبائي يأمره السمع والطاعة لسليمان، والائتمار له فيما يأمره به. وورد على سلمان أن أغرتمش وخشيشا قد أقبلا قاصدين إليه في الخيل والرجال والشذا والسميريات، يريدان مواقعته. فجزع جزعًا شديدًا، وأنفذ الجبائي ليعرف أخبارهما، وأخذ في الاستعداد للقائهما، فلم يلبث أن عاد إليه الجبائي مهزومًا، فأخبره أنهما قد وافيا باب طنج؛ وذلك على نصف فرسخ من عسكر سليمان حينئذ، فأمره بالرجوع والوقوف في وجه الجيش، وشغله عن المصير إلى العسكر إلى أن يلحق به؛ فلما أنفذ الجبائي لما وجه له صعد سليمان سطحًا، فأشرف منه، فرأى الجيش مقبلًا، فنزل مسرعًا، فعبر نهر طهيثا، ومضى راجلًا، وتبعه جمعٌ من قواد السودان حتى وافوا باب طنج، فاستدبر أغرتمش، وتركهم حتى جدوا في المسير إلى عسكره. وقد كان أمر الذي استخلفه على جيشع ألا يدع أحدًا من السودان يظهر لأحد من أهل جيش أغرتمش، وأن يخفوا أسخاصهم ما قدروا، ويدعوا القوم حتى يتوغلوا النهر إلى أن يسمعوا أصوات طبوله؛ فإذا سمعوها خرجوا عليهم، وقصدوا أغرتمش. فجاء أغرتمش بجيشه حتى لم يكن بينه وبين العسكر إلا نهر يأخذ من طهيثا يقال له جارورة بني مروان. فانهزم الجبائي في السميريات حتى وافى طهيثا، فخلف سميرياته بها، وعاد راجلًا إلى جيش سليمان، واشتد جزع أهل عسكر سليمان منه، فتفرقوا أيادي سبا، ونهضت منهم شرذمة فيها قائد من قواد السودان يقال له أبو النداء، فتلقوهم فواقعوهم، وشغلوهم عن دخول العسكر، وشد سليمان من وراء القوم، وضرب الزنج بطبولهم، وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم؛ فانهزم أصحاب أغرتمش وشد عليهم من كان بطهيثا من السودان، ووضعوا السيوف فيهم، وأقبل خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره، فتلقاه السودان، فصرعوه وأخذته سيوفهم، فقتل وحمل رأسه إلى سليمان، وقد كان خشيش حين انتزعوا إليه، قال لهم: أنا خشيش؛ فلا تقتلوني، وامضوا بي إلى أصحابكم. فلم يسمعوا لقوله وانهزم أغرتمش، وكان في آخر أصحابه، ومضى حتى ألقى نفسه إلى الأرض، فركب دابة ومضى، وتبعهم الزنج حتى وصلوا إلى عسكرهم؛ فنالوا حاجتهم منه، وظفروا بشذوات كانت مع خشيش، وظفر الذين اتبعوا الجيش المولى بشذوات كانت مع أغرتمش فيها مال. فلما انتهى الخبر إلى أغرتمش، كر راجعًا حتى انتزعها من أيديهم، ورجع سليمان إلى عسكره، وقد ظفر بأسلاب ودواب، وكتب بخبر الوقعة إلى قائد الزنج؛ وما كان منه فيها. وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، وأقر الشذوات التي أخذها في عسكره. فلما وافى كتاب سليمان ورأس خشيش، أمر فطيف به في عسكره، ونصب يومًا؛ ثم حمله إلى علي بن أبان، وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك؛ وخرج سليمان والجبائي معه وجماعة من قواد السودان إلى ناحية الحوانيت متطرفين، فتوافقوا هناك ثلاث عشرة شذاة مع المعروف بأبي تميم أخي المعروف بأبي عون صاحب وصيف التركي، فأوقعوا به، فقتل وغرق، وظفروا من شذواته بإحدى عشرة شذاة. قال محمد بن الحسن: هذا خبر محمد بن عثمان العباداني؛ فأما جباش؛ فزعم أن الشذا التي كانت مع أبي تميم كانت ثمانية، فأفلت منها شذاتان كانتا متأخرتين، فمضتا بمن فيهما وأصاب سلاحًا ونهبًا، وأتى على أكثر من كان في تلك الشذوات من الجيش، ورجع سليمان إلى عسكره، وكتب إلى الخبيث بما كان منه من قتل المعروف بأبي تميم؛ ومن كان معه، واحتبس الشذوات في عسكره. وفيها كبس ابن زيدويه الطيب، فأنهبها. وفيها ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب. وفيها خرج الحسين بن طاهر بن عبد الله من بغداد لليال بقين منه، فصار إلى الجبل. وفيها مات الصلابي، وولي الري كيغلغ. ومات صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها. وولي إسماعيل بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد، فجمع له قضاء الجانبين. وفيها قتل محمد بن عتاب بن عتاب، وكان ولي السيبين فصار إليها، فقتله الأعراب. وللنصف من شهر رمضان صار موسى بن بغا إلى الأنبار متوجهًا إلى الرقة. وفيها قتل أيضًا القطان صاحب مفلح، وكان عاملًا بالموصل على الخراج، فانصرف منها، فقتل في الطريق. وعقد فيها لكفتمر علي بن الحسين بن داود كاتب أحمد بن سهل اللطفي على طريق مكة في شهر رمضان. وفيها وقع بين الحناطين والجزارين بمكة قتال قبل يوم التروية بيوم، حتى خاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن يحج الناس، وقد قتل منهم سبعة عشر رجلًا. وفيها غلب يعقوب بن الليث على فارس وهرب ابن واصل. ذكر خبر الوقعة بين الزنج وأحمد بن ليثويه وفيها كانت وقعة بين الزنج وأحمد بن ليثويه، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأسر أبا داود الصعلوك وقد كان صار معهم. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسبب أسر الصعلوك ذكر أن مسروًا البلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى ناحية كور الأهواز، فلما وصل إليها نزل السوس، وكان الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن أزاذ مرد الكردي كور الأهواز، فكتب محمد بن عبيد الله إلى قائد الزنج يطمعه في الميل إليه، وقد كانت العادة جرت بمكاتبة محمد إياه من أول مخرجه، وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز ويداري الصفار حتى يستوي له الأمر فيها، فأجابه الخبيث إلى ذلك على أن يكون علي بن أبان المتولي لها، ويكون محمد بن عبيد الله يخلفه عليها فقبل محمد بن عبيد الله ذلك، فوجه علي بن أبان أخاه الخليل بن أبان، في جمع كثير السودان وغيرهم، وأيدهم محمد بن عبيد الله بأبي الصعلوك، فمضوا نحو السوس، فلم يصلوا إليها؛ ودفهم ابن ليثويه ومن كان معه من أصحاب السلطان عنها، فانصرفوا مفلولين، وقد قتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر منهم جماعة، وسار أحمد بن ليثويه حتى نزل جندى سابور. وسار علي بن أبان من الأهواز منجدًا محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فتلقاه محمد بن عبيد الله في جمع من الأكراد والصعاليك؛ فلما قرب منه محمد بن عبيد الله سارا جميعًا، وجعلا بينهما المسرقان؛ فكانا يسيران عن جانبيه ووجه محمد بن عبيد الله رجلًا من أصحابه في ثلثمائة فارس، فانضم إلى علي بن أبان، فسار علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله إلى أن وافيا عسكر مكرم، فصار محمد بن عبيد الله إلى علي بن أبان وحده، فالتقيا وتحادثا، وانصرف محمد إلى عسكره، ووجه إلى علي بن أبان القاسم بن علي ورجلًا من رؤساء الأكراد، يقال له حازم، وشيخًا من أصحاب الصفار يعرف بالطالقاني، وأتوا عليًا، فسلموا عليه، ولم يزل محمد وعلي على ألفة، إلى أن وافى على قنطرة فارس، ودخل محمد بن عبيد الله تستر، وانتهى إلى أحمد بن ليثويه تضافر علي بن أبان ومحمد بن عبيد الله على قتاله، فخرج عن جندي سابور، وصار إلى السوس. وكانت موافاة علي قنطرة فارس في يوم الجمعة، وقد وعده محمد بن عبيد الله أن يخطب الخاطب يومئذ، فيدعو لقائد الزنج، وله على منبر تستر، فأقام علي منتظرًا ذلك، ووجه بهبوذ بن عبد الوهاب لحضور الجمعة وإتيانه بالخبر؛ فلما حضرت الصلاة قام الخطيب، فدعا للمعتمد والصفار ومحمد بن عبيد الله، فرجع بهبوذ إلى علي بالخبر، فنهض علي من ساعته، فركب دوابه، وأمر أصحابه بالانصراف إلى الأهواز، وقدمهم أمامه، وقدم معهم ابن أخيه محمد بن صالح ومحمد بن يحيى الكرماني خليفته، وكاتبه وأقام حتى إذا جاوزوا كسر قنطرة كانت هناك لئلا يتبعه الخيل. قال محمد بن الحسن: وكنت فيمن انصرف مع المتقدمين من أصحاب علي، ومر الجيش في ليلتهم تلك مسرعين، فانتهبوا إلى عسكر مكرم في وقت طلوع الفجر؛ وكانت داخلة في سلم الخبيث، فنكث أصحابه، وأوقعوا بعسكر مكرم، وناولوا نهبًا. ووافى علي بن أبان في أثر أصحابه، فوقف على ما أحدثوا فلم يقدر على تغييره، فمضى حتى صار إلى الأهواز ولما انتهى إلى أحمد بن ليثويه انصراف علي، كر راجعًا حتى وافى تستر، فأوقع بمحمد بن عبيد الله ومن معه، فأفلت محمد، ووقع في يده المعروف بأبي داود الصعلوك، فحمله إلى باب السلطان المعتمد، وأقام أحمد بن ليثويه بتستر. قال محمد بن الحسن: فحدثني الفضل بن عدي الدارمي - وهو أحد من كان من أصحاب قائد الزنج انضم إلى محمد بن أبان أخي علي بن أبان قال: لما استقر أحمد بن ليثويه بتستر، خرج إليه علي بن أبان بجيشه، فنزل قرية يقال لها برنجان، ووجه طلائع يأتونه بأخباره، فرجعوا إليه، فأخبروه أن ابن ليثويه قد أقبل نحوه، أوائل خيله قد وافت قرية تعرف بالباهليين، فزحف علي بن أبان إليه، وهو يبشر أصحابه، ويعدهم الظفر، ويحكى لهم ذلك عن الخبيث. فلما وافى الباهليين تلقاه ابن ليثويه في خيله، وهي زهاء أربعمائة فارس؛ فلم يلبثوا أن أتاهم مدد خيل، فكثرت خيل أصحاب السلطان واستأمن جماعة من الأعراب الذين كانوا مع علي بن أبان إلى ابن ليثويه، وانهزم باقي خيل علي بن أبان، وثبت جمعية من الرجالة، وتفرق عنه أكثرهم، واشتد القتال بين الفريقين، وترجل علي بن أبان، وباشر القتال بنفسه راجلًا، وبين يديه غلام من أصحابه يقال له فتح، يعرف بغلام أبي الحديد، فجعل يقاتل معه. وبصر بعلي أبو نصر سلهب وبدر الرومي المعروف بالشعراني فعرفاه، فأنذر الناس به، فانصرف هاربًا حتى لجأ إلى المسرقان، فألقى بنفسه فيه، وتلاه فتح، فألقى نفسه معه، فغرق فتح، ولحق علي بن أبان نصر المعروف بالرومي، فتخلصه من الماء، فألقاه في سميرية ورمى علي بسهم، وأصيب به في ساقه، وانصرف مفلولًا، وقتل من أنجاد السودان وأبطالهم جماعة كثيرة. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن العباس بن محمد. ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من ظفر عزيز بن السري صاحب يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل وأخذه أسيرًا. وفيها كانت بين موسى دالجويه والأعراب بناحية الأنبار وقعة، فهزموه وفلوه، فوجه أبو أحمد ابنه أحمد في جماعة من قواده في طلب الأعراب الذين فلوا موسى دالجويه. وفيها وثب الديراني بابن أوس فبيته ليلاٍ، وفرق جمعه، ونهب عسكره، وأفلت ابن أوس، ومضى نحو واسط. وفيها خرج في طريق الموصل رجلٌ من الفراغنة، فقطع الطريق، فظفر به فقتل. ذكر الوقعة بين ابن ليثويه مع أخي علي بن أبان وفيها أقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر، وصار فيها يعقوب إلى الأهواز، وقد كان لابن ليثويه قبل ارتحاله عن تستر وقعة مع أخي علي بن أبان، وظفر فيها بجماعة كثيرة من زنوجه. ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر عن علي بن أبان، أن ابن ليثويه لما هزمه في الوقعة التي كانت بينها في الباهليين، فأصابه ما أصابه فيها، ووافى الأهواز، لم يقم بها، ومضى إلى عسكر صاحبه قائد الزنج، فعالج ما قد أصابه من الجراح حتى برأ، ثم كر راجعًا إلى الأهواز، ووجه أخاه الخليل بن أبان وابن أخيه محمد بن صالح المعروف بأبي سهل، في جيش كثيف إلى ابن ليثويه؛ وهو يومئذ مقيم بعسكر مكرم، فسارا فيمن معهما، فلقيهما ابن ايثويه على فرسخ من عسكر مكرم، قاصدًا إليهما، فالتقى الجمعان، وقد كمن ابن ليثويه كمينًا. فلما استحر القتال تطارد ابن ايثويه، فطمع الزنج فيه، فتبعوه حتى جاوزا الكمين، فخرج من ورائهم؛ فانهزموا وتفرقوا، وكر عليهم ابن ليثويه، فنال حاجته منهم، ورجعوا مفلولين. فانصرف ابن ليثويه بما أصاب من الرءوس إلى تستر، ووجه علي بن أبان انكلويه مسلحةً إلى المسرقان إلى أحمد بن ليثويه، فوجه إليه ثلاثًا فارسًا من جلد أصحابه، وانتهى إلى الخليل بن أبان مسير أصحاب ابن ليثويه إلى المسلحة، فكم لهم فيمن معه، فلما وافوه خرج إليهم، فلم يفلت منهم أحد، وقتلوا عن آخرهم، وحملت رءوسهم إلى علي بن أبان، وهو بالأهواز، فوجهها إلى الخبيث، وحينئذ أتي الصفار الأهواز، وهرب عنها ابن ليثويه. ذكر الخبر عما كان من أمر الصفار هنالك في هذه السنة ذكر أن يعقوب بن الليث لما صار إلى جندي سابور، نزلها وارتحل عن تلك الناحية كل من كان بها من قبل السلطان، ووجه إلى الأهواز رجلًا من قبله يقال له الحصن بن العنبر، فلما قاربها خرج عنها علي أبان صاحب قائد الزنج، فنزل نهر السدرة، ودخل حصن الأهواز، فأقام بها، وجعل أصحابه علي بن أبان يغير بعضهم على بعض، فيصيب كل فريق منهم من صاحبه، إلى أن استعد علي بن أبان، وسار إلى الأهواز، فأوقع بالحصن ومن معه غليظة، قتل فيها من أصحاب يعقوب خلقًا كثيرًا، وأصاب خيلًا، وغنم غنائم كثيرة، وهرب الحصن ومن معه إلى عسكر مكرم، وأقام علي بالأهواز حتى استباح ما كان فيها، ثم رجع عنها إلى نهر السدرة، وكتب إلى بهبوذ يأمره بالإيقاع برجل من الأكراد من أصحاب الصفار كان مقيمًا بدورق، فأوقع به بهبوذ، فقتل رجاله وأسره، فمن عليه؛ فكان علي بعد ذلك يتوقعمسير يعقوب إليه فلم يسير، وأمد الحصن ابن العنبر بأخيه الفضل بن العنبر، وأمرهما بالكف عن قتال أصحاب الخبيث، والاقتصار على المقام بالأهواز. وكتب إلى علي بن أبان يسأله المهادنة وأن يقر أصحابه بالأهواز، فأبى ذلك علي دون نقل طعام كان هناك، فتجافى له الصفار عن نقل الطعام، وتجافى علي للصفار عن علف كان بالأهواز، فنقل علي الطعام، وترك العلف، وتكاف الفريقان، أصحاب علي وأصحاب الصفار. وفيها توفي مساور بن عبد الحميد الشاري. وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، سقط عن دابته في الميدان من صدمه خادم له، يقال له رشيق، يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة، فسال من منخره وأذنه دم، فمات بعد أن سقط بثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد بن المتوكل، ومشى في جنازته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد. ثم قدم موسى بن بغا سامرا لثلاث بقين من ذي العقدة، فهرب الحسن بن مخلد إلى بغداد، واستوزر مكانه سليمان بن وهب، لست ليال خلون من ذي الحجة، ثم ولى عبيد بن سليمان كتبه المفوض والموفق إلى ما كان يلي من كتبه موسى بن بغا، ودفعت دار عبيد الله بن يحيى إلى كيغلغ. وفيها خرج أخو شركب الحسين بن طاهر عن نيسابور، وغلب عليها، وأخذ أهلها بإعطائه ثلث أموالهم، وصار الحسين إلى مرو، وبها أخو خوارزم شاه يدعو لمحمد بن طاهر. وفي هذه السنة سلمت الصقالبة لؤلؤة إلى الطاغية. وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل. ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك توجيه يعقوب الصفار جيشًا إلى الضيمرة، فتقدمه إليها، وأخذوا صيغون ومضى به إليه أسيرًا، فمات عنده. ولإحدى عشرة خلت من المحرم، عسكر أبو أحمد ومعه موسى بن بغا بالقائم، وشيعهما المعتمد، ن ثم شخصا من سامرا لليلتين خلتا من صفر، فلما صار ببغداد، مات بها موسى بن بغا، وحمل إلى سامرا، فدفن بها. وفيها في شهر ربيع الأول ماتت قبيحة أم المعتز. وفيها صار ابن الديراني إلى الدينور، وتعاون ابن عياض ودلف بن عبد العزيز بن أبي دلف عليه، فهزماه وأخذا أمواله وضياعه، ورجع إلى حلوان مفلولًا. خبر أسر الروم لعبد الله بن رشيد وفيها أسرت الروم عبد الله بن رشيد بن كاوس. ذكر الخبر عن سبب أسرهم إياه ذكر أن سبب ذلك كان أنه دخل أرض الروم في أربعة آلاف من أهل الثغور الشأمية، فصار إلى حصنين والمسكنين، فغنم المسلمون، وقفل، فلما رحل عن البدندون، خرج عليه بطريق سلوقية وبطريق قذيذية وبطريق قرة وكوكب وخرشنة، فأحدقوا بهم، فنزل المسلمون فعرقبوا دوابهم، وقاتلوا، فقتلوا، إلا خمسمائة أو ستمائة، وضعوا السياط في خواصر دوابهم، وخرجوا، فقتل الروم من قتلوا، وأسر عبد الله بن رشيد بعد ضربات أصابته، وحمل إلى لؤلؤة، ثم حمل إلى الطاغية على البريد. ذكر خبر الوقعة بين محمد المولد وقائد الزنج وفيها ولي محمد المولد واسطًا، فحاربه سليمان بن جامع، وهو عامل على ما يلي تلك الناحية من قبل قائد الزنج، فهزمه وأخرجه عن واسط فدخلها. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها ذكر أن السبب في ذلك كان أن سليمان بن جامع الموجه كان من قبل قائد الزنج إلى ناحية الحوانيت والبطائح، لما هزم جعلان التركي عامل السلطان، وأوقع بأغرتمش، ففل عسكره، وقتل خشيشًا، ونهب ما كان معهم، كتب إلى صاحبه قائد الزنج يستأذنه في المصير إليه، ليحدث به عهدًا، ويصلح أمورًا من أمور منزله؛ فلما أنفذ الكتاب بذلك، أشار عليه أحمد بن مهدي الجبائي بتطرق عسكر البخاري، وهو يومئذ مقيم ببردودا، فقبل ذلك، وسار إلى بردوذا، فوافى موضعًا يقال له أكرمهر؛ وذلك على خمسة فراسخ من عسكر تكين. فلما وافى ذلك الموصع، قال الجبائي لسليمان: إن الرأي أن تقيم أنت ها هنا، وأمضي أنا في السميريات، فأجر القوم إليك، وأتعبهم فيأتوك وقد لغبوا، فتال حاجتك منهم. ففعل سليمان ذلك، فعبى خيله ورجالته في موضعه ذلك، ومضى أحمد بن مهدي في السميريات مسحرًا، فوافى عسكر تكين، فقاتله ساعة، وأعد تكين خيله ورجاله، وتطارد الجبائي له، وأنفذ غلامًا إلى سليمان يعلمه أن أصحاب تكين واردون عليه بخيلهم. فلقي الرسول سليمان، وقد أقبل يقفو أثر الجبائي لما أبطأ عليه خبره. فرده إلى معسكره، ووافى رسول آخر للجبائي بمثل الخبر الأول، فلما رجع سليمان إلى عسكره، أنفذ ثعلب بن حفص البحراني وقائدًا من قواد الزنج، يقال له منينا في جماعة من الزنج، فجعلهما كمينًا في الصحراء مما يلي ميسرة خيل تكين، وأمرهما إذا جاوزهم خيل تكين أن يخرجوا من ورائهم. فلما علم الجبائي أن سليمان قد أحكم لهم خيله وأمر الكمين، رفع صوته ليسمع أصحاب تكين؛ يقول لأصحابه: غررتموني وأهلكتموني، وقد كنت امرتكم ألا تدخلوا هذا المدخل، فأبيتم إلا لقائي وأنفسكم هذا الملقى الذي لا أرانا ننجو منه. فطمع أصحاب تكين لما سمعوا قوله، وجدوا في طلبه، وجعلوا ينادون: بلبل في قفص. وسار الجبائي سيرًا حثيثًا، وأتبعوه يرشقونه بالسهام، حتى جاوزوا موضع الكمين، وقاربوا عسكر سليمان. وهو كامن من وراء الجدر في خيله وأصحابه، فزحف سليمان، فتلقى الجيش، وخرج الكمين من وراء الخيل، وثنى الجبائي صدور سميرياته إلى من في النهر، فاستحكمت الهزيمة عليهم من الوجوه كلها، وركبهم الزنج يقتلونهم ويسلبونهم؛ حتى قطعوا نحوًا من ثلاثة فراسخ. ثم وقف سليمان وقال للجبائي: نرجع فقد غنمنا وسلمنا، والسلامة أفضل من كل شيء. فال الجبائي: كلا؛ قد نخبنا قلوبهم، ونفذت حيلتنا فيهم، والرأي أن نكسبهم في ليلتنا هذه، فلعلنا أن نزيلهم عن عسكرهم، ونفض جمعهم. فأتبع سليمان رأي الجبائي، وصار إلى عسكر تكين، فوافاه في وقت المغرب، فأوقع به، ونهض تكين فيمن معه، فقاتل قتالًا شديدًا، فانكشف عنه سليمان وأصحابه. ثم وقف سليمان وعبأ أصحابه، فوجه شبلا في خيل من خيله، وضم إليه جمعًا من الرجالة إلى الصحراء، وأمر الجبائي، فسار في السميريات في بطن النهر، وسار هو فيمن معه من أصحابه الخيالة والرجالة، فتقدم أصحابه حتى وافى تكين، فلم يقف له أحد، وانكشفوا جميعًا وتركوا عسكرهم، فغنم ما وجد فيه، وأحرق العسكر، وانصرف إلى معسكره بما أصاب من الغنيمة. ووافى عسكره، فألفى كتاب الخبيث قد ورد بالإذن لع في المصير إلى منزله، فاستخلف الجبائي، وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذوات التي أخذها من المعروف بأبي تميم ومن خشيش ومن تكين، وأبل حتى ورد عسكر الخبيث؛ وذلك في جمادى الأولى من سنة أربع وستين ومائتين. ذكر الخبر عن السبب الذي من أجله تهيأ للزنج دخول واسط وذكر الخبر عن الأحداث الجليلة في سنة أربع وستين ومائتين ذكر أن الجبائي يحيى بن خلف لما شخص سليمان بن جامع من معسكره بعد الوقعة التي أوقعها بتكين إلى صاحب الزنج، خرج في السميريات بالعسكر الذي خلفه سليمان معه إلى مازروان لطلب الميرة، ومعه جماعة من السودان فاعترضه أصحاب جعلان، فأخذوا سفنًا كانت معه، وهزموه، فرجع مفلولًا حتى وافى طهيثًا، ووافته كتب أهل القرية، يخبرونه أن منجور مولى أمير المؤمين ومحمد بن علي بن حبيب اليشكري لما اتصل بهما خبر غيبة سليمان بن جامع عن طهيثا، اجتمعا وجمعا أصحابهما، وقصدا القرية، فقتلا فيها وأحرقا وانصرفا، وجلا من أفلت ممن كان فيها، فصاروا إلى القرية المعروفة بالحجابية، فأقاموا فيها. فكتب الجبائي إلى سليمان بخبر ما وردت به كتب أهل القرية، مع ما ناله من أصحاب جعلان، فأنهض قائد الزنج سليمان إلى طهيثا معجلًا، فوافاها، فأظهر أنه يقصد لقتال جعلان، وعبأ جيشه، وقدم الجبائي أمامه في السميريات، وجعل معه خيلًا ورجلًا، وأمره بموافاة مازروان والوقوف بإزاء عسكر جعلان، وأن يظهر الخيل ويرعاها بحيث يراها أصحاب جعلان، ولا يوقع بهم، وركب هو في جيشه أجمع إلا نفرًا يسيرًا خلفهم في عسكره، ومضى في الأهواز حتى خرج على الهورين المعروفين بالربة والعمرقة، ثم مضى نحو محمد بن علي بن حبيب، وهو يومئذ بموضع يقال له تلفخار، فوافاه فأوقع به وقعة غليظة، تل فيها قتلى كثيرة، وأخذ خيلًا كثيرة وحاز غنائم جزيلة، وقتل أخا لمحمد بن علي، وأفلت محمد، ورجع سليمان، فلما صار في صحراء بين البزاق والقرية وافته خيل لبني شيبان، وقد كان فيمن أصاب سليمان بتلفخار سيد من سادات بني شيبان، فقتله وأسر ابنًا له صغيرًا، وأخذ حجرًا كانت تحته، فانتهى خبره إلى عشيرته، فعارضوا سليمان بهذه الصحراء في أربعمائة فارس، وقد كان سليمان وجه إلى عمير بن عمار خليفته بالطف حين توجه إلى ابن حبيب، فصار إليهى، فحعله دليلًا لعلمه بتلك الطريق، فلما رأى سليمان خيل بني شيبان قدم أصحابه أجمعين إلا عمير بن عمار فإنه انفرد، فظفرت به بنو شيبان فقتلوه، وحملوا رأسه، وانصرفوا. وانتهى الخبر إلى الخبيث، فعظم عليه قتل عمير، وحمل سليمان إلى الخبيث ما كان أصاب من بلد محمد بن علي بن حبيب؛ وذلك في آخر رجب من هذه السنة، فلما كان في شعبان نهض سليمان في جمع من أصحابه؛ حتى وافى قرية حسان، وبها يومئذ قائد من قواد السلطان يقال له جيش ابن حمرتكين، فأوقع به، فأجفل عنه، وظفر بالقرية فانتهبها وأحرق فيها أوخذ خيلًا، وعاد إلى عسكره، ثم خرج لعشر خلون من شعبان إلى الحوانيت، وأصعد الجبائي في السميريات إلى برمساور، فوجد هنالك صلاغًا فيها خيل من خيل جعلان، كان أراد أن يوافى بها نهر أبان. وقد كان خرج إلى ما هناك متصيدًا، فأوقع الجبائي بتلك الصلاغ، فقتل من فيها، وأخذ الخيل - وكانت اثنتي عشر فارسًا - وعاد إلى طهيثا، ثن نهض سليمان إلى تل رمانا - لثلاث بين من شعبان فأوقع بها، وجلا عنها أهلها، وحاز ما كان فيها، ثم رجع إلى عسكره، ونهض لعشر خلون من شهر رمضان إلى الموضع المعروف بالجازرة، وأبا يومئذ هناك، وجعلا بمازروان. وقد كان سليمان كتب إلى الخبيث في التوجيه إليه بالشذا، فوجه إليه عشر شذوات، مع رجل من أهل عبادان يقال له الصقر بن الحسين، فلما وافى سليمان الصر بالشذا أظهر أنه يريد جعلان، وبادرت الأخبار إلى جعلان بأن سليمان يريد موافاته؛ فكانت همته ضبط عسكره. فلما قرب سليمان موضع أبا مال إليه، فأوقع به، وألفاه غارًا بمجيئه، فنال حاجته، وأصاب ست شذوات. قال محمد بن الحسن: قال جباش: كانت الشذوات ثمانية، وجدها في عسكره، وأحرق شذاتين كانتا على الشط، وأصاب خيلًا وسلاحًا وأسلابًا، وانصرف إلى عسكره، ثم أظهر أنه يريد تكين البخاري، وأعد مع الجبائي وجعفر بن أحمد خال ابن الخبيث الملعون العمروف بأنكلاي سفنا، فلما وافت السفن عسكر جعلان، نهض إليها، فأوقع بها، وحازها وأوقع سليمان من جهة البر، فهزمه إلى الرصافة، واسترجع سفنه، وحاز سبعة وعشرين فرسًا ومهرين من خيل جعلان وثلاثة أبغل، وأصاب نهبًا كثيرًا وسلاحًا، ورجع إلى طهيثا. قال محمد: أنكر جباش أن يكون لتكين في هذا الموضع ذكر، ولم يعرف خبر العباداني في تكين، وزعم أن القصد لم يكن إلا إلى جعلان، وقد كان خبره خفي على أهل عسكره حتى أرجفوا بأنه قد قتل وقتل الجبائي معه، فجزعوا أشد الجزع، ثم ظهر خبره وما كان منه من الإيقاع بجعلان، فسكنوا وقروا إلى أن وافى سليمان، وكتب بما كان منه إلى الخبيث، وحمل أعلامًا وسلاحًا، ثم صار سليمان إلى الرصافة في ذي العقدة، فأوقع بمطر بن جامع، وهو يومئذ ميم بها، فغنم غنائم كثيرة، وأحرق الرصافة، واستباحها، وحمل أعلامًا إلى الخبيث، وانحدر لخمس ليال خلون من ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين إلى مدينة الخبيث، فأقام ليعيد هناك ويقيم في منزله، ووافى مطر بن جامع القرية المعروفة بالحجابية، فأوقع بها، وأسر جماعة من أهلها. وكان الاضي بها من قبل سليمان رجلًا من أهلها يقال له سعيد بن السيد العدوي، فأسر وحمل إلى واسط هو وثعلب بن حفص وأربعة قواد كانوا معه، فصاروا إلى الحرجلية على فرسخين ونصف من طهيثا، ومضى الجبائي في الخيل والرجل لمعارضة مطر، فوافى الناحية وقد نال مطر ما نال منها، فانصرف عنها، وكتب إلى سليمان بالخبر، فوافى سليمان يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة من هذه السنة، ثم صرف جعلان، ووافى أحمد بن ليثويه، فأقام بالشديدية، ومضى سليمان إلى موضع يقال له نهر أبان، فوجد هناك قائدًا من قواد ابن ليثويه يقال له طرناج، فأوقع به وقتله. قال محمد: قال جباش: المقتول بهذا الموضع بينك، فأما طرناج فإنه قتل بمازروان. ثم وافى الرصافة، وبها يومئذ عسكر مطر بن جامع، فأوقع به، فاستباح عسكره، وأخذ منه سبع شذوات، وأحرق شذاتين، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين. قال محمد: قال جباش: كانت هذه الوقعة بالشديدية، والذي أخذ يومئذ ست شذوات، ثم مضى سليمان في خمس شذوات، ورتب فيها صناديد قواده وأصحابه، فواقعه تكين البخاري بالشديدية، وقد كان ابن ليثويه حينئذ صار إلى ناحية الكوفة وجنبلاء، فظهر تكين على سليمان، وأخذ منه الشذوات التي كانت معه بآلتها وسلاحها ومقاتلتها، وقتل في هذه الوقعة جلة قواد سليمان. ثم زحف ابن ليثويه إلى الشيديدية، وضبط تلك النواحي إلى أن ولى أبو أحمد محمدًا المولد واسطًا. قال محمد: قال جباش: لما وافى ابن ليثويه الشديدية سار إليه سليمان، فأقام يومين يقاتله، ثم تطارد له سليمان في اليوم الثالث، وتبعه ابن ليثويه فيمن تسرع معه، فرجع إليه سليمان، فألقاه في فوهة بردودًا، فتخلص بعد أن أشفى على الغرق. وأصاب سليمان سبع عشرة دابة من دواب ابن ليثويه. قال: وكتب سليمان إلى الخبيث يستمده، فوجه إليه الخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس، ومعه المذوب، فقصد موافاة هذا المدد إياه لمحاربة محمد المولد، فأوقع به فهرب المولد، ودخل الزنج واسطًا، فقتل بها خلق كثير، وانتهبت وأحرقت، وكان بها إذ ذاك كنجور البخاري، فحامى يومه ذلك إلى وقت العصر، ثم قتل. وكان الذي يقود الخيل يومئذ في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان وعبد الله المعروف بالمذوب. وكان الجبائي في قواده من السودان ورجالته منهم، وكان سليمان بن موسى الشعؤراني وأخواه في خيله ورجله مع سليمان بن جامع؛ فكان القوم جميعًا يدًا واحدة. ثم انصرف سليمان بن جامع عن واسط، ومضى بجميع الجيش إلى جنبلاء ليعيث ويخرب، ووقع بينه وبين الخيل بن أبان اختلاف، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فاستعفى له قائد الزنج من المقام مع سليمان، وأذن للخليل بالرجوع إلى مدينة الخبيث مع أصحاب علي بن أبان وغلمانه، وتخلف المذوب في الأعراب مع سليمان، وأقام بمعسكره أيامًا، ثم مضى إلى نهر الأمير، فعسكر به، ووجه الجبائي والمذوب إلى جنبلاء، فأقاما هنالك تسعين ليلة وسليمان معسكر بنهر الأمير. قال محمد: قال جباش: كان سليمان معسكرًا بالشديدية. ذكر خبر خروج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا وفي هذه السنة خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا، ومعه الحسن ابن وهب، وشيعه أحمد بن الموفق ومسرور البلخي وعامة القواد؛ فلما صار بسامرا غضب عليه المعتمد وحبسه ويده، وانتهب داره وداري ابنيه وهب وإبراهيم، واستوزر الحسن بن مخلد لثلاث بقين من ذي القعدة، فشخص الموفق من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان، فلما قرب أبو أحمد من سامرا تحول المعتمد إلى الجانب الغربي، فعسكر به، ونزل أبو أحمد ومن معه جزيرة المؤيد، واختلفت الرسل بينهما، فلما كان بعد أيام خلون من ذي الحجة، صار المعتمد إلى حراقة في دجلة، صار إليه أخوه أبو أحمد في زلال، فخلع علي أبي أحمد وعلي مسرور البلخي وكيغلغ وأحمد بن موسى ابن بغا، فلما كان يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي الحجة يوم التروية عبر أهل عسكر أبي أحمد إلى عسكر المعتمد، وأطلق سليمان بن وهب؛ ورجع المعتمد إلى الجوسق، وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح ين شيرزاد، وكتب في قبض أموالهما وأموال أسبابهما، وحبس أحمد بن أبي الأصبغ، وهرب القواد المقيمون كانوا بسامرا إلى تكريت، وتغيب أبو موسى بن المتوكل، ثم ظهر، ثم شخص القواد الذين كانوا صاروا إلى تكريت إلى الموصل، ووضعوا أيديهم في الجباية. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي. ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر الوقعة بين أحمد بن ليثويه وسليمان قائد الزنج فمن ذلك ما كان من وقعة كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد صاحب الزنج بناحية جنبلاء. ذكر الخبر عن هذه الوقعة وسببها ذكر أن سليمان بن جامع كتب إلى صاحب الزنج، يخبره بحال نهر يعرف بالزهيري، ويسأله الإذن له في النفقة على إنفاذ كريه إلى سواد الكوفة والبرار، ويعلمه أن المسافة في ذلم قريبة، وأنه متى أنفذه تهيأ له بذلك حمل كل ما بنواحي جنبلاء وسواد الكوفة من الميرة. فوجه الخبليث بذلك رجلًا يقال له محمد بن يزيد البصري، وكتب إلى سليمان بإزاحة علله في المال والإقامة معه في جيشه إلى وقت فراغه، مما وجه له، فمضى سليمان بجميع جيشه حتى أقام بالشريطية نحوًا من شهر، وألقى الفعلة في النهر؛ وخلال ذلك ما كان سليمان يتطرق ما حوله من أهل خسر سابور؛ وكانت الميرة تتصل به من ناحية الصين وما والاها إلى أن واقعه ابن ليثويه عامل أبي أحمد على جنبلاء، فقتل له أربعة عشر قائدًا. قال محمد بن الحسن: قتل سبعة وأربعين ائدًا وخلقًا من الخلق لا يحصى كثرة، واستبيح عسكره، وأحرقت سفنه، وكانت مقيمة في هذا النهر الذي كان مقيمًا على إنفاذه، فمضى مفلولًا حتى وافى طهيثًا، فأقام بها، ووافى الجبائي في عقب ذلك، ثم أصعد فأقام بالموضع المعروف ببرتمرتا، واستخلف على الشذوات الاشتيام الذي يقال له الزنجي بن مهربان، وقد كان السلطان وجه نصيرًا لتقييد شامرج، وحمله إلى الباب، وتقلد ما كان يتقلده، فوافى نصير الزنجي بن مهربان بعد حمله شامرج مقيدًا بنهر برتمرتا، وأخذ منه تسع شذوات، واسترد الزنجي منها ستًا. قال محمد بن الحسن: أنكر جباش أن يكون الزنجي بن مهربان استرد من الشذوات شيئًا، وزعم أن نصيرًا ذهب بالشذوات أجمع، وانصرف إلى طهيثًا، وبادر بالكتاب إلى سليمان، ووافاه. فأقام سليمان بطهيثا إلى أن اتصل به خبر إقبال الموفق. وفيها وقع أحمد بن طولون بسيما الطويل بأنطاكية، فحصره بها، وذلك في المحرم منها، فلم يزل ابن طولون مقيمًا عليها حتى افتتحها، وقتل سيما. وفيها وثب القاسم بن مماه بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فقتله، ثم وثب جماعة من أصحاب دلف على القاسم، فقتلوه ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز. وفيها لحق محمد المولد يعقوب بن الليث، فصار إليه، وذلك في المحرم منها، فأمر السلطان بقبض أمواله وعقاراته. وفيها قتلت الأعراب جعلان المعروف بالعيار بدمما، وكان خرج لبذرقة قافلة، فقتلوه؛ وذلك في جمادى الأولى؛ فوجه السلطان في طلب الذين قتلوه جماعة من الموالي، فهرب الأعراب، وبلغ الذين شخصوا في طلبهم عين التمر، ثم رجعوا إلى بغداد، وقد مات منهم في البرد جماعة؛ وذلك أن البرد اشتد في تلك الأيام ودام أيامًا، وسقط الثلج ببغداد. وفيها أمر أبو أحمد بحبس سليمان بن وهب وابنه عبيد الله، فحبسا وعدة من أسبابهم في دار أبي أحمد، وانتهب دور عدة من أسبابه، ووكل بحفظ داري سليمان وابنه عبيد الله، وأمر بقبض ضياعهما وأموالها وأموال أسبابهما وضياعهم خلا أحمد بن سليمان. ثم صولح سليمان وابنه عبيد الله على تسعمائة ألف دينار، وصيرا في موضع يصل إليها من أحبا. وفيها عسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجيق وبنغجور بن أرخوز والفضل بن موسى بن بغا بباب الشماسية، ثم عبروا جسر بغداد، فصاروا إلى السفينتين، وتبعهم أحمد بن الموفق، فلم يرجعوا، ونزلوا صرصر. وفيها استكتب أبو أحمد صاعد بن مخلد؛ وذلك لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وخلع عليه، فمضى صاعد إلى القواد بصرصر، ثم بعث أبو أحمد ابنه أحمد إليهم، فناظرهم فانصرفوا معه فخلع عليهم. وفيها خرج - فيما ذكر - خمسة من بطارقة الروم في ثلاثين ألفًا من الروم إلى أذنة، فصاروا إلى المصلى. وأسروا أرخوز - وكان والي الثغور - ثم عزل، فرابط هناك فأسر، وأسر معه نحوٌ من أربعمائة رجل، وقتلوا ممن نفر إليهم نحوًا من ألف وأربعمائة رجل، وانصرفوا اليوم الرابع، وذلك في جمادى الأولى منها. وفي رجب منها عسكر موسى بن أتامش وإسحاق بن كنداجي وبنغجور بن أرخوز بنهر ديالي. وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستني على نيسابور، وصار الحسين بن طاهر عامل محمد بن طاهر إلى مرو، فأقام بها وأخو شركب الجمال بين الحسين والخجستاني أحمد بن عبد الله. وفيها أخربت طوس. وفيها استوزر إسماعيل بن بلبل. وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث؛ وكتب عمرو إلى السلطان بأنه سامع له ومطيع؛ فوجه إليه أحمد بن أبي الأصبغ في ذي القعدة. وفيها قتلت جماعة من أعراب بني أسد علي بن مسرور البلخي بطريق مكة قبل مصيره إلى المغيثة، وكان أحمد ولي محمد بن مسرور البلخي طريق مكة، فولاه أخاه علي بن مسرور. وفيها بعث ملك الروم بعبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور فأسر، إلى أحمد بن طولون مع عدة من أسراء المسلمين وعدة مصاحف هدية منه له. وفيها صارت جماعة من الزنج في ثلاثين سميرية إلى جبل، فأخذوا أربع سفن فيها طعام، ثم انصرفوا. وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة، مخالفًا لأبيه أحمد، وكان أبوه أحمد استخلفه - فيما ذكر - على عمله بمصر لما توجه إلى الشأم؛ فلما انصرف أحمد عن الشأم راجعًا إلى مصر حمل العباس ما في بيت مال مصر من الأموال، وما كان لأبيه هناك من الأثاث وغير ذلك. ثم مضى إلى برقة، فوجه إليه أحمد جيشًا، فظفروا به ورده إلى أبيه أحمد، فحبسه عنده، وقتل لسبب ما كان منه جماعةٌ كانوا شايعوا ابنه على ذلك. وفيها ذخل الزنج النعمانية، فأحرقوا سوقها، وأكثر منازل أهلها، وسبوا، وصاروا إلى جرجرايا، ودخل أهل السواد بغداد. وفيها ولي أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، وأشهد له بذلك، ووجه بكتابه إليه بتوليته ذلك مع أحمد ابن أبي الأصبغ، ووجه إليه مع ذلك العهد والعقد والخلع. وفي ذي الحجة منها صار مسرور البلخي إلى النيل، فتنحى عنها عبد الله بن ليثويه في أصحاب أخيه، وقد أظهر الخلاف على السلطان، فصار ومن معه إلى أحمد أباذ، فتبعهم مسرور البلخي يريد محاربتهم؛ فبدر عبد الله بن ليثويه ومن كان معه، فترجلوا المسرور، وانقادوا له بالسمع والطاعة، وعبد الله بن ليثويه نزع سيفه ومنطقته فعلقهما في عنقه، يعتذر إليه، ويحلف أنه حمل على ما فعل، فقبل منه، وأمر فخلع عليه وعلى عدة من القواد معه. ذكر خبر شخوص تكين البخاري إلى الأهواز وفيها شخص تكين البخاري إلى الأهواز مدمة لمسرور البلخي. ذكر الخبر عما كان من أمر تكين بالأهواز حين صار إليها ذكر محمد بن الحسن أن تكين البخاري ولاه مسرور البلخلي كور الأهواز حين ولاه أبو أحمد عليها، فتوجه تكين إليها، فوافاها، وقد صار إليها علي بن أبان المهلبي، فقصد تستر، فأحاط بها في جمع كثير من أصحابه الزنج وغيرهم؛ فراع ذلك أهلها، وكادوا أن يسلموها، فوافاها تكين في تلك الحال، فلم يضع عنه ثياب السفر؛ حتى واقع علي بن أبان وأصحابه؛ فكانت الدبرة على الزنج، فقتلوا وهزموا وتفرقوا، وانصرف علي فيمن بقي معه مفلولًا مدحورًا، وهذه وقعة باب كودك المشهورة. ورجع تكين البخاري، فنزل تستر، وانضم إليه جمعٌ كثير من الصعاليك وغيرهم، ورحل إليه علي بن أبان في جمع كثير من أصحابه، فنزل شرقي المسرقان، وجعل أخاه في الجانب الغربي في جماعة من الخيل، وجعل رجالة الزنج معه، وقدم جماعة من واد الزنج؛ منهم أنكلويه وحسين المعروف بالحمامي وجماعة وغيرهما، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس. وانتهى الخبر بما دبره علي بن أبان إلى تكين، وكان الذي نقل إليه الخبر غلامًا يقال له وصيف الرومي، وهرب إليه عسكر علي بن أبان، فأخبره بمقام هؤلاء بقنطرة فارس، وأعلمه تشاغلهم بشرب النبيذ وتفرق أصحابهم في جمع الطعام، فسار إليهم تكين في الليل في جمع من أصحابه، فأوقع بهم؛ فقتل من قواد الزنج أنكلويه والحسين المعروف بالحمامي ومفرج المكنى أبا صالح وأندرون، وانهزم الباقون، فلحقوا بالخليل بن أبان، فأعلموه ما نزل بهم؛ وسار تكين على شرقي المسرقان حتى لقي علي بن أبان في جمعه، فلم يقف له علي وانهزم عنه، وأسر غلام لعلي من الخيالة يعرف بجعفرويه، ورجع علي والخليل في جمعهما إلى الأهواز، ورجع تكين إلى تستر، وكتب علي بن أبان إلى تكين يسأله الكف عن قتل جعفرويه. فحبسه، وجرت بين تكين وعلي بن أبان مراسلات وملاطفات، وانتهى الخبر بها إلى مسرور، فأنكرها. وانتهى إلى مسرور أن تكين قد ساءت طاعته، وركن إلى علي بن أبان ومايله. قال محمد بن الحسن: فحدثني محمد بن دينار، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي المأموني الباذغيسي - وكان من أصحاب تكين البخاري - قال: لما انتهى إلى مسرور الخبر بالتياث تكين عليه توقف حتى عرف صحة أمره، ثم سار يريد كور الأهواز وهو مظهرٌ الرضا عن تكين والإحماد لأمره، فجعل طريقه على شابرزان، ثم سار منها حتى وافى السوس، وتكين قد عرف ما نتهى إلى مسرور من خبره، فهو مستوحش من ذلك ومن جماعة كانت تبعته عند مسرور من قواده، فجرت بين مسرور وتكين رسائل حتى أمن تكين، فصار مسرور إلى وادي تستر، وبعث إلى تكين، فعبر إليه مسلمًا، فأمر به فأخذ سيفه، ووكل به؛ فلما رأى ذلك جيش تكين انفضوا من ساعتهم، ففرقة منهم صارت إلى ناحية صاحب الزنج، وفرقة صارت إلى محمد بن عبيد الله الكردي. وانتهى الخبر إلى مسرور، فبسط الأمان لمن بقي من جيش تكين، فلحقوا به. قال محمد بن عبد الله بن الحسن المأموني: فكنت أحد الصائرين إلى عسكر مسرور، ودفع مسرور تكين إلى إبراهيم بن جعلان، فأقام في يده محبوسًا، حتى وافاه أجله فتوفي. وكان بعض أمر مسرور وتكين الذي ذكرناه في سنة خمس وستين، وبعضه في سنة ست وستين. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحق بن موسى بن عيسى الهاشمي. وفيها كانت موافاة المعروف بأبي المغيرة بن عيسى بن محمد المخزومي متغلبًا بزنج معه على مكة. ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من تولية عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسامرا في صفر، وخلع أبي أحمد عليه، ثم مصير عبيد الله بن عبد الله إلى منزله، فخلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث، وبعث إليه عمرو بعمود من ذهب. وفي صفر منها غلب أساتكين على الري، وأخرج عنها طلمجور العامل كان عليها، ثم مضى هو وابنه أذوكوتكين إلى قزوين، وعليها أبرون أخو كيغلغ، فصالحاه ودخلا قزوين، وأخذا محمد بن الفضل بن سنان العجلي، فأخذا أمواله وضياعه، وقتله أساتكين. ثم رجع إلى الري، فقاتله أهلها فغلبهم ودخلها. وفيها وردت سرية من سرايا الروم تل يسمى من ديار بيعة، فقتلت من المسلمين، وأسرت نحوًا من مائتين وخمسين إنسانًا، فنفر أهل نصيبين وأهل الموصل، فرجعت الروم. وفيها مات أبو الساج بجند يسابور في شهر ربيع الآخر، منصرفًا عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد، ومات قبله في المحرم منها سليمان بن عبد الله بن طاهر. وولي عمرو بن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان. وولي فيها محمد بن أبي الساج الحرمين وطريق مكة. وفيها ولي اغرتمش ما كان تكين البخاري يليه من عمال الأهواز، فسار أغرتمش إليها، ودخلها في شهر رمضان، فذكر محمد بن الحسن أن مسرورًا وجه أغرتمش وأبا مطر بن جامع لقتال علي بن أبان، فساروا حتى انتهبوا إلى تستر، فأقاموا بها، وواستخرجوا من كان في حبس تكين، وكان فيه جعفرويه في جماعة من أصحاب قائد الزنج، فقتلوا جميعًا. وكان مطر بن جامع المتولي قتلهم، ثم ساروا حتى وافوا عسكر مكرم، ورحل إليهم علي بن أبان، وقدم أمامه إليهم الخليل أخاه، فصار إليهم الخليل، فواقفهم وتلاه علي، فلما كثر عليهم جميع الزنج، قطعوا الجسر وتحاجزوا، وجنهم الليل، فانصرف علي بن أبان في جميع أصحابه، فصار إلى الأهواز، وأقام الخليل فيمن معه بالمسرقان، وأتاه الخبر بأن أغرتمش وأبا ومطر بن جامع قد أقبلوا نحوه، ونزلوا الجانب الشرقي من قنطرة أربك ليعبروا إليه، فكتب الخليل بذلك إلى أخيه علي بن أبان، فرحل علي إليهم حتى وافاهم بالقنطرة، ووجه إلى الخليل يأمره بالمصير إليه، فوافاه وارتاع من كان بالأهواز من أصحاب علي، فقلعوا عسكره، ومضوا إلى نهر السدرة، ونشبت الحرب بين علي بن أبان وقواد السلطان هناك؛ وكان ذلك يومهم، ثم تحاجزوا. وانصرف علي بن أبان إلى الأهواز، فلم يجد بها أحدًا، ووجد أصحابه أجمعين قد لحقوا بنهر السدرة، فوجه إليهم من يدرهم، فعسر ذلك عليه فتبعهم، فأقام بنهر السدرة، ورجع قواد السلطان حتى نزلوا عسكر مكرم؛ وأخذ علي بن أبان في الاستعداد لقتالهم. وأرسل إلى بهبوذ بن عبد الوهاب، فأتاه فيمن معه من أصحابه، وبلغ أغرتمش وأصحابه ما أجمع عليه من المسير إليهم علي، فساروا نحوه، وقد جعل علي بن أبان أخاه على مقدمته، وضم إليه بهبوذ وأحمد بن الزرنجي، فالتقى الفريقان بالدولاب. فأمر علي الخليل بن أبان أن يجعل بهبوذ كمينًا، فجعله. وسار الخليل حتى لقي القوم، ونشب القتال بينهم، فكان أول نهار ذلك اليوم لصحاب السلطان، ثم جالوا جولة وخرج عليهم الكمين، وأكب الزنج إكبابةً، فهزموهم، وأسر مطر بن جامع، صرع عن فرس كان تحته، فأخذه بهبوذ، فأتى به عليًا، وقتل سيما المعروف بصغراج في جماعة من القواد. ولما وافى بهبوذ عليًا بمطر، سأله مطر استبقاءه، فأبى ذلك علي، وقال: لو كنت أبقيت على جعفرويه لأبقينا عليك. وأمر به فأدنى إليه، فضرب عنه بيده. ودخل علي بن أبان الأهواز، وانصرف أغرتمش وأبا فيمن أفلت معهما، حتى وافيا تستر، ووجه علي بن أبان بالرءوس إلى الخبيث، فأمر بنصبها على سور مدينته. قال: وكان علي بن أبان بعد ذلك يأتي أغرتمش وأصحابه، فتكون الحرب بينهم سجالًا عليه وله، وصرف الخبيث أكثر جوده إلى ناحية علي بن أبان، فكثروا على أغرتمش، فركن إلى الموادعة، وأحب علي بن أبان مثل ذلك، فتهادنا. وجعل علي بن أبان يغير على النواحي، فمن غاراته مصيره إلى القرية المعروفة ببيروذ، فظهر عليها، ونال منها غنائم كثيرة، فكتب بما كان منه من ذلك إلى الخبيث، ووجه بالغنائم التي أصابها وأقام. وفيها فارق إسحاق بن كنداجيق عسكر أحمد بن موسى بن بغا؛ وذلك أن أحمد بن موسى بن بغا لما شخص إلى الجزيرة ولي موسى بن أتامش ديار ربيعة، فأنكر ذلك إسحاق، وفارق عسكره لسبب ذلك، وصار إلى بلد، فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأخذ أموالهم فقوي بذلك، ثم لقي ابن مساور الشاري فقتله. وفي شوال منها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي. وفيها أسر لؤلؤ غلام أحمد بن طولون موسى بن أتامش؛ وذلك أن لؤلؤًا كان مقيمًا برابية بني تميم، وكان موسى بن أتامش مقيمًا برأس العين، فخرج ليلًا سكران ليكسبهم، فكمنوا له، فأخذوه أسيرًا، وبعثوا به إلى الرقة. ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى وقواده ومن معهم من الأعراب في شوال، فهزم لؤلؤ، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، ورجع ابن صفوان العقيلي. والأعراب إلى ثقل عسكر أحمد بن موسى لينتهبوه، وأكب عليهم أصحاب لؤلؤ، فبلغت هزيمة المنفلت منهم قرقيسيا، ثم صاروا إلى بغداد وسامرا، فوافوها في ذي القعدة، وهرب ابن صفوان إلى البادية. وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وبكتمر وقعة، وذلك في سوال منها، فهزم أحمد بن عبد العزيز بكتمر فصار إلى بغداد. وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان على غرة من الحسن، فهرب منه الحسن، فلحق بآمل، وغلب الخجستاني على جرجان وبعض أطراف طبرستان؛ وذلك في جمادى الآخرة منها ورجب. وفيها دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسن الأصغر العقيقي أهل طبرستان إلى البيعة له؛ وذلك أن الحسن بن زيد عند شخوصه إلى جرجان كان استخلفه بسارية، فلما كان من أمر الخجستاني وأمر الحسن قد أسر؛ ودعا من قبله إلى بيعته، فبايعه قوم، ووافاه الحسن بن زيد فحاربه ثم احتال له الحسن حتى ظفر به فقتله. وفيها نهب الخجستاني أموال تجار أهل جرجان؛ وأضرم النار في البلد. وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمرو بن الليث، علافيها الخجستاني على عمرو وهزمه، ودخل نيسابور، فأخرج عامل عمرو بها عنها، وقتل جماعة مما كان فيه يميل إلى عمرو بها. ذكر الخبر عن الفتنة بين الجعفرية والعلوية وفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية. ذكر الخبر عن سبب ذلك وكانت سبب ذلك - فيما ذكر - أن القيم بأمر المدينة ووادي القرى ونواحيها كان في هذه السنة إسحاق بن محمد بن يوسف الجعفري، فولى وادي القرى عاملًا من قبله، فوثب أهل وادي القرى على عامل إسحاق بن محمد، فقتلوه، وقتلوا أخوين لإسحاق، فخرج إسحاق إلى وادي القرى، فمرض به ومات. فقام بأمر المدينة أخوه موسى بن محمد، فخرج عليه الحسن بن موسى بن جعفر، فأرضاه بثمانمائة دينار، ثم خرج عليه أبو القاسم أحمد بن إسماعيل ابن الحسن بن زيد، ابن عم الحسن بن زيد صاحب طبرستان؛ فقتل موسى، وغلب على المدينة. وقدمها أحمد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد، فضبط المدينة؛ وقد كان غلا بها السعر، فوجه إلى الجار، وضمن للتجار أموالهم، ورفع الجباية؛ فرخص السعر، وسكنت المدينة، فولى السلطان الحسنى المدينة إلى أن قدمها ابن أبي الساج. وفيها ثبت الأعراب على كسوة الكعبة، فانتهبوها، وصار بعضها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحاج فيها شدة شديدة. وفيها خرجت الروم إلى ديار بيعة، فاستنفر الناس، فنفروا في برد وقت لا يمكن الناس فيه دخول الدرب. وفيها غزا سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلثمائة رجل من أهل طرسوس، فخرج عليهم العدو في بلاد هرقلة، وهم نحو من أربعة آلاف، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فقتل المسلمون من العدو خلقًا كثيرًا، وأصيب من المسلمين جماعة كثيرة. وفيها كانت بين إسحاق بن كنداجيق وإسحاق بن أيوب وقعة، هزم فيها ابن كنداجيق إسحاق بن أيوب، فألحقه بنصيبين، وأخذ ما في عسكره، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وتبعه ابن كنداجيق، وصار إلى نصيبين، فدخلها، وهرب إسحاق بن أيوب منه، واستنجد عليه عيسى بن الشيخ وهو بآمد وأبا المغراء بن موسى بن زرارة؛ وهو بأزرن، فتظاهروا على ابن كنداجيق، وبعث السلطان إلى ابن كنداجيق بخلع ولواء على الموصل وديار ربيعة وأرمينية مع يوسف بن يعقوب، فخلع عليه، فبعثوا يطلبون الصلح، ويبذلون له مالًا على أن يقرهم على أعمالهم مائتي ألف دينار. وفيها وافى محمد بن أبي الساج مكة، فحربه ابن المخزومي، فهزمه ابن أبي الساج، واستباح ماله؛ وذلك يوم التروية من هذه السنة. وفيها شخص كيغلغ إلى الجبل، ورجع بكتمر إلى الدينور. ذكر خبر دخول أصحاب قائد الزنج رامهرمز وفيها دخل أصحاب قائد الزنج رامهرمز. ذكر الخبر عن سبب مصيرهم إليها قد ذكرنا قبل ما كان من أمر محمد بن عبيد الله الكردي وعلي بن أبان صاحب الخبيث، حين تلاقيا على صلح منهما، فذكر أن عليًا كان قد احتجن على محمد ضغنًا في نفسه؛ لما كان في سفره ذلك؛ وكان يرصده بشر، وقد عرف ذلك منه محمد بن عبيد الله، وكان يروم النجاة منه؛ فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، وسأله مسألة الخبيث ضم ناحيته إليه لتزول يد علي منه، وهاداه، فزاد ذلك علي بن أبان عليه غيظًا وحنقًا؛ فكتب إلى الخبيث يعرفه به، ويصحح عنده أنه مصر على غدره، ويستأذنه في الإيقاع به، وأن يجعل الذريعة إلى ذلك مسألته حمل خراج ناحيته إليه، فأذن له الخبيث في ذلك، فكتب علي إلى محمد بن عبيد الله في حمل المال، فلواه به، ودافعه عنه، فاستعد له علي، وسار إليه، فأوقع برامهرمز، ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيمٌ بها، فلم يكن لمحمد منه امتناع، فهرب ودخل علي رامهرمز، فاستباحها، ولحق محمد بن عبيد الله بأقصى معاقله من أربق والبيلم، وانصرف علي غانمًا، وراع ما كان من ذلك من علي محمدًا، فكتب يطلب المسألة، فأنهى ذلك علي إلى الخبيث، فكتب إليه يأمره بقبول ذلك، وإرهاق محمد بحمل المال، فحمل محمد بن عبيد الله مائتي ألف درهم، فأنفذها علي إلى الخبيث، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وعن أعماله. ذكر الخبر عن وقعة أكراد داربان مع صاحب الزنج وفيها كانت وقعةٌ لأكراد الداربان مع زنج الخبيث، هزموا فيها وفلوا. ذكر الخبر عن سبب ذلك ذكر عن محمد بن عبيد الله بن أزارمرد أنه كتب إلى علي بن أبان بعد حمله إليه المال الذي ذكرنا مبلغه قبل، وكف علي عنه وعن أعماله، يسأله المعونة على جماعة من الأكراد كانوا بموضع يقال له الداربان، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم. فكتب علي إلى الخبيث يسأله الإذن له في النهوض لذلك، فكتب إليه أن وجه الخليل بن أبان وبهبوذ بن عبد الوهاب، وأقم أنت، ولا تنفذ جيشك حتى تتوثق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون في يدك منه، تأمن بها من غدره فقد وترته، وهو غير مأمون على الطلب بثأره. فكاتب عليٌ محمد بن عبيد الله بما أمره به الخبيث، وسأله الرهائن، فأعطاه محمد بن عبد الله الأيمان والعهود، ودافعه على الرهائن. فدعا عليًا الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد بن عبيد الله إلى أن أنفذ الجيش، فساروا ومعهم رجال محمد بن عبيد الله؛ حتى وافوا الموضع الذي قصدوا له، فخرج إليهم أهله، ونشبت الحرب، فظهر الزنج في ابتداء الأمر على الاكراد، ثم صدقهم الأكراد، وخذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله، فتصدعوا وانهزموا مفلولين مقهورين؛ وقد كان محمد بن عبيد الله أعد لهم قومًا أمرهم بمعارضتهم إذا انهزموا، فعارضوهم وأوقعوا بهم، ونالوا منهم أسلابًا، وأرجلوا طائفة طائفة منهم عن دوابهم، فأخذوها، فرجعوا بأسوإ حال، فكتب المهلبي إلى الخبيث بما نال أصحابه. فكتب إليه يعنفه، ويقول: قد كنت تقدمت إليك ألا تركن إلى محمد بن عبيد الله، وأن تجعل الوثيقة بينك وبينه الرهائن، فتركت أمري، واتبعت هوالك، فذاك الذي أرد وأردي جيشك. وكتب الخبيث إلى محمد بن عبيد الله، أنه لم يخف علي تدبيرك على جيش علي بن أبان، ولن تعدم الجزاء على ما كان منك. فارتاع محمد بن عبيد الله مما ورد به عليه كتاب الخبيث، وكتب إليه بالتضرع والخضوع، ووجه بما كان أصحابه أصابوا من خيل أصحاب علي حيث عورضوا وهم منهزمون، فقال: إني صرت بجميع من معي إلى هؤلاء القوم الذين أوعوا بالخليل وبهبوذ، فتودعهم وأخفتهم، حتى ارتجعت هذه الخيل منهم، ووجهت بها. فأظهر الخبيث غضبًا، وكتب إليه يتهدده بجيش كثيف يرميه به، فأعاد محمد الكتاب بالتضرع والاستكانة، فأرسل إلى بهبوذ، فضمن له مالاص، وضمن لمحمد بن يحيى الكرماني مثل ذلك، ومحمد بن يحيى يومئذ الغالب على علي بن أبان، والمصرف له برأيه، فصار بهبوذ إلى علي بن أبان، وظاهره محمد بن يحيى الكرماني على أمره حتى أصلحا رأى علي في محمد بن عبيد الله وسلامًا في قلبه من الغيظ والحق عليه، ثم مضيا إلى الخبيث. ووافق ذلك ورود كتاب محمد بن عبيد الله عليه، فصوبا وصعدا حتى أظهر لهما الخبيث قبول قولهما، والرجوع لمحمد بن عبيد الله إلى ما أحب، وقال: لست قابلًا منه بعد هذا إلا أن يخطب لي على منابر أعماله. فانصرف بهبوذ والكرماني بما فارقهما عليه الخبيث، وكتبا به إلى محمد بن عبيد الله، فأصدر جوابه إلى كل ما أراده الخبيث، وجعل يراوغ عن الدعاء له على المنابر. وأقام علي بعد هذا مدة، ثم استعد لمتوث، وسار إليها؛ فرامها فلم يطقها لحصاتها وكثرة من يدافع عنها من أهلها، فرجع خائبًا، فاتخذ سلاليم وآلات ليرقى بها السور، وجمع أصحابه واستعد. وقد كان مسرور البلخي عرف قصد علي متوث، وهو يومئذ مقيمٌ بكور الأهواز. فلما عاود المسير إليها، وسار إليه مسرور، فوافاه قبيل غروب الشمس، وهو مقيم عليها؛ فلما عاين أصحاب علي أوائل خيل مسرور، انهزموا أقبح هزيمة. وتركوا جميع آلاتهم التي كانوا حملوها، وقتل منهم جمع كثير، وانصرف علي بن أبان مدحورًا، ولم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا حتى تتابعت الأخبار بإقبال أبي أحمد، ثم لم يكن لعلي بعد رجوعه من متوث وقعة حتى فتحت سوق الخميس وطهيثا على أبي أحمد، فانصرف بكتاب ورد عليه من الخبيث يحفزه فيه حفزًا شديدًا بالمصير إلى عسكره. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي. ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمما كان غيها من ذلك حبس السلطان محمد بن طاهر بن عبد الله وعدة من أهل بيته بعقب هزيمة أحمد بن عبد الله الخجستاني عمرو بن الليث وتهمة عمرو بن الليث محمد بن طاهر بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر، ودعا الحسين والخجستاني لمحمد بن طاهر على نابر خراسان. ذكر خبر غلبة أبي العباس بن الموفق على سليمان بن جامع وفيها غلب أبو العباس بن الموفق على عامة ما كان سليمان بن جامع صاحب قائد الزنج غلب عليه من قرى كور دجلة كعبدسي ونحوها. ذكر الخبر عن سبب غلبة أبي العباس على ذلك وما كان من أمره وأمر الزنج في تلك الناحية ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن الزنج لما دخلوا واسطًا وكان منهم بها ما قد ذكرناه قبل، واتصل الخبر بذلك إلى أبي أحمد بن المتوكل ندب ابنه أبا العباس للشخوص إلى ناحية واسط لحرب الزنج، فخف لذلك أبو العباس. فلما حضر خروج أبي العباس ركب أبو أحمد إلى بستان موسى الهادي في شهر ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين، فعرض أصحاب أبي العباس، ووقف على عدتهم؛ فكان جميع الفرسان والرجالة عشرة آلاف رجل في أحسن زي وأجمل هيئة وأكمل عدة، ومعهم الشذا والسميريات والمعابر للرجالة؛ كل ذلك قد أحكمت صنعته. فنهض أبو العباس من بستان الهادي، وركب أبو أحمد مشيعًا له حتى نزل الفرك، ثم انصرف. وأقام أبو العباس بالفرك أيامًا، حتى تكاملت عدده، وتلاحق أصحابه، ثم رحل إلى المدائن، وأقام بها أيضًا، ثم رحل إلى دير العاقول. قال محمد بن حماد: فحدثني أخي إسحاق بن حماد وإبراهيم بن محمد بن إسماعيل الهاشمي المعروف ببريه، ومحمد بن شعيب الاشتيام، في جماعة كثيرة ممن صحب أبا العباس في سفره - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا: لما نزل أبو العباس دير العاقول، ورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات، وقد كان أمضاه على مقدمته، يعلمه فيه أن سليمان بن جامع قد وافى في خيل ورجالة وشذوات وسميريات، والجبائي يقدمه، حتى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان برجالة وفرسان وسميريات فرحل أبو العباس حتى وافى جرجرايا، ثم فم الصلح، ثم ركب الظهر، فسار حتى وافى الصلح، ووجه طلائعه ليعرف الخبر، فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم وجمعهم وجيشهم، وأن أولهم بالصلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا، أسفل واسط. فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق، واعترض في مسيره، ولقى أصحابه أوائل القوم؛ فتطاردوا لهم حتى طمعوا واغتروا، فأمنعوا في إتباعهم، وجعلوا يقولون لهم: اطلبوا أميرًا للحرب؛ فإن أميركم قد شغل نفسه بالصيد. فلما قربوا من أبي العباس بالصلح، خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل، وأمر فصيح بنصير: إلى أين تتأخر عن هؤلاء الأكلب! ارجع إليهم؛ فرجع نصير إليهم. وركب أبو العباس سميرية، ومعه محمد بن شعيب الاشتيام، وحف بهم أصحابه من جميع جهاتهم، فانهزموا، ومنح الله أبا العباس وأصحابه أكتافهم؛ يقتلونهم ويطردونهم؛ حتى وافوا قرية عبد الله؛ وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم فيه، وأخذوا منهم خمس شذوات وعدة سميريات، واستأمن منهم قوم، وأسر منهم أسرى، وغرق ما أدرك من سفنهم؛ فكان ذلك أول الفتح على العباس بن أبي أحمد. ولما انقضت الحرب في هذا اليوم، أشار على أبي العباس قواده وأولياؤه، أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه من الصلح؛ إشفاقًا عليه من مقاربة القوم، فأبى إلا نزول واسط. ولما انهزم سليمان بن جامع ومن معه، وضرب الله وجوههم، انهزم سليمان بن موسى الشعراني عن نهر أبان؛ حتى وافى سوق الخميس، ولحق سليمان بن جامع بنهر الأمير؛ وقد كان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم، فقالوا: هذا فتىً حدثٌ؛ لم تطل ممارسته الحروب وتدربه بها، فالرأي لنا أن نرميه بحدنا كله، ونجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته؛ فلعل ذلك أن يروعه، فيكون سببًا لانصرافه عنا. ففعلوا ذلك، وحشدوا واجتهدوا، فأوقع الله بهم بأسه ونقمته. وركب أبو العباس من غد يوم الوقعة، حتى دخل واسطًا في أحسن زي، وكان يوم جمعة، فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة، واستأمن إليه خلق كثير، ثم انحدر إلى العمر - وهو على فرسخ من واسط - فقدم فيه عسكره، وقال: اجعل معسكري أسفل واسط، ليأمن من فوقه الزنج. وكان نصير المعروف بأبي حمزة والشاه بن مكيال أشارا عليه أن يجعل مقامه فوق واسط، فامتنع من ذلك، وقال لهما: لست نازلًا إلا العمر؛ فانزلا أنتم في فوهة بردودًا. وأعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه واستماع شئ من آرائهم؛ فنزل العمر وأخذ في بناء الشذوات، وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم؛ وقد رتب خاصة غلمانه في سميريات فجعل في كل سميرية اثنين منهم، ثم إن سليمان استعد وحشد وجمع وفرق أصحابه فجعلهم في ثلاثة أوجه: فرقة أتت من نهر أبا، وفرقة من برتماتا، وفرقة من بردودا، فليهم أبو العباس؛ فلم يلبثوا أن انهزموا، فخلفت طائفة منهم بسوق الخميس وطائفة بمازروان، وأخذ قوم منهم في برتماتا وآخرون أخذوا الماديان، وقوم منهم اعتصموا للقوم الذين سلكوا الماديان؛ فلم يرجع عنهم حتى وافى نهر برمساور، ثم انصرف، فجعل يف على القرى والمسالك، ومعه الأدلاء؛ حتى وافى عسكره، فأم به مريحًا نفسه وأصحابه. ثم أتاه مخبرٌ فأخبره أن الزج قد جمعوا واستعدوا لكبس عسكره، وأهم على إتيان عسكره من ثلاثة أوجه، وأهم قالوا: إنه حدث غر يغر بنفسه، وأجمع رأيهم على تكمين الكماء والمصير إليه من الجهات الثلاثة التي ذكرنا، فحذر ذلك، واستعد له، وأقبلوا إليه وقد كمنوا زهاء عشرة آلاف في برتمرتا ونحوًا من هذه العدة في قس هثا. ودموا عشرين سميرية إلى العسكر ليغير بها أهله، ويجيزوا المواضع التي فيها كماؤهم؛ فمع أبو العباس الناس من اتباعهم؛ فلما علموا أن كيدهم لم ينفذ، خرج الجبائي وسليمان في الشذوات والسميريات، وقد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه، فأمر نصيرًا المعروف بأبي حمزة أن يبرز للقوم في شذواته، وزل أبو العباس عن فرس كان ركبه، ودعا بشذاة من شذواته وقد كان سماها الغزال، وأمر اشتيامه محمد بن شعيب باختيار الجذافي لهذه الشذاة، وركبها، واختار من خاصة أصحابه وغلمانه جماعة دفع إليهم الرماح، وأمر أصحاب الخيل بالمسير بإزائه على شاطئ النهر، وقال لهم: لا تدعوا المسير ما أمكنكم إلى أن تقطعكم الأنهار، وأمر بتعبير بعض الدواب التي كانت ببردودا، ونشبت الحرب بين الفريين؛ فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة؛ فكانت الهزيمة على الزج، وحاز أصحاب أبي العباس أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والجبائي في ذلك اليوم بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين، وأخذت دوابهما بحلالهما وآلتها، ومضى الجيش أجمع لا يثنى أحد منهم حتى وافوا طهيثًا، وأسلموا ما كان معهم من أثاث وآلة، ورجع أبو العباس، وأقام بمعسكره في العمر، وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذا والسميريات وترتيب الرجال فيها، وأقام الزنج بعد ذلك عشرين يومًا، لا يظهر منهم أحد. وكان الجبائي يجئ في الطلائع في كل ثلاثة أيام وينصرف، وحفر آبارًا فوق نهر سنداد، وصير فيها سفافيد حديد، وغشاها باليواري، وأخفى مواضعها، وجعلها على سن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها؛ وكان يوافى طف العسكر متعرضًا لأهله، فتخرج الخيل طالبة له، فجاء في بعض أيامه وطلبته الخيل كما كانت تطلبه، فطر فرس رجل من واد الفراعنة في بعض تلك الآبار، فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من ذلك على ما دبر الجبائي، فحذر ذلك، وتنكبوا سلوك ذلك الطريق، وألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم للحرب، وعسكر بنهر الأمير في جمع كثير؛ فلما لم يجد ذلك عليهم أمسكوا عن الحرب قدر شهر. وكتب سليمان إلى صاحب الزنج يسأله إمداده بسميريات؛ لكل واحد منهن أربعون مجدافًا، فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يومًا أربعون سميرية، في كل سميرية مقاتلان، ومع ملاحيها السيوف والرماح والتراس، وجعل الجبائي موقفه حيال عسكر أبي العباس، وعادوا التعرض للحرب في كل يوم؛ فإذا خرج إليهم أصحاب أبي العباس انهزموا عنهم، ولم يثبتوا لهم؛ وخلال ذلك ما تأتي طلائعهم، فتقطع القناطر، ترمى ما ظهر لها من الخيل بالنشاب، وتضرم ما وجدت في النوبة من المراكب التي مع نصير بالنار؛ فكانواكذلك قدر شهرين. ثم رأى أبو العباس أن يكمن لهم كمينًا في رية الرمل، ففعل ذلك، وقدم لهم السميريات أمام الجيش ليطمعوا فيها، وأمر أبو العباس فأعدت له سميرية ولزيرك سميرية وحمل جماعة من غلمانه الذين اختارهم، وعرفهم بالنجدة في السميريات، فحمل بدرًا ومؤنسًا في سميرية ورشيقًا الحجاجي ويمنًا في سميرية وخفيفًا ويسرًا في سميرية، ونذيرًا ووصيفًا في سميرية؛ وأعد خمس عشرة سميرية، وجعل في كل سميرية مقاتلين، وجعلها أمام الجيش. قال محمد بن شعيب الاشتيام: وكنت فيمن تقدم يومئذ، فأخذ الزنج من السميريات المتقدمة عدة؛ وأسروا أسرى، فانطلقت مسرعًا، فناديت بصوت عال: قد أخذ القوم سميرياتنا. فسمع أبو العباس صوتي وهو يتغدى، فنهض إلى سميرته التي كانت أعدت له؛ وتقدم العسكر، ولم ينتظر لحاق أصحابه، فتبعه منهم من خف لذلك. قال: فأدركنا الزنج رأونا ذف الله الرعب في قلوبهم، فألقوا أنفسهم في الماء، وانهزموا فتخلصنا أصحابنا، وحوينا يومئذ إحدى وثلاثين سميرية من سميريات الزنج، وأفلت الجبائي في ثلاث سميريات، ورمى أبو العباس يومئذ عن قوس كانت في يده حتى دميت إبهامه؛ فانصرف؛ شدة اللغوب. ورجع أبو العباس وأكثر أصحابه بمواضعهم من فوهة بردودا لم يرم أحد منهم؛ فلما وافى عسكره أمر لمن كان في صحبه بالأطواق والخلع والأسورة، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج، وأمر أبا حمزة أن يجعل مقامه بما معه من الشذا في دجلة بحذاء خسرسابور. ثم إن العباس رأى يتوغل في مازروان حتى يصير إلى القرية المعروفة بالحجاجية، وينتهي إلى نهر الأمير، ويف على تلك المواضع، ويتعرف الطر التي تجتاز فيها سميريات الزنج، وأمر نصيرًا فقدمه بما معه من الشذا والسميريات، فسار نصير لذلك؛ فترك طريق مازروان، وقصد ناحية ناحية نهر الأمير، فدعا أبو العباس سميرته، فركبها ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازروان وهو يرى أن نصيرًا أمامه، وقال لمحمد: قدمني في النهر لأعرف خبر نصير. وأمر الشذا والسميريات بالمصير خلفه. قال محمد بن شعيب: فمضينا حتى قاربنا الحجاجية، فعرضت لنا في النهر صلغة فيها عشرة زنوج؛ فأسرعنا إليها، فألقى الزنوج أنفسهم في الماء، وصارت الصلغة في أيدينا، فإذا هي مملوءة شعيرًا، وأدركنا فيها زنجيًا فأخذناه، فسألناه عن خبر نصير وشذواته فقال: ما دخل هذا النهر شئ من الشذا والسميريات، فأصابتنا حيرة، وذهب الزنج الذين أفلتوا من أيدينا فأعلموا أصحابهم بمكاننا، وعرض للملاحين الذين كانوا معنا غنم فخرجوا لانتهابها. قال محمد بن شعيب: وبقيت مع أبي العباس وحدي، فلم نلبث أن وافاناقائد من قواد الزنج، يقال له منتاب، في جماعة من الزنج من أحد جانبي النهر، ووافانا من الجانب الآخر عشرة من الزنج، فما رأينا ذلك خرج أبو العباس، ومعه قوسه وأسهمه، وخرجت برمح كان في يدي، وجعلت أحميه بالرمح وهو يرمي الزنج، فجرح منهم زنجيين، وجعلوا يثوبون ويكثرون، وأدركنا زيرك في الشذا ومعه الغلمان؛ وقد كان أحاط بنا زهاء ألفي زنجي من جانبي مازروان، وكفى الله أمرهم وردهم بذلة وصغار، ورجع أبو العباس إلى عسكره، وقد غنم أصحابه من الغنم والبقر والجواميس شئيئًا كثيرًا، وأمر أبو العباس بثلاثة من الملاحين الذين كانوا معه، فتركوه لانتهاب الغنم، فضربت أعنقاقهم، وأمر لمن بقى بالأرزاق لشهر وأمر بالنداء في الملاحين ألا يبرح أحدٌ من السميريات في وقت الحرب؛ فمن فعل ذلك فقد حل دمه. وانهزم الزنج أجمعون حتى لحقوا بطهيثًا وأقام أبو العباس بمعسكره في العمر، وقد بث طلائعه في جميع النواحي، فمكث بذلك حينًا، وجمع سليمان بن جامع عسكره وأصحابه، وتحصن بطهيثًا، وفعل الشعراني مثل ذلك بسوق الخميس؛ وكان بالصينية لهم جيش كثيف أيضًا، يقود أهله رجل منهم يقال له نصر السندي، وجعلوا يخربون كل ما وجدوا إلى خرابه سبيلًا، ويحملون ما قدروا على حمله من الغلات، ويعمرون مواضعهم التي هم مقيمون بها، فوجه أبو العباس جماعة من قواده، منهم الشاه وكمشحور والفضل بن موسى بن بغا، وأخوه محمد على الخيل إلى ناحية الصينية، وركب أبو العباس ومعه نصير وزيرك في الشذا والسميريات، وأمر بخيل فعبر بها من برمساور إلى طريق الظهر. وسار الجيش حتى صار إلى الهرث، فأمر أبو العباس بتغيير الدواب إلى الهرث، فعبرت، فصارت إلى الجانب الغربي من دجلة، وأمر بأن يسلك بها طريق دير العمال. فلما أبصر الزج الخيل دخلتهم منها رهبة شديدة، فلجئوا إلى الماء والسفن، ولم يلبثوا أن وافتهم الشذا والسميريات، فلم يجدوا ملجأ واستسلموا، فقتل منهم فريق، وأسر فريق، وألقى بعضهم نفسه في الماء، فأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم؛ وهي مملوءة أرزًا، فصارت في أيديهم، وأخذوا سميرية رئيسهم المعروف بنصر السندي، وانهزم الباقون، فصارت طائفة منهم إلى طهيثا وطائفة إلى سوق الخميس، ورجع أبو العباس غانمًا إلى عسكره، وقد فتح الصينية وأجلى الزنج عنها. قال محمد بن شعيب: وبينا نحن في حرب الزنج بالصينية إذ عرض لأبي العباس كركي طائر، فرماه بسهم، فشكه فسقط بين أيدي الزنج، فأخذوه، فلما رأوا موضع السهم منه، وعلموا أنه سهم أبي العباس زاد ذلك في رعبهم؛ فكان سببًا لانهزامهم يومئذ. وقد ذكر عمن لا يتهم أن خبر السهم الذي رمى به أبو العباس الكركي في غير هذا اليوم، وانتهى إلى أبي العباس أن بعبد سي جيشًا عظيمًا يرأسهم ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيان، فصار أبو العباس إلى عبد سي قاصدًا للإيقاع بهما ومن معهما في خيا جريدة، قد انتخبت من غلمانه وحماة أصحابه، فوافى الموضع الذي فيه جمعهم في السحر، فأوقع بهم وقعة غليظة، قتل فيها من أبطالهم، وجلد من رجالهم خلق كثير، وانهزموا. وظفر أبو العباس برئيسهم ثابت بن أبي دلف، فم عليه واسبقاه، وضمه إلى بعض قواده، وأصاب لؤلؤًا سهم فهلك منه، واستنفذ يومئذ من النساء اللواتي كن في أيدي الزنج خلق كثير، فأمر أبو العباس بإطلاقهن ورد إلى أهلهن، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه. ثم رجع أبو العباس إلى معسكره، فأمر أصحابه أن يريحوا أنفسهم ليسير بهم إلى سوف الخميس، ودعا نصيرًا فأمره بتعبئة أصحابه للمسير إليها، فقال له نصير: إن نهر سوق الخميس ضيق، فأقم أنت وائذن لي في المسير إليه حتى أعاينه، فأبى أن يدعه حتى يعاينه، ويقف على علم ما يحتاج إليه منه قبل موافاة أبيه أبي أحمد؛ وذلك عند ورود كتاب أبي أحمد عليه بعزمه على الانحدار. قال محمد بن شعيب: فدعاني أبو العباس، فقال لي، إنه لابد لي من دخول سوق الخميس، فقلت: إن كنت لا بد فاعلًا ما تذكر فلا تكثر عدد من تحمل معك في الشذا، ولا تزد على ثلاثة عشر غلامًا عشرة رماة وثلاثة في أيديهم الرماح، فإني أكره الكثرة في الشذا مع ضيق النهر، فاستعد أبو العباس لذلك وسار إليه ونصير بين يديه حتى وافى فم برمساور، فقال له نصير: قدمني أمامك، ففعل ذلك، فدخل نصير في خمس عشرة شذاة. واستأذنه رجل من قواد الموالي يقال له موسى دالجويه في التقدم بين يديه، فأذن له، فسار وسار أبو العباس حتى انتهى به مسيرة إلى بسامي، ثم إلى فوهة براطق ونهر الرق النهر الذي ينفذ إلى رواطا وعبدسى، وهذه الأنهار الثلاثة تؤدي إلى ثلاث طرق مفترقة، فأخذ نصير في طريق نهر براطق وهو النهر المؤدي إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني التي سماها المنيعة بسوق الخميس. وأقام أبو العباس على فوهة هذا النهر، وغاب عنه نصير حتى خفي عنه خبره. وخرج علينا في ذلك الموضع من الزنج خلق كثير، فمنعونا من دخول النهر، وحالوا بينا وبين الانتهاء إلى السور - وبين هذا الموضع الذي انتهينا إليه والسور المحيط بمدينة الشعراني مقدار فرسخين - وأقاموا هناك يحاربوننا، واشتدت الرب بينا وبينهم وهم على الأرض؛ وحن في السفن من أول النهار إلى وقت الظهر، وخفي علينا خبر نصير، وجعل الزنج يهتفون بنا: قد أخذنا نصيرًا فماذا تصنعون؟ ونحن تابعوكم حيثما ذهبتم. فاغتنم أبو العباس لما سمع منهم هذا القول، فأستأذنه محمد بن شعيب فيالمسير ليتعرف خبر نصير، فأذن له، فمضى في سميرية بعشرين جذاقًا حتى وافى نصيرًا أبا حمزة، وقد قرب من سكر كان الفسقة سكروه، وحده قد أضرم النار فيه وفي مدينتهم، وحارب حربًا شديدًا ورزق الظفر بهم، وكان الزنج ظفروا ببعض شذوات أبي حمزة، فقاتل حتى انتزع ما كانوا أخذوا من بين أيديهم، فرجع محمد بن شعيب إلى أبي العباس، فبشره بسلامة نصير ومن معه، وأخبره خبره. فسر بذلك وأسر نصير يومئذ من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العباس بالموضع الذي كان واقفًا به. فلما رجع نصير قال أبو العباس: لست زائلًا عن موضعي هذا حتى أرواحهم القتال في عشي هذا اليوم؛ ففعل ذلك، وأمر بإظهار شذاة واحدة من الشذوات التي كانت معه لهم، وأخفى باقيها عنهم، فطمعوا في الشذاة التي رأوها، فتبعوها، وجعل من كان فيها يسيرو سيرًا ضعيفًا حتى أدركوها، فعلقوا بسكانها، وجعل الملاحون يسيرو حتى وافوا المكان الذي كانت فيه الشذوات المكمنة. وقد كان أبو العباس ركب سميرية، وجعل الشذا خلفه، فسار نحو الشذاة التي علق بها الزنج لما أبصرها، فأدركها، والزج ممسكون بسكانها يحيطون بها من جوانبها، يرمون بالنشاب والآجر، وعلى أبي العباس كيز تحته درع. قال محمد: فنزعنا يومئذ من كيز أبي العباس خمسًا وعشرين نشابة، ونزعت من لبادةٍ كانت علي أربعين نشابة، ومن لبابيد سائر الملاحي الخمس والعشرين والثلاثين. وأظفر الله أبا العباس بست سميريات من سميريات الزنج، وتخلص الشذا من أيديهم، وانهزموا، ومال أبو العباس وأصحابه نحو الشط، وخرج من الزنج المقاتلة بالسيوف والتراس؛ فانهزموا لا يلوون على شيء للرهبة التي وصلت إلى قلوبهم، ورجع أبو العباس سالمًا غانمًا، فخلع على الملاحين ووصلهم، ثم صار إلى معسكره بالعمر، فأقام به إلى أن وافى الموفق. ولإحدى عشرة ليلةً خلت من صفر منها، عسكر أبو أحمد بن المتوكل بالفرك، وخرج من مدينة السلام يريد الشخوص إلى صاحب الزنج لحربه؛ وذلك أنه - فيما ذكر - كان اتصل به أن صاحب الزنج كتب إلى صاحبه علي بن أبان المهلبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى احية سليمان بن جامع، ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد، وأقام أبو أحمد بالفرك أيامًا؛ حتى تلاحق به أصحابه ومن أراد النهوض به إليه، وقد أعد قبل ذلك الشذا والسميريات والمعابر والسفن، ثم رحل من الفرك - فيما ذكر - يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول في مواليه وغلمانه وفرسانه ورجالته فصار إلى رومية المدائن، ثم صار منها، فنزل السيب ثم دير العاقول ثم جرجرايا، ثم قني، ثم نزل جبل، ثم نزل الصلح، ثم نزل على فرسخ من واسط، فأقام هنالك يومه وليلته، فتلقاه ابنه أبو العباس به في جريدة خيل فيها وجوه قواده وجنده، فسأله أبو أحمد عن خبر أصحابه، فوصف له بلاءهم ونصحهم، فأمر أبو أحمد له ولهم بخلع فخلعت عليهم، وانصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر، فأقام يومه. فلما كانت صبيحة الغد رحل أبو أحمد منحدرًا في الماء، وتلقاه ابنه أبو العباس بجميع من معه من الجند في هيئة الحرب والزي الذي كانوا يلقون به أصحاب الخائن، فجعل يسير أمامه حتى وافى عسكره بالنهر المعروف بشيرزاد؛ فنزل أبو أحمد، ثم رحل منه يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول؛ فنزل على النهر المعروف بسنداد بإزاء القرية المعروفة بعبد الله، وأمرا ابنه أبا العباس، فنزل شرقي دجلة بإزاء فوهة بردودا، وولاه مقدمته، ووضع العطاء فأعطى الجيش، ثم أمر ابنه بالمسير أمامه بما معه من آلة الحرب إلى فوهة برمساور. فرحل أبو العباس في المختارين من قواده ورجاله، منهم زيرك التركي صاحب مقدمته، ونصير المعروف بأبي حمزة صاحب الشذا والسميريات. ورحل أبو أحمد بعد ذلك في الفرسان والرجالة المتخبين، وخلف سواد عسكره وكثيرًا من الفرسان والرجالة بمعسكره؛ فتلقاه ابنه أبو العباس بأسرى ورءوس وقتلى من أصحاب الشعراني؛ وذلك أنه وافى عسكره الشعراني في ذلك اليوم قبل مجيء أبيه أبي أحمد؛ فأوقع به أصحابه؛ فقتل منهم مقتلةً عظيمة، وأسر منهم جماعة؛ فأمر أبو أحمد بضرب أعناق الأسرى فضربت، ونزل أبو أحمد فوهة برمساور، وأقام به يومين، ثم رحل يريد المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس في يوم الثلاثاء لثماني ليال خلون من شهر ربيع الآخر من هذه السنة بمن معه من الجيش وما معه من آلة الحرب، وسلك في السفن في برمساور، وجعلت الخيل تسير بإزائه شرقي برمساور، حتى حاذى النهر المعروف ببراطق الذي يوصل إلى مدينة الشعراني. وإنما بدأ أبو أحمد بحرب سليمان بن موسى الشعراني قبل حرب سليمان بن جامع من أجل أن الشعراني كان واءه، فخاف إن بدأ بابن جامع أن يأتيه الشعراي من ورائه، ويشغله عمن هو أماه؛ فقصده من أجل ذلك؛ وأمر بتعبير الخيل وتصييرها على جانبي النهر المعروف ببراطق، وأمر انه أبا العباس بالتقدم في الشذا والسميريات، وأتبعه أبو أحمد في أحمد الشذا بعامة الجيش. فلما بصر سليمان ومن معه من الزنج وغيرهم بقصد الخيل والرجالة سائرين على جنبتي النهر ومسير الشذا والسميريات في النهر، وقد لقيهم أبو العباس قبل ذلك، فحاربوه حربًا ضعيفة، انهزموا وتفرقوا. وعلا أصحاب أبي العباس السور، ووضعوا السيوفغ فيمتن لقيهم وتفرق الزنج وأتباعهم، ودخل أصحاب أبي العباس المدينة، فقتلوا فيها خلقًا كثيرًا، وأسروا بشرًا كثيرًا، وحووا ما كا في المدينة، وهرب الشعراني ومن أفات منهم معه، وأتبعهم أصحاب أبي أحمد حتى وافوا بهم البطائح، فغرق منهم خلق كثير، ونجا الباقون إلى الآجام، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم قبل غروب الشمس من يوم الثلاثاء، وانصرف وقد استنفذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة؛ سوى من ظفر به من الزنجيات اللواتي كن في سوق الخميس. فأمر أبو أحمد بحياطة النساء جميعًا، وحملهن إلى واسط ليدفعن إلى أوليائهن. وبات أبو أحمد بحيال النهر المعروف ببراطق، ثم باكر المدينة من غد، فأذن للناس في حياطة ما فيها من أمتعة الزنج، وأخذا ما كان أجمع، وأمر بهدم سورها وطم خندقها وإحراق ما كان بقى فيها من السفن، ورحل إلى معسكره ببرمساور بالظفر بما بالرساتيق والقرى التي كانت في يد الشعراني وأصحابه من غلات الحطنة والشعير والأرز، فأمر ببيع ذلك، وصرف ثمنه في أعطيات مواليه وغلمانه وجنده وأهل عسكره وانهزم سليمان الشعراني وأخواه ومن أفلت، وسلب الشعراني ولده وما كان بيده من مال، ولحق بالمذار فكتب إلى الخائن بخبره وما نزل به واعتصامه بالمذار. فذكر محمد بن الحسن، أن محمد بن هشام المعروف بأبي واثلة الكرماني قال: كنت بين يدي الخائن وهو يتحدث، إذ ورد عليه كتاب سليمان الشعراني بخبر الوقعة ومانزل به، وانهزامه إلى المذار، فما كان إلا أن أفض الكتاب، فوقعت عينه على موضع الهزيمة حتى انحل وكاء بطنه، ثم نهض لحاجته، ثم عاد، فلما استوى به مجلسه أخذ الكتاب وعاد يقرؤه فلما انتهى إلى الموضع الذي أنهضه، نهض حتى فهل ذلك مرارًا. قال: فلم أشك في عظم المصيبة، وكرهت أن أسأله، فلما طال الأمر تجاسرت، فقلت: أليس هذا كتاب سليمان بن موسى؟ قال: نعم، ورد بقاصمة الظهر، أن الذين أناخوا عليه أوقعوا به وقعة لم تبق منه ولم تذر، فكتب كتابه هذا وهو بالمذار، ولم يسلم بشئ غير نفسه. قال: فأكبرت ذلك، والله يعلم مكروه ما أخفى من السرور الذي وصل إلى قلبي، وأمسك مبشرًا بدنو الفرج. وصبر الخائن على ما وصل إليه، وجعل بظهر الجلد، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ في أمره وحفظ ما قبله. وذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد قال: أقام الموفق بعسكره ببرمساور يومين، لتعرف أخبار الشعراني وسليمان بن جامع والوقوف على مستقره، فأتاه بعض من كان وجهه لذلك، فأخبره أنه معسكر بالقرية المعروفة بالحوانيت. فأمر عند ذلك بتعبير الخيل إلى أرض كسكر في غربي دجلة، وسار على الظهر، وأمر بالشذا وسفن الرجالة فحدرت إلى الكثيثة، وخلف سواد عسكره وجمعًا كثيرًا من الرجال والكراع بفوهة برمساور، وأمر بغراج بالمقام هناك؛ فوافى أبو أحمد الصينية، وأمر أبا العباس بالمصير في الشذا والسميريات إلى الحوانيت مخفًا لتعرف حقيقة خبر سليمان بن جامع في مقامه بها، وإن وجد منه غرة أوقع به. فسار أبو العباس في عشى ذلك اليوم إلى الحوانيت، فلم يلف سليمان هنالك، وألفى من قواد السودان المشهورين بالبأس والنجدة شبلًا وأبا النداء وهما من قدماء أصحاب الفاسق الذين كان استتبعهم في بدء مخرجه. وكان سليمان بن جامع خلف هذين القائدين في موضعهما لحفظ غلات كثيرة كانت هناك، فحاربهما أبو العباس، وأدخل الشذا موضعًا ضيقًا من النهر، فقتل من رجالهما، وجرح بالسهام خلقًا كثيرًا - وكانوا أجلد رجال سليمان بن جامع ونخبتهم الذين يعتمد عليهم - ودامت الحرب بينهم إلى أن حجز الليل بين الفريقين. قال: وقال محمد بن حماد: في هذا اليوم كان من أمر أبي العباس في الكركي الذي ذكره محمد بن شعيب في يوم الصينية، وقد مر به سانحًا، قال: واستأم في هذا اليوم رجلٌ إلى أبي العباس، فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع، فأخبره أنه مقيم بطهيثا، فانصرف أبو العباس حينئذ إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان بمدينته التي سماها المصورة، وهي في الموضع الذي يعرف بطهيثا، وأن معه هنالك جميع أصحابه غير شبل وأبي النداء؛ فإنهما بموضعهما من الحوانيت لما أمروا بحفظه. فلما عرف ذلك أبو أحمد، أمر بالرحيل إلى بردودا؛ إذ كان المسلك إلى طهيثا منه؛ وتقدم أبو العباس في الشذا والسميريات، وأمر من خلفه ببرمساور أن يصيروا جميعًا إلى بردودا. ورحل أبو أحمد في غد ذلك اليوم الذي أمر أبا العباس فيه بما أمره به إلى بردودا، وسار إليها يومين؛ فوافاها يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، فأقام بها يصلح ما يحتاج إلى إصلاحه من أمر عسكره، وأمر بوضع العطاء وإصلاح سفن الجسور ليحدرها معه، واستكثر من العمال والآلات التي تسد بها الأنهار، وتصلح بها الطرق للخيل، وخلف ببردودا بغراج التركي، وقد كان لما عزم على الرجوع إلى بردودا أرسل إلى غلام له يقال له جعلان وكان مخلفًا مع بغراج في عسكره، فأمر بقلع المضارب وتقديمها مع الدواب المخلفة قبله والسلاح إلى بردودا، فأظهر جعلان ما أمر به في وقت العشاء الآخرة، ونادى في العسكر والناس غارون، فألقى في قلوبهم أن ذلك لهزيمة كانت. فخرجوا على وجوههم، وترك الناس أسواقهم وأمتعتهم، ظنًا منهم أن العدو قد أظلهم، ولم يلو منهم أحد على أحد، وقصدوا قصد الرجوع إلى عسكرهم ببردودا، وساروا في سواد ليلتهم تلك، ثم ظهر لهم بعد ذلك حقيقة الخبر، فسكنوا واطمأنوا. وفي صفر من هذه السنة كان بين أصحاب كيغلغ التركي وأصحاب أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف وقعة بناحية قرماسين، فهزمهم كيغلغ، وصار إلى همذان، فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن قد اجتمع من أصحابه في صفر، فحاربه فانهزم كيغلغ، وانحاز إلى الصيمرة. وفي هذه السنة لثلاث بقين من شهر ربيع اخر دخل أبو أحمد وأصحابه طهيثما، وأخرجوا منها سليمان بن جامع، وقتل بها أحمد بن مهدي الجبائي. ذكر الخبر عن سبب دخول أبي أحمد وأصحابه طهيثما ومقتل الجبائي ذكر محمد بن الحسن أن محمد بن حماد حدثه أن أبا أحمد لما أعطى أصحابه ببردودا، فأصلح ما أراد إصلاحه من عدة حرب من قصد لحربه في مخرجه، سار متوجهًا إلى طهيثما؛ وذلك يوم الأحد لعشر بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله. وحدرت السفن بما فيها من الرجالة والسلاح والالآت، وحدرت المعابر والشذوات والسميريات، إلى أن وافى بها النهر المعروف بمهروذ بحضرة القرية المعروفة بقرية الجوزية، فنزل أبو أحمد هناك، وأمر بعقد الجسر على النهر المعروف بمهروذ، وأقام يومه وليلته. ثم غدا فعبّر الفرسان والأثقال بين يديه على الجسر، ثم عبر بعد ذلك، وأمر القواد والناس بالمسير إلى طهيثما، فصاروا إلى الموضع الذي ارتضاه أبو أحمد لفسه منزلًا على ميلين من مدينة سليمان بن جامع، فأقام هنالك بإزاء أصحاب الخائن يوم الاثنين والثلاثاء لثمان بقين من شهر ربيع الآخر، ومطر السماء مطرًا جودًا، واشتد البرد أيام مقامه هنالك، فشغل بالمطر والبرد عن الحرب، فلم يحارب هذه الأيام وبقية الجمعة. فلما كان عشية يوم الجمعة ركب أبو أحمد في نفر من قواده ومواليه لارتياد موضع لمجال الخيل، فانتهى إلى قريب من سور سليمان بن جامع، فتلقاه منهم جمع كثير، وخرج عليه كمناء من مواضع شتى، ونشبت الحرب واشتدت؛ فترجل جماعة من الفرسان، ودافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا وغاوها، وأسر من غلمان أبي أحمد وقواده غلام يقال له وصيف علمدار وعدة من قواد زيرك، ورمى أبو العباس أحمد بن مهدي الجبائي بسهم في إحدى مخريه، فخرق كل شيء وصل إليه حتى خالط دماغه، فخر صريعًا، وحمل إلى عسكر الخائن وهو لمآبه، فعظمت المصيبة به عليه؛ إذ كان أعظم أصحابه غنىً عنه، وأشدهم بصيرةً في طاعته، فمكث الجبائي يعالج أيامًا، ثم هلك فاشتد جزع الخائن عليه، فصار إليه، فولي غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره إلى أن دفن، ثم أقبل على أصحابه فوعظهم، وذكر موت الجبائي. وكانت وفاته في ليلة ذات رعود وبروق، وقال فيما ذكر: علمت وقت قبض روحه قبل وصول الخبر إليه بما سمع من زجل الملائكة بالدعاء له والترحم عليه. قال محمد بن الحسن: فانصرف إلى أبو واثلة - وكان فيم شهده - فعجل يعجبني مما سمع، وجاءني محمد بن سمعان فأخبرني بمثل خبر محمد ابن هاشم، وانصرف الخائن من دفن الجبائي منكسرًا عليه الكآبة. قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد أبا أحمد انصرف من الوقعة التي كانت عشية يوم الجمعة لأربع ليال بقين من شهر ربيع الآخر، وكان خبره قد انتهى إلى عسكره، فنهض إليه عامة الجيش، فتلقوه منصرفًا، فردهم إلى عسكره؛ وذلك في وقت المغرب؛ فلما اجتمع أهل العسكر أمروا بالتحارس ليلتهم والتأهب للحرب، فأصبحوا يوم السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر؛ فعبأ أبو أحمد أصحابه، وجعلهم كتائب يتلو بعضها بعضًا؛ فرسانًا ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها معه في الهر الذي يشق مدينة طهيثا المعروف بنهر المنذر، وسار نحو الزنج حتى انتهى إلى سور المدينة، فرتب قواد غلمانه في المواضع التي يخاف خروج الزنج عليه منها، وقدم الرجالة أمام الفرسان، ووكل بالمواضع التي يخاف خروج الكمناء منها ونزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله عز وجل في النصر له وللمسلمين. ثم عاد بسلاحه فلبسه، وأمر ابنه أبا العباس بالتقدم إلى السور وتخصيص الغلمان على الحرب، ففعل ذلك؛ وقد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور مدينته التي سماها المنصورة خندقًا، فلما انتهى إليه الغلمان تهيبوا عبوره، وأحجموا عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم، فاقتحموا متجاسرين عليه، فعبروه، واتهوا إلى الزنج وهم مشرفو من سور مدينتهم، فوضعوا السلاح فيهم، وعبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضًا. فلما رأى الزج خبر هؤلاء القوم الذين لقوهم وكرهم عليهم ولوا منهزمين، وأتبعهم أصحاب أبي أحمد، ودخلوا المدينة من جوانبها، وكان الزنج قد حصوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق منها سورًا يمتنعون به، فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق إذا انتهوا إليه، وجعل أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه، ودخلت الشذا والسميريات مدينتهم من النهر المشقق لها بعد انهزامهم، فجعلت تغرق كل ما مرت لهم به من شذاة وسميرية، وأتبعوا من بحافتي النهر، يقتلون ويؤسرون، حتى أجلوا عن المدينة وعما اتصل بها، وكان زهاء ذلك فرسخًا، فحوى أبو أحمد ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه فاستحر القتال فيهم والأسر، واستنفذ أبو أحمد من نساء أهل واسط وصبياهم ومما اتصل بذلك من القرى ونواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف. فأمر أبو أحمد بحياطتهم والإنفاق عليهم، وحملوا إلى واسط، ودفعوا إلى أهليهم، واحتوى أبو أحمد وأصحابه على كل ما كان في تلك المدينة من الذخائر والأموال والأطعمة والمواشي، وكان ذلك شيئًا جليل القدر، فأمر أبو أحمد ببيع ما أصاب من الغلات وغير ذلك، وحمله إلى بيت ماله، وصرفه في أعطيات من في عسكره من مواليه، وجنوده، فحملوا من ذلك ما تهيأ لهم حمله، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة، واستنفذ يومئذ وصيف علمدار ومن كان أسر معه عشية يوم الجمعة، فأخرجوا من الحبس، وكان الأمر أعجل الزنج عن قتلهم، ولجأ جمع كثير ممن أفلت إلى الآجام المحيطة بالمدينة، فأمر أبو أحمد فعقد جسر على هذا النهر المعروف بالمذر، فعبر الناس إلى غريبة، وأقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يومًا، وأمر بهدم سور المدينة وطم خنادقها، ففعل ذلك، وأمر بتتبع من لجأ إلى الآجام، وجعل لكل من أتاه برجل منهم جعلًا، فتسارع الناس إلى طلبهم؛ فكان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه، وخلع عليه وضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم وصرفهم عن طاعة صاحبهم، وندب أبو أحمد نصيرًا في الشذا والسميريات لطلب سليمان بن جامع والهرب معه من الزنج وغيرهم، وأمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح، وحتى يلج دجلة المعروفة بالعوراء، وتقدم في فتح الكور التي كان الفاسق أحدثها، ليقطع بها الشذا عن دجلة فيما بينه وبين النهر المعروف بأبي الخصيب، وتقدم أهلها، وأمره بتتبع من بقي في الآجام من الزنج حتى يظفر بهم. وفي شهر ربيع الآخر منها ماتت أم حبيب بت الرشيد. ورحل أبو أحمد بعد إحكامه ما أراد إحكامه إلى معسكره ببردودا، مزمعًا على التوجه نحو الأهواز ليصلحها؛ وقد كان اظطرب أمر المهلبي وإيقاعه بمن وقع عليه من الجيوش التي كانت بها وغلبته على أكثر كورها، وقد كان أبو العباس تقدمه في مسيره ذلك، فلما زافى بردودا أقام أيامًا، وأمر بإعداد ما يحتاج إليه من المسير على الظهر إلى كور الأهواز، وقدم من يصلح الطريق والمنازل ويعد فيها المير للجيوش التي معه، ووافاه قبل أن ترحل عن واسط زيرك منصرفًا عن طهيثا؛ بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها، وخلفهم آمنين. فأمره أبو أحمد بالاستعداد والانحدار في الشذا والسميريات في نخبة أصحابه وأنجادهم، ليصير بهم إلى دجلة العوراء، فتجتمع يده ويدي أبي حمزة على نفض دجلة واتباع المنهزمين من الزنج والإيقاع بكل من لقوا من أصحاب الفاسق، إلى أن ينتهي بهم السير إلى مدينته بنهر أبي الخصيب، وأن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينته، وكتبوا بما كان منهم إلى أبي أحمد ليرد عليهم من أمره ما يعلمون بحبسه، واستخلف أبو أحمد على من خلف في عسكره بواسط ابنه هارون، وأزمع على الشخوص فيمن خلف من رجاله وأصحابه، ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه معه في السفن إلى مستقره بدجلة إذا وافى كتابه بذلك. وفي يوم الجمعة لليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة - وهي سنة سبع وستين ومائتين، ارتحل أبو أحمد من واسط شاخصًا إلى الأهواز وكورها، فنزل باذبين ثم جوخى ثم الطيب ثم قرقوب ثم درستان ثم على وادي السوس، وقد كان عقد له عليه جسر، فأقام من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، حتى عبر أهل عسكره أجمع، ثم سار حتى وافى السوس، فنزلها - وقد كان أمر مسرورًا - وهو عامله على الأهواز - بالقدوم عليه، فوافاه في جيشه وقواده من غد اليوم الذي نزل فيه السوس، فخلع عليه وعليهم، وأقام السوس ثلاثًا. وكان مم أسر بطهيثا من أصحاب الفاسق أحمد بن موسى بن سعيد البصري المعروف بالقلوص، وكان أحد عدده وقدماء أصحابه أسر بعد أن أثخن جراحًا كانت منها ميته، فلما هلك أمر أبو أحمد باحتراز رأسه ونصبه على جسر واسط. وكان ممن أسر يومئذ عبد الله بن محمد بن هشام الكرماني؛ وكان الخبيث اغتصبه أباه، فوجهه إلى طهيثا، وولاه القضاة والصلاة بها وأسر من السودان جماعة كان يعتمد عليهم، أهل نجدة وبأس وجلد، فلما اتصل به الخبر بما نال هؤلاء اتقض عليه تدبيره، وضلت حيله، فحلمه فرط الهلع على أن كتب إلى المهلبي وهو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفًا مع رجل كان صحبه، يأمره بترك كل ما قبله من المير والأثاث، والإقبال إليه؛ فوصل الكتاب إلى المهلبي وقد أتاه الخبر بإقبال أبي أحمد إلى الأهواز وكورها، فهو لذلك طائر العقل، فترك جميع ما كان قبله، واستخلف عليه محمد بن يحيى ابن سعيد الكرنبائي، فدخل قلب الكرنبائي من الوحل، فأخلى ما استخلف عليه، وتبع المهلبي؛ وبجبى والأهواز ونواحيها يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شئ عظيم، فخرجوا عن ذلك كله. وكتب أيضًا الفاسق إلى بهبوذ بن عبد الوهاب. وإليه يومئذ عمل الفدم والباسيان وما اتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس، وهو مقيم بالفندم يأمره بالقدوم عليه؛ فترك بهبوذ ما كان قله من الطعام والتمر - وكان ذلك شيئًا عظيمًا - فحوى جميع ذلك أبو أحمد، فكان ذلك قوة له على الفاسق، وضعفًا للفاسق. ولما فصل المهلبي عن الأهواز تفرق أصحابه في القرى التي بينها وبين عسكر الخبيث فانتهبوها، وأجلوا عنها أهلها، وكانوا في سلمهم وتخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي من الفرسان والرجالة عن اللحاق به، فأقاموا بواحي الأهواز، وكتبوا يسألون أبا أحمد الأمان لما انتهى إليهم من عفوة عمن ظفر به من أصحاب الخبيث بطهيثا، ولحق المهلبي ومن اتبعه من أصحابه بنهر أبي الخصيب. وكان الذي دعا الفاسق إلى أمر المهلبي وبهبوذ بسرعة المصير إليه خوفه موافاة أبي أحمد وأصحابه إياه على الحال التي كانوا عليها من الوجل وشدة الرعب مع انقطاع المهلبي وبهبوذ فيمن كان معهما عنه، ولم يكن الأمر كما قدر. وأقام أبو أحمد حتى أحرز ما كان المهلبي وبهبوذ خلفاه، وفتحت السكور التي كان الخبيث أحدثها في دجلة، وأصلحت له طرقه ومسالكه ورحل أبو أحمد عن السوس إلى جند يسابور، فأقام بها ثلاثًا وقد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر، فوجه في طلبها، وحملها ورحل عن جند يسابور إلى تستر، وأمر بجباية الأموال من كور الأهواز، وأنفذ إلى كل كورة قائدًا ليروج بذلك حمل الأموال. ووجه أحمد بن أبي الأصبغ إلى محمد ابن عبيد الله الكردي، وقد كان خائفًا أن يأتيه صاحب الفاسق قبل موافاة أبي أحمد كور الأهواز، وأمره بإيناسه وإعلامه ما عليه رأيه من العفو عنه، والتغمد لزلته، وأ يتقدم إليه في تعجيل حمل الأموال والمسير إلى سوق الأهواز، وأمر مسرورًا البلخي عامله بالأهواز بإحضار من معه من الموالي والغلمان والجند ليعرضهم، ويأمر بإعطائهم الأرزاق وينهضهم معه لحرب الخبيث. فأحضرهم وعرضوا رجلًا رجلًا، وأعطوا. ثم رحل إلى عسكر مكرم، فجعله مزلًا اجتازه. ورحل منه فوافى الأهواز، وهو يرى أنه تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره. فغلظ الأمر في ذلك اليوم، واضطرب له الناس اضطرابًا شديدًا، وأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود المير؛ فلم ترد، فساءت أحوال الناس، وكاد ذلك يفرق جماعتهم، فبحث أبو أحمد عن السبب المؤخر ورودها، فوجد الجند قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية كانت بين سوق الأهواز ورام هرمز يقال لها قنطرة أربك، فامتنع التجار ومن يحمل الميرة من تطرقه لقطع تلك القنطرة. فركب أبو أحمد إليها وهي على فرسخين من سوق الأهواز، فجمع من كان بقي في العسكر من السودان، وأمرهم بنقل الحجارة والصخر لإصلاح هذه القنطرة وبذل لهم الأموال الرغيبة، فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك، وردت إلى ما كانت عليه؛ فسلكها الناس. ووافت القوافل بالمير، فحيى أهل العسكر، وحسنت أحوالهم. وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل، فجمعت من كور الأهواز وأخذ في عقد الجسر، وأقام بالأهواز أيامًا حتى أصلح أصحابه أمورهم، وما احتاجوا من آلاتهم، وحسنت أحوال دوابهم، وذهب عنها ما كان نالها من الضر بتخلف الأعلاف، ووافت كتب القوم الذين كانوا تخلفوا عن المهلبي، وأقاموا بسوق الأهواز يسألونه الأمان، فآمنهم فأتاه نحو من ألف رجل، فأحسن إليهم، وضمهم إلى قواد غلمانه، وأجرى لهم الأرزاق، وعقد الجسر على دجيل، فرحل بعد أن قدم جيوشه، فعبر الجسر وعسكر بالجانب الغربي من دجيل في الموضع المعروف بقصر المأمون، فأقام هنالك ثلاثًا وأصابت الناس في هذا الموضع من الليل زلزلة هائلة، وقى الله شرها، وصرف مكروهها. وقد كان أبو أحمد قبل عبور الجسر المعقود عى دجيل قدم أبا العباس ابنه إلى الموضع الذي كان عزم على نزوله من دجلة العوراء، وهو الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون بالانحدار في جميع الجيش المتخلف معه إلى هر المبارك أيضًا لتجتمع العساكر هناك، فرحل أبو أحمد عن قصر المأمون، فنزل بقورج العباس، ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك بما صالح عليه محمد بن عبيد الله وبهدايا أهداها إليه من دواب وضوار وغير ذلك. ثم رحل عن القورج، فنزل بالجعفرية، ولم يكن بهذه القرية ماء إلا من آبار كان أبو أحمد تقدم بحفرها في عسكره، وأنفذلذلك سعدًا الأسود مولى عبيد الله بن محمد بن عمار من قورج العباس، فحفرت، فأقام بهذا الموضع يومًا وليلة، وألفى هناك ميرًا مجموعة، واتسع الناس بها، وتزودوا منها. ثم رحل إلى الموضع المعروف بالبشير، وألفى فيه غديرًا من المطر، فأقام به يومًا وليلة، ورحل في آخر الليل يريد نهر المبارك، فوافاه بعد صلاة الظهر، وكان منزلًا بعيد المسافة؛ وتلقاه ابناه أبو العباس وهارون في طريقه، فسلما عليه، وسارا بسيره، حتى ورد نهر المبارك، وذلك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين. وكان لزيرك ونصير في الذي كان أبو أحمد وجه فيه زيرك من تتبع فل الخبيث من طهيثا أثر فيما بين فصول أبي أحمد من واسط إلى حال مصيره إلى نهر المبارك؛ وذلك ما ذكره محمد بن الحسن عن محمد بن حماد، قال: لما اجتمع زيرك ونصير بدجلة العوراء انحدرا حتى وافيا الأبلة، فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الخبيث، فأعلمهما أن الخبيث قد أنفذ عددًا كثيرًا من السميريات والزواريق والصغ مشحونة بالزنج، يرأسهم رجل من أصحابه، يقال له محمد بن إبراهيم يكنى أبا عيسى، ومحمد بن إبراهيم هذا رجل من أهل البصرة، كان جاء به رجل من الزنج عند خراب البصرة يقال له يسار، كان على شرطة الفاسق، فكان يكتب ليسار على ما كان يلي حتى مات، وارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الخبيث، فولاه أكثر أعماله، وضم محمد بن إبراهيم هذا إليه، فكان كاتبه إلى أن هلك الجبائي - فطمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته، وأن يحله الخبيث محل الجبائي، فنبذ الدواة والقلم، ولبس آلة الحرب، وتجرد للقتال، فأنهضه الخبيث في هذا الجيش، وأمره بالاعتراض في دجلة لمدافعة من يردها من الجيوش، فكان في دجلة أحيانًا، وأحيانًا يأتي بالجمع الذي معه إلى النهر المعروف بنهر يزيد، ومعه في ذلك الجيش شبل بن سالم وعمرو المعروف بغلام بوذى وأجلاد من السودان وغيرهم، فاستأمن رجل كان في ذلك الجيش إلى زيرك ونصير، وأخبرهما خبره، وأعلمهما أن محمد بن إبراهيم على القصد لسواد عسكر نصير، ونصير يومئذ معسكر بنهر المرأة، وأنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة على نهر معقل وبثق شيرين، حتى يوافوا الموضع المعروف بالشرطة، ليخرجوا من وراء العسكر فيكبوا على ىطرفيه؛ فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة مبادرًا إلى معسكره، وسار زيرك قاصدًا لبثق شيرين، حتى صار من مؤخرة في موضع يعرف بالميشان؛ وذلك أنه قدر أن محمد بن إبراهيم ومن معه يأتون عسكر نصير من ذلك الطريق؛ فكان ذلك كما ظن، ولقيهم في طريقهم فوهب الله له العو عليهم بعد صبر منهم، ومجاهدة شديدة؛ فانهزموا ولجئوا إلى النهر الذي كانوا وضعوا الكمين فيه، وهو نهر يزيد، فدل زيرك عليهم، فتوغلت عليهم سميرية وشذواته، فقتل منهم طائفة، وأسر طائفة، وكان ممن ظفر به منهم محمد بن إبراهيم المكنى أبا عيسى وعمرو المعروف بغلام بوذى، وأخذ ما كان معه من السميريات، وذلك نحو من ثلاثين سميرية، وأفلت شبل في الذين نجوا، فلحق بعسكر الخبيث، وخرج زيرك من بثق شيرين ظافرًا السفن، فانصرف زيرك من دجلة العوراء إلى واسط؛ وكتب إلى أبي أحمد بما كان من حربه والنصر والفتح. وكان فيمن كان من زيرك في ذلك وصول الجزع إلى كل من كان بدجلة وكورها من أتباع الفاسق، فاستأمن إلى أبي حمزة وهو مقيم بنهر المرأة منهم زهاء ألفي رجل - فيما قيل - فكتب بخبرهم إلى أبي أحمد، فأمره بقبولهم وإقرارهم على الأمان وإجراء الأرزاق عليهم، وخلطهم بأصحابه ومناهضته العدو بهم. وكان زيرك مقيمًا بواسط إلى حين ورود كتاب أبي أحمد على ابنه هارون بالمصير بالجيش المتخلف معه إلى نهر المبارك، فانحدر زيرك مع هارون، وكتب أبو أحمد إلى نصير وهو بنهر المرأة يأمره بالإقبال إليه إلى نهر المبارك، فوافاه هنالك؛ وكان أبو العباس عند مصيره إلى نهر المبارك انحدر إلى عسكر الفاسق في الشذا والسميريات، فأوقع به في مدينته بنهر أبي الخصيب. وكانت الحرب بينه وبينهم من أول النهار إلى آخر وقت الظهر، واستأمن إليه قائد من قواد الخبيث المضمومين كانوا إلى سليمان بن جامع، يقال له منتاب، ومعه جماعة من أصحابه؛ فكان ذلك مما كسر الخبيث وأصحابه، وانصرف أبو العباس بالظفر، وخلع على منتاب ووصله وحمله، ولما لقي أبو العباس أباه أعلمه خبر منتاب، وذكر له خروجه إليه بالأمان، فأمر أبو أحمد لمنتاب بخلعة وصلة وحملان، وكان منتاب أول من استأمن من قواد الزنج. ولما نزل أبو أحمد نهر المبارك يوم السبت للنصف من رجب سنة سبع وستين ومائتين، كان أول ما عمل به في أمر الخبيث - فيما ذكر محمد بن الحسن بن سهل، عن محمد بن حماد بن إسحاق بن حماد بن زيد - أن كتب إليه كتابًا يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء وانتهاك المحارم وإخراب البلدان والأمصار، واستحلال الفروج والأموال، وانتحال ما لم يجعله الله له أهلًا من النبوة والرسالة، ويعلمه أن التوبة له مبسوطة، والأمان له موجود؛ فإن هو نزع عما هو عليه من الأمور التي يسخطها الله، ودخل في جماعة المسلمين، محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه؛ وكان له به الحظ الجزيل في دنياه. وأنفذ ذلك مع رسوله إلى الخبيث، والتمس الرسول إيصاله، فامتنع أصحاب الخبيث من إيصال الكتاب، فألقاه الرسول إليهم، فأخذوه وأتوا به إلى الخبيث، فقرأه فلم يزده ما كان فيه من الوعظ إلا فورًا وإصرارًا، ولم يجب عن الكتاب بشيء، وأقام على اغتراره، ورجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره بما فعل، وترك الخبيث الإجابة عن الكتاب. وأقام أبو أحمد يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء متشاغلًا بعرض الشذا والسميريات وترتيب قواده ومواليه وغلمانه فيها، وتخير الرماة وترتيبهم في الشذا والسميريات، فلما كان يوم الخميس سار أبو أحمد في أصحابه، ومعه ابنه أبو العباس إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة من نهر أبي الخصيب، فأشرف عليها وتأملها، فرأى من منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها وما عور من الطرق المؤدية إليها وأعد من المجانيق والعرادات والقسي الناوكية وسائر الآلات على سورها ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان، ورأى من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ أمره. فلما عاين أصحابه أبا أحمد، ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض، فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس بالتقدم إلى سور المدينة ورشق من عليه بالسهام، ففعل ذلك ودنا حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخائن، وانحازت الفسقة إلى الموضع الذي دنت منه الشذا، وتحاشدوا، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم وعراداتهم ومقاليعهم، ورمى عوامه بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع طرف ناظر من الشذا على موضع إلا رأى فيه سهمًا أو حجرًا، وثبت أبو العباس، فرأى الخائن وأشياعه من جدهم واجتهادهم وصبرهم ما لا عهد لهم بمثله من أحد حاربهم. فأمر أبو أحمد أبا العباس ومن معه بالرجوع إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم ويداووا جراحهم، ففعلوا ذلك. واستأمن إلى أبي أحمد في تلك الحال مقاتلان من مقاتلة السميريات، فأتوه بسميريتهما وما فيها من الآلات والملاحين، فأمر للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلاة، ووصلهما، وأمر للملاحين بخلع الحرير الأحمر والثياب البيض بما حسن موقعه منهم وعمهم جميعًا بصلاته، وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم؛ فكان ذلك من أنجع المكايد التي كيد بها الفاسق. فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم من العفو عنهم والإحسان إليهم، رغبوا في الأمان وتنافسوا فيه، فابتدروه مسرعين نحوه، راغبين فيما شرع لهم منه. فصار إلى أبي أحمد في ذلك اليوم عدد من أصحاب السميريات، فأمر فيهم بمثل ما أمر به في أصحابهم. فلما رأى الخبيث ركون أصحاب السميريات إلى الأمان واغتنامهم له أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بإظهار شذواته، وندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب وهو من أشد حماته بأسًا، وأكثرهم عددًا وعدة، فانتدب بهبوذ لذلك في أصحابه، وكان ذلك في وقت إقبال المد وقوته، وقد تفرقت شذوات أبي أحمد، ولحق أبو حمزة فيما معه منها بشرقي دجلة، فأقام هنالك وهو يرى أن الحرب قد انقضت، واستغني عنه. فلما ظهر بهبوذ فيما معه من الشذوات أمر أبو أحمد بتقديم شذواته، وأمر أبا العباس بالحمل على بهبوذ بما معه من الشذا، وتقدم إلى قواده وغلمانه بالحمل معه؛ وكان الذي صلي بالحرب من الشذوات التي مع أبي العباس وزيرك من الشذوات التي رتب فيها قواد الغلمان اثنتي عشرة شذاة. فنشبت الحرب، وطمع أصحاب الفاسق في أبي العباس وأصحابه لقلة عدد شذواتهم. فلما صدموا انهزموا. ووجه أبو العباس ومن معه في طلب بهبوذ، فألجئوه إلى فناء قصر الخبيث، وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام جراحات، وأوهنت أعضاؤه بالحجارة، وخلي ما كان عليه مع أصحابه، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت، وقتل يومئذ ممن كان مع بهبوذ قائد من قواده ذو بأس ونجدة وتقدم في الحرب، يقول له عميرة، وظفر أصحاب أبي العباس بشذاة من شذوات بهبوذ، فقتل أهلها، وغرقوا، وأخذت الشذاة، وصار أبو العباس ومن معه بشذواتهم بعد أن أتاهم أمر أبي أحمد بذلك، وبإلحاق الشذا بشرقي دجلة وصرف الجيش. فلما رأى الفاسق جيش أبي أحمد مصرفًا أمر من كان انهزم في شذواته إلى نهر أبي الخصيب بالظهور ليسكن بذلك روعة أصحابه، وليكون صرفه إياهم إذا صرفهم عن غير هزيمة. فأمر أبو أحمد جماعة من غلمانه بأن يثبتوا صدور شذواتهم إليهم؛ ويقصدوهم. فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين مذعورين، وتأخرت عنهم شذاة من شذواتهم، فاستأمن أهلها إلى أبي أحمد، ونكسوا علمًا أبيض كان معهم، فصاروا إليه في شذاتهم، فأومنوا وحبوا ووصلوا وكسوا. فأمر الفاسق عند ذلك برد شذواتهم إلى النهر ومنعها من الخروج، وكان ذلك في آخر النهار، وأمر أبو أحمد أصحابه بالرجوع إلى معسكرهم بنهر المبارك. واستأمن إلى أبي أحمد في هذا اليوم عند منصرفه خلق كثير من الزنج وغيرهم، فقبلهم، وحملهم في الشذا والسميريات، وأمر أن يخلع عليهم ويوصلوا ويحبوا، وتكتب أسمائهم في المضمومين إلى أبي العباس. وسار أبو أحمد، فوافى عسكره بعد العشاء الأخيرة، فأقام به يوم الجمعة والسبت والأحد، ثم عزم على نقل عسكره إلى حيث يقرب منه عليه القصد لحرب الخبيث، فركب الشذا في يوم الاثنين لست ليال بقين من رجب سنة سبع وستين ومائتين، ومعه أبو العباس والقواد من مواليه وغلمان، فيهم زيرك ونصير حتى وافى النهر المعروف بنهر جطي في شرقي دجلة، وهو حيال النهر المعروف باليهودي، فوقف عليه، وقدر فيه ما أراد وانصرف، وخلف به أبا العباس وزيرك ونصيرًا، وعاد إلى معسكره. فأمر فنودي في الناس بالرحيل إلى الموضع الذي اختار من نهر جطي، وتقدم في قود الدواب بعد أصلحت لها الطرق، وعقدت القناطر على الأنهار، وغدا في يوم الثلاثاء لخمس بقين من رجب في جميع عساكره حتى نزل نهر جطي، فأقام به إلى يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وستين ومائتين، ولم يحارب في شيء من هذه الأيام، وركب في هذا اليوم في الخيل والرجالة، ومعه جميع الفرسان، وجعل الرجالة والمطوعة في السفن والسميريات، على كل رجل منهم لأمته وزيه، وسار حتى وافى الفرات، ووازى عسكر الفاسق وأبو أحمد من أصحابه وأبتاعه في زهاء خمسين ألف رجل أو يزيدون، والفاسق يومئذ في زهاء ألف إنسان، كلهم يقاتل أو يدافع؛ فمن ضارب بسيف، وطاعن برمح، ورامٍ بقوس، وقاذف بمقلاع، ورام بعرادة أو منجنيق؛ وأضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم وهم النظارة المكثرون السواد، والمعتنون بالنعير والصياح، والنساء يشركنهم في ذلك. فأقام أبو أحمد في هذا اليوم بإزاء عسكر الفاسق إلى أن أضحى، وأمر فنودي أن الأمان مبسوط للناس؛ أسودهم وأحمرهم إلا الخبيث، وأمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودي به، ووعد الناس فيها الإحسان، ورمى بها إلى عسكر الخبيث، فمالت إليه قلوب أصحاب المارق بالرهبة والطمع فيما وعدهم من إحسانه وعفوه؛ فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير يحملهم الشذا إليه، فوصلهم وحباهم. ثم انصرف إلى معسكره بنهر جطي، ولم يكن في هذا اليوم حرب. وقدم عليه قائدان من مواليه؛ أحدهما بكتمر والآخر جعفر بن بغلاغز، في جمع من أصحابهما فكان ورودهما زائدًا في قوة من مع أبي أحمد. ورحل أبو أحمد عن نهر جطي إلى معسكر قد كان تقدم في إصلاحه، وعقد القناطر على أنهاره، وقطع النهر ليوسعه بفرات البصرة بإزاء مدينة الفاسق؛ فكان نزوله هذا المعسكر في يوم الأحد للنصف من شعبان سنة سبع وستين ومائتين، وأوطن هذا المعسكر، وأقام به، ورتب قواده ورؤساء أصحابه مراتبهم فيه، فجعل نصيرًا صاحب الشذا والسميريات في جيشه في أول العسكر وآخره بالموضع الموازي النهر المعروف بجوى كور، وجعل زيرك التركي صاحب مقدمة أبي العباس في أصحابه موازيًا ما بين نهر أبي الخصيب وهو النهر الموسوم بنهر الأتراك والنهر المعروف بالمغيرة، ثم تلاه علي بن جهشيار حاجبه في جيشه. وكانت مضارب أبي أحمد وابنيه حيال الموضع المعروف بدير جابيل، وأنزل راشدًا مولاه في مواليه وغلمانه الأتراك والخزر والروم والديالمة والطبرية والمغاربة والزنج على النهر المعروف بهطمة، وجعل صاعد بن مخلد وزيره في جيشه من الموالي والغلمان فويق عسكر راشد، وأنزل مسرورًا البلخي في جيشه على النهر المعروف بسندادان، وأنزل الفضل ومحمدًا، لبني موسى ابن بغا في جيشهما على النهر المعروف بهالة، وتلاهما موسى دالجويه في جيشه وأصحابه، وجعل بغراج التركي على ساقته نازلًا على نهر جطي، وأوطنوه، وأقاموا به. ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة جمعه ما علم أنه لابد له من الصبر عليه ومحاصرته وتفريق أصحابه عنه؛ يبذل الأمان لهم، والإحسان إلى من أناب منهم، والغلطة على من أقام على غيه منهم، واحتاج إلى الاستكثار من الشذا وما يحارب به في الماء. فأمر بإنفاذ الرسل في حمل المير في البر والبحر وإدرارها إلى معسكره بالمدينة التي سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي في حمل الأموال إلى بيت ماله في هذه المدينة. وأنفذ رسولًا إلى سيراف وجنابا في بناء الشذا والاستكثار منها لما احتاج إليه من ترتيبها في المواضع التي يقطع بها المير عن الخائن وأشياعه. وأمر بالكتاب إلى عماله في النواحي بإنفاذ كل من يصلح للإثبات في الديوان، ويرغب في ذلك، وأقام ينتظر شهرًا أو نحوه؛ فوردت المير متتابعةً يتلو بعضها بعضًا، وجهز التجار صنوف التجارات والأمتعة وحملوها إلى المدينة الموفقية، واتخذت بها الأسواق، وكثر بها التجار والمتجهزون من كل بلد، ووردتها مراكب البحر؛ وقد كانت انقطعت لقطع الفاسق وأصحابه سبلها قبل ذلك بأكثر من عشر سنين، وبنى أبو أحمد مسجد الجامع، وأمر الناس بالصلاة فيه، واتخذ دور الضرب، فضرب فيها الدنانير والدراهم، فجمعت مدينة أبي أحمد جميع المرافق، وسيق إليها صنوف المنافع حتى كان ساكنوها لا يفقدون بها شيئًا مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة، وحملت الأموال، وأدر للناس العطاء في أوقاته، فاتسعوا وحسنت أحوالهم، ورغب الناس جميعًا في المصير إلى المدينة الموفقية والمقام فيها. وكان الخبيث بعد ليلتين من نول أبي أحمد مدينته الموفقية أمر بهبوذ بن عبد الوهاب، فعبر والناس غارون في سميريات إلى طرف عسكر أبي حمزة، فأوقع به، وقتل جماعة من أصحابه، وأسر جماعة، وأحرق كوخات كانت لهم قبل أن يبني الناس هنالك. فأمر أبو أحمد نصيرًا عند ذلك بجمع أصحابه، وألا يطلق لأحد مفارقة عسكره، وأن يحرس أقطار عسكره بالشذا والسميريات والزواريق فيها الرجالة إلى آخر ميان روذان والقندل وأبرسان، للإيقاع بمن هنالك من أصحاب الفاسق. وكان بميان روذان من قواده أيضًا إبراهيم بن جعفر الهمذاني في أربعة آلاف من الزنج، ومحمد بن أبان المعروف بأبي الحسن أخو علي بن أبان بالقندل في ثلاثة آلاف، والمعروف بالدور في أبرسان في ألف وخمسمائة من الزنج والجبائيين، فبدأ أبو العباس بالهمذاني فأوقع به، وجرت بينهما حروب، قتل فيها خلق كثير من أصحاب الهمذاني، وأسر منهم جماعة، وأفلت الهمذاني في سميرية قد كان أعدها لفسه، فلحق فيها بأخي المهلبي المكنى بأبي الحسن، واحتوى أصحاب أبي العباس على ما كان في أيدي الزنج وحملوه إلى عسكرهم. وقد كان أبو أحمد تقدم إلى ابنه أبي العباس في بذل الأمان لمن رغب فيه، وأن يضمن لمن صار إليه الإحسان، فصار إليه طائفة منهم في الأمان فآمنهم، فصار بهم إلى أبيه، فأمر لكل واحد منهم من الخلع والصلات على أقدارهم في أنفسهم، وأن يوقفوا بإزاء نهر أبي الخصيب ليعاينهم أصحابهم. وأقام أبو أحمد يكايد الخائن ببذل الأمان لمن صار إليه من الزنج وغيرهم، ومحاصرة الباقين والتضييق عليهم، وقطع المير والمنافع عنهم؛ وكانت ميرة الأهواز وما يرد من صنوف التجارات منها ومن كورها ونواحي أعمالها يسلك به النهر المعروف ببيان، فسرى بهبوذ في جلد رجاله ليلة من الليالي، وقد نمي إليه خبر قيروان ورد بصنوف من التجارات والمير وكمن النخل؛ فلما ورد القيروان خرج إلى أهله، وهم غارون، فقتل منهم وأسر، وأخذ ما أحب أن يأخذ من الأموال. وقد كان أبو أحمد أنفذ لبذرقة ذلك القيروان رجلًا من أصحابه في جمع، فلم يكن للموجه لذلك ببهبوذ طاقة، لكثرة عدد من معه وضيق الموقع على الفرسان، وأنه لم يكن بهم فيه عناء. فلما انتهى ذلك إلى أبي أحمد، غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم وأنفسهم وتجاراتهم، وأمر بتعويضهم، وأخلف عليهم مثل الذي ذهب لهم، ورتب الشذا على فوهة بيان وغيره من الأنهار التي لا يتهيأ للفرسان سلوكها في بنائها والإقبال بها إليه، فورد عليه منها عددٌ صالح، فرتب فيها الرجال، وقلد أمرها أبا العباس ابنه، وأمره أن يوكل بكل موضع يرد إلى الفسقة منه ميرة، فانحدر أبو العباس لذلك إلى فوهة البحر في الشذوات، ورتب في جميع تلك المسالك القواد، وأحكم الأمر فيه غاية الإحكام. وفي شهر رمضان منها كانت وقعة بين إسحق بن كنداج وإسحاق بن أيوب وعيسى بن الشيخ وأبي المغراء وحمدان الشاري ومن تأشب إليهم من قبائل ربيعة وتغلب وبكر واليمن، فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين، وتبعهم إلى قريب من آمد، واحتوى على أموالهم، ونزلوا آمد، فكانت بينه وبينهم وقعات. ذكر خبر مقتل صندل الزنجي وفي شهر رمضان منها قتل صندل الزنجي، وكان سبب قتله أن أصحاب الخبيث عبروا لليلتين خلتا من شهر رمضان من هذه السنة فيما ذكر - أعني سنة سبع وستين ومائتين - يريدون الإيقاع بعسكر نصير وعسكر زيرك، فنذر بهم الناس، فخرجوا إليهم، فردوهم خائبين، وظفروا بصندل هذا. وكان - فيما ذكروا - يكشف وجوه الحرائر المسلمات ورءوسهن ويقلبهن تقليب الإماء، فإن امتنعت منهم امرأة ضرب وجهها ودفعها إلى بعض علوج الزنج يبيعها بأوكس الثمن. فلما أتي به أبو أحمد، أمر به فشد بين يديه، ثم رمي بالسهام، ثم أمر به فقتل. ذكر خبر استئمان الزنج إلى أبي أحمد وفي شهر رمضان من هذه السنة استأمن إلى أبي أحمد خلق كثير من عند الزنج. ذكر سبب ذلك وكان السبب في ذلك أنه كان - فيما ذكر - استأمن إلى أبي أحمد رجلٌ من مذكوري أصحاب الخبيث ورؤسائهم وشجعانهم، يقال له مهذب، فحمل في الشذا إلى أبي أحمد، فأتي به في وقت إفطاره، فأعلمه أنه جاء متنصحًا راغبًا في الأمان، وأن الزنج على العبور في ساعتهم تلك إلى عسكره للبيات، وأن الذين ندب الفاسق لذلك أنجادهم وأبطالهم؛ فأمر أبو أحمد بتوجيه من يحربهم إليهم ومن يمنعهم من العبور وأن يعارضوا بالشذا. فلما علم الزنج أن قد نذر بهم انصرفوا منهزمين، فكثر المستأمنة من الزنج وغيرهم وتتابعوا؛ فبلغ عدد من وافى عسكر أبي أحمد منهم إلى آخر شهر رمضان سنة سبع وستين ومائتين خمسة آلاف رجل من بين أبيض وأسود. وفي شوال من هذه السنة ورد الخبر بدخول الخجستاني نيسابور وانهزام عمرو بن الليث وأصحابه، فأساء السيرة في أهلها، وهدم دور آل معاذ بن مسلم، وضرب من قدر عليه منهم واقتطع ضياعهم، وترك ذكر محمد بن طاهر، ودعا له على منابر ما غلب عليه من مدن خراسان وللمعتمد، وترك الدعاء لغيرهما. ذكر خبر الإيقاع بالزنج في هذا العام وفي شوال من هذه السنة كانت لأبي العباس وقعة بالزنج، قتل فيها منهم جمع كثير. ذكر سبب ذلك وكان السبب في ذلك - فيما بلغني - أن الفاسق انتخب من كل قيادة من أصحابه أهل الجلد والبأس منهم، وأمر المهلبي بالعبور بهم ليبيت عسكر أبي أحمد، ففعل ذلك، وكانت عدة من عبر من الزنج وغيرهم زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم من الزنج، وفيهم نحو من مائتي قائد، فعبروا إلى شرقي دجلة، وعزموا على أن يصير القواد منهم إلى آخر النخل مما يلي السبخة، فيكونوا في ظهر عسكر أبي أحمد، ويعبر جماعة كثيرة منهم في الشذا والسميريات والمعابر قبالة عسكر أبي أحمد، فإذا نشبت الحرب بينهم انكب من كان عبر من قواد الخبيث، فصار إلى السبخة على عسكر أبي أحمد الموفق، وهم غارون مشاغيل بحرب من بإزائهم، وقدر أن يتهيأ له في ذلك ما أحبه. فأقام الجيش في الفرات ليلتهم، ليغادوا الإيقاع بالعسكر. فاستأمن إلى أبي أحمد غلام كان معهم من الملاحين، فأنهى إليه خبرهم وما اجتمعت عليه آراؤهم، فأمر أبو أحمد أبا العباس والقواد والغلمان بالنهوض إليهم؛ وقصد الناحية التي فيها أصحاب الخبيث، وأنفذ جماعة من قواد غلمانه في الخيل إلى السبخة التي في مؤخر النخل بالفرات، لتقطعهم عن الخروج إليها، وأمر أصحاب الشذا والسميريات، فاعترضوا في دجلة، وأمر الرجالة بالزحف إليهم من النخل. فلما رأى الفجار ما أتاهم من التدبير الذي لم يحتسبوه كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا منه طالبين التخلص، فكان قصدهم لجويث بارويه، وانتهى خبر رجوعهم إلى الموفق، فأمر ابا العباسوزيرك بالانحدار في الشذوات يسبقونهم إلى النهر؛ ليمنعوهم من عبوره. وأمر غلامًا من غلمانه، يقال له ثابت، له قيادة على جمع كثير من غلمانه السودان أن يحمل أصحابه في المعابر والزواريق وينحدر معهم إلى الموضع الذي فيه أعداء الله للإيقاع بهم حيث كانوا، فأدركهم ثابت في أصحابه بجويث بارويه، فخرج إليهم فحاربهم محاربة طويلة، وثبتوا له، واستقبلوا جمعه وهو من أصحابه في زهاء خمسمائة رجل، لأنهم لم يكونوا تكاملوا وطمعوا فيه، ثم صدقهم وأكب عليهم، فمنحه الله أكتافهم؛ فمن مقتول وأسير وغريق وملجج في الماء بقدر اقتداره على السباحة التقطته الشذا والسميريات في دحلة والنهر، فلم يفلت من ذلك الجيش إلا أقله. وانصرف أبو العباس بالفتح، ومعه ثابت وقد علقت الرءوس في الشذوات وصلب الأسارى فيها، فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا بهم أشياعهم؛ فلما أبلسوا وأيقنوا بالبوار، وأدخل الأسارى والرءوس إلى الموفقية، وانتهى إلى أبي أحمد أن صاحب الزنج موه على أصحابه، وأوهمهم أن الرءوس المرفوعة مثلٌ مثلت لهم ليراعوا، وأن الأسارى من المستأمنة. فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بجمع الرءوس والمسير بها إلى إزاء قصر الفاسق والقذف بها في منجنيق في سفينة إلى عسكره، ففعل أبو العباس ذلك، فلما سقطت الرءوس في مدينتهم، عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم، فظهر بكاؤهم، وتبين لهم كذب الفاجر وتمويهه. وفي شوال من هذه السنة كانت لأصحاب ابن أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي، قتلوا فيها مقدمته، وغلبوا على عسكره فاحتووه. ذكر خبر الوقعة مع الزنج بنهر ابن عمر وفي ذي القعدة منها كانت لزيرك وقعة مع جيش لصاحب الزنج بنهر ابن عمر، قتل زيرك منهم فيها خلقًا كثيرًا. ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة ذكر أن صاحب الزنج كان أمر باتخاذ شذوات، فعملت له، فضمها إلى ما كان يحارب به، وقسم شذواته ثلاثة أقسام بين بهبوذ ونصر الرومي وأحمد بن الزرنجي، وألزم كل واحد منهم غرم ما يصنع على يديه منها وكانت زهاء خمسين شذاة، ورتب فيها الرماة وأصحاب الرماح، واجتهدوا في إكمال عدتهم وسلاحهم، وأمرهم بالمسير في دجلة والعبور إلى الجانب الشرقي والتعرض لحرب أصحاب الموفق، وعدة شذوات الموفق يومئذ قليلة، لأنه لم يكن وافاه كل ما كان أمر باتخاذه، وما كان عنده منها فمتفرق في فوهة الأنهار التي يأتي الزنج منها المير. فغلظ امر أعوان الفاجر، وتهيأ له أخذ شذاة بعد شذاة الموفق، وأحجم نصير المعروف بأبي حمزة عن قتالهم والإقدام عليهم، كما كان يفعل لقلة ما معه من الشذا، وأكثر شذوات الموفق يومئذ مع نصير، وهو المتولي لأمرها. فارتاع لذلك أهل عسكر الموفق، وخافوا أن يقدم على عسكرهم الزنج بما معهم من فضل الشذا، فورد عليهم في هذه الحال شذوات كان الموفق تقدم في بنائها بجنابا، فأمر أبا العباس بتلقيها فيما معه من الشذا حتى يوردها العسكر، إشفاقًا من اتعراض الزنج عليها في دجلة، فسلمت، وأتى بها حتى إذا وافت عسكر نصير، فبصر بها الزنج طمعوا فيها، فأمر الخبيث بإخراج شذواته، وأمر أصحابه بمعارضتها والاجتهاد في اقتطاعها، فنهضوا لذلك. فتسرع غلام من غلمان أبي العباس شجاع يقال له وصيف يعرف بالحجراي، في شذوات كن معه، فشد على الزنج فانكشفوا، وتبعهم حتى وافى بهم نهر أبي الخصيب، وانقطع عن أصحابه، فكروا عليه شذواتهم، وانتهى إلى مضيق، فعلقت مجاديف بعض شذواته بمجاديف بعض شذواتهم، فجنحت وتقصفت بالشط، وأحاط به الآخرون واكتنفوه من جوانبه، وانحدر عليه الزنج من السور، فحاربهم بمن كان معه حربًا شديدًا حتى قتلوا. وأخذ الزنج شذواتهم، فأدخلوها نهر أبي الخصيب. ووافى أبو العباس بالشذوات الجنابية سالمة بما فيها من السلاح والرجال، فأمر أبو أحمد أبا العباس بتقلد أمر الشذوات كلها والمحاربة بها، وقطع مواد المير عنهم من كل جهة. ففعل ذلك، فأصلحت الشذوات، ورتب فيها المختارون من الناشبة والرامحة؛ حتى إذا أحكم أمرها أجمع، ورتبها في المواضع التي كانت تقصد إليها شذوات الخبيث، وتعيث فيها، أقبلت شذواته على عادتها التي كانت قد جرت عليها. فخرج إليهم أبو العباس في شذواته، وأمر سائر أصحاب الشذا أن يحملوا بحملته، ففعلوا ذلك وخالطوهم، وطفقوا يرشقونهم بالسهام، ويطعنونهم بالرماح، ويقذفونهم بالحجارة؛ وضرب الله وجوههم، فولوا منهزمين، وتبعهم أبو العباس وأصحابه حتى أولجوهم نهر أبي الخصيب، وغرق لهم ثلاث شذوات، وظفر بشذاتين من شذواتهم بما فيها من المقاتلة والملاحين. فأمر أبو العباس بضرب أعناق من ظفر به منهم. فلما رأى الخبيث ما نزل بأصحابه، امتنع من إخراج الشذا عن فناء قصره، ومنع أصحابه أن يجاوزوا بها الشط إلا في الأوقات التي يخلو دجلة فيها من الشذوات الموفق. فلما أوقع بهم أبو العباس هذه الوقعة اشتد جزعهم، وطلب وجوه أصحاب الخبيث الأمان فأومنوا، فكان ممن استأمن من وجوههم - فيما ذكر - محمد بن الحارث العمي، وكان إليه حفظ عسكر منكى والسور الذي يلي عسكر الموفق، وكان خروجه ليلًا مع عدة من أصحابه، فوصله الموفق بصلات كثيرة، وخلع عليه، وحمله على عدة دواب بخليتها وآلتها، وأسى له الرزق، وكان محمد بن الحارث حاول إخراج زوجته معه، وهي إحدى بنات عمه، فعجزت المرأة عن اللحاق به، فأخذها الزنج فردوها إلى الخبيث، فحبسها مدة، ثم أمر بإخراجها والنداء عليها في السوق، فبيعت؛ ومنهم أحمد المعروف بالبرذعي. وكان - فما قيل - من أشجع رجال الخبيث الذين كانوا في حيز المهلبي ومن قواده الزنج مدبد وابن أنكلويه ومنينة، فخلع عليهم جميعًا، ووصلوا بصلات كثيرة، وحملوا على الخيل، وأحسن إلى جميع ما جاءوا به معهم من أصحابهم، وانقطعت عن الخبيث مواد الميرة، وسدت عليه وعلى من أقام معه المذاهب. وأمر شبلا وأبا النداء - وهما من رؤساء قواده وقدماء أصحابه الذين كان يعتمد عليهم ويثق بمناصحتهم - بالخروج في عشرة آلاف من الزنج وغيرهم، والقصد لنهر الدير ونهر المرأة ونهر أبي الأسد، والخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة للغارة على المسلمين، وأخذ ما وجدا من طعام وميرة ليقطع عن عسكر الموفق ما يرده من الميرة وغيرها من مدينة السلام وواسط ونواحيها. فندب الموفق لقصدهم حين انتهى إليه خبر مسيرهم مولاه زيرك صاحب مقدمة أبي العباس، وأمره بالنهوض في أصحابه إليهم، وضم إليه من اختار من الرجال، فمضى في الشذوات والسميريات، وحمل الرجالة في الزواريق والسفن الخفاف حثيثًا، حتى صار إلى نهر الدير، فلم يعرف لهم هنالك خبرًا، فصار منه إلى بثق شيرين. ثم سلك في نهر عدي حتى خرج إلى نهر ابن عمر، فالتقى به جيش الزنج في جمع راعته كثرته، فاستخار الله في مجاهدتهم، وحمل عليهم في ذوي البصائر والثبات من أصحابه، فقذف الله الرعب في قلوبهم، فانفضوا، ووضع فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك، وأسر خلقًا كثيرًا، وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق منها ما أمكن تغريقه؛ فكان ما أخذ من سفنهم نحوًا من أربعمائة سفينة، وأقبل بمن معه من الأسارى وبالرءوس إلى عسكر الموفق. خبر عبور الموفق إلى مدينة صاحب الزنج لحربه وفي ذي الحجة لست بقين منه عبر الموفق بنفسه إلى مدينة الفاسق وجيشه لحربه. ذكر السبب الذي من أجله كان عبوره إليها: وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن الرؤساء من أصحاب الفاسق، لما رأوا ما قد حل بهم من البلاء من قتل من يظهر منهم وشدة الحصار على من لزم المدينة؛ فلم يظهر منهم أحد، وحال من خرج منهم بالأمان من الإحسان إليه، والصفح عن جرمه، مالوا إلى الأمان، وجعلوا يهربون في كل وجه، ويخرجون إلى أبي أحمد في الأمان كلما وجدوا إليه السبيل فملىء الخبيث من ذلك رعبًا، وأيقن الهلاك، فوكل بكل ناحية كان يرى أن فيها طريقًا للهرب من عسكره أحراسًا وحفظة، وأمرهم بضبط تلك النواحي، ووكل بفوهة الأنهار من يمنع السفن من الخروج منها، واجتهد في سد كل مسلك وطريق وثلمة؛ لئلا يطمع في الخروج عن مدينته. وأرسل جماعة من قواد الفاجر صاحب الزنج إلى الموفق يسألونه الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشًا ليجدوا إلى المصير إليه سبيلًا، فأمر الموفق أبا العباس بالمصير في جماعة من أصحابه إلى الموضع المعروف بنهر الغربي، وعلي بن أبان حينئذ يحوط ذلك النهر؛ فنهض أبو العباس في المختارين من أصحابه، ومعه الشذا والسميريات والمعابر، فقصد النهر الغربي، وانتدب المهلبي وأصحابه لحربه، فاستعرت الحرب بين الفريقين، وعلا أصحاب أبي العباس، وقهر الزنج، وأمد الفاسق المهلبي بسليمان بن جامع في جمع من الزنج كثير، واتصلت الحرب يومئذ من أول النهار إلى وقت العصر؛ وكان الظفر في ذلك اليوم لأبي العباس وأصحابه، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان من قواد الخبيث، ومعهم جمع كثير من الفرسان وغيرهم من الزنج، فأمر أبو العباس عند ذلك أصحابه بالرجوع إلى الشذا والسفن، وانصرف فاجتاز في منصرفه بمدينة الخبيث، حتى انتهى إلى الموضع المعروف بنهر الأتراك، فرأى أصحابه من قلة عدد الزنج في هذا الموضع من النهر ما طمعوا له فيمن كا هناك، فقصدوا نحوهم، وقد انصرف أكثر أصحابهم إلى المدينة الموفقية، فقربوا إلى الأرض، وصعدوا وأمنعوا في دخول تلك المسالك، وعلت جماعةٌ منهم السور، وعليه فريق من الزنج وأشياعهم، فقتلوا من أصابوا منهم هنالك، ونذر الفاسق بهم، فاجتمعوا لحربهم، وأنجد بعضهم بعضًا. فلما رأى أبو العباس اجتماع الخبثاء وتحاشدهم وكثرة من ثاب إلى ذلك الموضع منهم، مع قلة عدد من هنالك من أصحابه، كر راجعًا إليهم فيمن كان معه في الشذا، وأرسل إلى الموفق يستمده، فوافاه لمعونته من خف لذلك من الغلمان في الشذا والسميريات، فظهروا على الزنج وهزموهم؛ وقد كان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أصحاب أبي العباس على الزنج، وغل في النهر مصاعدًا في جمع كثير؛ فانتهى إلى النهر المعروف بعبد الله، واستدبر أصحاب أبي العباس وهم في حربهم، مقبلين على من بإزائهم ممن يحاربهم، فيمنعون في طلب من انهزم عنهم من الزنج. فخرج عليهم من ورائهم، وخفقت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم من جنده، وصار في أيدي الزنج عدة أعلام ومطارد، وحامى أبو العباس عن الباقين من أصحابه، فسلم أكثرهم فانصرف بهم؛ فأطعت هذه الوقعة الزنج وتباعهم، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور بجيشه أجمع لمحاربة الخبيث، وأمر أبا العباس وسائر القواد والغلمان بالتأهب للعبور، وأمر بجمع السفن والمعابر وتفريقها عليهم، ووقف على يوم بعينه أراد العبور فيه، فعصفت رياحٌ منعت من ذلك، واتصل عصوفها أيامًا كثيرة؛ فأمهل الموفق حتى انقضى هبوب تلك الرياح، ثم أخذ في الاستعداد للعبور ومناجزة الفاجر. فلما تهيأ له ما أراد من ذلك عبر يوم الأربعاء لست ليال بقين من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين في أكثف جمع وأكمل عدة، وأمر بحمل خيل كثيرة في السفن، وتقدم إلى أبي العباس في المسير في الخيل ومعه جميع قواده الفرسان ورجالتهم، ليأتي الفجرة من ورائهم من مؤخر النهر المعروف بمنكى، وأمر مسرورًا البلخي مولاه بالقصد إلى نهر ليضطر الخبيث بذلك إلى تفريق أصحابه، وتقدم إلى نصير المعروف بأبي حمزة ورشيق غلام أبي العباس وهو من أصحابه - وشذواته في مثل العدة التي فيها نصر - بالقصد لفوهة نهر أبي الخصيب والمحاربة لما يظهر من شذوات الخبيث، وقد كان استكثر منها، وأعد فيها المقاتلة وانتخبهم. وقصد أبو أحمد بجميع من معه لركن من أركان مدينة الخبيث قد كان حصنه بابنه المعروف بأنكلاي، وكنفه بعلي بن أبان وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني وحفه بالمجانيق والعرادات والقسي الناكية، وأعد فيه الناشبة وجمع فيه أكثر جيشه. فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه: الناشبة والرامحة والسودان، بالدنو من الركن الذي فيه جمع الفسقة، وبينه وبينهم النهر المعروف بنهر الأتراك؛ وهو نهر عريض غزير الماء. فلما انتهوا إليه أحجموا عنه، فصيح بهم، وحرضوا على العبور فعبروا سباحة، والفسقة يرمونهم بالمجانيق والعرادات والمقاليع والحجارة عن الأيدي، وبالسهام عن القسي الناوكية، وقسي الرجل وصنوف الآلات التي يرمى عنها؛ فصبروا على جميع ذلك حتى جاوزوا النهر، وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعد لهدمه. فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من سلاحهم ويسر الله ذلك، وسهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه، وحضرهم بعض السلاليم التي كانت أعدت لذلك، فعلوا الركن، ونصبوا هنالك علمًا من أعلام الموفق، وأسلم الفسقة سورهم، وخلوا عنه بعد أن حوربوا عليه أشد حرب، وقتل من الفريقين خلقٌ كثير، وأصيب غلامٌ من غلمان الموفق يقال له ثابت بسهم في بطنه فمات، وكان من قواد الغلمان وجلتهم. ولما تمكن أصحاب الموفق من سور الفسقة، أحرقوا ما كان عليه من منجنيق وعرادة وقوس ناوكية، وخلوا عن تلك الناحية وأسلموها. وقد كان أبو العباس قصد بأصحابه في الخيل النهر المعروف بمكنى، فمضى علي بن أبان المهلبي في أصحابه، قاصدًا لمعارضته ودفعه عما صمد له، والتقيا، فظهر أبو العباس عليه وهزمه، وقتل جميعًا كثيرًا من أصحابه، وأفلت المهلبي راجعًا، وانتهى أبو العباس إلى الموضع الذي قدر أن يصل منه إلى مدينة الفاسق من مؤخر نهر منكى، وهو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهلٌ، فدخل إلى الخندق فوجده عريضًا ممتنعًا، فحمل أصحابه على أن يعبروه بخيولهم، وعبره الرجالة سباحةً حتى وافوا السور، فثلموا فيه ثلمًا اتسع لهم منه الدخول فدخلوا، فلقي أوائلهم سليمان بن جامع، وقد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية لما انتهى إليه انهزام المهلبي عنها، فحاربوه، وكان إمام القوم عشرة من غلمان الموفق، فدافعوا سليمان وأصحابه؛ وهم خلق كثير، وكشفوهم مرارًا كثيرة، وحاموا عن سائر أصحابهم حتى رجعوا إلى مواضعهم. وقال محمد بن حماد: لما غلب أصحاب الموفق على الموضع الذي كان الفاسق حرسه بابنه والمذكورين من أصحابه وقواده، وشعثعوا من السور الذي أفضوا إليه ما أمكنهم تشعيثه، وافاهم الذين كانوا أعدوا للهدم بمعاولهم وآلاتهم، فثلموا في السور عدة ثلم، وقد كان الموفق أعد لخندق الفسقة جسرًا يمد عليه، فمد عليه، وعبر جمهور الناس. فلما عاين الخبثة ذلك، ارتاعوا فانهزموا عن سور لهم ثان قد كانوا اعتصموا به، ودخل أصحاب الموفق مدينة الخائن، فولى الفاجر وأشياعه منهزمين، وأصحاب الموفق يتبعونهم ويقتلون من انتهوا منهم؛ حتى انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان، وصارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، وأحرقوا ما كان فيها وهدموها، ووقف الفجرة على نهر ابن سمعان وقوفًا طويلًا، ودافعوا مدافعة شديدة، وشد بعض غلمان الموفق على علي بن أبان المهلبي، فأدبر عنه هاربًا فقبض على مئزره، فخلى عن المئزر، ونبذه إلى الغلام، ونجا بعد أن أشفى على الهلكة، وحمل أصحاب الموفق على الزنج حملةً صادقة، فكشفوهم عن النهر المعروف بابن سمعان، حتى وافوا بهم طرف ميدان الفاسق، وانتهى إليه خبر هزيمة أصحابه ودخول أصحاب الموفق مدينته من أقطارها، فركب في جمع من أصحابه، فتلقاه أصحاب الموفق، وهم يعرفونه في طرف ميدانه، فحملوا عليه، فتفرق عنه أصحابه ومن كان معه وأفردوه، وقرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه؛ وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق أصحابه بالرجوع إلى سفنهم، فرجعوا سالمين، قد حملوا من رءوس الخبثاء شيئًا كثيرًا، ونالوا كلالذي أحبوا منهم من قتل وجراح وتحريق منازل وأسواق، وقد كان استأمن إلى أبي العباس في أول النهار عدد من قواد الفاجر وفرسانه، فاحتاج إلى التوقف على حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح شمال عاصف، وقوى الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين. وحرض الخبيث أشياعه واستنجدهم، فبانت منهم جماعة، وشدوا على السفن المتخلفة، فنالوا منها نيلًا، وقتلوا فيها نفرًا؛ وقد كان بهبوذ بإزاء مسرور البلخي وأصحابه في هذا اليوم في نهر الغربي، فأوقع بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر أسارى، وصارت في يده دواب من دوابهم، فكسر ذلك نشاط أصحاب الموفق. وقد كان الخبيث أخرج في هذا اليوم جميع شذواته إلى دجلة محاربين فيها رشيقًا، وضرب منها رشيق على عدة شذوات، وغرق منها وحرق، وانهزم الباقون إلى نهر أبي الخصيب. وذكر أنه نزل في هذا اليوم بالفاسق وأصحابه ما دعاهم إلى التفرق والهرب على وجوههم نحو نهر الأمير والقندل وإبرسان وعبادان وسائر القرى، وهرب يومئذ أخوا سليمان بن موسى الشعراني: محمد وعيسى، فمضيا يؤمان البادية، حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق، فرجعا، وهرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الفاسق، وصاروا إلى البصرة، وبعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد، فآمنهم، ووجه إليهم السفن، فحملهم إلى الموفقية، وأمر أن يخلع عليهم، ويوصلوا، ويجري عليهم الأرزاق والأنزال، ففعل ذلك بهم. وكان فيمن رغب في الأمان من جلة قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكانت له رياسة وقيادة، وكان يتولى حجبة ابن الخبيث المعروف بأنكلاي، فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه ولجماعة من أصحابه، فأجيب إلى ذلك، وأنفذ إليه عدد كثير من الشذا والسميريات والمعابر مع زيرك القائد صاحب مقدمة أبي العباس، فسلك النهر المعروف باليهودي؛ حتى وافى الموضع المعروف بالمطوعة، فألفى به ريحان ومن معه من أصحابه، وقد كان الموعد تقدم في موافاة ذلك الموضع زيرك ريحان ومن معه، فوافى بهم دار الموفق، فأمر لريحان بخلع وحمل على عدة من أفراس بآلتها، وأجيز بجائزة سنية، وخلع على أصحابه، وأحيزوا على أقدراهم، وضم إلى أبي العباس، وأمر بحمله وحمل أصحابه والمصير بهم إلى إزاء الخبيث، فوقفوا هنالك في الشذا، فرفعوا خروج ريحان وأصحابه في الأمان، وما صاروا إليه من الإحسان، فأستامن في ساعتهم تلك من أصحاب ريحان الذين كانوا تخلفوا وغيرهم جماعة، فألحقوا في البر والإحسان بأصحابهم، وكان خروج ريحان بعد الوقعة التي كانت يوم الأربعاء في يوم الأحد لليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وستين ومائتين. وفي هذه السنة أقبل محمد بن عبد الله الخجستاني يريد العراق بزعمه؛ حتى صار إلى سمنان، وتحصن منه أهل الري وحصنوا مدينتهم، ثم انصرف من سمان راجعًا إلى خراسان. وفيها انصرف خلق كثير من طريق مكة في البدأة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات ممن مضى خلق كثير من شدة الحر، وكثير منهم من العطش، وذلك كله في البدأة، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذوا - فيما ذكر - منهم سبعمائة حمل بز. وفيها اجتمع بالموسم عامل لأحمد بن طولون في خيله وعامل لعمرو بن الليث في خيله، فنازع كل واحد منهما صاحبه في ركز علمه على يمين المنبر في مسجد إبراهيم خليل الرحمن، وادعى كل واحد منهما أن الولاية لصاحبه، وسلا السيوف، فخرج معظم الناس من المسجد، وأعان موالي هارون ابن محمد من الزنج صاحب عمرو بن الليث، فوقف حيث أراد، وقصر هارون - وكان عامل مكة - الخطبة وسلم الناس، وكان المعروف بأبي المغيرة المخزومي حيئذ يحرس في جمعية. وفيها نفي الطباع عن سامرا. وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم ووزن الدينار منها عشرة دوانيق، ووزن الدرهم ثمانية دوانيق، عليه: " الملك والقدرة لله، والحول والقوة بالله، لا إله إلا الله محمد رسول الله: وعلى جانب منه: " المعتمد على الله باليمن والسعادة " وعلى الجانب الآخر " " الوافى أحمد بن عبد الله ". وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي. ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث ذكر خبر استئمان جعفر بن إبراهيم إلى أبي أحمد الموفق فمن ذلك ما كان من استئمان جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان إلى أبي أحمد الموفق في يوم الثلاثاء في غرة المحرم منها، وذكر أن السبب كان في ذلك الوقعة التي كانت لأبي أحمد في آخر ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين التي ذكرناها قبل؛ وهرب ريحان بن صالح المغربي من عسكر الفاجر وأصحابه ولحاقه بأبي أحمد، فنخب قلب الخبيث لذلك؛ وذلك أن السجان كان - فيما قيل - أحد ثقاته، فأمر أبو أحمد للسجان هذا بخلع وجوائز وصلات وحملان وأرزاق، وأقيمت له أنزال، وضم إلى أبي العباس، وأمره بحمله في الشذاة إلى إزاء قصر الفاسق؛ حتى رآه وأصحابه، وكلمهم السجان، وأخبرهم أنهم في غرور من الخبيث، وأعلمهم ما قد وقف عليه من كذبه وفجوره؛ فاستأمن في هذا اليوم الذي حمل فيه السجان من عسكر الخبيث خلق كثير من قواده الزنج وغيرهم، وأحسن إليهم، وتتابع الناس في طلب الأمان والخروج من عند الخبيث، ثم أقام أبو أحمد بعد الوقعة التي ذكرت أنها كانت لليلة بقيت من ذي الحجة من سنة سبع وستين ومائتين، لا يعبر إلى الخبيث لحرب، يجم بذلك أصحابه إلى شهر ربيع الآخر. وفي هذه السنة صار عمرو بن الليث إلى فارس لحرب عامله محمد بن الليث عليها؛ فهزمه عمرو، واستباح عسكر، وأفلت محمد بن الليث في نفر، ودخل عمرو إصطخر، فانتهبها أصحابه، ووجه عمرو في طلب محمد بن الليث فظفر به، وأتى به أسيرًا، ثم صار عمرو إلى شيراز فأقام بها. وفي شهر ربيع الأول منها زلزلت بغداد لثمان خلون منه، وكان بعد ذلك ثلاثة أيام مطر شديد، ووقعت بها أربع صواعق. وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه، فخرج إليه أبوه أحمد إلى الاسكندرية، فظفر به ورده إلى مصر فرجع معه إليها. ذكر خبر عبور الموفق إلى مدينة الزنج ولأربع عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر منها عبر أبو أحمد الموفق إلى مدينة الفاجر، بعد أن أوهى قوته في مقامه بمدينة الموفقية، بالتضييق عليه والحصار، ومنعه وصول المير إليه؛ حتى استأمن إليه خلق كثير من أصحابه؛ فلما أراد العبور إليها أمر - فيما ذكر - ابنه العباس بالقصد للموضع الذي كان قصده من ركن مدينة الخبيث الذي يحوطه بابنه وجلة أصحابه وقواده، وقصد أبو أحمد موضعًا من السور فيما بين النهر المعروف بمنكى والنهر المعروف بابن سمعان، وأمر صاعدًا وزيره بالقصد لفوهة النهر المعروف بجرى كور، وتقدم إلى زيرك في مكانفته، وأمر مسرورًا البلخي بالقصد لنهر الغربي، وضم إلى كل واحد منهم من الفعلة جماعة لهدم ما يليهم من السور، وتقدم إلى جميعهم ألا يزيدوا على هدم السور، وألا يدخلوا مدينة الخبيث. ووكل بكل ناحية من النواحي التي وجه إليها القواد شذوات فيها الرماد، وأمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة والرجالة الذين يخرجون للمدافعة عنهم، فثلم في السور ثلم كثيرة، ودخل أصحاب أبي أحمد مدينة الفاجر من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب أبي أحمد، وأتبعوهم حتى وغلوا في طلبهم، واختلفت بهم طرق المدينة، وفرقت بينهم السكك والفجاج، فانتهوا إلى أبعد من الموضع الذي كانوا وصلوا إليه في المرة التي قبلها، وحرقوا وقتلوا. ثم تراجع أصحاب الخبيث، فشدوا على أصحاب أبي أحمد، وخرج كمناؤهم من نواح يهتدون لها ولا يعرفونها الآخرون، فتحير من كان داخل المدينة من أصحاب أبي أحمد، ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحو دجلة حتى وافاها أكثرهم، فمنهم من دخل السفينة، ومنهم من قذف نفسه في الماء، فأخذه أصحاب الشذا، ومنهم من قتل وأصاب أصحاب الخبيث أسلحة وأسلابًا، وثبت جماعة من غلمان أبي أحمد بحضرة دار ابن سمعان، ومعهم راشد وموسى بن أخت مفلح، في جماعة من قواد الغلمان كانوا آخر من ثبت من الناس، ثم أحاط بهم الزنج وكثروهم، وحالوا بينهم وبين الشذا، فدافعوا عن أنفسهم وأصحابهم، حتى وصلوا إلى الشذا فركبوها. وأقام نحو من ثلاثين غلامًا من الديلمة في وجوه الزنج وغيرهم، يحمون الناس، ويدفعون عنهم حتى سلموا، وقتل الثلاثون من الديلمة عن آخرهم، بعد ما نالوا من الفجار ما أحبوا، وعظم على الناس ما نالهم في هذه الوقعة، وانصرف أبو أحمد بمن معه إلى مدينته الموفقية، وأمر يجمعهم وعذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره، والافتيات عليه في رأيه وتدبيره، وتوعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لخلاف أمره بعد ذلك، وأمر بإحصاء المفقودين من أصحابه فأحصوا له، فأتى بأسمائهم، وأقر ما كان جاريًا على أولادهم وأهاليهم، فحسن موقع ذلك منهم، وزاد في صحة نياتهم لما رأو من حياطته خلف من أصيب في طاعته. ذكر وقعة أبي العباس بمن كان يمد الزنج من الأعراب وفيها كانت لأبي العباس وقعة بقوم من الأعراب الذين كانوا يميرون الفاسق اجتاحهم فيها. ذكر الخبر عن السبب الذي كانت من أجله هذه الوقعة ذكر أن الفاسق لما خرب البصرة ولاها رجلًا من قدماء أصحابه يقال له أحمد بن موسى بن سعيد المعروف بالقلوص؛ فكان يتولى أمرها، وصارت فرصة للفاسق يردها الأعراب والتجار، ويأتونها بالمير وأنواع التجارات، ويحمل ما يردها إلى عسكر الخبيث، حتى فتح أبو أحمد طهيثا، وأسر القلوص، فولى الخبيث ابن أخت القلوص - يقال له ملك بن بشران - البصرة وما يليها. فلما نزل أبو أحمد فرات البصرة خاف الفاجر إيقاع أبي أحمد بمالك هذا، وهو يومئذ نازل بسيحان على نهر يعرف بنهر ابن عتبة. فكتب إلى مالك يأمره بنقل عسكره إلى النهر المعروف بالديناري، وأن ينفذ جماعة ممن معه لصيد السمك وإدرار حمله إلى عسكره، وأن يوجه قومًا إلى الطريق التي يأتي منها الأعراب من البادية، ليعرف ورود من يرد منهم بالمير، فإذا وردت رفقة من الأعراب خرج إليها بأصحابه، حتى يجمل ما تأتي به إلى الخبيث؛ ففعل ذلك مالك ابن أخت القلوص، ووجه إلى البطيحة رجلين من أهل قرية بسمى، يعرف أحدهما بالريان والآخر الخليل، كانا مقيمين بعسكر الخبيث، فنهض الخليل والريان وجمعا جماعة من أهل الطف، وأتيا قرية بسمى، فأقاما بها يحملان السمك من البطيحة أولًا أولًا إلى عسكر الخبيث في الزواريق الصغار التي تسلك بها الأنهار الضيقة والأرخنجان التي لا تسلكها الشذا والسميريات، فكانت مواد سمك البطيحة متصلة إلى عسكر الخبيث بمقام هذين الرجلين بحيث ذكرنا؛ واتصلت أيضًا مير الأعراب وما كانوا يأتون به من البادية، فاتسع أهل عسكره، ودام ذلك إلى أن استأمن إلى الموفق رجل من أصحاب الفاجر الذين كانوا مضمومين إلى القلوص، يقال له علي بن عمر، ويعرف بالنقاب، فأخبر بخبر مالك بن بشران ومقامه بالنهر المعروف بالديناري، وما يصل إلى عسكر الخبيث بمقامه هناك من سمك البطيحة وجلب الأعراب. فوجه الموفق زيرك مولاه في الشذا والسميرايات إلى الموضع الذي به ابن أخت القلوص، فأوقع به وبأهل عسكره، فقتل منهم فريقًا وأسر فريقًا، وتفرق أهل ذلك العسكر، وانصرف مالك إلى الخبيث مفلولًا، فرده الخبيث في جمع إلى مؤخر النهر المعروف باليهودي، فعسكر هنالك بموضع قريب من النهر المعروف بالفياض، فكانت المير تتصل بعسكر الخبيث مما يلي سبخة الفياض، فانتهى خبر مالك ومقامه بمؤخر نهر اليهودي ووقع المير من تلك الناحية إلى عسكر الفاجر إلى الموفق، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى نهر الأمير، والنهر المعروف بالفياض لتعرف حقيقة ما انتهى إليه من ذلك، فنفذ الجيش، فوافق جماعة من الأعراب يرأسهم رجل قد أورد من البادية إبلًا وغنمًا وطعامًا، فأوقع بهم أبو العباس، فقتل منهم جماعة وأسر الباقين، ولم يفلت من القوم إلا رئيسهم؛ فإنه سبق على حجر كانت تحته، فأمعن هربًا، وأخذ كل ما كان أولئك الأعراب أتوا به من الإبل والغنم والطعام؛ وقطع أبو العباس يد أحد الأسرى وأطلقه، فصار إلى معسكر الخبيث، فأخبرهم بما نزل به، فريع مالك بن أخت القلوص بما كان من إيقاع أبي العباس بهؤلاء الأعراب؛ فاستأمن إلى أبي أحمد، فأومن وحبى وكسى وضم إلى أبي العباس وأجريت له الأرزاق، وأقيمت له الأنزال. وأقام الخبيث مقام مالك رجلًا كان من أصحاب القلوص، ويقال له أحمد بن الجنيد وأمره أن يعسكر بالموضع المعروف بالدهرشير ومؤخر نهر أبي الخصيب، وأن يصير في أصحابه إلى ما يقبل من سمك البطيحة، فيحمله إلى عسكر الخبيث، وتأدى إلى أبي أحمد خبر أحمد بن الجنيد، فوجه قائدًا من قواد الموالي يقال له الترمدان في جيش، فعسكر بالجزيرة المعروفة بالروحية، فانقطع ما كان يأتي إلى عسكر الخبيث من سمك البطيحة، ووجه الموفق شهاب بن العلاء ومحمد بن الحسن العنبريين في خيل لمنع الأعراب من حمل المير إلى عسكر الخبيث، وأمر بإطلاق السوق لهم بالبصرة، وحمل ما يريدون امتياره من التمر؛ إذ كان ذلك سبب مصيرهم إلى عسكر الخبيث، فتقدم شهاب ومحمد لما أمر به، فأقاما بالموضع المعروف بقصر عيسى؛ فكان الأعراب يوردون إليهما ما يجلبونه من البادية ويمتارون التمر مما قبلهما. ثم صرف أبو أحمد الترمدان عن البصرة، ووجه مكانه قائدًا من قواد الفراعنة، يقال له قيصر بن أرخوز إخشاد فرغانة، ووجه نصيرًا المعروف بأبي حمزة في الشذا والسميريات، وأمره بالمقام بفيض البصرة ونهر دبيس وأن يخترق نهر الأبلة ونهر معقل ونهر غربي، ففعل ذلك. قال محمد بن الحسن: وحدثني محمد بن حماد، قال: لما انقطعت المير عن الخبيث وأشياعه بمقام نصير وقيصر بالبصرة، ومنعهم الميرة من البطيحة والبحر بالشذا، صرفوا الحيلة إلى سلوك نهر الأمير إلى القندل، ثم سلوك المسيحي إلى الطريق المؤدية إلى البر والبحر؛ فكانت ميرهم من البر والبحر، وامتيارهم سمك البحر من هذه الجهة، فانتهى ذلك إلى الموفق، فأمر رشيقًا غلام أبي العباس باتخاذ عسكر بجويث بارويه في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء نهر الأمير، وأن يحفر له خندقًا حصينًا، وأمر أبا العباس أن يضم إلى رشيق من خيار أصحابه خمسة آلاف رجل وثلاثين شذاة، وتقدم إلى رشيق في ترتيب هذه الشذاة على فوهة نهر الأمير، وأن يجعل على كل خمس عشرة شذاة منها نوبة يلج فيها نهر الأمير، حتى ينتهي إلى المعترض الذي كان الزنج يسلكزنه إلى دبا والقندل والنهر المعروف بالمسيحي؛ فيكون هناك؛ فإن طلع عليهم من الخبثاء طالع أوقعوا به؛ فإذا انقضت نوبتهم انصرفوا وعاقبهم أصحابهم المقيمون على فوهة النهر ففعلوا مثل هذا الفعل فعسكر رشيق في الوضع الذي أمر بترتيبه به، فانقطعت طرق الفجرة التي كانوا يسلكونها إلى دبا والقندل والمسيحي؛ فلم يكن لهم سبيل إلى بر ولا بحر، فضاقت عليهم المذاهب، واشتد عليهم الحصار. وفيها أوقع أخو شركب بالخجستاني وأخذ منه. وفيها وثب ابن شبث بن الحسن، فأخذ عمر بن سيما والي حلوان. وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبغ من عند عمرو بن الليث، وكان عمرو قد وجهه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فوجه عمرو مما صودر عليه ثلثمائة ألف دينار وهدية فيها خمسون منا مسكًا وخمسون منًا عنبرًا، ومائتا من عودًا، وثلثمائة ثوب وشئ وغيره، وآنية ذهب وفضة ودواب وغلمان يقيمة مائتي ألف دينار؛ فكان ما حمل وأهدى بقيمة خمسمائة ألف دينار. وفيها ولى كيغلغ الخليل بن ريمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيما وأخذهم بجريرة ابن شيث، فضمنوا له خلاص ابن سيما وإصلاح أمر ابن شيث. ذكر خبر إيقاع رشيق بمن أعان الزنج من تميم وفيها أوقع رشيق غلام أبي العباس بن الموفق بقوم من بني تميم، كانوا أعانوا الزنج على دخول البصرة وإحراقها؛ وكان السبب في ذلك أنه كان انتهى إليه أن قومًا من هؤء الأعراب قد جلبوا ميرة من البر إلى مدينة الخبيث؛ طعامًا وإبلًا وغنمًا وأنهم في مؤخر نهر الأمير ينتظرون سفنًا تأتيهم من مؤخر عسكر الفاجر تحملهم وما معهم. فسرى إليهم رشيق في الشذا فوافى الموضع الذي كانوا حلوا به وهو الهر المعروف بالإسحاقي فأوقع بهم وهم غادرون فقتل أكثرهم وأسر جماعة منهم وهو تجار كانوا خرجوا من عسكر الخبيث لجلب الميرة، وحوى ما كان معهم من أصناف المير والشاة والإبل والحمير التي كانوا عليها الميرة. فحمل الأسرى والرءوس في الشذا وفي سفن كانت معه إلى الموفقية، فأمر الموف فعلقت الرءوس في الشذ، وصلب الأسارى هنالك؛ وأظهر ما صار إلى رشيق وأصحابه، وطيف بذلك في أقطار العسكر، ثم أمر بالرءوس والأسارى فاجتيز بهم على عسكر الخبيث حتى عوفوا ما كان من رشيق من الإيقاع بجالبي المير إليهم، ففعل ذلك. وكان فيمن ظفر به رشيق رجل من الأعراب، كان يسفر بين صاحب الزنج والأعراب في جلب الميرة فأمر به الموفق فقطعت يده ورجله وألقي في عسكر الخبيث. ثم أمر بضرب أعناق الأسارى فضربت، وسوغ أصحاب رشيق ما أصابوا من أموالهم وأمر لرشيق بخلع وصلة، ورده إلى عسكره، فكثر المستأمنون إلى رشيق. فأمر أبو أحمد بضم من خرج منهم إلى رشيق إليه، فكثروا حتى كان كأكثر العساكر جمعًا، وانقطعت عن الخبيث وأصحابه المير من الوجوه كلها وانسد عليهم كل مسلك كان لهم، فأضر بهم الحصار وأضعف أبدانهم؛ فكان الأسير منهم يؤسر والمستأمن يستأمن، فسأل عن عهده بالخبز؛ فيعجب من ذلك؛ ويذكر أن عهده بالخبز مذ سنة وسنتين، فلما صار أصحاب الخائن إلى هذه الحال. رأى الموفق أن يتابع الإيقاع بهم، ليزيدهم بذلك ضرًا وجهدًا، فخرج إلى أبي أحمد في هذا الوقت في الأمان خلق كثير، واحتاج من كان مقيمًا في حيز الفاسق إلى الحيلة لقوته، فنفرقوا في القرى والأنهار النائية عن معسكرهم في طلب القوت، فتأدى الخب بذلك إلى أبي أحمد، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان وعرفائهم بأن يقصدوا المواضع التي يعتادها الزنج، وأن يستميلوهم ويستدعوا طاعتهم، فمن أبى الدخول منهم في ذلك قتلوه وحملوا رأسه، وجعل لهم جعلًا؛ فحرصوا وواظبوا على الغدو والرواح؛ فكانوا لا يخلون في يوم من الأيام من جماعة يجلبونهم، ورءوس يأتون بها، وأسارى يأسرونهم. قال محمد بن الحسن: قال محمد بن حماد: ولما كثر أسارى الزنج عند الموفق، أمر باعتراضهم، فمن كان منهم ذا قوة وجلد ونهوض بالسلاح من عليه؛ وأحسن إليه، وخلطه بغلمانه السودان، وعرفهم ما لهم عنده من البر والإحسان، ومن كان منهم ضعيفًا لاحراك به، أو شيخًا فانيًا لا يطيق حمل السح، أو مجروحًا جراحة قد أزمنته، أمر بأن يكسى ثوبين ويوصل بدراهم، ويزود ويحمل إلى عسكر الخبيث؛ فيلقى هناك بعد ما يؤمر بوصف ما عاين من إحسان الموفق إلى كل من يصير إليه؛ وأن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنًا ويأسره منهم، فتهيأ له من ذلك ما أراد من استمالة أصحاب صاحب الزنج؛ حتى استشعروا الميل إلى ناحيته والدخول في سلمه وطاعته؛ وجعل الموفق وابنه أبو العباس يغاديان حرب الخبيث ومن معه، ويراوحانها بأنفسهما ومن معهما، فيقتلان ويأسران ويجرحان، وأصاب أبا العباس في بعض تلك الوقعات سهم جرحه فبرأ منه. ذكر الخبر عن قتل بهبوذ بن عبد الوهاب وفي رجب من هذه السنة قتل بهبوذ صاحب الخبيث. ذكر الخبر عن سبب مقتله ذكر أن أكثر أصحاب الفاسق غارات، وأرشدهم تعرضًا لقطع السبيل وأخذ الأموال، كان بهبوذ بن عبد الوهاب، وكان قد جمع من ذلك مالًا جليلًا، وكان كثير الخروج في السميريات الخفاف، فيخترق الأنهار المؤدية إلى دجلة، فإذا صادف سفينة لأصحاب الموفق أخذها فأدخلها النهر الذي خرج منه، فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه خرج عليه من النهر قوم من أصحابه قد أعد لهم لذلك، فاقتطعوه وأوقعوا به؛ فلما كثر ذلك وتحرز منه ركب شذاة، وشبهها بشذوات الموفق، ونصب عليها مثل أعلامه، وسار بها في دجلة، فإذا ظفر بغرة من أهل العسكر أوقع بهم، فقتل وأسر، ويتجاوز إلى نهر الأبلة ونهر معقل وبثق شيرين ونهر الدير فيقطع السبل، ويعبث في أموال السابلة ودمائهم، فرأى الموفق عندما انتهى إليه من أفعال بهبوذ أن يسكر جميع الأنهار التي يخف سكرها، ويرتب الشذاة على فوهة الأنهار العظام، ليأمن عبث بهبوذ وأشياعه، ويأمن سبل الناس ومسالكهم، فلما حرست هذه المسالك وسكر ما أمكن سكره من الأنهار، وحيل بين بهبوذ وبين ما كان يفعل، أقام منتهزًا فرصة في غفلة أصحاب الشذا الموكلين بفوهة نهر الأبلة، حتى وجد ذلك اجتاز من مؤخر نهر أبي الخصيب في شذوات مثل أصحاب الموفق وسميرياتهم، ونصب عليها مثل أعمهم، وشحنها بجلد أصحابه وشجعانهم، واعترض بها في معترض يؤدي إلى النهر المعروف باليهودي، ثم سلك نهر نافذ حتى خرج منه إلى نهر الأبلة، وانتهى إلى الشذوات والسميريات المرتبة لحفظ النهر، وأهلها غارون غافلون، فأوقع بهم، وقتل جمعًا، وأسر أسرى وأخذ ست شذوات، وكر راجعًا في نهر الأبلة وانتهى الخبر بما كان من يهود إلى الموفق فأمر أبا العباس بمعارضته في الشذا من النهر المعروف باليهودي ورجا أن يسبقه إلى المعترض قيفطعه عن الطريق المؤدي إلى مأمنه. فوافى أبو العباس الموضع المعروف بالمطوعة، وقد سبق بهبوذ فولج النهر المعروف بالسعيدي؛ وهو نهر يؤدي إلى نهر أبي الخصيب. وبصر أبو العباس بشذوات بهبوذ، وطمع في ادراكها فجد في طلبها فأدركها ونشبت الحرب فقتل أبو العباس من أصحاب بهبوذ جمعًا وأسر جمعًا، وأستأمن إليه فريق منهم، وتلقى من أشياعه خلق كثير فعاووه ودافعوا عنه دفعًا شديدًا، وقد كان المال جزر، فجرت شذواته في الطين في المواضع التي نضب الماء عنها من تلك الأنهار والمعترضات، فأفلت بهبوذ والباقون من أصحابه بجريعة الذقن. وأقام الموفق على حصار الخبيث ومن معه، وسد المسالك التي كانت المير تأتيهم منها، وكثر المستأمنون منهم، فأمر الموفق لهم بالخلع والجوائز، وحملوا على الخيل الجياد بسروجها ولجمها وآلتها، وأجريت لهم الأرزاق، وانتهى الخبر إلى الموفق بعد ذلك أن الضر والبؤس قد أحوج جماعةً من أصحاب الخبيث إلى التفرق في القرى لطلب القوت من السمك والتمر، فأمر ابنه أبا العباس بالمصير إلى تلك القرى والنواحي والإسراع إليها في الشذا والسميريات، وما خف من الزواريق وأن يستصحب جلد أصحابه وشجعانهم وأبطالهم ليحول بين هؤلاء الرجال والرجوع إلى مدينة صاحب الزنج؛ فتوجه أبو العباس لذلك، وعلم الخبيث بمسير أبي العباس له، فأمر بهبوذ أن يسير في أصحابه في المعترضات والأنهار الغامضة ليخفى خبره، إلى أن يوافى القندل وأبراسان ونواحيها، فنهض بهبوذ لما أمره به الخبيث من ذلك فاعترضت له في طريقه سميرية من سميريات أبي العباس، فيها غلمان من غلمانه الناشبة في جماعة الزنج، فقصد بهبوذ لهذه السميرية طامعًا فيها، فحاربه أهلها، فأصابته طعنة في بطنه من يد غلام من مقاتلة السميرية أسود، فهوى إلى الماء، فابتدره أصحابه، فحملوه، وولوا منهزمين إلى عسكر الخبيث، فلم يصلوا به إليه؛ حتى أراح الله منه؛ فعظمت الفجيعة به على الفاسق وأوليائه، واشتد عليه جزعهم، وكان قتله الخبيث من أعظم الفتوح، وخفى هلاكه على أبي أحمد؛ حتى استأمن رجلٌ من الملاحين، فأنهى إليه الخبر، فسر بذلك، وأمر بإحضار الغلام الذي ولي قتله، فأحضر، فوصله وكساه وطوقه، وزاد في أرزاقه، وأمر لجميع من كان في تلك السميرية بجوائز وخلع وصلات. وفي هذه السنة كان أول شهر رمضان منها يوم الأحد، وكان الأحد الثاني من السعانين وفي الأحد الثالث الفصح، وفي الأحد الرابع النيروز، وفي الأحد الخامس انسلاخ الشهر. وفيها ظفر أبو أحمد بالذوائبي، وكان ممايلًا لصاحب الزنج. وفيها كانت وقعة بين يدكوتكين بن إستاتكين وأحمد بن عبد العزيز، فهزمه يدكوكتين وغلبه على قم. وفيها وجه عمرو بن الليث قائدًا بأمر أبي أحمد إلى محمد بن عبيد الله بن أزار مرد الكردي، فأسره القائد وحمله إليه. وفي ذي القعدة منها خرج رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي بالشام يقال له بكاريين سلمية وحلب وحمص؛ فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، ووجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائدًا يقال له بوذن في عسكر وجيش كثيف، فرجع وليس معه كثر أحد. وفيها أظهر لؤلؤ الخلاف على ابن طولون. وفيها قتل صاحب الزنج ابن ملك الزنج، وكان بلغه أنه يريد اللحاق بأبي أحمد. وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، قتله غلام له في ذي الحجة. وفيها قتل أصحاب ابن أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية ناحية واسط، ونصيب رأسه ببغداد. وفيها حارب محمد بن كمشجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ابن كمشجور كفتمر ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة. وفيها أسر العلوي الذي يعرف بالحرون، وذلك أنه اتعرض الخريطة التي يوجه بها بخبر الموسم فأخذها، فوجه خليفة ابن أبي الساج على طريق مكة من أخذ الحرون، ووجهه إلى الموفق. وفيها كان مصير أبي المغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، فجمع هارون جمعًا نحوًا من ألفين، فامتنع بهم منه فصار المخزومي إلى عين مشاش فعورها، وإلى جدة، فنهب الطعام، وحرق بيوت أهلها، فصار الخبز بمكة أوقيتان بدرهم. وفيها خرج ابن الصقلبية طاغية الروم، فأناخ على ملطية، وأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم الطاغية، وتبعوه إلى السريع. وغزا الصائفة من ناحية الثغور الشامية خلف الفرغاني عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفًا، وغنم الناس، فبلغ السهم أربعين دينارًا. وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق. ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث فمن ذلك ما كان من إدخال العلوي المعروف بالحرون عسكر أبي أحمد في المحرم على جمل، وعليه قباء ديباج وقلنسوة طويلة، ثم حمل في شذاة، ومضى به حتى وقف به حيث يراه صاحب الزنج، ويسمع كلام الرسل. وفي المحرم منها قطع الأعراب على قافلة من الحاج بين توز وسميراء، فسلبوهم واستاقوا نحوًا من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناسًا كثيرين. وفي المحرم منها في ليلة أربع عشرة انخسف القمر وغاب منخسفًا، وانكسفت الشمس يوم الجمعة لليلتين بقيتا من المحرم وقت المغيب، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوف الشمس والقمر. وفي صفر منها كان ببغداد وثوب العامة بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره؛ وكان السبب في ذلك أن غلامًا له رمى امرأة بسهم فقتلها، فاستعدى السلطان عليه؛ فبعث إليه في إخراج الغلام، فامتنع ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعة وجرحوا جماعة؛ فمنعهم من أعوان السلطان رجلان، فهرب وأخذ غلمانه، ونهب منزله ودوابه، فجمع محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر - وكان على الجسر من قبل أبيه - دواب إبراهيم، وما قدر عليه مما نهب له، وأمر عبيد الله بتسليم ذلك إليه، وأشهد عليه برده عليه. وفيها وجه ابن أبي الساج بعدما صار إلى الطائف منصرفًا من مكة إلى جدة جيشًا، فأخذوا للمخزومي مركبين فيهما مالٌ وسلاح. وفيها أخذ رومي بن حسنج ثلاثة نفر من قواد الفراغنة، يقال لأحدهم صديق، والآخر طخشي، وللثالث طغان، فقيدهم، وجرح صديق جراحات وأفلت. وفيها كان وثوب خلف صاحب أحمد بن طولون في شهر ربيع الأول منها بالثغور الشأمية؛ وهو عامله عليها، بيازمان الخادم مولى الفتح بن خاقان فحبسه، فوثبت جماعة من أهل الثغر بخلف، وتخلصوا يازمان، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، ولعنوه على المنابر؛ فبلغ ذلك ابن طولون فخرج من مصر، حتى صار إلى دمشق، ثم صار إلى الثغور الشأمية، فنزل أذنة، وسد يازمان وأهل طرسوس أبوابها، خلا باب الجهاد وباب البحر، وبثقوا الماء، فجرى إلى قرب أذنة وما حولها، فتحصنوا بها، فأقام ابن طولون بأذنة، ثم انصرف فرجع إلى أنطاكية، ثم مضى إلى حمص، ثم إلى دمشق فأقام بها. وفيها خالف لؤلؤ غلام ابن طولون مولاه؛ وفي يده حين خالفه حمص وحلب وقنسرين وديار مضر، وسار لؤلؤ إلى بالس فنهبها، وأسر سعيدًا وأخاه ابني العباس الكلابي. ثم كاتب لؤلؤ أبا أحمد في المصير إليه ومفارقة ابن طولون، ويشترط لنفسه شروطًا، فأجابه أبو أحمد إلى ما سأله؛ وكان مقيمًا بالرقة، فشخص عنها، وحمل جماعة من أهل الرافقة وغيرهم معه، وصار إلى قرقيسيا، وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه فأخذ لؤلؤ قرقيسيا، وسلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق، وهرب ابن صفوان، وأقبل لؤلؤ يريد بغداد. ذكر خبر إصابة الموفق وفيها رمي أبو أحمد الموفق بسهم - رماه غلام رومي، يقال له قرطاس - للخبيث بعدما دخل أبو أحمد مدينته التي كان بناها لهدم سورها، وكان السبب في ذلك - فيما ذكر - أن الخبيث بهبوذ لما هلك، طمع الزنج فيما كان بهبوذ قد جمع من الكنوز والأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار وجوهرًا وذهبًا وفضة لها قدر، فطلب ذلك بكل حيلة، وحرص عليه، وحبس أولياءه وقرابته وأصحابه، وضربهم بالسياط، وأثار دورًا من دوره، وهدم أبنيةً؛ طمعًا في أن يجد في شيء منها دفينًا، فلم يجد من ذلك شيئًا؛ وكان فعله الذي فعله بأولياء بهبوذ في طلب المال أحد ما أفسد قلوب أصحابه، ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته، فأمر الموفق بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان، فنودي بذلك، فسارعوا إليه راغبين فيه، فألحقوا في الصلات والجوائز والخلع والأرزاق بنظرائهم. ورأى أبو أحمد لما كان يتعذر عليه من العبور إلى عسكر الفاجر في الأوقات التي تهب فيها الرياح وتحرك فيها الأمواج في دجلة أن يوسع لنفسه وأصحابه موضعًا في الجانب الغربي من دجلة ليعسكر به فيما بين دير جابيل ونهر المغيرة، وأمر بقطع النخل وإصلاح موضع الخندق، وأن يحف بالخنادق، ويحصن بالسور ليأمن بيات الفجار واغتيالهم إياه، وجعل على قواده نوائب؛ فكان لكل واحد منهم نوبة يغدو إليها برجاله، ومعه العمال في كل يوم لإحكام أمر العسكر الذي عزم على اتخاذه هنالك، فقابل الفاسق ذلك بأن جعل على علي بن أبان المهلبي وسليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني نوبًا، فكان لكل واحد منهم يوم ينوب فيه. وكان ابن الخبيث المعروف بأنكلاي يحضر في كل يوم نوبة سليمان، وربما حضر في نوبة إبراهيم. ثم أقامه الخبيث مقام إبراهيم بن جعفر، وكان سليمان بن جامع يحضر معه في نوبته، وضم إليه الخبيث سليمان بن موسى الشعراني وأخويه، وكانوا يحضرون بحضوره، ويغيبون بغيبته. وعلم الخبيث أن الموفق إذا جاوره في محاربته، وقرب على من يريد اللحاق به المسافة فيما يحاول من الهرب إليه، مع ما يدخل قلوب أصحابه من الرهبة بتقارب العسكرين أن في ذلك انتقاض تدبيره، وفساد جميع أموره؛ فأمر أصحابه بمحاربة من يعبر من القواد في كل يوم، ومنعهم من إصلاح ما يحاولون إصلاحه من أمر عسكرهم الذي يريدون الانتقال إليه، وعصفت الرياح في بعض تلك الأيام وبعض قواد الموفق في الجانب الغربي لما كان يعبر له. فانتهز الفاسق الفرصة في انفراد هذا القائد وانقطاعه عن أصحابه، وامتناع دجلة بعصوف الريح من أن يرام عبورها، فرمى القائد المقيم في غربي دجلة بجميع جيشه، وكاثره برجاله، ولم تجد الشذوات التي كانت تكون مع القائد الموجه سبيلًا إلى الوقوف بحيث كانت تقف لحمل الرياح إياها على الحجارة، وما خاف أصحابها عليها من التكسر، فقوي الزنج على ذلك القائد وأصحابه، فأزالوهم من موضعهم، وأدركوا طائفةً منهم، فثبتوا فقتلوا عن آخرهم؛ ولجأت طائفاٌ إلى الماء، فتبعهم الزنج، فأسروا منهم أسارى، وقتلوا منهم نفرًا، وأفلت أكثرهم، وأدركوا سفنهم، فألقوا أنفسهم فيها، وعبروا إلى المدينة الموفقية، فاشتد جزع الناس لما تهيأ للفسقة، وعظم بذلك اهتمامهم. وتأمل أبو أحمد فيما كان دبر من النزول في الجانب الغربي من دجلة أنه أكدى، وما لا يؤمن من حيلة الفاسق وأصحابه في انتهاز فرصة، فيوقع بالعسكر بياتًا، أو يجد مساغًا إلى شيء مما يكون له فيه متنفس؛ لكثرة الأدغال في ذلك الموضع وصعوبة المسالك، وأن الزنج على التوغل إلى المواضع الوحشة أقدر، وهو عليهم أسهل من أصحابه. فانصرف عن رأيه في نزول غربي دجلة، وجعل قصده لهدم سور الفاسق وتوسعه الطرق والمسالك منها لأصحابه، فأمر عند ذلك أن يبدأ بهدم السور مما يلي النهر المعروف بمنكى؛ فكان تدبير الخبيث في ذلك توجيه ابنه المعروف بأنكلاي وعلي بن أبان وسليمان بن جامع للمنع من ذلك؛ كل واحد منهم في نوبته في ذلك اليوم، فإذا كثر عليهم أصحاب الموفق اجتمعوا جميعًا لمدافعة من يأتيهم. فلما رأى الموفق تحاشد الخبثاء وتعاونهم على المنع من الهدم للسور، أزمع على مباشرة ذلك وحضوره ليستدعى به جد أصحابه واجتهادهم، ويزيد في عنايتهم ومجاهدتهم؛ ففعل ذلك، واتصلت الحرب، وغلظت على الفريقين؛ وكثر القتلى والجراح في الحزبين كليهما، فأقام الموفق أيامًا يغادي الفسقة ويراوحهم؛ فكانوا لا يفترون من الحرب في يوم من الأيام، وكان أصحاب أبي أحمد لا يستطيعون الولوج على الخبثة لقنطرتين كانتا على نهر منكى كان الزنج يسلكونهما في وقت استعار الحرب، فينتهون منهما إلى طريق يخرجهم في ظهور أصحاب أبي أحمد، فيناولون منهم، ويحجزونهم عن استتمام ما يحاولون من هدم السور، فرأى الموفق إعمال الحيلة في هدم هاتين القنطرتين ليمنع الفسقة عن الطريق الذي كانوا يصيرون منه إلى استدبار أصحابه في وقت احتدام الحرب؛ فأمر قوادًا من قواد غلمانه بقصد هاتين القنطرتين، وأن يختلوا الزنج، وينتهزوا الفرصة في غفلتهم عن حراستهما؛ وتقدم إليهم في أن يعدوا لهما من الفؤوس والمناشير والآلات التي يحتاج إليها لقطعهما ما يكون عونًا لهم على الإسراع فيما يقصدون له من ذلك. فانتهى الغلمان إلى ما أمروا به، وصاروا إلى نهر منكى وقت نصف النهار، فبرز لهم الزنج، فبادروا وتسرعوا، فكان ممن تسرع إليهم أبو النداء في جماعة من أصحابه يزيدون على الخمسمائة، ونشبت الحرب بين أصحاب الموفق والزنج، فاقتتلوا صدر النهار، ثم ظهر غلمان أبي أحمد على الفسقة فكشفوهم عن القنطرتين، فأصاب المعروف بأبي النداء سهمٌ في صدره وصل إلى قلبه فصرعه، وحامى أصابه على جيفته فاحتملوها، وولوا منهزمين، وتمكن قواد غلمان الموفق من قطع القنطرتين، فقطعوهما وأخرجوهما إلى دجلة، وحملوا خشبهما إلى أبي أحمد، وانصرفوا على حال سلامة، وأخبروا الموفق بقتل أبي النداء وقطع القنطرتين، فعظم سروره وسرور أهل العسكر بذلك، وأمر لرامي أبي النداء بصلة وافرة. وألح أبو أحمد على الخبيث وأشياعه بالحرب، وهدم من السور ما أمكنهم به الولوج عليهم، فشغلوهم بالحرب في مدينتهم عن المدافعة عن سورهم، فأسرع الهدم فيه، وانتهى منه إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فصار ذلك أجمع في أيدي أصحاب الموفق، لا يستطيع الفسقة دفعهم عنه ولا منعهم من الوصول إليه، وهدمت هاتان الداران، وانتهب ما فيهما، وانتهى أصحاب الموفق إلى سوق لصاحب الزنج كان اتخذها مظلة على دجلة، سماها الميمونة، فأمر الموفق زيرك صاحب مقدمة أبي العباس بالقصد لهذه السوق، فقصد بأصحابه لذلك، وأكب عليها فهدمت تلك السوق وأخربت، فقصد الموفق الدار التي كان صاحب الزنج اتخذها للجبائي فهدمها، وانتهب ما كان فيها وفي خزائن الفاسق كانت متصلة بها. وأمر أصحابه بالقصد إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذ فيه بناء سماه مسجد الجامع، فاشتدت محاماة الفسقة عن ذلك والذب عنه؛ بما كان الخبيث يحضهم عليه، ويوهمهم أنه يجب عليهم من نصرة المسجد وتعظيمه؛ فيصدقون قوله في ذلك، ويتبعون فيه رأيه. وصعب على أصحاب الموفق ما كانوا يرمون من ذلك؛ وتطاولت الأيام بالحرب على ذلك الموضع. والذي حصل مع الفاسق يومئذ نخبة أصحابه وأبطالهم والموطنون أنفسهم على الصبر معه، فحاموا جهدهم؛ حتى لقد كانوا يقفون الموقف فيصيب أحدهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف موقفه إشفاقًا من أن يخلو موقف رجل منهم؛ فيدخل الخلل على سائر أصحابه. فلما رأى أبو أحمد صبر هذه العصبة ومحاماتها، وتطاول الأيام بمدافعتها، أمر أبا العباس بالقصد لركن البناء الذي سماها الخبيث مسجدًا، وأن يندب لذلك أنجاد أصحابه وغلمانه، وأضاف إليهم الفعلة الذين كانوا أعدوا للهدم، فإذا تهيأ لهم هدم شيء أسرعوا فيه، وأمر بوضع السلاليم على السور فوضعوها، وصعد الرماة فجعلوا يرشقون بالسهام من وراء السور من الفسقة، ونظم الرجال من حد الدار المعروفة بالجبائي إلى الموضع الذي رتب فيه أبا العباس، وبذل الموفق الأموال والأطوقة والأسورة لمن سارع إلى هدم سور الفاسق وأسواقه ودور أصحابه، فتسهل ما كان يصعب بعد محاربة طويلة وشدة، فهدم البناء الذي كان الخبيث سماه مسجدًا، ووصل إلى منبره فاحتمل، فأتي به الموفق، وانصرف به إلى مدينته الموفقية جذلًا مسرورًا. ثم عاد الموفق لهدم السور فهدمه من حد الدار المعروفة بأنكلاي إلى الدار المعروفة بالجبائي. وأفضى أصحاب الموفق إلى دواوين من دواوين الخبيث وخزائن من خزائنه؛ فانتهبت وأحرقت وكان ذلك في يوم ذي ضباب شديد، قد ستر بعض الناس عن بعض؛ فما يكاد الرجل يبصره صاحبه. فظهر في هذا اليوم للموفق تباشير الفتح، فإنهم لعلي ذلك؛ حتى وصل سهمٌ من سهام الفسقة إلى الموفق، رماه به غلام رومي كان مع الفاسق يقال له قرطاس، فأصابه في صدره، وذلك في يوم الاثنين لخمس بقين من جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتين، فستر الموفق ما ناله من ذلك السهم، وانصرف إلى المدينة مع الموفقية، فعولج في ليلته تلك من جراحته، وبات ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح، يشد بذلك قلوب أوليائه من أن يدخلها وهم أو ضعف، فزاد ما حمل نفسه عليه من الحركة في قوة علته، فغلظت وعظم أمرها حتى خيف عليه، واحتاج إلى علاجه بأعظم ما يعالج به الجراح؛ واضطرب لذلك العسكر والجند والرعية، وخافوا قوة الفاسق عليهم؛ حتى خرج عن مدينته جماعةٌ ممن كان مقيمًا بها، لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة، وحدثت في حال صعوبة العلة عليه حادثة في سلطانه، فأشار عليه مشيرون من أصحابه وثقاته بالرحلة عن معسكره إلى مدينة السلام، ويخلف من يقوم مقامه؛ فأبى ذلك، وخاف أن يكون فيه ائتلاف ما قد تفرق من شمل الخبيث. فأقام على صعوبة علته عليه، وغلظ الأمر الحادث في سلطانه؛ فمن الله بعافيته، وظهر لقواده وخاصته؛ وقد كان أطال الاحتجاب عنهم، فقويت بذلك منتهم، وأقام متماثلًا مودعًا نفسه إلى شعبان من هذه السنة، فلما أبل وقوي على النهوض لحرب الفاسق، تيقظ لذلك، وعاود ما كان مواظبًا عليه من الحرب، وجعل الخبيث لما صح عنده الخبر عما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات، ويمنيهم الأماني الكاذبة، وجعل يحلف على منبره - بعدما اتصل به الخبر بظهور أبي أحمد وركوبه الشذا - أن ذلك باطلٌ لا أصل له، وأن الذي رأوه في الشذا مثال موه لهم وشبه لهم. ذكر عزم المعتمد على اللحاق بمصر وفيها في يوم السبت للنصف من جمادى الأولى، شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وأقام يتصيد بالكحيل، وقدم صاعد بن مخلد من عند أبي أحمد؛ ثم شخص إلى سامرا في جماعة من القواد في جمادى الآخرة، وقدم قائدان لابن طولون - يقال لأحدهما أحمد بن جبغويه وللآخر محمد بن عباس الكلابي - الرقة، فلما صار المعتد إلى عمل إسحاق بن كنداج - وكان العامل على الموصل وعامة الجزيرة - وثب ابن كنداج بمن شخص مع المعتمد من سامرا يريد مصر، وهم تينك وأحمد بن خاقان وخطارمش، فقيدهم وأخذ أموالهم ودوابهم ورقيقهم. وكان قد كتب إليه بالقبض عليهم وعلى المعتمد، وأقطع إسحاق بن كنداج ضياعهم وضياع فارس بن بغا. وكان سبب وصوله إلى القبض على من ذكرت، أن ابن كنداج لما صار إلى عمله، وقد نفذت إليه الكتب من قبل صاعد بالقبض عليهم، أظهر أنه معهم، وعلى مثل رأيهم في طاعة المعتمد؛ إذ كان الخليفة، وأنه غير جائز له الخلاف عليه. وقد كان من مع المعتمد من القواد حروا المعتمد المرور به، وخوفوه وثوبه بهم؛ فأبى إلا المرور به - فيما ذكر - وقال لهم: إنما هو مولاي وغلامي، وأريد أن أتصيد؛ فإن في الطريق إليه صيدًا كثيرًا. فلما صاروا في عمله، لقيهم وسار معهم كي يرد المعتمد - فيما ذكر - منزلًا قبل وصوله إلى عمل ابن طولون، فلما أصبح ارتحل التباع والغلمان الذين كانوا مع المعتمد ومن شخص معه من سامرا، وخلا ابن كنداج بالقواد الذين مع المعتمد، فقال لهم: إنكم قد قربتم من عمل ابن طولون والمقيم بالرقة من قواده؛ وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون؛ فالأمر أمره، وأتم من تحت يده ومن جنده؛ أفترضون بذلك؛ وقد علمتم أنه إنما هو كواحد منكم! وجرت بينه وبينهم في ذلك مناظرة حتى تعالى النهار، ولم يرتحل المعتمد بعد لاشتغال القواد بالمناظرة بينهم بين يديه، ولم يجتمع رأيهم بعد على شيء. فقال لهم ابن كنداج: قوموا بنا حتى نتناظر في هذا في غير هذا الموضع، وأكرموا مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت فيه. فأخذ بأيديهم، وأخرجهم من مضرب المعتمد فأدخلهم مضرب نفسه؛ لأنه لم يكن بقي مضرب إلا قد مضى به غير مضربه؛ لما كان من تقدمه إلى فراشيه وغلمانه وحاشيته وأصحابه في ذلك اليوم ألا تبرحوا إلا ببراحه. فلما صاروا إلى مضربه دخل عليه وعلى من معه من القواد جلة غلمانه وأصحابه، وأحضرت القيوم، وشد غلمانه على كل من كان شخص مع المعتمد من سامرا من القواد، فقيدوهم؛ فلما قيدوا وفرغ من أمرهم مضى إلى المعتمد، فعذله في شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو بها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه في قيودهم حتى وافى بهم سامرا. وفيها قام رافع بن هرثمة بما كان الخجستاني غلب عليه من كور خراسان وقراها؛ وكان رافع بن هرثمة قد اجتبى عدةً من كور خراسان خراجها سلفًا لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وخربها. وفيها كانت وقعة بين الحسينيين والحسنيين والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وعلا الجعفريون فتخلصوا الفصل بن العباس العباسي العامل على المدينة. وفي جمادى الآخرة عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق، وولى أحمد بن محمد الطائي الطوفة وسوادها المعاون والخراج، فصير المعاون باسم علي بن الحسين المعروف بكفتمر، فلقي أحمد بن محمد الهيصم العجلي فيها، فاهزم الهيصم واستباح الطائي أمواله وضياعه. ولأربع خلون من شعبان منها رد إسحاق بن كنداج المعتمد إلى سامرا فنزل الجوسق المطل على الحير. ولثمان خلون من شعبان خلع على ابن كنداج، وقلّد سيفين بحمائل: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وسمي ذا السيفين، وخلع عليه بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان، وتوج بتاج، وقلد سيفًا كل ذلك مفصص بالجوهر، وشيعه إلى منزله هارون بن الموفق وصاعد بن مخلد والقواد، وتغدوا عنده. ذكر الخبر عن إحراق قصر صاحب الزنج وفي شعبان من هذه السنة أحرق أصحاب قصر الفاسق، وانتهبوا ما فيه. ذكر الخبر عن سبب ذلك وسبب وصولهم إليه ذكر محمد بن الحسن، أن أبا أحمد لما برأ الجرح الذي كان أصابه، عاد للذي كان عليه من مغاداة الفاسق الحرب ومراوحته؛ وكان الخبيث قد أعاد بناء بعض الثلم التي ثلمت في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به، وركب في عشية من العشايا في أول وقت العصر؛ وقد كانت الحرب متصلة في ذلك اليوم مما يلي نهر منكى، والفسقة مجتمعون في تلك الناحية قد شغلوت أنفسهم بها، وظنوا أنهم لا يحاربون إلا فيها، فوافى الموفق وقد أعد الفعلة، وقرب على نهر منكى وناوش الفسقة فيه؛ حتى إذا استعرت الحرب أمر الجذافين والاشتيامين أن يحثوا السير حتى ينتهوا إلى النهر المعروف بجوى كور، وهو نهر يأخذ من دجلة أسفل من النهر المعروف بنهر أبي الخصيب؛ ففعلوا ذلك؛ فوافى جوى كور، وقد خلا من المقاتلة والرجال، فقرب وأخرج الفعلة، فهدموا من السور ما كان يلي ذلك النهر، وصعد المقاتلة وولجوا النهر؛ فقتلوا فيه مقتلةً عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الفسقة، فانتهبوا ما كان فيها وأحرقوها، واستنفذوا عددًا من النساء اللواتي كن فيها، وأخذوا خيلًا من خيل الفجرة، فحملوها إلى غربي دجلة، فانصرف الموفق في وقت غروب الشمس بالظفر والسلامة، وغاداهم الحرب والقصد لهدم السور، فأسرع فيه حتى اتصل بدار المعروف بأنكلاي؛ وكانت متصلة بدار الخبيث؛ فلما أعيت الحيل الخبيث في المنع من هدم السور، ودفع أصحاب الموفق عن ولوج مدينته، أسقط في يديه؛ ولم يدر كيف يحتال لحسم ذلك، فأشار عليه علي بن أبان المهلبي بإجراء الماء على السباخ التي يسلكها أصحاب الموفق لئلا يجدوا إلى سلوكها سبيلًا، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يعوقهم بها عن دخول المدينة، فإن حملوا أنفسهم على اقتحامها فوقعت عليهم هزيمة، لم يسهل عليهم الرجوع إلى سفنهم؛ ففعلوا ذلك في عدة مواضع من مدينتهم، وفي الميدان الذي كان الخبيث جعله طريقًا حتى انتهت تلك الخنادق إلى قريب من داره. فرأى الموفق بعدما هيأ الله له من هدم سور مدينة الفاسق ما هيأ أن جعل قصده لطم الخنداق والأنهار والمواضع العورة كي تصلح فيها مسالك الخيل والرجالة. فرام ذلك، فحامى عنه الفسقة. ودامت الحرب وطالت ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمرٌ عظيم؛ حتى لقد عد الجرحى في بعض تلك الأيام زهاء ألفي جريح؛ وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كل فريق منهم عن إزالة من بإزائه عن موضعهم. فلما رأى ذلك الموفق قصد لإحراق دار الخبيث والهجوم عليها من دجلة، وكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث من المقاتلة والحماة عن داره؛ فكانت الشذا إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بالحجارة والنشاب والمقاليع والمجانيق والعرادات، وأذيب الرصاص، وأفرغ عليهم؛ فكان إحراق داره يتعذر عليهم لما وصفنا؛ فأمر الموفق بإعداد ظلال من خشب للشذا وإلباسها جلود الجواميس، وتغطية ذلك بالخيش المطلي بصنوف العقاقير والأدوية التي تمنع النار من الإحراق، فعمل ذلك، وطليت به عدة شذوات ورتب فيها جميعًا شجعاء غلمانه: الرامحة والناشبة، وجمعًا من حذاق النفاطين وأعدهم لإحراق دار الفاسق صاحب الزنج. فاستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان كاتب الخبيث ووزيره في يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، وكان سبب استئمانه - فيما ذكر محمد بن الحسن - أنه كان ممن امتحن بصحبته، وهو لها كارهٌ على علم منه بضلالته. قال: وكنت له على ذلك مواصلًا، وكنا جميعًا ندبر الحيلة في التخلص، فيتعذر علينا، فلما نزل بالخبيث من الحصار ما نزل، وتفرق عنه أصحابه، وضعف أمره؛ شمر في الحيلة للخلاص، وأطلعني على ذلك، وقال: قد طبت نفسًا بألا أستصحب ولدًا وأهلًا، وأن أنجوا وحيدًا؛ فهل لك في مثل ما عزمت عليه؟ فقلت له، الرأي لك ما رأيت؛ إذ كنت إنما تخلف ولدًا صغيرًا لا سبيل للخائن عليه إلى أن يصول به، أو أن يحدث عليك فيد حدثًا يلزمك عاره، فأما أنا معي نساء يلزمني عارهن، ولا يسعني تعرضهن لسطوة الفاجر، فامض شأنك؛ فأخبره عني بما علمت من نيتي في مخالفة الفاجر وكراهة صحبته، وإن هيأ الله لي الخلاص بولدي، فأنا سريع اللحاق بك، وإن جرت المقادير فينا بشيء كنا معًا وصبرنا. فوجه محمد بن سمعان وكيلًا له يعرف بالعراقي، فأتى عسكر الموفق، فأخذ له ما أراد من الأمان، وأعد له الشذا، فوافته في السبخة في اليوم الذي ذكرنا، فصار إلى عسكر الموفق. وأعاد الموفق محاربة الخبيث والقصد للإحراق من غد اليوم الذي استأمن فيه محمد بن سمعان؛ وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة تسع وستين ومائتين، في أحسن زي، وأكمل عدة، ومعه الشذوات المطلية بما وصفنا، وسائر شذواته وسميرياته، فيها مواليه وغلمانه والمعابر التي فيها الرجالة، فأمر الموفق ابنه أبا العباس بالقصد إلى دار محمد ابن يحيى المعروف بالكرنبائي، وهي بإزاء الخائن في شرقي النهر المعروف بأبي الخصيب، يشرع على النهر وعلى دجلة، وتقدم إليها في إحراقها وما يليها من منازل قواد الخائن، وشغلهم بذلك عن إنجاده ومعاونته، وأمر المرتبين في الشذا المظلة بالقصد، لما كان مطلًا على دجلة من رواشين الخبيث وأبنيته، ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور القصر، وحاربوا الفجرة أشد حرب ونضحوهم بالنيران، وصبر الفسقة وقاتلوا، فرزق الله النصر عليهم، فتزحزحوا عن تلك الرواشين والأبنية التي كانوا يحامون عليها، وأحرقها غلمان الموفق، وسلم من كان في الشذا مما كان الخبثاء يكيدونهم به من النشاب والحجارة وصب الرصاص المذاب وغير ذلك بالظلال التي كان اتخذها على الشذا، فكان ذلك سببًا لتمكنها من دار الخبيث. وأمر الموفق من كان في الشذا بالرجوع فرجعوا، فأخرج من كان فيها من الغلمان، ورتب فيها آخرين، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما تهيأ ذلك عادت الشذوات المظلة إلى قصر الخبيث، فأمر الموفق من كان فيها بإحراق بيوت كانت تشرع على دجلة من قصر الفاسق، ففعلوا ذلك، فاضطرمت النار في هذه البيوت، واتصلت بما يليها من الستارات التي كان الخبيث ظل بها داره، وستور كانت على أبوابه، فقويت النار عند ذلك على الإحراق، وأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شئ مما كان في منزله من أمواله وذخائره وأثاثه وسائر أمتعته، فخرج هاربًا، وترك ذلك كله. وعلا غلمان الموفق قصر الخبيث مع أصحابهم؛ فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الأمتعة الفاخرة والذهب والفضة والجوهر والحلي وغير ذلك، واستنفذوا جماعة من النساء اللواتي كان الخبيث استرقهن، ودخل غلمان الموفق سائر دور الخبيث ودور ابنه أنكلاي، فأضرموها نارًا، وعظم سرور الناس بما هيأ الله لهم في هذا اليوم، فأقام جماعة يحاربون الفسقة في مدينتهم وعلى باب قصر الخبيث، مما يلي الميدان، فأثخنوا فيهم القتل والجراح والأسر، وفعل أبو العباس في دار المعروف بالكرنبائي وما يتصل بها من الإحراق والهدم والنهب مثل ذلك. وقطع أبو العباس يومئذ سلسلة حديد عظيمة وثيقة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، وحازها، فحملت في بعض شذواته وانصرف الموفق بالناس صلاة المغرب بأجمل ظفر، وقد نال الفاسق في ذلك اليوم في نفسه وماله وولده وما كان غلب عليه من نساء المسلمين مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتيت الشمل والمصيبة في الأهل والولد، وجرح ابنه المعروف بأنكلاي في هذا اليوم جراح شديدة في بطنه أشفى منه على التلف. ذكر الخبر عن غرق نصير المعروف بأبي حمزة وفي غد هذا اليوم وهو يوم الأحد لعشر بقين من شعبان من هذه السنة غرق نصير. ذكر سبب غرقه ذكر محمد بن الحسن أنه لما كان غد هذا اليوم باكر الموفق محاربة الخبيث، وأمر نصيرًا المعروف بأبي حمزة بالقصد لقنطرة كان الخائن عملها بالسياج على النهر المعروف بأبي الخصيب، دون الجسرين اللذين اتخدهما عليه، وأمر زيرك بإخراج أصحابه مما يلي دار الجبائي لمحاربة من هناك من الفجرة، وأخرج جمعًا من قوادها مما يلي دار أنكلاي لمحاربتهم أيضًا، فتسرع نصير، فدخل نهر أبي الخصيب في أول المد في عدة من شذواته، فحملها المد فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات موالي الموفق وغلمانه ممن لم يكن أمر بالدخول، فحملهم المد فألقاهم على شذوات نصير، فصكت الشذوات بعضها بعضًا؛ حتى لم يكن للاشتيامين والجذافين فيها حيلة ولا عمل. ورأى الزنج ذلك، فاجتمعوا على الشذوات، وأحاطوا بها من جانبي نهر أبي الخصيب، فألقى الجذافون أنفسهم في الماء ذعرًا ووجلًا، ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وحاربهم نصير في شذواته حتى خاف الأسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق في يومه يحارب الفسقة، وينهب ويحرق منازلهم، ولم يزل باقي يومه مستعليًا عليهم؛ وكان ممن حامى على قصر الخائن يومئذ وثبت في أصحابه سليمان بن جامع، فلم تزل الحرب بين أصحاب الموفق وبينه، وهو مقيم بموضعه لم يزل عنه إلى أن خرج في ظهره كمين من غلمان الموفق السودان، فانهزم لذلك، واتبعه الغلمان يقتلون أصحابه، ويأسرون منهم، وأصابت سليمان في هذا الوقت جراحة في ساقه، فهوى لفيه في موضع؛ قد كان الحريق ناله ببعض جمر فيه، فاحترق بعض جسده، وحامى عليه جماعة من أصحابه، فنجا بعد أن كاد الأسر يحيط به، وانصرف الموفق ظافرًا سالمًا، وضعفت الفسقة، واشتد خوفهم لما رأوا من إدبار أمرهم، وعرضت لأبي علة من وجع المفاصل؛ فأقام فيهم بقية شعبان وشهر رمضان وأيامًا من شوال ممسكًا عن حرب الفاسق. فلما استبل من علته وتماثل، أمر بإعداد ما يحتاج إليه للقاء الفسقة، فتأهب لذلك جميع أصحابه. وفي هذه السنة كانت وفاة عيسى بن الشيخ بن السليل. وفيها لعن ابن طولون المعتمد في دار العامة، وأمر بلعنه على المنابر، وصار جعفر المفوض إلى مسجد الجامع يوم الجمعة، ولعن ابن طولون وعقد لإسحاق ابن كنداج على أعمال ابن طولون، وولي من باب الشماسية إلى إفريقية وولي شرطة الخاصة. وفي شهر رمضان منها كتب أحمد بن طولون إلى أهل الشأم يدعوهم إلى نصر الخليفة، ووجد فيجٌ يريد ابن طولون معه كتب من خليفته، جواب بأخبار، فأخذ جواب فحبس وأخذ له مال ورقيق ودواب. ولإحدى عشرة ليلة بقيت من شوال منها عقد جعفر المفوض لصاعد بن مخلد على شهرزور وداباذ والصامغان وحلوان وماسبذان ومهرجا نقذف وأعمال الفرات، وضم إليه قواد موسى بن بغا خلا أحمد بن موسى وكيغلغ وإسحاق بن كنداجيق وأساتكين، فعقد صاعد للؤلؤ على ما عهد له عليه من ذلك المفوض يوم السبت لثمان بقين من شوال، وبعث إلى ابن أبي الساج بعقد من قبله على العمل الذي كان يتولاه، وكان يتولى الأنبار وطريق الفرات ورحبة طوق بن مالك من قبل هارون بن الموفق، وكان شخص إليها في شهر رمضان، فلما ضم ذلك إلى صاعد أقره صاعد على ما كان إليه من ذلك. وفي آخر شوال منها دخل ابن الساج رحبة طوق بن مالك بعد أن حاربه أهلها، فغلبهم وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشأم. ثم صار ابن أبي الساج إلى قرقيسياء؛ فدخلها وتنحى عنها ابن صفوان العقيلي. ذكر الخبر عن الوقعة التي كانت بين الموفق وبين الزنج وفي يوم الثلاثاء لعشر خلون من شوال من هذه السنة، كانت بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة في مدينة الفاسق أثر فيها آثارًا، وصل بها إلى مراده منها. ذكر السبب في هذه الوقعة وما كان فيها: ذكر محمد بن الحسن أن الخبيث عدو الله كان في مدة اشتغال الموفق بعلته أعاد القنطرة التي كانت شذوات نصير لججت فيها، وزاد فيها ما ظن أنه قد أحكمها، ونصب دونها أدقال ساج وصل بعضها ببعض، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكرًا بالحجارة ليضيق المدخل على الشذا، وتحتد جرية الماء في النهر المعروف بأبي الخصيب فيهاب الناس دخوله، فندب الموفق قائدين من قواد غلمانه في أربعة آلاف من الغلمان، وأمرهما أن يأتيا نهر الخصيب؛ فيكون أحدهما في شرقيه والآخر في غربيه؛ حتى يوافيا القنطرة التي أصلحها الفاجر وما عمل في وجهها من السكر فيحاربا أصحاب الخبيث حتى يجلياهم عن القنطرة، وأعد معهما النجارين والفعلة لقطع القطرة والبدود التي كانت جعلت أمامها، وأمر بإعداد سفن محشوة بالقصب المنصوب عليه النفط، لتدخل ذلك النهر المعروف بأبي الخصيب، وتضرم نارًا لتحترق بها القنطرة في وقت المد. فركب الموفق في هذا اليوم في الجيش حتى وافى فوهة نهر أبي الخصيب، وأمر بإخراج المقاتلة في عدة مواضع من أعلى عسكر الخبيث وأسفله، ليشغلهم بذلك عن التعاون على المنع عن القنطرة، وتقدم القائدان في أصحابهما، وتلقاهما أصحاب الخائن من الزنج وغريهم، ويقودهم ابنه أنكلاي وعلي بن المهلبي وسليمان بن جامع، فاشتكت الحرب بين الفريقين، ودامت، وقاتل الفسقة أشد قتال، محاماةً عن القنطرة، وعلموا ما عليهم في قطعها من الضرر، وأن الوصول إلى ما بعدها من الجسرين العظيمين اللذين كان الخبيث اتخذهما على نهر أبي الخصيب سهل مرامه، فكثر القتل والجراح بين الفريقين، واتصلت الحرب إلى وقت صلاة العصر. ثم إن غلمان الموفق أزالوا الفسقة عن القنطرة وجاوزوها، فقطعها النجارون والفعلة، ونقضوها وما كان اتخذ من البدود التي ذكرناها. وكان الفاسق أحكم هذه القنطرة والبدود إحكامًا تعذر على الفعلة والنجارين الإسراع في قطعها، فأمر الموفق عند ذلك بإدخال السفن التي فيها القصب والنفط، وضربها بالنار وإرسالها مع المار؛ ففعل ذلك، فوافت السفن القنطرة فأحرقتها، ووصل النجارون إلى ما أرادوا من قطع البدود فقطعوها، وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر فدخلوه، وقوي نشاط الغلمان بدخول الشذا؛ فكشفوا أصحاب الفاجر عن مواقفهم حتى بلغوا بهم الجسر الأول الذي يتلو هذه القنطرة، وقتل من الفجرة خلق كثير، واستأمن فريق منهم؛ فأمر الموفق أن يخلع عليهم في ساعتهم تلك، وأن يوقفوا بحيث يراهم أصحابهم ليرغبوا في مثل ما صاروا إليه؛ وانتهى الغلمان إلى الجسر الأول، وكان ذلك قبيل المغرب، فكر الموفق أن يظلم الليل، والجيش موغل في نهر أبي الخصيب، فيتهيأ للفجرة بذلك انتهاز فرصة، فأمر الناس بالانصراف، فانصرفوا سالمين إلى المدينة الموفقية، وأمر الموفق بالكتاب إلى النواحي بما هيأ الله له من الفتح والظفر؛ ليقرأ بذلك على المنابر، وأمر بإثابة المحسنين من غلمانه على قدر غنائهم وبلائهم وحسن طاعتهم؛ ليزدادوا بذلك جدًا واجتهادًا في حرب عدوهم. ففعل ذلك، وعبر الموفق في نفر من مواليه وغلمانه في الشذوات والسميريات وما خف من الزواريق إلى فوهة نهر أبي الخصيب؛ وقد كان الخبيث ضيقها ببرجين عملهما بالحجارة ليضيق المدخل وتحتد الجري، فإذا دخلت الشذا النهر لججت فيه؛ ولم يسهل السبيل إلى إخراجها منه؛ فأمر الموفق بقطع ذينك البرجين، فعمل فيهما نهار ذلك اليوم؛ ثم انصرف العمال وعادوا من غد لاستتمام قلع ما بقي من ذلك؛ فوجدوا الفجرة قد أعادوا ما قلع منهما في ليلتهم تلك؛ فأمر بنصب عرادتين قد كانتا أعدتا في سفينتين، نصبتا حيال نهر أبي الخصيب، وطرحت لهما الأناجر حتى استقرتا؛ ووكل بهما من أصحاب الشذا، وأمر بقطع هذين البرجين، وتقدم إلى أصحاب العرادتين في رمي كل من دنا من أصحاب الفاسق؛ لإعادة شيء من ذلك في ليل أو نهار؛ فتحامى الفجرة الدنو من الموضع، وأحجموا عنه، وألح الموكلون بقلع هذه الحجارة بعد ذلك، حتى استتموا ما أرادوا، واتسع المسلك للشذا في دخول النهر والخروج منه. خبر انتقال صاحب الزنج إلى شرقي نهر أبي الخصيب وفي هذه السنة تحول الفاسق من غربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه وانقطعت عنه الميرة من كل وجهة. ذكر الخبر عن حاله وحال أصحابه وما آل إليه أمرهم عند انتقاله من الجانب الغربي ذكر أن الموفق لما أخرب منازل صاحب الزنج وحرقها، لجأ إلى التحصن في المنازل الواغلة في نهر أبي الخصيب، فنزل منزلًا كان لأحمد بن موسى المعروف بالقلوص، وجمع عياله وولده حوله هناك، ونقل أسواقه إلى السوق القريبة من الموضع الذي اعتصم به؛ وهي سوق كانت تعرف بسوق الحسين، وضعف أمره ضعفًا شديدًا وتبين للناس زوال أمره، فتهيبوا جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، فبلغ عنده الرطل من خبز البر عشرة دراهم؛ فأكلوا الشعير، ثم أكلوا أصناف الحبوب، ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كانوا يتبعون الناس؛ فإذا خلا أحدهم بامرأة أو صبي أو رجل ذبحه وأكله، ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعفهم؛ فكان إذا خلا به ذبحه وأكل لحمه؛ ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى، فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم، وكان لا يعاقب الخبيث أحدًا ممن فعل شيئًا من ذلك إلا بالحبس، فإذا تطاول حبسه أطلقه. وذكر أن الفاسق لما هدمت داره وأحرقت، وانتهب ما فيها، وأخرج طريدًا سليبًا من غربي نهر أبي الخصيب تحول إلى شرقيه، فرأى أبو أحمد أن يخرب عليه الجانب الشرقي لتصير حال الخبيث فيه كحاله في الغربي في الجلاء عنه، فأمر ابنه أبا العباس بالوقوف في جمع من أصحابه في الشذا في نهر أبي الخصيب، وأن يختار من أصحابه وغلمانه جمعًا، يخرجهم في الموضع الذي كانت فيه دار الكرنبائي من شرقي نهر أبي الخصيب، ويخرج معهم الفعلة لهدم كل ما يلقاهم من دور أصحاب الفاجر ومنازلهم، ووقف الموفق على قصر المعروف بالهمذاني - وكان الهمذاني يتولى حياطة هذا الموضع، وهو أحد قادة جيوش الخبيث وقدماء أصحابه - وأمر الموفق جماعة من قواده ومواليه فقصدوا لدار الهمذاني، ومعهم الفعلة؛ وقد كان هذا الموضع محصنًا بجمع كثير من أصحاب الخبيث من الزنج وغيرهم، وعليه عرادات ومجانيق منصوبة وقسي ناوكية، فاشتبكت الحرب وكثر القتلى والجراح إلى أن كشف أصحاب الموفق الخبثاء، ووضعوا فيهم السلاح، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وفعل أصحاب أبي العباس مثل ذلك بمن مر بهم من الفسقة. والتقى أصحاب الموفق وأصحاب أبي العباس؛ فكانوا يدًا واحدة على الخبثاء، فولوا منهزمين، وانتهوا إلى دار الهمذاني، وقد حصنها ونصب عليها العرادات، وحفها بأعلام بيض من أعلام الفاجر، مكتوب عليها اسمه، فتعذر على أصحاب الموفق تسور هذه الدار لعلو سورها وحصانتها، فوضعوا عليها السلاليم الطوال، فلم تبلغ آخره، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانوا أعدوها، وجعلوا فيها الحبال لمثل هذا الموضع، فأثبتوها في أعلام الفاسق وجذبوها، فانقلبت الأعلام منكوسة من أعلى السور؛ حتى صارت في أيدي أصحاب الموفق، فلم يشك المحامون عن هذه الدار أن أصحاب أبي أحمد قد علوها، فوجلوا فانهزموا، وأسلموها وما حولها، وصعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من المجانيق والعرادات، وما كان فيها للهمذاني من متاع وأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من دور الفجرة، واستنفذوا في هذا اليوم من نساء المسلمين المأسورات عددًا كثيرًا، فأمر الموفق بحملهن في الشذا والسميريات والمعابر إلى الموفقية والإحسان إليهن. ولم تزل في هذا اليوم قائمة من أول النهار إلى بعد صلاة العصر، واستأمن يومئذ جماعةٌ من أصحاب الفاسق وجماعة من خاصة غلمانه الذين كانوا في داره يلون خدمته والوقوف على رأسه؛ فآمنهم الموفق وأمر بالإحسان إليهم، وأن يخلع عليهم، ويوصلوا وتجرى لهم الأرزاق، وانصرف الموفق، وأمر أن تنكس أعلام الفاسق في صدور الشذوات ليراها أصحابه، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث في ظهر دار الهمذاني متصلةً بالجسر الأول المعقود على نهر أبي الخصيب، كان الخبيث سماها المباركة، وأعلموه أنه إن تهيأ له إحراقها لم يبق لهم سوق، وخرج عنهم تجارهم الذين بهم قوامهم؛ واستوحشوا لذلك. واضطروا إلى الخروج في الأمان. فعزم الموفق عند ذلك على قصد هذه السوق وما يليها بالجيوش من ثلاثة أوجه؛ فأمر أبا العباس بقصد جانب من هذه السوق مما يلي الجسر الأول؛ وأمر راشدًا مولاه بقصدها مما يلي دار الهمذاني، وأمر قوادًا من قواد غلمانه السودان بالقصد لها من نهر أبي شاكر، ففعل كل فريق ما أم به، ونذر الزنج بمسير الجيوش إليهم، فنضهوا في وجوههم، واستعرت الحرب وغلظت، فأمد الفاجر أصحابه. وكان المهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع في جميع أصحابهم بعد أن تكاملوا ووافتهم أمداد الخبيث بهذه السوق يحامون عنها، ويحاربون فيها أشد حرب. وقد كان أصحاب الموفق في أول خروجهم إلى هذا الموضع وصلوا إلى طرف من أطراف هذه السوق، فأضرموه نارًا فاحترق، فاتصلت النار بأكثر السوق، فكان الفريقان يتحاربون والنار محيطة بهم؛ ولقد كان ما علا من ظلال يحترق فيقع على رءوس المقاتلة؛ فربما أحرق بعضهم، وكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس وإقبال الليل. ثم تحاجزوا، وانصرف الموفق وأصحابه إلى سفنهم، ورجع الفسقة إلى طاغيتهم بعد أن احترق السوق، وجلا عنها أهلها ومن كان فيها من تجار عسكر الخائن وسوقتهم، فصاروا في أعلى مدينته بما تخلصوا به من أموالهم وأمتعتهم. وقد كانوا تقدموا في نقل جل تجارتهم وبضائعهم من هذه السوق خوفًا من من مثل الذي نالهم في اليوم الذي أظفر الله فيه الموفق بدار الهمداني وهيأ له إحراق ما أحرق حولها. ثم إن الخبيث فعل في الجانب الشرقي من حفر الخنادق وتعوير الطرق ما كان فعل في الجانب الغربي بعد هذه الوقعة، واحتفر خندقًا عريضًا من حد جوى كور إلى نهر الغربي، وكان أكثر عنايته بتحصين ما بين دار الكرنبائي إلى النهر المعروف بجوى كور؛ لأنه كان في هذا الموضع جل منازل أصحابه ومساكنهم، وكان من حد جوى كور إلى نهر الغربي بساتين ومواضع قد أخلوها، والسور والخندق محيطان بها، وكانت الحرب إذا وقعت في هذا الموضع قصدوا من موضعهم إليه للمحاماة عنه والمنع فيه، فرأى الموفق عند ذلك أن يخرب باقي السور إلى نهر الغربي، ففعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة. وكان الفاسق في الجانب الشرقي من نهر الغربي في عسكر فيه جمع من الزنج وغيرهم متحصنين بسور منيع وخنادق، وهم أجلد أصحاب الخبيث وشجعانهم، فكانوا عما قرب من سور نهر الغربي؛ وكانوا يخرجون في ظهور أصحاب الموفق في وقت الحرب على جوى كور وما يليه، فأمر الموفق بقصد هذا الموضع ومحاربة من فيه وهدم سوره وإزالة المتحصنين به، فتقدم عند ذلك إلى أبي العباس وعدة من قواد غلمانه ومواليه في التأهب لذلك، ففعلوا ما أمؤروا به، وصار الموفق بمن أعده إلى نهر الغربي، وأمر بالشذا فنظمت من حد النهر المعروف بجوى كور إلى الموضع المعروف بالدباسين، وخرج المقاتلة على جنبي نهر الغربي، ووضعت السلاليم على السور. وقد كانت لهم عليه عدة عرادات، ونشبت الحرب، ودامت مذول النهار إلى بعد الظهر، وهدم من السور مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وليس لأحدهما فضل على صاحبه إلا ما وصل إليه أصحاب الموفق من هذه المواضع التي هدموها وإحراق العرادات، ونال الفريقين من ألم الجراح أمر غليظ موجع. فانصرف الموفق وجميع أصحابه إلى الموفقية، فأمر بمداواة الجرحى، ووصل كل امرئ على قدر الجراح التي أصابته؛ وعلى ذلك كان أجرى التدبير في جميع وقائعه منذ أول محاربته الفاسق إلى أن قتله الله. وأقام الموفق بعد هذ الوقعة مدة، ثم رأى معادوة هذا الموضع والتشاغل به دون المواضع، لما رأى من حصانته وشجاعة من فيه وصبرهم، وأنه لا يتهيأ ما يقدر فيما بين الغربي وجوى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد ما يحتاج إليه من آلات الهدم، واستكثر من الفعلة، وانتخب المقاتلة الناشبة والرامحة والسودان أصحاب السيوف، وقصد هذا الموضع على مثل قصده له المرة الأولى، فأخرج الرجالة في المواضع التي رأى إخراجهم فيها، وأدخل عددًا من الشذا النهر، ونشبت الحرب ودامته، وصبر الفسقة أشد صبر، وصير لهم أصحاب الموفق. واستمد الفلسفة طاغيتهم، فوافاهم المهلبي وسليمان بن جامع في جيشهما، فقويت قلوبهم عند ذلك، وحملوا على أصحاب الموفق، وخرج سليمان كمينًا مما يلي جوى كور، فأزالوا أصحاب الموفغق حتى انتهوا إلى سفنهم، وقتلوا منهم جماعة وانصرف الموفق ولم يبلغ كل الذي أراد، وتبين أنه قد كان يجب أن يحارب الفسقة من عدة مواضع، ليفرق جمعهم، فيخف وطؤهم على من يقصد لهذا الموضع الصعب، وينال منه ما يجب، فعزم على معاونتهم، وتقدم إلى أبي العباس وغيره من قواده في العبور واختيار أنجاد رجالهم، ووكل مسرورًا مولاه بالنهر المعروف بمنكى، وأمره أن يخرج رجاله في ذلك الموضع وما يتصل به من الجبال والنخل، لتشتغل قلوب الفجرة، وليروا أن عليهم تدبيرًا من تلك الجهة، وأمر أبا العباس بإخراج أصحابه على جوى كور، ونظم الشذا على هذه الموضع المعروف بالدباسين؛ وهو أسفل نهر الغربي، وصار الموفق إلى نهر الغربي، وأمر قواده وغلمانه أن يخرجوا في أصحابهم فيحاربوا الفسقة في حصنهم ومعقلهم، وألا ينصرفوا عنهم حتى يفتح الله لهم، أو يبلغ إرادته منهم. ووكل بالسور من يهدمه، وتسرع الفسقة كعادتهم، وأطمعهم ما تقدم من الوقعتين اللتين ذكرناهما، فثبت لهم غلمان الموفق، وصدقوهم اللقاء؛ فأنزل الله عليهم نصره، فأزالوا الفسقة عن مواقفهم، وقوى أصحاب الموفق، فحملوا عليهم حملة كشفوهم بها، فانهزموا وخلوا عن حصنهم، وصار في أيدي غلمان الموفق فهدموه، وأحرقوا منازلهم، وغنموا ما كان فيها، واتبعوا المنهزمين منهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا، واستنفذوا من هذا الحصن من النساء المأسورات خلقًا كثيرًا، فأمر الموفق بحملهن والإحسان إليهن، وأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم ففعلوا، وانصرف إلى عسكره بالموفقية، وقد بلغ ما حاول من هذا الموضع. ذكر خبر دخول الموفق مدينة صاحب الزنج وفيها دخل الموفق مدينة الفاسق، وأحرق منازله من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب. ذكر الخبر عن سبب وصوله إلى ذلك ذكر أن أبا أحمد لما أراد ذلك بعد هدمه سور داره ذلك، أقلام يصلح المسالك في جنبتي نهر أبي الخصيب وفي قصر الفاسق، ليتسع على المقاتلة الطريق في الدخول والخروج للحرب، وأمر بقلع باب قصر الخبيث الذي كان انتزعه من حصن أروخ بالبصرة، فقلع وحمل إلى مدينة السلام، ثم رأى القصد لقطع الجسر الأول الذي كان على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع معاونة بعضهم بعضًا عند وقوع الحرب في نواحي عسكرهم، فأمر بإعداد سفينة كبيرة تملأ قصبًا قد سقى النفط، وأن ينصب في وسطه السفينة دقل طويل يمعها من مجاوزة الجسر إذا لصقت به، وانتهز الفرصة في غفلة الفسقة وتفرقهم. فلما وجد ذلك في آخر النهار قدّمت السفينة فجرّها الشذا حتى وردت النهر، وأشعل فيها النيران، وأرسلت وقد قوى المدّ، فوافت القنطرة، ونذر الزنج بها، وتجمعوا وكثروا حتى ستروا الجسر وما يليه، وجعلوا يقذفون السفينة بالحجارة والآجرّ، ويهيلون عليها التراب، ويصبّون الماء، وغاص بعضهم فنقبها؛ وقد كانت أحرقت من الجسر شيئًا يسيرًا، فأطفأه الفسقة، وغرّقوا السفينة وحازوها؛ فصارت في أيديهم. فلما رأى أبو أحمد فعلهم ذلك، عزم على مجاهدتهم على هذا الجسر حتى يقطعه، فسمى لذلك قائدين من قوّاد غلمانه، وأمرهما بالعبور في جميع أصحابهما في السلاح الشاك والّلأمة الحصينة والآلات المحكمة، وإعداد النفاطين والآلات التي تقطع بها الجسور، فأمر أحد القائدين أن يقصد غربي النهر، وجعل الآخر في شرقيّه، وركب الوفق في مواليه وخدّامه وغلمانه الشذّوات والسّميريّات، وقصد فوّهة نهر أبي الخصيب؛ وذلك في غداة يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من شوّال سنة تسع وستين ومائتين، فسبق إلى الجسر القائد الذي كان أمر بالقصد له من غربي نهر أبي الخصيب، فأوقع بمن كان موكّلًا به من أصحاب الفاسق، وقتلت منهم جماعة، وضرب الجسر بالنار وطرح عليه القصب وما كان أعدّ له من الأشياء المحرقة، فانكشف من كان هنالك من أعوان الخبيث، ووافى بعد ذلك من كان أمر بالقصد للجسر من الجانب الشرقي، ففعلوا ما أمروا به من إحراقه. وقد كان الخبيث أمر ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع بالمقام في جيشهما للمحاماة عن الجسر، والمنع من قطعه؛ ففعلا ذلك، فقصد إليهما من كان بإزائهما، وحاربوهم حربًا غليظًا حتى انكشفا، وتمكنوا من إحراق الجسر فأحرقوه، وتجاوزوه إلى الحظيرة التي كان يعمل فيها شذوات الفاسق وسميريّاته وجميع الآلات التي كان يحارب بها، فأحرق ذلك عن آخره إلا شيئًا يسيرًا من الشذّوات والسميريات كان في النهر، وانهزم أنكلاي وسليمان بن جامع، والنتهى غلمان إلى سجن كان للخبيث في غربي نهر أبي الخصيب، فحامى عنه الزنج ساعة من النهار حتى أخرجوا منه جماعة، وغلبهم عليه غلمان الموفقّ، فتخلّصوا من كان فيه من الرجال والنساء، وتجاوز من كان في الجانب الشرقي من غلمان الوفق، بعد أن أحرقوا ما ولّوا من الجسر إلى الموضع المعروف بدار مصلح؛ وهو من قدماء قوّاد الفاسق، فدخلوا داره وأنهبوا، وسبوا ولده ونساءه، وأحرقوا ما تهيأ لهم إحراقه في طريقهم، وبقيت من الجسر في وسط منه أدقال قد كان الخبيث أحكمها، فأمر الموفق أبا العباس بتقديم عدّة من الشذا إلى ذلك الموضع، ففعل ذلك؛ فكان فيمن تقدّم زيرك في عدد من أصحابه، فوافى هذه الأدقال، وأخرجوا إليها قد كانوا أعدّوهم لها معهم الفئوس والمناشير، ودخلت شذوات الموفق النهر، وسار القائدان في جميع أصحابعهما على حافتيه فهزم أصحاب الفاجر في الجانبين، وانصرف الموفق وجميع أصحابه سالمين، واستنقذ خلق كثير. وأتى الموفق بعدد كثير من رءوس الفسقة، فأثاب من أتاه بها، وأحسن إليه ووصله. وكان انصرافه في هذا اليوم على ثلاث ساعلت من النهار، بعد أن انحاز الفاسق وجميع أصحابه من الزنج وغيرهم إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وأخلوا غربيه، واحتوى عليه أصحاب الموفق، فهدموا ما كان يعوق عن محاربة الفجرة من قصور الفاسق وقصور أصحابه، ووسعوا مخترقات ضيقة كانت على نهر أبي الخصيب، فكان ذلك مما زاد في رعب أصحاب الخائن. ومال جميع كثير من قواده وأصحابه الذين كان يرى أنهم يقارقونه إلى طلب الأمان، فبذل ذلك لهم، فخرجوا أرسالًا، فقبلوا، وأحسن إليهم وألحقوا بنظرائهم في الأرزاق والصلات والخلع. ثم إن الموفق واظب على ادخال الشذا النهر، وتقحمه في غلمانه، وأمر بإحراق ما على حافتيه من منازل الفجرة وما في بطنه من السفن، وأحب تمرين أصحابه على دخول النهر وتسهيل سلوكه لهم لما كان يقدر من إحراق الجسر الثاني، والتوصل إلى أقصى مواضع الفجرة. فبينا الموفق في بعض أيامه - التي ألح فيها على حرب الخبيث وولوج نهر أبي الخصيب - واقف في موضع من النهر؛ وذلك في يوم الجمعة، إذ استأمن إليه رجل من أصحاب الفاجر، وأتاه بمنبر كان للخبيث في الجانب الغربي، فأمره بنقله إليه، ومعه قاض كان للخبيث في مدينته؛ فكان ذلك مما فت في أعضادهم؛ وكان الخبثث جمع ما كان بقي له من السفن البحرية وغيرها، فجعلها عند الجسر الثاني، وجمع قواده وأصحابه وأنجاد رجاله هنالك؛ فأمر الموفق بعض غلمانه بالدنو من الجسر وإحراق ما تهيأ إحراقه من المراكب البحريه التي تليه، وأخذ ما أمكن أخذه منها، ففعل ذلك المأمورون به من الغلمان، فزاد فعلهم في تحرز الفاجر ومحاماته عن الجسر الثاني، فألزم نفسه ووجميع أصحابه حفظه وحراسته خوفًا من أن تتهيأ حيلة، فيخرج الجانب الغربي عن يده، ويوطئه أصحاب الموفق، فيكون ذلك سببًا ستئصاله، فأقام الموفق بعد إحراق الجسر الأول أيامًا يعبر بجمع بعد جمع من غلمانه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، فيحرقون ما بقي من منازل الفجرة، ويقربون من الجسر الثاني فيحاربهم عليه الزنج. وقد كان تخلف منهم جمع في منازلهم في الجانب الغربي المقاربة للجسر الثاني، وكان غلمان الموفق يأتون هذا الموضع ويقفون على الطرق والمسالك التي كانت تخفي عليهم من عسكر الخبيث، فلما وقف الموفق على معرفة غلمانه وأصحابه بهذه الطريق واهتدائهم لسلوكها، عزم على القصد لإحراق الجسر الثاني ليحوز الجانب الغربي من عسكر الخبيث، وليتهيأ لأصحابه مساواتهم على أرض واحدة، لا يكون بينهما فيها حائل غير نهر أبي الخصيب، فأمر الموفق عند ذلك أبا العباس بقصد الجانب الغربي في أصحابه وغلمانه، وذلك في يوم السبت لثمان بقين من شوال سنة تسع وستين ومائتين، وتقدم إليه أن يجعل خروجه بأصحابه في موضع البناء الذي كان الفاجر سماه مسجد الجامع، وأن يأخذ الشارع المؤدي إلى الموضع الذي كان الخبيث اتخذه مصلى يحضره في أعياده؛ فإذا انتهى إلى موضع المصلى عطف منه إلى الجبل المعروف بجبل المكتنى بأبي عمرو أخي المهلبي، وضم إليه من قواد غلمانه الفرسان والرجالة زهاء عشرة آلاف، وأمره أن يرتب زيرك صاحب مقدمته في أصحابه في صحراء المصلى، ليأمن خروج كمين إن كان للفسقة من ذلك الموضع، وأمر جماعة من قواد الغلمان أن يتفرقوا في الجبال التي فيها بين الجبل المعروف بالمكتنى بأبي عمرو وبين الجبل المعروف بالمكتنى أبا مقاتل الزنجي، حتى توافوا جميعًا من هذه الجبال موضع الجسر الثاني في نهر أبي الخصيب، وتقدم إلى جماعة من الغلمان المضمومين إلى أبي العباس أن يخرجوا في أصحابهم بين دار الفاسق ودار ابنه أنكلاي، فيكون مسيرهم على شاطئ نهر أبي الخصيب وما قاربه؛ ليتصلوا بأوائل الغلمان الذين يأتون على الجبال، ويكون قصد الجميع إلى الجسر. وأمرهم بحمل الآلات من المعول والفؤوس والمناشير مع جمع من النفاطين لقطع ما يتهيأ قطعه، وإحراق ما يتهيأ إحراقه، وأمر راشدًا موه بقصد الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في مثل العدة التي كانت مع أبي العباس وقصد الجسر ومحاربة من يدافع عنه، ودخل أبو أحمد نهر أبي الخصيب في الشذا، وقد أعد منها شذوات رتب فيها من أنجاد غلمانه الناشبة والرامحة من ارتضاه، وأعد معهم من اآلات التي يقطع بها الجسر ما يحتاج إليه لذلك؛ وقدمهم أمامه في نهر أبي الخصيب، واشتبكت الحرب في الجانبين جميعًا بين الفريقين، واشتد القتال. وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه أنكلاي ابن الفاسق في جيشه، وسليمان بن جامع في جيشه، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد ومن معه الفاجر صاحب الزنج والمهلبي في باقي جيشهم، فكانت الحرب في ذلك اليوم إلى مقدار ثث ساعات من النهار. ثم انهزمت الفسقة لا يلوون على شئ، وأخذت السيوف منهم مأخذها، وأخذ من رءوس الفسقة ما لم يقع عليه إحصاء لكثرته؛ فكان الموفق إذا أتى برأس من الرءوس أمر بإلقائه في نهر أبي الخصيب، ليدع المقاتلة الشغل بالرءوس، ويجدوا في اتباع عدوهم، وأمر أصحاب الشذا الذين رتبهم في نهر أبي الخصيب بالدنو من الجسر وإحراقه، ودفع من تحامى عنه من الزنج بالسهام؛ ففعلوا ذلك وأضرموا الجسر نارًا، ووافى أنكلاي وسليمان في ذلك الوقت جريحين مهزومين، يريدان العبور إلى شرقي نهر أبي الخصيب، فحالت النار بينهما وبين الجسر، فألقوا أنفسهما ومن كان معهما من حماتهم في نهر أبي الخصيب، فغرق منهم خلق كثير وأفلت أنكلاى وسليمان بعد أن أشفيا على الهك، واجتمع على الجسر من الجانبين خلق كثير، فقطع عد أن ألقيت عليه سفينة مملوءة قصبًا مضرومًا بالنار فأعانت على قطعه وإحراقه، وتفرق الجيش في نواحي مدينة الخبيث من الجانبين جميعًا، فأحرقوا من دروهم وقصورهم وأسواقهم شيئًا كثيرًا، واستنفذوا من النساء المأسورات والأطفال ما لا يحصى عدده، وأمر الموفق المقاتلة بحملهم في سفنهم والعبور إلى الموفقية. وقد كان الفاجر سكن بعد إحراق قصره منازلة الدار المعروفة بأحمد بن موسى القلوص الدار المعروفة بمالك ابن أخت القلوص؛ فقصد جماعة من غلمان الموفق المواضع التي كان الخبيث يسكنها فدخلوها، وأحرقوا منها مواضع، وانتهبوا منها ما كان سلم للفاسق من الحريق الأول، وهرب الخبيث ولم يرقف في ذلك اليوم على مواضع أمواله، واستنفذ في هذا اليوم نسوة علويات كن محتبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنها، فأمر الموفق بحملهن إلى عسكره، وأحسن إليهن، ووصلهن، وقصد جماعة من غلمان الموفق من المستأمنة المضمومين إلى أبي العباس سجنًا كان الفاسق اتخذه في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، ففتحوه وأخرجوا منه خلقًا كثيرًا ممن كان أسر من العساكر التي كانت تحارب الفاسق وأصحابه، ومن سائر الناس غيرهم. فأخرج جميعهم في قيودهم وأغلالهم حتى أتى بهم الموفق، فأمر بفك الحديد عنهم وحملهم عنهم إلى الموفقية، وأخرج في ذلك اليوم كل ما كان بقي في نهر أبي الخصيب من شذًا ومراكب بحرية وسفن صغار وكبار وحراقات وزلات وغير ذلك من أصناف السفن من النهر إلى دجلة، وأباحها الموفق أصحابه وغلمانه مع ما فيها من السلب والنهب الذي حازوا في ذلك اليوم من عسكر الخبيث، وكان ذلك قدر جليل وخطر عظيم. وفيها كان إحدار المعتمد إلى واسط، فسار في ذي القعدة وأنزل دار زيرك. وفيها سأل أنكلاي ابن الفاسق أبا أحمد الموفق الأمان، وأرسل إليه في ذلك رسولًا وسأل أشياء فأجابه الموفق إلى كل ما سأله، ورد إليه رسوله، وعرض للموفق بعقب ذلك ما شغله عن الحرب. وعلم الفاسق أبو أنكلاي بما كان من ابنه فعذله - فيما ذكر - على ذلك، حتى ثناه عن رأيه في طلب الأمان، فعاد للجد في قتال أصحاب الموفق، ومباشرة الحرب نفسه. ذكر طلب رؤساء صاحب الزنج الأمان وفيها وجه أيضًا سليمان بن موسى الشعراني - وهو أحد رؤساء أصحاب الفاسق - من يطلل الأمان له من أبي أحمد، فمنعه أبو أحمد ذلك، لما كان سلف منه من العبث وسفك الدماء، ثم اتصل به أن جماعة من أصحاب الخبيث قد استوحشوا لمنعه ذلك الشعراني، فأجابه أبو أحمد إلى إعطائه الأمان؛ استصلاحًا بذلك غيره من أصحاب الفاسق، وأمر بتوجيه الشذا إلى الموضع الذي واعدهم الشعراني، ففعل ذلك، فخرج الشعراني وأخوه وجماعة من قواده، فحملهم في الشذا، وقد كان الخبيث حرس به مؤخر نهر أبي الخصيب، فحمله أبو العباس إلى الموفق، فمن عليه، ووفى له بأمانه، وأمر به فوصل ووصل أصحابه، وخلع عليهم، وحمل على عدة أفراس بسروجها وآلتها، ونزله وأصحابه أنزالًا سنية، وضمه وإياهم إلى أبي العباس، وجعله في جملة أصحابه، وأمره بإظهاره في الشذا لأصحاب الخائن ليزدادوا ثقة بأمانه؛ فلم يبرح الشذا من موضعها من نهر أبي الخصيب حتى استأمن من جمع كثير من قواد الزنج وغيرهم، فحملوا إلى أبي أحمد، فوصلهم وألحقهم في الخلع والجوائز بمن تقدمهم. ولما استأمن الشعراني اختل ما كان الخبيث يضبط به من مؤخره عسكره، ووهي أمره وضعف؛ فقلد الخبيث ما كان إلى الشعراني من حفظ ذلك شبل بن سالم، وأنزله مؤخر نهر أبي الخصيب، فلم يمس الموفق من اليوم الذي أظهر فيه الشعراني لأصحاب الخبيث حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان، ويسأل أن يرقف شذوات عند دار ابن سمعان؛ ليكون قصده فيمن يصحبه من قواده ورجاله في الليل إليها. فأعطى الأمان، ورد إليه رسوله، ووقفت له الشذا في الموضع الذي سأل أن توقف له؛ فوافاها في آخر الليل ومعه عياله وولده وجماعة من قواده ورجاله، وشهر أصحابه سلاحهم؛ وتلقاهم قوم من الزنج قد كان الخبيث وجههم لمنعه من المصير إلى الشذا. وقد كان خبره انتهى إليه، فحاربهم شبل وأصحابه، وقتلوا منهم نفرًا؛ فصاروا إلى الشذا سالمين، فصيرهم بهم إلى قصر الموفق بالموفقية، فوافاه وقد ابتلج الصبح؛ فأمر الموفق أن يوصل شبل بصلة جزيلة، وخلع عليه خلعًا كثيرة، وحمله على عدة أفراس بسروجها ولجمها. وكان شبل هذا من عدد الخبيث وقدماء أصحابه وذي الغناء والبلاء في نصرته، ووصل أصحاب شبل، وخلع عليهم، وأسنيت له ولهم الأرزاق والأنزال، وضموا جميعًا إلى قائد من قواد غلمان الموفق، ووجه به وبأصحابه في الشذا، فوقفوا بحيث يراهم الخبيث وأشياعه. فعظم ذلك على الفاسق وأوليائه، لما رأو من رغبة رؤسائهم في اغتنام الأمان، وتبين الموفق من مناصحة شبل وجودة فهمه ما دعاه إلى أن يستكفيه بعض الأمورالتي يكيد بها الخبيث؛ فأمره بتبيت عسكر الخبيث في جمع أمر بضمهم إليه من أبطال الزنج المستأمنة، وأفرده وإياهم بما أمرهم به من البيات، لعلمهم بالمسالك في عسكر الخبيث. فنفذ شبل لما أمر به، فقصد موضعًا كان عرفه، فكسبه في السحر، فوافى به جمعًا كثيفًا من الزنج في عدة، من قوادهم وحماتهم، قد كان الخبيث رتبهم في الدفع عن الدار المعروفة بأبي عيسى، وهي منزل الخبيث حينئذ، فأوقع بهم وهم غارون، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر جمعًا من قواد الزنج، وأخذ لهم سلاحًا كثيرًا، وانصرف ومن كان معه سالمين، فأتى بهم الموفق، فأحسن جائزتهم، وخلع عليهم، وسور جماعة منهم. ولما أوقع أصحاب شبل بأصحاب الخائن هذه الوقعة ذعرهم ذلك ذعرًا شديدًا، وأخافهم ومنعهم النوم، فكانوا يتحارسون في كل ليلة، ولا تزال النفرة تقع في عسكرهم لما استشعروا من الخوف، ووصل إلى قلوبهم من الوحشة؛ حتى لقد كان ضجيجهم وتحارسهم يسمع بالموفقية. ثم أقام الموفق بعد ذلك ينفذ السرايا إلى الخبثة ليلًا ونهارًا من جانبي نهر أبي الخصيب، ويكدهم بالحرب، ويسهر ليلهم، ويحول بينهم وبين طلب أقواتهم، وأصحابه في ذلك يتعرفون المسالك، ويتدربون بالوغول في مدينة الخبيث وتقحمها، ويصرون من ذلك على ما كانت الهيبة تحول بينهم وبينه؛ حتى إذا ظن الموفق أن قد بلغ أصحابه ما كانوا يحتاجون إليه، صح عزمه على العبور إلى محاربة الفاسق في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلسًا عامًا، وأمر بإحضار قواد المستأمنة ووجوه فرسانهم ورجالتهم من الزنج والبيضان، فأدخلوا إليه، ووقفوا بحيث يسمعون كمه. ثم خاطبهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل وانتهاك المحارم، وما كان الفاسق دين لهم من معاصي الله؛ وأن ذلك قد كان أباح له دماءهم، وأنه قد غفر له الزلة، وعفا عن الهفوة، وبذل الأمان، وعاد على من لجأ إليه بفضله، فأجزل الصلات، وأسنى الأرزاق، وألحقهم بالأولياء وأهل الطاعة؛ وأن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته؛ وأنهم لن يأتوا شيئًا يتعرضون به لطاعة ربهم والاستدعاء لرضا سلطانهم، أولى بهم من الجد والاجتهاد في مجاهدة عدو الله الخائن وأصحابه، وأنهم من الخبرة بمسالك عسكر الخبيث ومضايق طرق مدينته والمعاقل التي أعدها للهرب إليها على ما ليس عليه غيرهم؛ فهم أحرياء أن يمحضوه نصيحتهم ويجتهدوا في الولوج على الخبيث، والتوغل إليه في حصوته، حتى يمكنهم الله منه ومن أشياعه؛ فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، وإن من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله وتصغير منزلته، ووضع مرتبته. فارتفعت أصواتهم جميعًا بالدعاء للوفق والإقرار بإحسانه. وبما هم عليه من صحة الضمائر في السمع والطاعة والجد في مجاهدة عدوه، وبذل دمائهم ومهجهم في كل ما يقر بهم منه، وأن ما دعاهم إليه قد قوى نيتهم، ودلهم على ثقته بهم وإحلاله إياهم محل أوليائه، وسألوه أن يفردهم بناحية يحاربون فيها، فيظهر من حسن نياتهم ونكايتهم في العدو ما يعرف به إخلاصهم وتورعهم عما كانوا عليه من جهلهم فأجابهم الموفق إلى ما سألوا، وعرفهم حسن موقع ما ظهر له من طاعتهم، وخرجوا من عنده مبتهجين بما أجيبوا به من حسن القول وجميل الوعد. خبر دخول الموفق مدينة صاحب الزنج وتخريب داره وفي ذي القعدة من هذه السنة دخل الموفق مدينة الفاسق بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب فخرب داره، وانتهب ما كان فيها. ذكر الخبر عن هذه الوقعة ذكر أن أبا أحمد لما عزم على الهجوم على الفاسق في مدينته بالجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، أمر بجمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره؛ إذ كان ما في عسكره مقصرًا عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذا والسميريات والرقيات التي كانت تعبر فيها الخيل، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح، ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد ومن يحضر من أصحابه من السميريات والجريبيات والزواريق التي فيها الملاحون الراتبة، فلما تكاملت له السفن والمعابر، ورضى عددها، تقدم إلى أبي العباس وإلى قواد مواليه وغلمانه في التأهب والاستعداد للقاء عدوهم، وأمر بتفرقة السفن والمعابر إلى حمل الخيل والرجالة، وتقدم إلى أبي العباس في أن يكون خروجه في جيشه في الجانب الغري من نهر أبي الخصيب، وضم إليه قوادًا من قواد غلمانه في زهاء ثمانية آلاف من أصحابهم، وأمره أن يعمد مؤخر عسكر الفاسق حتى يتجاوز دار المعروف بالمهلبي، وقد كان الخبيث حصنها وأسكن بقربها خلقًا كثيرًا من أصحابه؛ ليأمن على مؤخر عسكره، وليصعب على من يقصده المسلك إلى هذا الموضع. فأمر أبو أحمد أبا العباس بالعبور بأصحابه إلى الجانب الغربي من نهر أبي الخصيب، وأن يأتي هذه الناحية من ورائها، وأمر راشدًا مولاه بالخروج في الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب في عدد كثير من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفًا، وأمر بعضهم بالخروج في ركن دار المعروف بالكرنبائي كاتب المهلبي، وهي على قرنة نهر أبي الخصيب في الجانب الشرقي منه، وأمرهم أن يجعلوا مسيرهم على شاطئ النهر حتى يوافوا الدار التي نزلها الخبيث، وهي الدار المعروفة بأبي عيسى. وأمر فريقًا من غلمانه بالخروج على فوهة النهر المعروف بأبي شاكر، وهو أسفل من نهر أبي الخصيب، وأمر آخرين منهم بالخروج في أصحابهم على فوهة النهر المعروف بجوى كور، وأوعز إلى الجميع في تقديم الرجالة أمام الفرسان، وأن يزحفوا بجميعهم نحو الخائن؛ فإن أظفرهم الله به وبمن فيها من أهله وولده وإلا قصدوا دار المهلبي ليلقاهم هناك من أمر العبور مع أبي العباس، فتكون أيديهم يدًا واحدة على الفسقة. فعمل أبو العباس وراشد وسائر قواد الموالي والغلمان بما أمروا به، فظهروا جميعًا، وأبرزوا سفنهم في عشية يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وسار الفرسان يتلو بعضهم بعضًا، ومشت الرجالة وسارت السفن في دجلة منذ صلاة الظهر من يوم الاثنين إلى آخر وقت عشاء اخرة من ليلة الثلاثاء، فانتهوا إلى موضع من أسفل العسكر؛ وكان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقية ما فيه من خراب ودغل، وطم سواقيه وأنهاره حتى استوى واتسع، وبعدت أقطاره. واتخذ فيه قصرًا وميدانًا لعرض الرجال والخيل بإزاء قصر الفاسق، وكان غرضه في ذلك إبطال ما كان الخبيث يعد به أصحابه من سرعة انتقاله عن موضعه؛ فأراد أن يعلم الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين عدوه؛ فبات الجيش ليلة الثلاثاء في هذا الموضع بإزاء عسكر الفاسق؛ وكان الجميع زهاء خمسين ألف رجل من الفرسان والرجالة في أحسن زي وأكمل هيئة، وجعلوا يكبرون ويهللون، ويقرءون القرآن، ويصلون، ويوقدون النار. فرأى الخبيث من كثرة الجمع والعدة والعدد ما بهر عقله وعقول أصحابه؛ وركب الموفق في عشية يوم الاثنين الشذا، وهي يومئذ مائة وخمسون شذاة قد شحنها بأنجاد غلمانه ومواليه الناشبة والرامحة، ونظمها من أول عسكر الخائن إلى آخره؛ لتكون حصنًا للجيش من ورائه، وطرحت أناجرها بحيث تقرب من الشط، وأفرد منها شذوات اختارها لنفسه، ورتب فيها من خاصة قواد غلمانه ليكونوا معه عند تقحمه نهر أبي الخصيب؛ وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي نهر أبي الخصيب بمسيره، ويقفوا بوقوفه، ويتصرفوا فيما رأى أن يصرفهم فيه في وقت الحرب. وغدا الموفق يوم الثلاثاء لقتال الفاسق صاحب الزنج، وتوجه كل رئيس من رؤساء قواده نحو الموضع الذي أمر بقصده، وزحف الجيش نحو الفاسق وأصحابه، فتلقاهم الخبيث في جيشه، واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وحامى الفسقة عما كانوا اقتصروا عليه من مدينتهم أشد محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب الموفق، وصدقوا القتال؛ فمن الله عليهم بالنصر، وهزم الفسقة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا من مقاتلتهم وأنجادهم جمعًا كثيرًا. وأتي الموفق بالأسارى، فأمر بهم فضربت أعناقهم في المعركة، وقصد بجمعه لدار الفاجر فوافاها، وقد لجأ الخبيث إليها، وجمع أنجاج أصحابه للمدافعة عنها؛ فلما لم يغنوا عنها شيئًا أسلمها، وتفرق أصحابه عنها، ودخلها غلمان الموفق، وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وأثاثه؛ فانتبهوا ذلك كله، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث؛ وكانوا أكثر من مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هاربًا نحو دار المهلبي، لا يلوى على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث، وأتي الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فأمر بحملهم إلى الموفقية والتوكيل بهم، والإحسان إليهم. وكان جماعة من قواد أبي العباس عبروا نهر أبي الخصيب، وقصدوا الموضع الذي أمروا بقصده من دار المهلبي، ولم ينتظروا إلحاق أصحابهم بهم، فوافوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها أكثر الزنج بعد انكشافهم عن دار الخبيث؛ المهلبي من حرم المسلمين وأولاده منهن، وجعل كل من ظفر بشيء انصرف به إلى سفينته في نهر أبي الخصيب. وتبين الزنج قلة من بقي منهم وتشاغلهم بالنهب، فخرجوا عليهم من عدة مواضع قد كانوا كمنوا فيها، فأزالوهم عن مواضعهم؛ فانكشفوا، وأتبعهم الزنج حتى وافوا نهر أبي الخصيب وقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعةً يسيرة، وارتجعوا بعض ما كانوا من النساء والمتاع. وكان فريق من غلمان الموفق وأصحابه الذين قصدوا دار الخبيث في شرقي نهر أبي الخصيب تشاغلوا بالنهب وحمل الغنائم إلى سفنهم؛ فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم، فكشفوهم واتبعوا آثارهم إلى الموضع المعروف بسوق الغنم من عسكر الزنج، فثبتت جماعة من قواد الغلمان في أنجاد أصحابهم وشجعانهم، فردوا وجوه الزنج حتى ثاب الناس، وتراجعوا إلى مواقفهم، ودامت الحرب بينهم إلى وقت صلاة العصر فأمر أبو أحمد عند ذلك غلمانه أن يحملوا على الفسقة بأجمعهم حملةً صادقة، ففعلوا ذلك، فانهزم الزنج وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى دار الخبييث؛ فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف غلمانه وأصحابه على إحسانهم، فأمرهم بالرجوع، فانصرفوا على هدر وسكون؛ فأقام الموفق في النهر ومن معه في الشذا يحميهم؛ حتى دخلوا سفنهم، وأدخلوها خيلهم، وأحجم الزنج عن اتباعهم لما نالهم في آخر الوقعة. وانصرف الموفق ومعه أبو العباس وسائر قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق، واستنقذوا جمعًا من النساء اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيرًا، جعلن يخرجن في ذلك اليوم أرسالًا إلى فوهة نهر أبي الخصيب، فيحملن في السفن إلى الموفقية إلى انقضاء الحرب. وكان الموفق تقدم إلى أبي العباس في هذا اليوم أن ينفذ قائدًا من قواده في خمس شذوات إلى مؤخر عسكر الخبيث بنهر أبي الخصيب، لإحراق بيادر ثم جليل قدرها، كان الخبيث يقوت أصحابه منها من الزنج وغيرهم، ففعل ذلك وأحرق أكثره. وكان إحراق ذلك من أقوى الأشياء على ادخال الضعف على الفاسق وأصحابه، إذ لم يكن لهم معول في قوتهم غيره؛ فأمر أبو أحمد بالكتاب بما تهيأ له على الخبيث وأصحابه في هذا اليوم إلى الآفاق ليقرأ على الناس، ففعل ذلك. وفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة من هذه السنة وافى عسكر أبي أحمد صاعد بن مخلد كاتبه منصرفًا إليه من سامرا، ووافى معه بجيش كثيف قيل إن عدد الفرسان والرجال الذين قدموا كان زهاء عشرة آلاف، فأمر الموفق بإراحة أصحابه وتجديد أسلحتهم وإصلاح أمورهم؛ وأمرهم بالتأهب لمحاربة الخبيث. فأقام أيامًا بعد قدومه لما أمر به. فهم في ذلك من أمرهم؛ إذ ورد كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون مع بعض قواده، يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه؛ ليشهد عليه حرب الفاسق. فأجابه إلى ذلك، فأذن له في القدوم، وأخر ما كان عزم عليه من مناجرة الفاجر انتظارًا منه قدوم لؤلؤ؛ وكان لؤلؤ مقيمًا بالرقة في جيش عظيم من الفراغنة والأتراك والروم والبربر والسودان وغيرهم، من نخبة أصحاب ابن طولون؛ فلما ورد على لؤلؤ كتاب أبي أحمد بالإذن له في القدوم عليه، شخص من ديار مضر حتى ورد مدينة السلام في جميع أصحابه، وأقام بها مدة، ثم شخص إلى أبي أحمد فوافاه بعسكره يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجلس له أبو أحمد، وحضر ابنه أبو العباس وصاعد والقواد على مراتبهم؛ فأدخل عليه لؤلؤ في زي حسن، فأمر أبو العباس أن ينزل معسكرًا كان أعد بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في أصحابه، وتقدم إليه في مباكرة المصير إلى دار الموفق، ومعه قواده وأصحابه للسلام عليه. فغدا لؤلؤ يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم، وأصحابه معه في السواد، فوصل إلى الموفق وسلّم عليه فقربه وأدناه، ووعده وأصحابه خيرًا، وأمر أن يخلع عليع وعلى خمسين ومائة قائد من قواده، وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة، وحمل بين يديه من أصناف الكسي والأموال في البدور، ما يحمله مائة غلام؛ وأمر لقواده من الصلات والحملان والكسي على قدر محل كل إنسان منهم عنده، وأقطعة ضياعًا جليلة القدر، وصرفه إلى عسكره بإزاء نهر أبي الخصيب بأجمل حال، وأعدت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات، وأمره برفع جرائد لأصحابه بمبلغ أرزاقهم على مراتبهم؛ فرفع ذلك؛ فأمر لكل إنسان منهم بالضعف مما كان يجري له وأمر لهم بالعطاء عند رفع الجرائد، ووفوا ما رسم لهم. ثم تقدم إلى لؤلؤ في التأهب والاستعداد للعبور إلى غربي دجلة لمحاربة الفاسق وأصحابه؛ وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت القناطر والجسور التي كانت عليه أحدث سكرًا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط السكر بابًا ضيقًا ليحتد فيه جرية الماء، فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى أبو أحمد أن حربه لا تتهيأ له إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الفسقة عنه، وجعلوا يزيدون فيه في كل يوم وليلة، وهو متوسط دورهم، والمؤونة لذلك تسهل عليهم وتغلظ على من حاول قلعه. فرأى أبو أحمد أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليضروا لمحاربة الزنج، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤًا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، وأمر بإحضار الفعلة لقلعه، ففعل. فرأى الموفق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدة اليسيرة منهم، في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سره. فأمر لؤلؤًا بصرف أصحابه إشفاقًا عليهم، وضنًا بهم، فوصلهم الموفق، وأحسن إليهم، وردهم إلى معسكرهم، وألح الموفق على هذا السكر؛ فكان يحارب المحامين عنه من أصحاب الخبيث بأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعلمون في قلعه، ويحارب الفاجر وأشياعه من عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتلتهم، ويستأمن إليه الجماعة من رؤسائهم. وكانت قد بقيت للخبيث وأصحابه أرضون من ناحية نهر الغربي، كان لهم فهيها مزارع وخضر وقنطرتان على هر الغربي، يعبرون عليها إلى هذه الأرضين، فوقف أبو العباس على ذلك فقصد لتلك الناحية، واستأذن الموفق في ذلك، فأذن له، وأمره باختيار الرجال، وأن يجعلهم شجعاء أصحابه وغلمانه؛ ففعل أبو العباس ذلك، وتوجه نحو نهر الغربي، وجعل زيرك كمينًا في جمع من أصحابه في غربي النهر، وأمر رشيقًا غلامه أن يقصد في جمع كثير من أنجاد رجاله ومختاريهم للنهر المعروف بنهر العميسيين؛ ليخرج في ظهور الزنج وهم غارون، فيوقع بهم في هذه الأرصين. وأمر زيرك أن يخرج في وجوههم إذا أحس بانهزامهم من رشيق. وأقام أبو العباس في عدة شذوات قد انتخب مقاتلتها واختارهم في فوهة نهر الغربي، ومعه من غلمانه البيضان والسودان عدد قد رضيه؛ فلما ظهر رشيق للفجرة في شرقي نهر الغربي، راعهم فأقبلوا يريدون العبور إلى غربيه ليهربوا إلى عسكرهم؛ فلما عاينهم أبو العباس اقتحم النهر بالشذوات، وبث الرجالة على حافيته، فأدركوهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل منهم في النهر وعلى ضفتيه خلق كثير، وأسر منهم أسرى. وأفلت آخرون، فتلقاهم زيرك في أصحابه فقتلوهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأخذ أصحاب أبي العباس من أسلحتهم ما ثقل عليهم حمله؛ حتى ألقوا أكثره. وقطع أبو العباس القنطرتين، وأمر بإخراج ما كان فيهما من البدود والخشب إلى دجلة وانصرف إلى الموفق بالأسارى والرءوس، فطيف بها في العسكر، وانقطع عن الفسقة ما كانوا يرتفقون به من المزارع التي كانت بنهر الغربي. وفي ذي الحجة من هذه السنة. أعني سنة تسع وستين ومائتين - أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد. وفيها سمي صاعد ذا الوزارتين. وفي ذي الحجة منها كانت وقعة بين قائدين وجيش معهما لابن طولون كان أحدهما يسمى محمد بن السراج والآخر منهما يعرف بالغنوي، كان ابن طولون وجههما، فوافيا مكة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعدة في أربعمائة وسبعين فارسًا وألفي راجل؛ فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤاسء سبعة سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة إذ ذاك ببستان ابن عامر، فوافى مكة جعفر بن الباغمردي لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو من مائتي فارس، وتلقاه هارون في مائة وعشرين فارسًا ومائتي أسود وثلاثين فارسًا من أصحاب عمرو بن الليث ومائتي راجل ممن قدم من العراق، فقوي بهم جعفر فالتقوا هم وأصحاب ابن طولون، وأعان جعفرًا حاج أهل خراسان، فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال، وسلبوا دوابهم وأموالهم، ورفع جعفر السيف، وحوى جعفر مضرب الغنوي. وقيل: إنه كان فيه مائتا ألف دينار، وآمن المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام بلعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي ولم يبرح إسحاق بن كنداج - وقد ولي المغرب كله في هذه السنة - سامرا حتى انقضت السنة. ثم دخلت سنة سبعين ومائتين ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة ففي المحرم منها كانت وقعة بين أبي أحمد وصاحب الزنج أضعفت أركان صاحب الزنج. ذكر الخبر عن قتل صاحب الزنج وأسر معه وفي صفر منها قتل الفاجر، وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني واستريح من أسباب الفاسق. ذكر الخبر عن هاتين الوقعتين قد ذكرنا قبل أمر السكر الذي كان الخبيث أحدثه، وما كان من أمر أبي أحمد وأصحابه في ذلك. ذكر أن أبا أحمد لم يزل ملحًا على الحرب على ذلك السكر حتى تهيأ له فيه ما أحب، وسهل المدخل للشذا في نهر أبي الخصيب في المد والجزر، وسهل لأبي أحمد في موضعه الذي كان مقيمًا فيه كل ما أراده من رخص الأسعار وتتابع المير وحمل الأموال إليه من البلدان ورغبى الناس في جهاد الخبيث ومن معه من أشياعه؛ فكان ممن صار إليه من الموعه أحمد بن دينار عامل إيذج ونواحيها من كور الأهواز في جمع كثير من الفرسان والرجالة؛ فكان يباشر الحرب بنفسه وأصحابه إلى أن قتل الخبيث. ثم قدم بعده من أهل البحرين - فيما ذكر - خلق كثير؛ زهاء ألفى رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، فجلس لهم أبو أحمد ودخل إليه رئيسهم ووجوههم؛ فأمر أن يخلع عليهم؛ واعترض رجالهم أجمعين. وأمر بإقامة الأنزال لهم، وورد بعدهم زهاء ألف رجل من كورفارس، يرأسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة، فجلس لهم الموفق، فوصل إليه هذا الشيخ ووجوه أصحابه، فأمر لهم بالخلع، وأقر لهم بالإنزال، ثم تابعت المطوعة من البلدان، فلما تيسر له ما أراد من السكر الذي ذكرنا، عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإعداد السفن والمعابر وإصلاح آلة الحرب في الماء وعلى الظهر، واختار من يثق ببأسه ونجدته في الحرب فارسًا وراجلًا؛ لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة الخنادق والأنهار بها؛ فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس، ومن الرجالة خمسين ألفًا أو يزيدون، سوى من عبر من المطوعة وأهل العسكر، ممن ديوان له، وخلف بالموفقية من لم يتسع السفن بحمله جمًا كثيرًا أكثرهم من الفرسان. وتقدم الموفق إلى أبي العباس في القصد للموضع الذي كان صار إليه في يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي العقدة سنة تسع وستين ومائتين من الجانب الشرقي بإزاء دار المهلبي في أصحابه وغلمانه ومن ضمهم إليه من الخيل والرجالة والشذا وأمر صاعد بن مخلد بالخروج على النهر المعروف بأبي شاكر في الجانب الشرقي أيضًا، ونظم القواد من مواليه وغلمانه من فوهة نهر أبي الخصيب إلى نهر الغربي. وكان فيمن خرج من حد دار الكرنبائي إلى نهر أبي شاكر راشدًا ولؤلؤ، موليًا الموفق، في جمع من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفًا، يتلو بعضهم يعضًا، ومن نهر أبي شاكر إلى النهر المعروف بجوى كور جماعة من قواد الموالي والغلمان، ثم من نهر جوى كور إلى نهر الغربي مثل ذلك، وأمر شبلا أن يقصد في أصحابه ومن ضم إليه إلى نهر الغربي، فيأتي منه مؤازيًا لظهر دار المهلبي، فيخرج من ورائها عند اشتباك الحرب، وأمر الناس أن يزحف بجميعهم إلى الفاسق، لا يتقدم بعضهم بعضًا؛ وجعل لهم أمارة الزحف؛ تحريك علم أسود أمر بنصه على دار الكرنبائي بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع منها مشيد عال، وأن ينفخ لهم ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجعل بعض من كان على النهر المعروف بجوى كور يزحف قبل ظهور العلامة؛ حتى قرب من دار المهلبي، فلقيه وأصحابه الزنج فردوهم إلى مواضعهم، وقتلوا منهم جمعًا، ولم يشعر سائر الناس بما حدث على هؤلاء المتسرعين للقتال لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم بعض. فلما خرج القواد ورجالهم من المواضع التي أمروا بالخروج منها، واستوى الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم والنفخ في البوق، ودخل النهر في الشذا، وزحف الناس يتلو بعضهم بعضًا، فلقيهم الزنج قد حشدوا وجموا واجترءوا بما تهيأ لهم على من كان تسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، فأزالوهم عن مواضعم بعد كرات كانت بين الفريقين، صرع فيها منهم جمع كثير. وصبر أصحاب أبي أحمد، فمن الله عليهم بالنصر، ومنحهم أكتاف الفسقة، فولوا منهزمين، وأتبعهم أصحاب الموفق، يقتلون ويأسرون. وأحاط أصحاب أبي أحمد بالفجرة من كل موضع، فقتل الله منهم في ذلك اليوم ما لا يحيط به الإحصاء، وغرق منهم في النهر المعروف بجوى كور مثل ذلك، وحوى أصحاب الموفق مدينة الفاسق بأسرها، واستنفذوا من كان فيها من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وأخويه الخليل ومحمد ابني أبان وسليمان بن جامع وأولادهم، وعبر بهم إلى المدينة الموفقية. ومضى الفاسق في أصحابه ومعه المهلبي وابنه أنكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هرابًا، عامدين لموضع قد كان الخبيث رآه لنفسه ومن معه ملجأ إذا غلبوا على مدينته؛ وذلك على النهر المعروف بالسفياني. وكان أصحاب أبي أحمد حين انهزم الخبيث، وظفروا بما ظفروا به، أقاموا عند دار المهلبي الواغلة في نهر أبي الخصيب، وتشاغلوا بانتهاب ما كان في الدار وإحراقها وما يليها، وتفرقوا في طلب النهب؛ وكل ما بقي للفاسق وأصحابه مجموعًا في تلك الدار. وتقدم أبو أحمد في الشذا قاصدًا للنهر المعروف بالسفياني، ومعه لؤلؤ في أصحابه الفرسان والرجالة، فانقطع عن باقي الجيش، فظنوا أنه قد انصرف، فانصرفوا إلى سفنهم بما حووا، وانتهى الموفق فيمن معه إلى معسكر الفاسق وأصحابه وهم منهزمون؛ فأتبعهم لؤلؤ وأصحابه حتى عبروا النهر المعروف بالسفياني، فاقتحم لؤلؤ النهر بفرسه، وعبر أصحابه خلفه، ومضى الفاسق حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه، فكشفوهم، فولوا هاربين وهم يتبعونهم، حتى عبروا النهر المعروف بالقريري، وعبر لؤلؤ أصحابه خلفهم وألجئوهم إلى النهر المعروف بالمساوان، فعبروه واعتصموا بجبل وراءه. وكان لؤلؤ وأصحابه الذين انفردوا بهذا الفعل دون سائر الحيش، فانتهى بهم الجد في طلب الفاسق وأشياعه إلى ذها الموضع الذي وصفنا في آخر النهار، فأمره الموفق بالانصراف محمود الفعل، فحمله الموفق معه في الشذا، وجدد له من البر والكرامة ورفع المرتبة، لما كان منه في أمر الفسقة حسب ما كان مستحقًا. ورجع الموفق في الشذا في نهر أبي الخصيب وأصحاب لؤلؤ يسايرونه. فلما حاذى دار المهلبي، لم ير بها أحدًا من أصحابه، فعلم أنهم قد انصرفوا، فاشتد غيظه عليهم، وسار قاصدًا لصقره، وأمر لؤلؤ بالمضي بأصحابه إلى عسكره، وأيقن بالفتح لما رأى من أمارته، واستبشر الناس جميعًا بما هيأ الله من هزيمة الفاسق وأصحابه وإخراجهم عن مدينتهم، واستباحة كل ما كان لهم من مال وذخيرة وسلاح، واستنفاذ جميع من كان في أيديهم من الأسرى. وكان في نفس أبي أحمد على أصحابه من الغيظ لمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث وقفهم، فأمر بجمع قواد مواليه وغلمانه ووجوههم؛ فجمعوا له، فوبخهم على ما كان منهم وعجزهم، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما توهموا من انصرافه، وأنهم لم يعلموا بمسيره إلى الفاسق وانتهائه إلى حيث انتهى من عسكره؛ وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ولم يبرحوا موضعهم حتى تحالفوا وتعاقدوا على ألا ينصرف منهم أحدًا إذا توجهوا نحو الخبيث حتى يظفرهم الله به؛ فإن أعياهم ذلك أقاموا بمواضعهم حتى يحكم الله بينهم وبينه. وسألوا الموفق أن يأمر برد السفن التي يعبرون فيها إلى الموفقية عند خروجهم منها للحرب، لتنقطع أطماع الذين يريدون الرجوع عن حرب الفاسق من ذلك، فجزاهم أبو أحمد الخير على تنصلهم من خطئهم، ووعدهم الإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، وأن يعظوا أصحابهم بمثل الذي وعظوا به. وأقام الموفق بعد ذلك يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لإصلاح ما يحتاج إليه؛ فلما كمل ذلك تقدم إلى من يثق إليه من خاصته وقواد غلمانه ومواليه، بما يكون عليه عملهم في وقت عبورهم. وفي عشي يوم الجمعة، تقدم إلى أبي العباس وقواد غلمانه ومواليه بالنهوض إلى مواضع سماها لهم؛ فأمر أبا العباس بالقصد في أصحابه إلى الموضع المعروف بعسكر ريحان، وهو بين النهر المعروف بالسفياني والموضع الذي لجأ إليه، وأن يكون سلوكه بجيشه في النهر المعروف بنهر المغيرة؛ حتى يخرج بهم في معترض نهر أبي الخصيب، فيوافي بهم عسكر ريحان من ذلك الوجه، وأنفذ قائدًا من قواد غلمانه السودان، وأمره أن يصير إلى نهر الأمير فيعترض في المنصف منه، وأمر سائر قواده وغلمانه بالمبيت في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء عسكر الفاسق متأهبين للغدو على محاربته. وجعل الموفق يطوف في الشذا على القواد ورجالهم في عشي يوم الجمعة وليلة السبت، ويفرقهم في مراكزهم والمواضع التي رتبهم فيها من عسكر الفاسق، ليباكروا المصير إليها على ما رسم لهم. وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فوافى نهر أبي الخصيب في الشذا، فأقام بها حتى تكامل عبور الناس وخروجهم عن سفنهم، وأخذ الفرسان والرجالة مراكزهم، وأمر بالسفن والمعابر فردت إلى الجانب الشرقي، في الزحف إلى الفاسق، وسار يقدمهم حتى وافى الموضع الذي قدر أن يثبت الفسقة فيه لمدافعة الجيش عنهم. وقد كان الخائن وأصحابه لخبثهم رجعوا إلى المدينة يوم الاثنين بعد انصراف الجيش عنها، وأقاموا بها، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام، وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه ورجالتهم قد سبقوا أعظم الجيش، فأوقعوا بالفاجر وأصحابه وقعةً أزالوهم بها عن مواقفهم؛ فانهزموا وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، وأتبعهم الجيش يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الفاسق في جماعة من حماته من قواد الجيش ورجالهم، وفيهم المهلبي. وفارقه ابنه أنكلاي وسليمان بن جامع، فقصد لكل فريق ممن سمينا جمع كثيف من موالي الموفق وغلمانه الفرسان والرجالة، ولقي من كان رتبة الموفق من أصحاب أبي العباس في الموضع المعروف بعسكر الريحان المنهزمين من أصحاب الفاجر، فوضعوا فيهم السلاح. ووافى القائد المرتب في نهر الأمير، فاعترض الفجرة، فأوقع بهم. وصادف سليمان بن جامع فحاربه، فقتل جماعة من حماته، فظفر بسليمان فأسره، فأتى به الموفق بغير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسر سليمان، وكثر التكبير والضجيج، وأيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء عنه. وأسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمذاني - وكان أحد أمراء جيوشه - وأسر نادر الأسود المعروف بالحفار، وهو أحد قدماء أصحاب الفاجر - فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وتصييرهم في شذاة لأبي العباس. ففعل ذلك. ثم إن الزنج الذين انفردوا مع الفاسق عطفوا على الناس عطفة أزالوهم بها عن مواقفهم، ففتروا لذلك، وأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث، وأمعن في نهر أبي الخصيب، فشد ذلك من قلوب مواليه وغلمانه، وجدوا في الطلب معه. وانتهى الموفق إلى نهر أبيالخصيب، فوافاه البشير بقتل الفاجر؛ ولم يلبث أن وافاه بشير آخر ومعه كف زعم أنها كفه، فقوي الخبر عنده بعض القوة. ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض على فرس، ومعه رأس الخبيث، فأدناه منه، فعرضه على جماعة ممن كان بحضرته من قواد المستأمنة، فعرفوه، فخر لله ساجدًا على ما أولاه وأبلاه، وسجد أبو العباس وقواد موالي الموفق وغلمانه شكرًا لله، وأكثروا حمد الله والثناء عليه، وأمر الموفق برفع رأس الفاجر على قناة ونصبه بين يديه، فتأمله الناس وعرفوا صحة الخبر بقتله، فارتفعت أصواتهم بالحمد لله. وذكر أن أصحاب الموفق لما أحاطوا بالخبيث، ولم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي، ولي عنه هاربًا وأسلمه. وقصد النهر المعروف بنهر الأمير، فقذف نفسه فيه يريد النجاة، وقبل ذلك ما كان ابن الخبيث أنكلاي فارق أباه، ومضى يؤم النهر المعروف بالديناري، فأقام فيه متحصنًا بالأدغال والآجام، وانصرف الموفق ورأس الخبيث منصوب بين يديه على قناة في شذاة، يخترق بها نهر أبي الخصيب، والناس في جنبتي النهر ينظرون إليه حتى وافى دجلة، فخرج إليها فأمر برد السفن التي كان عبر بها في أول النهار إلى الجانب الشرقي من دجلة، فردت ليعبر الناس فيها. ثم سار ورأس الخبيث بين يديه على القناة وسليمان بن جامع والهمداني مصلوبان في الشذا، حتى وافى قصره بالموفقية، وأمر أبا العباس بركوب الشذا وإقرار الرأس وسليمان والهمداني على حالهم والسير بهم إلى نهر جطى، وهو أول عسكر الموفق، ليقع عليهم عيون الناس جميعًا في العسكر؛ ففعل ذلك وانصرف إلى أبيه أبي أحمد. فأمر بحبس سليمان والهمداني وإصلاح الرأس وتنقيته. وذكر أنه تتابع مجئ الزنج الذين كانوا أقلموا مع الخبيث وآثروا صحبته، فوافى ذلك اليوم زهاء ألف منهم، ورأى الموفق بذل الأمان، لما رأى من كثرتهم وشجاعتهم، لئ تبقى منهم بقية تخاف معرتها على الإسلام وأهله، فكان من وافى من قواد الزنج ورجالهم في بقية يوم السبت وفي يوم الأحد الاثنين زهاء خمسة آلاف زنجي، وكان قد قتل في الوقعة وغرق وأسر منهم خلق كثير لا يرقف على عددهم، وانقطعت منهم قطعة زهاء ألف زنجي مالوا نحو البر، فمات أكثرهم عطشًا، فظفر الأعراب بمن سلم منهم واسترقوهم. وانتهى إلى الموفق خبر المهلبي وأنكلاي ومقامهما بحيث أقاما مع من تبعهما من جلة قواد الزنج ورجالهم، فبث أنجاد غلمانه في طلبهم، وأمرهم بالتضيق عليهم؛ فلما أيقنوا بأن لا ملجأ أعطوا بأيديهم، فظفر بهم الموفق وبمن معهم، حتى لم يشذ أحد. وقد كانوا على نحو العدة التي خرجت إلى الموفق بعد قتل الفاجر في الأمان، فأمر الموفق بالاستيثاق من المهلبي وأنكلاي وحبسهما، ففعل. وكان فيمن هرب من عسكر الخبيث يوم السبت ولم يركن إلى الأمان قرطاس الذي كان رمى الموفق بالسهم، فانتهى به الهرب إلى رامهرمز، فعرفه رجل قد كان رآه في عسكر الخبيث فدل عليه عامل البلد. فأخذه وحمله في وثاق، فسأل أبو العباس إياه أن يوليه قتله فدفعه إليه فقتله. ذكر خبر استئمان درمويه الزنجي إلى أبي أحمد وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه هذا - فيما ذكر - من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الفاجر وجهه قبل هلاكه بمدة طويلة إلى أواخر نهر الفهرج، وهي من البصرة في غربي دجلة، فأقام هنالك بموضع وعر كثير النخل والدغل والآجام متصل بالبطيحة، وكان درمويه ومن معه هنالك يقطعون على السابلة في زواريق خفاف وسميريات اتخذوها لأنفسهم، فإذا طلبهم أصحاب الشذا ولجوا الأنهار الضيقة. واعتصموا بمواضع الأدغال منها، وإذا تعذر عليهم مسالك نهر منها لضيقها خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم، ولجئوا إلى هذه المواضع الممتنعة. وفي خلال ذلك يغيرون على قرى البطيحة وما يليها، فيقتلون ويسلبون من ظفروا به فمكث درمويه ومن معه يفعلون هذه الأفعال إلى أن قتل الفاجر وهم بموضعهم الذي وصفنا أمره، لا يعملون بشيء مما حدث على صاحبهم. فلما فتح بقتل الخبيث موضعه، وأمن الناس وانتشروا في طلب المكاسب وحمل التجارات، وسلكت السابلة دجلة، أوقع درمويه بهم، فقتل وسلب، فأوحش الناس ذلك، واشرأب لمثل ما فيه درمويه جماعة من شرار الناس وفساقهم، وحدثوا أنفسهم بالمصير إليه وبالمقام معه على مثل ما هو عليه، فعزم الموفق على تسريح جيش من غلمانه السوان ومن جرى مجراهم من أهل البصر بالحرب في الأدغال ومضايق الأنهار، وأعد لذلك صغار السفن وصنوف السلاح؛ فبينا هو في ذلك وافى رسول لدرمويه يسأل الأمان له على نفسه وأصحابه، فرأى الموفق أن يؤمنه ليقطع مادة الشر الذي كان فيه الناس من الفاجر وأشياعه. وذكر أن سبب طلب درمويه الأمان كان أنه كان فيمن أوقع به يومٌ ممن خرج من عسكر الموفق إلى منازلهم بمدينة السلام، فيهم نسوة، فقتلهم وسلبهم، وغلب على النسوة اللاتي من معهم؛ فلما صرن في يده بحثهن عن الخبر فأخبرته بقتل الفاسق والظفر بالمهلبي وأنكلاي وسليمان بن جامع وغريهم من رؤءا أصحاب الفاسق وقواده ومصير أكثرهم إلى الموفق في الأمان وقبوله إياهم وإحسانه إليهم؛ فأسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا التعوذ بالأمان ومسألة الموفق الصفح عن جرمه، فوجه في ذلك، فأجيب إليه. فلما ورد عليه الأمان خرج وجميع من معه حتى وافى عسكر الموفق، فوافت منهم قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبها بؤس الحصار وضره مثل ما أصاب سائر أصحاب الخبيث، لما كان يصل إليهم من أموال الناس وميرهم. فذكر أن درمويه لما أومن وأحسن إليه وإلى أصحابه، أظهر كل ما كان في يده وأيدهم من أموال الناس وأمتعتهم، ورد كل شيء منه إلى أهله ردًا ظاهرًا مكشوفًا، فووفق بذلك على إنابته، فخلع عليه وعلى وجوه أصحابه وقواده، ووصلوا. فضمنهم الموفق إلى قائد من قواد غلمانه، وأمر الموفق أن يكتب إلى أمصار الإسلام بالنداء في أهل البصرة والأبلة وكودر دجلة وأهل الأهواز وكورها وأهل واسط وما حولها مما دخله الزنج بقتل الفاسق، وأن يؤمروا بالرجوع إلى أوطانهم. ففعل ذلك، فسارع الناس إلى ما أمروا به، وقدموا المدينة الموفقية من جميع النواحي. وأقام الموفق بعد ذلك بالموفقية ليزداد الناس بمقامه أمنًا وإيناسًا، وولي البصرة والأبلة وكور دجلة رجلًا من قواد مواليه قد كان حمد مذهبه، ووقف على حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس؛ فأمره بالانتقال إلى البصرة والمقام بها. وولي قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة وواسط محمد بن حماد. وقدم ابنه أبا العباس إلى مدينة السلام، ومعه رأس الخبيث صاحب الزنج ليراه الناس، فاستبشروا، فنفذ أبو العباس في جيشه حتى وافى مدينة السلام يوم السبت لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، فدخلها في أحسن زي، وأمر برأس الخبيث فسير به بين يديه على قناة، واجتمع الناس لذلك. وكان خروج صاحب الزنج في يوم الأربعاء لأربع بقي من شهر رمضان سنة خمس خمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فكانت أيامه من لدن خرج إلى اليوم الذي قتل فيه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام، وكان دخوله الأهواز لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين، وكان دخوله البصرة وقتله أهلها وإحراقه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال سنة سبع وخمسين ومائتين، فقال - فيما كان من أمر الموفق، وأمر المخذول - الشعراء أشعارًا كثيرة، فمما قيل في ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي: أقول وقد جاء البشير بوقعةٍ ** أعزت من الإسلام ما كان واهيا جزى الله خير الناس للناس بعدما ** أبيح حماهم خير ما كان جازيا تفرد إذ لم ينصر الله ناصرٌ ** بتجديد دينٍ كان أصبح باليا وتشديد ملك قد وهى بعد عزه ** وإدراك ثاراٍ تبير الأعاديا ورد عمارات أزيلت وأخربت ** ليرجع فيء قد تخرم وافيا ويرجع أمصارٌ أبيحت وأحرقت ** مرارًا فقد امست قواءً عوافيا ويشفي صدور المومنين بوقعةٍ ** يقر بها منا العيون البواكيا ويتلى كتاب الله في كل مسجدٍ ** ويلقى دعاء الطالبين خاسيا فأعرض عن أحبابه ونعيمه ** وعن لذة الدنيا وأقبل غازيا في قصيدة طويلة. ومن ذلك قوله: أين نجوم الكاذب المارق ** ما كان بالطب ولا الحاذق صبحه بالنحس سعدٌ بدا ** لسيدٍ في قوله صادق فخر في مأزقه مسلما ** إلى أسود الغاب في المازق وذاق من كأس شربة ** كريهة الطعم على الذائق وقال فيه يحيى بن خالد: يابن الخلائف من أرومة هاشمٍ ** والغامرين الناس بالإفضال والذائدين عن الحريم عدوهم ** والمعلمين لكل يوم نزال ملكٌ أعاد الدين بعد دروسه ** واستنقذ الأسرى من الأغلال أنت المجير من الزمان إذا سطا ** وإليك يقصد راغبٌ بسؤال أطفأت نيران النفاق وقد علت ** يا واهب الآمال والآجال لله درك من سليل خلائفٍ ** ماضي العزيمة طاهر السربال أفنيت جمع المارقين فأصبحوا ** متلددين قد أيقنوا بزوال أمطرتهم عزمات رأيٍ حازمٍ ** ملأت قلوبهم من الأهوال لما طغى الرجس اللعين قصدته ** بالمشرفي وبالقنا الجوال وتركته والطير يحجل حوله ** متقطع الأوداج والأوصال يهوي إلى حر الجحيم وقعرها ** بسلاسل قد أوهنته ثقال هذا بما كسبت يداه وما جنى ** وبما أتى من سيء الأعمال أقررت عين الدين ممن قاده ** وأدلته من قاتل الأطفال صال الموفق بالعراق فأفزعت ** من بالمغارب صولة الأبطال وفيه يقول أيضًا يحيى بن خالد بن مروان: أبن لي جوابًا أيها المنزل القفر ** فلازال منهلًا بساحاتك القطر أبن لي عن الجيران أن تحملوا ** وهل عادت الدنيا، وهل رجع السفر! وكيف تجيب الدار بعد دروسها ** ولم يبق من أعلام ساكنها سطر منازل أبكاني مغاني أهلها ** وضاقت بي الدنيا وأسلمني الصبر كأنهم قومٌ رغا البكر فيهم ** وكان على الأيام في هلكهم نذر وعاثت صروف الدهر فيهم فأسرعت ** وشرٌ ذوي الأصعاد ما فعل الدهر فقد طابت الدنيا وأينع نبتها ** بيمن ولي العهد وانقلب الأمر وعاد إلى الأوطان من كان هاربًا ** ولم يبق للملعون في موضع إثر بسيف ولي العهد طالت يد الهدى ** وأشرق وجه الدين واصطلم الكفر وجاهدهم في الله حق جهاده ** بنفسٍ لها طول السلامة والنصر وهي طوبلة وقال يحيى بن محمد: عني اشتغالك إني عنك في شغل ** لا تعذلي من به وقرٌ عن العذل لا تعذلي في ارتحالي إنني رجلٌ ** وقفٌ على الشد والأسفار والرحل فيم المقام إذا ما ضاق بي بلدٌ ** كأنني لحجال العين والكلل ما استيقظت همةٌ لم تلف صاحبها ** يقظان قد جانبته لذة المقل ولم يبت أمنًا من لم يبت وجلًا ** من أين يبيت له جار على وجل وهي أيضًا طويلة. وفي هذه السنة في شهر ربيع الأول منها، ورد مدينة السلام الخبر أن الروم نزلت بناحية باب قلمية على ستة أميال من طرسوس؛ وهم زهاء مائة ألف، يرأسهم بطريق البطارقة أندرياس، ومعه أربعة أخر من البطارقة، فخرج إليهم يازمان الخادم ليلًا، فبيتهم، فقتل بطريق البطارقة وبطريق القباذين وبطريق الناطلق، وأفلت بطريق قرة وبه جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وضفة، فيها صليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر، وأخذ خمسة عشر ألف دابة وبغل، ومن السروج نحو من ذلك، وسيوف محلاة بذهب وفضة وآنية كثيرة، ونحو من عشرة آلاف علم ديباج، وديباج كثير وبزيون ولحف سمور، وكان النفير إلى أندرياس يوم الثلاثاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول، فكبس ليلًا وقتل من الروم خلق كثير، فزعم بعضهم أنه قتل منهم سبعون ألفًا. وفيها توفي هارون بن أبي أحمد الموفق بمدينة السلام يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى. ولست خلون من شعبان منها، ورد الخبر بموت أحمد بن طولون مدينة السلام - فيما ذكر. وقال بعضهم: كانت وفاته يوم الاثنين لثمان عشرة مضت من ذي القعدة منها. وفيها مات الحسن بن يزيد العلوي بطبرستان، إما في رجب، وإما في شعبان. وللنصف من شعبان دخل المعتمد بغداد، وخرج من المدينة حتى نزل بحذاء قطربل في تعبية، ومحمد بن طاهر يسير بين يديه بالحربة، ثم مضى إلى سامرا. وفيها كان فداء أهل ساتيدما على يدي يازمان في سلخ رجب منها. وفي يوم الأحد لتسع بقين من شعبان من هذه السنة شغب أصحاب أبي العباس بن الموفق بغداد على صاعد بن مخلد وهو وزير الموفق، فطلبوا الأرزاق، فخرج إليهم أصحاب صاعد ليدفعوهم، فصارت رجالة أبي العباس إلى رحبة الجسر، وأصحاب صاعد داخل الأبواب بسوق يحيى، واقتتلوا، فقتل بينهم قتلى، وجرحت جماعة، ثم حجز بينهم الليل، وبكروا من الغد، فوضع لهم العطاء واصطلحوا. وفي شوال منها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداج وابن دعباش، وكان ابن دعباش على الرقة وأعمالها، وعلى الثغور والعواصم من قبل ابن طولون، وابن كنداج على الموصل من قبل السلطان. وفيها انبثق ببغداد في الجانب الغربي منها من نهر عيسى من الياسرية بثقٌ، فغرق الدباغين وأصحاب الساج بالكرخ، ذكر أنه دق سبعة آلاف دار ونحوها. وقتل في هذه السنة ملك الروم المعروف بابن الصقلبي. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. المقدمة ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائتين ثم دخلت سنة عشرين ومائتين ثم دخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة أربع وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة ست وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين ثم دخلت سنة أربعين ومائتين ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة خمسين وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائتين ثم دخلت سنة خمسين ومائتين ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين ثم دخلت سنة ستين ومائتين ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائتين ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائتين ثم دخلت سنة تسع وستين ومائتين ثم دخلت سنة سبعين ومائتين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان

  إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم اكتفي بالرد علي معظم الفقهاء في مسائل الطلاق با دونته في مدومة النخبة في شرعة الطلاق ومدون دي...